...
73. الكتمان وعواقبه
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈73⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [البقرة: 174 ـ 176]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ ما يصبرهم على النار حين تركوا الحق واتبعوا الباطل!؟(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٦٩.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: سألت الملوك اليهود قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما الذي تجدون في التوراة؟ قالوا: إنا نجد في التوراة أن الله يبعث نبيا من بعد المسيح ـ يقال له: محمد ـ بتحريم الزنا، والخمر، والملاهي، وسفك الدماء، فلما بعث الله محمدا ونزل المدينة قالت الملوك لليهود: هذا الذي تجدون في كتابكم؟ فقالت اليهود طمعا في أموال الملوك: ليس هذا بذلك النبي، فأعطاهم الملوك الأموال؛ فأنزل الله هذه الآية ـ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ الآية ـ إكذابا لليهود(1)..
2. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم، وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة محمد، فغيروها، ثم أخرجوها إليهم، فقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان، لا يشبه نعت هذا النبي، فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفا لصفة محمد فلم يتبعوه؛ فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾(2)..
__________
(1) أورده الثعلبي: ٢/٤٦.
(2) أورده الثعلبي: ٢/٤٧.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم في كتابهم؛ من الحق، والهدى، والإسلام، وشأن محمد، ونعته(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ ما أخذوا عليه من الأجر؛ فهو نار في بطونهم(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ الآية: اختاروا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ ما أصبرهم وأجرأهم على عمل أهل النار(3)..
5. روي أنّه قال: آيتان ما أشدهما على من يجادل في القرآن: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [غافر: ٤]، ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾(4)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٥.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٦ والدرّ المنثور: ابن جرير فقط: وعند ابن جرير من قول الربيع: كما سيأتي.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٦.
(4) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ ما أجرأهم على النار: ما أحملهم على عمل أهل النار(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ ما أعملهم بأعمال أهل النار(2)..
__________
(1) سفيان الثوري: ص٥٥.
(2) سعيد بن منصور: ٢٤٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ والله، ما لهم عليها من صبر، ولكن يقول: ما أجرأهم على النار(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٦٨.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ الآية كلها: هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم وبين لهم من الحق والهدى؛ من نعت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأمره(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُم﴾ ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٦٤ وابن أبي حاتم: ١/٢٨٥.
(2) ابن جرير: ٣/٦٨.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ معناه ما أجرأهم عليها،(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 93.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ هذا على وجه الاستفهام، يقول: ما الذي أصبرهم على النار!؟(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾ هم اليهود والنصارى ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ قال في عداوة بعيدة(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٦٩.
(2) ابن جرير: ٣/٧٣.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم؛ من الحق، والإسلام، وشأن محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٦٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ ما أجرأهم على النار!(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ ما أعملهم بأعمال أهل النار(2)..
__________
(1) الكافي: 2/206.
(2) مجمع البيان: 1/470.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني: التوراة، ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يعني: عرضا من الدنيا، ويختارون على الكفر بمحمد ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يعني: عرضا من الدنيا يسيرا، مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل كل عام، ولو تابعوا محمدا لحبست عنهم تلك المآكل، فقال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِم﴾(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾، يعني: باعوا الهدى الذي كانوا فيه من إيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يبعث؛ بالضلالة التي دخلوا فيها بعد ما بعث محمد، ثم قال ﴿وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾، أي: اختاروا العذاب على المغفرة(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ﴾ العذاب الذي نزل بهم في الآخرة ﴿بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾ يعني: القرآن بالحق، يقول: لم ينزل باطلا لغير شيء فلم يؤمنوا به، ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾ يعني: في القرآن ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ يعني: لفي ضلال بعيد، يعني: طويل(1)..
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٥٦.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ هذا استفهام، يقول: ما هذا الذي صبرهم على النار حتى جرأهم فعملوا بهذا!؟(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٧٠.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ هذا تبكيت من الله عز وجل لكفرة عباده وتقريع لقلة صبرهم على النار، فقال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ وهم لا يصبرون عليها، وكذلك تقول العرب للرجل في الشيء إذا لم يقو عليه، وأيقنت بعجزه عنه: (ما أقواك على كذا وكذا)، من طريق التقريع له بضعفه وقلة احتماله.
2. وقد قيل: إن معنى ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾: أي: ما أصبرهم على عمل النار الذي يهلكون به، ويستوجبون العذاب بفعله؛ فأقام النار مقام عملها.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/75.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي في الكتاب يحتمل هذا وجهين:
أ. يحتمل: أن كتموا ما في كتبهم من بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى آله، وصفته.
ب. ويحتمل: ما كتموا من الأحكام والشرائع من نحو الحدود والرجم وغير ذلك من الأحكام.
2. قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: ما يأكلون في دنياهم إلا أوجب ذلك لهم في الآخرة أكل النار.
ب. ويحتمل: ما يأكلون في دنياهم إلا أكلوا في الآخرة عين النار.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾:
أ. قيل: لا يكلمهم بكلام خير، ولكن يكلمهم بغيره، كقوله: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: 108]
ب. وقيل: لا يكلمهم غضبا عليهم؛ يقال: فلان لا يكلم فلانا، لما غضب عليه.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾:
أ. قيل: استحبوا الضلالة على الهدى.
ب. وقيل: اختاروا العذاب على المغفرة، وما قاله الكلبى فهو أحسن: أنهم اشتروا اليهودية ـ التي هي تحصل عذابا ـ بالإيمان ـ الذي يحصل مغفرة.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾:
أ. قيل: فما أدومهم في النار.
ب. وقيل: فما أصبرهم على العمل الذي يوجب لهم النار.
ج. وقيل: فما أجرأهم على عمل أهل النار.
د. وقيل: ما أعملهم بأعمال أهل النار.
هـ. وقال الحسن: فما لهم عليها صبر ولكن ما أجرأهم على النار.
و. وقد يقال لمن يطول حبسه: فما أصبرك على الحبس، لا على حقيقة الصبر، لكن على وجوده فيه.
6. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾، أي خالفوا، وإلا قد اختلف أهل الإيمان والكفر، ولكن أراد بالاختلاف: الخلاف، أي خالفوا الكتاب ولم يعملوا به.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾:
أ. قيل: لفي خلاف بعيد.
ب. وقيل: لفي ضلال طويل.
ج. وقيل: لفي عداوة بعيدة.
د. وقيل: حرف (البعيد) في الوعيد إياس؛ كأنه قال لا انقطاع له.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/633.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني علماء اليهود كتموا ما أنزل الله عزّ وجل في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحة رسالته.
2. ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يعني قبول الرشا على كتم رسالته وتغيير صفته، وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته، وقيل: لأن ما كانوا يأخذون من الرشا كان قليلا.
3. في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ تأويلان(2).، أحدهما: يريد أنه حرام يعذبهم الله عليه بالنار فصار ما يأكلون نارا، فسماه في الحال بما يصير إليه في ثاني الحال، كما قال الشاعر:
çوأمّ سماك فلا تجزعي...فللموت ما تلد الوالدةé
4. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدهما: معناه يغضب عليهم، من قولهم: فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه.
ب. الثاني: لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية.
ج. الثالث: معناه لا يسمعهم كلامه.
5. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: يعني لا يصلح أعمالهم الخبيثة.
ب. الثاني: لا يثني عليهم، ومن لا يثني الله عليه فهو معذب ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي مؤلم موجع.
6. قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ يعني من تقدم ذكره من علماء اليهود اشتروا الكفر بالإيمان ﴿وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ يعني النار بالجنة.
7. في قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ أربعة أقاويل:
أ. أحدها: معناه ما أجرأهم على النار، وهذا قول أبي صالح.
ب. الثاني: فما أصبرهم على عمل يؤدي بهم إلى النار.
ج. الثالث: معناه فما أبقاهم على النار، من قولهم: ما أصبر فلانا على الحبس، أي ما أبقاه فيه.
د. الرابع: بمعنى أي شيء صبّرهم على النار؟
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/224.
(2) لم يذكر الثاني.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. المعني بهذه الآية أهل الكتاب بإجماع المفسرين إلا أنها متوجهة ـ على قول كثير منهم ـ الى جماعة قليلة منهم، وهم علماؤهم الذين يجوز على مثلهم كتمان ما علموه، فأما الجمع الكثير منهم الذين لا يجوز على مثلهم ذلك لاختلاف دواعيهم، فلا يجوز، والذي كتموه قيل فيه قولان:
أ. قال أكثر المفسرين: إنهم كتموا أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن حرفوه عن وجهه في التأويل، هذا إذا حمل على الجماعة الكثيرة، وإن حمل على القليلة منهم، يجوز أن يكونوا كتموا نفس التنزيل ايضاً.
ب. الثاني: قال الحسن: كتموا الأحكام، وأخذوا الرشا على الأحكام.
2. الكتاب على القول الأول: هو التوراة، وعلى الثاني يجوز أن يحمل على القرآن وسائر الكتب.
3. ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ ليس المراد به أنهم إذا اشتروا به ثمناً كثيراً كان جائزاً، وإنما المقصد كلما يأخذونه في مقابلته من حطام الدنيا، فهو قليل، كما قال: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وكما قال: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾، وإنما أراد أن قتل النبيين لا يكون إلا بغير حق، وإن من ادعى مع الله إلها آخر لا يقوم له عليه برهان، وكما قال الشاعر: (على لا حب لا يهتدى بمناره)، والمعنى لا لاحب هناك، فيهتدى به، لأنه لو كان، لأهتدي به.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾:
أ. قيل: معناه على قول الربيع، والحسن، والجبائي، وأكثر المفسرين: الأجر الذي أخذوه على الكتمان، سمي بذلك، لأنه يؤديهم الى النار، كما قال في أكل مال اليتيم ظلماً: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾، وهو أحسن.
ب. وقال بعضهم: إنما يأكلون في جهنم ناراً جزاء على تلك الاعمال.
5. سؤال وإشكال: إذا كان الأكل لا يكون إلا في البطن، فما معنى قوله ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: ان العرب تقول: جعت في غير بطني وشبعت في غير بطني، إذا جاع من يجري جوعه مجرى جوع نفسه، فذكر ذلك لإزالة اللبس.
ب. الثاني: انه لما استعمل المجاز بالإجراء على الرشوة اسم النار، حقق بذكر البطن، ليدل علي أن النار تدخل أجوافهم.
6. البطن: خلاف الظهر، والبطن: الغامض من الأرض، والبطن من العرب: دون القبيلة، وعرفت هذا الأمر ظاهره، وباطنه أي سرّه وعلانيته، ورجل بطين: عظيم البطن، ومبَّطن: خميص البطن، وفلان بطانتي دون إخواني، أي الذي أبطنه أمري، واستبطنت أمر فلان: إذا وقفت على دخلته، ويقال في المثل: البطنة تذهب الفطنة، وبطن الشيء بطوناً إذا غمض، والبطان حزام الرّحل، والبطين: نجم وهو بطن الحمل، وأصل الباب البطون: خلاف الظهور.
7. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: لا يكلمهم بما يحبون، وإنما هو دليل على الغضب عليهم، وليس فيه دليل على أنه لا يكلمهم بما يسوؤهم، لأنه قد دّل في موضع آخر، فقال: ﴿فلنسألنّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ وقال: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ وهذا قول الحسن، وواصل، وأبي علي.. وإنما دلّ نفي الكلام على الغضب من حيث أن الكلام وضع في الأصل للفائدة، فلما انتفى على جهة الحرمان للفائدة، دلّ على الغضب، ولا يدخل في ذلك الكلام للغم والإيلام.
ب. الثاني: لا يكلمهم أصلا، فتحمل آيات المسائلة على أن الملائكة تسألهم بأمر الله، ويتأول قوله ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ على أن الحال دالة على ذلك.
8. قوله تعالى: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: لا يبني عليهم، ولا يصفهم بأنهم أزكياء.
ب. ويحتمل أن يكون المراد لا يتقبل أعمالهم تقبل أعمال الأزكياء.
9. الاشتراء هو الاستبدال بالثمن العوض، فلما كانوا هؤلاء استبدلوا بذنبهم الثمن القليل، قيل فيهم: إنهم اشتروا به ثمناً قليلا، والثمن هو العوض من العين، والورق والقلة هو نقصان المقدار عن مقدار غيره، لأنه يقال: هو قليل بالإضافة الى ما هو أكثر منه، وكثير بالإضافة الى ما هو أقل منه.
10. اختلف في معنى الكلام:
أ. قيل: ما انتظم من حرفين فصاعداً من هذه الحروف المعقولة، إذا وقع ممن يصح منه أو من قبيله للإفادة.. وهو أولى، لأن هذا ينتقض بالمهمل من الكلام، فإنه لا يفيد وهو كلام حقيقة.
ب. وقال الرماني: الكلام ما كان من الحروف دالّا بتأليفه على معنى، قال وأصله من الآثار وهي كالعلامات الدالة، والكلم أي الجراح.
11. قوله تعالى: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: استبدلوا، لأن أصل الشراء الاستبدال، وليس يقع في مثله إشكال، فأما قولهم: استبدل بالجارية غيرها، فلا يجوز أن يقال بدلًا منه: اشترى، لأنه يلتبس، والضلالة التي اشتروها بالهدى: كفرهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجحدهم لنبوته استبدلوه بالإيمان به، وهم وإن لم يقصدوا أن يضلوا بدلا من أن يهتدوا فقد قصدوا الكفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بدلا من الايمان به، وذلك ضلال بدلا من هدى، فقد قصدوا الضلال بدلا من الهدى، وإن لم يقصدوه من وجه أنه ضلال، ولا يجوز أن يقول: قصدوا أن يضلوا، لأنه يوهم أنهم قصدوه من هذا الوجه، كما ينبئ علموا أنهم يضلون غير أنهم علموه من هذا الوجه.
ب. ويجوز قصدوا الضلال، وعلموا الضلال، لأنه لا ينبئ على هذا الوجه وإنما علموه، وقصدوه من وجه آخر، وهو جحدهم محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بدلا من التصديق به.
12. ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ الفاء معناها معنى الجواب، لأن الكلام المتقدم قد تضمن معنى من كان بهذه الصفة ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ فعومل معاملة المعنى الذي تضمنه حتى كأنه قد لفظ به.
13. العجب لا يجوز على الله تعالى، لأنه عالم بجميع الأشياء، لا يخفى عليه شيء، والتعجب يكون مما لا يعرف سببه، وإنما الغرض ـ من الآية ـ أن يدلنا على أن الكفار حلوّ محل من يتعجب منه، فهو تعجيب لنا منهم.
14. قيل في معنى (ما) في قوله ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال الحسن، وقتادة، ومجاهد: إنها للتعجب.
ب. الثاني: قال ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد والسدي: إنها للاستفهام.
15. في قوله تعالى: ﴿أَصْبَرَهُمْ﴾ أربعة أقوال:
أ. أحدها: ما أجرأهم على النار، ذهب اليه الحسن وقتادة.
ب. الثاني: قال مجاهد: ما أعملهم بأعمال أهل النار، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
ج. الثالث: حكاه الزجاج: ما أبقاهم على النار، كما تقول: ما أصبره على الحبس.
د. الرابع: ذكره الفراء: ما صبرهم على النار أي حبسهم عليها، وقال الكسائي: هو استفهام على وجه التعجب، قال أبو العباس: المبرد: هذا حسن كأنه توبيخ لهم وتعجيب لنا، مثل قولك للذي وقع في هلكة ما اضطرّك الى هذا، إذا كان غنياً عن التعرض للوقوع في مثلها، يقال: أصبرت السبع، والرجل، ونحوه إذا نصبته لما يكره، وقال الحطيئة:
çقلتُ لها أصبرُها جاهداً...ويحك أمثال طريف قليلé
معناه ألزمها، واضطرها، فأما التعجب، فمثل قوله ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ أي قد حلّ محل ما يتعجب منه، وقيل: ما أصبرك على كذا بمعنى ما أجرأك قال أبو عبيدة: هي لغة يمانية، واشتق أصبر بمعنى أجرأ من الصبر الذي هو حبس النفس، لأن بالجرأة يصبر على الشدة، فأما القول الآخر: فحبسوا أنفسهم على عمل أهل النار، بدوامهم عليه، وانهماكهم فيه، وحكى الكسائي عن قاضي اليمن عن بعض العرب، قال لخصمه: (ما أصبرك على الله) أي على عذاب الله تعالى.
16. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ ذلك رفع بالابتداء، أو بأنه خبر الابتداء وهو إشارة الى أحد ثلاثة أشياء: أولها :قال الحسن: ذلك الحكم بالنار، الثاني: ذلك العذاب، الثالث: ذلك الضلال.. وفي تقدير خبر ذلك ثلاثة أقوال:
أ. الأول: قال الزجاج: ذلك الأمر، أو الأمر ذلك، فحذف لدلالة ما تقدم من الأمر بالحق، فكأنه قال ذلك الحق، واستغنى عن ذكر الحق لتقدم ذكره في الكلام.
ب. الثاني: ذلك معلوم ﴿بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ فقد تقدم ذكر ما هو معلوم بالتنزيل، فحذف لدلالة الكلام عليه.
ج. الثالث: ذلك العذاب لهم ﴿بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ وكفروا به، فتكون الباء في موضع الخبر، ويحتمل ذلك أن يكون رفعاً على ما بينا، ويحتمل أن يكون نصباً على فعلنا ذلك، لأن في الكلام ما يدل على (فعلنا)
17. اختلف في معنى الكتاب هاهنا:
أ. قيل: إنه التوراة.
ب. قال الجبائي: إنه القرآن، وغيره، وهو أعم فائدة.
ج. وقال بعضهم: إن المراد ب الأول التوراة، وبالثاني القرآن.
18. معنى الاختلاف هاهنا يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: قول الكفار في القرآن، ومنهم من قال هو كلام السحرة، ومنهم من قال كلام يعلمه، ومنهم من قال كلام يقوله.
ب. الثاني: اختلاف اليهود والنصارى في التأويل، والتنزيل من التوراة، والإنجيل، لأنهم حرفوا الكتاب، وكتموا صفة محمد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجحدت اليهود الإنجيل والقرآن.
19. في قوله تعالى: ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: بعيد عن الالفة بالاجتماع على الصواب.
ب. الثاني: بعيد: من الشقاق، لشهادة كل واحد على صاحبه بالضلال، وكلاهما قد عدل عن السداد.
20. من ذهب الى أن المعنى ذلك العذاب ﴿بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ قدر فكفروا به، وجعله محذوفاً، ومن ذهب الى أن المعنى: ذلك الحكم بدلالة ﴿بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ لم يجعله محذوفاً.
21. اختلف في المعنى بالذين اختلفوا:
على قول السدي: اليهود، والنصارى.
وقال غيره: هم الكفار من عبدة الأوثان، وغيرهم من أهل الضلال، وهو الاولى، لأنه أعم.
22. إنما كسرة (إن) الثانية لإلحاق اللام الخبر، وهي لام الابتداء، فأخرت الى الخبر وكسرت معها (إن) لأنها للاستئناف ايضاً، فأما (أن (المفتوحة فاسم يعمل فيه عوامل الاعراب كما يعمل في الأسماء، وإنما كسرت (إن) في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ لا لإلحاق اللام، ولكن لدخول (إلا) على جملة مستأنفة في التقدير، كأنه قيل: إلا هم يأكلون الطعام، ولو قلت ما ظننت إلا إنك لخارج لكسرت لأجل اللام.
23. الاختلاف: الذهاب على جهة التفريق في الجهات، وأصله من اختلاف الطريق، تقول: اختلفنا الطريق، فجاء هذا من هاهنا، وجاء ذاك من هناك، ثم قيل في الاختلاف في المذاهب تشبيهاً في الاختلاف في الطريق من حيث أن كل واحد منهم على نقيض ما عليه الآخر من الاعتقاد، فأما الاختلاف في الأجناس، فهو ما لا يسد واحد منهما مسد الآخر، فيما يرجع الى ذاته، كالسواد والبياض، وغيرهما.
24. الشقاق: انحياز كل واحد عن شق صاحبه للعداوة له، وهو طلب كل واحد منهما ما يشقّ على الآخر، لأجل العداوة، والمشاقة مثله.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/88.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البطن خلاف الظَّهرْ، ومنه البطانة.
ب. الاشتراء: الاستبدال.
ج. الثمن: العوض المقابل للمثَمَّن.
د. التزكية: التطهير.
هـ. الصبر: حبس النفس على ما تكره، ومنه: قُتل فلان صبرًا، وقال أبو علي: ولا يجوز في صفة الله تعالى الصبور، وقال غيره: يجوز بمعنى الحليم توسعًا.
و. الاختلاف: الذهاب على جهة التفرق، يقال: اختلفا في المكان وفي المذهب، قال أبو مسلم: ﴿اخْتَلَفَ﴾ من باب ﴿ افتعل﴾ الذي يكون مكان: ﴿فَعَلَ﴾ كقولهم: كسب واكتسب، وكتب واكتتب، ومعناه خَلَفُوا فيه، أي توارثوه وصاروا خَلَفًا فيه.
ز. الشقاق: المباعدة.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن ابن عباس أنها نزلت في رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وكعب بن أسد وغيرهم، وكانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا، ويرجون كون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم، فلما بعث من غيرهم خافوا زوال مأكلتهم، فغيروا صفة محمد لهم، وكتموا ما في التوراة، ففيهم أنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. وروى الضحاك عن ابن عباس: ﴿ أن الملوك كانوا يسألون اليهود قبل المبعث عن صفة محمد، فيحدثونهم، فلما بعث سألوهم: أهو هو؟ فأنكروا؟ طمعًا في مالهم، وقالوا: ليس هو ذاك، وأعطاهم الملوك الأموال، فنزلت هذه الآية﴾
3. عاد الكلام إلى ذكر مَنْ تقدم من اليهود، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾:
أ. قيل: صفة محمد وأمته، والبشارة به، عن ابن عباس وقتادة، والسدي والأصم وأبي علي وأبي مسلم.
ب. وقيل: كتموا الأحكام، عن الحسن.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا أَنْزَلَ الله مِنَ الْكِتَابِ﴾
أ. قيل: ما أنزل في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ب. وقيل: في الأحكام.
5. اختلفوا في كتمانهم:
أ. قيل: حرفوا التأويل دون التنزيل كما تفعله المشبهة والْمُجْبِرَة في القرآن؛ لأن تحريف التنزيل من التوراة يَبْعُدُ، عن أبي علي.
ب. وقيل: كتموا التنزيل، وكانوا عددًا يجوز عليهم التواطؤ، ولم تكن التوراة في الفضل والإعجاز كالقرآن.
ج. وقيل: كانوا يفتون بأهوائهم فذمهم على ذلك.
6. ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يستبدلون به ثمنًا قليلاً:
أ. قيل: هو قليل في نفسه.
ب. وقيل: قليل بالإضافة إلى ما فيه من الضرر وفوت النفع.
7. اختلفوا فيمن طمعوا فيه بهذا الثمن:
أ. فقيل: كبارهم، عن الأصم وأبي علي وأبي مسلم.
ب. قيل: السفلة، عن ابن عباس.
8. ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني الذين كتموا ذلك ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾:
أ. قيل: إن أكلهم في الدنيا وإن كان طيبًا في الحال فعاقبته النار، فوصف بذلك كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ عن الحسن والربيع وأبي علي وجماعة من أهل العلم.
ب. وقيل: هم في الآخرة يأكلون النار لأكلهم في الدنيا الحرام، عن الأصم.
9. إنما ذكر البطن، وإن كان الآكلون لا يأكلون إلا في البطون لوجهين:
أ. قيل: ليعلم أن النار تكون في بطونهم.
ب. وقيل: تأكيدًا.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ الله﴾:
أ. قيل: لا يكلمهم بما يحبون ويسرهم، وإن كان يكلمهم بالسؤال والتوبيخ وبما يغمهم، عن الحسن وأبي علي.
ب. وقيل: لا يكلمهم أصلاً، وهو كناية عن غضبه عليهم، ثم السؤال يقع من الملائكة بأمره تعالى.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾:
أ. قيل: لا ينسبهم إلى التزكية، ولا يثني عليهم.
ب. وقيل: لا يقبل عنهم أعمالهم كما تقبل أعمال الأزكياء.
ج. وقيل: إنه يرجع إلى ما تقدم، يعني لا يكلمهم بما يزكيهم من الوصف الجميل والثناء الحسن.
12. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي موجع مؤلم.
13. ثم بَيَّنَ تعالى ذم من كتم الحق، فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني من تقدم ذكرهم: ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ يعني اختاروا الضلالة، وهي الكفر، والتمسك بالباطل، وعدلوا عن الحق، فصاروا بمنزلة من يشتري السلعة بالثمن، وهذا توسع؛ إذ ليس هناك بيع ولا شراء، والمراد ما ذكرنا.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾:
أ. قيل: اختاروا الكفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بدلاً من الإيمان به.
ب. وقيل: كتمان أمره مع علمهم به بدل الإظهار.
ج. وقيل: الضلال: العذاب، والهدى: الثواب وطريق الجنة، يعني استبدلوا النار بالجنة، والعذاب بالمغفرة.
د. وقيل: إنه تأكيد لما تقدم، عن الأصم وأبي مسلم.
هـ. وقيل: معناه أنهم مع معرفتهم بما أعد الله من العقاب لمن عصاه، وبما أعد لمن ترك معاصيه من الثواب، ثم أقاموا على ما هم عليه مصرين صاروا مشترين العذاب بالمغفرة، عن القاضي، وهذا هو الوجه؛ لأنه إذا أمكن حمله على زيادة فائدة كان أولى؛ فكان اشتراؤهم للضلالة بالهدى يرجع إلى عدولهم عن طريق العلم إلى طريق الجهل، واشتراؤهم العذاب بالمغفرة يرجع به إلى قصدهم ما يوجب النار، وتركهم ما يوجب الجنة.
و. وقيل: العذاب بالمغفرة يعني استمروا، وتركوا التوبة التي تؤدي إلى المغفرة، واختاروا الإصرار، وهذه أيضًا فائدة جديدة.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ﴾:
أ. قيل: هو استفهام والمراد به التوبيخ، أي كيف يصبرون، عن ابن عباس وابن جريج وابن زيد والسدي.
ب. وقيل: تعجيب منه تعالى للسامع بحالهم، عن الحسن وقتادة ومجاهد، يعني عجبًا من جرأتهم على النار مع معرفتهم بشدتها؛ لأنه لا يكاد يقال فيمن أقدم على عمل بشبهة وتأويل، فلما كانت اليهود أنكروا نبوته مع العلم صح ذلك فيهم.
16. التعجب لا يجوز على الله تعالى، وإنما هو على وجهين:
أ. أحدهما: تعجبوا ممن هذا حاله.
ب. الثاني: أنهم حكوا فعل من يتعجب منه، فالتعجب لنا منهم.
17. اختلفوا في المحل المراد بقوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ﴾:
أ. قيل: في الآخرة، وإنهم يصبرون لليأس من الخلاص، عن الأصم.
ب. وقيل: إنه في الدنيا.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ﴾:
أ. قيل: ما أجرأهم ﴿عَلَى النَّارِ﴾ أي على العمل المؤدي إليها، عن الحسن وقتادة والربيع، وهذه لغة إيمانية اشتق من الصبر الذي هو حبس النفس؛ لأنه بالجرأة يصبر على الشدة.
ب. وقيل: ما أَعْمَلَهم بأعمال أهل النار، عن مجاهد، مأخوذ من الصبر كأنهم حبسوا أنفسهم على عمل أهل النار.
ج. وقيل: ما أصبرهم على النار أي حبسهم عليها، عن الفراء.
د. وقيل: ما أبقاهم على النار، كقوله: ما أصبرهم على الحبس!، حكاه الزجاج.
هـ. وقيل: ما أدومهم على النار، عن الكسائي وقطرب، كأنه قيل: ما أدومهم على عمل أهل النار، كقولهم: ما أشبه سخاك بحاتم؛ أي بسخاء حاتم.
و. وقيل: ما الذي جرأهم وصبرهم حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟، عن ابن عباس والحسن وعطاء وابن زيد.
19. ثم لما بَيَّنَ تعالى ما أنزل بالكفار من العذاب بين مِنْ سببه ما يجري مجرى التعليل، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ يعني الذي حكم فيهم، وحل بهم.
20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِأَنَّ الله نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾:
أ. قيل: التوراة، عن الأصم وأبي علي وأبي مسلم.
ب. وقيل: القرآن، عن أبي علي.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾:
أ. قيل: بالصدق.
ب. وقيل: ببيان الحق.
22. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾:
أ. قيل: هم الكفار أجمع، اختلفوا في القرآن فقال بعضهم: سحرٌ، وقال بعضهم: كلام تَقَوَّله، وقال بعضهم: علم.
ب. وقيل: هم أهل الكتاب في اليهود والنصارى حرفوا وكتموا ومع ذلك اختلفوا، عن السدي، يعني: جحدت اليهود الإنجيل والقرآن.
ج. وقيل: اختلفوا، بمعنى خَلَفُوا يعني ورثوا التوراة عن أسلافهم.
23. ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ يعني في اختلاف شديد، قيل فيه أقوال:
أ. قيل: بعيد عن الألفة بالاجتماع على الصواب.
ب. وقيل: بعيد في الشقاق لشهادة كل واحد على صاحبه في الضلال.
ج. وقيل: في اختلاف شديد فيما يتصل بأحكام التوراة والإنجيل.
د. وقيل: أراد به المشركين لمباينتهم لأهل الكتاب.
24. سؤال وإشكال: أليس عندكم المختلفون مصيبين؟ والجواب: ذلك في مسائل الاجتهاد، دون الأصول.
25. سؤال وإشكال: هل في الآية حذف: ﴿فَكَفَرُوا بِهِ﴾؟ والجواب: فيه قولان:
أ. من ذهب إلى أن المعنى: ﴿ ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به﴾ جعله محذوفًا.
ب. ومن قال: المعنى ذلك الحق، بدلالة أن الله نزل الكتاب بالحق، لم يجعله على الحذف.
26. تدل الآيات الكريمة على:
تحريم كتمان كل علم في باب الدين، ووجوب إظهاره في وقت الحاجة،
أن كاتم العلم يستحق العقاب، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه، والفتيا، والقضايا والشهادات، والتحديث وغيرها.
أن أحكام الشرع لا يجوز الكلام فيها إلا بعد قيام الدليل.
عقاب من كتم حقًّا يجب إظهاره لغرض من الدنيا، وفيها تنبيه على أنه لا ينبغي لأحد أن يقدم على عمل أهل النار، فإن الجرأة عليه ضلال عظيم.
أنهم عرفوا وعاندوا؛ لأنه ظاهر الاستدلال، وقوله: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ﴾ يقتضى ذلك.
أن الوعيد إنما يلزم لمخالفة الحق؛ لأن من خالف الكتاب يستحق العذاب العظيم، وفيه ترغيب لمتابعة الكتاب، وإيثار الحق والقيام به، والتحذير من كتمانه.
27. مسائل نحوية:
أ. ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ﴾ قيل: ﴿مَا﴾ التعجب، وقيل: ﴿مَا﴾ الاستفهام الذي يراد به التوبيخ والتقريع.
ب. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى:
• قيل: الحكم بالنار والعذاب لهم، عن الحسن والأصم.
• وقيل: ذلك العذاب.
• وقيل: الضلال.
ج. في تقدير خبر ﴿ذَلِكَ﴾ ثلاثة أقوال:
• الأول: قول الزجاج: ذلك الأمر، فحذف لدلالة ما تقدم عليه من الأمر الحق تقديره: ذلك الحق.
• الثاني: ذلك معلوم بأن الله نزل الكتاب بالحق؛ لأنه قد أخبر أن ذلك معلوم لهم، والكتاب حق، عن الأخفش وأبي القاسم.
• الثالث: ذلك العذاب لهم بأن الله نزل الكتاب فكفروا به، فتكون الباء في موضع الخبر.
د. ﴿ذَلِكَ﴾ يحتمل الرفع على ما بَيَّنَّا من الوجوه، ويحتمل النصب على تقدير فعلنا ذلك؛ لأن في الكلام دليلًا على فعلنا.
هـ. كسرت: ﴿إِنَّ﴾ الثانية لأنها للاستئناف.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/716.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البطن: خلاف الظهر، والبطن: الغامض من الأرض، والبطن من العرب: دون القبيلة.
ب. الاختلاف: الذهاب على جهة التفرق في الجهات، وأصله من اختلاف الطريق، تقول: اختلفنا الطريق، فجاء هذا من هنا، وجاء ذاك من هناك، ثم استعمل في الاختلاف في المذاهب تشبيها بالاختلاف في الطريق من حيث إن كل واحد منهم على نقيض ما عليه الآخر من الاعتقاد، وأما اختلاف الأجناس فهو ما لا يسد أحدهما مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته، كالسواد والبياض.
ج. الشقاق والمشاقة: انحياز كل واحد عن شق صاحبه للعداوة له، وهو طلب كل واحد منهما ما يشق على الآخر لأجل العداوة.
2. المعني في هذه الآية أهل الكتاب بإجماع المفسرين، إلا أنها متوجهة على قول كثير منهم إلى جماعة قليلة من اليهود، وهم علماؤهم، ككعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وكعب بن أسد، وكانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا، ويرجون كون النبي منهم، فلما بعث من غيرهم، خافوا زوال مأكلتهم فغيروا صفته، فأنزل الله هذه الآية.
3. ثم عاد الله تعالى إلى ذكر اليهود الذين تقدم ذكرهم، فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ الله مِنَ الْكِتَابِ﴾:
أ. قيل: أي: صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والبشارة به، عن ابن عباس وقتادة والسدي، والكتاب على هذا القول هو التوراة.
ب. وقيل: كتموا الأحكام، عن الحسن، والكتاب على هذا القول هو القرآن، وعلى سائر الكتب.
4. ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: يستبدلون به عرضا قليلا، وليس المراد أنهم إذا اشتروا به ثمنا كثيرا كان جائزا، بل الفائدة فيه أن كل ما يأخذونه في مقابلة ذلك من حطام الدنيا، فهو قليل، وللعرب في ذلك عادة معروفة، ومذهب مشهور، ومثله في القرآن كثير، قال: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾، ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾، وفيه دلالة على أن من ادعى أن مع الله إلها آخر لا يقوم له على قوله برهان، وأن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق، وذلك بأن وصف الشيء بما لا بد أن يكون عليه الصفة، ومثله في الشعر قول النابغة:
çيحفه جانبا نيق، ويتبعه... مثل الزجاجة، لم تكحل من الرمدé
أي: ليس بها رمد فيكتحل له، وقول الآخر:
çلا يغمز من أين، ومن وصب... ولا يعض على شرسوفه الصفرé
أي: ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزها من أجلهما.
وقول سويد بن أبي الكاهل:
çمن أناس ليس في أخلاقهم... عاجل الفحش، ولا سوء الجزعé
ولم يرد أن في أخلاقهم فحشا آجلا، أو جزعا غير سيء، بل نفى الفحش والجزع عن أخلاقهم.
وفي أمثال هذا كثيرة.
5. ﴿أُولَئِكَ﴾: يعني الذين كتموا ذلك، وأخذوا الأجر على الكتمان ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾:
أ. قيل: معناه: إن أكلهم في الدنيا، وإن كان طيبا في الحال، فكأنهم لم يأكلوا إلا النار، لأن ذلك يؤديهم إلى النار، كقوله سبحانه في أكل مال اليتيم: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ عن الحسن والربيع وأكثر المفسرين.
ب. وقيل: إنهم يأكلون النار حقيقة في جهنم، عقوبة لهم على كتمانهم، فيصير ما أكلوا في بطونهم نارا يوم القيامة، فسماه في الحال بما يصير إليه في المآل.
6. إنما ذكر البطون، وإن كان الأكل لا يكون إلا في البطن لوجهين:
أ. أحدهما: إن العرب تقول: جعت في غير بطني، وشبعت في غير بطني، إذا جاع من يجري جوعه مجرى جوعه، وشبعه مجرى شبعه، فذكر ذلك لإزالة اللبس.
ب. والآخر: إنه لما استعمل المجاز بأن أجرى على الرشوة اسم النار، حقق بذكر البطن، ليدل على أن النار تدخل أجوافهم.
7. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: إنه لا يكلمهم بما يحبون، وفي ذلك دليل على غضبه عليهم، وإن كان يكلمهم بالسؤال بالتوبيخ وبما يغمهم كما قال: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ وقال: ﴿اخسؤوا فيها ولا تكلمون﴾، وهذا قول الحسن والجبائي.. وإنما يدل نفي الكلام على الغضب من حيث إن الكلام وضع في الأصل للفائدة، فلما انتفى الفائدة على وجه الحرمان، دل على الغضب، فأما الكلام على وجه الغم والإيلام فخارج عن ذلك.
ب. الثاني: إنه لا يكلمهم أصلا، فتحمل آيات المسألة على أن الملائكة تسألهم عن الله وبأمره، ويتأول قوله ﴿اخسؤوا فيها﴾ على دلالة الحال.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾:
أ. قيل: معناه لا يثني عليهم، ولا يصفهم بأنهم أزكياء، ومن لا يثني الله عليه فهو معذب.
ب. وقيل: لا تقبل أعمالهم كما تقبل أعمال الأزكياء.
ج. وقيل: معناه لا يطهرهم من خبث أعمالهم بالمغفرة.
9. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: موجع مؤلم.
10. ﴿أُولَئِكَ﴾: إشارة إلى من تقدم ذكرهم ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾:
أ. قيل: أي: استبدلوا الكفر بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالإيمان به، فصاروا بمنزلة من يشتري السلعة بالثمن.
ب. وقيل: المراد بالضلالة كتمان أمره، مع علمهم به، وبالهدى إظهاره.
ج. وقيل: المراد بالضلالة العذاب، وبالهدى الثواب وطريق الجنة أي: استبدلوا النار بالجنة.
11. اختلف في معنى ﴿وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾
أ. قيل: إنه تأكيد لما تقدم، عن أبي مسلم.
ب. وقيل: إنهم كانوا اشتروا العذاب بالمغفرة لما عرفوا ما أعد الله لمن عصاه من العذاب، ولمن أطاعه من الثواب، ثم أقاموا على ما هم عليه من المعصية مصرين عن القاضي، وهذا أولى لأنه إذا أمكن حمل الكلام على زيادة فائدة، كان أولى، فكان اشتراؤهم الضلالة يرجع إلى عدولهم عن طريق العلم إلى طريق الجهل، واشتراؤهم العذاب بالمغفرة يرجع إلى عدولهم عما يوجب الجنة إلى ما يوجب النار.
12. في قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ أقوال:
أ. أحدها: إن معناه ما أجرأهم على النار ذهب إليه الحسن وقتادة، ورواه علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام.
ب. الثاني: ما أعملهم بأعمال أهل النار، عن مجاهد وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
ج. الثالث: ما أبقاهم على النار، كما يقال: ما أصبر فلانا على الحبس، عن الزجاج.
د. الرابع: ما أدومهم على النار أي: ما أدومهم على عمل أهل النار، كما يقال: ما أشبه سخاءك بحاتم، عن الكسائي وقطرب.
13. الخامس: ما روي عن ابن عباس أن المراد أي شيء أصبرهم على النار أي: حبسهم عليها، فتكون للاستفهام.
14. على الوجوه الأربعة الأولى ظاهر الكلام التعجب، والتعجب لا يجوز على القديم سبحانه، لأنه عالم بجميع الأشياء، لا يخفى عليه شيء، والتعجب إنما يكون مما لا يعرف سببه، وإذا ثبت ذلك فالغرض أن يدلنا على أن الكفار حلوا محل من يتعجب منه، فهو تعجيب لنا منهم، ويمكن حمل الوجوه الثلاثة المتقدمة على الاستفهام أيضا، فيكون المعنى: أي شيء أجرأهم على النار، وأعملهم بأعمال أهل النار، وأبقاهم على النار؟ وقال الكسائي: هو استفهام على وجه التعجب، وقال المبرد: هذا حسن لأنه كالتوبيخ لهم، والتعجيب لنا، كما يقال لمن وقع في ورطة: ما اضطرك إلى هذا إذا كان غنيا عن التعرض للوقوع في مثلها، والمراد به الانكار والتقريع على اكتساب سبب الهلاك، وتعجيب الغير منه، ومن قال معناه: ما أجرأهم على النار، فإنه عنده من الصبر الذي هو الحبس أيضا، لأن بالجرأة يصبر على الشدة.
15. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى أحد ثلاثة أشياء:
أ. أولها: ذلك الحكم بالنار، عن الحسن.
ب. وثانيها: ذلك العذاب.
ج. وثالثها: ذلك الضلال.
16. وفي خبره ثلاثة وجوه:
أ. أحدها: ما ذكرناه من قول الزجاج.
ب. ثانيها: إن تقديره ذلك الحكم الذي حكم فيهم، أو حل بهم من العذاب، أو ذلك الضلال معلوم بأن الله نزل الكتاب بالحق، فحذف لدلالة ما تقدم من الكلام عليه.
ج. الثالث: ذلك العذاب لهم.
17. ﴿بِأَنَّ الله نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ يكون الباء مع ما بعده في موضع الخبر، ومن ذهب إلى أن المعنى ذلك الحكم بدلالة أن الله نزل الكتاب بالحق، فالكلام على صورته، ومن ذهب إلى أن المعنى ذلك العذاب أو الضلال، بأن الله نزل الكتاب بالحق، ففي الكلام محذوف وتقديره: فكفروا به، والمراد بالكتاب ها هنا: التوراة، وقال الجبائي: هو القرآن، وغيره، وقال بعضهم: المراد بالأول التوراة، وبالثاني القرآن.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾:
أ. قيل: هم الكفار أجمع عند أكثر المفسرين اختلفوا في القرآن على أقوال: فمنهم من قال: هو كلام السحرة: ومنهم من قال: كلام تعلمه، ومنهم من قال: كلام تقوله.
ب. وقيل: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، عن السدي، اختلفوا في التأويل والتنزيل من التوراة والإنجيل، لأنهم حرفوا الكتاب، وكتموا صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجحدت اليهود الإنجيل والقرآن.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾:
أ. قيل: أي: بعيد عن الألفة بالاجتماع على الصواب.
ب. وقيل: بعيد في الشقاق لشهادة كل واحد على صاحبه بالضلال، وكلاهما عادل عن الحق والسداد.
ج. وقيل: في اختلاف شديد فيما يتصل بأحكام التوراة والإنجيل.
20. مسائل نحوية:
21. ﴿الَّذِينَ﴾ مع صلته، منصوب بأن، و﴿أُولَئِكَ﴾: رفع بالابتداء، وخبره: ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾، والمبتدأ وخبره جملة في موضع الرفع بكونها خبر إن، و﴿النَّارَ﴾ نصب بيأكلون.
22. اختلف في قوله تعالى: ﴿ما أصبرهم﴾:
• قيل: إن: ﴿مَا﴾ للتعجب كالتي في قوله: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ أي: قد حل محل ما يتعجب منه، وحكي عن بعض العرب أنه قال لخصمه: ما أصبرك على عذاب الله.
• وقيل: إنه للاستفهام على معنى: أي شيء أصبرهم، يقال: أصبرت السبع، أو الرجل، ونحوه: إذا نصبته لما يكره، قال الحطيئة:
ç قلت لها أصبرها دائبا:... ويحك! أمثال طريف قليلé
أي: ألزمها وأضطرها.
23. ﴿ذَلِكَ﴾ قال الزجاج: ﴿ذَلِكَ﴾ مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف أي: ذلك الأمر، ويجوز أن يكون مرفوعا بخبر الابتداء أي: الأمر ذلك، ويحتمل أن يكون موضع: ﴿ذَلِكَ﴾ نصبا على تقدير: فعلنا ذلك، لأن في الكلام ما يدل على فعلنا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/469.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾، قال ابن عباس: نزلت في اليهود، كتموا اسم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وغيّروه في كتابهم.
2. الثّمن القليل: ما يصيبونه من أتباعهم من الدنيا، ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾، قال الزّجّاج: معناه: إنّ الّذين يأكلونه يعذّبون به، فكأنّهم يأكلون النّار، ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ هذا دليل على أنّ الله لا يكلّم الكفّار ولا يحاسبهم.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: لا يزكي أعمالهم، قاله مقاتل.
ب. الثاني: لا يثني عليهم، قاله الزجّاج.
ج. الثالث: لا يطهّرهم من دنس كفرهم وذنوبهم، قاله ابن جرير.
4. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ﴾، أي: اختاروها على الهدى، وفي قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾، أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنّ معناه: فما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النّار! قاله عكرمة، والرّبيع.
ب. الثاني: ما أجرأهم على النّار؛ قاله الحسن، ومجاهد، وذكر الكسائيّ أنّ أعرابيا حلف له رجل كاذبا، فقال الأعرابيّ: ما أصبرك على الله، يريد: ما أجرأك.
ج. الثالث: ما أبقاهم في النّار، كما تقول: ما أصبر فلانا على الحبس، أي: ما أبقاه فيه، ذكره الزجّاج.
د. الرابع: أنّ المعنى: فأيّ شيء صبّرهم على النّار!؟ قاله ابن الأنباريّ.
5. في (ما) قولان:
أ. أحدهما: أنها للاستفهام، تقديرها: ما الذي أصبرهم؟ قاله عطاء، والسّدّيّ، وابن زيد، وأبو بكر بن عيّاش.
ب. الثاني: أنها للتعجّب، كقولك: ما أحسن زيدا، وما أعلم عمرا، وقال ابن الأنباريّ: معنى الآية التّعجّب، والله يعجّب المخلوقين، ولا يعجب هو كعجبهم.
6. قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من الوعيد بالعذاب، فتقديره: ذلك العذاب بأنّ الله نزّل الكتاب بالحقّ، فكفروا به واختلفوا فيه.
7. في قوله تعالى: ﴿الْكِتَابِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه التّوراة.
ب. الثاني: القرآن.
8. في قوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنه ضدّ الباطل، قاله مقاتل.
9. في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه التّوراة، ثمّ في اختلافهم فيها ثلاثة أقوال:
• أحدها: أنّ اليهود والنّصارى اختلفوا فيها، فادّعى النّصارى فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود ذلك.
• الثاني: أنهم خالفوا ما في التّوراة من صفة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
• الثالث: أنهم خالفوا سلفهم في التّمسّك بها.
ب. الثاني: أنه القرآن، فمنهم من قال شعر، ومنهم من قال إنّما يعلّمه بشر.
10. الشقاق: معاداة بعضهم لبعض، وفي معنى ﴿بَعِيدٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنّ بعضهم متباعد في مشاقّة بعض، قاله الزجّاج.
ب. الثاني: أنه بعيد من الهدى.
__________
(1) زاد المسير: 1/135.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود؛ كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وأبي ياسر بن أخطب، كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا، فلما بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خافوا انقطاع تلك المنافع، فكتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾
2. اختلفوا في أنهم أي شيء كانوا يكتمون:
أ. قيل: كانوا يكتمون صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونعته والبشارة به، وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي والأصم وأبي مسلم.
ب. وقال الحسن: كتموا الأحكام، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 34]
3. اختلفوا في كيفية الكتمان:
أ. المروى عن ابن عباس: أنهم كانوا محرفين يحرفون التوراة والإنجيل.
ب. عند المتكلمين هذا ممتنع، لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما، بل كانوا يكتمون التأويل، لأنه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة، ويصرفونها عن محاملها الصحيحة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهذا هو المراد من الكتمان، فيصير المعنى: إن الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب.
4. الكناية في: به في قوله تعالى: ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾:
أ. يجوز أن تعود إلى الكتمان والفعل يدل على المصدر.
ب. يحتمل أن تكون عائدة إلى ما أنزل الله.
ج. ويحتمل أن تكون عائدة إلى المكتوم.
5. معنى قوله تعالى: ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ كقوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 41]، وبالجملة كان غرضهم من ذلك الكتمان: أخذ الأموال بسبب ذلك، فهذا هو المراد من اشترائهم بذلك ثمناً قليلًا، وإنما سماه قليلًا إما لأنه في نفسه قليل، وإما لأنه بالإضافة إلى ما فيه من الضرر العظيم قليل:
أ. من الناس من قال كان غرضهم من ذلك الكتمان أخذ الأموال من عوامهم وأتباعهم.
ب. وقال آخرون: بل كان غرضهم من ذلك أخذهم الأموال من كبرائهم وأغنيائهم الذين كانوا ناصرين لذلك المذهب.
6. ليس في ظاهر قوله تعالى: ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أكثر من اشترائهم بذلك الكتمان الثمن القليل، وليس فيه بيان من طمعوا فيه وأخذوا منه، فالكلام مجمل وإنما يتوجه الطمع في ذلك إلى من يجتمع إليه الجهل، وقلة المعرفة المتمكن من المال والشح على المألوف في الدين فينزل عليه ما يلتمس منه فهذا هو معلوم بالعادة.
7. لما ذكر الله تعالى هذه الحكاية عنهم ذكر الوعيد على ذلك من وجوه:
أ. أولها: قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾
ب. ثانيها: قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾
ج. ثالثها: قوله: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾
د. رابعها: قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
8. اختلف في ذكر البطن في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾:
أ. قال بعضهم: ذكر البطن هاهنا زيادة بيان لأنه يقال أكل فلان المال إذا بدره وأفسده.
ب. وقال آخرون: بل فيه فائدة فقوله: ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ أي ملء بطونهم يقال: أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾:
أ. قيل: إن أكلهم في الدنيا وإن كان طيباً في الحال فعاقبته النار فوصف بذلك كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء: 10] عن الحسن والربيع وجماعة من أهل العلم، وذلك لأنه لما أكل ما يوجب النار فكأنه أكل النار، كما روي في حديث آخر: (الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، وقوله: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ [يوسف: 36] أي عنباً فسماه باسم ما يؤول إليه.
ب. وقيل: إنهم في الآخرة يأكلون النار لأكلهم في الدنيا الحرام عن الأصم.
10. قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ ظاهره: أنه لا يكلمهم أصلا لكنه لما أورده مورد الوعيد فهم منه ما يجري مجرى العقوبة لهم، وذكروا فيه ثلاثة أوجه:
أ. الأول: أنه قد دلت الدلائل على أنه سبحانه وتعالى يكلمهم، وذلك قوله: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: 92، 93] وقوله: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: 6] فعرفنا أنه يسأل كل واحد من المكلفين، والسؤال لا يكون إلا بكلام، فقالوا: وجب أن يكون المراد من الآية أنه تعالى لا يكلمهم بتحية وسلام، وإنما يكلمهم بما يعظم عنده من الغم والحسرة من المناقشة والمساءلة وبقوله: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: 108]
ب. الثاني: أنه تعالى لا يكلمهم، وأما قوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: 92] فالسؤال إنما يكون من الملائكة بأمره تعالى، وإنما كان عدم تكليمهم يوم القيامة مذكوراً في معرض التهديد لأن يوم القيامة هو اليوم الذي يكلم الله تعالى فيه كل الخلائق بلا واسطة، فيظهر عند كلامه السرور في أوليائه، وضده في أعدائه، ويتميز أهل الجنة بذلك من أهل النار فلا جرم كان ذلك من أعظم الوعيد.
ج. الثالث: أن قوله: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ﴾ استعارة عن الغضب لأن عادة الملوك أنهم عند الغضب يعرضون عن المغضوب عليه ولا يكلمونه كما أنهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث.
11. في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ وجوه:
أ. الأول: لا ينسبهم إلى التزكية ولا يثني عليهم.
ب. الثاني: لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء.
ج. الثالث: لا ينزلهم منازل الأزكياء.
12. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ الفعيل قد يكون بمعنى الفاعل كالسميع بمعنى السامع والعليم بمعنى العالم، وقد يكون بمعنى المفعول كالجريح والقتيل بمعنى المجروح والمقتول، وقد يكون بمعنى المفعل كالبصير بمعنى المبصر والأليم بمعنى المؤلم.
13. علماء الأصول قالوا: العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإهانة فقوله: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ و﴿لا يُزَكِّيهِمْ﴾ إشارة إلى الإهانة والاستخفاف، وقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ إشارة إلى المضرة وقدم الإهانة على المضرة تنبيهاً على أن الإهانة أشق وأصعب.
14. دلت الآية على تحريم الكتمان لكل علم في باب الدين يجب إظهاره، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية وإن نزلت في اليهود لكنها عامة في حق كل من كتم شيئاً من باب الدين يجب إظهاره فتصلح لأن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر.
15. ثم لما وصف الله تعالى علماء اليهود بكتمان الحق وعظم في الوعيد عليه، وصف ذلك الجرم ليعلم أن ذلك العقاب إنما عظم لهذا الجرم العظيم، فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾
16. الفعل إما أن يعتبر حاله في الدنيا أو في الآخرة:
أ. أما في الدنيا فأحسن الأشياء الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضلال والجهل، فلما تركوا الهدى والعلم في الدنيا، ورضوا بالضلال والجهل، فلا شك أنهم في نهاية الخيانة في الدنيا.
ب. وأما في الآخرة فأحسن الأشياء المغفرة، وأخسرها العذاب، فلما تركوا المغفرة ورضوا بالعذاب، فلا شك أنهم في نهاية الخسارة في الآخرة.
17. إذا كانت صفتهم على ما ذكرناه، كانوا لا محالة أعظم الناس خساراً في الدنيا وفي الآخرة، وإنما حكم تعالى عليهم بأنهم اشتروا العذاب بالمغفرة، لأنهم لما كانوا عالمين بما هو الحق، وكانوا عالمين بأن في إظهاره وإزالة الشبهة عنه أعظم الثواب، وفي إخفائه وإلقائه الشبهة فيه أعظم العقاب، فلما أقدموا على إخفاء ذلك الحق كانوا بائعين للمغفرة بالعذاب لا محالة.
18. في قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن (ما) في هذه الآية استفهام التوبيخ معناه: ما الذي أصبرهم وأي شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل وهذا قول عطاء وابن زيد وقال ابن الأنباري: وقد يكون أصبر بمعنى صبر، وكثيراً ما يكون أفعل بمعنى فعل نحو أكرم وكرم، وأخبر وخبر.
ب. الثاني: أنه بمعنى التعجب، وتقريره أن الراضي بموجب الشيء لا بد وأن يكون راضياً بمعلوله ولازمه إذا علم ذلك اللزوم، فلما أقدموا على ما يوجب النار ويقتضي عذاب الله مع علمهم بذلك صاروا كالراضين بعذاب الله تعالى، والصابرين عليه، فلهذا قال تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ وهو كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان ما أصبرك على القيد والسجن.
19. يجب حمل قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ على حالهم في الدنيا لأن ذلك وصف لهم في حال التكليف، وفي حال اشترائهم الضلالة بالهدى، وقال الأصم: المراد أنه إذا قيل لهم ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون: 108] فهم يسكتون ويصبرون على النار لليأس من الخلاص، وهذا ضعيف لوجوه:
أ. أحدها: أن الله تعالى وصفهم بذلك في الحال فصرفه إلى أنهم سيصيرون كذلك خلاف الظاهر.
ب. ثانيها: أن أهل النار قد يقع منهم الجزع والاستغاثة.
20. التعجب: وهو استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء، فما لم يوجد المعنيان لا يحصل التعجب هذا هو الأصل، ثم قد تستعمل لفظة التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير أن يكون للعظمة سبب حصول، ولهذا أنكر شريح قراءة من قرأ ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ [الصافات: 12] بضم التاء من عجبت، فإنه رأى أن خفاء شيء ما على الله محال قال النخعي: معنى التعجب في حق الله تعالى مجرد الاستعظام، وإن كان في حق العباد لا بد مع الاستعظام من خفاء السبب كما أنه يجوز إضافة السخرية والاستهزاء والمكر إلى الله تعالى، لا بالمعني الذي يضاف إلى العباد.
21. للتعجب صيغتان.
أ. أحدهما: ما أفعله كقوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾
ب. الثاني: أفعل به كقوله: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ [مريم: 38]
22. ذكر هنا مبحثا لغويا مفصلا في في صيغة التعجب (ما أفعله) وما فيها من أقوال ومذاهب، وليس له صلة مباشرة بالتفسير التحليلي.
23. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾:
أ. قيل: أنه إشارة إلى ما تقدم من الوعيد، لأنه تعالى لما حكم على الذين يكتمون البينات بالوعيد الشديد، بين أن ذلك الوعيد على ذلك الكتمان إنما كان لأن الله نزل الكتاب بالحق في صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن هؤلاء اليهود والنصارى لأجل مشاقة الرسول يخفونه ويوقعون الشبهة فيه، فلا جرم استحقوا ذلك الوعيد الشديد، ثم قد تقدم في وعيدهم أمور:
• أحدها: أنهم اشتروا العذاب بالمغفرة.
• ثانيها: اشتروا الضلالة بالهدى.
• ثالثها: أن لهم عذاباً أليما.
• رابعها: أن الله لا يزكيهم.
• خامسها: أن الله لا يكلمهم.. فقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ يصلح أن يكون إشارة إلى كل واحد من هذه الأشياء، وأن يكون إشارة إلى مجموعها.
ب. الثاني: أن ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفتهم أمر الله، وكتمانهم ما أنزل الله تعالى، فبين تعالى أن ذلك إنما هو من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق، وقد نزل فيه أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا ينقادون، ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر، كما قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6]
24. ﴿ذَلِكَ﴾ يحتمل أن يكون في محل الرفع، أو في محل النصب:
أ. أما في محل الرفع بأن يكون مبتدأ، ولا محالة له خبر، وذلك الخبر وجهان:
• الأول: التقدير ذلك الوعيد معلوم لهم بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق، فبين فيه وعيد من فعل هذه الأشياء فكان هذا الوعيد معلوماً لهم لا محالة.
• الثاني: التقدير: ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب وكفروا به فيكون الباء في محل الرفع بالخبرية.
ب. أما في محل النصب فلأن التقدير: فعلنا ذلك بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق وهم قد حرفوه.
25. المراد من الكتاب يحتمل وجهين:
أ. يحتمل أن يكون هو التوراة والإنجيل المشتملين على بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمعنى: وإن الذين اختلفوا في تأويله وتحريفه لفي شقاق بعيد.. والأقرب حمله على هذا لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه وحرفوا تأويله، فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة بهم فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم دون القرآن الذي إذا عرفوه فعلى وجه التبع لصحة كتابهم.
ب. ويحتمل أن يكون هو القرآن، والمعنى: وإن الذين اختلفوا في كونه حقاً منزلًا من عند الله لفي شقاق بعيد.
ج. في الآية تأويل ثالث، وهو أن يكون المراد بالكتاب جنس ما أنزل الله والمراد بالذين اختلفوا في الكتاب الذين اختلف قولهم في الكتاب، فقبلوا بعض كتب الله وردوا البعض وهم اليهود والنصارى حيث قبلوا بعض كتب الله وهو التوراة والإنجيل وردوا الباقي وهو القرآن.
26. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾:
أ. قيل: بالصدق.
ب. وقيل: ببيان الحق.
27. قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. إن قلنا: المراد من الكتاب هو القرآن، كان اختلافهم فيه أن بعضهم قال إنه كهانة، وآخرون قالوا: إنه سحر، وثالث قال رجز، ورابع قال إنه أساطير الأولين وخامس قال إنه كلام منقول مختلق.
ب. وإن قلنا: المراد من الكتاب التوراة والإنجيل فالمراد باختلافهم يحتمل وجوهاً:
أ. أحدها: أنهم مختلفون في دلالة التوراة على نبوة المسيح، فاليهود قالوا: إنها دالة على القدح في عيسى والنصارى قالوا إنها دالة على نبوته.
ب. ثانيها: أن القوم اختلفوا في تأويل الآيات الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذكر كل واحد منهم له تأويلًا آخر فاسداً لأن الشيء إذا لم يكن حقاً واجب القبول بل كان متكلفاً كان كل أحد يذكر شيئاً آخر على خلاف قول صاحبه، فكان هذا هو الاختلاف.
ج. ثالثها: ما ذكره أبو مسلم فقال: قوله: ﴿اخْتَلَفُوا﴾ من باب افتعل الذي يكون مكان فعل، كما يقال: كسب واكتسب، وعمل واعتمل، وكتب واكتتب، وفعل وافتعل، ويكون معنى قوله: ﴿الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾ الذين خلفوا فيه أي توارثوه وصاروا خلفاء فيه كقوله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ [الأعراف: 169]، وقوله: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [يونس: 6] أي كل واحد يأتي خلف الآخر، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ﴾ [الفرقان: 62] أي كل واحد منهما يخلف الآخر.
28. في قوله تعالى: ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أن هؤلاء الذين يختلفون في كيفية تحريف التوراة والإنجيل لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاق بعيد ومنازعة شديدة فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة.
ب. ثانيها: كأنه تعالى يقول لمحمد هؤلاء وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم كالمتفقين على عداوتك وغاية المشاقة لك فلهذا خصهم الله بذلك الوعيد.
ج. ثالثها: أن هؤلاء الذين اتفقوا على أصل التحريف واختلفوا في كيفية التحريف فإن كل واحد منهم يكذب صاحبه ويشاقه وينازعه، وإذا كان كذلك فقد اعترفوا بكذبهم بقولهم فلا يكون قدحهم فيك قادحاً فيك ألبتة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 5/205.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ يعني علماء اليهود، كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وصحة رسالته.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أَنْزَلَ﴾:
أ. قيل: أظهر، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾، أي سأظهر.
ب. وقيل: هو على بابه من النزول، أي ما أنزل به ملائكته على رسله.
3. ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ﴾ أي بالمكتوم ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ يعني أخذ الرشاء، وسماه قليلا:
أ. قيل: لانقطاع مدته وسوء عاقبته.
ب. وقيل: لان ما كانوا يأخذونه من الرشاء كان قليلا.
4. هذه الآية وإن كانت في الاخبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها.
5. ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ ذكر البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضى ونحوه، وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم و أنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِلَّا النَّارُ﴾:
أ. قيل: أي إنه حرام يعذبهم الله عليه بالنار، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا لأنه يؤديهم إلى النار، هكذا قال أكثر المفسرين.
ب. وقيل: أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة، فأخبر عن المآل بالحال، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ أي أن عاقبته تؤول إلى ذلك، ومنه قولهم: (لدوا للموت وابنوا للخراب)، قال: (فللموت ما تلد الوالدة)، وقال آخر: (ودورنا لخراب الدهر نبنيها)، وهو في القرآن والشعر كثير.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾:
أ. قيل: عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، يقال: فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه.
ب. قال الطبري: المعنى ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ﴾ بما يحبونه، وفي التنزيل: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾
ج. وقيل: المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾:
أ. قيل: أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم.
ب. وقال الزجاج: لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم أزكياء.
9. ﴿أَلِيمٍ﴾ بمعنى مؤلم، وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ثلاثة ﴿لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ﴾ ولا ينظر إليهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر)، وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي، إذ لم يحملهم على ذلك حاجة، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم.
10. معنى ﴿لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ لا يرحمهم ولا يعطف عليهم.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ لما كان العذاب تابعا للضلالة وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه دخلا في تجوز الشراء.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾:
أ. مذهب الجمهور ـ منهم الحسن ومجاهد ـ أن ﴿مَا﴾ معناه التعجب، وهو مردود إلى المخلوقين، كأنه قال: اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها، وفي التنزيل: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: 17] و﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ [مريم: 38]، وبهذا المعنى صدر أبو علي:
• قال الحسن وقتادة وابن جبير والربيع: ما لهم والله عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار! وهي لغة يمنية معروفة، قال الفراء: أخبرني الكسائي قال أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف، فقال له صاحبه: ما أصبرك على الله؟ أي ما أجرأك عليه، والمعنى: ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها.
• وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار، من قولهم: ما أصبر فلانا على الحبس! أي ما أبقاه فيه.
• وقيل: المعنى فما أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبرا.
• وقال الكسائي وقطرب: أي ما أدومهم على عمل أهل النار.
ب. وقيل: (ما) استفهام معناه التوبيخ، قاله ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة معمر بن المثنى، ومعناه: أي شي صبرهم على عمل أهل النار!؟ وقيل: هذا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم.
12. ﴿ذَلِكَ﴾ ذلك في موضع رفع، وهو إشارة إلى الحكم، كأنه قال ذلك الحكم بالنار، وقال الزجاج: تقديره الامر ذلك، أو ذلك الامر، أو ذلك العذاب لهم، قال الأخفش: وخبر ذلك مضمر، معناه ذلك معلوم لهم، وقيل: محله نصب، معناه فعلنا ذلك بهم.
13. ﴿بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾ يعني القرآن في هذا الموضع ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي بالصدق، وقيل بالحجة.
14. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾ يعني التوراة، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود صفته، وقيل: خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بها، وقيل: خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم واختلفوا فيها، وقيل: المراد القرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم يقول: أساطير الأولين، وبعضهم: مفترى، إلى غير ذلك.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/235.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ قيل: المراد بهذه الآية علماء اليهود، لأنهم كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والاشتراء هنا: الاستبدال، وسماه: قليلا، لانقطاع مدّته وسوء عاقبته، وهذا السبب وإن كان خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله، وأخذ عليه الرشا.
2. ذكر البطون دلالة وتأكيدا أن هذا الأكل حقيقة، إذ قد يستعمل مجازا في مثل: أكل فلان أرضي، ونحوه، وقال في الكشاف: إن معنى: ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾: ملء بطونهم قال يقول أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه.
3. ﴿إِلَّا النَّارُ﴾ أي: أنه يوجب عليهم عذاب النار، فسمى ما أكلوه: نارا، لأنه يؤول بهم إليها، هكذا قال أكثر المفسرين، وقيل: إنهم يعاقبون على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة، ومثله قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾
4. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ فيه كناية عن حلول غضب الله عليهم، وعدم الرضا عنهم، يقال: فلان لا يكلّم فلانا؛ إذا غضب عليه، وقال ابن جرير الطبري: المعنى: ولا يكلمهم بما يحبونه ولا بما يكرهونه، كقوله تعالى: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾
5. ﴿لا يُزَكِّيهِمْ﴾ معناه: لا يثني عليهم خيرا، قاله الزجاج؛ وقيل: معناه: لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم.
6. ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ ذهب الجمهور ومنهم الحسن، ومجاهد إلى أن معناه التعجب، والمراد تعجيب المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب الموجبة لعذاب النار، فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب صبروا على العقوبة في نار جهنم، وحكى الزجّاج أن المعنى: ما أبقاهم على النار، من قولهم: ما أصبر فلانا على الحبس، أي: ما أبقاه فيه؛ وقيل: المعنى: ما أقلّ جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبرا، وقال الكسائي وقطرب: أي: ما أدومهم على عمل أهل النار؛ وقيل: (ما) استفهامية، ومعناه التوبيخ، أي: أي شيء أصبرهم على عمل النار؟ قاله ابن عباس، والسدي، وعطاء، وأبو عبيدة.
7. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ الإشارة باسم الإشارة إلى الأمر، أي: ذلك الأمر وهو العذاب، قاله الزجّاج، وقال الأخفش: إن خبر اسم الإشارة محذوف والتقدير: ذلك معلوم، والمراد بالكتاب هنا القرآن ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: بالصدق؛ وقيل: بالحجة.
8. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾ قيل: المراد بالكتاب هنا: التوراة، فادّعى النّصارى أن فيها صفة عيسى وأنكرهم اليهود؛ وقيل: خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم واختلفوا فيها؛ وقيل: المراد: القرآن، والذين اختلفوا: كفار قريش، يقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم يقول: هو أساطير الأوّلين، وبعضهم يقول غير ذلك.
9. ﴿لَفِي شِقَاقٍ﴾ أي: خلاف ﴿بَعِيدٍ﴾ عن الحق.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/198.
المتوكل على الله:
قال الإمام المتوكل على الله (ت 1295 هـ): ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾، هذا اللفظ لفظ التعجب، والله تعالى يجل من أن يتعجب؛ لأنه لا يتعجب من شيء إلا من يجهل وقوعه، أو كان عاجزا عن فعل مثله؛ فهذا معناه: فما اضطرهم على النار، وليس بتعجب، قال الشاعر(1).:
çقلت لها: أصبر هذا بنا... أمثال بسطام بن قيس قليلé
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/75.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه ـ إثر ما ذكره من الأحكام ـ تحذيرا لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به، وهم أهل الكتاب، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: من حدوده وأحكامه وغير ذلك مما أشارت إليه الآية الأولى بالبيّنات والهدى ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ﴾ أي: يأخذون بدله ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي مما يتمتعون به من لذات العاجلة، وقلّله لحقارته في نفسه، ففيه إشعار بدناءة نفوسهم حيث رضيت بالقليل، أو بالنسبة لما فوّتوه على أنفسهم من نعيم الآخرة الذي لا يحاط بوصفه.
2. ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ أي ما يستتبع النار ويستلزمها، فكأنه عين النار، وأكله أكلها، و﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَأْكُلُونَ﴾ وفائدته: تأكيد الأكل وتقريره ببيان مقرّ المأكول، قال الراغب: أكل النار: تناول ما يؤدي إليها، وذكر الأكل لكونه المقصود الأول بتحصيل المال، وذكر ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ تنبيها على شرههم وتقبيحا لتضييع أعظم النعم لأجل الطعم الذي هو أحسّ متناول من الدنيا.
3. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قال الراغب: لم يعن نفي الكلام رأسا، فقد قال ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: 6]، وقال: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ﴾ [الكهف: 52]، وإنما أراد كلاما يقتضي جدوى؛ ولهذا قال الحسن: معناه يغضب عليهم تنبيها أنهم بخلاف من قال فيهم ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾، وقيل: حقيقة (كلّمته) حملته على الكلام، نحو حركته، لأنّ من كلّمته فقد استدعيت كلامه؛ فكأنه قيل: لا يستدعي كلامهم نحو قوله ﴿لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: 36]
4. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي: يطهرهم من دنس الذنوب لغضبه عليهم لأنهم كتموا، وقد علموا، فاستحقّوا الغضب ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: مؤلم.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أي: استبدلوا إضلال أنفسهم وغيرهم ـ من الكتمان والتحريف ـ بالاهتداء ﴿وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ أي: أسبابه بأسبابها.
5. لما جعل سبحانه أول مأكلهم نارا، وآخر أمرهم عذابا، وترجمة حالهم عدم المغفرة، فكان بذلك أيضا أوسط حالهم نارا ـ سبب عنه التعجيب من أمرهم: بحبسهم أنفسهم في ذلك الذي هو معنى الصبر، لالتباسهم بالنار حقيقة أو بموجباتها من غير مبالاة، فقال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ﴾ ـ أي: ما أشد حبسهم أنفسهم، أو ما أجرأهم ـ ﴿عَلَى النَّارِ﴾ التي أكلوها في الدنيا فأحسوا بها في الأخرى، نقله البقاعيّ، ثم قال: وإذا جعلته مجازا، كان مثل قولك لمن عاند السلطان: ما أصبرك على السجن الطويل والقيد الثقيل؟ تهديدا له، تريد أنّه لا يتعرض لذلك إلّا من هو شديد الصبر على العذاب.. قال الراغب: وقد يوصف بالصبر من لا صبر له اعتبارا بالناظر إليه، وتصوّر أنّه صابر، واستعمال لفظ التعجّب في ذلك اعتبارا بالخلق لا بالخالق.
6. ثم ذكر تعالى السبب الموجب لهذا الإبعاد العظيم بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ إنما استحقوا هذا العذاب الشديد، لأنّ الله تعالى أنزل الكتاب الجامع لأنواع الهدى، وهو صالح لإرادة القرآن والتوراة.
7. ﴿بِالْحَقِّ﴾، أي متلبّسا به، فلا جرم يكون ـ من يختلف فيه ويرفضه بالتحريف والكتمان ـ مبتلى بمثل هذا من أفانين العذاب، لأنّه حاول نفي ما أثبت الله، فقد ضادّ الله في شرعه، عياذا به سبحانه.
8. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾ أي: في جنس الكتاب الإلهيّ، بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعضها؛ أو في التوراة، بأن آمنوا ببعض آياتها وكفروا ببعض، أو الاختلاف في تأويلها، فاجترأوا لأجله على تحريفها، أو في القرآن، بأن قال بعضهم: إنّه سحر، وبعضهم: إنه شعر، وبعضهم: أساطير الأولين، قال الراغب: وأصل الاختلاف: التخلف عن المنهج، وقيل اختلفوا: أتوا بخلاف ما أنزل الله، وقيل: اختلفوا: بمعنى خلفوا ـ نحو اكتسبوا، وكسبوا، وعملوا واعتملوا ـ أي: صاروا خلفاء فيه، نحو ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾
9. ﴿لَفِي شِقَاقٍ﴾ أي: خلاف ومنازعة ﴿بَعِيدٍ﴾ عن الحقّ والصواب، مستوجب لأشدّ العذاب.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/479.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ هم علماء النَّصارى واليهود ورؤساؤهم، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل، ويرجون أنَّ النبيء المبعوث آخرًا منهم، فلمَّا كان من العرب خافوا من ذهاب ما يُعطون فكتموا صفاته التي في التوراة والإنجيل، واهتمَّ أهل الكتاب بأنْ لا يعلِّموها من يتعلَّمها، وبأنْ يخطُّوا عليها ويكتبوا كتابا ولا يكتبوها فيه، وبأنْ يبدِّلوها بعكسها، وبأن يبدِّلوها في التعليم وبكلِّ ما أمكنهم وهكذا كلَّما ذكر كتمهم في القرآن.
2. ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ﴾ بسبب الكتاب أو ما أنزل إذ كتموه، أو بكتمانه، ﴿ثَمَنًا قَلِيلاً اُوْلَئكَ مَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِم﴾ كلِّها بملئها، لا في بعض البطن، لشهرة أنَّه (أكل في بعض بطنه): إذا أكل قليلاً، و(أكل في بطنه): إذا ملأه، ﴿إِلَّا النَّارَ﴾ ما يأكلون في الدنيا بكتمانهم إلَّا سبب النار، أو موجب النار، فحذف المضاف.
3. ولا يصحُّ أنْ يكون مجازا بعلاقة التسبُّب أو المآل، أي: إلَّا ما سيصير نارًا، وأنَّ النار مستعمل في ذلك المأكول؛ لأنَّه لو قيل: ما يأكلون في بطونهم إلَّا ذلك المأكول بالكتمان أو الصَّيرورة لم يصحَّ، فإنَّ شرط المجاز أنْ تصلح موضعه الحقيقة، أو المعنى: ما يأكلون يوم القيامة إلَّا النار جزاء على ذلك الأكل على الكتمان، فأكل النار حقيقة، فالمضارع للاستقبال على هذا الوجه، وللحال على الوجه الأوَّل، ولا ينافي الحصر أنَّهم يأكلون الزَّقُّوم أيضًا لأنَّه إضافيٌّ، أي: ما يأكلون لهذا الكتمانِ والأكلِ عليه إلَّا النار، فأكل الزَّقُّوم على غيره أو على الإطلاق، أو أكل النار مجازٌ عن إحراق باطنهم، أو عدَّ الزَّقوم أيضًا نارًا، أو الكلام تمثيل شبَّه هيئة الراشي والمرتشي والرشوة بهيئة الأكل والنار وآكلها.
4. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ كناية عن غضبه عليهم، أو تعريض بحرمانهم لكتمهم من الكرامة التي يؤتيها المؤمنين لعدم كتمانهم، ومن جملتها الكلام الموحى إليهم من الله بالبشرى والرضا، أو المراد: لا يكلِّمهم بخير كما يكلِّم المؤمنين، وذلك بالوحي، وإلَّا فمطلق الكلام واقع لقوله تعالى: ﴿فَوَرَبـِّكَ لَنَسْأَلَنـَّهُمُ أجْمَعِينَ﴾ [الحجر: 92]، وقوله: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 6]، ويُسأل كلُّ مكلَّف، ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ يطهِّرهم من الذنوب، أو لا يمدحهم، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ﴾ في الدنيا كالآخرة.
5. ﴿اُوْلَئِكَ الَّذِينَ اَشْتَرَوُاْ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ في الدنيا، ﴿وَالْعَذَابَ﴾ في الآخرة أو الدنيا أو فيهما، و[خصَّ] ذكر الآخرة في قوله: ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: 175]، ﴿بِالْمَغْفِرَةِ﴾ المعدَّة لهم لو آمنوا ولم يكتموا، وعملوا الصَّالحات واتَّقَوْا.
6. ﴿فَمَا﴾ تعجيبيَّة، أو استفهاميَّة توبيخيَّة، ﴿أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ الأصل أنْ تكون المعصية شاقَّة على العاصي لعظمة حقِّ الله وشدَّة العقاب، حتَّى إنَّ الصَّبر عليها كالصَّبر على النار، فجاءت الآية على ذلك، تقول لمن تعرض لغضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسِّجن! تُقَبِّحُ رأيه بأنَّه لا يتعرَّض لغضبه إلَّا من له طاقة على القيد والسجن، وأنت لا طاقة لك، وكانت رابعة العدوية ترى المعصية نارًا، شبَّه مداومتهم على المعصية باعتبار مشقَّتها بحسب الأصل ولو لم تشقَّ عليهم وباعتبار الصَّدِيقين بالصَّبر على النار، أو يقال كذلك: ما أصبرهم على موجبات النار!، أو الصَّبر: مطلقُ حبسِ النفس على الشيء ولو لم يشقَّ عليها، أي: ما أدومهم على موجبات النار! وهي الكتم والكفر والاشتراء.
7. ﴿ذَالِكَ﴾ أي: أكل النار في بطونهم وعدم تكليم الله إيَّاهم، وعدم تزكيته لهم، وثبوت العذاب الأليم والنار، أو ذلك العذاب المسبَّب على الكتم والاشتراء، ﴿بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾ التوراة والإنجيل والقرآن، ﴿بِالْحَقِّ﴾ فخالفوه وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، والذي آمنوا به كفروا ببعضه، أنكر اليهود والنصارى القرآن، واليهود الإنجيل وبعض التوراة، والنصارى التوراة وبعض الإنجيل.
8. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ﴾ مشركو العرب ﴿فِي الكِتَابِ﴾ القرآن، قال بعض: هو شعر، وبعض: كهانة، وبعض: سحر، وبعض: كذب، وبعض: علَّمه بشر، وبعض: أساطير الأوَّلين، وبعض: كلام جنون، أو هو الكتاب الأوَّل العامُّ والمختلفون المشركون واليهود والنصارى، فإنَّ المشركين أيضًا كذَّبوا القرآن وآمنوا ببعضه، وكذَّبوا التوراة والإنجيل، وقد يؤمن بعضهم بهما أو ببعضهما؛ فاختلفوا بمعنى: تخالفوا أو تخلَّفوا عن الحقِّ، ﴿لَفِي شِقَاقٍ﴾ خلاف، ﴿بَعِيدٍ﴾ عن الحقِّ، وكلٌّ في جانب بعيد عن جانب الآخر.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/294.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآيات متصلة بما قبلها على كلا الوجهين السابقين: فاذا كان الكلام لا يزال في محاجة اليهود وأمثالهم فالأمر ظاهر، واذا قلنا ان الكلام قد دخل في سرد الاحكام، تكون مقررة لحكم منها وهو ظاهر أيضا، فقد تقدم ان قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ تقرير لحكم في الاكل على خلاف ما عليه أهل الملل، وبينا ما كان عليه اهل الكتاب والمشركون في الاكل، ونقض القرآن لما وضعوه لأنفسهم من أو هاق الاحكام وإباحته الطيبات للناس بشرط أن يشكروه عليها، وعلى هذا تكون هذه الآيات جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرم الله ويشرعون لهم ما لم يشرعه، من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع ما لم يأذن به الله وإظهار خلافه، سواء كان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو الا كل والتقشف وغير ذلك من الاحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك، كما قال تعالى: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾، وفي حكمهم كل من يبدي بعض العلم ويكتم بعضه لمنفعته، لا لإظهار الحق وتأييده، وهذا هو ما عبر عنه بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي الذين يخفون شيئا مما أنزل الله من كتابه، فلا يبلغونه للناس مهما يكن موضوعه، أو يخفون معناه عنهم بتأويله أو تحريفه أو وضع غيره في موضعه برأيهم واجتهادهم، ويستبدلون بما يكتمونه ثمنا قليلا من متاع الدنيا الفاني كالرشوة والجعل على الفتاوى الباطلة أو قضاء الحاجات عند الله تعالى وغير ذلك من المنافع الموقتة إذ اتخذوا الدين تجارة، والثمن القليل منه ما قاله المفسر من استفادة الرؤساء من المرؤوسين ومنه عكسه كما تقدم غير مرة.
3. قال محمد عبده: هذا النوع من البيع والشراء في الدين عام في الرؤساء الضالين من جميع الامم، ومنه ما كان رؤساء اليهود يلاحظونه زمن التنزيل وهو حفظ ما بيدهم الذي يتوهمون أنه يفوتهم بترك ما هم عليه من التقاليد واتباع ما أنزل الله بدلا منها، وهذا هو شأن الناس في كل دعوة إلى إصلاح جديد غير ما هم فيه، وإن كان يعدهم بخير منه في الدنيا والآخرة، وكان ما هم فيه هو الفقر والذل والخذلان حاضرة أو منتظرة: ماذا كان شأن اليهود في زمن البعثة؟ ذل واضطهاد من جميع الامم ولا سيما النصارى، فقد كانوا يسومونهم سوء العذاب، ومنعوهم من دخول مدينتهم المقدسة وأكرهوهم في بعض البلاد على التنصر، ماذا كان شأن النصارى في زمن البعثة؟ فقر حاضر، وذل غالب، وحجر على العقول، ومنع للحرية في الرأي والعلم، وتحكم في الارادة، وسيطرة على خطرات القلوب وأهواء النفوس كان هذا عاما في كل قطر وكل مملكة، وكان بين الطوائف بعضها مع بعض حروب تشب، وغارات تشن، ودماء تسفك، وحقوق تنتهك، وكانوا على هذا كله يتوهمون أن الاسلام سيخرجهم من سعادة إلى شقاء، ومن نعمة الى بلاء، هب أن بعضهم كان له شيء من المال، وبقية من الجاه، أليس هو من فخفخة الدنيا الزائلة، ألم يكن منغصا بالخوف عليه والمنازعة فيه؟ هب انه كان لبعض شعوبهم طائفة من القوة، ألم تكن تشبه الزوبعة تعصف ولا تلبث أن تزول؟
4. نعم ان ما كان يغر هؤلاء وهؤلاء لم يكن موضعا للغرور، لأنه متاع حقير، وثمن قليل، وهو غير قائم على أساس ثابت، ولذلك زال بظهور الاسلام وانتشاره، وتقوضت تلك السلطة، واندكت صروح تلك العظمة، وأجلي اليهود من جزيرة العرب، وزال ملك غيرهم من كل بلاد رفضوا فيها دعوة الاسلام، وهذا شأن الباطل لا يثبت أمام الحق، فان أحكام الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها، وإنما بقاؤها في نوم الحق عنها، وحكم الحق هو الثابت بذاته، فلا يغلب أنصاره ما داموا معتصمين به، مجتمعين عليه.
5. قال المفسّرون: ان هذا الحكم يصدق على المسلمين كما يصدق على أهل الكتاب لان الغرض تقرير الحكم وهو عام كما يدل لفظه، وكما يليق بعدل الله تعالى رب العالمين، وكما هو ظاهر معقول من اطراد سنة الله تعالى في تأييد أنصار الحق وخذل أهل الباطل فإنها واضحة جلية للمتأملين كل ثمن يؤخذ عوضا عن الحق فهو قليل: إن لم يكن قليلا في ذاته فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الثابتة بذاتها، والدائمة بدوام المحافظة على الحق، ولو دام للمبطل ما يتمتع به من ثمن الباطل الى نهاية الاجل ـ وما هو إلا قصير ـ فماذا يفعل وقد فاتته بذلك سعادة الروح ونعيم الآخرة باختياره الباطل على الحق ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾
6. سؤال وإشكال: قد يعترض الناظر في التاريخ ما قرّره محمد عبده في هذا المقام من ذهاب عز الذين قاوموا دعوة الاسلام وكتموا الحق من اليهود والنصارى بان عيشة اليهود كانت بعد الاسلام خيرا منها قبله، لانهم كانوا مضطهدين مقهورين بحكم النصارى الشديد وتعصبهم الفاحش، فساوى الاسلام بينهم وبين النصارى والمسلمين، وأعطاهم كمال الحرية في دينهم ودنياهم فحسنت حالهم في الشرق والغرب وكثر ما بأيديهم ولم يقلّ، وان المسلمين لم يقووا على جميع نصارى أوربا فبقي لكثير من الممالك سلطانها وما تتمتع به، وكذلك بعض الممالك الوثنية وهم أعرق في الباطل من النصارى، والجواب: عن ذلك ان يهود الحجاز هم الذين كانوا يؤذون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويكتمون ما عرفوا من نعته ويظاهرون المشركين عليه، فهم الذين قاوموا الحق بالباطل، فلقوا جزاءهم الذي تم بجلائهم من جزيرة العرب أو الحجاز، وأما يهود سورية وغيرها (كالأندلس) فقد كانوا يساعدون الدعوة الاسلامية ودعاتها حتى من لم يؤمن منهم ليخلصوا من ظلم النصارى واستبدادهم فيهم، فنالوا من حسن الجزاء بمقدار قربهم من الحق، ولو آمنوا وقبلوا الحق كله وايدوه لذاته ظاهرا وباطنا لأوتوا أجرهم مرتين، وجزاءهم ضعفين، وكانوا أئمة وارثين، وسادة عالين، وأما الذين سلم لهم ملكهم ومتاعهم فلم يكن لهم ذلك بضعف حق الاسلام عن باطلهم، فان الذين حاولوا فتح ما وراء الاندلس من أوربا لم يكن غرضهم كلهم نشر دعوة الحق وإنما كان غرضهم عظمة الملك والغنائم ـ وليس من الحق ان يعتدي قوم على قوم لأجل سلب ما في أيديهم، فان المعتدي مبطل، والمدافع محق في الدفاع عن نفسه وبلاده، وإن كان مبطلا في عمله واعتقاده، فهو جدير بأن يكون له الظفر إذا أخذ له اهبته، وأعد له عدته، وقس على هذا سائر الممالك التي لم يقو المسلمون عليها بعد ترك الدعوة لأجل الهداية، والاسلام لا يبيح الحرب لذاتها وقد حرم الاعتداء، وإنما يوجب تعميم الدعوة الى الحق والخير فمن عارضها وجب جهاده عند القدرة، حتى يقبلها أو يكون لأهلها السلطان الذي يتمكنون به من نشرها بدون معارض ـ أي انه يوجب الجهاد ما دام الناس يفتنون في الدين ـ أي لا تكون لهم حرية فيه ولا في الدعوة اليه ـ أو يعتدى عليهم وعلى بلادهم ﴿وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾
7. ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ أي أولئك الكاتمون لكتاب الله والمتجرون به ما يأكلون في بطونهم من ثمنه الا ما يكون سببا لدخول النار وانتهاء مطامعهم بعذابها، وهذا أظهر من القول بانهم لا يأكلون في دار الجزاء إلا النار أو طعام النار من الضريع والزقوم، وعبر عن المنافع بالأكل لأنه اعمها، والمعنى لا تملأ بطونهم إلا النار، فان الاكل لما كان لا يكون إلا في البطن كان لا بد من نكتة لذكر البطن إذا قيل أكل في بطنه، ورأيناهم يعبرون بذلك عن الامتلاء، يقولون أكل في بطنه يريدون ملأ بطنه، والأصل ان يأكل الانسان دون امتلاء بطنه، والمراد انه لا يشبع جشعهم، ولا يذهب بطمعهم، إلا النار التي يصيرون اليها، على حد ما ورد في الحديث (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) واستشهدوا للتعبير باكل النار عن سبب عذابها بقول القائل في زوجه:
çدمشق خذيها لا تقتك فليلة...تمر بعودي نعشها ليلة القدر
أكلت دما إن لم أرعك بضرة...بعيدة مهوى القرط طيبة النشرé
فانه يريد بالدم الدية التي هو سببها ـ وأكلها عار عندهم ـ فهو يدعو على نفسه بان يبتلى بأكل الدية إن لم يرع زوجه ويزعجها بضرة هي من الجمال بالصفة التي ذكرها، وأكل الدية يتوقف على أن يقتل بعض أهله الذين له الولاية عليهم.
8. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ قالوا ان الكلام كناية عن الاعراض عنهم والغضب عليهم وهي كناية مشهورة شائعة الى اليوم، وجمعوا بهذا بين الآية وبين قوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وقوله: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ ـ وقيل لا يكلمهم بما يحبونه.
9. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي لا يطهرهم من ذنوبهم بالمغفرة والعفو وقد ماتوا وهم مصرون على كفرهم ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي شديد الالم.
10. ثم قال فيهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أي أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله أو المجزيون عليه بما ذكرهم الذين اشتروا الضلالة بالهدى في الدنيا، فأما الهدى فهو كتاب الله وشرعه ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ وأما الضلالة فهي العماية التي لا يهتدي بها الانسان لمقصده، وتكون باتباع الهوى وآراء الناس في الدين، وليس لأحد ان يقول في الدين برأيه وهذه الآراء لا ضابط لها ولاحد، فأهلها في خلاف وشقاق دائم.. فمن أجاز لنفسه اتباع اقوال الناس في الاعتقاد والعبادة وأحكام الحلال والحرام فقد ترك الهدى الواضح المبين الذي لا خلاف فيه، وصار إلى تيه من الآراء مشتبه الاعلام، يضل به الفهم، ولا يهتدي فيه الوهم، وذلك عين اتباع الهوى، وشراء الضلالة بالهدى، فان الله وحده هو الذي يبين حدود العبودية، وحقوق الربوبية، فلا هداية إلا بفهم ما جاء به رسله عنه.
11. ﴿وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ أي واشتروا العذاب بالمغفرة في الآخرة، وهذا أثر ما قبله فان متبع الهدى هو الذي يستحق المغفرة لما يفرط منه وما يلّم هو به من السوء، ومتبع الضلال هو المستحق للعذاب، ومن دعي إلى الحق يعرف هذا، فاذا هو اختار الضلالة بعد صحة الدعوة وقيام الحجة فقد اشترى العذاب بالمغفرة، وكان هو الجاني على نفسه، إذ استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، غرورا بالعاجل، واستهانة بالآجل.
12. ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ أي ان صبرهم على عذاب النار الذي تعرضوا له مثار العجب، ذلك بأن عملهم الموصوف في الآيتين هو العمل الذي يسوقهم إلى عذاب النار أفتهوكهم فيه انما هو تهوّك من لا يبالي به، كأنه مما يطيقه ويمكنه الصبر عليه، فلا يترك ضلالته اتقاء له، وصيغة التعجب قالوا يراد بها تعجيب الناس من شأنهم اذ لا تتصور حقيقة التعجب من الله تعالى اذ لا شيء غريب عنده عز وجل ولا مجهول سببه، وهو العالم بظواهر الاشياء وخوافيها، وحاضرها عنده كماضيها وآتيها ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ والصبر على النار غير واقع منهم فيتعجب منه حالا، ولا متوقع فيتعجب منه مآلا، فلا صبر هنالك يتعجب منه، وإنما حالهم في تهوكهم وانهماكهم في العبث بدين الله هو الذي جعل موضع التعجب للتنفير والتشنيع عليهم.
13. صح في الحديث اسناد العجب الى الله تعالى وطريقة السلف في مثله أن يقال عجب يليق به ليس كعجب البشر مما يكبرون أمره ويجهلون سببه، ويتأوله الأكثرون بالرضى من المتعجب منه، وقال محمد عبده: في العبارة ما معناه مبسوطا: ان الكلام في أكلهم النار والتعجب من صبرهم على النار هو تصوير لحالهم وتمثيل لمآلهم، أما الثاني فظاهر، وأما الاول فيتجلى لك اذا تمثلت حال قوم عندهم كتاب يؤمنون أنه من الله، ويؤمنون بلقاء الله، وقد كتموا ما أنزل الله فيه بالتحريف والتأويل كما فعل اليهود بكتمان وصف الرسول، وهم يقارعون بالدلائل العقلية، ويذكرون بآيات الله وأيامه، فيشعرون بجاذبين متعاكسين: جاذب الحق الذي عرفوه، وجاذب الباطل الذي ألفوه، ذاك يحدث لهم هزة وتأثيرا، وهذا يحدث لهم استكبارا ونفورا، وقد غلب عقولهم ما عرفوا، وغلب قلوبهم ما ألفوا، فثبتوا على ما حرفوا وانحرفوا، وصاروا إلى حرب عوان، بين العقل والوجدان، يتصورون الخطر الآجل، فيتنغص عليهم التلذذ بالعاجل، ويتذوقون حلاوة ما هم فيه، فيؤثرونه على ما سيصيرون اليه، أليس هذا الشعور بخذل الحق ونصر الباطل، واختيار ما يفنى على ما يبقى، نارا تشب في الضلوع؟ أليس ما يأكلونه من ثمن الحق ضريعا لا يسمن ولا يغني من جوع؟ بلى فان عذاب الباطن أشد من عذاب الظاهر، كما يومئ اليه قول الشاعر:
çدخول النار للمهجور خير...من الهجر الذي هو يتقيه
لان دخوله في النار أدنى...عذابا ـ من دخول النار فيهé
فهذا تأويل وجيه لأكلهم النار وللتعجب من صبرهم على النار، نزل به الوحي الالهي وظهر على لسان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وان أرباب الارواح العالية، والمرائي الصافية، تتمثل لهم المعاني بأتم ما تتمثل به لسائر الارواح المحجوبة بالظواهر، المخدوعة بالمظاهر، التي يصرفها الاشتغال بالحس، من معرفة مراتب النفس، فلا غرو إذا تمثلت للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حال أولئك الجاحدين المعاندين الذين اشتروا الضلالة بالهدى، واتخذوا إلههم الهوى، وواثبوا الحق يقارعهم ويقارعونه، وناصبوا الدليل ينازعهم وينازعونه، بحال الذي يتقحم في النار، ويكره نفسه على الاصطبار، كما يتمثل ذلك الثمن القليل الذي باعوا به الحق نارا يزدردونها، إذ كان آلاما يتحملونها، فمكابرة البرهان اشد العذاب عند العقلاء، ومحاربة القلب (الضمير والوجدان) أوجع الآلام عند الفضلاء، فالعاقل يستطيع أن يمنع نفسه من أكثر اللذات الحسية، ولكنه لا يستطيع أن يمنع عقله العلم وذهنه الفهم، فقد قيل (لديوجين) لا تسمع، فسد أذنيه، فقيل له: لا نبصر، فأغمض عينيه، فقيل له لا تذق فقبل، فقيل له: لا تفهم فقال: لا أقدر، فلا غرو إذا مثلت للنبي حال أولئك المكابرين للحق بما ذكر وأظهرته البلاغة بصيغة التعجب تارة وبصورة أكل النار تارة.
14. قال تعالى في تعليل ما ذكر: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ أي ذلك الحكم الذي تقرر في شأنهم هو بسبب أن الكتاب جاء بالحق والحق لا يغالب ولا يقاوى، فمن غالبه غلب، ومن خذله خذل.
15. ثم قال: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ أي وان الذين اختلفوا في الكتاب الذي نزله الله للحكم في الخلاف وجمع الكلمة على اتباع الحق، لفي شقاق وعداء بعيد عن سبيل الحق، فأنى يهتدون اليه، وكل منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من مذهب أو رأي فيه حتى صار (أي الكتاب) وهو مزيل الاختلاف أعظم أسبابه، يطرق لأجل ازالته والحكم فيه كل باب غير بابه؟ والشقاق الخلاف والتعادي وحقيقته أن يكون كل واحد من الخصمين في شق أي في جانب غير الذي فيه الآخر، والمختلفون في الدين ينأى كل بجانبه عن الآخر فيكون الشقاق بينهما بعيدا كما نرى.
16. هذا حكم آخر في الكتاب غير حكم كتمانه، فهو يفهمنا ان الاختلاف فيه بعد عن الحق ككتمانه، لان الحق واحد وهو ما يدعو اليه الكتاب، والمختلفون لا يدعون إلى شيء واحد ولا يسلكون سبيلا واحدة ﴿هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، وهذا دليل على انه لا يجوز لاهل الكتاب الالهي أن يقيموا على خلاف في الدين، ولا أن يكونوا شيعا كل يذهب إلى مذهب ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، ولما كان اختلاف الفهم ضروريا لأنه من طباع البشر وجب عليهم أن يتحاكموا فيه الى الكتاب والسنة حتى يزول ولا يجوز ان يقيموا عليه ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ فلا عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم بعد هذا البيان الذي جعل لكل مشكل مخرجا الشقاق أثر طبيعي للاختلاف، والاختلاف في الامة أثر طبيعي للتقليد والانتصار للرؤساء الذين اتخذوا أندادا ـ ولو بدون رضاهم ولا إذنهم ـ إذ لولا التقليد لسهل على الامة أن ترجع في كل عصر أقوال المجتهدين والمستنبطين إلى قول واحد بعرضه على كتاب الله وسنة رسوله، مثال ذلك ان الكتاب والسنة صريحان في أن النكاح لا يصح إلا إذا تولى العقد ولي المرأة برضاها أو غيره بإذنه وقد أجمع الصحابة على هذا عملا، ونقل عن أعلمهم قولا، ولم ينقل أحد فيه خلافا صحيحا، فاذا وجد للحنفية في المسألة قولان (احدهما) مخالف للنصوص وهو أن للبالغة الراشدة ان تزوج نفسها (وثانيهما) انه ليس لها ذلك وهو الموافق للنصوص أفلم يكن من الواجب على المسلمين ـ وقد اختلف علماؤهم في هذه المسألة ـ ان يعرضوها على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسائر المجتهدين، ويردوا الرواية المخالفة ويعملوا بالموافقة؟ بلى ولكن التقليد، هو الذي أوقعهم في الشقاق البعيد.
17. يتوهم بعضهم أن ترك أقوال بعض الأئمة إهانة لهم، وهذا غير صحيح بل هو عين التعظيم لهم، والاتباع لسيرتهم الحسنة، ولو فرضنا انه إهانة ـ وكان يتوقف عليها اتباع هدى كتاب الله وسنة رسوله ـ أفلا تكون واجبة ويكون تعظيم الكتاب والسنة مقدما عليه لان إهانتهما كفر وترك للدبن؟ على أن ترك أقوال الائمة واقع ماله من دافع، فان أتباع كل إمام تاركون لاقوال غيره المخالفة لمذهبهم، بل ما من مذهب إلا وقد رجح بعض علمائه أقوالا مخالفة لنص الامام، ولا سيما الحنفية هذا ـ وان الكتاب لا مثار فيه للخلاف والنزاع إذا صحت النية، فكل من يتعلم العربية تعلما صحيحا وينظر في سنة النبي وسيرته وما جرى عليه السلف من أصحابه والتابعين لهم يسهل عليه أن يفهمه، وما تختلف فيه الافهام لا يقتضي الشقاق، بل يسهل على جماعة المسلمين من أهل العلم والفهم أن ينظروا في الفهمين المختلفين وطرق الترجيح بينهما، وما ظهر لكلهم أو أكثرهم انه الراجح يعتمدونه إذا كان يتعلق بمصلحة الامة والاحكام المشتركة بينها، وما عساه ينفرد به بعض الافراد من فهم خاص بمعارفه يكون حجة عليه دون غيره، فهو لا يقتضي شقاقا لان الشقاق فيه معنى المشاركة، والله أعلم وأحكم.
18. أزيد هذا إيضاحا بما حققته في هذه المسألة بعد الطبعة الاولى لهذا الجزء وهو أن ما كان قطعي الدلالة من النصوص فهو الشرع العام الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه عملا وقضاء، وان ما كان ظني الدلالة فهو موكول إلى اجتهاد الافراد في التعبدات والمحرمات، وإلى أولي الامر في الاحكام القضائية.
__________
(1) تفسير المنار: 2/101.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن بين فيما سلف إباحة أكل الطيبات على خلاف ما عليه أهل الملل الأخرى، وأوجب عليهم شكر ربهم على نعمه التي أسداها إليهم، ذكر في هذه الآيات أن بعض الرؤساء الذين حرموا على الناس ما لم يحرمه الله، وشرعوا لهم ما لم يشرعه، قد كتموا ما شرعه الله بالتأويل أو بالترك؛ فاليهود والنصارى ومن حذا حذوهم كتموا أوصاف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأوجبوا التقشف في المآكل والمشارب، ونحو ذلك مما لهم فيه منفعة كما قال ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾
2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي إن الذين يخفون ما أنزل الله من وحيه على رسله، أو يؤولونه ويحرفونه ويضعونه في غير موضعه برأيهم واجتهادهم، في مقابل الثمن القليل من حطام الدنيا كالرشوة على ذلك أو الجعل (الأجر) على الفتاوى الباطلة أو نحو ذلك مما يستفيده الرؤساء من المرؤوسين، وسمى قليلا لأن كل عوض عن الحق فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الدائمة بدوام المحافظة عليه، والمبطل وإن تمتع بثمن الباطل فذاك إلى أمد الحياة القصير كما قال ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾
3. ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ أي إن أولئك الكاتمين لكتاب الله المتّجرين به، ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار، وانتهاء مطامعهم بعذابها، وقد يكون المعنى: إنه لا تملأ بطونهم إلا النار أي لا يشبع جشعهم إلا النار التي يصيرون إليها على نحو ما جاء في الحديث (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وهذا الحكم عامّ يصدق على المسلمين كما يصدق على غيرهم، فسنة الله مطردة في تأييد أنصار الحق وخذلان أهل الباطل.
4. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي إن الله يعرض عنهم ويغضب عليهم، وقد جرت عادة الملوك إذا غضبوا أعرضوا عن المغضوب عليهم ولم يكلموهم، كما أنهم حين الرضا يلاطفون من يرضون عنه، ويقابلونه بالبشاشة والبشر.
5. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة والصفح عنهم إذا ماتوا وهم مصرّون على كفرهم، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي ولهم عذاب شديد الألم موجع.
6. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أي إن أولئك الذين جزاؤهم ما تقدم، هم الذين تركوا الهدى الواضح البين الذي لا خلاف فيه، وهو ما جاء به الرسل عن ربهم، واتبعوا آراء الناس في الدين وهى لا ضابط لها، وهى مشتبه الأعلام يضلّ بها الفهم، ومن ثم كان أهلها في خلاف وشقاق.
7. ﴿وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ أي إن متبع الضلال استحق العذاب بدل المغفرة، وهو باختياره إياه بعد قيام الحجة قد اشترى العذاب بالمغفرة، وكان هو الجاني على نفسه حين اغترّ بالعاجل واستهان بالآجل.
8. ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ أي إنّ انهماكهم في العمل الذي يوصلهم إلى النار المبين في الآيتين السالفتين هو مثار العجب، فسيرهم في الطريق التي يجرهم إليها، وعدم مبالاتهم بمآل أعمالهم، دليل على أنهم يطيقون الصبر عليها، وتلك حال تستحق العجب أشد العجب، وأعجب من ذلك أن يرضاها عاقل لنفسه ومثل هذا الأسلوب ما يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب ملك من الملوك: ما أصبرك على القيد والسجن! أي إنه لا يتعرض لمثل هذا إلا من هو شديد الصبر على العذاب.
9. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ أي ذلك العذاب الذي تقرّر لهم بسبب أن الكتاب جاء بالحق، والحق لا يغالب، فمن غالبه غلب.
10. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ أي وإن الذين اختلفوا في الكتاب الذي نزله الله لجمع الكلمة على اتباع الحق وإزالة الاختلاف، لفي شقاق بعيد عن سبيل الحق، فلا يهتدون إليه، إذ كل منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من رأى ومذهب، وينأى بجانبه عن الآخر، فيكون الشقاق بينهما بعيدا.
11. وهذا وعيد آخر بعد الوعيد الأول على كتمان الحق، فالمختلفون لا يسلكون سبيلا واحدة كما يدعو إلى ذلك القرآن ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ فلا يجوز أهل الكتاب الإلهي أن يكونوا شيعا ومذاهب شتى كما قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، فإذا وجد خلاف في الفهم (وهو ضروري في طباع البشر) وجب التحاكم إلى الكتاب والسنة حتى يزول كما قال ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ وليس هناك عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم، لأن الله أوجد لكل مشكل مخرجا، على أن ما تختلف فيه الأفهام لا يقتضى الشقاق والنزاع، بل يسهل على جماعة المسلمين من أهل العلم أن ينظروا فيما اختلف فيه، وما يرون أنه الراجح يعتمدون عليه، إذا تعلق بمصلحة الأمة والأحكام المشتركة بينها.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/51.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. من ثم نجد هنا حملة قوية على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب.. والتنديد بكتمان ما أنزل الله من الكتاب كان المقصود به أولا أهل الكتاب، ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة، يكتمون الحق الذي يعلمونه، ويشترون به ثمنا قليلا، إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق، والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان، ويخشون عليها من البيان، وإما هو الدنيا كلها ـ وهي ثمن قليل حين تقاس إلى ما يخسرونه من رضى الله، ومن ثواب الآخرة.
2. وفي جو الطعام ما حرم منه وما حلل، يقول القرآن عن هؤلاء: ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾.. تنسيقا للمشهد في السياق، وكأنما هذا الذي يأكلونه من ثمن الكتمان والبهتان نار في بطونهم! وكأنما هم يأكلون النار! وإنها لحقيقة حين يصيرون إلى النار في الآخرة، فإذا هي لهم لباس، وإذا هي لهم طعام!
3. وجزاء ما كتموا من آيات الله أن يهملهم الله يوم القيامة، ويدعهم في مهانة وازدراء والتعبير القرآني عن هذا الإهمال وهذه المهانة وهذا الازدراء هو قوله: ﴿لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ﴾.. لتجسيم الإهمال في صورة قريبة لحس البشر وإدراكهم.. لا كلام ولا اهتمام ولا تطهير ولا غفران.. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
4. وتعبير آخر مصور موح: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾.. فكأنما هي صفقة يدفعون فيها الهدى ويقبضون الضلالة! ويؤدون المغفرة ويأخذون فيها العذاب.. فما أخسرها من صفقة وأغباها! ويا لسوء ما ابتاعوا وما اختاروا! وإنها لحقيقة، فقد كان الهدى مبذولا لهم فتركوه وأخذوا الضلالة، وكانت المغفرة متاحة لهم فتركوها واختاروا العذاب..
5. ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾.. فيا لطول صبرهم على النار، التي اختاروها اختيارا، وقصدوا إليها قصدا، فيا للتهكم الساخر من طول صبرهم على النار! وإنه لجزاء مكافئ لشناعة الجريمة، جريمة كتمان الكتاب الذي أنزله الله ليعلن للناس، وليحقق في واقع الأرض، وليكون شريعة ومنهاجا، فمن كتمه فقد عطله عن العمل.
6. وهو الحق الذي جاء للعمل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾.. فمن فاء إليه فهو على الهدى، وهو في وفاق مع الحق، وفي وفاق مع المهتدين من الخلق، وفي وفاق مع فطرة الكون وناموسه الأصيل.
7. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾.. شقاق مع الحق، وشقاق مع ناموس الفطرة، وشقاق فيما بينهم وبين أنفسهم.. ولقد كانوا كذلك، وما يزالون، وتلحق بهم كل أمة تختلف في كتابها، فلا تأخذ به جملة، وتمزقه تفاريق.. وعد الله الذي يتحقق على مدار الزمان واختلاف الأقوام، ونحن نرى مصداقه واقعا في هذا العالم الذي نعيش فيه.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/158.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. من الذين يأكلون السحت ويملئون بطونهم بالحرام، أولئك الذين عندهم علم الكتاب من أهل الكتاب، ثم يكتمون علمهم هذا، ولا يؤدون الشهادة على وجهها إذا دعوا ليدلوا بما عندهم من علم، في أمر ما، بل يحرّفون ويبدلون، لقاء الاحتفاظ برئاسة دينية لهم على الناس، أو انتصارا للمشركين على المؤمنين في مقابل ثمن معلوم.
2. هؤلاء إنما يأكلون في بطونهم النّار في هذه الحياة الدنيا، لأن هذا الطعام الذي يأكلونه إنما هو مما باعوا به دينهم، وبهذا صاروا أهلا للنّار، وقد أعدت أجسامهم التي نمت من هذا الطعام الحرام لتكون وقودا لتلك النار!
3. فى قوله تعالى: (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) صوت يتردد من خارج النار التي تلتهم أولئك الذين مكروا بما أنزل الله، فاشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، إنه صوت أولئك الذين نجاهم الله من هذا البلاء، يعبّرون به ـ في دهشة واستغراب ـ عن صبر هؤلاء الأشقياء الذين تأكلهم النار وهم يتقلبون على جمرها.. إن كل من يطلع عليهم لا يملك إلا أن يستهول هذا الهول الذي هم فيه، ويتعجب من احتمالهم له، وصبرهم عليه! واستحضار هذه الصورة في الدنيا، فيه تنفير من هذا الموقف الأليم، وتحذير من هذا المصير المشئوم!
4. الإشارة في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ واردة على هذا المصير البغيض، الذي صار إليه أولئك الذين كتموا ما أنزل الله من الكتاب واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وأنهم إنما استحقوا هذا الجزاء السيّئ لانحرافهم عن الحق عن علم.. ذلك بأن الله نزل الكتاب ناطقا بالحق، وقد عرفوه، فلا عذر لهم إذا هم تنكبوا طريق الحق، وركبوا شعاب الباطل والضلال!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/191.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. عود إلى محاجّة أهل الكتاب لاحق بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ [البقرة: 159] بمناسبة قوله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ [البقرة: 173] تحذيرا للمسلمين مما أحدثه اليهود في دينهم من تحريم بعض ما أحل الله لهم وتحليل بعض ما حرم الله عليهم؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا التوسيع والتضييق تركوا أن يقرؤوا من كتابهم ما غيّروا العمل بأحكامه كما قال تعالى: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام: 91] كما فعلوا في ترك قراءة حكم رجم الزاني في التوراة حين دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أحد اليهود ليقرأ ذلك الحكم من التوراة فوضع اليهودي يده على الكلام الوارد في ذلك كما أخرجه البخاري في كتاب الحدود، ولجريانه على مناسبة إباحة ما أبيح من المأكولات جاء قوله هنا ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ لقصد المشاكلة، وفي هذا تهيئة للتخلص إلى ابتداء شرائع الإسلام؛ فإن هذا الكلام فيه إبطال لما شرعه أهل الكتاب في دينهم فكون التخلص ملونا بلوني الغرض السابق والغرض اللاحق.
2. عدل عن تعريفهم بغير الموصول إلى الموصول لما في الصلة من الإيماء إلى سبب الخبر وعلته نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]
3. الكتاب المذكور هنا هو الكتاب المعهود من السياق وهو كتاب ﴿الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ فيشبه أن تكون (أل) عوضا عن المضاف إليه، والذين يكتمونه هم اليهود والنصارى أي يكتمون البشارة بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ويكتمون بعض الأحكام التي بدلوها.
4. ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ هو المال الذي يأخذونه من الناس جزاء على إفتائهم بما يلائم هواهم مخالفا لشرعهم أو على الحكم بذلك، فالثمن يطلق على الرشوة لأنها ثمن يدفع عوضا عن جور الحاكم وتحريف المفتي.
5. ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ جيء باسم الإشارة لإشهارهم لئلا يخفى أمرهم على الناس، وللتنبيه على أن ما يخبر به عن اسم الإشارة استحقوه بسبب ما ذكر قبل اسم الإشارة، كما تقدم في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبَّهُمْ﴾ [البقرة: 5]، وهو تأكيد للسببية المدلول عليها بالموصول.
6. فعل ﴿يَأْكُلُونَ﴾ مستعار لأخذ الرّشا المعبر عنها بالثمن والظاهر أنه مستعمل في زمان الحال، أي ما يأكلون وقت كتمانهم واشترائهم إلّا النار لأنه الأصل في المضارع.
7. الأكل مستعار للانتفاع مع الإخفاء، لأن الأكل انتفاع بالطعام وتغييب له فهو خفي لا يظهر كحال الرشوة، ولما لم يكن لآكل الرشوة على كتمان الأحكام أكل نار تعين أن في الكلام مجازا، فقيل هو مجاز عقلي في تعلق الأكل بالنار وليست هي له وإنما له سببها أعني الرشوة، قال التفتازاني: وهو الذي يوهمه ظاهر كلام (الكشاف) لكنه صرح أخيرا بغيره، وقيل هو مجاز في الطّرف بأن أطلق لفظ النار على الرشوة إطلاقا للاسم على سببه قال التفتازاني: وهو الذي صرح به في (الكشاف) ونظّره بقول الأعرابي يوبخ امرأته وكان يقلاها:
çأكلت دما إن لم أرعك بضرّة...بعيدة مهوى القرط طيبة النّشرé
أراد الحلف بطريقة الدعاء على نفسه أن يأكل دما أي دية دم فقد تضمن الدعاء على نفسه بقتل أحد أقاربه وبذهاب مروءته، لأنهم كانوا يتعيرون بأخذ الدية عن القتيل ولا يرضون إلّا بالقود.
8. اختار عبد الحكيم أنه استعارة تمثيلية شبهت الهيئة الحاصلة من أكلهم الرّشا بالهيئة المنتزعة من أكلهم النار وأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.
9. لا يضر كون الهيئة المشبه بها غير محسوسة لأنها هيئة متخيلة كقوله: (أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد)، فالمركب الذي من شأنه أن يدل على الهيئة المشبهة أن يقال: أولئك ما يأخذون إلّا أخذا فظيعا مهلكا فإن تناولها كتناول النار للأكل فإنه كلّه هلاك من وقت تناولها باليد إلى حصولها في البطن.
10. وجه كون الرشوة مهلكة أن فيها اضمحلال أمر الأمة وذهاب حرمة العلماء والدين فتكون هذه الاستعارة بمنزلة قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: 103] أي على وشك الهلاك والاضمحلال.
11. الذي يدعو إلى المصير للتمثيلية هو قوله تعالى: ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ فإن الرشوة لا تؤكل في البطن فيتعين أن يكون المركب كله استعارة، ولو جعلت الاستعارة في خصوص لفظ النار لكان قوله: ﴿يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ مستعملا في المركب الحقيقي، وهو لا يصح، ولولا قوله: ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ لأمكن أن يقال: إنّ ﴿يَأْكُلُونَ﴾ هنا مستعمل حقيقة عرفية في غصب الحق ونحو ذلك.
12. جوزوا أن يكون قوله: ﴿يَأْكُلُونَ﴾ مستقبلا، أي ما سيأكلون إلّا النار على أنه تهديد ووعيد بعذاب الآخرة، وهو وجيه، ونكتة استعارة الأكل هنا إلى اصطلائهم بنار جهنم هي مشاكلة تقديرية لقوله: ﴿يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا﴾ فإن المراد بالثمن هنا الرشوة، وقد شاع تسمية أخذ الرشوة أكلا.
13. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ نفي للكلام والمراد به لازم معناه وهو الكناية عن الغضب، فالمراد نفي كلام التكريم، فلا ينافي قوله تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر: 93]
14. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ أي لا يثني عليهم في ذلك المجمع، وذلك إشعار لهم بأنهم صائرون إلى العذاب؛ لأنه إذا نفيت التزكية أعقبها الذم والتوبيخ، فهو كناية عن ذمهم في ذلك الجمع إذ ليس يومئذ سكوت.
15. اختلف في ﴿أُولَئِكَ﴾ في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾:
أ. إن جعلتمبتدأ ثانيا لجملة هي خبر ثان عن المبتدأ الأول وهو اسم ﴿إِنَّ﴾ في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: 174] فالقول فيه كالقول في نظيره وهو ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ [البقرة: 174] ونكتة تكريره أنه للتنبيه على أن المشار إليه جدير بأحكام أخرى غير الحكم السابق وأن تلك الأحكام لأهميتها ينبغي ألا تجعل معطوفة تابعة للحكم الأول بل تفرد بالحكمية.
ب. وإن جعلته مبتدأ مستقلا مع جملته فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان سبب انغماسهم في عذاب النار؛ لأنه وعيد عظيم جدا يستوجب أن يسأل عنه السائل فيبين بأنهم أخذوا الضلال ونبذوا الهدى واختاروا العذاب ونبذوا المغفرة، ومجيء المسند إليه حينئذ اسم إشارة لتفظيع حالهم؛ لأنه يشير لهم بوصفهم السابق وهو كتمان ما أنزل الله من الكتاب.
16. معنى اشتراء الضلالة بالهدى في كتمان الكتاب أن كل آية أخفوها أو أفسدوها بالتأويل فقد ارتفع مدلولها المقصود منها وإذا ارتفع مدلولها نسي العمل بها فأقدم الناس على ما حذرتهم منه، ففي كتمانهم حق رفع وباطل وضع.
17. معنى اشتراء العذاب بالمغفرة أنهم فعلوا ذلك الكتمان عن عمد وعلم بسوء عاقبته، فهم قد رضوا بالعذاب وإضاعة المغفرة فكأنهم استبدلوا بالمغفرة العذاب.
18. ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ تعجيب من شدة صبرهم على عذاب النار، ولما كان شأن التعجيب أن يكون ناشئا عن مشاهدة صبرهم على العذاب وهذا الصبر غير حاصل في وقت نزول هاته الآية بني التعجيب على تنزيل غير الواقع منزلة الواقع لشدة استحضار السامع إياه بما وصف به من الصفات الماضية، وهذا من طرق جعل المحقق الحصول في المستقبل بمنزلة الحاصل، ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وتنزيل المتخيل منزلة المشاهد كقول زهير:
çتبصّر خليلي هل ترى من ظعائن...تحملن بالعلياء من فوق جرثمé
بعد أن ذكر أنه وقف بالدار بعد عشرين حجة، وقول مالك بن الرّيب:
çدعاني الهوى من أهل ودّي وجيرتي...بذي الطّبسين فالتفتّ ورائياé
وقريب منه قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ [التكاثر: 5 ـ 6] على جعل ﴿لَتَرَوُنَّ﴾ جواب ﴿لَوْ﴾
19. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ جيء باسم الإشارة لربط الكلام اللاحق بالسابق على طريقة العرب في أمثاله إذا طال الفصل بين الشيء وما ارتبط به من حكم أو علة أو نحوهما كقول النابغة: (وذلك من تلقاء مثلك رائع) بعد قوله: (أتاني أبيت اللعن أنّك لمتني)، والكلام السابق الأظهر أنه قوله: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ [البقرة: 175] والمعنى أنهم استحقوا العذاب على كتمانهم بسبب أن الله أنزل الكتاب بالحق فكتمانهم شيئا من الكتاب كتمان للحق وذلك فساد وتغيير لمراد الله؛ لأن ما يكتم من الحق يخلفه الباطل كما بيناه آنفا فحقّ عليهم العذاب لكتمانه، لأنه مخالف مراد الله من تنزيله، وعليه فالكتاب في قوله: ﴿بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾ هو عين الكتاب المذكور في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: 174] وهو كتابهم التوراة والإنجيل ليكون الموضوع في العلة والحكم المعلّل واحدا، وعليه فالجملة فصلت من الجملة التي قبلها لجريانها منها مجرى العلة.
20. يجوز أن يكون المشار إليه السابق هو الكتمان المأخوذ من ﴿يَكْتُمُونَ﴾، أي إنما كتموا ما كتموا بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فعلموا أنه على النعت الذي بشر الله به على لسان التوراة، والمعنى أنهم كتموا دلائل صدق النبي حسدا وعنادا؛ لأن الله أنزل القرآن على محمد، فالكتاب هنا غير الكتاب في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: 174]، والجملة على هذا الوجه استئناف بياني لاستغراب تعمدهم كتمان ما أنزل الله من الكتاب وإن هذا الصنع الشنيع لا يكون إلّا عن سبب عظيم، فبين بقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾
21. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ تذييل ولكنه عطف بالواو لأنه يتضمن تكملة وصف الذين اشتروا الضلالة بالهدى ووعيدهم، والمراد بالذين اختلفوا عين المراد من قوله: ﴿الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: 174]، و﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ [البقرة: 175]، فالموصولات كلها على نسق واحد.
22. المراد من الكتاب المجرور بفي يحتمل أنه المراد من الكتاب في قوله: ﴿نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾ فهو القرآن فيكون من الإظهار في مقام الإضمار ليناسب استقلال جملة التذييل بذاتها، ويكون المراد باختلفوا على هذا الوجه أنهم اختلفوا مع الذين آمنوا منهم أو اختلفوا فيما يصفون به القرآن من تكذيب به كلّه أو تكذيب ما لا يوافق هواهم وتصديق ما يؤيد كتبهم، ويحتمل أن المراد من الكتاب المجرور بفي هو المراد من المنصوب في قوله: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: 174] يعني التوراة والإنجيل أي اختلفوا في الذي يقرّونه والذي يغيرونه وفي الإيمان بالإنجيل والإيمان بالتوراة، ومن المحتمل أن يكون المراد بالذين اختلفوا في الكتاب ما يشمل المشركين وأن يكون الاختلاف هو اختلاف معاذيرهم عن القرآن إذ قالوا: سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين، لكنه خروج عن سياق الكلام على أهل الكتاب، ومن المحتمل أيضا أن يكون المراد بالكتاب الجنس أي الذين اختلفوا في كتب الله فآمنوا ببعضها وكفروا بالقرآن.
23. فائدة الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿الْكِتَابِ﴾ أن يكون التذييل مستقلا بنفسه لجريانه مجرى المثل، وللمفسرين وجوه كثيرة في قوله: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾ متفاوتة البعد.
24. وصف الشقاق بالبعيد مجاز عقلي أي بعيد صاحبه عن الوفاق كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: 118]
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/122.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن بين الله تعالى في كتابه الحكيم ما يحل وما يحرم، وذكر أن الشيطان يجيء بوسوسته فيما يحل فيحرمه، وفيما يحرم فيبيحه فهو يجعل المشركين يحرمون على أنفسهم بعض ما أحل، ويحملهم على أن يستبيحوا الزنى والقذف والخمر والقتل والغصب، بعد ذلك بين سبحانه أن ما جاء في كتاب الله تعالى يجب أن يبين، وما جاء في الكتب السابقة يجب ألا يكتم من بشارة بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحلال وحرام في هذه الكتب، وأن من يكتم الذي أنزله الله سبحانه لغرض من أغراض أو هوى من هوى الأنفس أو رجاء رشوة أو سحت من المال، إنما يبيع الحق بثمن بخس مهما يكن مقداره؛ ولذا قال تعالت كلماته: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ﴾، الكلام في كل من يكتمون ما أنزل الله في الكتاب سواء أكانوا مؤمنين لا يبلغون الدعوة إلى الله ويبينون ما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام التي يجب إعلانها وبيانها للناس، أم كانوا من اليهود أو النصارى الذين يعلمون أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وما يجيء به من أحكام ويكتمونها، وقد قال تعالى في ذلك: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف]، وكان من المناسب ذكر كتمانهم، والقرآن الكريم يبين الطيبات التي أحلها، والخبائث التي حرمها، والأغلال التي رفعها، وقد كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ورسالته.
2. ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا﴾ معناه يقدمونه في نظير قليل، وعبر سبحانه بقوله تعالى: ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ لأن المشترى طالب لمقابل المبيع، فهم يتركونها طالبين ثمنها راغبين، وهو مهما يكن مقداره قليل، فهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، والثمن هو استعلاء واستكبار عن الاتباع، وإنكار وجحود، وعرض من أعراض الدنيا وقد بين الله تعالى سوء فعلتهم في الدنيا، وعذابهم في الآخرة، فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾
3. الإشارة إلى الذين يكتمون ما أنزل الله في الكتاب الحق، وتركوا الواجب في نظير قليل بالنسبة لما تركوه فهو زهيد مهما يكن مقداره بجوار الحق الذي باعوه، فقد باعوا غاليا بما لا يكافئه مهما يكن قدره، الإشارة إلى هؤلاء الذين اتصفوا بذلك، والإشارة إلى الموصوف بصفة يبين أن سبب الحكم هو هذه الصفة، وقد حكم الله تعالى عليهم بأربعة أحكام:
أ. أولها أنهم ما يأكلون من الثمن الذي أخذوه إلا النار تلهب بطونهم، وقوله ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ مجاز فيه عبر عن حالهم بالمآل الذين يئولون إليه، فعبر سبحانه عن حالهم في الثمن الذي أخذوه شرها، طمعا وإيثارا للباطل، وتركا للحق بأنهم أكلوا نارا، نزلت في بطونهم وألهبتها ومزقت لحومهم، واختار التعبير بكون النار في بطونهم؛ لأن المال الباطل يطلب لأجل شهوة البطن وملذاتها والتعبير عن الجزء وإرادة الكل إذ المراد أن النار تعمهم، وتشمل كل أجزائهم، ولكن عبر بالجزء؛ لأن ذلك الجزء له مزيد من الاختصاص؛ لأن شهوتهم وشرههم هو الذي جعلهم يختارون ذلك الثمن الحقير وإن كان كبيرا فإن الذي تركوه من الحق أكبر وأعظم وهو الحق الذي كتموه.
ب. العقاب الثاني: أنهم ينالهم غضب الله تعالى، وغضب الله الواحد القهار فيه إيلام لأهل الضمائر وإنذار شديد لأهل الشر، لأنه غضب المقتص الجبار الذي لا يفلت منه أثيم، ولا تنفع عنده شفاعة الشافعين، ولا يغنى أمامه سبحانه وتعالى شيء في الوجود مهما يكن ومهما تكن صلته، ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [الزخرف]
ج. العقاب الثالث: أن الله تعالى لا يزكيهم أي لا يطهرهم من ذنوبهم فإنهم في كون الجزاء، لا يخفف عنهم ولا يرجعون، يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، ولكن لا يعودون، ولا يخرجون من النار التي تحيط بهم.
د. العقاب الرابع: أن لهم عذابا أليما أي مؤلما، نتيجة لغضب الله تعالى، وعبر سبحانه وتعالى عن غضبه عليهم بأنه لا يكلمهم، وكأنه يقول لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون.
4. الآية كما يقولون نزلت في اليهود أو النصارى كذلك، فإن اللفظ أعم وأشمل فهو يشمل اليهود الذين كتموا الحق غرورا واستعلاء وكبرياء وطلبا للدنيا وما فيها من سيطرة وسلطة ويشمل كل من يكتم الحق من أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيشمل الذين تقاصروا عن الدعوة إلى الإسلام، وهم عليها قادرون، وتركوها استرخاء، وتقاصرا في الهمم وتركا للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويشمل الوصف الذين لا يذكرون ما أحل الله تعالى وما حرم، تهاونا وكسلا، أو لينالوا مأربا من مآرب الدنيا، وهو الثمن البخس الذي تركوا الواجب لأجله، ويشمل الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تخاذلا عن الحق، ورضا بالباطل، ويشمل الذين يمالئون الحكام، ويخطون على هواهم، ويقررون من الأحكام ما يخالف النقل والعقل، كأولئك الذين يستبيحون الربا، والذين يدعون إلى قتل النسل، لإرضاء الحاكمين وتقربا وازدلافا إليهم، ويشمل الذين يفتون الناس على حسب أهوائهم بأجر معلوم، أو رجاء معونة عند الحكام الذين ليس للدين حريجة في قلوبهم، وكل أولئك نراه في عصرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
5. أولئك الذين كتموا الحق الذي أنزله تعالى لغرض أو لمال أو لجاه، أو لرشوة وسحت أو لمنصب يريدونه أو يرجونه، هؤلاء تركوا الهداية وطلبوا الضلالة؛ ولذا قال تعالى مشيرا إليهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾، الإشارة في الأولى إشارة للذين اتصفوا بكتمان الحق وقت الحاجة إلى بيانه، وأن ذلك الوصف هو سبب الحكم الذي تقرر عليهم، وهو أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، أي تركوا الحق، وهو المبيع الثمين لأنه هدى الله تعالى وهو الطريق، وهو الإعلام بالحق المبين تركوه، وباعوه بثمن حقير في ذاته بالنسبة لمقابله، فهو الضلالة، في مقابل الهداية، قد تركوا الطريق المستقيم وهو الهداية التي منحهم الله تعالى بحكم الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها، تركوا ذلك الطريق المستقيم إلى متعرجات الشيطان فضلوا في صحراء هذا الوجود ضلالا بعيدا.
6. كما استبدلوا بالهداية الضلالة استبدلوا أيضا العذاب بالمغفرة، أي سلكوا الطريق الموصل إلى العذاب وتركوا الطريق الموصل إلى مغفرة الله تعالى، وقد عبر الله تعالى بالعذاب، والظاهر أنه أراد سببه والطريق الموصل إليه، إشارة إلى أنه موصل إليه لا محالة، والمغفرة هي الثواب والنعيم المقيم الذي أعده الله تعالى للمهتدين، وعبر عن الثواب بالمغفرة؛ لأن المغفرة دليل الرضا أولا، وللإشارة إلى أن من يعمل صالحا يغفر الله له ما عساه يكون من سيئات؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات ثانيا، ولأن من ينال غفران الله تعالى من المقربين.
7. أكد الله تعالى دوام عذابهم بقوله تعالت كلماته: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ أي أنهم يأخذون في أسباب الجحيم، ودخول النار والبقاء، ويقال في مثل من يكون في حالهم ممن يسيرون سيرهم، ما أصبرهم على النار وهو من قبيل التهكم كما يقول القائلون لمن يرتكب أسباب العقوبة من حد أو تعزير: ما أصبرك على السياط تكوى ظهرك كيا؛ لأنه يتخذ أسبابها، وقد يقال إن الصبر بمعناه اللغوي وهو الحبس كقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهِهِ﴾ [الكهف]، ويكون المعنى ما أطول وأدوم حبسهم على النار يصلونها، روى عن الكسائي أنّه قال أخبرني قاضى اليمن أن خصمين اختصما إليه، فوجبت اليمين على أحدهما فحلف فقال له صاحبه: ما أصبرك على الله أي ما أجرأك عليه، والمعنى على ذلك: ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدى إليها.. اللهم قنا عذاب النار، وألهمنا الصبر على النطق بالحق إنك أنت الرحمن الرحيم.
8. ما كان ذلك الوجوب إعلام بإعلان الحق في الكتاب الكريم والعقاب على الكتمان إلا لأن الكتاب أنزل بالحق، والذين يختلفون فيه اختاروا المشاقّة على الإيمان؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ أي أن الله تعالى نزل القرآن في مدى ثلاث وعشرين سنة بالحق الثابت الذي لا مرية فيه، ولا شك أن من يكتمه ولا يبينه للناس ليستضيئوا بنوره، وليهتدوا بهديه ـ يرتكب إثما عظيما، يستحق عليه عقابا أليما، وهو الطريق المستقيم، ولا ينبغي لأحد أن يخالفه أو يختلف في شأنه وصدقه؛ ولذا قال عزّ من قائل: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾، فمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض ويترك ما يدعو إليه، أو يجعله عضين مفرقا يفهمه غير مستقيم في فهمه بل يفهمه متناقضا على حسب هواه، لا على مقتضى نسقه الحكيم، من يفعل ذلك فشأنه في شقاق بحيث يتخذ كل واحد شقة من القول، ويكون كل شق بعيدا عن الآخر، لا يتلاقون أبدا فهم في خلاف وكل حزب بما لديهم فرحون.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/513.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾، قيل: ان هذه الآية نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا وصف محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونبوته، ومهما كان سبب النزول، فان المراد كل من عرف شيئا من الحق وكتمه بالتأويل والتحريف لمنفعته الشخصية، يهوديا كان أو نصرانيا، أو مسلما، لأن اللفظ عام، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص سبب النزول.
2. هدد الله سبحانه هذا الضال المضل في العديد من الآيات.. وكلها غضب ووعيد بأشد العذاب والعقاب، لأن الحق يجب تقديسه وإعلانه بكل وسيلة، ودفع الشبهات عنه، وتحدي من يتحداه، وتنفيذه بقوة السلاح، والتضحية في سبيله بكل عزيز، إذ لا قوام للدين، ولا للنظام، ولا للحياة الا به.
3. ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾، أي ما يوجب العذاب في النار، فهو من باب اطلاق المسبب، وهو النار، على السبب، وهو أكل الحرام.. وذكر البطون، مع العلم بأن الأكل لا يكون الا في البطن، للإشارة الى انه لا همّ لهم الا امتلاء بطونهم.
4. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، كناية عن اعراضه عنهم، وغضبه عليهم، ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ من الذنوب بالمغفرة.
5. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾، الضلالة اتباع الهوى، والهدى اتباع كتاب الله، وشراء الضلالة بالهدى أن يؤثر الباطل على الحق، والهوى على الهدى.
6. ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾، ليس هذا اخبارا عن صبرهم على النار، ولا تعجبا من صبرهم عليها، لأن التعجب منشأه الجهل بالسبب، وهو ممتنع في حقه تعالى، وإنما القصد تصوير إقدامهم وجرأتهم على الله بترك أحكامه وحدوده، واتباعهم الباطل والضلال، القصد تصوير حالهم هذه، وتمثيل مآلهم الذي لا يمكن الصبر عليه بحال، قال الرازي: لما أقدموا على ما يوجب النار صاروا كالراضين بعذاب الله، والصابرين عليه.. فهو كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن؟
7. سؤال وإشكال: هذا حال من عرف الحق وكتمه، فما هو حال من لم يعرف شيئا مما أنزل الله، ومع ذلك يقول: هذا حلال، وذاك حرام، ولا مستند له الا الوهم والخيال؟ والجواب: ان هذا أسوأ حالا ممن عرف الحق وكتمه، لأنه قد أقام نفسه مقام الله جل وعلا، واتخذ منها مصدرا للتشريع، والتحليل والتحريم.
8. أكتب هذه الكلمات في شهر حزيران سنة 1967، وفي هذا الشهر المشئوم تغلب الاسرائيليون على بعض أطراف البلاد العربية بمعاونة بريطانيا وأمريكا، وأخرجوا أهلها من ديارهم، وشردوا أكثر من مائتين وخمسين ألفا، وحرقوا الألوف من الرجال والنساء والأطفال بقنابل النابالم، وقد بارك هذه الفضائح كثيرون، وطربوا لها، وتمنوا لو ان إسرائيل استمرت في طغيانها الى غير حد.. ان الهوى عندهم قد طغى على العقل والوجدان، حتى لم يبق لهما عينا ولا أثرا فصار من فقدوهما تماما كالبهائم، وقد وصف الله هؤلاء بأنهم قوم لا يعقلون، ولا يفقهون، وبأنهم كالأنعام، بل أضل سبيلا.
9. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾، ذلك اشارة الى العذاب الذي سينزل بالذين يكتمون الحق، وقوله ﴿بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾ بيان لسبب العذاب، وهو جرأتهم على مخالفة الحق الذي جاء في كتاب الله.
10. اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾، فذهب أكثرهم ـ على ما في مجمع البيان ـ إلى أنهم الكفار، ووجه الاختلاف ان منهم من قال ان القرآن سحر، ومنهم من قال هو رجز، وقال آخرون: أساطير الأولين، وقال بعض المفسرين: بل المراد المسلمون، فإنهم بعد أن اتفقوا على ان القرآن من عند الله اختلفوا في تفسيره وتأويله، وتشعبوا الى فرق وشيع، وكان عليهم أن تكون كلمتهم واحدة بعد ان كان قرآنهم واحدا، ويجوز أن يكون المراد الكفار، ولكن، لا لأن بعضهم قال ان القرآن سحر، وآخر قال انه رجز، بل لأنهم السبب الوحيد للخلاف والشقاق، وعدم جمع الكلمة على الحق بينهم وبين من آمن بالقرآن.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/267.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ تعريض لأهل الكتاب إذ عندهم شيء كثير من المحللات الطيبة التي حرمها كبراؤهم ورؤساؤهم في العبادات وغيرها ـ وعندهم الكتاب الذي لا يقضي فيه بالتحريم ـ ولم يكتموا ما كتموه إلا حفظا لما يدر عليهم من رزق الرئاسة وأبهة المقام والجاه والمال.
2. في الآية من الدلالة على تجسم الأعمال وتحقق نتائجها ما لا يخفى فإنه تعالى ذكر أولا أن اختيارهم الثمن القليل على ما أنزل الله هو أكل النار في بطونهم، ثم بدل اختيار الكتمان وأخذ الثمن على بيان ما أنزل الله في الآية التالية من اختيار الضلالة على الهدى ثم من اختيار العذاب على المغفرة ثم ختمها بقوله: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾، والذي كان منهم ظاهرا هو الإدامة للكتمان والبقاء عليها فافهم.
3. عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ الآية، قال: ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار.. وعنه قال: ما أجرأهم على النار.. وقال: ما أعملهم بأعمال أهل النار.. والروايات قريبة المعاني ففي الأولى تفسير الصبر على النار بالصبر على سبب النار، وفي الثانية تفسير الصبر على النار بالجرأة عليها وهي لازمة للصبر، وفي الثالثة تفسير الصبر على النار بالعمل بما يعمل به أهل النار ومرجعه إلى معنى الرواية الأولى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/427.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ فالكتمان محرم، واستبدال الثمن القليل بما أنزل الله من الكتاب محرم آخر، وكل ثمن بدل فهو قليل، فقوله: ﴿قَلِيلًا﴾ ليس شرطاً، بل بيان لقلته وحقارته في جنب بيع الدين، ويدخل في هذا من يكتم ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ لأجل معاش يعطاه من بعض ملوك الجور.
2. ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ للتبعيض، ولو كان المراد الكل لقيل: الكتاب الذي أنزله الله، وكل كلمة يصدق عليها ما أنزل الله؛ لأن الله أنزلها، ويقبح كتمانها؛ لأن الله أنزلها، فالمعنى: الذين يعتادون كتمان ما أنزل الله ولو كلمة واحدة من الكتاب تكرر كتمانهم لها، فقد دخلوا في الآية؛ لأن أهل الكتاب لم يكونوا يكتمون كل كلمة من الكتاب، ولعله يدخل في هذا كثير من الناس يأخذون المعاشات، ويكتمون الحق من أجلها.
3. ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾ لأن ما أكلوه من بدل ما أنزل الله يكون في الآخرة ناراً في بطونهم ولا يبعد أن يكون هذا حقيقة؛ لأن الله تعالى قال ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ إلى قوله: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾ [التوبة:34 ـ 35]، وعلى هذا فالظاهر الحقيقة، ولا موجب للتأويل.. نعم هو مجاز من حيث تسميته ناراً باعتبار ما يؤول إليه مثل: (أعصر خمراً)
4. ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ إذا صح التعبير بالغضب في القرآن منسوباً إلى الله، والمراد غايته، والله يتعالى عن مشابهة المخلوقين، صح أن نقول: قوله: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ دلالة على غضبه عليهم؛ لأن من آثار الغضب عندنا ترك تكليم المغضوب عليه، فإذا لم يكلمهم كان عدم الكلام دلالة على أنه يعذبهم ويفعل بهم ما يفعل الغاضب، ولا يوجد منه لهم أي شيء ينافيه الغضب في العادة عندنا.
5. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ ولا يحكم بأنهم زاكون؛ لأنهم مجرمون، وإن ادعوا لأنفسهم الزكاة ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:49]
6. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بتلك الجريمة الكبرى كتمان ما أنزل الله واستبدال المال به، والعذاب مؤلم تأليماً شديداً، فوصفه بأنه أليم يدل على زيادته في التأليم على ما يفيده اسم العذاب.
7. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ في تلك المبادلة بما أنزل الله من الكتاب بالثمن، فمعناها: اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فهي صفقة خاسرة خسراناً مبيناً.
8. ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ فما أشد جرائمهم الموجبة للنار، ولمّا كانوا بذلك كأنهم قد صاروا بسببه في النار لكون مصيرهم إليها بسبب جرائمهم هذه التي يتجرؤون عليها أمراً متحتماً جعلت جرائمهم التي هي سبب النار واستمرارهم عليها أو تكررها منهم كأنها صبر على النار؛ لأنهم في كل مرة من كتمانهم يستوجبون النار، وفي كل مرة من استبدالهم بها المال يستحقون النار، فتكرر أسباب النار منهم كأنه صبر على النار؛ لأنه سبب النار، كقوله تعالى: ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾، وفي (تفسير الغريب) للإمام زيد بن علي عليهما السلام: (﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ معناه: (ما أجرأهم عليها)، فتكرر أسباب النار منهم بدون خوف ولا مبالاة، وهم يعلمون أنه سبب النار عجيب!، كما أن الصبر على النار عجيب واستعمال أداة التعجب من علام الغيوب للدلالة على أن الأمر عجيب في حقنا.
9. قال المرتضى عليه السلام: هذا تبكيت من الله ـ عزَّ وجل ـ لكفرة عباده، وتقريع لقلة صبرهم على النار، فقال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ ولا يصبرون عليها، وكذلك تقول العرب للرجل في الشيء إذا لم يقوَ عليه وأيقنت بعجزه عنه: ما أقواك على كذا وكذا، من طريق التقريع له بضعفه وقلة احتماله، وقد قيل: إن معنى ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ أي ما أصبرهم على عمل النار الذي يهلكون به ويستوجبون العذاب بفعله، فأقام النار مقام عملها)
10. الأولى الجمع بين التفاسير المذكورة، ولا تعارض إذا كان المرتضى يعني بالتقريع والتبكيت: التّجهيل لهم، فهو معنى حسن جداً نضيفه إلى ما قلناه، وإلى ما روي عن الإمام زيد بن علي عليهما السلام.
11. قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: (تدل على قبح كتمان ما أنزل الله، وعلى تحريم أخذ العوض عن ذلك، وأن ما حرمه الله من كل وجه لا يملكه من حرم عليه) يعني ما حرم أخذه لا يملك بالمعاوضة كالربا والرشوة ومهر البغي وغير ذلك، والدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء:10] فدل على تحريم أكله لا مجرد تحريم المعاوضة فيه وتحريم أكله لتحريم التصرف فيه؛ لأنه أخذ بالمعاوضة المحرمة والتصرف فيه سواء.
12. إنما خص الأكل للتخويف كما قال تعالى في أموال اليتامى، ولو ملك لحل أكله، والتصرف فيه باشتراء ما يؤكل، وليس المراد أكله بعينه، بل المراد إتلافه بأكله أو أخذ مأكول به؛ لأن الفلوس لا تؤكل، وكثيراً ما تكون الرشوة من الفلوس وأموال اليتامى لا تكون كلها مأكولة، فظهر: أن المراد الإتلاف في الأكل أو بالأكل، كله يعبر عنه بالأكل، بل لا يبعد أن المراد الإتلاف، ولو لغير الأكل، وعبّر عنه بالأكل على طريقة التغليب، وهذا لا ينافيه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [النساء:10] لأن بعضه مأكول أو أتلف في مأكول، فصح ذلك مع التغليب.
13. ﴿ذَلِكَ﴾ الوعيد على الكتمان والاستبدال بما أنزل الله ﴿بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ فقبح كتمانه والاستبدال به؛ لأنه نصرة للباطل ومعارضةً لأمر الله، وتفويت لفائدة ما أنزل الله ومحاولة لتضييع الحق، فهو محادة لله ومحاربة للحق.
14. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ لعله حيث ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ فصاروا مختلفين في الكتاب؛ لاستناد اليهود إلى (التوراة) والنصارى إلى (الإنجيل) فخالفت اليهود في (الإنجيل) وخالفت النصارى في (التوراة) وخالف الذين لا يعلمون في (التوراة) وكل ذلك عناد وتمرد لا يستند إلى دليل، ثم إن الفرق الثلاث كما اختلفوا في الكتاب فهم في شقاق ومعاندة بجحدهم للقرآن ورسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فصار بينهم وبين صراط الله مسافات ومراحل.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/238.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قد يكون في الحديث عن أهل الكتاب، وعن كتمانهم ما أنزل الله فيه من حلاله وحرامه إيحاء بما ذكرناه في تفسير الآيات السابقة في تحليل حصر المحرمات بما ذكر، على أساس الرد على ما أثاره الآخرون من المحرمات من عند أنفسهم، وقد أفاض القرآن الكريم الحديث عن كتمان الوحي، وإخفاء الحقائق الإلهية، والاتجار بالدين، واستغلال جهل الجاهلين، وشدّد على استحقاق هؤلاء الذين يمارسون هذه الأمور، عقابا أليما، لأنهم لا يسيئون بذلك إلى أنفسهم فقط، بل يسيئون إلى الحياة وإلى الناس كافة، لأن الحقيقة إذا انطلقت في الحياة فكرا وممارسة، فسوف تفتح للناس أبواب الخير والتقدم، وتدفع الحياة إلى النمو والازدهار وتخرجها من الظلمات إلى النور.
2. هذا ما نلمحه في هذه الآيات التي تتحدث عن الذين يكتمون وحي الله، ويتاجرون به بطريقة تحريفية، فتتوعدهم بأن هذا الذي يأكلونه ثمنا للتحريف سوف يتحول إلى نار تحرق أجسامهم وبطونهم، وسوف يقفون يوم القيامة موقف الخزي عندما يواجهون إعراض الله عنهم المتمثل في عدم التفاته إليهم بالكلام، وعدم تزكيته لهم بالرحمة والرضوان واللطف العميم، وفي إردائهم في العذاب الأليم.
3. ثم تثير انحرافهم عن الخط المستقيم الذي يسير عليه الناس في مواجهتهم لقضايا المصير في حسابات الربح والخسارة، انطلاقا من الشعور الداخلي بالحاجة إلى النجاة من كل العواقب الوخيمة التي تعرّض الإنسان للهلاك والعذاب، فقد واجه هؤلاء قضية الهدى والضلال كخطين متعاكسين في الحياة، وكان بإمكانهم اختيار خط الهدى الذي يجلب لهم الخير والنور والفلاح، ولكنهم استبدلوا به الضلالة التي توقعهم في الشر والظلام والخسران، كما أنهم واجهوا قضية أسباب العذاب وأسباب المغفرة، وكان من الممكن أن يأخذوا بأسباب المغفرة في طاعة الله ومحبته، ويتركوا الأخذ بأسباب العذاب في معصية الله وسخطه، ولكنهم فضلوا العذاب على المغفرة.
4. ثم يتعجب في معرض الإيحاء، بأنهم لا يطيقون ذلك ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ كأنه يريد أن يوحي بأن الذي يختار هذا المصير هو الذي يملك الطاقة الكبرى من الصبر على حرارة النار وعذابها، مع أنهم لا يملكون مثل ذلك، فكيف اختاروا لأنفسهم هذا المصير؟
5. ثم تختم الآية الأخيرة هذا الجو بتوضيح صورة الضلال الذي يتخبط فيه هؤلاء أمام الهدى الذي يمثله خط الرسالات، فقد أنزل الله الكتاب بالحق الواضح الذي لا لبس فيه ولا اختلاف، أمّا هؤلاء الذين اختلفوا في الكتاب في ألفاظه ومعانيه وفي طبيعة المسير الذي تتحرك فيه مفاهيمه في خطوط الحياة، فإنهم في شقاق بعيد، لا يملك أحد فيه العوامل الإيجابية التي تقرّب وجهات النظر وتجمعها في مسار واحد، لأن القضية ليست قضية فكر يبحث عن الحق أين يجده، بل هي قضية أطماع وشهوات وامتيازات تبحث عن نفسها في الخلافات المتحركة في المواقع والأشخاص في كل اتجاه، ولذلك فإنها لا تقترب إلا لتبتعد، ولا تهدأ إلا لتثور من جديد، لأنها لا تلتقي بالقاعدة الصلبة للقاء أو للهدوء، بل تظل مع الرمال المتحركة التي تجر الخطى إلى أعماق الهاوية، وذلك هو الضلال البعيد، وذلك هو الخسران المبين.
6. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ وهم أهل الكتاب من اليهود، أو جماعة منهم ممن كانوا يبشّرون الناس بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم باعتباره الرسول المرتقب الذي بشرت به التوراة وحددت صفاته أملا في أن يكون منهم، فلما جاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعرفوا أنه من غيرهم تراجعوا عن كل ما قالوه وغيّروه وبدّلوه، وبدأوا يتحركون على أساس كتمان الحقيقة التي عرفوها، لئلا يكون ذلك حجة عليهم من قبل المسلمين.
7. إذا صح نزول الآية في هذه الجماعة، فإن الآية مطلقة لكل الذين يكتمون الحق الموجود في الكتاب المنزل توراة أو إنجيلا أو قرآنا، في ما تضمنه من الحقائق المتصلة بالعقائد أو الشرائع أو مناهج الحياة، لأن الكتاب يمثل رسالة الله المتحركة في خط النبوات، وهو ينطلق من وحدة على مستوى القضايا الكلية في موقع القاعدة مع تنوّع التفاصيل، فلا يريد الله لأهله أن يكتموه عن الناس، بل يريد لهم أن يبلغوه بالمبادرة تارة على مستوى الدعوة والتبليغ، وبالجواب عن السؤال أخرى، على مستوى الاستجابة لعلامات الاستفهام لدى الناس.
8. ﴿وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي يعملون على الاتجار به وتحويله الى سلعة للتجارة فيحتكرونه لأنفسهم، ولا ينشرونه بين الناس، ليحصلوا على الثمن الذي يدفعه الآخرون المحتاجون إليه في مقابله، مما لا يتفق مع الحقيقة المنزلة، بل ينطلق في خط التحريف، ولكنهم مهما حصلوا عليه من المال كبدل للكتاب، فإنه لا يمثل إلّا ثمنا قليلا، لأن الكتاب أكبر من كل ثمن، فلا يساويه أي شيء مما يتداوله الناس من الأثمان، ولو أنهم أخلصوا لله في حفظ كتابه وإظهاره لعباده لحصلوا من ذلك على خير كبير لا يقاس به هذا العرض الزائل من تجارتهم الخاسرة.
9. ﴿أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فما حصلوا عليه واكتسبوه بالإثم واشتروا به طيبات الحياة وشهواتها من كل ما يستطيبونه وسيتلذونه ويأكلونه، سوف يتحول إلى نار تحرقهم في عذاب الله في جهنم، وسيفقدون رعاية الله حيث يبعدهم الله عن رحمته، فلا يكلمهم كما يكلّم المؤمنين، ولا يخاطبهم بالرحمة واللطف والرضوان كما يخاطبهم، ولا ريب أن في ذلك إشارة إلى أن من مظاهر رحمة الله تعالى في الآخرة هي التفاته إلى المؤمنين بالكلام معهم، مما يعبر عن إظهار خاص لرعايته وعنايته واهتمامه بهم، في حين أنه يحرم غير المؤمنين من هذه الرحمة فالله ﴿لَا يُكَلِّمُهُمْ﴾
10. ﴿وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ بالثناء عليهم وامتداحهم كما يثني على عباده المؤمنين أو ﴿لا يُزَكِّيهِمْ﴾، من التزكية بمعنى الطهارة، أي لا يطهرهم من القذارات المعنوية بالمغفرة، بل وأكثر من ذلك ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ موجع مؤلم بما تمردوا على الله في انحرافهم عن الحق موقفا وإظهارا وإعلانا، بكفرهم بالرسول وكتمانهم لدلائل رسالته.
11. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ عندما استبدلوا الإيمان بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بالحقائق الإلهية بالكفر به أو بها، فانطلقوا في خط الضلال بدلا من خط الهدى، ﴿وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ فأخذوا العذاب الذي يترتب على الكفر، وتركوا المغفرة التي تتأتى من الإيمان، فاستحقوا النار.
12. ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ أي ما أجرأهم على النار التي لا يمكن أن يجرأ على اقتحامها أو التسبيب للوقوع بها أي عاقل، مما يوحي بجهلهم بالنتائج على مستوى وعي الأعمال التي قدموها أمامهم من معاصي الله، وسفاهتهم الذهنية والعملية، وهذا ما يوحي بالتعجب من هؤلاء في حركتهم السائرة إلى الهلاك الأبدي في نار جهنم ـ كيف ارتضوا لأنفسهم هذا المصير الأسود.
13. ﴿ذَلِكَ﴾ العذاب الذي أنزله الله بهم لا ينطلق من غير سبب يوجبه، بل يتحرك من قاعدة ثابتة في الخط الإلهي في مجازاته لعباده على أعمالهم في الدنيا، ﴿بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ فقد أراد للحق الكتابي أن يكون القاعدة للحركة الإنسانية في الحياة ليتكامل الإنسان ـ في ذلك ـ مع الكون الذي أقامه الله على أساس الحق، فقد خلق الله السماوات والأرض بالحق، ومن الطبيعي أن ذلك لن يتحقق إلا إذا بلغ الكتاب أهله ليقرأه الناس، وليفهموه، ويعرفوا حقائقه، وليتحركوا من خلاله، فإذا كتمه أهله وحرّفوه، واشتروا به ثمنا قليلا، فلا يمكن للناس أن يلتقوا بالحق، وهو ما يؤدي إلى الوقوع في الباطل والابتعاد عن الله، وبالتالي إلى الإساءة للحياة، والإنسان، وتوازن العلاقة بين الكون والإنسان من جهة، وبين الله من جهة أخرى، وهذه جريمة كبيرة متعددة الأبعاد.
14. ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ﴾ في تحريفه وتأويله وتحريكه في الواقع تبعا لأهوائهم التي لا تنطلق بهم من موقع وحدة ولا تسير بهم إلى قاعدة من اللقاء، ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ فهم قد يلتقون على إخفاء الحق وكتمان الحقيقة والكفر بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبرسالته، ولكنهم، في داخلهم، في حالة نزاع وشقاق بعيد، لا يقترب بهم إلى الحق، لأن لكلّ منهم هوى يتحرك في خدمة أطماعه وشهواته، وخطا يسير به إلى مصالحه بعيدا عن خط الآخر، الأمر الذي يجعل حياتهم مفتوحة على أكثر من نزاع أو خلاف يبتعد بهم عن الخط المستقيم.
15. جاء في تفسير الميزان أن (في الآية من الدلالة على تجسّم الأعمال وتحقق نتائجها ما لا يخفى، فإنه تعالى ذكر أولا أن اختيارهم الثمن القليل على ما أنزل الله، هو أكل النار في بطونهم، ثم بدل اختيار الكتمان وأخذ الثمن على ما أنزل الله في الآية التالية من اختيار الضلالة على الهدى ثم من اختيار العذاب على المغفرة، ثم ختمها بقوله: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾، والذي كان منهم ظاهرا هو الإدامة والكتمان والبقاء عليها فافهم)، ونلاحظ على ذلك أن هذه الدلالة التي لاحظها العلامة الطباطبائي ارتكزت على استنطاق المدلول الحرفي للكلمة، بعيدا عن الأساليب البلاغية في الاستعارة والكناية التي قد تعبر عن أكل النار في بطونهم تعبيرا عن استحقاقهم الدخول في النار والسقوط في عذابها جزاء على عصيانهم وكفرهم، تماما كما لو كانوا يأكلونها في بطونهم، والله العالم.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/195.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. أجمع المفسرون على نزول هذه الآية في أهل الكتاب، وقيل إنها نزلت خاصة في علماء اليهود، فقد كانوا قبل ظهور الإسلام يبشرون بصفات النّبي المرتقب وبعلاماته، وبعد البعثة خاف هؤلاء الأحبار على مصالحهم فكفّوا عن طريقتهم السابقة، وكتموا ما عندهم في التوراة من صفات النّبي، فنزلت الآيات تؤنّبهم.
2. هذه الآيات تأكيد على ما مرّ بشأن كتمان الحقّ، وهي ـ وإن كانت تخاطب أحبار اليهود ـ لها مفهوم عام، لا يقتصر ـ كما ذكرنا مرارا ـ على سبب نزولها، فسبب النّزول ـ في الواقع ـ وسيلة لبيان الأحكام الكلية العامة، ومصداق من مصاديق الحكم الكلي للآية، فكل الذين يكتمون أحكام الله وما يحتاجه النّاس من حقائق طلبا للرّئاسة أو الثروة، قد ارتكبوا خيانة كبرى، وعليهم أن يعلموا أنهم باعوا حقيقة نفيسة بثمن بخس، وهي تجارة خاسرة.
3. الآية الاولى تقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾، هذه الهدايا والعطايا التي ينالونها من هذا الطريق نيران محرقة تدخل بطونهم، هذا التعبير يوضح ضمنيا مسألة تجسيم الأعمال في الآخرة، وتدل على أن الأموال المكتسبة عن هذا الطريق المحرّم، هي في الواقع نيران تدخل في بطونهم وستتجسّم بشكل واقعي في الآخرة.
4. ثم تتعرض الآية إلى عقاب معنوي سينال هؤلاء أشدّ من العقاب المادي، وتقول: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، وفي موضع آخر ذكر القرآن مثل هذا اللون من العقاب لأولئك الذين ينكثون عهد الله من أجل مصالح تافهة، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
5. يستفاد من هذه الآية والآية التالية أن واحدة من أعظم المواهب الإلهية في الآخرة أن يكلم الله المؤمنين تلطفا بهم، أي إن المؤمنين سينالون في الآخرة نفس المنزلة التي نالها أنبياء الله في الدنيا، وسيلتذون بما التذ به الأنبياء من تكليم إلهي المنزلة التي نالها أنبياء الله في الدنيا، وسيلتذون بما التذ به الأنبياء من تكليم إلهي.. وأية لذة أعظم من هذه اللذة!؟ أضف إلى ذلك إن الله ينظر إليهم بعين لطفه، ويطهرهم بماء عفوه ورحمته، وأية نعمة أعظم من هذه النعمة!؟
6. بديهي أن تكليم الله عباده لا يعني أن الله له جسم ولسان، بل إنه بقدرته الواسعة يخلق في الفضاء أمواجا صوتية خاصة قابلة للسمع والإدراك، (كما كلّم الله موسى عند جبل الطور)، أو أنه يتكلم مع خاصة عباده بلسان القلب عن طريق الإلهام.
7. على أية حال، هذا اللطف الإلهي الكبير، وهذه اللذة المعنوية المنقطعة النظير، للعباد المخلصين الذين ينطقون بالحق ويعرّفون النّاس بالحقائق، ويلتزمون بعهودهم ومواثيقهم، ولا يضحون برسالتهم من أجل مصالحهم المادية.
8. سؤال وإشكال: قد يسأل سائل عن تكليم الله المجرمين يوم القيامة، استنادا الى ما ورد في الآيات كقوله تعالى: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾، وهذا جواب من الله لأولئك الذين يطلبون الخروج من النار، ومثل هذا الحوار نجده في الآيتين 30 و31 من سورة الجاثية، والجواب: أن المقصود من التكليم في هذه الآيات، هو تكليم عن لطف وحبّ واحترام، لا عن تحقير وطرد وعقوبة فذلك من أشدّ الجزاء.
9. من الواضح أن عبارة ﴿يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا﴾ لا تعني السماح بأن يشتروا به ثمنا باهظا، فالمقصود أن الثمن المادّي مهما زاد فهو تافه لا قيمة له أمام كتمان الحقّ، حتى ولو كان الثمن الدنيا وما فيها.
10. الآية التالية تحدد وضع هذه المجموعة وتبين نتيجة صفقتها الخاسرة وتقول: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾، فهؤلاء خاسرون من ناحيتين: من ناحية تركهم الهداية واختيار الضلالة، ومن ناحية حرمانهم من رحمة الله واستحقاقهم بدل ذلك العقاب الإلهي، وهذه مبادلة لا يقدم عليها إنسان عاقل، لذلك تتحدث الآية عن هؤلاء بلغة التعجب وتقول: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾!؟
11. آخر آية تقول إن ذلك التهديد والوعيد بالعذاب لكاتمي الحق، يعود إلى أن الله أنزل القرآن بالدلائل الواضحة، حتى لم تبق شبهة لأحد: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾، مع ذلك فإن زمرة محرفة تعمد إلى كتمان الحقائق صيانة لمصالحها، وتثير الاختلاف في الكتاب السماوي لتتصيد في الماء العكر.
12. مثل هؤلاء الذين يثيرون الاختلاف في الكتاب السماوي بعيدون عن الحقيقة: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾، وكلمة (شقاق) تعني في الأصل الشق والانفصال، ولعل المراد به أن الإيمان والتقوى ونشر الحقائق رمز وحدة المجتمع الإنساني، أما الخيانة وكتمان الحقائق فعامل التفرقة والتبعثر والانشقاق لا الانشقاق السطحي الذي يمكن التغافل عنه بل البعيد والعميق.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/493.
74. حقيقة البر ومجالاته
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈74⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ يعطي وهو صحيح، شحيح، يأمل العيش، ويخاف الفقر(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ البأساء: الفقر، والضراء: السقم(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ حين القتال(3)..
__________
(1) ابن المبارك في كتاب الزهد: ص٢٤.
(2) ابن جرير: ٣/٨٦.
(3) ابن جرير: ٣/٩١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ابن السبيل: هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين(1)..
2. عن قيس بن كركم قال: سألت ابن عباس عن السائل، قال: الذي يسأل(2)..
3. روي أن نافع بن الأزرق سأله عن: ﴿الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾، فقال: البأساء: الخصب، والضراء: الجدب، فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول زيد بن عمرو(3).:
çإن الإله عزيز واسع حكم... بكفه الضر والبأساء والنعمé
4. روي أنّه قال: هذه الآية نزلت بالمدينة: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، يعني: الصلاة: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك(4)..
5. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُم﴾، يعني: في الصلاة، يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا، فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة، ونزلت الفرائض، وحد الحدود؛ فأمر الله بالفرائض، والعمل بها(5)..
6. روي أنّ امرأة من جهينة جاءت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: إنّ أمّي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتّى ماتت، أفأحجّ عنها؟ قال: (نعم، حجّي عنها، أرأيت لو كان على أمّك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحقّ بالوفاء)(6).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٩.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٠.
(3) الطستي ـ كما في الإتقان: ٢/٧٩.
(4) ابن جرير: ٣/٧٥.
(5) ابن جرير: ٣/٧٤.
(6) البخاري 1852.
ابن عمرو:
روي عن ابن عمرو بن العاص (ت 77 هـ) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في خطبته: (أوفوا بحلف الجاهليّة، فإنّ الإسلام لم يزده إلّا شدّة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام)(1)..
__________
(1) أحمد: 2/207.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ فمن أعطى عهد الله ثم نقضه فالله ينتقم منه، ومن أعطى ذمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم غدر بها فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خصمه يوم القيامة(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ تكلموا بكلام الإيمان، وحققوا بالعمل(2)..
3. روي أنّه قال: كانت اليهود تقبل قبل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق؛ فقال الله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقة العمل(3)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٩١.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٢.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٧.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَآتَى الْمَالَ﴾ يعني: أعطى المال ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ يعني: على حب المال(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾، يعني: قرابته(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾، يعني: فكاك الرقاب(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ يعني: وأتم الصلاة المكتوبة، ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ يعني: الزكاة المفروضة(3)..
5. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾، يعني: فيما بينهم وبين الناس(4)..
6. روي أنّه قال: ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾، يعني: حين البلاء والشدة(5)..
7. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ﴾، يعني: الذين فعلوا ما ذكر الله في هذه الآية هم ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾، يعني: المتقون(5)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٨.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٩.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٠.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٢٩١.
(5) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٢.
ابن يسار:
روي عن مسلم بن يسار (ت 100 هـ) أنّه قال: إن الصلاة صلاتان، وإن الزكاة زكاتان، والله، إنه لفي كتاب الله، أقرأ عليك به قرآنا؟ قلت له: اقرأ، قال فإن الله يقول في كتابه: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُم﴾ إلى قوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ حبه ذوي القربى واليتامى المساكين وابن السبيل﴾ فهذا وما دونه تطوع كله، ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ على الفريضة، ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾، فهاتان فريضتان(1)..
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ الذي يمر عليك وهو مسافر(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٧٤.
(2) عبد الرزاق: ١/١٥٩.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿الْبَأْسَاءُ﴾: البلاء، ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ هذه الأمراض والجوع، ونحو ذلك(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٩١.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ المجتاز من أرض إلى أرض(1)..
2. روي أنّه قال: ثلاث لم يجعل الله عزّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين(2)..
3. روي أنّه قال: أربع من كنّ فيه كمل إسلامه، وأعين على إيمانه، ومحّصت عنه ذنوبه، ولقي ربّه وهو عنه راض ولو كان فيما بين قرنه إلى قدمه ذنوب حطّها الله عنه، وهي: الوفاء بما يجعل لله على نفسه، وصدق اللسان مع الناس، والحياء ممّا يقبح عند الله وعند الناس، وحسن الخلق مع الأهل والناس.. وأربع من كنّ فيه من المؤمنين أسكنه الله في أعلى علّيّين، في غرف فوق غرف، في محلّ الشرف كلّ الشرف: من أوي اليتيم ونظر له فكان له أبا رحيما، ومن رحم الضعيف وأعانه وكفاه، ومن أنفق على والديه ورفق بهما وبرّهما ولم يحزنهما، ومن لم يخرق بمملوكه، وأعانه على ما يكلّفه، ولم يستسعه فيما لا يطيق(3)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٨٣.
(2) أصول الكافي: 2/162.
(3) أمالي المفيد: ص166.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ليس البر أن تكونوا نصارى فتصلوا إلى المشرق، ولا أن تكونوا يهودا فتصلوا إلى المغرب إلى بيت المقدس(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ هو الضيف: وذكر لنا: أن نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت)، وكان يقال: حق الضيافة ثلاث ليال، فكل شيء أصابه بعد ذلك صدقة(2)..
3. روي أنّه قال: كنا نحدث أن البأساء: البؤس والفقر، وأن الضراء: السقم، وقد قال نبي الله أيوب صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣](3)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ البأساء: البؤس، والضراء: الزمانة في الجسد(3)..
5. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ الآية: ذكر لنا: أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن البر؛ فأنزل الله هذه الآية، فدعا الرجل، فتلاها عليه، وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك، يرجى له في خير؛ فأنزل الله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، وكانت اليهود توجهت قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق(4)..
6. روي أنّه قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق؛ فنزلت: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُم﴾ الآية(5)..
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٩٦.
(2) ابن جرير: ٣/٨٢.
(3) ابن جرير: ٣/٨٧.
(4) ابن جرير: ٣/٧٦.
(5) عبد الرزاق: ١/٦٦.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ معنى البأساء: الجوع والضّراء: المرض.. والبأس: القتال(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 94.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: إن هذا شيء واجب في المال، حق على صاحب المال أن يفعله سوى الذي عليه من الزكاة(1)..
__________
(1) ابنُ جرير: ٣/٧٩.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ فمن أعطى عهد الله ثم نقضه فالله ينتقم منه، ومن أعطى ذمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم غدر بها فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خصمه يوم القيامة(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ البؤس: الفاقة والفقر، والضراء في النفس؛ من وجع، أو مرض يصيبه في جسده(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٨٥.
(2) ابن جرير: ٣/٨٧.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول: يا ربّ ارزقني حتّى أفعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير، فإذا علم الله ذلك منه بصدق نيّة كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إنّ الله واسع كريم(1)..
2. روي أنّه قال: إنّ الصبر والصدق والحلم وحسن الخلق من أخلاق الأنبياء، وما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة شيء أفضل من حسن الخلق)(2)..
3. روي أنّه قال: إنّ الله عزّ وجلّ خصّ رسله بمكارم الأخلاق، فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله، واعلموا أنّ ذلك من خير، وإن لا تكن فيكم، فاسألوا الله وارغبوا إليه فيها، وهي: اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحسن الخلق والسخاء والغيرة والشجاعة والمروءة والصدق وأداء الأمانة(3)..
4. روي أنّه قال: ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقور عند الهزاهز، صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة، إنّ العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والصبر أمير جنوده، والرفق أخوه، واللّين والده(4)..
5. روي أنّه قال: أربع من كنّ فيه كمل إسلامه، وأعين على إيمانه، ومحّصت ذنوبه، ولقى ربّه وهو عنه راض، ولو كان فيما بين قرنه إلى قدمه ذنوب حطّها الله تعالى عنه، وهي: الوفاء بما يجعل الله على نفسه، وصدق اللسان مع الناس، والحياء ممّا يقبح عند الله وعند الناس، وحسن الخلق مع الأهل والناس(5)..
6. روي أنّه قال: أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ رجل صدوق في حديثه، محافظ على صلاته وما افترض الله عليه مع أداء الأمانة.. من اؤتمن على أمانة فأدّاها فقد حلّ ألف عقدة من عنقه من عقد النار، فبادروا بأداء الأمانة، فإنّ من اوتمن على أمانة وكّل به إبليس مائة شيطان من مردة أعوانه ليضلّوه ويوسوسوا إليه حتّى يهلكوه، إلّا من عصم الله عزّ وجلّ(6)..
__________
(1) أصول الكافي: 2/85.
(2) إرشاد القلوب: ص133.
(3) اصول الكافي 2/56.
(4) الخصال: 2/406.
(5) أمالي الشيخ الطوسي 1/192.
(6) أمالي الصدوق: ص295.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾، يعني: التقوى(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ إيمانهم، وصبروا على طاعة ربهم، يعني: النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأصحابه(2)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٧.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٢.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُم﴾، يعني: ليس التقوي أن تحولوا وجوهكم في الصلاة قبل ـ يعني: تلقاء ـ المشرق والمغرب، فلا تفعلوا ذلك(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ يعني: صدق بالله بأنه واحد لا شريك له، ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يعني: وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال بأنه كائن، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ أي: وصدق بالملائكة، ﴿وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾(1)..
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٥٧.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ أنواع البر كلها(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٨٨.
المرتضى:
قال الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ): قال الله سبحانه: ليس كل البر تولية المشرق والمغرب من القبل التي أنتم تمارون فيها؛ ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، فأخبر سبحانه بفنون البر، وما يصح لهم به الإيمان، ويكمل لهم به اسم البر والإحسان(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/76.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾:
أ. قيل: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ في نفس التوجه إلى ما ذكر دون الإيمان.
ب. ويحتمل: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ في ذلك، ولكن البر لمن يقصد إليه، إذ قد يقع ذلك لحوائج تعرض، تخرج عن القربة.
ج. ويحتمل: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ في التوجه إلى كذا، ولكن البر في الائتمار لأمره والطاعة له، والبر هو الطاعة في الحقيقة.
د. وقيل: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ تحويل الوجه إلى المشرق والمغرب، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ ما ثبت في القلب من طاعة الله وصدقته الجوارح.
هـ. وقيل: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ أن تصلوا ولا أن تعملوا غير الصلاة.
2. كل ذلك يرجع إلى واحد، وجملته أن يقال:
أ. الأول: ليس البر كله ذلك، لكن ما ذكر، إذ ذلك الوجه هم استعظموه حتى قال الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: 145]
ب. الثاني: أن يكون ذلك بنفسه ليس ببر، وإنما صار برّا بالأمر به، أو بما ذكر من الإيمان والخيرات، فلمّا زال عنه الوجهان سقط فعله أن يكون برّا.
3. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ بأنه واحد، لا شريك له، يعنى صدق بالله بأنه واحد، لا شريك له، ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، وصدق بالكتب، والملائكة، والكتاب والنبيين.
4. للبر تأويلان:
أ. أحدهما: ما قيل.
ب. الثاني: على الإضمار؛ كأنه قال ليس البر بر من يولى وجهه، ولكن البر بر من آمن بالله، كما قال ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 19]، أي أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله؟ وقيل: أجعلتم صاحب السقاية كمن آمن بالله؟
ج. وقيل: إن البر بمعنى: البار، يقول ليس البار من يحول وجهه قبل كذا، ولكن البار ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾:
أ. قيل: أعطى على حاجته.
ب. وقيل: على قلته آثر غيره على نفسه؛ كقوله: ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]
ج. وقيل: ﴿عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ أي ذوى قرابته.
6. في قوله تعالى: ﴿عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ دلالة أن الأفضل أن يبدأ بصلة قرابته، ثم اليتامى؛ لأن على جميع المسلمين حفظهم؛ ولأنهم أضعف، فيبدأ بهم قبل المساكين، روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قال (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قيل: فما المسكين يا رسول الله؟ قال الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس، ولا يفطن به فيتصدق عليه)
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾:
أ. قيل: هو الضيف ينزل بالمسلمين.
ب. وقيل: هو المنقطع ـ حاج أو غاز ـ وقيل: هو المجتاز وهو واحد.
8. ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ قيل: هم المكاتبون، ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ ظاهر.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾:
أ. يحتمل: العهود التي بينهم وبين الناس.
ب. ويحتمل: العهود التي فيما بينهم وبين ربهم.
10. فى حرف ابن مسعود، (والموفين) على النسق على الأول، قيل: إذا عاهدت عهدا بلسانك تفي به بعملك وفعلك.
11. ليس في القرآن آية أجمع لشرائط الإيمان من هذه، وكذلك روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنه سئل عن الإيمان، فقرأ هذه الآية، وهكذا روى عن عبد الله بن مسعود، أنه سئل عن الإيمان، فتلا هذه الآية.
12. ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ قيل: في الآية تقديم وتأخير: (السائلين وفى الرقاب والصابرين)، وعلى هذا يخرج حرف ابن مسعود: (والموفين بعهدهم)
13. ﴿الْبَأْسَاءُ﴾ من البأس، وهو الفقر، ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ قيل: هو المرض والسقم، ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ قيل: عند القتال، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في إيمانهم، أنهم مؤمنون، وصبروا على طاعة ربهم، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ وقيل: الذين صدقوا في إيمانهم وأولئك هم المتقون.
14. روي عن عمرو بن شرحبيل، أنّه قال: (من عمل بهذه الآية فهو مستكمل الإيمان)، تمام كل شيء باجتماع ما يزينه، ألا ترى أن المصلى إذا اقتصر على فرائضها لم يتم له!؟
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/4.
الديلمي:
قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ هذه الآية نزلت لما كثر الخوض في تحويل القبلة وصار كأنه لا يراعى بطاعة الله تعالى إلا التوجه للصلاة(1)..
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/95.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ الآية، قولان:
أ. أحدهما: أن معناها ليس البر الصلاة وحدها، ولكن البر الإيمان مع أداء الفرائض التي فرضها الله، وهذا بعد الهجرة إلى المدينة واستقرار الفروض والحدود، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
ب. الثاني: أن المعني بذلك اليهود والنصارى، لأن اليهود تتوجه إلى المغرب، والنصارى تتوجه إلى المشرق في الصلاة، ويرون ذلك هو البر، فأخبرهم الله عزّ وجل، أنه ليس هذا وحده هو البر، حتى يؤمنوا بالله ورسوله، ويفعلوا ما ذكر، وهذا قول قتادة، والربيع.
2. في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: معناه ولكن ذا البر من آمن بالله.
ب. الثاني: معناه ولكن البرّ برّ من آمن بالله، يعني الإقرار بوحدانيته وتصديق رسله، حكاهما الزّجّاج.
3. ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يعني التصديق بالبعث والجزاء، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ يعني فيما أمروا به، من كتب الأعمال، وتولي الجزاء، ﴿وَالْكِتَابَ﴾ يعني القرآن، وما تضمنه من استقبال الكعبة، وأن لا قبلة سواها، ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ يعني التصديق بجميع الأنبياء، وأن لا يؤمنوا ببعضهم ويكفروا ببعض.
4. ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ يعني على حب المال، قال ابن مسعود: أن يكون صحيحا شحيحا يطيل الأمل ويخشى الفقر، وكان الشعبي يروي عن فاطمة بنت قيس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إنّ في المال حقا سوى الزّكاة) وتلا هذه الآية ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ إلى آخرها، فذهب الشعبي والسدي إلى إيجاب ذلك لهذا الخبر، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: (جهد على ذي القرابة الكاشح)، وذهب الجمهور إلى أن ليس في المال حق سوى الزكاة وأن ذلك محمول عليها أو على التطوع المختار.
5. ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ يريد قرابة الرجل من طرفيه من قبل أبويه، فإن كان ذلك محمولا على الزكاة، روعي فيهم شرطان:
أ. أحدهما: الفقر.
ب. الثاني: سقوط النفقة، وإن كان ذلك محمولا على التطوع لم يعبر واحد منهما، وجاز مع الغنى والفقر، ووجوب النفقة وسقوطها، لأن فيهم مع الغنى صلة رحم مبرور.
6. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ وهم من اجتمع فيهم شرطان: الصغر وفقد الأب، وفي اعتبار الفقر فيهم قولان كالقرابة.
7. ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ وهم من عدم قدر الكفاية وفي اعتبار إسلامهم قولان، ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ هم فقراء المسافرين ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ وهم الذين ألجأهم الفقر إلى السؤال.
8. في قوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنهم عبيد يعتقون، وهو قول الشافعي.
ب. الثاني: أنهم مكاتبون يعاونون في كتابتهم بما يعتقون، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة.
﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ يعني إلى الكعبة على شروطها وفي أوقاتها، ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ يعني إلى مستحقها عند وجوبها.
9. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ من وجهين:
أ. أحدهما: النذور التي بينه وبين الله تعالى.
ب. الثاني: العقود التي بينه وبين الناس، وكلاهما يجب عليه الوفاء به.
10. ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ قال ابن مسعود: البأساء الفقر، والضراء السقم، ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ أي القتال.
11. في هذا كله قولان:
أ. أحدهما: أنه مخصوص في الأنبياء عليهم السّلام لأنه لا يقدر على القيام بهذا كله على شروطه غيرهم.
ب. الثاني: أنه عامّ، في الناس كلهم لإرسال الكلام وعموم الخطاب.
12. في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ وجهان:
أ. أحدهما: طابقت نياتهم لأعمالهم.
ب. الثاني: صدقت أقوالهم لأفعالهم.
13. في قوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أن تخالف سرائرهم لعلانيتهم.
ب. الثاني: أن يحمدهم الناس بما ليس فيهم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/225.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قيل: إن هذه الآية نزلت لما حولت القبلة، وكثر الخوض في نسخ تلك الفريضة، صار كأنه لا يراعى بطاعة الله إلا التوجه للصلاة، فأنزل الله تعالى الآية، وبين فيها أن البرّ ما ذكره فيها، ودل على أن الصلاة إنما يحتاج إليها لما فيها من المصلحة الدينية، وإنه انما يأمر بها، لما في علمه أنها تدعو الى الصلاح، وتصرف عن الفساد، وإن ذلك يختلف بحسب الأزمان، والأوقات.
2. في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ قولان:
أحدهما: ذكره ابن عباس، ومجاهد، أنه ﴿ليس البرّ﴾ كله في التوجه الى الصلاة، بل حتى يضاف إلى ذلك غيره من الطاعات التي أمر الله تعالى بها.
و الثاني: قاله قتادة، والربيع واختاره الجبائي، انه ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ ما عليه النصارى من التوجه الى المشرق، أو ما عليه اليهود من التوجه الى المغرب ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ ما ذكره الله تعالى في الآية، وبينه.
3. في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أولها:﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ بر ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ فحذف المضاف، وأقام المضاف اليه مقامه، واختاره المبرد، لقوله ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا﴾ وقال النابغة:
çوقد خفت حتى ما تزيد مخافتي...على وعلٍ في ذي المطارة عاقلé
يعني مخافة وعل، وقالت الخنساء:
çترتع ما غفلت حتى إذا ادّكرتْ...فإنما هي إقبال وإدبارé
معناه انما هي مقبلة تارة، ومدبرة أخرى، فبالغ، فجعلها إقبالا وإدباراً.
وقال متمم:
çلعمري ! وما دهري بتأبين هالك...ولا جزعا مما أصاب فأوجعاé
معناه ولا ذي جزع.
ب. الثاني: ولكن ذا البرّ من آمن بالله.
ج. الثالث:ولكن البارّ من آمن بالله، فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل.
4. الضمير في قوله تعالى: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل أن يكون عائداً على حب المال، قال عبد الله بن مسعود: على حب المال، لأنه يأمل العيش ويخشى الفقر.
ب. ويحتمل أن يكون عائداً على حب الإتيان، ووجهه ألّا تدفعه وأنت متسخط عليه كاره.،
ج. ويحتمل وجهاً ثالثاً: وهو أن يكون الضمير عائداً على الله، ويكون التقدير على حب الله، فيكون خالصاً لوجهه، وقد تقدم ذكر الله تعالى في قوله ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾، وهو أحسنها.
5. الآية الكريمة تدل على:
أ. وجوب إعطاء مال الزكاة بلا خلاف.
ب. وتدل ايضاً ـ في قول الشعبي، والجبائي ـ على وجوب غيره مما له سبب وجوب كالانفاق على من تجب عليه نفقته، وعلى من يجب عليه سدّ رمقه إذا خاف التلف.
ج. وعلى ما يلزمه من النذور، والكفارات.
د. ويدخل فيها ايضاً ما يخرجه الإنسان على وجه التطوع، والقربة الى الله، لأن ذلك كله من البرّ.
6. اختلف في معنى ابن السبيل:
أ. قيل: هو المنقطع به إذا كان مسافراً محتاجاً وإن كان غنياً في بلده، وهو من أهل الزكاة، وهو قول مجاهد.
ب. وقيل: إنه الضيف، وهو قول قتادة.
7. إنما قيل: ابن السبيل: بمعنى ابن الطريق، كما قيل للطير: ابن الماء، لملازمته إياه، قال ذو الرمة:
çوردت اعتسافاً والثّريا كأنها...على قمة الرأس ابنُ ماءٍ محلقé
8. السائلين معناه: والطالبين للصدقة، لأنه ليس كل مسكين يطلب.
9. في قوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: عتق الرقاب.
ب. الثاني: المكاتبين.
وينبغي أن تحمل الآية على الامرين، لأنها تحتمل الامرين، وهو اختيار الجبائي، والرماني.
10. المراقبة: المراعاة، والرقبة: الانتظار، والرقيب: المشرف على القوم لحراستهم، والرقيب: الحافظ، وتقول: رقبته أرقبه رقباً، وراقبته مراقبة، وارتقبته ارتقاباً، وتراقبوا تراقباً، وترقب ترقباً، والرقوب: الأرملة التي لا كاسب لها، لأنها تترقب معروفاً أو صلة، والرقبة مؤخر أصل العنق، وأعتق الله رقبته، ولا يقال عتقه، والرقيب ضرب من الحيّات خبيث، والرقوب: المرأة التي لا يعيش لها ولد، والرقيب: النجم الذي يتبين من المشرق، فيغيب رقيبه من المغرب.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾:
أ. قيل: أراد به قرابة المعطي، اختاره الجبائي، لقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لفاطمة بنت قيس، لما قالت: يا رسول الله إن لي سبعين مثقالا من ذهب، فقال: اجعليها في قرابتك، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لما سئل عن أفضل الصدقة: (جهد المقل على ذي القرابة الكاشح)
ب. ويحتمل أن يكون أراد به قرابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما قال: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، وهو قول أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام.
12. ﴿فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ قال قتادة: البأساء: البؤس، والفقر، والضراء: السقم، والوجع، ومنه قوله: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾، وحين البأس: حين القتال، وقال ابن مسعود: البأساء: الفقر، والضراء: السقم.
13. إنما قيل: البأساء في المصدر ولم يقل منه أفعل، لأن الأصل في فعلاء أفعل للصفات التي للألوان، والعيوب، كقولك أحمر، وحمراء، وأعور، وعوراء، فأما الأسماء التي ليست بصفات، فلا يجب ذلك فيها، وعلى ذلك تأوّلوا قول زهير:
çفتنتج لكم غلمان أشأم كلهم...كأحمر عاد ثم تُرضع فتفطمé
وأنكر ذلك قوم، لأنه لم يصرف أشأم، وقالوا إنما هو صفة وقعت موقع الموصوف كأنه قال غلمان أمر أشأم، فلذلك قالوا إنما المعنى الخلة البأساء، والخلة الضراء.
14. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ﴾ رفع عطفاً على ﴿مَنْ آمَنَ﴾، ويحتمل أن يكون رفعاً على المدح، وتقديره: وهم الموفون، ذكره الزجاج، والصابرين نصب على المدح، كقول الشاعر:
çالى الملك القرم وابن الهمام...وليث الكتيبة في المزدحم
وذا الرأي حين تغم الأمور...بذات الصليل وذات اللجمé
ويحتمل أن يكون نصب بفعل مضمر، وتقديره وأعني الصابرين، ويحتمل أن يكون عطفاً على قوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ (والصابرين) فعلى هذا يجب أن يكون رفع (الموفين) على المدح للضمير الذي في صلة (من)، لأنه لا يجوز بعد العطف على الموصوف، العطف على ما في الصلة، وهذا الوجه ضعيف، لأنه يؤدي الى التكرار، لأنهم دخلوا في قوله: ﴿وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ﴾ فيجب أن يحمل قوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ على من لم يذكر، ليكون فيه فائدة، وإن كان ذلك وجهاً مليحاً، والقراءة بالرفع أجود، وأقوى، لأنه اسم (ليس) مقدم قبل الخبر لفائدة في الخبر، ولأنه قرأ (ليس البر بأن) ذكره الفراء.
15. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ معناه الذين جمعوا العمل بهذه الخصال الموصوفة: هم الموصوفون بأنهم صدقوا على الحقيقة، لأنهم عملوا بموجب ما أقرّوا به، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ يعنى اتقوا ـ بفعل هذه الخصال ـ نار جهنم.
16. استدل أصحابنا(2). بهذه الآية على أن المعني بها أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه لا خلاف بين الأمة أن جميع هذه الخصال كانت جامعة فيه، ولم تجتمع في غيره قطعاً، فهو مراد بالآية بالإجماع، وغيره مشكوك فيه غير مقطوع عليه، وقال الزجاج، والفراء: هذه الآية تتناول الأنبياء المعصومين، لأنهم الذين يجمعون هذه الصفات.
17. ومن قرأ (ليس البرّ) بالرفع، جعل البر اسماً، وجعل (أن) في موضع نصب، ومن نصب جعل (أن تولوا) في موضع رفع، وقدم الخبر، ومثله قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ﴾ ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾، ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا﴾ وما أشبه ذلك.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/95.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البَرُّ: الواسع الإحسان، وهو البار، والبِرُّ: مصدر، وهو العطف والإحسان، والبر: الصدق، والبر: الإيمان والتقوى، وأصله من الاتساع، ومنه البَرُّ خلاف البحر لاتساعه.
ب. المسكين: الفقير، وجمعه مساكين، وأصله السكون ضد الحركة، كأن الفقر أسكنه، واختلف أهل اللغة والفقهاء أيهما أشد فقرًا؟ فقال أكثرهم: المسكين الذي لا شيء له، والفقير من له شيء، وهو قول يونس ويعقوب وابن دريد وجماعة من أئمة اللغة وقول أبي حنيفة وأصحابه، وقال بعضهم: الفقير الذي لا شيء له، والمسكين من له شيء، وهو قول ابن الأنباري والشافعي.
ج. السبيل: الطريق، وابن السبيل: هو المسافر، وسمي بذلك للزومه السبيل.
د. الرقاب: جمع رقبة، وهو أصل العتق، ويعبر به عن جميع البدن، يقال: عندي كذا رقبة، ومنه: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾
هـ. البأساء: الشدة.
و. الضراء: المضرة، ويبنى على فَعْلاء وليس لهما أَفْعَلُ؛ لأن (أفعل وفعلاء) إنما يجيء في الصفات والعيوب، يقال: أحمر وحمراء، وأعور وعوراء، فأما الأسماء التي ليست بصفات، فلا يجيء فيها ذلك.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي أنه لما حولت القبلة كثر الخوض في نسخها، وصار كأنه لا يراعى بطاعته الله إلا التوجه للصلاة، وأكثر اليهود والنصارى ذكرها، وذكر الكعبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، عن أبي القاسم.
ب. وعن قتادة أنها نزلت في اليهود، وعنه أن رجلاً سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن البر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكان الرجل قَبْلَ الفرائض إذا أتى بالشهادتين، ثم مات يطمع له في الجنة، فلما هاجر وفرض الفرائض أنزل الله تعالى هذه الآية.
3. لما بَيَّنَ تعالى أمر القبلة وما أقدم عليه أهل الكتاب من كتمان أمرها وأمر الرسول بَيَّنَ تعالى أن للإيمان شرائط سوى التوجه إلى القبلة.
4. في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. الأول: ليس الإيمان والتقوى، وذكر لفظ البر؛ لأنه كلمة مدح كقولهم: مؤمن، وبقي معناه، ومعناه: ليس البر هذا ما لم تقارنه معرفة الله والتمسك بما ألزم، وإنما يكون برا مع غيره إذا فعل على وجه العبادة والقربة، عن القاضي.
ب. الثاني: أنه خطاب لليهود والنصارى، يعني ليس البر ما أنتم عليه من التوجه إلى المغرب كما تفعله اليهود ولا التوجه إلى المشرق كما تفعله النصارى؛ لأن ذلك منسوخ، والتمسك بالمنسوخ ليس ببر: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ وفعل ما ذكر، عن قتادة والربيع ومقاتل والحسن وأبي علي وأبي القاسم.
ج. الثالث: أنه خطاب للمؤمنين يعني: ليس كل البر في التوجه في الصلاة، والمراد ليس كل البر أن تصلوا، وإنما البر هذه الأعمال، عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والأصم وأبي مسلم.
5. في تقدير قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ أربعة وجوه:
أ. الأول: لكن البر بر من آمن، واستغنى بذكر الأول عن الثاني، كقولهم: السخاء حاتم، والفقه أبو حنيفة، والشعر زهير، عن قطرب والفراء والزجاج وأبي علي، قال القاضي: وهذا الوجه أحسن وأقرب إلى اتساق الكلام، فيكون معناه: ولكن البر الذي هو كل البر الذي يؤدي إلى الثواب.
ب. الثاني: ولكن ذو البر كقولهم: درجات أي ذو درجات، حكاه عن الزجاج.
ج. الثالث: ولكن البر بر من آمن بِالله، كقوله: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ أي للمتقين، عن أبي عبيدة.
د. الرابع: ولكن البر بالإيمان؛ لأن: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ لما وقع موقع المصدر جعل خبرًا للبر، كأنه قيل: ولكن البر بالإيمان، والعرب تجعل الاسم خبرًا للفعل كقولهم: إنما البِرُّ الصادق الذي يصل رحمه، عن المفضل.
6. ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ الإيمان ببر التصديق ههنا؛ لأنه قيده بِالله، ولأنه عطف عليه بالأفعال، ولا شبهة أنه أصل البر، ولا يصح شيء من خصال البر إلا به، ويدخل فيه جميع ما لا يتم معرفة الله إلا به كمعرفة حدث العالم وإثبات المحدث وصفاته الواجبة والجائزة، وما يستحيل عليه، ومعرفة أفعاله، وما يجوز عليه وما لا يجوز، وجميع ما يتصل به.
7. ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ يعني يوم القيامة سمي به لتأخره عن الدنيا، فيقر بالبعث والملائكة، والإيمان بهم أن يقر بأنهم عباد الله ورسله إلى أنبيائه، وأنهم معصومون.
8. ﴿وَالْكِتَابَ﴾ فيقر بجميع كتب الله أنه منزل على أنبيائه ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ يقر بأن الأنبياء كلهم رسل الله معصومون، ولا يفرق بينهم، ويُؤمَنُ بأن خاتمهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن شريعته تَجُبُّ جميع الشرائع، وأن التمسك بشريعته واجب إلى يوم القيامة.
9. ﴿وَآتَى الْمَالَ﴾ يعني أعطى المال في وجوه البر ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾:
أ. قيل: حب ماله، عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وأبي علي وأبي مسلم، يعني: حيث شاءه وأراده لبقاء ماله، قال ابن مسعود: وهو أن تعطيه وأنت صحيح تأمل العيش، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وإنما خصه بالذكر؛ لأن الإعطاء في تلك الحال أشق وثوابه أكثر.
ب. وقيل: الكناية راجعة إلى الإيتاء، كأنه قيل: يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثوابه تعالى.
ج. وقيل: الضمير عائد على اسم الله تعالى، يعني يعطون المال لحب الله أي طلب مرضاته.
10. اختلف في هذه العطية أهي الزكاة أم غيرها؟ وهل يدخل فيها الواجب فقط، أم التطوع أيضًا:
أ. منهم من قال: لا يدخل فيه إلا الواجبات، قال القاضي: والأقرب أن الآية تتناول الواجبات؛ لأنه علق التقوى به، ثم اختلف هؤلاء:
• قال الحسن والأصم: هي الزكاة الواجبة.
• وقيل: هي كل حق سوى الزكاة، عن ابن عباس والشعبي وأبي علي، قال القاضي: وذلك نحو ما يلزم من إطعام المضطر ونحوه، وخص هَؤُلَاءِ؛ لأن الغالب أنه لا يوجد الاضطرار إلا في هَؤُلَاءِ، ولا يجوز حمله على الزكاة، لأنه عطف عليه الزكاة.
ب. وقال بعضهم: أراد به التطوع فقط، ورووا عن علي أن الزكاة تستحب كل واجب، وهذا يحمل على المقدورات؛ لأن ما يلزمه عند الضرورات من نفقة الأقارب والمماليك ليس بمنسوخ بالإجماع.
ج. وقال بعضهم: أنه يدخل فيه التطوع أيضًا، عن أبي علي.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾:
أ. أكثر المفسرين على أن المراد به ذوو قرابة المعطي، وهم من تقرب منه بولادة الأبوين والأجداد والجدات، وهو الوجه؛ لأنه ظاهر الكلام، وهم أخص بالمعطي، وهم من تقرب منه بولادة الأبوين والأجداد، روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل أي الصدقة أفضل؟ قال: (جُهْدُ المُقِلِّ على ذي القرابة الكاشح)
ب. وقيل: هم ذوو الرحم المحرم الذي تجب نفقتهم.
ج. وقيل: إنهم القربى في آية النفل والغنيمة، حكاه القاضي.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْيَتَامَى﴾:
أ. قيل: اليتيم من لا أب له مع الصغر.
ب. وقيل: أراد باليتامى أنفسهم فيعطيهم.
ج. وقيل: أراد ذوي اليتامى، يعني من تكفل بأمرهم؛ لأنه لا تمييز له ولا يصح إيصال المال إليه إلا أن يعقل، فيصح دفع المال إليه، فيدخل في الآية.
13. ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ يعني أهل الحاجة، وهم ضربان:
أ. أحدهما يكف عن السؤال وهو المراد ههنا.
ب. الثاني: يسأل، وهو المعنى في قوله: ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ وإنما جمع بينهما لأن أحدهما بالسؤال تُعرف حاجته، والآخر ما يظهر من حاله.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾:
أ. قيل: الضيف، عن قتادة وسعيد بن جبير وابن عباس.
ب. وقيل: المسافر المنقطع من ماله، عن أبي جعفر ومجاهد وأبي علي.
15. ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ قيل: هو الذي يسألك، عن عكرمة.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾:
أ. قيل: في رقاب المكاتبين، وهو الوجه؛ لأنه في إيتاء الزكاة.
ب. وقيل: في عتق الرقاب بأن يشتري ويعتق، قَال أبو علي: وكلاهما يحتمل.
ج. وقيل: في فداء الأسارى.
17. ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾، يعني: الصلوات المفروضة، وإقامتها القيام بأدائها وإتمامها، ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ يعني أعطى زكاة ماله.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾:
أ. قيل: يعني عهودًا وأمورًا لزمتهم بعقودهم ونذورهم وأيمانهم:
• أما الأول فما يلزمه بعقود المعاوضات من التسليم ونحوه.
• والثاني: ما يعاهد الله عليه من الطاعات ويوجبه نذرًا.
• والثالث: الأيمان والوفاء به وكفارته.
ب. وقيل: عهودا عاهدوا الرسول عليها عند البيعة من القيام بالنصرة.
قال القاضي: ويجب حمله على الجميع لعموم اللفظ، ولا يجوز حمله على ما يلزم ابتداءً من جهة الله تعالى؛ لأنه أضاف العهد إليهم.
19. ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ قيل: البأساء: البؤس والفقر، والضراء: السقم والعلة، عن ابن مسعود وقتادة وجماعة من المفسرين، ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ قيل: وقت القتال ولقاء العدو، عن ابن مسعود وقتادة ومجاهد والربيع وغيرهم، وخص هذه الأحوال لما فيها من الخوف على النفس والمال، ثم اختلفوا:
أ. فقيل: إنه عطف على إيتاء المال والمراد ما يلزم من معونتهم عند صبرهم على ما دفعوا إليه.
ب. وقيل: إنه مدحهم بالصبر كما مدح مَنْ قبلهم، وليس بعطف على ذوي القربى والأصناف المذكورين الَّذِينَ توضع فيهم الصدقة، قال القاضي: وهو الأولى؛ لأنه إذا استقل بنفسه، فلا وجه لتقدير العطف.
20. ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى من تقدم ذكرهمِ ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾:
أ. قيل: صدقوا في جميع ما تقدم بأن التزموه علمًا وتمسكوا به عملا، عن ابن عباس والحسن وأبي مسلم، كأنه قيل: صدقوا في القيام بجميع ما كلفوا، قال أبو مسلم: مَنْ فعل جميع ذلك فهو صادق فيما ينتحله من الإيمان، قال القاضي: وهو الوجه؛ لأن في كلا الوجهين يدخل المجاز، وهذا أعم وأكثر فائدة.
ب. وقيل: صدقوا في عهدهم الذي تقدم ذكره، عن أبي علي والأصم
21. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ يعني اتقوا كل ما نُهُوا عنه، فكأنه تعالى جمع بين شيئين فيهما فوزه ونجاته:
أ. أحدهما: القيام بفعل ما كلف.
ب. الثاني: اجتناب ما نهي عنه.
22. تدل الآيات الكريمة على:
أ. بطلان قول من يقول: الإيمان هو الإقرار فقط؛ لأنه تعالى علق التقوى بجميع ما تقدم.
ب. بطلان قول من يزعم أن الإيمان معارف لا يصح فيها الزيادة والنقصان؛ لأنه تعالى بدأ بأفعال القلوب، ثم عدل إلى أفعال الجوارح، فذكر الصلاة والزكاة وإعطاء الحقوق، وبدأ بالأهم فالأهم على الترتيب المذكور.
ج. بطلان قول المرجئة؛ لأنه تعالى بين أن بجميع ما تقدم يقع التخلص من العقاب، وقد دخل في ذلك جميع الواجبات والانتهاء عن المحظورات.
د. بطلان قول الْمُجْبِرَةِ؛ لأنه أضاف الأفعال إلى العباد، وعلق التقوى بها فلو كانت خلقه لما صح إضافتها إليهم.
هـ. وجوب الإيمان بالملائكة، ولا وجه إلا ما ذكرنا، وكذلك الإيمان بالأنبياء والكتب والبعث، ولا خلاف أن جميع ذلك شرط في صحة الإيمان.
و. حسن الصبر في أمور الدين، فيدخل فيه الصبر على الطاعة وعن المعصية، والصبر في إظهار الدين وأذى المخالفين.
23. قراءات وحجج:
أ. قرأ حمزة وحفص عن عاصم: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ بنصب الراء، وقرأ الباقون بالرفع، أما الرفع فلأنه اسم: ﴿لَيْسَ﴾، وخبره في: ﴿تَوَلَّوْا﴾، وتقديره: ليس البر توليكم، وأما النصب فجعل: ﴿إِنَّ﴾ وصلتها في موضع الرفع على اسم: ﴿لَيْسَ﴾ تقديره: ليس توليكم وجوهكم البر كله، لقوله: ﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾: ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ﴾ والاختيار الرفع؛ لأن: ﴿لَيْسَ﴾ يتقدم اسمها قبل خبرها، والفائدة في الخبر.
ب. قرأ نافع وابن عامر: ﴿وَلَكِنْ﴾ خفيفة: ﴿الْبِرُّ﴾رفع، وقرأ الباقون: ﴿لَكِنِ﴾ مشددة: ﴿الْبِرُّ﴾نصب.
24. مسائل نحوية:
أ. في رفع ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ قولان:
• أحدهما: أنه عطف على محل: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ تقديره: لكن البر المؤمنون والموفون، عن الفراء والأخفش.
• الثاني: رفع على المدح.
ب. في نصب ﴿الصَّابِرِينَ﴾ أقوال:
• أولها: أنه نصب على المدح، عن الخليل والفراء، والعرب تنصب على المدح وعلى الذم، كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم، فأما النصب ففي التنزيل: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ قال الشاعر:
çإلى المَلِكِ القَرْم وابن الهمام... وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وذا الرأي حين تَعُمُّ الأمور... بذات الصَّلِيلِ وذات اللُّجُمْé
وأما الذم فقوله تعالى: ﴿مَلْعُونِينَ﴾
• الثاني: أنه عطف على: ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ تقديره: آتى المال ذوي القُرْبَى والصابرين، عن الكسائي، وعلى هذا الوجه لا يجوز رفع ﴿ المُوفُونَ﴾ إلا على المدح؛ لأنه لا يجوز بعد العطف على الموصول العطف على ما في الصلة.
• الثالث: نصبه على تطاول الكلام؛ لأن من شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام، عن أبي عبيدة وأبي علي، وتقديره: أعني الصابرين.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/723.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البر: العطف والإحسان، مصدر، ويجوز أن يكون بمعنى البار أي: الواسع الإحسان، والبر: الصدق، والبر: الإيمان والتقوى، وأصله من الاتساع، ومنه البر: خلاف البحر لاتساعه.
ب. اختلف أهل اللغة والفقهاء في المسكين والفقير أيهما أشد أحوالا:
• فقال جماعة: المسكين: الذي لا شيء له، والفقير الذي له ما لا يكفيه، وهو قول يونس وابن دريد وقول أبي حنيفة.
• وقال آخرون: الفقير الذي لا شيء له، والمسكين: من له شيء يسير، وهو قول الشافعي.
ج. السبيل: الطريق وابن السبيل:
• قيل: هو المنقطع به إذا كان في سفره محتاجا، وإن كان في بلده ذا يسار، وهو من أهل الزكاة، وإنما قيل للمسافر ابن الطريق: للزومه الطريق، كما قيل للطير ابن الماء، قال ذو الرمة:
çوردت اعتسافا، والثريا كأنها... على قمة الرأس، ابن ماء محلقé
• وقيل: إنه الضيف، عن قتادة.
د. الرقاب: جمع رقبة، وهي أصل العنق، ويعبر به عن جميع البدن، يقال: أعتق الله رقبته، ومنه قوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾
هـ. البأساء والبؤس: الفقر.. والضراء: السقم والوجع، وهما مصدران بنيا على فعلاء، وليس لهما أفعل، لأن أفعل وفعلاء في الصفات والنعوت، ولم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت.
2. لما حولت القبلة، وكثر الخوض في نسخها، وصار كأنه لا يراعى بطاعة الله إلا التوجه للصلاة، وأكثر اليهود والنصارى ذكرها، أنزل الله سبحانه هذه الآية، عن أبي القاسم البلخي، وعن قتادة أنها نزلت في اليهود.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾:
أ. قيل: بين سبحانه أن البر كله ليس في الصلاة، فإن الصلاة إنما أمر بها لكونها مصلحة في الإيمان، وصارفة عن الفساد، وكذلك العبادات الشرعية، إنما أمر بها لما فيها من الألطاف والمصالح الدينية، وذلك يختلف بالأزمان والأوقات، فقال: ليس البر كله في التوجه إلى الصلاة، حتى يضاف إلى ذلك غيره من الطاعات التي أمر الله بها، عن ابن عباس ومجاهد، واختاره أبو مسلم.
ب. وقيل: معناه ليس البر ما عليه النصارى من التوجه إلى المشرق، ولا ما عليه اليهود من التوجه إلى المغرب، عن قتادة والربيع واختاره الجبائي والبلخي.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله﴾:
أ. قيل: أي: لكن البر بر من آمن بالله كقولهم: السخاء حاتم، والشعر زهير، أي: السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير، عن قطرب والزجاج والفراء واختاره الجبائي.
ب. وقيل: ولكن البار، أو ذا البر من آمن بالله أي: صدق بالله، ويدخل فيه جميع ما لا يتم معرفة الله سبحانه إلا به، كمعرفة حدوث العالم، وإثبات المحدث، وصفاته الواجبة والجائزة، وما يستحيل عليه سبحانه، ومعرفة عدله وحكمته.
5. ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾: يعني القيامة، ويدخل فيه التصديق بالبعث والحساب، والثواب والعقاب.
6. ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ أي: وبأنهم عباد الله المكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
7. ﴿وَالْكِتَابَ﴾ أي: وبالكتب المنزلة من عند الله إلى أنبيائه.
8. ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ وبالأنبياء كلهم وأنهم معصومون مطهرون، وفيما أدوه إلى الخلق صادقون، وأن سيدهم وخاتمهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، والتمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة.
9. ﴿وَآتَى الْمَالَ﴾ أي: وأعطى المال ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ فيه وجوه:
أ. أحدها: إن الكناية راجعة إلى المال أي: على حب المال، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، وهو معنى قول ابن عباس وابن مسعود قال: هو أن تعطيه وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا.
ب. ثانيها: أن تكون الهاء راجعة إلى من آمن، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل، ولم يذكر المفعول لظهور المعنى ووضوحه، وهو مثل الوجه الأول سواء في المعنى.
ج. ثالثها: أن تكون الهاء راجعة إلى الإيتاء الذي دل عليه قوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ﴾، والمعنى على حبه الإعطاء، ويجري ذلك مجرى قول القطامي:
ç هم الملوك، وأبناء الملوك لهم... والآخذون به، والساسة الأولé
فكنى بالهاء عن الملك لدلالة قول الملوك عليه.
د. رابعها: ان الهاء راجعة إلى الله، لأن ذكره سبحانه قد تقدم أي: يعطون المال على حب الله، وخالصا لوجهه، قال المرتضى: لم نسبق إلى هذا الوجه في هذه الآية، وهو أحسن ما قيل فيها، لأن تأثير ذلك أبلغ من تأثير حب المال، لأن المحب للمال، الضنين به متى بذله وأعطاه، ولم يقصد به القربة إلى الله تعالى، لم يستحق شيئا من الثواب، وإنما يؤثر حبه للمال في زيادة الثواب متى حصل قصد القربة والطاعة، ولو تقرب بالعطية وهو غير ضنين بالمال، ولا محب له، لا يستحق الثواب.
10. قوله تعالى: ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أراد به قرابة المعطي، كما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل عن أفضل الصدقة، فقال: (جهد المقل على ذي الرحم الكاشح)، وقوله لفاطمة بنت قيس، لما قالت يا رسول الله! إن لي سبعين مثقالا من ذهب، قال: (اجعليها في قرابتك)
ب. ويحتمل أن يكون أراد قرابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما في قوله: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
11. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ اليتيم: من لا أب له مع الصغر:
أ. قيل: أراد يعطيهم أنفسهم المال.
ب. وقيل: أراد ذوي اليتامى أي: يعطي من تكفل بهم، لأنه لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل، فعلى هذا يكون: ﴿الْيَتَامَى﴾ في موضع جر عطفا على ﴿الْقُرْبَى﴾، وعلى القول الأول يكون في موضع نصب عطفا على ذوي القربى.
12. ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾: يعني أهل الحاجة، ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾:
أ. يعني: المنقطع به، عن أبي جعفر ومجاهد.
ب. وقيل: الضيف، عن ابن عباس وقتادة، وابن جبير.
13. ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ أي: الطالبين للصدقة، لأنه ليس كل مسكين يطلب.
14. في قوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ وجهان، والآية محتملة للأمرين، فينبغي أن تحمل عليهما، وهو اختيار الجبائي والرماني:
أ. أحدهما: عتق الرقاب بأن يشتري ويعتق.
ب. والآخر: في رقاب المكاتبين.
15. في هذه الآية دلالة على وجوب إعطاء مال الزكاة المفروضة بلا خلاف، وقال ابن عباس: في المال حقوق واجبة سوى الزكاة، وقال الشعبي: هي محمولة على وجوب حقوق في مال الانسان غير الزكاة، مما له سبب وجوب، كالإنفاق على من يجب عليه نفقته، وعلى من يجب عليه سد رمقه، إذا خاف عليه التلف، وعلى ما يلزمه من النذور والكفارات، ويدخل في هذا أيضا ما يخرجه الانسان على وجه التطوع والقربة إلى الله، لأن ذلك كله من البر، واختاره الجبائي، قالوا: ولا يجوز حمله على الزكاة المفروضة، لأنه عطف عليه الزكاة، وإنما خص هؤلاء لأن الغالب أنه لا يوجد الاضطرار إلا في هؤلاء.
16. ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ أي: أداها لميقاتها، وعلى حدودها.
17. ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ أي: أعطى زكاة ماله.
18. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ أي: والذين إذا عاهدوا عهدا أوفوا به، يعني العهود والنذور التي بينهم وبين الله تعالى، والعقود التي بينهم وبين الناس، وكلاهما يلزم الوفاء به.
19. ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ يريد بالبأساء: البؤس والفقر، وبالضراء: الوجع والعلة، عن ابن مسعود وقتادة وجماعة من المفسرين.
20. ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ يريد وقت القتال، وجهاد العدو، وروي عن علي عليه السلام أنه قال: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه، يريد إذا اشتد الحرب.
21. ﴿أُولَئِكَ﴾: إشارة إلى من تقدم ذكرهم، ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾:
أ. قيل: أي: صدقوا الله فيما قبلوا منه والتزموه علما، وتمسكوا به عملا، عن ابن عباس والحسن.
ب. وقيل: الذين صدقت نياتهم لأعمالهم على الحقيقة.
22. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ أي: اتقوا بفعل هذه الخصال نار جهنم.
23. استدل أصحابنا(2). بهذه الآية على أن المعني بها أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه لا خلاف بين الأمة أنه كان جامعا لهذه الخصال، فهو مراد بها قطعا، ولا قطع على كون غيره جامعا لها، ولهذا قال الزجاج والفراء: إنها مخصوصة بالأنبياء المعصومين، لأن هذه الأشياء لا يؤذيها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الأنبياء.
24. قراءات وحجج:
أ. قرأ حفص عن عاصم غير هبيرة وحمزة: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ بنصب الراء، والباقون بالرفع، وروي في الشواذ عن ابن مسعود وأبي: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ بالنصب بـ (أن يولوا) بالياء:
• قال أبو علي: حجة من رفع: ﴿ الْبِرَّ﴾ أن: ﴿لَيْسَ﴾ يشبه الفعل، وكون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده.
• وحجة من نصبـ ﴿ الْبِرَّ﴾ أنه قد حكي عن بعض شيوخنا أنه قال في هذا النحو: أن يكون الاسم: ﴿إِنَّ﴾ وصلتها أولى بشبهها بالمضمر في أنها لا توصف، كما لا يوصف المضمر، وكأنه اجتمع مضمر ومظهر، والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر.
• قال ابن جني: يجوز أن يكون إنما نصب ﴿ الْبِرَّ﴾ مع الباء، بأن جعل الباء زائدة، كقولهم: ﴿وَكَفَى بِالله وَكِيلًا﴾
ب. قرأ نافع وابن عامر: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ بالتخفيف والرفع، والباقون: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ بالتشديد والنصب.
25. مسائل نحوية:
أ. من نصب البر جعل: ﴿إِنَّ﴾ مع صلتها اسم ليس أي: ليس توليتكم وجوهكم البر كله، ومن رفع البر فالمعنى ليس البر كله توليتكم، وكلا المذهبين حسن، لأن كل واحد من اسم ليس وخبرها معرفة، فإذا اجتمعا في التعريف تكافأ في كون أحدهما اسما والآخر خبرا، كما تتكافأ النكرتان، وقد ذكرنا الوجه في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، ولكن البر إذا شددت لكن نصبت البر، وإذا خففت رفعت البر، وكسرت النون مع التخفيف لالتقاء الساكنين.
ب. الإخبار عن البر بمن آمن ففيه وجوه ثلاثة:
• أحدها: أن يكون البر بمعنى البار، فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل، كما يقال ماء غور أي: غائر، ورجل صوم أي: صائم، ومثله قول الخنساء:
ç ترتع ما رنعت، حتى إذا ادكرت... فإنما هي إقبال، وإدبارé
أي: إنها مقبلة ومدبرة، ومثله:
çتظل جيادهم نوحا عليهم... مقلدة أعنتها صفوناé
أي: نائحة.
• ثانيها: إن المعنى: ولكن ذا البر من آمن بالله، فحذف المضاف من الخبر، وأقام المضاف إليه مقامه، كقول الشاعر:
çوكيف تواصل من أصبحت... خلالته كأبي مرحبé
وكقول النابغة:
çوقد خفت حتى ما تزيد مخافتي... على وعل في ذي المطارة عاقلé
أي: على مخافة وعل ومثله قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾
ج. ﴿كَمَنْ آمَنَ﴾ أي: كإيمان من آمن.
د. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ في رفعه قولان:
• أحدهما: أن يكون مرفوعا على المدح، لأن النعت إذا طال وكثر رفع بعضه، ونصب على المدح، وهم الموفون.
• والآخر: أن يكون معطوفا على من آمن. والمعنى: ولكن ذا البر، أو ذوي البر المؤمنون والموفون بعهدهم.
هـ. ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ منصوب على المدح أيضا، لأن مذهبهم في الصفات والنعوت إذا طالت أن يعترضوا بينها بالمدح أو الذم، ليميزوا الممدوح أو المذموم، وتقديره أعني الصابرين، قال أبو علي: والأحسن في هذه الأوصاف التي تقطعت للرفع من موصوفها والمدح أو الغض منهم والذم، أن يخالف بإعرابها، ولا تجعل كلها جارية على موصوفها، ليكون ذلك دلالة على هذا المعنى وانفصالا لما يذكر للتنويه والتنبيه، أو النقص والغض مما يذكر للتخليص والتمييز بين الموصوفين المشتبهين في الاسم، المختلفين في المعنى، ومن ذلك قول الشاعر أنشده الفراء:
çإلى الملك القرم، وابن الهمام... وليث الكتيبة في المزدحم
وذا الرأي حين تغم الأمور... بذات الصليل، وذات اللجمé
فنصب ليث الكتيبة وذا الرأي على المدح، وأنشد أيضا:
çفليت التي فيها النجوم تواضعت... على كل غث منهم، وسمين
غيوث الحيا في كل محل، ولزبة... أسود الشرى يحمين كل عرينé
ومما نصب على الذم:
çسقوني الخمر ثم تكنفوني... عداة الله من كذب وزورé
وشئ آخر وهو أن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف، وإذا خولف بإعراب الألفاظ كان أشد وأوقع فيما يعن ويعترض، لصيرورة الكلام، وكونه بذلك ضروبا وجملا، وكونه في الإجراء على الأول وجها واحدا، وجملة واحدة، فلذلك سبق قول سيبويه في قوله: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾، وأنه محمول على المدح قول من قال إنه محمول على قوله: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ وب (المقيمين الصلاة)، وإن كان هذا غير ممتنع، وقال بعض النحويين: إن الصابرين معطوف على ذوي القربى، قال الزجاج: وهذا لا يصلح إلا أن تكون: ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ رفعا على المدح للضميرين، لأن ما في الصلة لا يعطف عليه بعد المعطوف على الموصول، قال أبو علي: لا وجه لهذا القول، لأن: ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ لا يجوز حمله على: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ سواء كان قوله: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ﴾ عطفا على الموصول أو مدحا، لأن الفصل بين الصلة يقع به إذا كان مدحا، كما يقع به إذا كان مفردا معطوفا على الموصول، بل الفصل بينهما بالمدح أشنع، لكون المدح جملة، والجمل ينبغي أن تكون في الفصل أشنع وأقبح بحسب زيادتها على المفرد، وإن كان الجميع من ذلك ممتنعا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/474.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾، قال قتادة: ذكر لنا أنّ رجلا سأل عن (البرّ)، فأنزلت هذه الآية، فدعاه رسول الله، فتلاها عليه، وفيمن خوطب بها قولان:
أ. أحدهما: أنهم المسلمون، فعلى هذا القول؛ معناها: ليس البرّ كلّه في الصّلاة، ولكنّ البرّ ما في هذه الآية، وهذا مرويّ عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، والضّحّاك وسفيان
ب. الثاني: أهل الكتابين،، وعلى هذا القول؛ معناها: ليس البرّ صلاة اليهود إلى المغرب، وصلاة النّصارى إلى المشرق، ولكنّ البرّ ما في هذه الآية، وهذا قول قتادة، والرّبيع، وعوف الأعرابيّ، ومقاتل.
2. قرأ حمزة، وحفص عن عاصم: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ بنصب الراء، وقرأ الباقون برفعها، قال أبو عليّ: كلاهما حسن، لأنّ كلّ واحد من الاسمين؛ اسم (ليس) وخبرها، معرفة، فإذا اجتمعا في التّعريف تكافا في كون أحدهما اسما، والآخر خبرا، كما تتكافأ النّكرتان.
3. في المراد بالبرّ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: الإيمان.
ب. الثاني: التّقوى.
ج. الثالث: العمل الذي يقرّب إلى الله.
4. في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنّ معناه: ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله.
ب. الثاني: ولكنّ ذا البرّ من آمن بالله، حكاهما الزجّاج.
5. قرأ نافع، وابن عامر: (ولكن البرّ) بتخفيف نون (لكن) ورفع (البرّ)
6. إنما ذكر اليوم الآخر، لأنّ عبدة الأوثان لا يؤمنون بالبعث.
7. في المراد بالكتاب هاهنا قولان:
أ. أحدهما: أنه القرآن.
ب. الثاني: أنه بمعنى الكتاب، فيدخل في هذا اليهود، لتكذيبهم بعض النّبيين وردّهم القرآن.
8. في هاء (حبّه) في قوله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها ترجع إلى المال.
ب. الثاني: إلى الإيتاء، وكان الحسن إذا قرأها قال سوى الزّكاة المفروضة.
9. ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾، يريد: قرابة المعطي.
10. في (ابن السبيل) ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه الضّيف، قاله سعيد بن جبير، والضّحّاك، ومقاتل، والفرّاء، وابن قتيبة، والزجّاج.
ب. الثاني: أنه الذي يمرّ بك مسافرا، قاله الرّبيع بن أنس، وعن مجاهد، وقتادة كالقولين، وقد روي عن الإمام أحمد أنّه قال هو المنقطع به يريد بلدا آخر وهو الطّريق، وابنه: صاحبه الضّارب فيه، فله حقّ على من يمر به إذا كان محتاجا، ولعلّ أصحاب القول الأوّل أشاروا إلى هذا، لأنّه إن كان مسافرا، فإنه ضيف لم ينزل، والقول.
ج. الثالث: أنه الذي يريد سفرا، ولا يجد نفقة، ذكره الماورديّ وغيره عن الشّافعيّ.
11. ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ أي في فكّ الرّقاب، ثم فيه قولان:
أ. أحدهما: أنهم المكاتبون يعانون في كتابتهم بما يعتقون به، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو مرويّ عن عليّ بن أبي طالب، والحسن، وابن زيد، والشّافعيّ.
ب. الثاني: أنهم عبيد يشترون بهذا السّهم ويعتقون، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس، وأبو عبيد، وأبو ثور، وعن أحمد كالقولين.
12. البأساء: هي: الفقر، والضّرّاء: المرض، وحين البأس: القتال؛ قاله الضّحّاك.
13. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾، قال أبو العالية: تكلّموا بالإيمان وحقّقوه بالعمل.
__________
(1) زاد المسير: 1/136.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص:
أ. فقال بعضهم: أراد بقوله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه نحو بيت المقدس فقال تعالى: ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله.
ب. وقال بعضهم: بل المراد مخاطبة المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك، فخوطبوا بهذا الكلام.
ج. وقال بعضهم: بل هو خطاب للكل لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الاغتباط بهذه القبلة، وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الغرض الأكبر في الدين فبعثهم الله تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً، وإنما البر كيت وكيت، وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخصيص فيه فكأنه تعالى قال: ليس البر المطلوب هو أمر القبلة، بل البر المطلوب هذه الخصال التي عدها.
2. الأكثرون على أن ﴿لَيْسَ﴾ فعل ومنهم من أنكره وزعم أنه حرف:
أ. حجة من قال إنها فعل اتصال الضمائر بها التي لا تتصل إلا بالأفعال كقولك: لست ولسنا ولستم والقوم ليسوا قائمين، وهذه الحجة منقوضة بقوله: إنني وليتني ولعل.
ب. وحجة المنكرين:
• أولها: أنها لو كانت فعلًا لكانت ماضياً ولا يجوز أن تكون فعلًا ماضياً، فلا يجوز أن تكون فعلًا، بيان الملازمة أن كل من قال إنه فعل قال إنه فعل ماض وبيان أنه لا يجوز أن يكون فعلًا ماضياً اتفاق الجمهور على أنه لنفي الحال، ولو كان ماضياً لكان لنفي الماضي لا لنفي الحال.
• ثانيها: أنه يدخل على الفعل، فنقول: ليس يخرج زيد، والفعل لا يدخل على الفعل عقلًا ونقلًا، وقول من قال إن (ليس) داخل على ضمير القصة والشأن وهذه الجملة تفسير لذلك الضمير ضعيف، فإنه لو جاز ذلك جاز مثله في (ما)
• ثالثها: أن الحرف (ما) يظهر معناه في غيره، وهذه الكلمة كذلك فإنك لو قلت: ليس زيد لم يتم الكلام، بل لا بد وأن تقول ليس زيد قائماً.
• رابعها: أن (ليس) لو كان فعلًا لكان (ما) فعلًا وهذا باطل، فذاك باطل بيان الملازمة أن (ليس) لو كان فعلًا لكان ذلك لدلالة على حصول معنى السلب مقروناً بزمان مخصوص وهو الحال، وهذا المعنى قائم في (ما) فوجب أن يكون (ما) فعلًا فلما لم يكن هذا فعلًا فكذا القول ذلك، أو نذكر هذا المعنى بعبارة أخرى فنقول: (ليس) كلمة جامدة وضعت لنفي الحال فأشبهت (ما) في نفي الفعلية.
• خامسها: إنك تصل (ما) بالأفعال الماضية فتقول: ما أحسن زيد ولا يجوز أن تصل (ما) بليس فلا تقول ما ليس زيد يذكرك.
• سادسها: أنه على غير أوزان الفعل لأن فعل غير موجود في أبنية الفعل، فكان في القول بأنه فعل إثبات ما ليس من أوزان الفعل، فإن قيل: أصله ليس مثل صيد البعير إلا أنهم خففوه وألزموه التخفيف لأنه لا يتصرف للزومه حالة واحدة، وإنما تختلف أبنية الأفعال لاختلاف الأوقات التي تدل عليها، وجعلوا للبناء الذي خصوه به ماضياً، لأنه أخف الأبنية، قلنا: هذا كله خلاف الأصل، فالأصل عدمه ولأن الأصل في الفعل التصرف، فلما منعوه التصرف كان من الواجب أن يبقوه على بنائه الأصلي لئلا يتوالى عليه النقصانات، فأما أن يجعل منع التصرف الذي هو خلاف الأصل علة لتغير البناء الذي هو أيضاً خلاف الأصل فذاك فاسد جداً.
• سابعها: ذكر القتيبي أنها كلمة مركبة من الحروف النافي الذي هو لا، و: أيس، أي موجود قال ولذلك يقولون: أخرجه من الليسية إلى الأيسية أي من العدم إلى الوجود، وأيسته أي وجدته وهذا نص في الباب، قال وذكر الخليل أن (ليس) كلمة جحود معناها: لا أيس، فطرحت الهمزة استخفافاً لكثرة ما يجري في الكلام، والدليل عليه قول العرب: ائتني به من حيث أيس وليس، ومعناه: من حيث هو ولا هو.
• ثامنها: الاستقراء دل على أن الفعل إنما يوضع لإثبات المصدر، وهذا إنما يفيد السلب أو لا يكون فعلًا، فإن قيل: ينتقض قولكم بقوله: نفي زيداً وأعدمه، قلنا: قولك نفي زيداً مشتق من النفي فقولك نفي دل على حصول معنى النفي فكانت الصيغة الفعلية دالة تحقق مصدرها، فلم يكن السؤال وارداً.
3. أجاب القائلون بأن (ليس) فعل:
أ. عن الأول بأن (ليس) قد يجيء لنفي الماضي كقولهم: جاءني القوم ليس زيداً.
ب. عن الثاني أنه منقوض بقولهم: أخذ يفعل كذاو عن.
ج. عن الثالث: أنه منقوض بسائر الأفعال الناقصة وعن.
د. عن الرابع: أن المشابهة من بعض الوجوه لا تقتضي المماثلة وعن.
هـ. عن الخامس: أن لك إنما امتنع من قبل أن: ما، للحال وليس للماضي، فلا يكون الجمع بينهما وعن.
و. عن السادس: أن تغير البناء وإن كان على خلاف الأصل لكنه يجب المصير إليه ضرورة العمل بما ذكرنا من الدليل وعن.
ز. عن السابع: أن الليسية اسم فلم قلتم أن ليس اسم، وأما قوله: من حيث أيس وليس فلم قلتم أن المضاف إليه يجب كونه اسماً، وأما الكتاب فممنوع منه بالدليل وعن.
ح. عن الثامن: أن (ليس) مشتق من الليسية فهي دالة على تقرير معنى الليسية، فهذا ما يمكن أن يقال في هذه المسألة وإن كانت هذه الجوابات مختلفة.
4. قرأ حمزة وحفص عن عاصم ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ بنصب الراء، والباقون بالرفع، قال الواحدي: وكلا القراءتين حسن لأن اسم (ليس) وخبرها اجتمعا في التعريف فاستويا في كون كل واحد منهما اسماً، والآخر خبراً، وحجة من رفع البر أن اسم ليس مشبه بالفاعل، وخبرها بالمفعول، والفاعل بأن يلي الفعل أولى من المفعول، ومن نصب ﴿الْبِرُّ﴾ذهب إلى أن بعض النحويين قال أن مع صلتها أولى أن تكون اسم ليس لشبهها بالضمير في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر، فكان هاهنا اجتمع مضمر ومظهر، و الأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر، وعلى هذا قرئ في التنزيل قوله: ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ﴾ [الحشر: 12] وقوله: ﴿ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا﴾ [الأعراف: 82] و﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ [الجاثية: 25] والاختيار رفع البر لأنه روي عن ابن مسعود أنه قرأ: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ﴾ والباء تدخل في خبر ليس.
5. البر اسم جامع للطاعات، وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى، ومن هذا بر الوالدين، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: 13 ـ 14] فجعل البر ضد الفجور وقال: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2] فجعل البر ضد الإثم فدل على أنه اسم عام لجميع ما يؤجر عليه الإنسان وأصله من الاتساع ومنه البر الذي هو خلاف البحر لاتساعه.
6. قيل في نزول هذه الآية أقوال(2).، والذي عندنا أنه أشار إلى السفهاء الذين طعنوا في المسلمين وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها مع أن اليهود كانوا يستقبلون المغرب، والنصارى كانوا يستقبلون المشرق، فقال الله تعالى: إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب، بل البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور:
أ. أحدها: الإيمان بالله وأهل الكتاب أخلوا بذلك، أما اليهود فقولهم بالتجسيم، ولقولهم: بأن عزيرا ابن الله، وأما النصارى، فقولهم: المسيح ابن الله، ولأن اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل، على ما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: ﴿قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181]
ب. ثانيها: الإيمان باليوم الآخر، وأهل الكتاب أخلوا بذلك، أما اليهود فقولهم: ﴿إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] والنصارى أنكروا المعاد الجسماني، وكل ذلك تكذيب باليوم الآخر.
ج. ثالثها: الإيمان بالملائكة، واليهود أخلوا ذلك حيث أظهروا عداوة جبريل عليه السلام.
د. رابعها: الإيمان بكتب الله، واليهود والنصارى قد أخلوا بذلك، لأن مع قيام الدلالة على أن القرآن كتاب الله ردوه ولم يقبلوه قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 85]
هـ. خامسها: الإيمان بالنبيين واليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء، على ما قال تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [البقرة: 61] وحيث طعنوا في نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
و. سادسها: بذل الأموال على وفق أمر الله سبحانه واليهود وأخلوا بذلك لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل كما قال ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: 187]
ز. سابعها: إقامة الصلوات والزكوات واليهود كانوا يمنعون الناس منها.
ح. ثامنها: الوفاء بالعهد، واليهود نقضوا العهد حيث قال ﴿أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40]
7. سؤال وإشكال: نفى الله تعالى أن يكون التوجه إلى القبلة براً ثم حكم بأن البر مجموع أمور أحدها الصلاة ولا بد فيها من استقبال فيلزم التناقض، والجواب: لأجل هذا السؤال اختلف المفسرون على أقوال:
أ. الأول: أن قوله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ نفي لكمال البر وليس نفياً لأصله كأنه قال ليس البر كله هو هذا، البر اسم لمجموع الخصال الحميدة واستقبال القبلة واحد منها، فلا يكون ذلك تمام البر.
ب. الثاني: أن يكون هذا نفياً لأصل كونه براً، لأن استقبالهم للمشرق والمغرب كان خطأ في وقت النفي حين ما نسخ الله تعالى ذلك، بل كان ذلك إثماً وفجوراً لأنه عمل بمنسوخ قد نهى الله عنه، وما يكون كذلك فإنه لا يعد في البر.
ج. الثالث: أن استقبال القبلة لا يكون براً إذا لم يقارنه معرفة الله، وإنما يكون براً إذا أتى به مع الإيمان، وسائر الشرائط كما أن السجدة لا تكون من أفعال البر، إلا إذا أتى بها مع الإيمان بالله ورسوله، فأما إذا أتى بها بدون هذا الشرط، فإنها لا تكون من أفعال البر، روى أنه لما حولت القبلة كثر الخوض في نسخها وصار كأنه لا يراعى بطاعة الله إلا الاستقبال، فأنزل الله تعالى هذه الآية كأنه تعالى قال ما هذا الخوض الشديد في أمر القبلة مع الإعراض عن كل أركان الدين.
8. في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ حذف، وفي كيفيته وجوه:
أ. أحدها: ولكن البر بر من آمن بالله، فحذف المضاف وهو كثير في الكلام كقوله: ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: 93] أي حب العجل، ويقولون: الجود حاتم والشعر زهير، والشجاعة عنترة، وهذا اختيار الفراء، والزجاج، وقطرب، قال أبو علي: ومثل هذه الآية قوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ [التوبة: 19] ثم قال ﴿كَمَنْ آمَنَ﴾ [التوبة: 19] وتقديره، أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن ليقع التمثيل بين مصدرين أو بين فاعلين، إذا لا يقع التمثيل بين مصدر وفاعل.. وهذا الوجه أقرب إلى مقصود الكلام فيكون معناه: ولكن البر الذي هو كل البر الذي يؤدي إلى الثواب العظيم بر من آمن بالله.
ب. ثانيها: قال أبو عبيدة البر هاهنا بمعنى الباء كقوله: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 132] أي للمتقين ومنه قوله: ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ [الملك: 30] أي غائراً، وقالت الخنساء: (فإنما هي إقبال وإدبار)، أي مقبلة ومدبرة معاً.
ج. ثالثها: أن معناه ولكن ذا البر فحذف كقولهم: هم درجات عند الله أي ذووا درجات عن الزجاج.
د. رابعها: التقدير ولكن البر يحصل بالإيمان وكذا وكذا عن المفصل.
9. اعتبر الله تعالى في تحقق ماهية البر الإيمان بأمور خمسة:
أ. أولها: الإيمان بالله، ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه، ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلالة الدالة عليها فيدخل فيه العلم بحدوث العالم، والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم، ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوده وقدمه وبقائه، وكونه عالماً بكل المعلومات، قادراً على كل الممكنات حياً مريداً سمعياً بصيراً متكلماً، ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية، ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثة الرسل.
ب. ثانيها: الإيمان باليوم الآخر، وهذا الإيمان مفرع على الأول، لأنا ما لم نعلم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ولم نعلم قدرته على جميع الممكنات لا يمكننا أن نعلم صحة الحشر والنشر.
ج. ثالثها: الإيمان بالملائكة.
د. رابعها: الإيمان بالكتب.
هـ. خامسها: الإيمان بالرسل.
10. سؤال وإشكال: إنه لا طريق لنا إلى العلم بوجود الملائكة ولا إلى العلم بصدق الكتب إلا بواسطة صدق الرسل، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب فلم قدم الملائكة والكتب في الذكر على الرسل؟ والجواب: أن الأمل وإن كان كما ذكرتموه في عقولنا وأفكارنا، إلا أن ترتيب الوجود على العكس من ذلك، لأن الملك يوجد أولًا، ثم يحصل بواسطة تبليغه نزول الكتب، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول، فالمراعي في هذه الآية ترتيب الوجود الخارجي، لا ترتيب الاعتبار الذهني.
11. سؤال وإشكال: لم خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة؟ والجواب: لأنه دخل تحتها كل ما يلزم أن صدق به:
أ. فقد دخل تحت الإيمان بالله: معرفته بتوحيده وعدله وحكمته.
ب. ودخل تحت اليوم الآخر: المعرفة بما يلزم من أحكام الثواب والعقاب والمعاد، إلى سائر ما يتصل بذلك.
ج. ودخل تحت الملائكة ما يتصل بأدائهم الرسالة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليؤديها إلينا إلى غير ذلك مما يجب أن يعلم من أحوال الملائكة.
د. ودخل تحت الكتاب القرآن، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه.
هـ. ودخل تحت النبيين الإيمان بنبوتهم، وصحة شرائعهم.
فثبت أنه لم يبق شيء مما يجب الإيمان به إلا دخل تحت هذه الآية، وتقرير آخر: وهو أن للمكلف مبدأ ووسطاً ونهاية، ومعرفة المبدأ والمنتهي هو المقصود بالذات، هو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة: الملائكة الآتين بالوحي، ونفس ذلك الوحي وهو الكتاب، والموحى إليه وهي الرسول.
12. سؤال وإشكال: لم قدم هذا الإيمان على أفعال الجوارح، وهو إيتاء المال، والصلاة، والزكاة؟ والجواب: للتنبيه على أن أعمال القلوب أشرف عند الله من أعمال الجوارح.
13. الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقق مسمى البر قوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾، واختلفوا في أن الضمير في قوله: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ إلى ماذا يرجع؟ وذكروا فيه وجوهاً:
أ. الأول: وهو قول الأكثرين أنه راجع إلى المال، والتقدير: وآتى المال على حب المال، قال ابن عباس وابن مسعود: وهو أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وهذا التأويل يدل على أن الصدقة حال الصحة أفضل منها عند القرب من الموت، والعقل يدل على ذلك أيضاً من وجوه:
• أحدها: أن عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال وعند ظن قرب الموت يحصل ظن الاستغناء عن المال، وبذل الشيء عند الاحتياج إليه أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه على ما قال ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92]
• ثانيها: أن إعطاءه حال الصحة أدل على كونه متيقناً بالوعد والوعيد من إعطاءه حال المرض والموت.
• ثالثها: أن إعطاءه حال الصحة أشق، فيكون أكثر ثواباً قياساً على ما يبذله الفقير من جهد المقل فإنه يزيد ثوابه على ما يبذله الغني.
• رابعها: أن من كان ماله على شرف الزوال فوهبه من أحد مع العلم بأنه لو لم يهبه منه لضاع فإن هذه الهبة لا تكون مساوية لما إذا لم يكن خائفاً من ضياع المال ثم إنه وهبه منه طائعاً وراغباً فكذا هاهنا.
• خامسها: أنه متأيد بقوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] وقوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان: 80] أي على حب الطعام، وعن أبي الدرداء أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعد ما شبع)
ب. الثاني: أن الضمير يرجع إلى الإيتاء كأنه قيل: يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله.
ج. الثالث: أن الضمير عائد على اسم الله تعالى، يعني يعطون المال على حب الله أي على طلب مرضاته.
14. ذكر بعضهم أن المراد من هذا الإيتاء الزكاة، وهذا ضعيف وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا، فثبت أن المراد به غير الزكاة، ثم إنه لا يخلوا إما أن يكون من التطوعات أو من الواجبات، لا جائز أن يكون من التطوعات لأنه تعالى قال في آخر الآية: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ وقف التقوي عليه، ولو كان ذلك ندبا لما وقف التقوي عليه، فثبت أن هذا الإيتاء، وإن كان غير الزكاة إلا أنه من الواجبات.
15. اختلف الذين ذهبوا إلى أن الإيتاء من الواجبات، وأنه سوى الزكاة على أقوال:
أ. الأول: أنه عبارة عن دفع الحاجات الضرورية مثل إطعام المضطر، ومما يدل على تحقق هذا الوجوب النص والمعقول، أما النص فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره طاو إلى جنبه)، وروي عن فاطمة بنت قيس: أن في المال حقا سوى الزكاة، ثم تلت ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ وحكي عن الشعبي أنه سئل عمن له مال فأدى زكاته فهل عليه شيء سواه؟ فقال: نعم يصل القرابة، ويعطي السائل، ثم تلا هذه الآية، وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة، وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهرا، فهذا يدل على أن هذا الإيتاء واجب، واحتج من طعن في هذا القول بما روي عن علي رضي الله عنه أنّه قال إن الزكاة نسخت كل حق، والجواب: من وجوه:
• الأول: أنه معارض بما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (في المال حقوق سوى الزكاة)، وقول الرسول أولى من قول علي.
• الثاني: أجمعت الأمة على أنه إذا حضر المضطر فإنه يجب أن يدفع إليه ما يدفع الضرر، وإن كان قد أدى الزكاة بالكمال.
• الثالث: المراد أن الزكاة نسخت الحقوق المقدرة، أما الذي لا يكون مقدرا فإنه غير منسوخ بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة، ويلزم النفقة على الأقارب، وعلى المملوك، وذلك غير مقدر.
ب. الثاني: أن المراد بإيتاء الماء ما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم عند ذكره للإبل قال: (إن فيها حقا) هو إطراق فحلها وإعارة ذلولها، وهذا بعيد لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختص به ابن السبيل والسائل والمكاتب.
ج. الثالث: أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجبا، ثم إنه صار منسوخا بالزكاة، وهذا أيضا ضعيف لأنه تعالى جمع في هذه الآية بين هذا الإيتاء وبين الزكاة.
16. في الحكمة في هذا الترتيب وجوه:
أ. أحدها: أنه تعالى قدم الأولى فالأولى لأن الفقير إذا كان قريبا فهو أولى بالصدقة من غيره من حيث أنه يكون ذلك جامعا بين الصلة والصدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه وذلك يستحق به الإرث ويحجر بسببه على المالك في الوصية، حتى لا يتمكن من الوصية إلا في الثلث، ولذلك كانت الوصية للأقارب من الواجبات على ما قال ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ [آل عمران: 180] الآية، وإن كانت تلك الوصية قد صارت منسوخة إلا عند بعضهم، فلهذه الوجوه قدم ذا القربى، ثم أتبعه تعالى باليتامى، لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه، ثم أتبعهم تعالى بذكر المساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم، ثم ذكر ابن السبيل إذ قد تشتد حاجته عند اشتداد رغبته إلى أهله، ثم ذكر السائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره.
ب. ثانيها: أن معرفة المرء بشدة حاجة هذه الفرق تقوى وتضعف، فرتب تعالى ذكر هذه الفرق على هذا الوجه لأن علمه بشدة حاجة من يقرب إليه أقرب، ثم بحاجة الأيتام، ثم بحاجة المساكين، ثم على هذا النسق.
ج. ثالثها: أن ذا القربى مسكين، وله صفة زائدة تخصه لأن شدة الحاجة فيه تغمه وتؤذي قلبه، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير، فلذلك بدأ الله تعالى بذي القربى، ثم باليتامى، وأخر المساكين لأن الغم الحاصل بسبب عجز الصغار عن الطعام والشراب أشد من الغم الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما فأما ابن السبيل فقد يكون غنيا، وقد تشتد حاجته في الوقت، والسائل قد يكون غنيا ويظهر شدة الحاجة وأخر المكاتب لأن إزالة الرق ليست في محل الحاجة الشديدة.
17. اختلف في ذوي القربى:
أ. من الناس من حمل ذلك على المذكور في آية النفل والغنيمة.
ب. والأكثرون من المفسرين على ذوي القربى للمعطين، وهو الصحيح لأنهم به أخص، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى﴾ [النور: 22]
18. ذوو القربى هم الذين يقربون منه بولادة الأبوين أو بولادة الجدين، فلا وجه لقصر ذلك على ذوي الرحم المحرم على ما حكى عن قوم لأن المحرمية حكم شرعي، أما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب وإن كان من يختص بذلك يتفاضل ويتفاوت في القرب والبعد.
19. اختلف في اليتامى:
أ. في الناس من حمله على ذوي اليتامى، قال: لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه، فإنه متى فعل ذلك يكون مخطئا بل إذا كان اليتيم مراهقا عارفا بمواقع حظه، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ويلبس ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به جاز دفعها إليه، هذا كله على قول من قال اليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر.
ب. عند أصحابنا(3). هذا الاسم قد يقع على الصغر وعلى البالغ والحجة فيه قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 20] ومعلوم أنهم لا يؤتون المال إلا إذا بلغوا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يسمى: يتيم أبي طالب بعد بلوغه، فعلى هذا إن كان اليتيم بالغا دفع المال إليه، وإلا فيدفع إلى وليه.
20. المساكين: هم أهل الحاجة، ثم هم ضربان منهم من يكف عن السؤال وهو المراد هاهنا، ومنهم من يسأل وينبسط وهو المراد بقوله: ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ وإنما فرق تعالى بينهما من حيث يظهر على المسكين المسكنة مما يظهر من حاله، وليس كذلك السائل لأنه بمسألته يعرف فقره وحاجته.
21. اختلف في ابن السبيل:
أ. روي عن مجاهد أنه المسافر، وهو أشبه لأن السبيل للطريق وجعل المسافر ابنا له للزومه إياه كما يقال لطير الماء: ابن الماء ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون: ابن الأيام، وللشجعان: بنو الحرب، وللناس: بنو الزمان، قال ذو الرمة:
çوردت عشاء والثريا كأنها...على قمة الرأس ابن ماء ملحقé
ب. وعن قتادة أنه الضيف لأنه إنما وصل إليك من السبيل،.
22. ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ عني به الطالبين، ومن جعل الآية في غير الزكاة أدخل في هذه الآية المسلم والكافر، روى الحسن بن علي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (للسائل حق ولو جاء على فرس)، وقال تعالى: ﴿فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: 24، 25]
23. ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ الرِّقَابِ جمع الرقبة وهي مؤخر أصل العنق، واشتقاقها من المراقبة، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم، ولهذا المعنى يقال: أعتق الله رقبته ولا يقال أعتق الله عنقه، لأنه لما سميت رقبة كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها: رقوب، لأجل مراعاتها موت ولدها،و معنى الآية: ويؤتي المال في عتق الرقاب، قال القفال: واختلف الناس في الرقاب المذكورين في آية الصدقات:
أ. قال قائلون: إنه يدخل فيه من يشتريه فيعتقه، ومن يكون مكاتبها فيعينه على أداء كتابته، فهؤلاء أجازوا شراء الرقاب من الزكاة المفروضة.
ب. وقال قائلون: لا يجوز صرف الزكاة إلا في إعانة المكاتبين، فمن تأول هذه الآية على الزكاة المفروضة فحينئذ يبقى فيه ذلك الاختلاف، ومن حمل هذه الآية على غير الزكاة أجاز الأمرين فيها قطعا، ومن الناس من حمل الآية على وجه ثالث وهو فداء الأسارى.
24. الأمر الثالث: من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾
25. الأمر الرابع: قوله تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ وفي رفع والموفون قولان:
أ. أحدها: أنه عطف على محل ﴿مَنْ آمَنَ﴾ تقديره لكن البر المؤمنون والموفون، عن الفراء والأخفش.
ب. الثاني: رفع على المدح على أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: وهم الموفون.
26. في المراد بهذا العهد قولان:
أ. الأول: أن يكون المراد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم، وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده، والعمل بطاعته، فقبل العباد ذلك من حيث آمنوا بالأنبياء والكتب، وقد أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم نقضوا العهود والمواثيق وأمرهم بالوفاء بها فقال: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40] فكان المعنى في هذه الآية أن البر هو ما ذكر من الأعمال مع الوفاء بعهد الله، لا كما نقض أهل الكتاب ميثاق الله وما وفوا بعهوده فجحدوا أنبياءه وقتلوهم وكذبوا بكتابه، واعترض القاضي على هذا القول وقال: إن قوله تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ﴾ صريح في إضافة هذا العهد إليهم، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله: ﴿إِذَا عَاهَدُوا﴾ فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداء من قبله تعالى، الجواب عنه: أنه تعالى وإن ألزمهم هذه الأشياء لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام والتزموه، فصح من هذا الوجه إضافة العهد إليهم.
ب. الثاني: أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلف ابتداء من عند نفسه، واعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله، أو بينه وبين رسول الله، أو بينه وبين سائر الناس أما الذي بينه وبين الله فهو ما يلزمه بالنذور والإيمان، وأما الذي بينه وبين رسول الله فهو الذي عاهد الرسول عليه عند البيعة من القيام بالنصرة والمظاهرة والمجاهدة وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وأما الذي بينه وبين سائر الناس فقد يكون ذلك من الواجبات مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم، وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن، وقد يكون ذلك من المندوبات مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال والإخلاص في المناصرة، فقوله تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ يتناول كل هذه الأقسام فلا معنى لقصر الآية على بعض هذه الأقسام دون البعض، وهذا الذي قلناه هو الذي عبر عنه المفسرون فقالوا: هم الذين إذا واعدوا أنجزوا وإذا حلفوا ونذروا وفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدوا، ومنهم من حمله على قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ﴾ [التوبة: 75] الآية.
27. الأمر الخامس: من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: 177] وفي نصب الصابرين أقوال:
أ. الأول: قال الكسائي هو معطوف على ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ كأنه قال وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين: قال النحويون: إن تقدير الآية يصير هكذا: ولكن البر من آمن بالله وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين، فعلى هذا قوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ من صلة من قوله: ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ متقدم على قوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ فهو عطف على ﴿مِنَ﴾ فحينئذ قد عطفت على الموصول قبل صلته شيئا، وهذا غير جائز لأن الموصول مع الصلة بمنزلة اسم واحد، ومحال أن يوصف الاسم أو يؤكد أو يعطف عليه إلا بعد تمامه وانقضائه بجميع أجزائه، أما إن جعلت قوله: ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ رفعا على المدح، وقد عرفت أن هذا الفصل غير جائز، بل هذا أشنع لأن المدح جملة فإذا لم يجز الفصل بالمفرد فلأن لا يجوز بالجملة كان ذلك أولى، فإن قيل: أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة كقول القائل: إن زيدا فافهم ما أقول رجل عالم، وكقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: 30] ثم قال ﴿أُولَئِكَ﴾ ففصل بين المبتدأ والخبر بقوله: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ﴾ قلنا: الموصول مع الصلة كالشيء الواحد فالتعلق الذي بينهما أشد من التعلق بين المبتدأ والخبر، فلا يلزم من جوازه الفصل بين المبتدأ والخبر جواز بين الموصول والصلة.
ب. الثاني: قول الفراء: إنه نصب على المدح، وإن كان من صفة من، وإنما رفع الموفون ونصب الصابرين لطول الكلام بالمدح، والعرب تنصب على المدح وعلى الذم إذا طال الكلام بالنسق في صفة الشيء الواحد، وأنشد الفراء:
çإلى الملك القرم وابن الهمام...وليث الكتيبة في المزدحمé
وقالوا فيمن قرأ: ﴿حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد: 4] بنصب ﴿حَمَّالَةَ﴾ أنه نصب على الذم، قال أبو على الفارسي: وإذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا، وجملة واحدة، ثم اختلف الكوفيون والبصريون في أن المدح والذم لم صارا علتين لاختلاف الحركة؟ فقال الفراء: أصل المدح والذم من كلام السامع، وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له: قام زيد فربما أثنى السامع على زيد، وقال ذكرت والله الظريف، ذكرت العاقل، أي هو والله الظريف هو العاقل، فأراد المتكلم أن يمدح بمثل ما مدحه به السامع، فجرى الإعراب على ذلك، وقال الخليل: المدح والذم ينصبان على معنى أعني الظريف، وأنكر الفراء ذلك لوجهين:
• الأول: أن أعني إنما يقع تفسيرا للاسم المجهول، والمدح يأتي بعد المعروف.
• الثاني: أنه لو صح ما قاله الخليل لصح أن يقول: قام زيد أخاك، على معنى: أعني أخاك، وهذا مما لم تقله العرب أصلا.
28. ﴿فِي الْبَأْسَاءِ﴾ قال ابن عباس: يريد الفقر، وهو اسم من البؤس ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ قال يريد به المرض، وهما اسمان على فعلاء ولا أفعل لهما، لأنهما ليسا بنعتين.
29. ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ قال ابن عباس يريد القتال في سبيل الله والجهاد، ومعنى البأس في اللغة الشدة يقال: لا بأس عليك في هذا، أي لا شدة ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف: 165] شديد ثم تسمى الحرب بأسا لما فيها من الشدة والعذاب يسمى بأسا لشدته قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: 84] ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا﴾ [الأنبياء: 12] ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ﴾ [غافر: 29]
30. ثم قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم، وذكر الواحدي في آخر هذه الآية مسألة وهي أنّه قال هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع، فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن تجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام به واحد منها لم يستحق الوصف بالبر، فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر وكذا الصابر في البأساء بل لا يكون قائما بالبر، إلا عند استجماع هذه الخصال، ولذلك قال بعضهم: هذه الصفة خاصة للأنبياء عليهم السلام، لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلها، وقال آخرون: هذه عامة في جميع المؤمنين.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 5/212.
(2) الكلام هنا للقفال.
(3) يقصد الشافعية.
ابن حمزة:
قال الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ): ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ اليهود ومن تابعهم لما حول الله تعالى قبلة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم من بيت المقدس حرسه الله، إلى البيت الحرام حماه الله وزاده جلالة وعزا ـ عظم ذلك عليهم، واستهزؤوا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه؛ فرد الله تعالى عليهم ذلك بما بين: أن البر التقوي، وطاعة الملك الأعلى، واتباع أمره، وليس هو في جهة مخصوصة جزءا من مشرق أو مغرب(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/77.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف من المراد بالخطاب في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾:
أ. قال قتادة: ذكر لنا أن رجلا سأل نبي الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن البر، فأنزل الله هذه الآية، قال وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فأنزل الله هذه الآية.
ب. وقال الربيع وقتادة أيضا: الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها، فقيل لهم: ليس البر ما أنتم فيه، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾
2. قرأ حمزة وحفص ﴿الْبِرُّ﴾بالنصب، لان ليس من أخوات كان، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر، فلما وقع بعد ليس: (البر) نصبه، وجعل ﴿أَنْ تُوَلُّوا﴾ الاسم، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لأنه لا يتنكر، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف، وقرأ الباقون البر بالرفع على أنه اسم ليس، وخبره ﴿أَنْ تُوَلُّوا﴾، تقديره: ليس البر توليتكم وجوهكم، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر، كقوله: ﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ [الجاثية: 25]، ﴿ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أساؤوا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا﴾ [الروم: 10] ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ﴾ [الحشر: 17] وما كان مثله، ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ [البقرة: 189] ولا يجوز فيه إلا الرفع، فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له، وكذلك هو في مصحف أبي بالباء (ليس البر بأن تولوا) وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا، وعليه أكثر القراء، والقراءتان حسنتان.
3. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ البر ها هنا اسم جامع للخير، والتقدير:
أ. قيل: ولكن البر بر من آمن، فحذف المضاف، كقوله تعالى: ﴿وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: 82]، ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ [البقرة: 93] قاله الفراء وقطرب والزجاج، وقال الشاعر: (فإنما هي إقبال وإدبار)، أي ذات إقبال وذات إدبار، وقال النابغة:
çوكيف تواصل من أصبحت...خلالته كأبي مرحبé
أي كخلالة أبي مرحب، فحذف.
ب. وقيل: المعنى ولكن ذا البر، كقوله تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 163] أي ذوو درجات، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل الله هذه الآية فقال: ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر ـ أي ذا البر ـ من آمن بالله، إلى آخرها، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا.
ج. ويجوز أن يكون ﴿الْبِرُّ﴾بمعنى البار والبر، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر، كما يقال: رجل عدل، وصوم وفطر، وفي التنزيل: ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ [الملك: 30] أي غائرا، وهذا اختيار أبي عبيدة، وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ بفتح الباء.
4. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ﴾:
أ. قيل: يكون ﴿الْمُوفُونَ﴾ عطفا على ﴿مِنَ﴾ لان من في موضع جمع ومحل رفع، كأنه قال ولكن البر المؤمنون والموفون، قاله الفراء والأخفش، ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ نصب على المدح، أو بإضمار فعل، والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام، وينصبونه، فأما المدح فقوله: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ [النساء: 162]، وأنشد الكسائي:
çوكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم...إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
الظاعنين ولما يظعنوا أحدا...والقائلون لمن دار نخليهاé
وأنشد أبو عبيدة:
çلا يبعدن قومي الذين هم...سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك...والطيبون معاقد الأزرé
وقال آخر: (نحن بني ضبة أصحاب الجمل)، فنصب على المدح، وأما الذم فقوله تعالى: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ [الأحزاب: 61] الآية، وقال عروة ابن الورد:
çسقوني الخمر ثم تكنفوني...عداة الله من كذب وزورé
وهذا مهيع في النعوت، لا مطعن فيه من جهة الاعراب، موجود في كلام العرب كما بينا، وقال بعض من تعسف في كلامه: إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الامام، قال والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها، وهكذا قال في سورة النساء ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ [النساء: 162]، وفي سورة المائدة ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ [المائدة: 69]، والجواب ما ذكرناه.
ب. وقيل: ﴿الْمُوفُونَ﴾ رفع على الابتداء والخبر محذوف، تقديره وهم الموفون، وقال الكسائي: ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ عطف على ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ كأنه قال وآتى الصابرين، قال النحاس: (وهذا القول خطأ وغلط بين، لأنك إذا نصبت والصابرين ونسقته على ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ دخل في صلة ﴿مِنَ﴾ وإذا رفعت ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ على أنه نسق على من فقد نسقت على من من قبل أن تتم الصلة، وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف)، وقال الكسائي: وفي قراءة عبد الله) والموفين، و﴿الصَّابِرِينَ﴾، وقال النحاس: (يكونان منسوقين على ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ أو على المدح، قال الفراء: وفي قراءة عبد الله في النساء (والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) [النساء: 162]، وقرا يعقوب والأعمش والموفون والصابرون بالرفع فيهما، وقرا الجحدري (بعهودهم)
ج. وقد قيل: إن ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ عطف على الضمير الذي في ﴿أَمَّنْ﴾، وأنكره أبو علي وقال: ليس المعنى عليه، إذ ليس المراد أن البر بر من آمن بالله هو والموفون، أي آمنا جميعا، كما تقول: الشجاع من أقدم هو وعمرو، وإنما الذي بعد قوله ﴿مَنْ آمَنَ﴾ تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم.
5. قال علماؤنا: هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة: الايمان بالله وبأسمائه وصفاته.. والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار.. والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله ـ كما تقدم ـ والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل ـ قيل المنقطع به، وقيل: الضيف ـ والسؤال وفك الرقاب.. وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب.
6. اختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا، قولان للعلماء، وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة.
7. ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ استدلّ به من قال إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر، وقيل: المراد الزكاة المفروضة، و الأول أصح، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن في المال حقا سوى الزكاة) ثم تلا هذه الآية ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ إلى آخر الآية، وأخرجه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه وقال: (هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو أصح.. والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا.
8. اتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها، قال مالك: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع أيضا، وهو يقوى ما اخترناه.
9. ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ الضمير في ﴿حُبِّهِ﴾ اختلف في عوده:
أ. فقيل: يعود على المعطى للمال، وحذف المفعول وهو المال، ويجوز نصب ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ بالحلب، فيكون التقدير على حب المعطى ذوى القربى.
ب. وقيل: يعود على المال، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، قال ابن عطية: ويجيء قوله ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ اعتراضا بليغا أثناء القول، ونطيره قوله الحق: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا﴾ فإنه جمع المعنيين، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول، أي على حب الطعام، ومن الاعتراض قوله الحق: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ﴾ وهذا عندهم يسمى التتميم، وهو نوع من البلاغة، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط، فتمم بقوله ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ وقوله: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾، ومنه قول زهير:
çمن يلق يوما على علاته هرما...يلق السماحة منه والندى خلقاé
وقال امرؤ القيس:
çعلى هيكل يعطيك قبل سؤاله...أفانين جرى غير كز ولا وانé
فقوله: (على علاته) و(قبل سؤاله) تتميم حسن، ومنه قول عنترة:
çأثنى علي بما علمت فإنني...سهل مخالفتي إذا لم أظلمé
فقوله: (إذا لم أظلم) تتميم حسن، وقال طرفة:
çفسقى ديارك غير مفسدها...صوب الربيع وديمة تهمىé
وقال الربيع بن ضبع الفزاري:
çفنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي...وكل امرئ إلا أحاديثه فانé
فقوله: (غير مفسدها)، و(إلا أحاديثه) تتميم واحتراس، وقال أبو هفان:
çفأفنى الردى أرواحنا غير ظالم...وأفنى الندى أموالنا غير عائبé
فقوله: (غير ظالم، و(غير عائب) تتميم واحتياط، وهو في الشعر كثير.
ج. وقيل: يعود على الإيتاء، لان الفعل يدل على مصدره، وهو كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ أي البخل خيرا لهم، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة فإيتاء المال حبيب إليهم.
د. وقيل: يعود على اسم الله تعالى في قوله: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾، والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمن البقاء.
10. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ أي فيما بينهم وبين الله تعالى وفيما بينهم وبين الناس.
11. ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ البأساء: الشدة والفقر، والضراء: المرض والزمانة، قاله ابن مسعود، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يقول الله تعالى أيما عبد من عبادي ابتليته ببلاء في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فإن قبضته فإلى رحمتي وإن عافيته عافيته وليس له ذنب) قيل: يا رسول الله، ما لحم خير من لحمه؟ قال (لحم لم يذنب) قيل: فما دم خير من دمه؟ قال (دم لم يذنب)
12. البأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء، ولا فعل لهما، لأنهما اسمان وليسا بنعت، ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ أي وقت الحزب.
13. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها، وأنهم كانوا جادين في الدين، وهذا غاية الثناء، والصدق: خلاف الكذب، ويقال: صدقوهم القتال، والصديق: الملازم للصدق، وفي الحديث: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا)
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/238.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ قرأ حمزة وحفص بالنصب على أنه خبر ليس، والاسم ﴿أَنْ تُوَلُّوا﴾ وقرأ الباقون بالرفع على أنه الاسم.
2. قيل: إن هذه الآية نزلت للردّ على اليهود والنصارى، لما أكثروا الكلام في شأن القبلة عند تحويل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الكعبة؛ وقيل: إن سبب نزولها أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سائل.
3. ﴿قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ قيل: أشار سبحانه بذكر المشرق إلى قبلة النصارى؛ لأنهم يستقبلون مطلع الشمس، وأشار بذكر المغرب إلى قبلة اليهود؛ لأنهم يستقبلون بيت المقدس؛ وهو في جهة الغرب منهم إذ ذاك.
4. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾: هو اسم جامع للخير، وخبره محذوف تقديره: برّ من آمن، قاله الفراء، وقطرب، والزجاج؛ وقيل: إن التقدير: ولكن ذو البر من آمن، ووجه هذا التقدير: الفرار عن الإخبار باسم العين عن اسم المعنى، ويجوز أن يكون البرّ بمعنى البار، وهو يطلق المصدر على اسم الفاعل كثيرا، ومنه في التنزيل: ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ أي: غائرا، وهذا اختيار أبي عبيدة.
5. المراد بالكتاب هنا: الجنس، أو القرآن، والضمير في قوله: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ راجع إلى المال؛ وقيل: راجع إلى الإيتاء المدلول عليه بقوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ﴾ وقيل: إنه راجع إلى الله سبحانه، أي: على حبّ الله:
أ. والمعنى على الأوّل: أنه أعطى المال وهو يحبه ويشح به، ومنه قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
ب. والمعنى على الثاني: أنه يحب إيتاء المال وتطيب به نفسه.
ج. والمعنى على الثالث: أنه أعطى من تضمنته الآية في حبّ الله عزّ وجلّ لا لغرض آخر، وهو مثل قوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ ومثله قول زهير: (إنّ الكريم على علّاته هرم)
6. قدّم ذوي القربى لكون دفع المال إليهم صدقة وصلة إذا كانوا فقراء، هكذا اليتامى الفقراء أولى بالصدقة من الفقراء الذين ليسوا بيتامى، لعدم قدرتهم على الكسب.
7. المسكين: الساكن إلى ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئا.
8. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾: المسافر المنقطع، وجعل ابنا للسبيل لملازمته له.
9. ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ أي: في معاونة الأرقاء الذين كاتبهم المالكون لهم؛ وقيل: المراد شراء الرقاب وإعتاقها؛ وقيل: المراد فك الأسارى.
10. ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ فيه دليل على أن الإيتاء المتقدم هو صدقة الفريضة
11. ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ قيل: هو معطوف على (من آمن)، كأنه قيل: ولكن البرّ المؤمنون والموفون، قاله الفراء والأخفش؛ وقيل: هو مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف؛ وقيل: هو خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم الموفون؛ وقيل: إنه معطوف على الضمير في آمن، وأنكره أبو عليّ وقال: ليس المعنى عليه.
12. ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ منصوب على المدح كقوله تعالى: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾، ومنه ما أنشده أبو عبيدة:
çلا يبعدن قومي الذين هم...سمّ العداة وآفة الجزر
النّازلين بكلّ معترك...والطّيّبون معاقد الأزرé
وقال الكسائي: هو معطوف على ذوي القربى كأنه قال وآتى الصابرين: وقال النحاس: إنه خطأ، قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله والموفين ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾، قال النحاس: يكونان على هذه القراءة منسوقين على ذوي القربى أو على المدح، وقرأ يعقوب والأعمش: ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ والصّابرون بالرفع فيهما.
13. ﴿فِي الْبَأْسَاءِ﴾ الشدة والفقر، ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾: المرض والزمانة ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ قيل: المراد: وقت الحرب، والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء ولا فعل لهما لأنهما اسمان وليسا بنعت.
14. ﴿صَدَقُوا﴾ وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها وأنهم كانوا جادّين؛ وقيل: المراد صدقوهم القتال، و الأول أولى.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/199.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ الْبِرَّ﴾: اسم جامع للطاعات وأعمال الخير المقرّبة إلى الله تعالى، ومن هذا: برّ الوالدين، قال تعالى ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: 13 ـ 14] فجعل البرّ ضدّ الفجور، وقال ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، فجعل البرّ ضدّ الإثم، فدلّ على أنه اسم عام لجميع ما يؤجر عليه الإنسان، أي: ليس الصلاح والطاعة والفعل المرضيّ في تزكية النفس ـ الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البرّ ـ هو أمر القبلة، ولكن البرّ ـ الذي يجب الاهتمام به ـ هو هذه الخصال التي عدّها جلّ شأنه.
2. لا يبعد أن يكون بعض المؤمنين ـ عند نسخ القبلة وتحويلها ـ حصل منهم الاغتباط بهذه القبلة، وحصل منهم التشدّد في شأنها حتى ظنوا أنّه الغرض الأكبر في الدين، فبعثهم تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات، أشار لهذا الرازيّ، وقال الراغب: الخطاب في هذه الآية للكفّار والمنافقين الذين أنكروا تغيير القبلة، وقيل: بل لهم وللمؤمنين حيث قد يرون أنهم نالوا البرّ كلّه بالتوجّه إليها.
3. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ أي: إيمان من آمن بالله ـ الذي دعت إليه آية الوحدانية ـ فأثبت له صفات الكمال، ونزهه عن سمات النقصان، ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ الذي كذب به المشركون، فاختلّ نظامهم ببغي بعضهم على بعض ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ أي: وآمن بهم وبأنهم عباد مكرمون متوسطون بينه تعالى وبين رسله بإلقاء الوحي وإنزال الكتب ﴿وَالْكِتَابَ﴾ أي: بحبس الكتاب، فيشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء التي من أفرادها: أشرفها وهو القرآن ـ المهيمن على ما قبله من الكتبـ الذي انتهى إليه كلّ خير واشتمل على كلّ سعادة في الدنيا والآخرة، ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ جميعا من غير تفرقة بين أحد منهم، كما فعل أهل الكتابين، قال الحراليّ ففيه ـ أي الإيمان بهم وبما قبلهم ـ قهر النفس للإذعان لمن هو من جنسها، والإيمان بغيب من ليس من جنسها، ليكون في ذلك ما يزع النفس عن هواها.
4. ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أي: أخرجه وهو محبّ له راغب فيه، نصّ على ذلك: ابن مسعود، وسعيد بن جبير، وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا: أفضل الصدقة أن تصدّق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر.
5. ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ هم قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة، وقد روى أحمد، والترمذيّ، والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة)، وفي الصحيحين من حديث زينب، امرأة عبد الله بن مسعود، أنها وامرأة أخرى سألتا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما..؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة)، وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى القرابة في غير موضع من كتابه العزيز.
6. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ وهم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ، ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما يسدّ به حاجتهم وخلتهم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه)
7. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى بلده لعجزه بالغربة، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف، كما قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أنّه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو جعفر الباقر، والحسن وقتادة، والضحّاك، والزهريّ، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيّان، و(السبيل) اسم الطريق، وجعل المسافر ابنا لها لملازمته إياها ـ كما يقال لطير الماء: ابن الماء، ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون: ابن الأيام، وللشجعان: بنو الحرب، وللناس: بنو الزمان.
8. ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ وهم الذين يتعرضون للطلب، فيعطون من الزكوات والصدقات، كما روى أحمد عن حسين بن عليّ عليهما السلام قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (للسائل حق وإن جاء على فرس)، ورواه أبو داوود.
9. ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ معطوف على المفعول الأول ـ وهو ذوي ـ أي: وآتى المال في الرقاب، أي دفعه في فكّها، أي: لأجله وبسببه، قال الراغب: الرقاب جمع رقبة، وأصل الرقبة: العنق، ويعبّر بها عن الجملة، كما يعبّر عنها بالرأس، وقال الحراليّ: الرقاب جمع رقبة وهو ما ناله الرقّ من بني آدم، فالمراد: الرقاب المسترقّة التي يرام فكّها بالكتابة ـ وفكّ الأسرى منه ـ وقدّم عليهم أولئك لأنّ حاجتهم لإقامة البنية، قيل نكتة إيراد (في) هو أنّ ما يعطى لهم: مصروف في تخليص رقابهم، فلا يملكونه كالمصارف الأخرى، والله أعلم.
10. سؤال وإشكال: كيف اعتبر الترتيب المذكور في قوله تعالى وآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ، الآية؟ والجواب(2).: لما كان أولى من يتفقدّه الإنسان بمعروفه أقاربه، كان تقديمها أولى ثمّ عقبه باليتامى لأن مواساتهم بعد الأقارب أولى، ثمّ ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضرا ولا غائبا، ثمّ ذكر ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم، فكلّ واحد ممن أخّر ذكره أقل فقرا ممن قدّم ذكره.
11. ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ أي: أتمّ أفعالها في أوقاتها ـ بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها ـ على الوجه الشرعي المرضيّ.
12. ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ أي: زكاة المال المفروضة؛ على أن المراد بما مرّ من إيتاء المال، التنفل بالصدقات والبرّ والصلة، قدّم على الفريضة مبالغة في الحث عليه، أو المراد بهما المفروضة، و الأول لبيان المصارف، و الثاني لبيان وجوب الأداء، وقد أبعد من حمل الزكاة ـ هنا ـ على زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة، كقوله ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ وقوله ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾، ووجه البعد: أن الزكاة المقرونة بالصلاة في التنزيل لا يراد بها إلا زكاة المال، وأما مع الانفراد فعلى حسب المقام.
13. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ عطف على من آمن، فإنه في قوة أن يقال: ومن أوفوا بعهدهم، وإيثار صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء، قال الرازيّ: اعلم أن هذا العهد إمّا أن يكون بين العبد وبين الله، أو بينه وبين رسول الله أو بينه وبين سائر الناس، فالأول: ما يلزمه بالنذور والأيمان.. الثاني: فهو ما عاهد الرسول عليه عند البيعة: من القيام بالنصرة، والمظاهرة وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه.. الثالث: قد يكون من الواجبات: مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم، وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن.. وقد يكون من المندوبات: مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال والإخلاص في المناصرة، فالآية تتناول كلّ هذه الأقسام، قال ابن كثير: وعكس هذه الصفة النفاق، كما صحّ في الحديث: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)، وفي رواية: (إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)
14. ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ نصب على الاختصاص، غيّر سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيّته، وهو في الحقيقة معطوف على ما قبله، قال أبو عليّ: إذا ذكرت صفات للمدح أو للذم فخولف في بعضها الإعراب، فقد خولف للافتنان، ويسمى ذلك قطعا، لأن تغيير المألوف يدلّ على زيادة ترغيب في استماع المذكور، ومزيد اهتمام بشأنه! وقد قرئ (والصابرون) كما قرئ (والموفين)، قال الراغب: لما كان الصبر: من وجه مبدأ للفضائل، ومن وجه جامعا للفضائل، إذ لا فضيلة إلّا وللصبر فيها أثر بليغ، غيّر إعرابه تنبيها على هذا المقصد.
15. ﴿فِي الْبَأْسَاءِ﴾ أي: الشدّة، أي عند حلولها بهم ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ بمعنى البأساء وهي الشدة أيضا، كما فسرهما بها في القاموس، وقال ابن الأثير: الضرّاء: الحالة التي تضرّ وهي نقيض السرّاء، وهما بناءان للمؤنث ولا مذكّر لهما.
16. ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ أي: وقت مجاهدة العدوّ في مواطن الحرب، وزيادة (الحين) للإشعار بوقوعه أحيانا، وسرعة انقضائه، ومعنى (البأس) في اللغة: الشدّة، يقال: لا بأس عليك في هذا، أي: لا شدّة، وعذاب بئيس شديد، وسميت الحرب بأسا لما فيها من الشدّة، والعذاب يسمى بأسا لشدته، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: 84]، ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا﴾ [الأنبياء: 12]، ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ﴾ [غافر: 29]، وقال ابن سيده: البأس الحرب، ثمّ كثر حتى قيل: لا بأس عليك، أي: لا خوف، قال الراغب: استوعبت هذه الجملة أنواع الضرّ، لأنّه إمّا يحتاج إلى الصبر في شيء يعوز الإنسان، أو يريده فلا يناله، وهو البأساء، أو فيما نال جسمه من ألم، وهو الضرّاء، أو في مدافعة مؤذيه وهو اليأس.
17. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبيّ بالأقوال والأفعال، فلم تغيرهم الأحوال، ولم تزلزلهم الأهوال، وفيه إشعار بأنّ من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان..! ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ عن الكفر وسائر الرذائل، وتكرير الإشارة لزيادة تنويه بشأنهم، وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوي فيهم، قال الواحديّ: هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع، فمن شرائط البرّ، وتمام شرط البارّ، أن تجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام به واحد منها لم يستحق الوصف بالبر.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/481.
(2) الكلام هنا للراغب.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿لَيْسَ الْبِرُّ﴾ الطاعة والإحسان ﴿أَن تُوَلُّواْ﴾ فقط للصَّلاة وتصلُّوا، بل مع ذلك الإيمان بالله واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيئين وإيتاء المال على حبِّه، والإتيان بالصَّلاة تامَّة، وإيتاء الزَّكاة، والوفاء بالعهد، والصبر في البأساء والضرَّاء وحين البأس.
2. ﴿وُجُوهَكُمْ﴾ أيُّها المؤمنون، والتعريف [في (البِرّ)] للحصر، و(ال) للجنس، أو للعهد، بمعنى: ليس البرّ العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه، وقيل: الخطاب لهم ولأهل الكتاب، ﴿قِبَلَ الْمَشْرِقِ﴾ كما إذا كنتم غرب مكَّة، ﴿وَالْمَغْرِبِ﴾ كما إذا كنتم شرقها وكما كنتم تصلُّون إلى المغرب قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فإنَّ بيت المقدس غرب المدينة، فإنَّ الشمس تغرب إليه في أطول الصَّيف، وما يلي أطوله فذلك المغرب، وليس كما قيل: إنَّه شمال المدينة، ولم يذكر الجهات الأخر اكتفاء بذكر المشرق والمغرب، على طريق التمثيل لا التقييد؛ لأنَّ من أهل الجهات من يستقبل ما بينهما، وقدَّم المشرق مع أنَّه قبلة المتأخرين وهم النصارى لتقدُّم شروق الشمس على غروبها.
3. ﴿وَلَكِنِ الْبِرُّ﴾ الإحسان الكامل من آمن بالله، البرُّ مبالغة، كقولك زيد عَدْل، فهو خبر و(مَنْ) مبتدأ، أو بالعكس، وهو أشدُّ مبالغة، كمن قال: الصوم هو زيد، و(ال) للجنس أو العهد، أو: لكنِ البارُّ، والأصل البارر، نقلت كسرة الراء للباء وحذفت الألف قصدًا لسكون الراء بسلب حركتها، وأدغمت في الراء، ولا حذف مضاف في ذلك، ولا تأويلاً بالوصف لكن فيه تكلُّف، أو هو مصدر بمعنى اسم الفاعل أو يبقى على مصدريَّته، ويقدَّر مضاف فيه، أي: (ولكن ذو البرِّ)، أو في قوله: ﴿مَنَ ـ امَنَ﴾ أي: برُّ من آمن، ﴿بِاللهِ وَالْيَوْمِ الَاخِرِ وَالْمَلَآئِكَةِ وَالكِتَابِ﴾ أي: الكتب كلِّها، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أنْ تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله..)، أو القرآن لأنَّه الذي أنكره أهل الكتاب، وأنَّه المقصود بالدَّعوة وأنَّه أكمل الكتب، والإيمان به يستلزم الإيمان بجميع الكتب لأنَّه مصدِّق لما بين يديه، وقيل: التوراة، ولا قرينة له؛ وهي لا توجب الإيمان إلَّا بتوسُّط اشتمالها على القرآن المستلزم لذلك، ﴿وَالنَّبِيئِينَ﴾ وهذا كلُّه موجود في المؤمنين قبل نزول الآية، فمحطُّ الكلام قوله: ﴿وَءَاتَى الْمَالَ﴾، وما كان فيهم من بعض صفة فقد أمروا بتجويدها، أو الخطاب في ﴿تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ لليهود والنصارى؛ ردَّ على اليهود إذ قالوا: البرُّ استقبال المقدس، وعلى النصارى إذ قالوا: البرُّ استقبال مطلع الشمس، و(ال) في (البِرّ) للجنس، ولا حصر في الآية.
4. ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ مع حبِّ صاحب المال، فالهاء لـ (مَن)، والمفعول محذوف، أي: مع حبِّه المال، أو مع حبِّ المال، فالهاء للمال، والفاعل محذوف، ومحبُّه مؤتيه، أو الناس، وحبُّه لجودته أو لقلَّته؛ أو على حبِّه على حبِّ الله فالهاء للمال أو لصاحبه المؤتي، أو لله سبحانه، أو للإيتاء المفهوم من آتى، والتقييد بقوله: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ للتكميل، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أفضلُ الصَّدقة أنْ تتصدَّق وأنت صحيحٌ، تأملُ البقاءَ وتخشى الفقرَ، ولا تمهِلْ حتَّى إذا بلغت الحلقومَ قلت: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، ألا وقد كان لفلانٍ كذا)، فصدقة الفقير والبخيل أفضل من صدقة الغنيِّ والكريم، إلَّا أنْ يكونا أحبَّ للمال منهما أو يتصدَّقا بما هو أعزُّ عندهما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (أفضل الأعمال أحمزها).
5. ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ القرابة بالنَّسَب، مع الحاجة أو دونها، وهو مفعول ثان و(الْمَالَ) مفعول أوَّل؛ لأنَّه الفاعل في المعنى، أي: صيَّره آتيًا ذوي القربى، فافهم ولا تهِم؛ فالمال يأتي ذوي القربى لا مفعول أوَّل إلَّا بتكلُّف التفسير بـ (تناول) ونحوه، ممَّا يكون ذوي القربى به فاعلا في المعنى، ﴿وَالْيَتَامَى﴾ مع الحاجة أو دونها، وذلك بوساطة القائم بهم من وليٍّ وغيره؛ لأنَّه لا قبض لغير البالغ، ولا يُتمَ بعد بلوغ، ولكن يجوز إطعام يتيم ولو بلا قائم ولو حقًّا واجبًا، كزكاة لمن هو في يده ويتفقَّده، وما أوتي قائم يتيم قد أوتي يتيمًا؛ لأنَّ قائمه كرسول إليه، فهو معطوف على (ذَوِي)، ولا حاجة إلى عطفه على (الْقُرْبَى) قصدًا إلى معنى إعطاء ذوي اليتامى.
6. ﴿وَالْمَسَاكِينَ﴾ أسكنتهم الحاجة فقلَّت حركتهم، أو أسكنتهم إلى الناس بالميل إليهم، وعن أبي حنيفة: هو من لا يملك شيئًا، والفقير من يملك أقلَّ من نصاب، والشافعيّ: من يملك شيئًا، والفقير من لا يملك شيئًا؛ ﴿اَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ [الكهف: 79] فللمسكين شيء، لكن ليس في الآية أنَّ الفقير لا شيء له، ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ المسافر مع حاجة في حالِهِ ولو غنيًّا في أهله، سمِّي لأنَّه يلقيه الطريق كما تلد الأمُّ ولدها، ولأنَّه يصاحب الطريق كالولد مع أبيه، ولأنَّه مبنيُّ السبيل كالولد مبنيُّ أبيه كأنَّه ولدَهُ السبيلُ، أو لانفراده عمَّن معه قبل، وقيل: ابن السَّبيل الضَّيف؛ لأنَّه يقدَّم به إلى بيت المضيِّف.
7. ﴿وَالسَّآئِلِينَ﴾ ألجأتهم الحاجة إلى السؤال، عطف عامٍّ على خاصٍّ؛ لأنَّ ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل يكونون سائلين وغير سائلين، ويكون السائل أيضًا غيرهم دعاه داع إلى السؤال ولو كان غنيًّا كتحمُّله دَينا لإصلاح بين الناس، وكاشتهائه شيئًا ليس عنده كحامل ومتوحِّمٍ، وحالف على موجوده لا ينتفع به في محلِّه، وككلِّ سائل ولو غنيًّا إذ لا يدرى هل هو غني، بل ولو غنيًّا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (للسائل حقٌّ ولو جاء على فرس)، رواه أحمد، وذلك سدٌّ لذريعة الرَّد، واحتياطًا للناس.
8. ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ وصَرَفَه في الرِّقاب، بصيغة الماضي المحذوف، دلَّ على صَرَفَ قولُه: ﴿وَءَاتَى الْمَالَ﴾، والمقامُ، ويجوز إبقاؤه على معنى: وإيتاؤه في الرِّقاب، أي: على طريق صرفه فيها بوزن المصدر، أي: لفكِّ الأسرى وإعتاق العبيد، وإعانة المكاتب، وشراء العبيد، ليكونوا في الإسلام عونًا له في الجهاد وغيره، وتنجية المضطرِّ، وشراء العبيد المسلمين الذين تملَّكهم المشركون بالتقوىم.
9. ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ﴾ أهلَها؛ فما قبل هذا في غير الزكاة ترغيبًا في النفل لا إيجابًا، إذ لا واجب في المال بعد الزكاة، إلَّا إنْ خِيفَ موت أحدٍ أو نفقة العيال والضَّيف، وإلَّا أنواع الكفَّارات، وعن الشَّعبيِّ: (إنَّ في المال حقًّا سوى الزكاة) وتلا هذه الآية؛ وسئل الشعبيُّ: هل في المال حقٌّ بعد الزكاة؟ قال: (نعم يصل قرابة، ويعطي السَّائل)، وتلا هذه الآية، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره طاوٍ إلى جنبهِ)، وفي الحديث: (في المال حقوقٌ سوى الزكاة)، واجتمعت الأمَّة ـ إلَّا من شذَّ ـ أنَّه يجب دفع حاجة المضطرِّ ودفع الكفَّارات، وذلك ثابت ولو مع قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم من حديث عليٍّ: (نسخَ الأضحى كلَّ ذبحٍ، ورمضانُ كلَّ صومٍ، وغسلُ الجنابة كلَّ غسلٍ، والزَّكاةُ كلَّ صدقةٍ)، وهو غريب، أخرجه ابن شاهين، وليس في سنده قوَّة، وأخرجه الدَّارقطنيُّ والبيهقيُّ، ويجوز أنْ يكون: آتى الزكاة ذِكْرًا للخاصِّ لمزيَّته بعد العامِّ، وهو ﴿ءَاتَى الْمَالَ﴾.
10. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمُ إِذَا عَاهَدُواْ﴾ ربَّهم في طاعة، أو مخلوقًا فيها، أو في مباح فيه نفع لغيرهم، أو انتظار حقِّ غيرهم لهم، لا في معصية أو مكروه، أو مباح لأنفسهم فلا ذمَّ في خُلف الثلاثة، والعطف على (مَنْ)، ومقتضى الظَّاهر: (ولكن إنَّه من آمن بالله.. إلخ، وأوفى بعهده إذا عاهد)، ولكن غيَّر الأسلوب لأنَّ ما تقدَّم بإيجاب الله، وهذا بإيجاب المكلَّف على نفسه، كما قال: ﴿إِذَا عَاهَدُوا﴾ أي: لا يتأخَّر إيفاؤهم عن وقت عُهِد إليه؛ وذلك حكمة التقييد بـ (إِذَا)، فليس ذلك فيما أوجبه الله عليه بلا إيجاب منه كما قيل به، وبأنَّ ﴿إِذَا عَاهَدُوا﴾ تأكيد، وممَّا يكون من إيجابهم برُّ اليمين والنَّذر وردُّ الأمانة؛ لأنَّ عقدهنَّ عهدٌ منهم بالوفاء، أو غَيَّر الأسلوبَ إشارةً إلى وجوب استقرار الوفاء، أو إلى أنَّه أمر مقصود بالذَّات، أو لأنَّ هذا من حقوق الله خاصَّة، ويطلق العهد على ما يجري في الناس ممَّا لا يُحلُّ حرامًا ولا يحرِّم حلالاً، والظاهر أنَّ المراد حقوق الله وحقوق العباد؛ لأنَّ الوفاء بها من حقوق الله أيضًا.
11. ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ لا تنسَ الصابرين في مقام الخير والثَّناء، أو: (اذكرْ الصابرين)، أو (خصَّ الصابرين)، ومعنى كون ذلك ـ نصبًا على المدح ـ أنَّهم في مقام رفيع يعرف به المحذوف ولو لم يذكر، قال أبو عليٍّ الفارسيُّ: إذا غيِّر إعراب صفة المدح أو الذمِّ فذلك تفنُّنٌ، ويسمَّى: قطعًا، وذلك أنَّ تغيير المألوف يدلُّ على مزيد الاهتمام بشأن المغيَّر، فإنَّه لا فضيلة إلَّا وللصَّبر فيها أثر بليغ، وإلَّا فسدت وأدَّت إلى مضرَّة.
12. ﴿فِي الْبَأْسَآءِ﴾ شدَّة الفقر وفساد المال ولو بلا فقرٍ، كفساد نوع دون آخر أو فساد فيه كلِّه مع بقاء نفع فيه بلا فقر، ﴿وَالضَّرَّآءِ﴾ المضرَّة في البدن بمرض أو غيره كعرج وصمم وعنَّة، وذَكَر (فِي) لأنَّ المدح في الصَّبر على البأساء والضَّرَّاء إنَّما يكون إذا عَظُما، وكان المصاب كالمظروف لهما، وَأَمَّا الصبر على ما قلَّ منه ففي أكثر الناس، ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ القتال، والمراد: القتال في سبيل الله، ذَكَر (حِينَ) لأنَّ القتال لا يستمرُّ.
13. ﴿أُوْلَئِكَ﴾ الموصوفون بالإيمان وإيتاء المال وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والموصوفون بالإيفاء بالعهد، والموصوفون بالصبر، ﴿الَّذِينَ صَدَقُواْ﴾ في دين الله مع الله، وفي دعواهم أنَّهم مؤمنون، وفي طلب البرِّ، وذَكَر الثلاث على الترقِّي، فالصبر على المرض أشدُّ منه على الفقر، و[على] القتال أشدُّ من المرض.
14. ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون﴾ عن الكفر وسائر الرذائل، قال بعضهم: هذه الصفات خاصَّة بالأنبياء استجماعًا وغيرهم لا يستجمعها، والصحيح أنَّها عامَّة في جميع المؤمنين، كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم دعاءً إلى العمل بها: (مَن عمِلَ بهذهِ الآيةِ فقد اسْتكمَلَ الإيمانَ).
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/297.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ادعى الجلال أن هذه الآية نزلت للرد على النصارى الذين يولون وجوههم في صلاتهم قبل المشرق واليهود الذين يولونها قبل بيت المقدس، وهذا ادعاء لم يثبت والصحيح قريب منه، وهو أن أهل الكتاب أكبروا أمر تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة كما تقدم في آيات التحويل، وحكمه وطال خوضهم فيها حتى شغلوا المسلمين بها، وغلا كل فريق في التمسك بما هو عليه وتنقيص مقابله كما هو شأن البشر في كل خلاف يثير الجدل والنزاع، فكان أهل الكتاب يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا نقبل عند الله تعالى، ولا يكون صاحبها على دين الانبياء، والمسلمون يرون ان الصلاة إلى المسجد الحرام هو كل شيء لأنه قبلة ابراهيم وأول بيت وضع لعبادة الله تعالى وحده ـ فأراد الله تعالى أن يبين للناس كافة أن مجرد تولية الوجه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين، ذلك ان استقبال الجهة المعينة إنما شرع لأجل تذكير المصلي بالإعراض عن كل ما سوى الله تعالى في صلاته والاقبال على مناجاته ودعائه وحده، وليكون شعارا لاجتماع الامة، فتولية الوجه وسيلة للتذكير بتولية القلب، وليس ركنا من العبادة بنفسه، وأن يبين لهم اصول البر ومقاصد الدين.
2. ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ قرأ حمزة وحفص بنصب البر والباقون برفعه وكلاهما ظاهر، ـ والبر بكسر الباء لغة التوسع في الخير مشتق من البر بالفتح وهو مقابل البحر في تصور سعته كما قال الراغب ـ وشرعا ما يتقرب به إلى الله تعالى من الايمان والاخلاق والاعمال الصالحة، وتوجيه الوجوه إلى المشرق أو المغرب ليس هو البر ولا منه بل ليس في نفسه عملا صالحا كما تقدم شرحه في آيات تحويل القبلة وأحلنا فيه على هذه الآية التي بين الله فيها مجامع البر.
3. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ قرأ الجمهور لكن بالتشديد ونافع وابن عامر بالتخفيف، أي ولكن جملة البر هو من آمن بالله الخ وفيه الاخبار عن المعنى بالذات، وهو معهود في الكلام العربي الفصيح، والقرآن جار على الاساليب العربية الفصحى، لا على فلسفة النحاة وقوانينهم الصناعية، وبلاغة هذه الاساليب إنما هي في إيصال المعاني المقصودة إلى الذهن على أجلى وجه يريده المتكلم وأحسن تأثير يقصده، ومثل هذا التعبير لا يزال مألوفا عند أهل العربية على فساد ألسنتهم في اللغة، يقولون: ليس الكرم أن تدعو الاغنياء والاصدقاء إلى طعامك ولكن الكرم من يعطي الفقراء العاجزين عن الكسب، فالكلام مفهوم بدون أن نقول ان معناه: ولكن ذا الكرم من يعطي أو لكن الكرم عطاء من يعطي، وإنما نحن في حاجة إلى بيان النكتة في اختيار ذلك على قول: ولكن البر هو الايمان بالله الخ وهذه النكتة مفهومة من العبارة فإنها تمثل لك المعنى في نفس الموصوف به فتفيدك أن البر هو الايمان وما يتبعه من الاعمال باعتبار اتحادهما وتلبس المؤمن البارّ بهما معا من حيث إن الايمان باعث على الاعمال وهي منبعثة عنه واثر له تستمد منه وتمده وتغذيه، اي انها تمثل لك المعنى في الشخص، أو الشخص عاملا بالبر، وهذا أبلغ في النفس هنا من إسناد المعنى الى المعنى ومن اسناد الذات الى الذات كما هو مذوق ومفهوم.
4. ابتدأ بذكر الايمان بالله واليوم الآخر لأنه اساس كل بر، ومبدأ كل خير، ولا يكون الايمان اصلا للبر الا اذا كان متمكنا من النفس بالبرهان، مصحوبا بالخضوع والاذعان، فمن نشأ بين قوم وسمع منهم اسم الله في حلفهم واسم الآخرة في حوارهم، وقبل منهم بالتسليم أن له إلها وأن هناك يوما آخر يسمى يوم القيامة، وان أهل دينه هم خير من أهل سائر الاديان، فان ذلك لا يكون باعثا له على البر وان زادت معارفه بهذه الالفاظ المسلمة، فحفظ الصفات العشرين التي حدد بعض المتكلمين بها ما يجب اثباته لله تعالى عقلا، وأضدادها التي تستحيل عليه عقلا، وان حفظ العقيدة السنوسية المسماة بأم البراهين أيضا، ولقد كان أهل الكتاب الذين تبين لهم الآية خطأهم في فهم مقاصد الدين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولكنهم كانوا بمعزل عن الاذعان والقيام بحقوق هذا الايمان من الاعمال والاوصاف المذكورة في الآية.
5. الايمان المطلوب معرفة حقيقة تملك العقل بالبرهان، والنفس بالإذعان، حتى يكون الله ورسوله احب إلى المؤمن من كل شيء، ويؤثر أمرهما على كل شيء: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ وايمان التقليد قد يفضل صاحبه حب كل واحد من هذه الامور على حب الله ورسوله.
6. الايمان المطلوب معرفة تطمئن بها القلوب، وتحيا بها النفوس، وتخنس معها الوساوس، وتبعد بها عن النفس الهواجس، فلا تبطر صاحبها النعمة، ولا تؤيسه النقمة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ وايمان التقليد لا يفتأ صاحبه مضطرب القلب، ميت النفس، اذا مسه الخير فهو فرح فخور، واذا مسه الشر فهو يؤوس كفور.
7. الايمان المطلوب معرفة تتمثل للمؤمن اذا عرضت له دواعي الشر وأسباب المعاصي فتحول دونها، فاذا نسي فأصاب الذنب بادر الى التوبة والانابة، فالمؤمنون هم الذين وصفوا بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ وهم ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ وايمان التقليد يصر صاحبه على العصيان، ويقترف الفواحش عامدا عالما، لا يستحي من الله ولا يوجل قلبه اذا ذكره، ولا يخافه اذا عصاه.
8. الايمان المطلوب هو الذي اذا علم صاحبه بان الايمان أصيب بمصيبة كانت مصيبته في دينه اشد عليه من المصيبة في نفسه وماله وولده، وكان انبعاثه الى تلافيها أعظم من انبعاثه الى دفع الاذى عن حقيقته، وجلب الرزق الى نفسه وأهله وعشيرته، وايمان المقلد لا غيرة معه على الدين ولا على الايمان ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ الآيات.
9. يذكر القرآن الايمان بالله واليوم الآخر كثيرا وإنما المراد به ماله مثل هذه الآثار التي شرحها في آيات كثيرة، من أجمعها هذه الآية التي نفسرها الآن، ولكن أهل التقليد الذين لا أثر للإيمان في قلوبهم ولا في أعمالهم الا ما جرت به عادة قومهم من الاتيان ببعض الرسوم يؤولون كل هذه الآيات بجعلهم الايمان قسمين: قسما كاملا، وهو الذي يصف القرآن أهله بما يصفهم به، وقسما ناقصا وهو إيمانهم الذي يجامع ما وصف الله تعالى به الكافرين والمنافقين، ويرون أن الايمان الناقص كاف لنيل سعادة الآخرة ولا سيما إذا صحبه بعض الرسوم الدينية ولكن الله تعالى يرشدنا في مثل هذه الآية إلى أن الرسوم ليست من البر في شيء، وإنما البر هو الايمان وما يظهر من آثاره في النفس والعمل كما ترى في الآية، وأساس ذلك الايمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
10. فالإيمان بالله يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد المرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية وهي دعوى القداسة والوساطة عند الله، ودعوى التشريع والقول على الله بدون اذن الله، أو السلطة الدنيوية وهي سلطة الملك والاستبداد، فان العبودية لغير الله تعالى تهبط بالبشر الى دركة الحيوان المسخر أو الزرع المستنبت.
11. والايمان باليوم الآخر وبالملائكة يعلم الانسان أن له حياة في عالم غيبي أعلى من هذا العالم، فلا يرضى لنفسه أن يكون سعيه وعمله لأجل خدمة هذا الجسد خاصة، لان ذلك يجعله لا يبالي إلا بالأمور البهيمية، ولا يرضى لنفسه بالأولى أن يكون عبدا ذليلا لبشر مثله للقب ديني أو دنيوي وقد أعزه الله بالإيمان، وإنما أئمة الدين عنده مبلغون لما شرع الله، وأئمة الدنيا منفذون لاحكام الله، وإنما الخضوع الديني لله ولشرعه لا لشخوصهم وألقابهم.
12. ثم ان الايمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي، لان ملك الوحي روح عاقل عالم يفيض العلم باذن الله على روح النبي بما هو موضوع الدين، ولذلك قدم ذكر الملائكة على ذكر الكتاب والنبيين، فهم الذين يؤتون النبيين الكتاب ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ فيلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة وإنكار الارواح، وذلك يستلزم إنكار اليوم الآخر، ومن أنكر اليوم الآخر يكون أكبر همه لذات الدنيا وشهواتها وحظوظها، وذلك أصل لشقاء الدنيا قبل شقاء الآخرة والملائكة خلق روحاني عاقل قائم بنفسه وهم من عالم الغيب فلا نبحث عن حقيقتهم.
13. واختير لفظ الكتاب على الكتب للإيماء الى أن كلا من اليهود والنصارى لو صح ايمانهم بكتابهم وأذعنوا له لكان في ذلك هداية لهم، وإن جهلوا وحدة الدين فلم يعرفوا حقية جميع الكتب الالهية، على ان المقصود لازمه وهو انهم لم يؤمنوا حق الايمان بكتابهم إذ لا يعملون بما يرشد اليه، ولو كان ايمانهم صحيحا لقارنه الاذعان، الباعث على العمل بقدر الامكان، فان كثيرا من المؤمنين بالتسليم والتقليد كانوا كمن نزل فيهم: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾
14. هذا الايمان الذي حصر الله الصدق في أصحابه كان قد فقد من اكثر اهل الكتاب كما هو حال مجموع المسلمين في هذا العصر، فان الذي تصدق عليه هذه الاوصاف صار نادرا جدا، ولذلك حرم المسلمون ما وعد الله المؤمنين من العزة والنصر، والاستخلاف في الارض، ولن يعود لهم شيء من ذلك حتى يعودوا الى التحقق بما ميز الله به المؤمنين من النعوت والاوصاف، فالإيمان بالكتاب يستلزم العمل به، فان المؤمن الموقن بأن هذا الشيء قبيح ضار لا تتوجه إرادته الى إتيانه، والمؤمن الموقن بان هذا الشيء حسن نافع لا بد أن تتوجه اليه نفسه عند عدم المانع، فما بال مدعي الايمان بالكتاب قد أعرضوا عن امتثال امره ونهيه حتى صاروا يعدون حفظه وقراءته من موانع الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، فكان من قوانينهم أن حافظ القرآن لا يطالب بتعلم فنون الحرب والجهاد لأنه حافظ، وصار حملة الكتاب لا يطالبون ببذل شيء من مالهم في سبيل الله، حتى اذا ما طولب أحدهم ببذل شيء لإعانة المنكوبين أو لبناء مسجد ونحو ذلك اعتذر بانه من العلماء أو الحفاظ لكتاب الله تعالى، بخل القراء والمتفقهة بفضل الله تعالى فجازاهم الله تعالى على بخلهم، ووفاهم ما يستحقون على سوء ظنهم بربهم، حتى صاروا في الغالب أذل الناس، لانهم عالة على جميع الناس.
15. والايمان بالنبيين يقتضي الاهتداء بهديهم، والتخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، ويتوقف هذا على معرفة سيرتهم والعلم بسنتهم، وأبعد الناس عن الايمان بهم من رغبوا عن معرفة ما ذكر والاهتداء به ـ ولا عذر لهم بما يزعمون من الاستغناء عن السنة بالاقتداء بالأئمة والفقهاء فإنه لا معنى للاقتداء بشخص الا الاستقامة على طريقته، وإنما طريقة الائمة المهتدين البحث عن السنة وتقديمها بعد كتاب الله تعالى على كل هداية وإرشاد، ولا يغني عن كتاب الله وسنة رسوله شيء أبدا، فان الله يقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾، فمن استغنى عن التأسي بالرسول فقد استغنى عن الايمان بالله واليوم الآخر، إذ لا ينفعه هذا الايمان إلا بهذا التأسي، على أن الاقتداء بالأئمة يقضي على صاحبه بأن يعرف سيرتهم وطريقة أخذهم عن ربهم ونبيهم وأصول استدلالهم، وهؤلاء المقلدون لا يعرفون ذلك، بل يندر أن يعرف أحد منهم كلام من يدعي اتباعه وتقليده، بل جعلوا بينهم وبين أئمتهم عدة وسائط من المقلدين فهم يقلدونهم دونه، بناء على انهم أعلم منهم بمراده، كما أنه أعلم بمراد الله ورسوله.
16. وهناك قوم غشيهم الجهل فغشهم بأنهم من أشد الناس ايمانا بالرسول وحبا له بما يصيحون به في قراءة كتب الصلاة عليه كالدلائل وأمثالها، أو المدائح الشعرية وهم أجهل الناس بأخلاقه العظيمة، وسنته السنية، وسيرته الشريفة، وأشدهم نفورا عن التأسي به إذا دعوا اليه، أو نهوا عن البدع في دينه والزيادة في شريعته، وأمثال هؤلاء من الذين ورد الحديث في الصحيحين وغيرهما بانهم يردون عليه الحوض يوم القيامة فيذادون اي يطردون دونه فيقول (أمتي) فيقال انك لا تدري ما أحدثوا بعدك فيقول: (سحقا سحقا لمن بدل بعدي)
17. ثم ذكر تعالى بعد بيان أصول الايمان أصول الاعمال الصالحة التي هي ثمرته، وبدأ بأقواها دلالة عليه فقال: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أي وأعطى المال لأجل حبه تعالى أو على حبه إياه أي المال، قال محمد عبده: وهذا الايتاء غير إيتاء الزكاة الآتي، وهو ركن من أركان البر وواجب كالزكاة، وذلك حيث تعرض الحاجة إلى البذل في غير وقت أداء الزكاة، بان يرى الواجد مضطرا بعد أداء الزكاة أو قبل تمام الحول، وهو لا يشترط فيه نصاب معين بل هو على حسب الاستطاعة، فاذا كان لا يملك إلا رغيفا ورأى مضطرا اليه في حال استغنائه عنه بأن لم يكن محتاجا اليه لنفسه أو لمن تجب عليه نفقته وجب عليه بذله، وليس المضطر وحده هو الذي له الحق في ذلك بل أمر الله تعالى المؤمن أن يعطي من غير الزكاة.
18. ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ وهم أحق الناس بالبر والصلة فان الانسان إذا احتاج وفي أقاربه غني فان نفسه تتوجه اليه بعاطفة الرحم ومن المغروز في الفطرة أن الانسان يألم لفاقة ذوي رحمه وعدمهم أشد مما يألم لفاقة غيرهم، فإنه يهون بهوانهم ويعتز بعزتهم، فمن قطع الرحم ورضي بأن ينعم وذوو قرباه بائسون فهو بريء من الفطرة والدين، وبعيد من الخير والبر، ومن كان أقرب رحما كان حقه آكد وصلته أفضل.
19. ﴿وَالْيَتَامَى﴾ فانهم لموت كافلهم تتعلق كفالتهم وكفايتهم أهل الوجد واليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم، وتفسد تربيتهم فيكونوا مصائب على أنفسهم وعلى الناس.
20. ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ اهل السكون والعفة من الفقراء فانهم لما قعد بهم العجز عن كسب ما يكفيهم، وسكنت نفوسهم للرضى بالقليل، عن مد كف الذليل، وجبت مساعدتهم ومواساتهم على المستطيع.
21. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ المنقطع في السفر لا يتصل بأهل ولا قرابة حتى كأن السبيل أبوه وأمه ورحمه وأهله.
22. ومساعدة الاسرى على الافتداء، وفي جعل هذا النوع من البذل حقا واجبا في أموال المسلمين دليل على رغبة الشريعة في فك الرقاب واعتبارها أن الانسان خلق ليكون حرا الا في أحوال عارضة تقضي المصلحة العامة فيها أن يكون الاسير رقيقا، وأخر هذا عن كل ما سبقه لان الحاجة في تلك الاصناف قد تكون لحفظ الحياة وحاجة الرقيق الى الحرية حاجة الى الكمال.
23. مشروعية البذل لهذه الاصناف من غير مال الزكاة لا تتقيد بزمن ولا بامتلاك نصاب محدود، ولا يكون المبذول مقدارا معينا بالنسبة الى ما يملك ككونه عشرا أو ربع العشر أو عشر العشر مثلا، وإنما هو أمر مطلق بالإحسان موكول الى اريحية المعطي وحالة المعطى، ووقاية الانسان المحترم من الهلاك والتلف واجبة على من قدر عليها، وما زاد على ذلك فلا تقدير له.
24. وقد أغفل أكثر الناس هذه الحقوق العامة التي حث عليها الكتاب العزيز لما فيها من الحياة الاشتراكية المعتدلة الشريفة، فلا يكادون يبذلون شيئا لهؤلاء المحتاجين الا القليل النادر لبعض السائلين، وهم في هذا الزمان أقل الناس استحقاقا لانهم اتخذوا السؤال حرفة وأكثرهم واجدون، ولو اقاموها لكان حال المسلمين في معايشهم خيرا من سائر الامم ولكان هذا من أسباب دخول الناس في الاسلام، وتفضيله على جميع ما يتصور الباحثون من مذاهب الاشتراكيين والماليين.
25. ثم قال ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ اي أداها على أكمل وجه واقومه وادامها، وهذا هو الركن الروحاني الركين للبر، واقامة الصلاة التي يكرر القرآن المطالبة بها لا تتحقق بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فقط وان جاء بها المصلي تامة على الوجه الذي يذكره الفقهاء، لان ما يذكرونه هو صورة الصلاة وهيأتها، وإنما البر والتقوى في سر الصلاة وروحها الذي تصدر عنه آثارها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وقلب الطباع السقيمة، والاستعاضة عنها بالغرائز المستقيمة، فقد قال تعالى ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ فمن حافظ على الصلاة الحقيقية تطهرت نفسه من الهلع والجزع اذا مسه الشر، ومن البخل والمنع اذا مسه الخير، وكان شجاعا كريما قوي العزيمة شديد الشكيمة لا يرضى بالضيم، ولا يخشى في الحق العذل واللوم، لأنه بمراقبته لله تعالى في صلاته، واستشعاره عظمته وسلطانه الاعلى في ركوعه وسجوده، يكون الله تعالى غالبا على أمره، فلا يبالي ما لقي من الشدائد في سبيله، وما انفق من فضله ابتغاء مرضاته، وصورة الصلاة لا تعطي صاحبها شيئا من هذه المعاني، فليست بمجردها من البر في شيء، وإنما شرعت للتذكير بذلك السناء الالهي، والاستعانة بها على توجه القلب اليه، واستغراقه في ذكره ومناجاته ودعائه، وهو روحها وسرها الذي يستعان به وبالصبر على جميع المقاصد العالية والمجاهدات، فهذا هو البر.
26. ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ المفروضة اي اعطاها مستحقيها، قلما تذكر إقامة الصلاة في القرآن إلا ويقرن بها إيتاء الزكاة، فالصلاة مهذبة للروح، والمال كما يقولون قرين الروح، فبذله في سبيل الحق ركن عظيم من أركان البر، وآية من أظهر آيات الايمان، ولكن الذين لا يعرفون من الدين والايمان إلا تقليد بعض الكتب التي ألفها الميتون، ونشرها الرؤساء والحاكمون، يمنعون الزكاة عمدا باسم الدين، بما تعلمهم هذه الكتب من الحيل التي تمنع بها الحقوق الثابتة، وآكدها الزكاة التي ذكر الكتاب مصارفها الثمانية، وقضى بأن تبقى ببقائها كلها أو بعضها ـ ويسمونها حيلا شرعية، وما نسبتها إلى الشرع، إلا كنسبة منجل الحاصد إلى الزرع، أو العاصفة في القلع.
27. مانع الزكاة يهدم في الظاهر ركنا من أعظم أركان الاسلام، وينقض في الباطن من تحته أساس الايمان، لأنه يحتال على الله تعالى في إبطال فريضته، وإزالة حكمته، فهو لم يرض بحكمه، ولم يذعن لأمره، بل فسق عن أمر مولاه، واتخذ إلهه هواه، وتجرأ على تبديل كلمات الله، فنسخ الآيات الكثيرة من كتابه الآمرة بايتاء الزكاة على انها آية الايمان، وصلاح العمران، ثم هو يسمي هذا الحنث العظيم، والجرم الكبير، حكما مشروعا، ودينا متبوعا، وو الله ان نسبة هذا السفه إلى الشرع، لأدل على الكفر من ذلك المنع، إذ لا يعقل أن يشرع الله لنا شيئا ويؤكده علينا سبعين مرة ثم يرضى بأن نحتال عليه ونخادعه في تركه، ونزعم أنه تقدس وتعالى أذن لنا بهذه المخادعة والمخاتلة! إذا لماذا فرض وأوجب، ورغب ورهب، ووعد وأوعد، وحكم وأحكم؟ هل كان ذلك لغوا من الكلام، وجهلا بحكمة وضع الاحكام؟
28. على أن تلك الحيل الشيطانية لم يجد لها واضعوها شبهة من تحريف كتاب الله تأويل آياته كما هي طريقتهم في اتباع أهوائهم، وتأييد آرائهم، فان الله تعالى لم يذكر في كتابه الحول والنصاب وإنما ذكر ما هو روح الدين ومقصده وهو إيتاء الزكاة وكونه آية الايمان، وتركه آية النفاق والكفران وقد بينت السنة بالهدي والعمل كيفية الأخذ وقدر المأخوذ وسائر الاحكام وليس فيها شيء يصح أن يكون شبهة لإبطال الكتاب والهروب من الاهتداء به، ولكن المخذولين لما تركوا الاهتداء بالكتاب والسنة، وجعلوا عبارات الكتب التي صنفوها هي مآخذ الدين وينابيعه، صاروا يحتالون في تطبيق أعمالهم على تلك العبارات المخلوقة، فيكتب احدهم مثلا: تجب الزكاة على مالك النصاب إذا تم الحول وهو مالك له، ثم يعمد هو وغيره إلى تطبيق دينه على هذه العبارات فيهب ماله قبل انقضاء الحول بيوم أو يومين إلى امرأته ولو مع الاشتراط عليها أن تعيده له بعد يوم أو يومين، ويقول انه لم تجب عليه الزكاة بحسب نص الكتاب الذي سماه فقها، وبدكّ بكلمة كتابه المخلوق كتاب الله القديم، وسنة رسوله الحكيم، وحكمة دينه القويم، ويزعم مع هذا كله انه مسلم مؤمن بالله وكتابه ورسوله، بل يزعم أنه عالم فقيه في الدين، يجب تقليده واتباعه على المؤمنين، وربما يتبجح إذا سمع أو قرأ قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) لأنه يزعم ان الله اراد به خيرا ففقهه في الدين، والحديث متفق عليه وفي رواية زيادة (ويلهمه رشده)
29. فيا أهل الفطرة السليمة التي لم يفسدها فقه هؤلاء المحتالين على الله لهدم دينه افتونا: هل العلم بمثل هذه الحيلة ينطبق على أصول البر التي ذكرها الله في هذه الآية وعلى الفقه والرشد الذي ذكره النبي في حديثه هذا؟ أم هذه فتنة من فتن التقليد، وأخذ الدين من الكتب المحدثة دون كتاب الله المجيد؟
30. ثم قال تعالى ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ وهذا انتقال من البر في الاعمال إلى البر في الاخلاق والاعمال الاجتماعية، فذكر منها ما هو أهم اصول البر وهو الوفاء والصبر بضروبه المبينة بعد، وقد ذكر الاعمال بصيغه الفعل والاخلاق بصيغة الوصف لان الاعمال أفعال، والاخلاق صفات، وفيه تنبيه على أن من أوفى وصبر تكلفا لا يكون بارا حتى يصير الوفاء والصبر من أخلاقه ولو بتكرار التكلف والتعمل، فقد ورد (الحلم بالتحلم) وقدم ما ذكر من الاعمال على هذه الاخلاق لان الاعمال هي التي تطبع الاخلاق في النفوس، ولا سيما الصلاة وبذل المال فلا أعون منهما على الوفاء والصبر وذلك ظاهر لقوم يفقهون.
31. قال محمد عبده: العهد عبارة عما يلتزم به المرء لآخر وهو بعمومه يشمل ما عاهد المؤمنون عليه الله بإيمانهم من السمع والطاعة والاذعان لكل ما جاء به دينه، ويذكر العهد في القرآن والسنة كثيرا ويراد به في الغالب ما يعاهد به الناس بعضهم بعضا عليه، ويشترط في وجوب الوفاء بهذا العهد أن لا يكون في معصية، وفي معنى العهود العقود وقد أمرنا بالوفاء بها فيجب على المسلم أن يلتزم الوفاء بما يتعاقد عليه مع الناس ما لم يكن مخالفا لأمر الله ورسوله الثابت عنده ولقواعد الدين العامة، وهذا أمر لا مندوحة عنه وهو معقول الفائدة، ولذلك قال أهل القوانين الوضعية: ان كل التزام يخالف أصول القوانين فهو باطل، ولكن لا يجوز أن يعاهد الانسان احدا أو يعاقده على امر يعلم انه مخالف للدين لا بنية الوفاء ولا بنية الغدر، والنقض الاول معصية و الثاني معصيتان أو اكثر، لما يتضمنه من الغدر والغش ولا يتحقق البر في الايفاء إلا إذا كان المرء يوفي من نفسه بدون إلزام حاكم يقع أو يتوقع إذا هو لم يوف، أو خوف أي جزاء ولو من غير الحكام، فمن أوفى خوفا من إهانة تصيبه أو ذم يلحق به فهو غير بار، ولا هو من الموفين بالعهود.
32. قال محمد عبده ما مثاله: ان الايفاء بالعهود والعقود من اهم الفرائض التي فرضها الله تعالى لنظام المعيشة والعمران، وإنما الصلاة والزكاة من وسائله ـ والزكاة فرع منه في وجه آخر ـ فان الله تعالى فرض علينا الصلاة وهو غني عن العالمين لنؤدب بها نفوسنا فنعيش في الدنيا عيشة راضية، ونستحق بذلك عيشة الآخرة المرضية، إذ المصلي أجدر الناس بالقيام بحقوق عباد الله الذين هم عيال الله بما يستولي على قلبه فيها من الشعور بسلطان الله تعالى وقدرته وفضله وإحسانه، وعموم هذا السلطان والاحسان له وللناس كافة، والغدر والاخلاف من الذنوب الهادمة للنظام، المفسدة للعمران، المفنية للأمم، وما فقدت أمة الوفاء الذي هو ركن الامانة وقوام الصدق إلا وحل بها العقاب الالهي، ولا يعجل الله الانتقام من الامم لذنب من الذنوب يفشو فيها كذنب الاخلال بالعهد والاخلاف بالوعد.
33. وانظر حال أمة استهانت بالإيفاء بالعهود ولم تبال بالتزام العقود تر كيف حل بها عذاب الله تعالى بالإذلال، وفقد الاستدلال، وضياع الثقة بينها حتى في الاهل والعيال، فهم يعيشون عيشة الافراد لا عيشة الامم: صور متحركة، ووحوش مفترسة، ينتظر كل واحد وثبة الآخر عليه، إذا أمكن ليده ان تصل اليه، ولذلك يضطر كل واحد إذا عاقد أي انسان من أمته أن يستوثق منه بكل ما يقدر، ويحترس من غدره بكل ما يمكن، فلا تعاون ولا تناصر، ولا تعاضد ولا تآزر، بل استبدلوا بهذه المزايا التحاسد والتباغض، والتعادي والتعارض ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ ولكنهم أذلاء للعبيد.. وقد أحصيت في سنة قضايا التخاصم في محكمة بنها فألفيت أن خمسا وسبعين قضية في المئة منها بين الاقارب، والباقي بين سائر الناس، ولو كان في الناس وفاء، لسلموا من كل هذا البلاء.
34. ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ قالوا ان البأساء اسم من البؤس وهو الشدة والفقر، والضراء ما يضر الانسان من نحو مرض أو جرح، أو فقد محبوب من مال وأهل، وفسروا البأس باشتداد الحرب، والصبر يحمد في هذه المواطن وفي غيرها، وخص هذه الثلاث بالذكر لان من صبر فيها كان في غيرها أصبر، لما في احتمالها من المشقة على النفس، والاضطراب في القلب، فان الفقر إذا اشتدت وطأته يضيق له الذرع، ويكاد يفضي إلى الكفر، والضر إذا برّح بالبدن يضعف الاخلاق حتى لا يكاد المرء يحتمل ما كان يسر به في حال الصحة، فما بالك بالمرض وآلامه وما يطرأ في أثائه من الامور التي تسوء النفس، وأما حالة اشتداد الحرب فهي على ما فيها من الشدة والتعرض للهلكة بخوض غمرات المنية يطلب فيها من الصبر ما لا يطلب في غيرها، لان الظفر مقرون بالصبر، وبالظفر حفظ الحق الذي يناضل من يجاهد في سبيل الله دونه ويدافع عنه، ويحاول إظهاره، ويبغي انتشاره، وهذا هو المأمور من الله تعالى بالصبر حين البأس، لا المحارب لطمع الدنيا وأهواء الملوك، وقد ورد في الاحاديث الصحيحة ان الفرار من الزحف من أكبر الكبائر وعبر عنه في بعضها بالكفر ـ فلا غرو أن يجعل الصبر في حين البأس أصلا من أصول البر.
35. كان المسلمون بإرشاد هذه النصوص أعظم أمة حربية في العالم، فما زال استبداد الحكام يفسد من بأسهم، وترك الاهتداء بالكتاب والسنة يفل من غربهم، حتى سبقتهم الامم كلها في ميادين الكفاح، وحتى صرنا نسمع من أمثالهم: (فرّ لعنه الله، خير من مات رحمه الله)، وأبعد الناس عندنا عن الصبر وأدناهم من الجزع والهلع والفزع المشتغلون بالعلوم الدينية، فان الشجاعة والفروسية والرماية عندهم من المعايب التي تزري بالعالم وتحط من قدره، وهم مع هذا يقرؤون في كتبهم ان الشرع أباح المراهنة ـ وهي من القمار الذي هو من كبائر الاثم ـ في السباقة والرماية خاصة عناية بهما وترغيبا للامة فيهما، فهذا البعد عن الدين ممن يسمون انفسهم ورثة الانبياء هو الذي قال الجاحظ انه لا يصل اليه احد إلا بخذلان من الله.
36. وانظر بعد هذا حكم الله تعالى على البررة الذين يقيمون ما تقدم ذكره من أركان البر، قال ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ اي اولئك الابرار الراسخون في أصول الايمان الخمسة والمنفقون للمال في مواضعه الستة، والمقيمون للصلاة الروحية الاجتماعية، والمؤتون للزكاة التي عليها مدار أمور الملة المالية والسياسية، والموفون بعهودهم الثلاثة الدينية والمالية والحربية، والصابرون في مواقف الشدة الثلاثة ـ هم الذين صدقوا الله في دعوى الايمان دون الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ الذين تشهد لهم بالتقوى أعمالهم وأحوالهم ـ والتقوى أن تجعل بينك وبين سخط الله وقاية بان تتحامى أسباب خذلانه في الدنيا وعذابه في الآخرة.
__________
(1) تفسير المنار: 2/110.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما أمر الله تعالى بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، طال خوض أهل الكتاب في ذلك، واحتدم الجدل بينهم وبين المسلمين حتى بلغ أشده، وكانوا يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا يقبلها الله تعالى، ولا يكون صاحبها متبعا دين الأنبياء، كما كان المسلمون يرون أن الصلاة لا يرضى عنها الله إلا إذا كانت إلى المسجد الحرام قبلة إبراهيم أبي الأنبياء جميعا.
2. من قبل هذا بين الله في تلكم الآيات أن تولية الوجوه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين، لأنه إنما شرع لتذكير المصلى بأنه يناجى ربه، ويدعوه وحده، ويعرض عن كل ما سواه، وليكون شعارا لاجتماع الأمة على مقصد واحد، فيكون في ذلك تعويدهم الاتفاق في سائر شئونهم وأغراضهم وتوحيد جهودهم.
3. ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ أي ليس توجيه الوجه إلى المشرق والمغرب لذاته نوعا من أنواع البر، فهو في نفسه ليس عملا صالحا، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ أي ولكن البر هو الإيمان وما يتبعه من الأعمال باعتبار اتصاف البارّ بها وقيامه بعملها.
4. فالإيمان بالله أساس البر، ولن يكون كذلك إلا إذا كان متمكنا من النفس مصحوبا بالإذعان والخضوع واطمئنان القلب بحيث لا تبطره نعمة، ولا تؤيسه نقمة، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، والإيمان به يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية، ودعوى الوساطة عند الله، ودعوى التشريع والقول على الله بلا إذنه، فلا يرضى مؤمن أن يكون عبدا ذليلا لأحد من البشر، وإنما يخضع لله وشرعه.
5. والإيمان باليوم الآخر يعلم الإنسان أن له حياة أخرى في عالم غيبي غير هذا العالم، فلا يقصر سعيه وعمله على ما يصلح الجسد، ولا يجعل أكبر همه لذّات الدنيا وشهواتها فحسب.
6. والإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحى والنبوة واليوم الآخر، فمن أنكرها أنكر كل ذلك، لأن ملك الوحى هو الذي يفيض العلم بإذن الله على النبي بأمور الدين كما قال تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ وقال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾
7. والإيمان بالكتب السماوية التي جاء بها الأنبياء يستدعى امتثال ما فيها من أوامر ونواه، إذ من أيقن أن هذا الشيء حسن نافع توجهت نفسه لعمله، ومن اعتقد أنه ضار ابتعد عنه ونفرت نفسه منه.
8. والإيمان بالنبيين يستدعى الاهتداء بهديهم والتخلق بأخلاقهم والتأدب بآدابهم، وقدران الجهل على قلوب كثير من الناس فظنوا أن صياحهم بالأدعية والصلاة على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بمثل ما في كتاب دلائل الخيرات والمدائح الشعرية، مع الجهل بأخلاقه الشريفة، وسيرته الكاملة، والتأسي به إذا دعوا إلى ذلك أو نهوا عن البدع في دينه، والزيادة في شريعته، فيها غناء لهم أيّما غناء، وقد ضلوا ضلالا بعيدا، فقد جاء في الصحيحين (أن جماعة من أمته صلّى الله عليه وآله وسلّم يردون الحوض يوم القيامة فيذادون عنه (يطردون دونه) فيقول أمتي فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فيقول، سحقا لمن بدّل بعدي)
9. ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ أي وأعطى المال مع حبه له الأصناف الآتية من ذوى الحاجة، رحمة بهم وشفقة عليهم وهم:
أ. ذوو القربي المحتاجون، وهم أحق الناس بالبر، إذ المركوز في الفطرة أن الإنسان يألم لفاقة ذوى رحمه وعدمهم أشد مما يألم لغيرهم، فهو يرى أن هوانه بهوانهم وعزه بعزهم، فمن قطع رحمه وامتنع عن مساعدتهم، وهم بائسون وهو في نعمة من الله وفضل، فقد بعد عن الدين والفطرة، وجاء في الحديث الصحيح (صدقتك على المسلمين صدقة، وعلى ذي رحمك اثنتان)، أي لأنها صدقة وصلة رحم.
ب. اليتامى، لأن صغار الفقراء الذين لا والد لهم ولا كاسب، في حاجة إلى معونة ذوى اليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم وتفسد تربيتهم، فيكونوا ضررا على أنفسهم وعلى الناس.
ج. المساكين، الذين أقعدهم العجز عن طلب ما يكفيهم، فيجب على المسلمين أن يساعدوهم ويقدموا لهم المعونة، إذ هم أعضاء من جسم الأمة، ومن مصلحة أفرادها التعاون والتآزر حفظا لكيانها، وإبقاء على بنيانها من التداعي إلى الهدم والزوال.
د. ابن السبيل، وفي أمر الشارع بمواساته وإعانته في سفره ترغيب منه في السياحة والضرب في الأرض.
هـ. السائلون، الذين اضطروا إلى تكفف الناس، لشدة عوزهم.
و. في تحرير الرقاب وعتقها، ويشمل ذلك ابتياع الأرقاء وعتقهم، ومساعدة الأسرى على الافتداء، وإعانة المكاتبين على أداء نجومهم (المكاتب هو الرقيق يشترى نفسه من مولاه بثمن يجعله نجوما (أقساطا)، وفي جعل هذا نوعا من البذل واجبا على المسلمين، دليل على رغبة الشارع في فكّ الرقاب، واعتباره أن الإنسان خلق ليكون حرا إلا في أحوال عارضة تقضى المصلحة العامة فيها أن يكون الأسير رقيقا.
10. البذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين، ولا بامتلاك نصاب محدود من المال ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة، بل هو موكول إلى أريحيّة المعطى وحال المعطى.
11. أغفل الناس أداء هذه الحقوق التي حث عليها الكتاب الكريم، مع ما فيها من التكافل العامّ بين المسلمين، ولو أدوها لكانوا في معايشهم من خير الأمم، ولدخل كثير من الناس في الإسلام، لما يرون فيه من جميل العناية بالفقراء، وأن لهم حقوقا في أموال الأغنياء، فتتوثق الصلة بين الطوائف المختلفة من المسلمين.
12. ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ أي أداها على أقوم وجه، ولا يتحقق ذلك بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فحسب، بل إنما يكون بوجود سرّ الصلاة وروحها، ومن آثاره تحلّى المصلى بالأخلاق الفاضلة، وتباعده من الرذائل، فلا يفعل فاحشة ولا منكرا، كما قال تعالى مبينا فوائدها: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ ولا يكون هلوعا جزوعا إذا مسه الضرّ، ولا بخيلا منوعا إذا ناله الخير كما قال عزّ اسمه: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ كما لا يخشى في الحق لوم اللائمين، ولا يبالى في سبيل الله ما يلقى من الشدائد، ولا بما ينفق من فضله ابتغاء مرضاته.
13. ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ أي أعطى الزكاة المفروضة، وقلما تجيء الصلاة في القرآن الكريم إلا وهى مقترنة بالزكاة؛ ذاك أن الصلاة تهذب الروح، والمال قرين الروح، فبذله ركن عظيم من أعمال البرّ.
14. افتنّ الناس في منعها بما سموه حيلا شرعية، وهى ليست من الشرع في شيء، فكيف يؤكد الله علينا الزكاة ويذكرها في كتابه سبعين مرّة، ثم يرضى أن نحتال عليه ونخادعه في تركها، فلم إذا فرض وأوجب، ورغّب ورهّب؟ وأحرى بمثل هذه الحيل أن تسمى حيلا شيطانية لا حيلا شرعية، لأن فيها احتيالا على الله في إبطال فريضته.
15. بينت السنة العملية والقولية قدر المأخوذ وحددته بمقدار 1/ 40 من رأس المال، وسبيل الأخذ، وسائر أحكام الزكاة.
16. وبعد أن ذكر البر في الأعمال ذكر البر في الأخلاق، فقال: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ أي والذين يوفون بعهودهم إذا عاهدوا عليها، وهذا شامل لما يعاهد عليه الناس بعضهم بعضا، ولما يعاهد عليه المؤمنون ربهم من السمع والطاعة لكل ما جاء به في دينه، ولا يجب الوفاء به إذا كان في معصية، ومثل العهود العقود، فيجب علينا الوفاء بها ما لم تكن مخالفة لقواعد الدين العامة.
17. في الوفاء بالعهود والعقود حفظ كيان المجتمع من أن ينفرط عقده، كما أن الغدر والإخلاف فيها هادم للنظام، مفسد للعمران؛ فما من أمة فقدت الوفاء بالعهد (وهو ركن الأمانة وقوام الصدق) إلا حل بها العقاب الإلهي فانتزعت الثقة من بين أفرادها حتى بين الأهل والعيال، فيعيشون متخاذلين وكأنهم وحوش مفترسة، ينتظر كل واحد وثبة الآخر عليه، إذا أمكن يده أن تصل إليه، ومن ثمّ يضطر أفرادها إلى الاستيثاق في عقودهم بكل ما يقدرون عليه، ويحترس كل منهم من غدر الآخر، فلا يكون هناك تعاون ولا تناصر، بل تباغض وتحاسد، ولا سيما بين الأقارب، ولو شمل الناس الوفاء لسلموا من هذا البلاء.
18. ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ أي والصابرين لدى الفقر والشدة، وعند الضر من مرض وفقد أهل وولد ومال، وفي ميادين القتال، ولدى الضرب والطعان ومنازلة الأقران، وخص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال، لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر؛ فالفقر إذا اشتدت وطأته ضاق به الصدر، وكاد يفضى إلى الكفر، والضرّ إذا برّح بالبدن أضعف الأخلاق والهمم، وفي الحرب التعرض للهلاك بخوض غمرات المنيّة والظفر مقرون بالصبر، وبالصبر يحفظ الحقّ الذي يناضل صاحبه دونه، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الفرار من الزّحف من أكبر الكبائر.
19. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في دعواهم الإيمان، دون الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ أي وأولئك هم الذين جعلوا بينهم وبين سخط الله وقاية، بالبعد عن المعاصي التي توجب خذلان الله في الدنيا، وعذابه في الآخرة، وقال بعض العلماء: من عمل بهذه الآية فقد كمل إيمانه، ونال أقصى مراتب إيقانه.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/54.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. وأخيرا وفي آية واحدة يضع قواعد التصور الإيماني الصحيح، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح، ويحدد صفة الصادقين المتقين: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾.. والراجح أن هناك صلة بين هذا البيان وبين تحويل القبلة وما ثار حوله من جدل طويل، ولقد سبق الكلام عن حكمة تحويل القبلة، فالآن يصل السياق إلى تقرير الحقيقة الكبرى حول هذه القضية وحول سائر القضايا الجدلية التي يثيرها اليهود حول شكليات الشعائر والعبادات، وكثيرا ما كانوا يثيرون الجدل حول هذه الأمور.
2. إنه ليس القصد من تحويل القبلة، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق، أن يولي الناس وجوههم قبل المشرق والمغرب.. نحو بيت المقدس أو نحو المسجد الحرام.. وليست غاية البر ـ وهو الخير جملة ـ هي تلك الشعائر الظاهرة، فهي في ذاتها ـ مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك ـ لا تحقق البر، ولا تنشئ الخير.. إنما البر تصور وشعور وأعمال وسلوك، تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة؛ وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة، ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب.. سواء في التوجه إلى القبلة هذه أم تلك؛ أو في التسليم من الصلاة يمينا وشمالا، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر.
3. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾.. الآية، ذلك هو البر الذي هو جماع الخير.. فماذا في تلك الصفات من قيم تجعل لها هذا الوزن في ميزان الله؟ ما قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين؟
4. إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى، وشتى الأشياء، وشتى الاعتبارات.. إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد؛ ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار.. وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام، ومن التيه إلى القصد، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه، فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد، لا تعرف لها قصدا مستقيما ولا غاية مطردة، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة، كما يتجمع الوجود كله، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات..
5. الإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء؛ وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان، وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء.
6. والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان، الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه..
7. والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعا وبالرسل أجمعين، وهو الإيمان بوحدة البشرية، ووحدة إلهها، ووحدة دينها، ووحدة منهجها الإلهي.. ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات.
8. ما قيمة إيتاء المال ـ على حبه والاعتزاز به ـ لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب؟ إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة، انعتاق الروح من حب المال الذي يقبض الأيدي عن الإنفاق، ويقبض النفوس عن الأريحية، ويقبض الأرواح عن الانطلاق، فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال، وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال، لا في الرخيص منه ولا الخبيث، فيتحرر من عبودية المال، هذه العبودية التي تستذل النفوس، وتنكس الرؤوس، ويتحرر من الحرص، والحرص يذل أعناق الرجال، وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام، الذي يحاول دائما تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها، يقينا منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات!.. ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة:
أ. هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس، وكرامة الأسرة، ووشائج القربى، والأسرة هي النواة الأولى للجماعة.
ب. ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم.. وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة، وبين الأقوياء فيها والضعفاء؛ وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين؛ وحماية للأمة من تشرد صغارها، وتعرضهم للفساد، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم برا ولا رعاية.
ج. وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون ـ وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضنا بماء وجوههم ـ احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم، وصيانة لهم من البوار، وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة، التي لا يهمل فيها فرد، ولا يضيع فيها عضو.
د. وهي لابن السبيل ـ المنقطع عن ماله وأهله ـ واجب للنجدة في ساعة العسرة، وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار؛ وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل، وبأن الأرض كلها وطن، يلقى فيها أهلا بأهل، ومالا بمال، وصلة بصلة، وقرارا بقرار.
هـ. وهي للسائلين إسعاف لعوزهم، وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام، وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملا، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل، وأن يقنع ولا يسأل، فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال.
و. وهي في الرقاب إعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام ـ حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة، ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه، والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية، ويطلب مكاتبته عليها ـ أي أداء مبلغ من المال في سبيلها، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له، ويصبح مستحقا في مصارف الزكاة، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة.. كل أولئك ليسارع في فك رقبته، واسترداد حريته..
9. وإقامة الصلاة؟ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير؟ إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب، إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه، ظاهرا وباطنا، جسما وعقلا وروحا، إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم، وليست مجرد توجه صوفي بالروح، فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة، إن الإسلام يعترف بالإنسان جسما وعقلا وروحا في كيان؛ ولا يفترض أن هناك تعارضا بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح، لأن هذا الكبت ليس ضروريا لانطلاق الروح، ومن ثم يجعل عبادته الكبرى.. الصلاة، مظهرا لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعا في ترابط واتساق، يجعلها قياما وركوعا وسجودا تحقيقا لحركة الجسد، ويجعلها قراءة وتدبرا وتفكيرا في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل؛ ويجعلها توجها واستسلاما لله تحقيقا لنشاط الروح.. كلها في آن.. وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة.. في كل ركعة وفي كل صلاة.
10. وإيتاء الزكاة؟.. إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقا في أموال الأغنياء للفقراء، بحكم أنه هو صاحب المال، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه، من شروطه إيتاء الزكاة، وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال ـ على حبه ـ لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق؛ مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة، وليست الزكاة بديلة منه.. وإنما الزكاة ضريبة مفروضة، والإنفاق تطوع طليق.. والبر لا يتم إلا بهذه وتلك، وكلتاهما من مقومات الإسلام، وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق، ولا تغني هي عن الإنفاق.
11. والوفاء بالعهد؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها، ويكررها القرآن كثيرا؛ ويعدها آية الإيمان، وآية الآدمية وآية الإحسان، وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول، تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله، وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعا قلقا لا يركن إلى وعد، ولا يطمئن إلى عهد، ولا يثق بإنسان، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام.
12. والصبر في البأساء والضراء وحين البأس؟.. إنها تربية للنفوس وإعداد، كيلا تطير شعاعا مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة، ولا تنهار جزعا أمام الشدة، إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسرا، إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله، ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية، والعدل في الأرض والصلاح، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة، الصبر في البؤس والفقر، والصبر في المرض والضعف، والصبر في القلة والنقص، والصبر في الجهاد والحصار، والصبر على كل حال، كي تنهض بواجبها الضخم، وتؤدي دورها المرسوم، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال.
13.، ويبرز السياق هذه الصفة.. صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.. يبرزها بإعطاء كلمة ﴿الصَّابِرِينَ﴾ وصفا في العبارة يدل على الاختصاص، فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير: (وأخص الصابرين).. وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر.. لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال ـ على حبه ـ وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد.. وهو مقام للصابرين عظيم، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله، يلفت الأنظار.
14. وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد، وتكاليف النفس والمال، وتجعلها كلا لا يتجزأ، ووحدة لا تنفصم، وتضع على هذا كله عنوانا واحدا هو ﴿الْبِرُّ﴾أو هو (جماع الخير) أو هو (الإيمان) كما ورد في بعض الأثر، والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادئ المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام، ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.. أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم، صدقوا في إيمانهم واعتقادهم، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة، وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق.
15. وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد الله أن يرفع الناس إليها، بمنهجه الرفيع القويم.. ثم ننظر إلى الناس وهم ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه، ويحاربونه، ويرصدون له العداوة، ولكل من يدعوهم إليه.. ونقلب أيادينا في أسف، ونقول ما قال الله سبحانه: يا حسرة على العباد! ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة، على أمل في الله وثيق، وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع، ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل، أمل وضيء منير، أن لا بد لهذه البشرية من أن تفيء ـ بعد العناء الطويل ـ إلى هذا المنهج الرفيع، وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/159.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. يحسب علماء أهل الكتاب أن مراسيم العبادات وصورها وأشكالها التي يقفون عندها، بحيث لا تنفذ آثارها إلى باطنهم، ولا تؤثر في سلوكهم ـ يحسبون أن ذلك هو غاية الدين، ومقصد الشرع، فنعى الله عليهم ذلك، وكشف سوء فهمهم للدين، وقصر نظرهم إلى الشرع.. فالدين معتقد وعمل، وعبادة وسلوك، وغرس وثمر!
2. فى الآية الكريمة أكثر من نظر: ففي قوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ وهو معطوف على ما قبله.. وكان سياق النظم يقضى أن يكون: و(الأرقاء) أو نحو هذا، حيث أن المال المدعوّ إلى بذله، إنما يبذل لذوى القربى واليتامى، والمساكين وابن السبيل والسائلين، أي أنه يقدم لأيد محتاجة إليه، ولأشخاص يسدون به حاجاتهم، وهو مع الأرقاء لفك رقابهم، ولكن لما كان الرقيق يمكن أن تفك رقبته من غير أن يأخذ هو المال في يده، بأن يشترى من مالكه ثم يعتق بيد شاريه، أو يكون ملكا بشراء أو بغير شراء ثم يعتقه مالكه ـ فعتقه هنا إنما هو بذل المال، وإن لم يكن مقبوضا، ولهذا كان لفظ القرآن هو اللفظ الذي لا لفظ غيره في هذا المقام: ﴿وفى الرقاب﴾ أي وإنفاق المال في فك الرقاب، وتخليص الأرقاء وتحريرهم.
3. فى قوله تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ عطف جملة على جملة، حيث عطف الفعل ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ على قوله تعالى: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ أي البرّ: من آمن بالله.. وأقام الصلاة وآتى الزكاة!
4. إيتاء الزكاة، بعد بذل المال على ذوى القربى واليتامى والمساكين والسائلين وفى الرقابـ هو فرض واجب، على حين أن البذل المدعوّ إليه قبل ذلك، هو من قبيل التطوع الذي لا تسقط به فريضة الزكاة!.
5. قوله تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ﴾ معطوف على (من آمن) أي البر هو آمن بالله واليوم الآخر، و.. و.. والموفون بعهدهم إذا عاهدوا أي والذين أوفوا بعهدهم إذا عاهدوا.
6. قوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ قطع للصابرين عما قبلها، منصوبة على الاختصاص، إظهارا لفضل الصبر، وأنه ملاك كل أمر، كما بينا ذلك من قبل.. إذ لا وفاء بتكليف إلا مع عزيمة، ولا عزيمة إلا مع الصبر، وبالصبر.
7. والبأساء: الحاجة والفقر، والضراء: ما يصيب الإنسان في ماله أو نفسه، أو أهله، وحين البأس: أي حين الحرب والقتال.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/193.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قدّمنا عند قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 153] أن قوله: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ متصل بقوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142]، وأنه ختام للمحاجة في شأن تحويل القبلة، وأن ما بين هذا وذلك كله اعتراض أطنب فيه وأطيل لأخذ معانيه بعضها بحجز بعض.
2. هذا إقبال على خطاب المؤمنين بمناسبة ذكر أحوال أهل الكتاب وحسدهم المؤمنين على اتّباع الإسلام مراد منه تلقين المسلمين الحجة على أهل الكتاب في تهويلهم على المسلمين إبطال القبلة التي كانوا يصلّون إليها، ففي ذلك تعريض بأهل الكتاب، فأهل الكتاب رأوا أن المسلمين كانوا على شيء من البر باستقبالهم قبلتهم فلما تحولوا عنها لمزوهم بأنهم أضاعوا أمرا من أمور البر، يقول عدّ عن هذا وأعرضوا عن تهويل الواهنين وهبوا أنّ قبلة الصلاة تغيرت أو كانت الصلاة بلا قبلة أصلا، فهل ذلك أمر له أثر في تزكية النفوس واتصافها بالبر، فذكر المشرق والمغرب اقتصار على أشهر الجهات أو هو للإشارة إلى قبلة اليهود وقبلة النصارى لإبطال تهويل الفريقين على المسلمين حين استقبلوا الكعبة، ومنهم من جعله لكل من يسمع الخطاب.
3. البرّ سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل، ولذلك توصف به الأفعال القوية الإحسان فيقال: بر الوالدين وبر الحج وقال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92]، والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره.
4. نفي البر عن استقبال الجهات مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة:
أ. إما لأنه من الوسائل لا من المقاصد فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين ولذلك أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان وصلوات النوافل على الدابة في السفر، ولذلك قال ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ إلخ فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة وفيه جماع صلاح النفس والجماعة، ونظير هذا قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾ [التوبة: 19] الآيات فيكون النفي على معنى نفي الكمال.
ب. وإمّا لأن المنفي عنه البرّ هو استقبال قبلتي اليهود والنصارى، فقد تقدم لنا أن ذلك الاستقبال غير مشروع في أصل دينهم، ولكنه شيء استحسنه أنبياؤهم ورهبانهم، ولذلك نفي البر عن تولية المشرق والمغرب تنبيها على ذلك.
5. قرأ الجمهور ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ برفع ﴿الْبِرُّ﴾ على أنه اسم ﴿لَيْسَ﴾ والخبر هو ﴿أَنْ تُوَلُّوا﴾ وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بنصب ﴿الْبِرُّ﴾على أن قوله: ﴿أَنْ تُوَلُّوا﴾ اسم ﴿لَيْسَ﴾ مؤخر، ويكثر في كلام العرب تقديم الخبر على الاسم في باب كان وأخواتها إذا كان أحد معمولي هذا الباب مركبا من أن المصدرية وفعلها كان المتكلم بالخيار في المعمول الآخر بين أن يرفعه وأن ينصبه وشأن اسم ﴿لَيْسَ﴾ أن يكون هو الجدير بكونه مبتدأ به، فوجه قراءة رفع ﴿الْبِرُّ﴾أن البر أمر مشهور معروف لأهل الأديان مرغوب للجميع فإذا جعل مبتدأ في حالة النفي أصغت الأسماع إلى الخبر، وأما توجيه قراءة النصب فلأن أمر استقبال القبلة هو الشغل الشاغل لهم فإذا ذكر خبره قبله ترقب السامع المبتدأ فإذا سمعه تقرر في علمه.
6. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ إخبار عن المصدر باسم الذّات للمبالغة كعكسه في قولها: (فإنما هي إقبال وإدبار) وذلك كثير في الكلام ومنه قوله تعالى: ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ [الملك: 30] وقول النابغة:
çوقد خفت ما تزيد مخافتي...على وعل في ذي المطارة عاقلé
أي وعل هو مخافة أي خائف، ومن قدر في مثله مضافا أي برّ من آمن أو ولكن ذو البر فإنما عنى بيان المعنى لا أن هنالك مقدارا؛ لأنه يخرج الكلام عن البلاغة إلى كلام مغول كما قال التفتازاني، وعن المبرد: لو كنت ممن يقرأ لقرأت ولكن البر بفتح الباء، وكأنه أراد الاستغناء عن التقدير في الإخبار عن البر بجملة: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ لأن من آمن هو البار لا نفس البر وكيف يقرأ كذلك و﴿الْبِرُّ﴾معطوف بلكن في مقابلة البر المثبت فهل يكون إلّا عينه ولذا لم يقرأ أحد إلّا البر بكسر الباء، على أن القراءات مروية وليست اختيارا ولعل هذا لا يصح عن المبرد، وقرأ نافع وابن عامر (ولكن البر) بتخفيف النون من لكن ورفع البر على الابتداء وقرأه بقية العشرة بتشديد نون (لكن) ونصب (البر) والمعنى واحد.
7. تعريف ﴿وَالْكِتَابَ﴾ تعريف الجنس المفيد للاستغراق أي آمن بكتب الله مثل التوراة والإنجيل والقرآن، ووجه التعبير بصيغة المفرد أنها أخف مع عدم التباس التعريف بأن يكون للعهد؛ لأن عطف (النبيين) على (الكتاب) قرينة على أن اللام في (الكتاب) للاستغراق فأوثرت صيغة المفرد طلبا لخفة اللفظ، وما يظن من أن استغراق المفرد المعرف باللام أشمل من استغراق الجمع المعرف بها ليس جاريا على الاستعمال وإنما توهمه السكاكي في (المفتاح) في قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: 4] من كلام وقع في (الكشاف) وما نقل عن ابن عباس أنه قرأ قوله تعالى: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ﴾ [البقرة: 285]، وقال الكتاب أكثر من الكتب فلو صحّ عنه لم يكن مريدا به توجيه قراءته (وكتابه) المعرف بالإضافة بل عنى به الأسماء المنفية بلا التبرئة تفرقة بين نحو لا رجل في الدار ونحو لا رجال في الدار في تطرق احتمال نفي جنس الجموع لا جنس الأفراد على ما فيه من البحث فلا ينبغي التعلّق بتلك الكلمة ولا يصح التعلق بما ذكره صاحب (المفتاح)
8. الذي ينبغي اعتماده أن استغراق المفرد والجمع في المعرف باللام وفي المنفي بلا التبرئة سواء وإنما يختلف تعبير أهل اللسان مرة بصيغة الإفراد ومرة بصيغة الجمع تبعا لحكاية الصورة المستحضرة في ذهن المتكلم والمناسبة لمقام الكلام، فأما في المنفي بلا النافية للجنس فلك أن تقول لا رجل في الدار ولا رجال في الدار على السواء إلّا إذا رجح أحد التعبيرين مرجّح لفظي، وأما في المعرف باللام أو الإضافة فكذلك في صحة التعبير بالمفرد والجمع سوى أنه قد يتوهم احتمال إرادة العهد وذلك يعرض للمفرد والجمع ويندفع بالقرائن.
9. على في قوله: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ مجاز في التمكن من حب المال مثل ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى﴾ [البقرة: 5] وهي في مثل هذا المقام للتنبيه على أبعد الأحوال من مظنة الوصف فلذلك تفيد مفاد كلمة مع وتدل على معنى الاحتراس كما هي في قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا﴾ [الإنسان: 8] وقول زهير:
çمن يلق يوما على علّاته هرما...يلق السماحة فيه والنّدى خلقاé
قال الأعلم في (شرحه) أي فكيف به وهو على غير تلك الحالة.. وليس هذا معنى مستقلا من معاني على بل هو استعلاء مجازي أريد به تحقق ثبوت مدلول مدخولها لمعمول متعلقها، لأنه لبعد وقوعه يحتاج إلى التحقيق، والضمير للمال لا محالة والمراد أنه يعطي المال مع حبه للمال وعدم زهادته فيه فيدل على أنه إنما يعطيه مرضاة لله تعالى ولذلك كان فعله هذا برا.
10. ذكر الله تعالى أصنافا ممن يؤتون المال لأن إتيانهم المال ينجم عنه خيرات ومصالح:
أ. فذكر ذوي القربى أي أصحاب قرابة المعطي فاللام في (القربى) عوض عن المضاف إليه، أمر المرء بالإحسان إليهم لأن مواساتهم تكسبهم محبتهم إياه والتئامهم وهذا التئام القبائل الذي أراده الله بقوله: ﴿لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13] فليس مقيّدا بوصف فقرهم كما فسر به بعض المفسرين، بل ذلك شامل للهدية لأغنيائهم، وشامل للتوسعة على المتضايقين وترفيه عيشتهم، إذ المقصود هو التحابب.
ب. ثم ذكر اليتامى وهم مظنة الضعف لظهور أن المراد اليتيم المحتاج حاجة دون الفقر، وإنما هو فاقد ما كان ينيله أبوه من رفاهية عيش، فإيتاؤهم المال يجبر صدع حياتهم.
ج. وذكر السائلين وهم الفقراء، والمسكنة: الذال مشتقة من السكون ووزن مسكني مفعيل للمبالغة مثل منطيق، والمسكين الفقير الذي أذله الفقر وقد اتفق أئمة اللغة أن المسكين غير الفقير هو أقل فقرا من الفقير وقيل هو أشد فقرا وهذا قول الجمهور وقد يطلق أحدهما في موضع الآخر إذا لم يجتمعا وقد اجتمع في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: 60] ونظيرها في ذكر هؤلاء الأربعة قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: 215]
د. وذكر السائلين وهم الفقراء كنى عنهم بالسائلين لأن شأن المرء أن تمنع نفسه من أن يسأل الناس لغير حاجة غالبا، فالسؤال علامة الحاجة غالبا، ولو أدخل الشك في العلامات الاعتيادية لارتفعت الأحكام فلو تحقق غنى السائل لما شرع إعطاؤه لمجرد سؤاله، ورووا: (للسائل حق ولو جاء راكبا على فرس)، وهو ضعيف.
هـ. وذكر ابن السبيل وهو الغريب أعني الضيف في البوادي؛ إذ لم يكن في القبائل نزل أو خانات أو فنادق ولم يكن السائر يستصحب معه المال وإنما يحمل زاد يومه ولذلك كان حق الضيافة فرضا على المسلمين أي في البوادي ونحوها، وذكر الرقاب والمراد فداء الأسرى وعتق العبيد، ثم ذكر الزكاة وهي حق المال لأجل الغنى ومصارفها مذكورة في آياتها.
11. ذكر الله تعالى الوفاء بالعهد لما فيه من الثقة بالمعاهد ومن كرم النفس وكون الجد والحق لها دربة وسجية، وإنما قيد بالظرف وهو ﴿إِذَا عَاهَدُوا﴾، أي وقت حصول العهد، فلا يتأخر وفاؤهم طرفة عين، وفيه تنبيه على وجوب الاحتياط عند بذل العهد بحيث لا يعاهد حتى يتحقق أنه يستطيع الوفاء كأنه يقول: فإن علموا ألا يفوا فلا يعاهدوا، وعطف ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ على ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ وغير أسلوب الوصف فلم يقل ومن أوفى بعهده للدلالة على مغايرة الوصفين بأن الأول من علائق حق الله تعالى وأصول الدين و الثاني من حقوق العباد.
12. ذكر الله تعالى الصابرين في البأساء لما في الصبر من الخصائص التي ذكرناها عند قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 45] ثم ذكر مواقعه التي لا يعدوها وهي حالة الشدة، وحالة الضر، وحالة القتال، فالبأساء والضراء اسمان على وزن فعلاء، وليسا وصفين إذ لم يسمع لهما أفعل مذكّرا، والبأساء مشتقة من البؤس وهو سوء الحالة من فقر ونحوه من المكروه، قال الراغب: وقد غلب في الفقر ومنه البئيس الفقير، فالبأساء الشدة في المال، والضراء شدة الحال على الإنسان مشتقة من الضّرّ ويقابلها السّرّاء وهي ما يسرّ الإنسان من أحواله، والبأس النكاية والشدة في الحرب ونحوها كالخصومة ﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [النمل: 33]، ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ [الحشر: 14] والشر أيضا بأس والمراد به هنا الحرب، فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم.
13. جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشئ عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال، فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية، لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة ويبذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحرارا، والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض، والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة ولذلك قال تعالى هنا: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ فحصر فيهم الصدق والتقوى حصرا ادعائيا للمبالغة.
14. دلت الآية الكريمة على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم، لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيئين، ولأنهم حرموا كثيرا من الناس حقوقهم، ولم يفوا بالعهد، ولم يصبروا، وفيها أيضا تعريض بالمشركين إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر، والنبيئين، والكتب وسلبوا اليتامى أموالهم، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة.
15. نصب ﴿الصَّابِرِينَ﴾ وهو معطوف على مرفوعات نصب على الاختصاص على ما هو المتعارف في كلام العرب في عطف النعوت من تخيير المتكلم بين الاتباع في الإعراب للمعطوف عليه وبين القطع قاله الرضي، والقطع يكون بنصب ما حقه أن يكون مرفوعا أو مجرورا وبرفع ما هو بعكسه ليظهر قصد المتكلم القطع حين يختلف الإعراب؛ إذ لا يعرف أن المتكلم قصد القطع إلّا بمخالفة الإعراب، فأما النصب فبتقدير فعل مدح أو ذم بحسب المقام، والأظهر تقدير فعل أخص لأنه يفيد المدح بين الممدوحين والذم بين المذمومين، وقد حصل بنصب (الصابرين) هنا فائدتان:
أ. إحداهما عامة في كل قطع من النعوت، فقد نقل عن أبي علي الفارسي أنه إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف إعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا من مواضع الإطناب فإذا خولف إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان، قال في (الكشاف) (نصب على المدح وهو باب واسع كسّره سيبويه على أمثلة وشواهد)، قال سيبويه في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح (وإن شئت جعلته صفة فجري على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته، مثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إلى قوله ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ ولو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيدا، ولو ابتدأته فرفعته على الابتداء كان جيدا، ونظير هذا النصب قول الخرنق:
çلا يبعدن قومي الذين همو...سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك...والطيّبون معاقد الأزرé
بنصب النازلين، ثم قال: وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدّث الناس ولا من تخاطب بأمر جهلوه ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت فجعلته ثناء وتعظيما ونصبه على الفعل كأنه قال أذكر أهل ذلك وأذكر المقيمين ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره)، ويؤيد هذا الوجه أنه تكرر مثله في نظائر هذه الآية في سورة النساء ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ [النساء: 162] عطفا على ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [النساء: 162]، وفي سورة العقود ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ [المائدة: 69] عطفا على ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ [المائدة: 69]
ب. الثانية أن في نصب ﴿الصَّابِرِينَ﴾ بتقدير أخص أو أمدح تنبيها على خصيصية الصابرين ومزية صفتهم التي هي الصبر، قال في (الكشاف): (ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان)، إن تكرره كما ذكرنا وتقارب الكلمات يربأ به على أن يكون خطأ أو سهوا وهو بين كلمتين مخالفتين إعرابه.
16. وعن الكسائي أن نصبه عطف على مفاعيل ﴿أَتَى﴾ أي وآتى المال الصابرين أي الفقراء المتعففين عن المسألة حين تصيبهم البأساء والضراء والصابرين حين البأس وهم الذين لا يجدون ما ينفقون للغزو ويحبون أن يغزوا، لأن فيهم غناء عن المسلمين قال تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 92]، وعن بعض المتأولين أن نصب ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ وقع خطأ من كتاب المصاحف وأنه مما أراده عثمان فيما نقل عنه أنّه قال بعد أن قرأ المصحف الذي كتبوه: (إنّي أجد به لحنا ستقيمه العرب بألسنتها) وهذا متقوّل على عثمان ولو صح لكان يريد باللحن ما في رسم المصاحف من إشارات مثل كتابة الألف في صورة الياء إشارة إلى الإمالة ولم يكن اللحن يطلق على الخطأ.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/127.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان أمر تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام أمر هذه النفوس المؤمنة، والنفوس المشركة والكتابية وأثار جدلا وحماسة، فالمؤمنون تقبلوها بقبول حسن، لأنها بناء إبراهيم، وهو الذي سماهم مسلمين، وهو الحرم الآمن الذي جعله الله تعالى للناس مثابة وأمنا، وهو مزار العرب إليه يحجون ويعتمرون من وقت أن بناه إبراهيم عليه السلام، وهو عزهم، وأما المشركون من العرب فقد ظنوا أن محمدا عاد أو سيعود إليهم وما علموا أن ذلك إيذان بذهاب دولة الأوثان، وإزالتها من حول الكعبة، وأما اليهود فقد أذهب أطماعهم في النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، وعلموا أنه هو النبيّ الأمي الذي بشر به في التوراة يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وقد صدقهم الله تعالى، إن هذا الأمر الذي يشغلهم جميعا، إنه الأمر الأعظم، وهو مقصد الأديان كلها، وغاياتها، وهو الذي يهذب النفوس، والمجتمعات ويربيها ويقيمها على التعاون على البر والتقوى ويحميها ويدفع عنها وهو نسب الأديان كلها؛ ولذا قال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾
2. ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ أي ليس هذا هو البر المقصود الجامع لكل معانى الخير، الذي حرص الدين عليه حرصا كاملا، بل هو إلى الشكل أقرب، أو هو الوسيلة وما يكون من الأمة هو الغاية العليا من كل دين جاء من الله تعالى لهداية البشر، وتوجيههم نحو الصلاح الإنساني آحاد وجماعات؛ صلاحا يمس نفوسهم ويملأ قلوبهم إيمانا، وليس في العبارة السامية ما يومئ إلى الاستهانة بأمر القبلة، بل إن فيها توجيها إلى الناحية التهذيبية والكمالية للإنسان في آحاده، وجماعاته؛ ولذا قال تعالى مستدركا مثبتا: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ﴾
3. ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ الكلام فيها على تقدير مضاف ومعناه، ولكن البر بر من آمن بالله واليوم الآخر.. وحذف المضاف إذا دل عليه المضاف إليه كثير في القرآن وهو من إيجاز الحذف البليغ كقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ [يوسف] أي أهل القرية، وكقوله تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ [العلق] أي فليدع أهل ناديه.
4. ذلك الإيجاز من دلائل الإعجاز، وإننا نرى أن حذف المضاف أو عدم تقديره يعلو بالكلام إلى أعلى درجات البيان، إن الكلام يكون دالا على البر بمفهوم الحال المكونة من الكلام كله، فيكون المعنى ليس البر المقصود من الديانات الإلهية أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر المقصود وهو الغاية من الديانات الإلهية هو الحال التي يكون عليها من آمن بالله واليوم الآخر.. وآتى المال على حبه ذوى القربى إلى آخر ما بينته الآيات، فهذه الحال المجتمعة من تلك الصفات، وهذه الأعمال المهذبة المربية لمجتمع فاضل هي البر، وعلى ذلك لا تحتاج إلى تقدير، والبر كما يقول المفسرون هو المعنى الجامع لكل ما فيه نفع للنفس وللناس، وإني أراه مرادفا في العرف الخلقي.
5. ذكر الله تعالى صنوف البر كلها في هذه الآية الكريمة، وكانت بحق آية البر؛ لأنها جمعت أطرافه، ونواحيه كلها، وهى من أجمع الآيات للتكليفات.
6. أول البر وسنامه وأصله الإيمان، وهو التصديق والإذعان، وأول من يجب الإيمان به الله، فالإيمان به هو لب الإيمان كله، وهو الخضوع والإذعان والعبادة له وحده لا شريك له، وامتلاء النفس بذكره، بحيث لا تذكر غيره في الغدو والآصال، وفى الصحو، وفى المنام، ومن الإيمان بالله تعالى الإيمان بأنه وحده الخالق للوجود، والإيمان بأنه وحده الموصوف بصفات الكمال، والإيمان بأنه وحده المستحق للعبادة، فليس في الوجود من يستحق العبادة سواه.
7. ثم يلى الإيمان باليوم بالله الإيمان باليوم الآخر، ويشمل الإيمان بالبعث والنشور، والإيمان بيوم القيامة، وما يجرى فيه من حساب وعقاب وثواب، وأن من أحسن فله النعيم المقيم، ورضوان من الله أكبر، وأن من خالف وغير وبدل فجزاؤه جهنم، وبئس المصير، وإن ذلك كله مادى حسى، وليس روحيا كما توهم بعض الكاتبين، وكان الإيمان باليوم الآخر تاليا للإيمان بالله تعالى؛ لأنه تصديق لما أمر الله به، ولأنه سلوان المحسن العابد وإنذار للمشرك المكذب، والمعاند المستكبر الجاحد، وقد تبين له الحق.
8. ثم يلى الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالملائكة الأخيار الأطهار الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهو إيمان بالغيب الذي لا يرى ولا يحس، وأول شعار المؤمن الإيمان، وهو الفيصل بين المسلم والزنديق، فالزنديق أو الملحد في دين الله تعالى لا يؤمن إلا بالمحسوس، ولا يصدق ما لا يرى ويحس، والمؤمن يعلم أن وراء المحسوس سرا خفيا، وقد أمرنا الله تعالى بالإيمان فحق علينا أن نؤمن بوجودهم، وهم مذكورون في كتابه الكريم، وفى الكتب التي صدقها، فالكفر بهم كفر بالله وبالقرآن، وذكر الله بعد ذلك الإيمان بالكتاب، وهو القرآن الكريم، والإيمان تصديق بكل ما جاء به ويدخل في ذلك الإيمان بالكتب السابقة؛ لأنه سجلها في قصصه، فهو سجل النبوة كله، فيه ذكر كتبها، وفيه بيان معجزات النبيين، فلولا قصصه الحكم الصادق ما عرف كتاب من كتب النبيين، ولا معجزة من معجزاتهم.
9. وذكر سبحانه وجوب الإيمان بالنبيين السابقين؛ لأن الإيمان الذي جاء به القرآن هو الإيمان الجامع بالنبوات الإلهية كلها، كما قال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة]
10. هذا هو الإيمان الذي أمر به الله تعالى، وكانت حال المتصف به والقائم بما يأتي من تكليف، وأعمال، هي البر المطلق من الإنسان في كل دين.
11. لننتقل إلى بيان الأعمال التي هي بر في ذاتها، وحال القائم بها هي البر الخالص التي تأمر به كل الأديان التي جاءت من الله لا من أوهام البشر: في حال من آتى المال على حبه، ولقد قال تعالى فيه، ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ أي أعطى المال على حبه له فالضمير يعود إلى المال، والمعنى على حبه للمال ورغبته في اقتنائه، ولكنه آثر العطاء وعلى هذا السبب وذلك كقوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [الإنسان]، وكقوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران]، ويفسر هذا ما رواه البخاري عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل: أي الصدقة أعظم أجرا، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان)، وقد فسر بعضهم بأن الضمير يعود على الإيتاء وهو المصدر المنسبك من آتى، والمعنى أعطى المال محبا للإعطاء راغبا فيه راضي النفس، طيبا بالعطاء، راغبا في رضاء الله به، وبذلك يجتمع له قربتان قربة العطاء في نفسه، وقربة الاتجاه إلى إرضاء ربه، وهو في مؤداه لا يختلف عن التقدير الأول، وإن كان الأول يدل على مجاهدة النفس في العطاء بين ما يحبه ويشح به، بين إرضاء الله بالعطاء فيؤثر إرضاء الله تعالى على شح نفسه، فتكون قربة العطاء، وقربة المجاهدة حتى يكون مطيعا لله تعالى متقربا إليه، طالبا رضاه، وهو الغنى الحميد.
12. ذكرت الآية الكريمة من يخصهم بعطائه، أو من يؤثرهم بهذا العطاء، ويبدو من الذكر ومعناه في العطاء وأن بعضهم يفضل في العطاء على بعض إن لم يتسع ماله لهم أجمعين:
أ. ذوو القربى؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ وهم قراباته، ويفضل الأقرب فالأقرب ويبدأ بالوالدين، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ردا على من سأله من أحق الناس بحسن صحبتي: (أمك) كررها ثلاث مرات مع تكرار السؤال، ثم قال ثم من؟ قال (أبوك، ثم الأقرب فالأقرب)، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه النسائي: (إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة)، ولأن الإسلام أقام على دعامة الأسر المتحابة المتعاونة المتكاتفة، والأسرة مقصورة على الأبوين و الأولاد، بل هي ممتدة إلى أن تشمل الأقارب؛ ولذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أراد منكم أن يبارك له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)، ولقد عد من ذوى القربى الزوج إذا كان فقيرا، فقد سألت امرأة عبد الله بن مسعود النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أيعد إعطاء زوجها صدقة؟، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (نعم)
ب. والذين يلون أولى القربى في العطاء اليتامى، سواء أكانوا من ذوى القربى أم لم يكونوا، وإذا كانوا من ذوى القربى يكونون أولى من غيرهم من الأقارب إلا الأبوين، واليتيم هو الذي مات أبوه، وهو صغير، ورعاية اليتيم مما حرض عليه الإسلام في عدة أحاديث، وأوصى القرآن بهذه الرعاية في عدة من آي القرآن، وأنه يجب ألا يذل ولا يقهر؛ ذلك لأن اليتيم إن أهمل كان عضوا هداما في المجتمع، إذ يخرج إلى الحياة ناقما عليها متمردا لا يألف ولا يؤلف، إذ إن تربية النزوع إلى الألفة تكون من الأبوين، ومن الشعور بالرحمة والحياطة والعناية وخصوصا من الأب الحاني الرفيق الحاني العطوف، فإذا حرم من ذلك فقد يتربى على النفور وعداوة المجتمع إن لم يجد من يحل محله في إلفه ومودته وحياطته؛ ولذا نهى الإسلام عن قهر اليتيم، حتى لا يتربى فيه نزوع النفور، فقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم) وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلىّ وعلىّ) وهو اليتيم.
ج. والمرتبة التي تلى اليتيم في العطاء، هو المسكين وهو من أسكنته الحاجة، وهذا يشمل الزّمن أي المريض بمرض مع الفقر، وعدم القدرة على العمل، ويشمل أولئك الفقراء الذين لا يملكون شيئا، ويتعففون عن أن يسألوا الناس، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك (ليس المسكين هو الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه) وهو الذي ينطبق عليه قول الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ [البقرة]
د. والذى يلى المساكين ابن السبيل وهو الذي انقطع عن ماله، وصار في مكان لا يجد فيه ما يمده بأسباب الحياة من طعام يطعمه، أو مال ينفقه أو مأوى يأوي إليه؛ ولذلك أطلق عليه ابن السبيل؛ لأنه انقطع إلا عن السبيل الذي يسير فيه، وإن إيتاء المال لهذا يكون بإعطائه ما يسعفه من قوت، وبإيوائه حتى يئوب، وإعطائه قدرا يصل به إلى بلده، ويصح أن يسهم في إنشاء مضيف يأوي إليه أبناء السبيل الذين ينقطع بهم الطريق، ولا يجدون مأوى، ولقد قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، ومحمد الباقر: إن ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين، وهو لتعبير جدير ببنى هاشم الأكرمين، فقد سماه ضيفا يجب إكرامه.
هـ. ويلى ابن السبيل في المرتبة التي تؤتى المال على حبه فيها السائلون وهم الذين يسألون ما يقوتهم من طعام أو مال يشترون به قوتهم، وهم لهم حق على كل مسلم له غنى أو فضل مال، وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُوم ٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج] وقد روى أحمد عن الإمام الحسين أحد السبطين و الثاني لسيدي شباب أهل الجنة، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (للسائل حق وإن جاء على فرس)، إنه لا يرتكب مذلة السؤال إلا عن حاجة، ومن اللؤم أن تسأله عن مقدار حاجته، هذا ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد كان هناك بيت مال يسد حاجة كل محتاج، ويبحث عن المحاويج ليعطيهم ما يغنيهم عن السؤال، وكيف تكون الحال، ولا توجد أية ناحية تبحث عن المحاويج لتغنيهم عن السؤال!؟ إنه يكون إعطاء السائل أهم وأوجب، ولكن من الناس من يمنع الماعون عن هؤلاء؛ بحجة أن هؤلاء لهم مال ويتخذون تكفف الناس حرفة يحترفونها، ويؤثر المنع على العطاء، بل إنهم يذهب بهم فرط مغالاتهم في المنع إلى أن يحرموا العطاء، ولا حجة لهم إلا دعاؤهم أنهم محترفون، فهل فتشتم عن حالهم، ونقبتم في بيوتهم، وكيف يفرون من أن للسائل والمحروم حقا معلوما كما في الكتاب السامي وقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه أبو داوود (للسائل حق ولو جاء على فرس) إنهم يظنون الظن، ويحكمون به من غير أن يستيقنوا في الأمر شيئا ولا حول ولا قوة إلا بالله.
و. المرتبة الأخيرة التي تؤتى المال على حبه هم العبيد ليفك عتقهم، وعبر عنهم رب العالمين بقوله عزّ من قائل: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ والرقاب جمع رقبة، والمراد العبد الذي تعلق به الرق، وعبر عن الرقيق بالرقبة من قبيل التعبير بالجزء وإرادة الجميع، وعبر عنه بالرقبة؛ لأن الرقبة هي مظهر الخضوع حسا، إذ يطأطئ العبد رقبته، خشوعا وخضوعا، وكان تعبير القرآن عن الرقيق بالرقبة مثل قوله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد] وقال في كفارة القتل الخطأ ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء]، وقوله: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ أي يؤتى المال على حبه في الرقاب أي في فكها، وذلك يشمل إعطاء المكاتب وهو الذي تعاقد مع مالكه على أن يعطيه ثمنه أو ما تراضيا عليه على أن يعتقه، وقد أمر الله تعالى بالمكاتبة، فقال تعالى: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور] وإيتاء المال بأن يعطيه ما يستعين به على ما تعهد به لفك رقبته، ويشمل الإعطاء في الرقاب أن يشترى عبيدا ويعتقها، كما يشمل الإعتاق إن كان له رقيق، وإن إعتاق الرقاب من أحب ما يطلبه الله تعالى من عباده إليه؛ لأن في ذلك صيانة لكرامة الإنسان من الابتذال، وقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء] ولأن في الحرية كمال الإنسانية وكمال التكليف الاجتماعي، ولأن في الحرية قوة وتحمل الأعباء وأن يكون جزءا من المجتمع يسيره إلى الخير.
13. ابتدأ سبحانه وتعالى في ذكر الخلال التي يتكون من مجموعها حال البر الذي هو غاية الغايات من الأديان الإلهية بالإيمان الجامع في معناه، ثم ثنى ببيان المحبة للخير والإنسانية بإعطاء المال عن رغبة ومحبة للمحاويج من الأقرب فالأقرب من بنى الإنسان ثم ذكر التربية النفسية والاجتماعية في الآحاد، والجماعات، فقال تعالت حكمته: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾
14. هذه أمور تهذب النفس والمجتمع في الأمة، ومجتمع الإنسانية فإقامة الصلاة بأدائها على وجهها الذي شرعت له، وهو إخلاص النفس لله، وامتلاؤها بذكر الله، والإتيان بها مستوفية الأركان من قيام وقراءة وركوع وسجود، واستشعار خشية الله تعالى في كل حركاتها، بحيث تكون النفس مستحضرة عظمة الله في كل حركة من حركاتها، وتلاوة للقرآن فيها، ويكون القلب مع الجوارح في معانيها، وتكون كلها ذكر لله تعالى وتفضى إلى غايتها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت]
15. وإيتاء الزكاة المفروضة، وهى التي تكون في المال النامي المنتج إذا بلغ نصابا مقدورا بنحو عشرة مثاقيل، أو يكون من أرض زراعية أو شجر مثمر، أو نحوهما بمقدار العشر صافيا من النفقات على ما هو مصرح به في كلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومستنبط من جملة الأحكام التي قررها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والزكاة يجمعها ولى الأمر وينفقها في مصارفها المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة] فولى الأمر هو الذي يجمعها، وهو الذي يوزعها.
16. أجمع العلماء على أن في المال حقا غير الزكاة، وهو الذي أشار إليه الله في قوله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ إلى آخر النص الكريم في موضوع إيتاء المال على حبه، وذلك لأن الزكاة مفروضة وموزعة بالحق وفى مصارف ثابتة منها الفقراء والمساكين وفى الرقاب، ومنها الغارمون وابن السبيل، وفى سبيل الله أولئك في نطاق علم ولى الأمر، أو ما يصل أمره إلى ولى الأمر، وفوق ذلك هناك واجبات غير الزكاة فإذا كان له ذوو قربى يحتاجون إلى ماله يكون إعطاؤهم واجبا غير واجب الزكاة، فإذا كان له أبوان فقيران فمن الإحسان إليهما الإنفاق عليهما، وكذلك ذوو قربى القرابات القريبة، ومن اليتامى من لا يعلم ولى الأمر حالهم فكل من يعرف يتيما يجب عليه أن يكرمه ويعزه، وكذلك أولئك المساكين المتجملون الذين لا يسألون الناس إلحافا تعففا وتجملا، وأولئك لا يعرف أمرهم إلا الأقربون منهم، وأبناء السبيل حالهم تكون عارضة وتحتاج إلى إصلاح سريع، وسد حاجة، ومعاونتهم على إعادتهم، ومن الناس من تضطرهم الحاجة إلى السؤال لصعوبة وصولهم إلى بيت المال، الذي يجمع الزكاة ويوزعها في مصارفها، ومنهم من يكون في صحراء بعيدا عن العمران فيكونون في حاجة إلى الإسعاف السريع، وكل هؤلاء وأولئك هم مصارف من يؤتى المال على حبه، والجزاء عند الله تعالى.
17. ذكر الله سبحانه الوفاء بالعهد، وهو يشمل الوفاء بالعقود التي تعقد بين الناس في بيوعهم وتجاراتهم والجماعات في تعاملها، وهى أظهر في معاملات الدولة الإسلامية في علاقاتها بغيرها من الدول والجماعات، فالوفاء بها تنظيم من الإسلام للعلاقات الإنسانية بين أهل الأرض، ولقد قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء] وقال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [النحل]، فالوفاء بالعهد قوة، وهو أساس التنظيم بين الدول، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لكل غادر لواء يوم القيامة، وأعظم لواء غدرة لواء أمير عامة)
18. والأمر الأخير في الأمور التي جعلها الله تعالى قوام البر الكامل ـ الصبر، وهو ملاك الأخلاق الإنسانية كلها، فما من خلق كريم إلا كان الصبر قوامه، وهو قوة يقين تعين على كل ما ذكر في آية البر، فإيتاء المال على حبه يحتاج إلى الصبر، والصلاة والزكاة والوفاء بالعهد، كل هذا يحتاج إلى الصبر وضبط النفس، وقوة العزيمة، وقد قال تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾
19. مقتضى النسق أن يقول سبحانه (والصابرون) بالعطف على الموفون بعهدهم إذا عاهدوا ولكن كان النصب على أنه مفعول لفعل محذوف هو أخصّ الصابرين فهي منصوبة على الاختصاص، لمعنى في الصبر وهو واحد في الفضائل وأفعال الخير السابقة.
20. سؤال وإشكال: إن الجمل السابقة متعاطفة فقوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ عطف عليها ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ فلما ذا كان عند الكلام على الوفاء والصبر عبر بالوصف دون الفعل؟ والجواب: عن ذلك فيما يظهر لي ـ والحقيقة عند منزل القرآن فعنده سر البيان الذي لا نسمو إلى إدراكه ـ هو أن إعطاء المال وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة أفعال مطلوبة في ذاتها، وهى تتجدد آنا بعد آن وإن كانت واجبة على الدوام، أما الوفاء فالفضيلة فيه أن يكون صفة دائمة لا أن يكون فعلا ثم ينقطع، بل يكون حلية يتحلى بها المكلف، وكذلك الصبر المطلوب فيه أن يكون صفة مستمرة تظهر في كل أعماله من عبادات ومعاملات وأعمال، يصبر في كل أمر يقتضى الصبر على النعماء فيرضى ويشكر، ويصبر على الشديدة فلا يفزع، ويصبر على الضراء فلا يئن.
21. ذكر سبحانه وتعالى مواطن للصبر يختبر فيها النفس فلا تطيش ولا تضطرب؛ إذ الصبر ضبط النفس فلا تهلع ولا تتبرم ولا تجزع ولا تضطرب ولا تطيش:
أ. وقد ذكر الله الصبر في البأساء وهى الشدة التي تنزل من فقر مدقع، ومن طاغية يطغى، ومن نوازل تنزل، كخسف أو ريح عاصف، أو سوء معاملة أو نحو ذلك مما يصيب الإنسان في الحياة، والصبر فيها هو ألا يهلع، وأن يفوض أمره إلى الله تعالى، ويرجو كشف الغمة ولا تذهب نفسه شعاعا، بل يكون مالكا لنفسه مدركا بقلبه ومبصرا بما يدفع عنه الأذى راجيا من الله تعالى العون في هذه الشديدة النازلة.
ب. والصبر في الضراء، والضراء ما ينال الجسم والنفس من مرض عارض أو من مرض مزمن، أو من فقد عضو من الأعضاء أو إصابته، والصبر في هذه الحال ألا يشكو ولا يئن ولا ييئس من رحمة الله تعالى، روى أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (يقول الله تعالى: أيما عبد من عبادي ابتليته في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه، ودما خير من دمه، فإن قبضته فإلى رحمتي، وإن عافيته عافيته وليس له ذنب)
ج. والموطن الثالث الذي يكون فيه الصبر، وفضله كبير لأنه يحمى الجماعة، وهو (حين البأس)، والبأس هنا هو الحرب وقال تعالى: (حين) إشارة إلى أن الحرب تجيء وقتا بعد وقت، وليست مستمرة، وإن استمرت أمدا طويلا تبدل الرجال بعد الرجال، ولا يحارب الجيش كله، وأصل البأس الشدة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف] أي شديد، وسميت الحرب بأسا لما فيها من الشدة.
22. هؤلاء الذين كانت حالهم برا، قرر تعالى حكمه فيهم فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، الإشارة الأولى و الثانية إلى الذين اتصفوا بالبر، حتى كأنهم هم البر في أعمالهم المؤلفة للقلوب، والمقربة للنفوس، وصفاتهم المثبتة لقوة الإيمان وحسن العمل، والإشارة إلى الأوصاف كما ذكرنا فيها إيذان بأن هذه الأوصاف هي علة الحكم وقد حكم الله تعالى الحكم وأكده بضمير الفصل (هم)، وحكم لهم بحكمين مؤكدين: أولهما: أنهم صدقوا.. الثاني: أنهم المتقون:
أ. وهم صدقوا في إيمانهم بأن كان إيمانا ساكنا في القلب، والنفس مذعنة خاشعة، وصدقوا في العمل، فكان عملهم منبعثا من إيمانهم، وصدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه، وصدقوا في عهودهم إذا عاهدوا، وصدقوا في الصبر من غير أنين ولا ضجر، ولا تململ ولا امتعاض، وصدقوا في الحرب فلم يفروا يوم الزحف وكانوا الصابرين من غير هلع ولا فزع، وطلبوا إحدى الحسنيين النصر أو الاستشهاد، فكانوا بهذه الأعمال هم الصادقون.
ب. والوصف الثاني هو التقوى، فهم المتقون الذين وضعوا وقاية بينهم وبين العذاب، وادرعوا بطاعته فيما أمر ونهى، وهو العزيز الحكيم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/518.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر الله سبحانه في هذه الآية أمورا اعتبرها أركانا للبر والتقوى والصدق في الايمان، ومن هذه الأمور ما يتعلق بالعقيدة، ومنها ما يتعلق ببذل المال، ومنها بالعبادة، ومنها بالأخلاق، وقبل أن يشير الى كل صنف منها مهد بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، وهذا خطاب عام يشمل الجميع، حتى ولو كان سبب النزول خاصا، لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بسبب النزول، والمراد بالخطاب توجيه المؤمنين والمصلين إلى أن مجرد الصلاة الى ناحية معينة ليس هو الخير المقصود من الدين، لأن الصلاة انما شرعت لإقبال المصلي على الله، والاعراض عمن سواه.
2. بعد هذا التمهيد شرع ببيان أصول العقيدة التي هي من أركان البر، وحصرها بخمسة أمور تضمنها قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾:
أ. الايمان بالله هو الأساس لعمل البر، والباعث على طاعة الله في جميع ما أمر به، ونهى عنه.
ب. والإيمان باليوم الآخر.
ج. والايمان بالملائكة ايمان بالوحي المنزل على الأنبياء، وانكار الملائكة انكار للوحي والنبوة: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ ـ الشعراء 194)
د. والايمان بالكتاب ايمان بالقرآن.
هـ. والايمان بالنبيين ايمان بشرائعهم..
وترجع هذه الأمور الخمسة الى ثلاثة: الايمان بالله والنبوة واليوم الآخر، لأن الايمان بالنبي يتضمن الايمان بالملائكة والكتاب.
3. ثم أشار سبحانه الى التكاليف المالية بقوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾، قيل: ان الضمير في حبه عائد الى الله تعالى، حيث تقدم اسمه جل وعلا في قوله: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ويكون المعنى ان المعطي أعطى المال لوجه الله، وقيل: بل يعود الضمير على المال، ويجري مجرى قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وقوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾، وهذا هو الأظهر، لأن الضمير يعود الى الأقرب، دون الأبعد، ثم ان المراد بإيتاء المال هنا غير الزكاة الواجبة، لأنه تعالى عطف عليه إيتاء الزكاة، والعطف يقتضي التغاير.
4. ذكرت الآية من الذين ينبغي اعطاؤهم المال ستة أصناف:
أ. ذوو القربى، وهم قرابة صاحب المال، لأنهم أحق الناس بالبر والصلة، قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى﴾ ـ النور 22)، وتجب نفقة القريب على قريبه إذا كان من الآباء والأبناء، مع عجزه عن الإنفاق على نفسه وقدرة الآخر عليه، وما عدا ذلك يكون إيتاء ذوي القربى مستحبا لا واجبا عند الفقهاء.
ب. اليتامى الذين لا مال لهم، ولا كفيل يعولهم، فيجب على أهل اليسار كفالتهم وكفايتهم، مع عدم وجود بيت مال للمسلمين.
ج. المساكين، وهم أهل الحاجة الذين لا يمدون للناس يد المذلة.
د. ابن السبيل، وهو الذي انقطع في السفر، ولا يستطيع العودة الى وطنه من غير عون.
هـ. السائلون الذين يمدون الى الناس كف المذلة، وهذا السؤال محرم شرعا الا لضرورة ملحة، تماما كأكل الميتة في رأينا، ويكفي دليلا على تحريمه انه ذل وهوان، والاهانة محرمة من حيث هي، سواء أصدرت من الغير، أم من النفس، وفي الحديث: (لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي) والمرة بكسر الميم القوة، والسوي سليم الجسم، والمراد به القادر على الكسب.
و. في الرقاب، أي شراء العبيد، ثم عتقهم وتحريرهم من العبودية، ولا مورد لهذا الصنف اليوم بعد أن الغي الرق.
5. تجمل الاشارة الى ان هذه الأصناف الستة ذكرها الله سبحانه على سبيل المثال، دون الحصر.. فان هناك أمورا كثيرة يحسن فيها بذل المال كإنشاء المدارس، ودور الأيتام، والمصحات، والدفاع عن الدين والوطن، وسائر المشاريع العامة، وإذا توقفت صيانة النفس المحترمة على بذل المال وجب بذله على المستطيع، لأن هذه الصيانة واجبة، وما لا يتم الواجب الا به فهو واجب.
6. أشار تعالى الى الركن العبادي للبر بقوله: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾، والصلاة تزكية للنفس، والصوم تزكية للبدن، والزكاة تزكية للمال.
7. أشار الله تعالى الى الركن الأخلاقي بقوله سبحانه: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾، والعهد الذي يجب الوفاء به على قسمين:
أ. الأول ما يكون بين العبد وربه، مثل اليمين والنذر والعهد بالشروط المذكورة في كتب الفقه.
ب. الثاني المعاملات التي تجري بين الناس، كالبيع والاجارة والدين، وما الى ذلك.. والمؤمن البار يفي بجميع التزاماته، حتى ولو لم يكن عليه اثباتات وسندات ترغمه على الوفاء وأداء الحق.
8. من الأخلاق الحميدة التي هي من أركان البر الصبر في الشدائد المشار اليه بقوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾، والبأساء الفقر، والضراء المرض، وما اليه، وحين البأس شدة الحرب، وليس القصد من الصبر على الفقر والمرض الرضا بهما.. كلا، فان الإسلام قد أوجب السعي جهد المستطاع للتخلص من الفقر والمرض والجهل، ومن كل ما يعوق الحياة عن التقدم، وإنما القصد ان لا ينهار الإنسان أمام الشدائد، وان يتماسك ويتمالك ويعمل بروية وثبات للتخلص مما ألمّ به من النوازل، وقال بعض المفسرين: انما خص الله هذه الثلاث بالذكر، مع ان الصبر محمود في جميع الأحوال، لأن هذه الثلاث أشد البلاءات جميعا، فمن صبر فيها كان في غيرها أصبر.
9. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، أولئك اشارة الى الذين استجمعوا كل هذه الخصال من أصول العقيدة، وبذل المال وتأدية العبادة لله، والأخلاق الحميدة، وانهم الصادقون في ايمانهم، المتقون بأفعالهم لغضب الله وعذابه، أما الذين يقولون بأفواههم آمنّا، ولا ينفقون ما يحبون، ويفون بما يلتزمون، ويصبرون في الشدائد، أما هؤلاء فهم أبعد الناس عن البر وأهله.
10. تعرضت هذه الآية لخمسة أمور: أولها أصول العقيدة، وثانيها التكاليف المالية، وثالثها العبادة، ورابعها الوفاء بالعهد، وخامسها الصبر في الشدائد، والأخيران من شئون الأخلاق.
11. وبديهة ان العبادة كالصلاة والصوم أثر من آثار الايمان بالله، وعلامة من علاماته التي لا تنفك عنه، لأن من لا يعترف بوجود الله لا يتعبد له.. أما بذل المال والوفاء بالعهد والصبر في الشدائد فتكون من المؤمن والجاحد، فان أكثر المؤمنين بالله أو الكثير منهم يقولون ما لا يفعلون، ويبخلون بالقليل، حتى على أنفسهم، وينهارون جزعا أمام كل فاجعة ونازلة.. وقد يضحي الجاحد بالغالي والثمين في سبيل العدالة والانسانية، ويثبت في الشدائد، ويصدق في جميع أقواله وأفعاله.. اذن، لا تلازم بحسب الظاهر بين الايمان والخلق الحميد، ولا بين الكفر والخلق الذميم أما في الواقع فلا ايمان بلا تقوى.
12. هذه الآية: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾.. اعتبرت الايمان والأخلاق الحميدة كلا لا يتجزأ، ووحدة لا تنفصم بالنسبة الى البر والخير، فلا الايمان بالله وحده يجعل الإنسان من الأبرار، ولا الأخلاق من غير ايمان تجعله كذلك، بل لا بد من الايمان والأخلاق والتعبد لله.. وعليه فالبارّ في مفهوم القرآن هو المؤمن المتعبد الوفي الكريم الصابر.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/270.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قيل: كثر الجدال والخصام بين الناس بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وطالت المشاجرة فنزلت الآية.
2. ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، البر بالكسر التوسع من الخير والإحسان، والبر بالفتح صفة مشبهة منه، والقبل بالكسر فالفتح الجهة ومنه القبلة وهي النوع من الجهة، وذوو القربى الأقرباء، واليتامى جمع يتيم وهو الذي لا والد له، والمساكين جمع مسكين وهو أسوأ حالا من الفقير، وابن السبيل المنقطع عن أهله، والرقاب جمع رقبة وهي رقبة العبد، والبأساء مصدر كالبؤس وهو الشدة والفقر، والضراء مصدر كالضر وهو أن يتضرر الإنسان بمرض أو جرح أو ذهاب مال أو موت ولد، والبأس شدة الحرب.
3. ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾، عدل عن تعريف البر بالكسر إلى تعريف البر بالفتح ليكون بيانا وتعريفا للرجال مع تضمنه لشرح وصفهم وإيماء إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي عن المصداق ولا فضل فيه، وهذا دأب القرآن في جميع بياناته فإنه يبين المقامات ويشرح الأحوال بتعريف رجالها من غير أن يقنع ببيان المفهوم فحسب.
4. بالجملة قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، تعريف للأبرار وبيان لحقيقة حالهم، وقد عرفهم أولا في جميع المراتب الثلاث من الاعتقاد والأعمال والأخلاق بقوله: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ وثانيا بقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ وثالثا بقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾
5. فأما ما عرفهم به أولا فابتدأ فيه بقوله تعالى: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ وهذا جامع لجميع المعارف الحقة التي يريد الله سبحانه من عباده الإيمان بها، والمراد بهذا الإيمان الإيمان التام الذي لا يتخلف عنه أثره، لا في القلب بعروض شك أو اضطراب أو اعتراض أو سخط في شيء مما يصيبه مما لا ترتضيه النفس، ولا في خلق ولا في عمل، والدليل على أن المراد به ذلك قوله في ذيل الآية ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ فقد أطلق الصدق ولم يقيده بشيء من أعمال القلب والجوارح فهم مؤمنون حقا صادقون في إيمانهم كما قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وحينئذ ينطبق حالهم على المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان التي مر بيانها في ذيل قوله تعالى ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ﴾
6. ثم ذكر تعالى نبذا من أعمالهم بقوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾:
أ. فذكر الصلاة ـ وهي حكم عبادي ـ وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، وقال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾
ب. وذكر الزكاة ـ وهي حكم مالي فيه صلاح المعاش ـ وذكر قبلهما إيتاء المال وهو بث الخير ونشر الإحسان غير الواجب لرفع حوائج المحتاجين وإقامة صلبهم.
7. ثم ذكر سبحانه نبذا من جمل أخلاقهم بقوله: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾:
أ. فالعهد هو الالتزام بشيء والعقد له ـ وقد أطلقه تعالى ـ وهو مع ذلك لا يشمل الإيمان والالتزام بأحكامه كما توهمه بعضهم ـ لمكان قوله إذا عاهدوا، فإن الالتزام بالإيمان ولوازمه لا يقبل التقيد بوقت دون وقت ـ كما هو ظاهر ـ ولكنه يشتمل بإطلاقه كل وعد وعده الإنسان وكل قول قاله التزاما كقولنا: لأفعلن كذا ولأتركن، وكل عقد عقد به في المعاملات والمعاشرات ونحوها.
ب. والصبر هو الثبات على الشدائد حين تهاجم المصائب أو مقارعة الأقران، وهذان الخلقان وإن لم يستوفيا جميع الأخلاق الفاضلة غير أنهما إذا تحققا تحقق ما دونهما، والوفاء بالعهد والصبر عند الشدائد خلقان يتعلق أحدهما بالسكون والآخر بالحركة وهو الوفاء فالإتيان بهذين الوصفين من أوصافهم بمنزلة أن يقال: إنهم إذا قالوا قولا أقدموا عليه ولم يتجافوا عنه بالزوال.
8. أما ما عرفهم به ثانيا بقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾، فهو وصف جامع لجمل فضائل العلم والعمل، فإن الصدق خلق يصاحب جميع الأخلاق من العفة والشجاعة والحكمة والعدالة وفروعها فإن الإنسان ليس له إلا الاعتقاد والقول والعمل، وإذا صدق تطابقت الثلاثة فلا يفعل إلا ما يقول ولا يقول إلا ما يعتقد، والإنسان مفطور على قبول الحق والخضوع له باطنا وإن أظهر خلافه ظاهرا فإذا أذعن بالحق وصدق فيه قال ما يعتقده وفعل ما يقوله وعند ذلك تم له الإيمان الخالص والخلق الفاضل والعمل الصالح، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾: التوبة ـ 120، والحصر في قوله ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾، يؤكد التعريف وبيان الحد، والمعنى إذا أردت الذين صدقوا فأولئك هم الأبرار.
9. أما ما عرفهم به ثالثا بقوله ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، الحصر لبيان الكمال فإن البر والصدق لو لم يتما لم يتم التقوي.
10. الذي بينه تعالى في هذه الآية من الأوصاف الأبرار هي التي ذكرها في غيرها، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ ـ إلى أن قال ـ ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾، فقد ذكر فيها الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق لوجه الله والوفاء بالعهد والصبر، وقال تعالى أيضا: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ ـ إلى أن قال ـ ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ﴾ ـ إلى أن قال ـ ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾
11. بالتطبيق بين هذه الآيات والآيات السابقة عليها يظهر حقيقة وصفهم ومآل أمرهم إذا تدبرت فيها، وقد وصفتهم الآيات بأنهم عباد الله وأنهم المقربون، وقد وصف الله سبحانه عباده فيما وصف بقوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾، ووصف المقربين بقوله: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾، فهؤلاء هم السابقون في الدنيا إلى ربهم السابقون في الآخرة إلى نعيمه، ولو أدمت البحث عن حالهم فيما تعطيه الآيات لوجدت عجبا.
12. قد بان مما مر أن الأبرار أهل المرتبة العالية من الإيمان، وهي المرتبة الرابعة على ما مر بيانه سابقا، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾
13. ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾، منصوب على المدح إعظاما لأمر الصبر، وقد قيل إن الكلام إذا طال بذكر الوصف بعد الوصف فمذهبهم أن يعترضوا بين الأوصاف بالمدح والذم، واختلاف الإعراب بالرفع والنصب.
14. روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان)، ووجهه واضح بما بيناه، وقد نقل عن الزجاج والفراء أنهما قالا: (إن الآية مخصوصة بالأنبياء المعصومين لأن هذه الأشياء لا يأتيها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الأنبياء)، وهو ناشئ من عدم التدبر فيما تفيده الآيات والخلط بين المقامات المعنوية، وقد أنزلت آيات سورة الدهر في أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وسماهم الله فيها أبرارا وليسوا بأنبياء، نعم خطرهم عظيم، وقد وصف الله حال أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ثم ذكر مسألتهم أن يلحقهم الله بالأبرار، قال ﴿وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾، وعن أبي عامر الأشعري قال قلت: يا رسول الله ما تمام البر، قال: أن تعمل في السر ما تعمل في العلانية.
15. في المجمع، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام: (ذوي القربى قرابة النبي)، أقول: وكأنه من قبيل عد المصداق بالنظر إلى آية القربى.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/429.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ﴾ قال الشرفي في (المصابيح) حاكياً عن المرتضى عليه السلام: (معناه: ليس كل البر تولية المشرق والمغرب من القِبَل التي أنتم تُمارون فيها ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ فأخبر سبحانه بفنون البر وما يصح لهم به الإيمان ويكمل لهم اسم البر والإحسان)
2. ﴿الْبِرُّ﴾الاتساع في الإحسان وفعل الخير، و﴿قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ الجهات التي يولي إليها الكفار وجوههم ويزعمون أن ذلك هو البر، وليس البر ذلك، ولكن البر الإيمان بلوازمه وتوابعه التي يعملها ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ وقد قدمت معنى الإيمان بالله واليوم الآخر في تفسير أوائل السورة ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ لأن الإيمان بهم من الإيمان بالغيب ﴿وَالْكِتَابَ﴾ ومنه القرآن الكريم ﴿وَالنَّبِيِّينَ﴾ ومنهم خاتمهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلا بد من الإيمان بالكتاب كله وبالنبيين كلهم.
3. ﴿وَآتَى الْمَالَ﴾ أي ماله، كقوله تعالى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ﴾ [النازعات:40] أي نفسه ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ في حال حب المال كالإطعام في حال حاجة المطعِم ـ بكسر العين ـ إلى الطعام، كما قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الإنسان:8] وقال تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:92]
4. ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ أي ذوي قرابة المؤتي، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ ﴿وَالْيَتَامَى﴾ الذين فقدوا آباءَهم، أي هلك آباؤهم ﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾ أهل الحاجة الشديدة الذين يحتاجون إلى المسألة ولم يسألوا، من أجل الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس المسكين بهذا الطوّاف عليكم الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان) قالوا: فمَن المسكين، يا رسول الله؟ قال (الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) رواه الإمام الهادي في (الأحكام)، وليس يعني صلّى الله عليه وآله وسلّم تعليم اللغة، وإنما أراد الحث على إطعام المحتاج الذي لا يسأل ولا يعرف معرفةً تغنيه عن السؤال بحيث يتصدق عليه، ولا يحتاج إلى السؤال، والذي يفهم من الحديث أن المسكين المحتاج الشديد الحاجة، فكأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: ليس المحتاج شديد الحاجة بهذا الطوّاف عليكم، ولكن المحتاج الشديد الحاجة المحتاج الذي لا يسأل ولا يفطن له، وإنما يعرف بالتأمل في وجهه وعلامات الحاجة عنده، فالمحتاجون ثلاثة: سائل، ومعروف بالحاجة أو تظهر حاجته بدون بحث مع أنه لا يسأل، و الثالث الذي فيه النص أنه مسكين، وفائدة الحديث: التنبيه على هذا الثالث؛ لئلا يغفل عنه ويكتفي بالإنفاق على الأول و الثاني، نعم.. ومن كان من القسم الثالث فاشتدت به الحاجة حتى اضطر إلى السؤال ولم يعتد السؤال لم يخرج عن القسم الثالث؛ لأن الحديث فيمن يعتاد السؤال بكثرة كما يفيده لفظ (الطواف) المفيد للمبالغة، ومن كان يطوف متعرّضاً وكثر ذلك منه فهو في حكم السائل وإن لم يسأل، إذا كان يعطى بالتطواف كما يعطى السائل؛ لأن الحديث لم يذكر إلاَّ الطواف.
5. أما ﴿ابْنَ السَّبِيلِ﴾ فالسبيل: الطريق، والمراد المار في السبيل المحتاج من حيث هو في السبيل أي تبعاً لمروره في السبيل، ولعله يؤخذ من نسبته إلى السبيل أنه ليس له مرتفق حول السبيل؛ لأنه غريب، قال الهادي عليه السلام في (الأحكام): (وأما ابن السبيل فهو مار الطريق المسافر الضعيف، فيعان بما يكفيه من قليل أو كثير)، ذكر هذا في تفسير آية الصدقات، وتفسير الهادي عليه السلام يعم المنقطع، والذي اشتدت عليه الحال لضعفه وقلة زاده، وكذا من هو مظنة أن يبلغ أي الحالتين لذلك، والمراد إعانته ليرجع إلى بلده أو يتخلص من تلك الحال بالوصول إلى بلد آخر أقرب من بلده أو مثلها، قال الهادي عليه السلام في ذكر إعانة ابن السبيل: (حتى ينتهي ويصل إلى بلده) فمتى تخلص من تلك الحال بالوصول إلى بلده أو مثلها أو بأي سبب فقد خرج عن كونه ابن السبيل.
6. وقوله تعالى: ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ يعم كل سائل، ولو كان يعتاد السؤال، ولكن من يتخذه حرفة ويسأل وهو غير محتاج وتحقق منه ذلك فيمنع، أو يقلل عطاؤه جدّاً لئلا يكون إعطاؤه معاونة له على الإثم؛ لأنه بسببه يرغب في السؤال فيعيده ويكرره ويستمر عليه كلما أعطي لرغبته في المال لا لضيق الحال، وقد جاء في تحريم السؤال روايات عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منها ما رواه في (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام) عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كفى بالمرءِ إثماً أن يضيع من يعول أو يكون عيالاً على الناس) وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تحل الصدقة لغني، ولا لقوي، ولا لذي مرة سويّ)
7. وقوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ أي في تحرير الرقاب، وفسره الهادي عليه السلام في (الأحكام) بالمكاتبين، الذين يكاتبون مواليهم على شيء معلوم.. وهذا أظهر وأوفق لتفسير إيتاء المال في الرقاب بإنفاقه في تحرير الرقاب، والسياق هنا وفي آية الصدقات يدل عليه ولا يدل على أكثر منه، والله أعلم، فأما من جعل عتق الأمة صداقها فقد أنفقها في تحريرها وزواجها، فلا يبعد دخوله في هذه الآية لا في آية الصدقات، وفي (مجموع الإمام زيد بن علي عليهما السلام عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أربعة لهم أجران: رجل كانت له أمة فأدَّبَها وأحسن أدَبَها ثم أعتقها فنكحها فله أجران) الحديث، لعله اشترط حسن الأدب ليكون العتق قُربة، وهذا يناسب قول الهادي عليه السلام: (إنه لا قربة في عتق الفاسق الذي يتقوى بالعتق على فسقه؛ لأنه معاونة له على الفسق)
8. ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ فهما من البر، وفي ذكر الزكاة هنا دلالة على أن الإنفاق المذكور قبل من غير الزكاة، والآية تدل على: أن من لا يفعله مع التمكن منه والإيسار، فليس من المتقين؛ لأن التقوي تبعث عليه لطلب التثبيت ومحو الذنوب، سواء قلنا: أنه واجب، أم لم نقل.
9. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ فهو من شأن المتقين، وقوله: ﴿إِذَا عَاهَدُوا﴾ يفيد: أنه لا يتقرب بالعهد ليوفى به، أي ليس ذلك مراداً في الترغيب في الوفاء، نعم إذا أمر الإمام المحق بالعهد وجب لوجوب طاعته.
10. ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾ حالة الجوع ونحوه ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ حالة المرض ونحوه ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ في حال القتال.. وقلت: في الأول ونحوه؛ لأنه يعم أنواع الفقر حتى ضيق المسكن، وفي الثاني ونحوه؛ لأنه يعم أنواع الضر، ويدخل فيه الغم والحزن والغيظ والخوف والصبر في الحالات الثلاث، وفي كل ما ذكر في الآية يميّز الصادق في إيمانه الذي تطابق قوله وفعله وضميره.
11. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ ونظيره: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات:15]
12. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ وإذا كانوا هم الذين صدقوا وهم المتقون فهم المؤمنون الأبرار، قال (الناصر الأطروش) الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي زين العابدين عليهم السلام في (البساط): قال جاء رجل إلى أبي ذرّ ـ رحمة الله عليه ـ فسأله عن الإيمان؟ فقرأ عليه أبو ذر: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ الآية، فقال الرجل: ليس عن البر سألتك؟ فقال أبو ذرّ: جاءَ رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله عما سألت، فقرأ عليه كما قرأتُ عليك، فأبى أن يرضى كما أبيتَ أن ترضى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الذي إذا عمل حسنةً سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئةً ساءته وخاف عقابها)، هذا فيمن كان على الحال الطبيعية في الإسلام، فأما من كان رجاؤه وسروره لسوء عقيدته مع إصراره على الكبائر فهو غير مقصود؛ لأنه متمنٍّ مغرور، وعمله غير مقبول لقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة:27] والآية التي أتممنا تفسيرها تردّ عليه.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/242.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في أجواء الآية التي تشير إلى بعض هذا الجوّ، نستوحي ملامح الشخصية الإسلامية في ما ترتكز عليه من فكر وإيمان وممارسة في السلوك الذاتي، وفي العلاقة بالناس، وبالمواقف الصعبة في الحياة، وذلك من خلال تحديد طبيعة البر الذي يعني التوسع في الخير والإحسان، كما يذكر أهل اللغة، لأنه يمثل سرّ الشخصية لدى المؤمن في ما تنفتح عليه من آفاق التصور، وبما تتحرك فيه من مجالات عملية.
2. لعلّ القيمة في مضمون هذه الآية أنها تجاوزت المفهوم الضيق الذي يتحرك فيه البر ليرتبط بالجانب العملي للحياة، فانطلقت به ليشمل الجانب الفكري والروحي الذي يحتضن الفكر والإيمان، فيعتبر ـ من خلال ذلك ـ أن في الفكر خيرا وشرا، تماما كما هو العمل خير وشرّ، بل ربما كان الأساس في البرّ العملي، البرّ الفكري والعقيدي، لأنه هو الذي يعطي العمل دوافعه ونوازعه، وهو الذي يحدد له مضمونه وطبيعته، ولهذا انطلق القرآن ليحدد للإنسان شخصيته من خلال تحديد ملامحه الفكرية والعملية، فلم يكتف بالعمل وحده في مجال التقييم بعيدا عن الإيمان، كما لم يكتف بالإيمان بعيدا عن العمل، فبالإيمان والعمل تتكامل الشخصية وتنطلق.
3. ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ لأن قضية النفس الخيّرة لا ترتبط بالشكل بعيدا عن المضمون، فما قيمة الصلاة إلى القبلة، أيّة قبلة كانت، إذا لم تتحرك من إيمان عميق بأصول الإيمان، ولم تنطلق في حركة الإيمان سبيلا وغاية، لأنها إذا لم تكن كذلك تتحول إلى إحساس يطفو على السطح ولا يلامس الأعماق، مما يجعل من الموقف موقف استعراض لا موقف ارتكاز، وبهذا، فليس من الضروري أن يثور هذا اللغط الكثير حول تغيير طبيعة القبلة إلى الشرق أو إلى الغرب، فهي لا تزيد عن أن تكون مجرد تشريع جزئي كبقية التشريعات الجزئية المتعلقة بأحكام العبادة في تفاصيلها الخاصة الكثيرة، ومن الطبيعي أن يخضع المؤمنون للتشريع في سلبياته وإيجابياته، فلا يعترضوا عليه في قليل أو كثير إذا أحرزوا انطلاقه من مصدر التشريع وهو الله، بل لا بد من أن يتركز الاهتمام والجدل حول الأسس التي يرتكز عليها البناء الداخلي للنفس البارّة الخيّرة التي تعيش البر موقفا شاملا لجميع مجالات الحياة.
4. نلاحظ في هذا المجال أن الآية قد غيّرت أسلوبها التعبيري، فبينما كان النفي يتجه إلى استبعاد الشكل عن معنى البرّ نرى الإثبات ينطلق في الحديث عن شخصية البارّ وصفته، للتدليل على أنّ الإسلام ينظر إلى الفكرة من خلال المفكر، وإلى الخير من خلال النموذج الحيّ المتجسد بالفكرة شكلا ومضمونا، ليبتعد الجو النفسي عن التركيز على المفهوم النظري بعيدا عن الواقع التطبيقي للنظرية، وهذا هو ما نلمحه في تكملة الآية في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ فلا بد من الإيمان بالأسس العامة للعقيدة، وهي الإيمان ﴿بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ لأنها تمثل الحقائق الدينية التي لا يمكن أن يجهلها أو يهملها أيّ إنسان مؤمن، لأن جميع الرسالات السماوية قد قررت ذلك.
5. قد لا نحتاج إلى تحليل واسع لنعرف أنّ هذا الإيمان الذي تعتبره الآية أساسا للبرّ الروحي والفكري، يمثل الامتداد والحركة في الشخصية الإسلامية للإنسان المسلم، لأن الإيمان بالله يتصل بالشعور العميق بانطلاقة الحياة من قوّة حكيمة رحيمة عادلة تخطط للإنسان حياته كما تخطط للكون قوانينه، وبذلك يشعر الإنسان بمسؤوليته أمام هذه القوة الخالقة التي تربي له وجوده، وتنمي له جسده وعقله وروحه، ويعيش الإحساس بارتباطه الدائم بالله من خلال حاجته المطلقة له في كل شيء، وتتساقط أمام هذا الإيمان كل مشاعر الانسحاق والضعف والضياع واليأس والفراغ وعدم الانتماء، لأن مثل هذا الإيمان، يملأ في حيويته المتحركة، حياة الإنسان بكل المفاهيم الإيجابية المضادّة لتلك المفاهيم السلبية لما يوحيه من الشعور بأنه يعيش في كون يرعاه خالقه في رحمته وحكمته وقوّته المطلقة، وينتمي إليه كل ما فيه من مفردات الوجود، بذلك نستطيع أن نقرر أن المؤمنين الذين يعيشون المفاهيم السلبية التي تغرق شعورهم بالضياع والفراغ واللاانتماء، يعيشون في غفلة من إيمانهم ويقعون تحت تأثير أجواء البيئة المنحرفة التي تحتضن هذه المفاهيم.
6. أمّا الإيمان باليوم الآخر، فيثير في داخله الشعور بالمسؤولية وما يترتب عليها من ثواب أو عقاب، مما يجعل الإنسان واعيا لحياته بشكل أعمق، فلا يعتبرها رحلة ساذجة تخضع للمزاج الذاتي وللشهوة الطارئة، بل يراها خطا مستقيما تحكمه بداية المسؤولية ونهايتها في نتائجها العامة والخاصة، وفي هذا الجو من الإيمان ينتفي من داخل الشخصية الإسلامية للإنسان المسلم الشعور بالعبث في مسار حياته عندما يواجه كثيرا من الأوضاع التي توحي بمثل هذا الشعور إذا انفصلت عن طبيعة النتائج العملية عند الله، فيتحول الموقف إلى إحساس عميق بالجدية المرتبطة بالهدف في كل شيء حوله، وهذا ما تمثله الآية الكريمة ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]
7. أمّا الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين، فيمثل الإيمان بالحقائق الروحية التي ترتبط بالغيب من جهة، وتواجه الواقع من جهة أخرى، وذلك من خلال التصور الإسلامي للموجودات غير المرئية المتمثلة في الملائكة عندما يشعر بحفيف أجنحتها في وعيه الديني، وهو يتصورها في حركة دائبة في أجواء السماء والأرض، وخضوع مطلق لله في ما يوكله إليها من مهمات كونية تتصل بالحياة والإنسان، فيتعاظم الإحساس بعظمة التدبير من خلال الأشياء المرئية وغير المرئية، وبروعة هذه الصورة الملائكية التي تمنح الوجود معنى روحيا ينساب فيه انسياب اللطف والرحمة في المشاعر والأعماق.
8. والإيمان بالكتاب يعني الإيمان بالرسالة الإلهية الواحدة التي تنزلت في كل عهود النبوات، في كتاب واحد بمفاهيمه التوحيدية العامة، وإن اختلفت تفاصيله تبعا لاختلاف حاجة كل عصر إليها، فالوحدة تبقى أساسا للتصور الديني في معنى الكتاب والإيمان به وبالنبيين، كل النبيين، منذ آدم حتى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي الإيمان بوحدة المسيرة في طريق الرسالة الطويلة، فلا اختلاف بين الرسل في الفكر وفي الهدف، لأن الفكرة واحدة، وهي الإيمان بالله الواحد، والهدف واحد هو الحصول على رضاه في ما يحبه وفي ما لا يحبّه، وهذا ما يحكم الطريق الذي يسيرون فيه، ولكن مراحل الطريق تختلف، ومواقفه تتنوع، فلا بد لكل مرحلة من رسولها الذي ينسجم مع طبيعتها، ولا بد لكل موقف من دور يجسده السائر الذي يقود الناس إليه، وبذلك كانت الفكرة الإسلامية عن الأنبياء فكرة متكاملة من خلال الشعور بأن بعضهم يكمل دور البعض الآخر ولا يعارضه، تماما كما هي الخطوات المتلاحقة في الدرب الواحد نحو الهدف الكبير، أمّا اختلاف الأديان الذي يحكم عالمنا هذا، فإنّه يمثل الخطأ في فهم المرحلة، حيث يعتبر ما هو مرحلة في طريق الغاية، غاية بذاته.
9. ويبقى الإسلام في كل آياته يجسد هذه الحقيقة التوحيدية للرسالات حيث يدعو إلى الإيمان بالكتاب الواحد الذي يجمع الكتب، والإيمان بالنبوة الواحدة التي تحتضن جميع الأنبياء: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]، وتظل الشخصية الإسلامية مع هذا التصور الإيماني بعيدة عن التشنّج إزاء أيّ كتاب أو رسول، فكلها وحي الله، وكلّهم رسل الله.
10. ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ والعطاء، أحد عناصر الشخصية الإسلامية، ونموذج حيّ للبرّ العملي، فإذا كان الإنسان يملك المال، فإن الإسلام يعتبر الملكية وظيفة ومسئولية، لا امتيازا وشرفا ذاتيا، ولذلك جعل العطاء سرّ الشخصية لأنه يعني انفتاحها على آلام الحياة ومشاكلها وحالاتها الصعبة وتطلّعاتها الكبيرة، في محاولة متواضعة، فردية أو جماعية، لإعطاء بعض الحلول وتسهيل بعض الصعاب وتحقيق بعض التطلعات، في شعور بأن ذلك هو من حق الآخرين عليه في ما يتحمله من مسئولية الآخرين.
11. جاءت كلمة ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ لتؤكد عمق هذا العطاء في النفس، على أيّ المعنيين كان مرجع الضمير، فإذا أردنا من الحب، حبّ الله فإنه يمثل العطاء من أجل الله بعيدا عن المنافع الذاتية الطارئة، وإذا أردنا منه (حب المال) فإنه يمثل العطاء من موقع الانتصار على الذات عندما يبذل الأشياء التي يحبها ويتعلق بها فلا يمنعه ذلك من العطاء في سماح ومحبّة.
12. أمّا الذين يستحقون العطاء، فهم ذوو القربى لأن صلة الرحم توجب على الإنسان التعبير عنها في أسلوب عملي، وهو أسلوب العطاء الذي يعني المشاركة، واليتامى الذين هم في كفالة المجتمع الإنساني بعد غياب الكافل المباشر لهم، والمساكين الذين لا يجدون الفرصة الكريمة للعيش الكريم فلا يملكون قوت سنتهم قوّة وفعلا، وابن السبيل الذي انقطعت به الطريق فلم يجد من المال ما يكمل به سفره، وإن كان غنيا في بلده، والسائلين الذين لم يتخذوا السؤال حرفة ومهنة، بل انطلقوا به من واقع الحاجة إلى ذلك، وفي الرقاب التي أثقلها الرق وضغطت عليها العبودية، فأراد الإسلام، للذين يجدون المال، أن يصرفوا أموالهم في طريق تحريرها لتعيش الكرامة في الحرية الإنسانية والقانونية.. وتلك هي الفئات المسحوقة التي يعتبر العطاء بالنسبة إليها مسئولية إنسانية وإسلامية ليعيش المجتمع في نظام إنساني متوازن طبيعي شامل.
13. ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾ فإن الصلاة تفتح قلب الإنسان ووجدانه على الله سبحانه، لتشرق في داخله كل المعاني الروحية الطاهرة التي تحوّله إلى كائن حيّ، تتفجر مشاعره بالخير، وتنبض بالطهر، وتنطلق أفكاره بالحق، فيعيش مع الناس والحياة، من خلال ذلك كله، إنسانا يشعر بمسؤوليته عن الناس والحياة من خلال انفتاحه على الله سبحانه.
14. ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ التي تمثل العطاء من حيث هو عبادة عملية لله، وقد يلفت النظر أن يذكر الله إيتاء الزكاة بعد إيتاء المال على حبّه، وقد يفسرها البعض بأنها إجمال بعد التفصيل، ولكن الظاهر أنه عموم بعد التخصيص، لأن موارد الزكاة أشمل مما ذكر في الفقرة السابقة، لا سيما إذا فسرنا الزكاة بكل الضرائب الشرعية المفروضة، بما فيها الخمس، كما هو رأي البعض من المفسرين، فإنها تتسع لكل سبل الخير في الحياة.
15. ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ فإن الوفاء بالعهد الذي يلتزم به الإنسان في نفسه يمثل الشعور بمسؤولية الكلمة، في صدق الالتزام الداخلي، وفي الوقوف مع العلاقات القائمة على التعاقد موقف الانضباط والاتزان، وذلك هو سرّ سلامة المجتمع في العلاقات الخاصة والعامة التي تحكم أفراده، سواء في ذلك العلاقات القائمة على التعاقد الشخصي، أو العلاقات القائمة على التعاقد في نطاق المبادئ العامة والنظام الكلي للمجتمع وللأمة، ومن الطبيعي للمؤمن أن يخلص لالتزاماته لأنه يعتبرها مظهرا حيّا من مظاهر إيمانه باعتبارها عهدا وميثاقا بينه وبين الناس أمام الله.
16. ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾ وهي حالة الضيق والفقر، ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾، وهي حالة المرض والألم، ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ حالة الحرب، فإن الصبر، كما ورد في بعض الآيات، هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد كما جاء في حديث الإمام علي عليه السّلام، وهو العنصر الأساس في تماسك الشخصية وثباتها أمام التحديات ولا سيما التحديات التي تواجه الإنسان في عقيدته والتزامه بالخط العملي الإيماني في الحياة، فإن الضعف الذي يقود إلى الجزع والانهيار في الموقف قد يقود إلى الانحراف، ويبعث على الاهتزاز ويدفع بالتالي، إلى إعطاء صورة مشوّهة عن طبيعة المجتمع المؤمن في قوّته وصموده، مما ينعكس سلبيا على صورة الإيمان نفسه في نفوس الآخرين.
17. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في عقيدتهم وفي كلماتهم، وفي التزاماتهم، وفي علاقاتهم وفي مواقفهم العملية في الحياة، وفي مواجهتهم لقضايا الحاضر والمستقبل في ما يؤيدون وفي ما يرفضون وفي ما يتحركون على المدى الطويل في حياة الفرد والمجتمع والأمة كلها، فإن الإيمان هو صنو الصدق، لأن الإيمان يرتبط بالحق، والصدق يجسّد الحقيقة، ولهذا ورد في بعض الكلمات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام، بأن المؤمن قد يكون جبانا أو بخيلا ولكنه لا يكون كذّابا، وقد ورد في كلمات أخرى، ان طريق اختبار الإيمان هو النظر إلى صدق الإنسان في كلماته، ولذلك جاءت هذه الصفة لتكون أساسا للشخصية الإسلامية الصادقة، وربما كان اختصار كلمة الصدق لكل تلك الصفات انطلاقا من أن حركة هذه الصفات المتصلة بالجانب الإيماني والعملي، كانت نتيجة للجدية التي تفرضها الشخصية الإسلامية في انفتاحها على الحقيقة في الفكر والسلوك بحيث يكون الموقف متطابقا مع الخط المستقيم في دائرة الحق، وذلك هو سرّ اتصاف الشخصية في هؤلاء بكلمة الذين صدقوا، والله العالم.
18. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ الذين يخافون الله ويخشونه بالغيب فتتحول خشيتهم له إلى خط عملي في حياتهم وفي حياتهم وفي دوافعهم، فيقفون عندما حرم الله عليهم من مال حرام، أو أكل حرام، أو شرب حرام، أو لعب حرام، أو عرض حرام، أو علاقة محرّمة، أو غير ذلك مما نهى الله عنه، ويندفعون بالتزام مؤكد في ما فرضه الله عليهم وألزمهم به من الواجبات في عباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم في البيت وفي العمل وفي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فيخلصون لله في ذلك كله، ولا يستسلمون لشهواتهم، وأنانياتهم، وأطماعهم، بل يبقى رضى الله هو الهاجس الدائم الذي يعيش في داخل نفوسهم، يقظة في الضمير، والتزاما في القلب والفكر، وانضباطا في الخطى العملية في الحياة.
19. تلك هي عناصر الشخصية الإسلامية التي تمثل الخير كله في مجال الفكر والعمل، وتلك هي الأسس الثابتة التي تنطلق من خلالها قضايا الحياة الخيّرة في كل تطلعات الإنسان وتوجهاته في حركة الحياة.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/202.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي الآية(1).:
1. تغيير القبلة أثار بين النّاس ضجة، وخاصة بين اليهود والنصارى الذين كانوا يرون في اتّباع المسلمين لقبلتهم سند افتخار لهم، القرآن الكريم رد في الآية 142 من هذه السّورة على اعتراضاتهم في قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ﴾ وفي هذه الآية يطرح المعيار الصحيح لتقييم المجموعة البشرية.
2. ذكرنا في تفسير آيات تغيير القبلة، أن النصارى كانوا يتجهون في عباداتهم نحو الشرق واليهود نحو الغرب، وقرر الله الكعبة قبلة للمسلمين، وكانت في اتجاه الجنوب وسطا بين الاتجاهين، ومرّ بنا الحديث عن الضّجة التي أثيرت بين اعداء الإسلام والمسلمين الجدد بشأن تغيير القبلة.
3. الآية الكريمة تخاطب هؤلاء وتقول: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، (البر) في الأصل التوسّع، ثم أطلق على أنواع الإحسان، لأن الإنسان بالإحسان يخرج من إطار ذاته ليتسع ويصل عطاؤه إلى الآخرين، و(البرّ) بفتح الباء، فاعل البرّ، وهي في الأصل الصحراء والمكان الفسيح، وأطلقت على المحسن بنفس اللحاظ السابق.
4. ثمّ يبين القرآن أهم أصول البرّ والإحسان وهي ستة، فيقول: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾، هذا هو الأساس الأوّل: الإيمان بالمبدأ، والمعاد، والملائكة المأمورين من قبل الله، والمنهج الإلهي، والنبيّين الدعاة إلى هذا المنهج، والإيمان بهذه الأمور يضيء وجود الإنسان، ويخلق فيه الدافع القوي للحركة على طريق البناء والأعمال الصالحة.
5. جدير بالذكر أن الآية تقول: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ﴾ ولم تقل ولكن البرّ بفتح الباء، أو البار بصيغة اسم الفاعل، أي أن الآية استعملت المصدر بدل الوصف، وهذا يفيد بيان أعلى درجات التأكيد في اللغة العربية، فحين يقول أحد: علي عليه السّلام هو العدل في عالم الإنسانية، فهو يقصد أنه عادل للغاية وأن العدالة قد ملأت وجوده بحيث أن من يراه فكأنما لا يرى سوى العدالة متجسدة، وحين يقول: بني أمية ذلّ الإسلام، فيعني أن كل وجودهم ذلّ للإسلام.
6. ثم تذكر الآية الإنفاق بعد الإيمان، وتقول: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾، إنفاق المال ليس بالعمل اليسير على الجميع، خاصة إذا بلغ الإنفاق درجة الإيثار، لأن حبّ المال موجود بدرجات متفاوتة في كل القلوب، وعبارة ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ إشارة إلى هذه الحقيقة، هؤلاء يندفعون للإنفاق رغم هذا الحبّ للمال من أجل رضا الله سبحانه.
7. الآية عددت ستة أصناف من المحتاجين إلى المال: ذكرت بالدرجة الاولى ذوي القربى، ثم اليتامى والمساكين، ثم أولئك الذين اعترتهم الحاجة مؤقتا كابن السبيل وهو المسافر المحتاج، ثم تذكر الآية بعد ذلك السائلين إشارة إلى أنّ المحتاجين ليسوا جميعا أهل سؤال، فقد يكونون متعففين لا تبدو على سيمائهم الحاجة، لكنهم في الواقع محتاجون، وعن هؤلاء قال القرآن في موضع آخر: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾، ثم تشير الآية إلى الرقيق الذين يتعطشون إلى الحرية والاستقلال بالرغم من عدم احتياجهم المادي وتأمين نفقتهم على عهدة مالكيهم.
8. الأصل الثالث من أصول البرّ: إقامة الصلاة: ﴿وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾، والصلاة إن أدّاها الفرد بشروطها وحدودها، وبإخلاص وخضوع، تصده عن كل ذنب وتدفعه نحو كل سعادة وخير.
9. والأصل الرابع: أداء الزكاة والحقوق المالية الواجبة: ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾، فالآية سبق أن ذكرت الإنفاق المستحب، وهنا تذكر الإنفاق الواجب، بعض النّاس يكثر من المستحبات في الإنفاق ويتساهل في الواجب، وبعضهم يلتزم بالواجب فقط ولا ينفق درهما في إيثار، والمحسنون الحقيقيون هم الذين ينفقون في المجالين معا.
10. يلفت النظر أن الآية ذكرت عبارة ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ بعد الإنفاق المستحب، ولم تذكر ذلك مع الزكاة الواجبة، ولعل ذلك يعود إلى أن أداء الحقوق الواجبة وظيفة إلهية واجتماعية، والفقراء ـ في منطق الإسلام ـ شركاء في أموال الأغنياء، ودفع المال للشريك لا يحتاج إلى العبارة المذكورة.
11. الخامس من الأصول: الوفاء بالعهد: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾، فالثقة المتبادلة رأس مال الحياة الاجتماعية، وترك الوفاء بالعهد من الذنوب التي تزلزل الثقة وتوهن عرى العلاقات الاجتماعية، من هنا وجب على المسلم أن يلتزم بثلاثة أمور تجاه المسلم والكافر، وإزاء البرّ والفاجر، وهي: الوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، واحترام الوالدين.
12. الأساس السادس والأخير من أسس البرّ في نظر الإسلام: الصبر ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾ (حال الفقر والمسكنة) ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ (حال المرض) ﴿وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ (حال القتال مع الأعداء)
13. ثم تؤكد الآية على أهمية الأسس الستة وعلى عظمة من يتجلّى بها، فتقول: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، صدقهم يتجلّى في انطباق أعمالهم وسلوكهم مع إيمانهم ومعتقداتهم، وتتجلى تقواهم في التزامهم بواجبهم تجاه الله وتجاه المحتاجين والمحرومين وكل المجتمع الإنساني.
14. الملفت للنظر أن الصفات الست المذكورة تشمل الأصول الاعتقادية والأخلاقية والمناهج العملية، فتضمنت الآية كل أسس العقيدة، وكذلك أشارت إلى الإنفاق والصلاة والزكاة بين المناهج العملية، وهي أسس ارتباط المخلوق بالخالق، والمخلوق بالمخلوق، وفي الحقل الأخلاقي ركزت الآية على الوفاء بالعهد، وعلى الصبر والاستقامة والثبات، وهي أساس كل الصفات الأخلاقية السامية.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/497.
75. أحكام القصاص
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈75⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 178 ـ 179]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
وننبه إلى أننا لا نتبنى ما ذكره أكثر المفسرين من المدارس المختلفة من آراء فقهية حول عدم المساواة بين الرجل والمرأة، أو بين الحر والعبد، في القصاص أو في الديات، بل نرى المساواة التامة في كل ذلك، كما شرحنا ذلك بأدلته في المحال المختلفة، وسنشرحه إن شاء الله بتفصيل أكثر في محله من السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار(1). :
1. روي أنّه قال: دية شبه العمد أثلاثٌ، ثلاثٌ وثلاثون حقة وثلاثٌ وثلاثون جذعة وأربعٌ وثلاثون ثنية إلى بازل عامها، وكلها خلفات(2).
2. روي أنّه قال: في الخطإ أرباعٌ، خمسٌ وعشرون حقة، وخمسٌ وعشرون جذعة، وخمسٌ وعشرون بنات لبون، وخمسٌ وعشرون بنات مخاض(3).
3. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾، قال أيما حر قتل عبدا فهو قود به؛ فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه، وقاصوهم بثمن العبد من دية الحر، وأدوا إلى أولياء الحر بقية ديته، وأي عبد قتل حرا فهو به قود؛ فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد، وقاصوهم بثمن العبد، وأخذوا بقية دية الحر، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوا العبد، وأي حر قتل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا نصف الدية إلى أولياء الحر، وإن امرأة قتلت حرا فهي به قود، فإن شاء أولياء الحر قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها، وإن شاءوا عفوا(4).
4. روي أنّه قال في رجل قتل امرأته: إن شاءوا قتلوه، وغرموا نصف الدية(4).
__________
(1) في صحتها نظر، سنرى مناقشته في أقوال المفسرين.
(2) أبو داوود: 4551.
(3) أبو داوود: 4553.
(4) ابن جرير: ٣/٩٩.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان في بني إسرائيل قصاصٌ ولم تكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: 178] والعفو: أن يقبل الدية في العمد، واتباعٌ بالمعروف: يتبع هذا بالمعروف، وأداءٌ إليه بإحسان: يؤدي هذا بإحسان، ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمةٌ: مما كتب على من كان قبلكم إنما هو القصاص وليس الدية(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾، قال نسختها ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] الآية(2)..
3. روي أنّه قال: نسختها ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥](3)..
[ابن عباس] ابن عباس (ت 68 هـ) في قول الله: ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ نكال موجع، فهذه ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ منسوخة، نسختها: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨، ٩٧](4)..
4. روي أنّه قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ إلى قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ يتبع الطالب بالمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان، ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ مما كتب على من كان قبلكم، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ قتل بعد قبول الدية ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(5)..
5. روي أنّه قال: كانت بنو إسرائيل إذا قتل فيهم القتيل عمدا لا يحل لهم إلا القود، وأحل الله الدية لهذه الأمة، فأمر هذا أن يتبع بمعروف، وأمر هذا أن يؤدي بإحسان، ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُم﴾(6)..
6. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ مما كان على بني إسرائيل(7)..
7. روي أنّه قال: كان على بني إسرائيل قصاص في القتلى، ليس بينهم دية في نفس ولا جرح، وذلك قول الله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] الآية، وخفف الله عن أمة محمد؛ فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة، وذلك قوله: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُم﴾ بينكم(8)..
8. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ قال هو العمد يرضى أهله بالدية؛ ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أمر به الطالب، ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ قال يؤدي المطلوب بإحسان(9)..
9. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ يقول: من ترك له ﴿مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ بعد أخذ الدية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو؛ ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يقول: فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية، ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ من القاتل في غير ضرورة ولا معك ـ يعني: المدافعة ـ(10)..
10. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ قال وهي الدية، أن يحسن الطالب الطلب، ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ وهو أن يحسن المطلوب الأداء(9)..
11. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ رفق(11)..
12. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى﴾ قتل بعد قبول الدية ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(12)..
13. روي أنّه قال: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة؛ فأنزل الله: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥]، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد؛ رجالهم ونساؤهم، في النفس وما دون النفس، وجعل العبيد مستوين في العمد؛ في النفس وما دون النفس، رجالهم ونساؤهم(13)..
__________
(1) البخاري: 6881.
(2) النحاس في ناسخه: ص٨٣.
(3) الدرّ المنثور: ابن مردويه.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٧.
(5) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٦٧.
(6) الطبراني: ١١١٥٥.
(7) ابن جرير: ٣/١١٢.
(8) ابن جرير: ٣/١١٣.
(9) ابن جرير: ٣/١٠٥.
(10) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٥.
(11) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٦.
(12) البخاري: ٤٤٩٨.
(13) ابن جرير: ٣/١٠٠.
ابن عمرو:
روي عن ابن عمرو بن العاص (ت 77 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ ذلك في الدية(1)..
2. روي أنّه قال: قضى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن من قتل خطأ فديته من الإبل مائة: ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشرة ابن لبون ذكر(2)..
3. روي أنّه قال: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقوم دية الخطأ على أهل القرى أربع مائة دينار أو عدلها من الورق ويقومها على أثمان الإبل، إذا غلت رفع في قيمتها وإذا هاجت نقص من قيمتها، وبلغت على عهده ما بين أربع مائة إلى ثمان مائة وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم، وقضى على أهل البقر بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاء فألفا شاة، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم العقل ميراثٌ بين ورثة القتيل على قرابتهم فما فضل فللعصبة، وقضى في الأنف إذا جدع الدية كاملة، وإن جدعت ثندوته فنصف الدية، وقضى صلّى الله عليه وآله وسلّم أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلهم، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ليس للقاتل شيءٌ وإن لم يكن له وارثٌ فوارثه أقرب الناس إليه ولا يرث القاتل شيئا(3)..
4. روي أنّه قال: قضى صلّى الله عليه وآله وسلّم أن العقل ميراثٌ بين ورثة القتيل على فرائضهم فما فضل فللعصبة، وقضى أن يعقل على المرأة عصبتها من كانوا ولا يرثون منه شيئا، إلا ما فضل عن ورثتها، فإن قتلت فعقلها على ورثتها وهم يقتلون قاتلها(3)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٦.
(2) أبو داوود: 4541.
(3) أبو داوود: 4564.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ جعل الله القصاص حياة؛ فكم من رجل يريد أن يقتل فيمنعه منه مخافة أن يقتل(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ حين أطعمتم الدية، ولم تحل لأهل التوراة، إنما هو قصاص أو عفو، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو وليس غيره، فجعل الله لهذه الأمة القود، والدية والعفو(2)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٧.
(2) البيهقي في سننه: ٨/٢٤.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: 179]: (ولَكُمْ يا امة محمد فِي الْقِصاصِ حَياةٌ لأن من هم بالقتل فعرف أنه يقتص منه، فكف لذلك عن القتل، كان حياة للذي كان هم بقتله، وحياة لهذا الجاني الذي أراد أن يقتل، وحياة لغيرهما من الناس، إذا علموا أن القصاص واجب لا يجسرون على القتل مخافة القصاص ﴿يا أُولِي الْأَلْبابِ أولي العقول لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، ثم قال (عباد الله، هذا قصاص قتلكم لمن تقتلونه في الدنيا وتفنون روحه، أولا أنبئكم بأعظم من هذا القتل، وما يوجب الله على قاتله مما هو أعظم من هذا القصاص؟)، قالوا: بلى، يا ابن رسول الله، قال (أعظم من هذا القتل أن يقتله قتلا لا ينجبر ولا يحيا بعده أبدا)، قالوا: ما هو؟ قال (أن يضله، ويسلك به غير سبيل الله)(1)..
__________
(1) الاحتجاج: 319.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾، يعني: إذا كان عمدا(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾، يعني: ليطلب ولي المقتول في الرفق(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾، يعني: ولترحموا(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، يعني: وجيع، يقول: يقتل، ولا يعفى عنه، ولا تؤخذ منه الدية(4)..
5. روي أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، يعني: من كان له لب أو عقل يذكر القصاص؛ فيحجزه خوف القصاص عن القتل(5)..
6. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لكي تتقوا الدماء مخافة القصاص(5)..
7. روي أنّه قال: إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم؛ فنزل فيهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾، وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة؛ فأنزل الله: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥]، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد؛ رجالهم ونساؤهم، في النفس وما دون النفس(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٣.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٥.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٦.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٧.
(5) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٨.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يقتل، وهو العذاب الأليم، يقول: العذاب الموجع(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١١٧.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ إنما ذلك في قتال عمية، إذا أصيب من هؤلاء عبد ومن هؤلاء عبد تكافآ، وفي المرأتين كذلك، وفي الحرين كذلك، هذا معناه إن شاء الله(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ هو العمد، يرضى أهله بالدية(2)..
3. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عمية على عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: نقتل بعبدنا فلان بن فلان، ونقتل بأمتنا فلانة بنت فلان، فأنزل الله: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾(3)..
4. روي أنّه قال: كان بين حيين من العرب قتال، فقتل من هؤلاء ومن هؤلاء، فقال أحد الحيين: لا نرضى حتى نقتل بالمرأة الرجل، وبالرجل الرجلين، قال فأبى عليهم الآخرون، فارتفعوا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (القتل بواء)، أي: سواء، قال فاصطلح القوم بينهم على الديات، قال فحسبوا للرجل دية الرجل، وللمرأة دية المرأة، وللعبد دية العبد، فقضى لأحد الحيين على الآخر، قال فهو قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾(4)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٩٦.
(2) ابن جرير: ٣/١٠٦.
(3) ابن جرير: ٣/٩٥.
(4) ابن أبي شيبة: ٥/٤٦٠.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: دخل في قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، وقال عطاء: ليس بينهما فضل(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ العفو: الذي يعفو عن الدم، ويأخذ الدية(2)..
3. روي أنّه قال: إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص، فذلك قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف، وعلى الذي عفي عنه أن يؤدي بإحسان(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ ينتهي بها بعضكم عن بعض مخافة أن يقتل(4)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٩٦.
(2) تفسير مجاهد: ص٢١٩.
(3) ابن جرير: ٣/١٠٨.
(4) الشافعي في مسنده: ٣/٣٠٣.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ على هذا الطالب أن يطلب بالمعروف، وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان(1)..
2. روي أنّه قال: أخذ الدية عفو حسن(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا ينضم إلى قومه، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية، فيخرج الفار وقد أمن في نفسه، فيقتله ويرمي إليه بالدية، فذلك الاعتداء(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ القاتل إذا طلب فلم يقدر عليه، وأخذ من أوليائه الدية، ثم أمن، فأخذ فقتل، قال الحسن: ما أكل عدوان(3)..
5. روي أنّه سئل عن رجل قتل، فأخذت منه الدية، ثم إن وليه قتل به القاتل، فقال: تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يقتل به(4)..
6. روي أنّه قال: كان أهل الجاهلية فيهم بغي، قد كان إذا قتل من الحي منهم مملوك قتله حي آخرون، قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتل من الحي منهم امرأة قتلها حي آخرون، قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهاهم عن البغي(5)..
7. روي أنّه قال: أنزل الله تعالى هذه الآية، ونهاهم عن البغي، ثم أنزل الله بعد ذلك في المائدة: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥]، يعني: النفس التي قتلت بالنفس التي قتلت(5)..
8. روي أنّه قال: [لا يقتل الرجل بالمرأة، حتى يعطوا نصف الدية؟](6)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٠٦.
(2) ابن جرير: ٣/١٠٨.
(3) ابن جرير: ٣/١١٦.
(4) ابن جرير: ٣/١١٩.
(5) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٩٧.
(6) ابن جرير: ٣/٩٩.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ قال إذا قتل الرجل عمدا، ثم أخذت منه الدية؛ فقد عفي له عن القتل، ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قال يتبع الطالب بالمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فعليه القتل، لا يقبل منه الدية، وذكر لنا: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية)(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ جعل الله في القصاص حياة، إذا ذكره الظالم المعتدي كف عن القتل(3)..
4. روي أنّه قال: جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لأولي الألباب، وفيه عظة لأهل الجهل والسفه، كم من رجل قد هم بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها، ولكن الله حجز عباده به بالقصاص بعضهم عن بعض، وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، وما نهى الله عن أمر إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين، والله كان أعلم بالذي يصلح خلقه(4)..
5. روي أنّه قال: لم يكن لمن كان قبلنا دية، إنما هو القتل أو العفو؛ فنزلت هذه الآية في قوم أكثر من غيرهم، فكانوا إذا قتل من الكثير عبد قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، فأنزل الله: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾(5)..
6. روي أنّه قال: كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي منهم إذا كان فيهم عدد وعدة، فقتل لهم عبدا عبد قوم آخرين، فقالوا: لن نقتل به إلا حرا، تعززا وتفضلا على غيرهم في أنفسهم، وإذا قتلت لهم أنثى قتلتها امرأة، قالوا: لن نقتل بها إلا رجلا، فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أن العبد بالعبد، والحر بالحر، والأنثى بالأنثى، وينهاهم عن البغي، ثم أنزل سورة المائدة فقال: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] الآية(6)..
7. روي أنّه قال: ﴿وَرَحْمَةً﴾، قال هي رحمة رحم بها الله هذه الأمة، أطعمهم الدية، وأحلها لهم، ولم تحل لأحد قبلهم، فكان في أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو، ليس بينهما أرش، فكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به، وجعل الله لهذه الأمة القتل، والعفو، والدية إن شاءوا، أحلها لهم، ولم يكن لأمة قبلهم(7)..
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٦٧.
(2) عبد الرزاق في تفسيره: ١/٣٠٥.
(3) عبد الرزاق: ١/٦٨.
(4) ابن جرير: ٣/١٢١.
(5) ابن جرير: ٣/٩٦.
(6) البيهقي: ٨/٢٨.
(7) ابن جرير: ٣/١١٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: (﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ معناه من ترك له.. ويقال العفو أخذ الدّية.. وقال ابن عباس أنّه قال (كان القصاص في بني إسرائيل، ولم يكن لهم دية.. فقال الله تعالى لهذه الأمة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ فالعفو: أن يقبل الدية في العمد اتّباعا بالمعروف.. فيتّبع الطالب بالمعروف ويؤدي المطلوب إليه بإحسان ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ مما كتب على من كان قبلكم،(1)..
2. روي أنّه قال: (﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ معناه من قتل بعد أخذ الدّية؛ فإنه يقتل، ولا تقبل منه الدّية،(1)..
3. روي أنّه قال: (﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ معناه بقاء،(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 95.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ بقي له من دية أخيه شيء، أو من أرش جراحته؛ فليتبع بمعروف، وليؤد إليه الآخر بإحسان(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ بقاء، لا يقتل إلا القاتل بجنايته(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ اقتتل أهل مائين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبيد والنساء ـ على أن يؤدي الحر دية الحر، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصهم بعضهم من بعض(3)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٠٩.
(2) ابن جرير: ٣/١٢٣.
(3) ابن جرير: ٣/٩٧.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ الآية، جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم؛ كم من رجل قد هم بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها، وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٢١.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أيما رجل قتله الحد في القصاص فلا دية له، وأيما رجل عدا على رجل ليضربه فدفعه عن نفسه فجرحه أو قتله فلا شيء عليه، وأيما رجل اطلع على قوم في دارهم لينظر إلى عوراتهم ففقؤوا عينه، أو جرحوه فلا دية عليهم، ومن بدأ فاعتدى فاعتدي عليه فلا قود له(1)..
2. روي أنّه قال: إذا أراد الرجل أن يضرب رجلا ظلما فاتقاه الرجل أو دفعه عن نفسه فأصابه ضرر فلا شيء عليه(2)..
3. روي أنّه سئل عن رجل ضرب رجلا ظلما فرده الرجل عن نفسه فأصابه شيء: لا شيء عليه(3)..
4. روي أنّه قال: من بدأ فاعتدى فاعتدي عليه فلا قود له(4)..
5. روي أنّه سئل عن رجل سارق دخل على امرأة ليسرق متاعها فلما جمع الثياب تبعتها نفسه فواقعها، فتحرك ابنها فقام فقتله بفأس كان معه، فلما فرغ حمل الثياب وذهب ليخرج حملت عليه بالفأس فقتلته، فجاء أهله يطلبون بدمه من الغد، فقال الإمام الصادق: يضمن مواليه الذين طلبوا بدمه دية الغلام، ويضمن السارق فيما ترك أربعة آلاف درهم لأنه زان وهو في ماله يغرمه، وليس عليها في قتلها إياه شيء لأنه سارق(5)..
6. روي أنّه سئل عن رجل أراد امرأة على نفسها حراما فرمته بحجر فأصابت منه مقتلا، فقال: ليس عليها شيء فيما بينها وبين الله عزّ وجلّ وإن قدمت إلى إمام عادل أهدر دمه(6)..
7. روي أنّه قال: إذا اطلع رجل على قوم يشرف عليهم، أو ينظر من خلل شيء لهم فرموه فأصابوه فقتلوه أو فقؤوا عينيه فليس عليهم غرم، وإن رجلا اطلع من خلل حجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فجاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بمشقص ليفقأ عينه فوجده قد انطلق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أي خبيث أما والله لو ثبت لي لفقأت عينك(7)..
8. روي أنّه قال: أيما رجل اطلع على قوم في دارهم لينظر إلى عوراتهم ففقؤوا عينه أو جرحوه فلا دية عليهم، ومن اعتدى فاعتدي عليه فلا قود له(1)..
9. روي أنّه سئل عن رجل أتى رجلا وهو راقد فلما صار على ظهره أيقن به فبعجه بعجة فقتله، فقال: لا دية له ولا قود(8)..
10. روي أنّه سئل عن قول الله تعالى: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾، قال (يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره)، واسأل عن قول الله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ﴾، قال (هو الرجل يقبل الدية، فينبغي للطالب أن يرفق به ولا يعسره، وينبغي للمطلوب أن يؤدي إليه بإحسان، ولا يمطله إذا قدر)(9)..
11. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: (الرجل يعفو أو يأخذ الدية، ثم يجرح صاحبه أو يقتله فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(10)..
12. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ﴾: (هو الرجل يقبل الدية، فأمر الله عز وجل الرجل الذي له الحق أن يتبعه بمعروف ولا يعسره، وأمر الذي عليه الحق أن يؤدي إليه بإحسان إذا أيسر)، قيل: أرأيت قوله عز وجل: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؟ قال (هو الرجل يقبل الدية أو يصالح، ثم يجي ء بعد ذلك فيمثل أو يقتل، فوعده الله عذابا أليما)(10)..
__________
(1) الكافي: 7/290/1.
(2) الكافي: 7/291/4.
(3) الكافي: 7/291/6.
(4) الكافي: 7/292/9.
(5) من لا يحضره الفقيه: 4/121/422.
(6) الكافي: 7/291/2.
(7) الكافي: 7/290/5.
(8) الكافي: 7/293/14.
(9) الكافي: 7/358.
(10) الكافي: 7/359.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾، ثم رجع إلى أول الآية في قوله سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ إذا كان عمدا إذا عفا ولي المقتول عن أخيه القاتل ورضي بالدية ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني: الطالب ليطلب ذلك في رفق، ثم قال للمطلوب: ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ يقول: ليؤدي الدية إلى الطالب عفوا في غير مشقة ولا أذى(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، يعني: وجيع؛ فإنه يقتل، ولا يؤخذ منه دية؛ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا عفو عمن قتل القاتل بعد أخذ الدية)، وقد جعل الله له عذابا أليما(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، يعني: من كان له لب أو عقل فذكر القصاص؛ فيحجزه الخوف عن القتل(2)..
4. روي أنّه قال: صارت منسوخة، نسختها الآية التي في المائدة [الآية: ٤٥] قوله سبحانه: ﴿وَكَتَبْنَا﴾ فيما قضينا ﴿عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، يعني: ﴿النَّفْسُ﴾ المسلم الحر ﴿بِالنَّفْسِ﴾ المسلم الحر، والمسلمة الحرة بالمسلمة الحرة(3)..
5. روي أنّه قال: قال أخذت هذا التفسير عن نفر، حفظ معاذ منهم مجاهدا والحسن والضحاك، في قول الله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الآية، قالوا: كان على أهل التوراة من قتل نفسا بغير نفس أن يقاد بها، ولا يعفى عنه، ولا تقبل منه الدية، وفرض على أهل الإنجيل أن يعفى عنه، ولا يقتل، ورخص لأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا، فذلك قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ يقول: الدية تخفيف من الله تعالى؛ إذ جعل الدية ولا يقتل، ثم قال ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(4)..
6. روي أنّه قال: ﴿تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُم﴾ إذ جعل في قتل العمد العفو، والدية، ثم قال ﴿وَرَحْمَةً﴾ يعني: وتراحموا، وكان الله تعالى حكم على أهل التوراة أن يقتل القاتل، ولا يعفى عنه، ولا يقبل منه الدية، وحكم على أهل الإنجيل العفو، ولا يقتل القاتل بالقصاص، ولا يأخذ ولي المقتول الدية، ثم جعل الله تعالى التخفيف لأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، إن شاء ولي المقتول قتل القاتل، وإن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذ منه الدية، فكان لأهل التوراة أن يقتل قاتل الخطأ والعمد، فرخص الله تعالى لأمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذلك قوله سبحانه في الأعراف: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم﴾ من التشديدات، وهي أن يقتل قاتل العمد، ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه الدية(1)..
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/١٥٨.
(2) تفسير مقاتل: ١/١٥٩.
(3) تفسير مقاتل: ١/١٥٧.
(4) الشافعي في مسنده: ٣/٣٠٣.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ ذلك إذا أخذ الدية، فهو عفو(1)..
2. روي أنّه قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن الثبت ـ غير أنه لم ينسبه، وقال: ثقة ـ: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أوجب بقسم أو غيره أن لا يعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية، ثم عدا فقتل، وقال ابن جريج: أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال في كتاب لعمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (والاعتداء الذي ذكر الله: أن الرجل يأخذ العقل، أو يقتص، أو يقضي السلطان فيما بين الجرح، ثم يعتدي بعضهم من بعد أن يستوعب حقه، فمن فعل ذلك فقد اعتدى، والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة)، قال ولو عفا عنه لم يكن لأحد من طلبة الحق أن يعفو؛ لأن هذا من الأمر الذي أنزل الله فيه قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩](2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٠٧.
(2) ابن جرير: ٣/١١٨.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ فمن فضل له على أخيه شيء فليؤده بالمعروف، وليتبعه الطالب بإحسان(1)..
__________
(1) ابن أبي شيبة في مصنفه: ١٤/٣٢٣.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ تقية؛ إذا خاف هذا أن يقتل بي كف عني، لعله يكون عدوا لي يريد قتلي، فيتذكر أنه يقتل في القصاص، فخشي أن يقتل بي، وكف بالقصاص الذي خاف أن يقتل، لولا ذلك قتل هذا(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٢٢.
الدنداني:
روي عن أبو صالح الدنداني (ت 190 هـ) أنّه قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ بقاء(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٢٢.
الهادي إلى الحق:
قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ): ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، والحياة التي ذكرت في القصاص فهي: ما يداخل الظالمين من الخوف من القصاص في قتل المظلومين، فيرتدعوا عن ذلك إذا علموا أنهم بمن يقتلون مقتولون، فتطول حياتهم إذا ارتدعوا عن فسادهم، وينكلون عن قتل من به يقتلون، وبإبادته بحكم الله يبادون(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/79.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قيل: نزلت الآية في جيشين من العرب، كان وقع بينهما حرب وقتال، وكان لإحداهما فضل وشرف على الأخرى، فأرادوا بالعبد منهم الحر من أولئك، وبالأنثى منهم الذكر، فأنزل الله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾
2. وهى منسوخة؛ لأن فيها قتل غير القاتل:
أ. نسخها قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾:
• قيل: لا تسرف ولا تقتل غير قاتل وليك.
• وقيل: لا تسرف، أي لا تمثل في القتل.
• وقيل: لا تسرف في القتل، أي لا تقتل أنت إذ هو منصور.
فثبت بهذا نسخها؛ إذ لم يؤذن بقتل غير القاتل.
ب. ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45]، ولا يحتمل نفس غير القاتل يقتل بنفس، دليله قوله: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: 45]، ولا يتصدق على غير القاتل، ثبت أنها منسوخة بما ذكرنا.
ج. قال الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 179]، لما إذا همّ بقتل آخر يذكر قتل نفسه، فيرتدع عن قتله، فيحيا به النفسان جميعا، فلو لزم قتل غير القاتل لم يكن فيه حياة، إذ لا يخشى تلف نفسه.
3. ثم هذا يدل على وجوب القصاص بين الحر والعبد، وبين الكافر والمسلم، إذ لو لم يجعل بينهما قصاص لم يرتدع أحد عن قتلهم، إذ لا يخشى تلف نفسه بهم، فدل أنهم يقتلون بهم.. هذا فيما يجعل الآية ابتداء، لا في الحيين، اللذين ذكرا به.
4. ثم يقال: ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم فيه وجعله شرطا ونفيه في غير شكله، دليله ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قال (خذوا عنى خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة)، ثم إذا زنى البكر بالثيب وجب ذلك الحكم، فدل أن ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص في الحكم، ولكن فيه إيجاب الحكم] في كل شكل إذا ارتكب ذلك وهو أن يقتل الحر إذا قتل آخر، والحرية لا تمنع الاقتصاص لفضله، وكذلك العبد إذا قتل آخر يقتل به، والرق لا يمنع ذلك للذلّ الذي فيه، وكذلك الأنثى تقتل إذا قتلت أخرى، ولا يمنع ما فيها من الضعف في وجوب القصاص.
5. وله وجه آخر: وهو أنّه قال ﴿وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ ومن الإناث إماء، وقد أمر بالاقتصاص بينهن، فلئن وجب تخصيص ما ذكر خاصّا، وجب أن يذكر عامّا ما ذكر فيه العموم.
6. سؤال وإشكال: على عموم الاسم في أحدهما، وخصوص القول في الآخر، والجواب: ليس هكذا، لو كان في ذكر الوفاق في الاسم منع الحق عن ذلك الوجه المذكور إذ ذكر في الخلاف لم يدخل فيما ذكر في الوفاق ما ليس منه، فإذا دخل علم أن ذكر الوفاق في الخلاف في حق إدخال ما ليس من شكله بمحل واحد.
7. ثم يقال: إن نفس العبد للعبد في حق الجناية، لا للمولى، إنما للمولى في نفسه الملك والمالية، ألا ترى أن العبد لو أقر على نفسه بالقصاص أخذ به، ولو أقر عليه مولاه لم يؤخذ به، فدل أن نفسه له، لا للمولى، فكان كنفس الحر للحر، فيجب أن يقتل الحر به، إذ هو ساوى الحر في حق النفس، فيجب أن يسوى بينهما في حق القصاص.
8. في حق الاقتصاص، ما يجب إنكار مثله في الذي ذكر عقيب ذكر الحق؛ وهم بأجمعهم تحت الإيجاب مذكورين، ثم الإناث بالإناث مع اختلاف الأحوال يلزم القصاص، كيف لا لزم مثله في الأحرار؟
9. الأصل في هذا: ألا يعتبر في الأنفس المساواة، ألا ترى أن الأنفس تقتل بنفس واحدة، هكذا روى عن عمر، (أنه قتل رجلا بامرأة)، وروى أنه قتل سبعة نفر بامرأة، وقال: لو تمالأ عليها أهل صنعاء لقتلتهم، وقال: وروى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قال: لا يقتل مسلم بكافر.. ثم قال صاحب هذا القول: لو أن كافرا قتل كافرا ثم أسلم القاتل يقتل به، فهو قتل مسلما تقيّا برّا بكافر، إذ الإسلام يطهره، ولم يقتل مسلما فاسقا ارتكب الكبيرة بالكافر، إذ القتل يفسقه، والمسلم أحق أن يقتل بالكافر من الكافر بالمسلم، وذلك أن المسلم هتك حرمة الإسلام بقتل الكافر؛ لأنه اعتقد باعتقاد دين الإسلام حرمة دم الذمى، وهو بقتله كمستخف بمذهبه، وأما الذمى فإنه لا يعتقد باعتقاد مذهبه حرمة دماء أهل الإسلام، فهو ليس بقتل المسلم كمستخف بمذهبه، والمسلم كمستخف بدينه، على ما ذكرنا، لذلك كان أحق بالقصاص من الكافر، ألا ترى أن من قتل في الحرم قتل به؛ لأنه هتك حرمة الحرم كالمستخف به، وإذا قتل خارجا منه، ثم التجأ إليه، لم يقتل به حتى يخرج منه؛ لأنه ليس كمستخف له، و الأول مستخف؛ لذلك افترقا، فكذلك الأول، والله أعلم.
10. الخبر عندنا يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: قيل: إن قوما قتل بعضهم بعضا في الجاهلية، فأسلم بعضهم، فأراد أولئك أن يأخذوا من أسلم منهم بالقصاص، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يقتل مسلم بكافر)، كما قال (كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هذا)
ب. الثاني: أنه أراد بالكافر المستأمن؛ لأنه قال (لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده)، فنسق قوله: (ذو عهد) على المسلم، فكان معناه: لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد به، فكل كافر لا يقتل به ذو عهد في عهده لم يقتل به المسلم، فالذمي يقتل به ذو العهد، لذلك يقتل به المسلم، والمسلم إذا قتل مستأمنا لم يقتل به، وكذلك الذمى، فدل بما ذكرنا أنه أراد بالكافر المستأمن، لا الذمى.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾:
أ. قال بعضهم: هو القاتل، إذا عفى له: معناه: عنه، فيتبع الولي بأخذ الدية بالمعروف، شاء القاتل أو أبى، احتج بما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في رجل اختصم إليه في قاتل أخيه، فقال: أتعفو عنه؟ قال لا، قال أتأخذ الدية؟ قال لا، قال أتقتله؟ قال نعم.. عرض عليه الدية، ولو كان غير حقه لم يعرض عليه، وقال في بعض الأخبار: (ولى القتيل بين خيرتين: بين قتل وأخذ دية)
ب. أما عندنا(2).: تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ ليس هو القاتل؛ لأنه يكون معفوا عنه؛ ولأنه لا يتبع أحدا وهو المتبع، بل هو الولي؛ لأنه هو المعفو له، لا القاتل، حيث أمر بالاتباع بالمعروف؛ كأنه قال من بذل له وأعطى من أخيه شيء فاتباع بالمعروف؛ وذلك جائز في اللغة؛ العفو بمعنى البذل والإعطاء، على ما قيل: خذ ما آتاك عفوا صفوا، أي فضلا، وكذلك روى عن عبد الله بن عباس، أنّه قال ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ أي أعطى له، والحق عندنا: هو القود، لا غير، على ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (العمد قود إلا أن يعفو ولى المقتول)، وقد روى في بعض الأخبار: (إلا أن تفادى)، والمفاداة: هو فعل اثنين، فلا يأخذه إلا عن تراض واصطلاح منهما جميعا.
12. فى الآية دلالة: أن الحق: هو القصاص، لا غير، بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ أخبر أن المكتوب عليه والمحكوم القصاص، فلو كان الخيار بين القصاص والعفو وأخذ الدية ـ شاء أو أبى ـ لكن لا يكون مكتوبا عليه القصاص، ويذهب فائدة قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ إنما كان يكون عليه أحدهما، كما لا يقال في الكفارة: بأن المكتوب عليه العتق، بل أحد الثلاثة، فلما قال ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ دل أن أخذ الدية كان كالخلف عنه، وما روى عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث قال لولى القتيل: (أتعفو عنه)؟ قال (لا)، فقال: (أتأخذ الدية)؟ قال (لا)، إنما عرض عليه الدية، لما علم أن القاتل يرضى بذلك، على ما روى أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبرته بغض زوجها، فقال لها: (أتردين عليه حديقته؟) قالت: نعم، وزيادة، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أما الزيادة فلا) وإنما قال لها ذلك لما علم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه يرضى بطلاقها إذا ردت عليه حديقته؛ فعلى ذلك الأول، ولو كانت لفظة (العفو) تعبر عن إلزام الدية ما أحوجه إلى ذكر الإشارة إلى العفو مرة، وإلى أخذ الدية ثانيا؛ فثبت أن ليس للذي يعفو أن يأخذ الدية بالعفو.
13. قيل في قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أصلها أنها نزلت في دم بين نفر يعفو أحدهم عن القاتل، ويتبع الآخرون بالمعروف في نصيبهم؛ لأنه ذكر (الشيء)، والشيء: هو العفو عن بعض الحق، فألزم الاتباع للآخرين عند عفو بعض حقه؛ ثبت أن العفو لا يلزم الدية، وروى عن عمر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، أنهم أوجبوا في بعض عفو الأولياء، للذين لم يعفوا ـ الدية، على ترك السؤال عمن عفا عنك عفوت بدية، ولو كان ثم حق ذكروه له؛ فدل أن العفو لا يوجب الدية.
14. الذي ذكرت تدبير الحق عليه أن يفعل، لا تدبير الإلزام، ولو كان ذلك لازما، لكان يقتله ببذله نفسه فيغرم فاعل ذلك؛ وهذا كما يغنى الرجل بشراء ما به قوام نفسه عند الضرورة إلا أن يلزم لو أبى ذلك، فمثله ديته، بمعنى أن في ذلك تلف نفس تلك قيمته، فمثله الأول.
15. ما روى في التخيير بين أخذ الدية، وما ذكر فهو على بيان الحل والرخصة على ما قيل: إن من حكم التوراة القتل، ولا يجوز لهم العفو ولا أخذ الدية، ومن حكم أهل الإنجيل العفو، لا يقتل بالقصاص، ولا تؤخذ الدية، فحكم الله عزّ وجل على أهل القرآن: أن جعل لهم القتل مرة، والعفو ثانيا، وأخذ الدية تارة؛ فدل أنه يخرج مخرج بيان الحل والرخصة، إذا طابت به نفس من عليه ذلك يبذله إذا طلب، ولا يوجب قطع الخيار من الآخر، ولهذا ما نقول في قوله: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196]، وقوله في التخيير في الكفارة: إن ذلك إلى من عليه، لا إلى من يأخذ، إذ الحق هاهنا من جانب واحد، فيجعل الخيار إلى من عليه إذا كان من كلا الجانبين يعتبر رضاءهما جميعا.
16. ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ لما ذكر من إباحة العفو في حكم القرآن، ولم يكن في حكم غيره من الكتب، وأخذ الدية أو القتل، ولم يكن في حكم التوراة والإنجيل إلا واحد، ويحتمل: أن كان في التوراة هذا أو هذا كما قال ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ واحتمل أنه ذكر القود شرعا لنا، وقوله: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ﴾ لنا خاصة.
17. قوله: ﴿وَرَحْمَةً﴾ فيه دلالة ألا يقطع صاحب الكبيرة عن رحمة الله؛ لأنه أخبر أن التخفيف رحمته في الدنيا، فإذا لم يوفهم، وكذلك قوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا﴾ [الحجرات: 9] أبقى لهم اسم الإيمان بعد البغي والقتل، دل أن ارتكاب الكبيرة لا يخرجه من الإيمان، وهذا يرد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إن من ارتكب كبيرة أخرجته من الإيمان، وما ذكر من التخليد في قتل العمد يخرج على وجهين: أحدهما لاستحلال قتله، أو يتغمد ديته، وإلا فيخرج الآيتان على التناقض في الظاهر لو لم يجعل على ما ذكرنا.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾:
أ. قيل: من اعتدى على القاتل بعد ما عفى عنه، أو بعد ما أخذ الدية.
ب. وقيل: ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي من بعد النهى عن قتله.
ج. وقيل: إذا أرى من نفسه العفو، ثم أخذ الدية، ثم أراد قتله، فهو الاعتداء، ثم اختلف بعد هذا بوجهين:
د. قال قوم: إذا فعل ذلك يترك القصاص فيه للعذاب المذكور في الآخرة: وقال غيرهم إذا اقتص ارتفع عنه العذاب الأليم، وإن لم يقتص فلا.
هـ. وجائز عندنا: أن يكون العذاب الأليم في الدنيا، إذ لم يخلق شيء من العذاب أشد من القتل؛ إذ القتل هو الغاية من الألم والوجع، والله أعلم.
19. قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ قيل فيه بوجهين، وإلا فظاهر القصاص لا يكون حياة:
أ. قيل: من تفكره في نفسه قتلها إذا قتل آخر ارتدع عن قتله، فتحيا النفسان جميعا.
ب. الثاني: من نظر فرأى آخر يقتل بغيره امتنع عن قتل آخر ففيه حياته أو تذكر أنه مقتص منه إذا قتل حمله حبه في إحياء نفسه على أن يرتدع عن قتل من المقتول، فطلب فيه المعنى الذي فيه الإحياء وهو حرمان الميراث.
20. على هذا التقدير يقتل المسلم بالكافر؛ لأن المسلم قد يستخف بالكافر في دار سلمه، فيحمله استخفافه إياه على قتله، ففيه معنى يدعو إلى الفناء، فيجب أن يقتص من المسلم بالكافر لتحقيق معنى الحياة، وعلى هذا التقدير يقتل الحر بالعبد؛ لأن الحر يستخف بالعبد، فيدعوه استخفافه به على قتله، فهو يقتل به، أو نقول: يقتل الولد بالوالد لما يستعجل الوصول إلى ملكه، فيحمله على قتله؛ فلزم حفظ ما لأجله الحياة، ثم في الوالد شفقة ومحبة تمنع الوالد عن قتل ولده؛ لذلك انتهى عنه القصاص، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يقاد الوالد بولده)، الوالد يحب ولده؛ لأنه يرغب أن يكون له ولد، وأما الولد فإنما يحب والده له لنفسه ومنافع له، فإذا كان الولد له لم يقتص منه.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/7.
(2) يقصد الحنفية.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾: يريد عز وجل أن من عفي له من القتل وجبت عليه الدية، إلا أن يوهب له الجميع من ذلك فيجوز، ويكون تفضلاً من الواهب.
2. معنى قوله عز وجل: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾: أي لكم في قتل القاتل، وسفك دم الجراح سلامة من شر الفاسقين إذا خافوا على أنفسهم، قال الشاعر:
çأبلغ أبا خالد عني مغلغلة... وفي القصاص حياة تورث النعماءé
يريد أن في القصاص نكالاً.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 281.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ ومعنى كتب أي فرض.
2. ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ والمعنى لكم أيها المخاطبون في القصاص حياة في إيجابه حياة لأن من هم بالقتل فذكر القصاص ارتدع، ويقال: وكيف يكون فيه الحياة ولمن تكون؟ قلنا: إذا تصور القصاص وارتدع ففيه بقاء من يهم بالقتل ومن يهمَّ به ومن يتعصب لهما لأن الفتنة تعظم بالقتل.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/95.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أي فرض عليكم، ومنه قول نابغة بني جعدة:
çيا بنت عمي كتاب الله أخرجني...عنكم فهل أمنعن الله ما فعلاé
وقول عمر بن أبي ربيعة:
çكتب القتل والقتال علينا...وعلى الغانيات جر الذيولé
2. القصاص: مقابلة الفعل بمثله مأخوذ من قص الأثر.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ على أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنها نزلت في قوم من العرب كانوا أعزة أقوياء لا يقتلون بالعبد منهم إلا سيدا وبالمرأة منهم إلا رجلا، استطالة بالقوة وإدلالا بالعزة، فنزلت هذه الآية فيهم، وهذا قول الشافعي، وقتادة.
ب. الثاني: أنها نزلت في فريقين كان بينهما على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قتال، فقتل من الفريقين جماعة من رجال ونساء وعبيد فنزلت هذه الآية فيهم، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دية الرجل قصاصا بدية الرجل، ودية المرأة قصاصا بدية المرأة، ودية العبد قصاصا بدية العبد ثم أصلح بينهم، وهذا قول السدي وأبي مالك.
ج. الثالث: أن ذلك أمر من الله عزّ وجل بمقاصة دية القاتل المقتص منه بدية المقتول المقتص له واستيفاء الفاضل بعد المقاصة، وهذا قول عليّ كان يقول في تأويل الآية: أيما حر قتل عبدا فهو به قود، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه وقاصّوهم بثمن العبد من دية الحر وأدوا إلى أولياء الحر بقية ديته، وأيما عبد قتل حرا فهو به قود، فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد وقاصّوهم بثمن العبد وأخذوا بقية دية الحر، وأيما رجل قتل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه، وأدوا بقية الدية إلى أولياء الرجل، وأيما امرأة قتلت رجلا فهي به قود، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية.
د. الرابع: أن الله عز وجل فرض بهذه الآية في أول الإسلام أن يُقْتَلَ الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة والعبد بالعبد، ثم نَسَخَ ذلك قولُه في سورة المائدة ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45] وهذا قول ابن عباس.
4. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: فمن عفي له عن القصاص منه فاتّباع بمعروف وهو أن يطلب الولي الدية بمعروف ويؤدي القاتل الدية بإحسان، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
ب. الثاني: أن معنى قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ بمعنى فمن فضل له فضل وهذا تأويل من زعم أن الآية نزلت في فريقين كانا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل من كلا الفريقين قتلى فتقاصّا ديات القتلى بعضهم من بعض، فمن بقيت له بقية فليتبعها بمعروف، وليرد من عليه الفاضل بإحسان، ويكون معنى ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي فضل له قبل أخيه القاتل شيء، وهذا قول السدي.
ج. الثالث: أن هذا محمول على تأويل عليّ في أول الآية في القصاص بين الرجل والمرأة والحر والعبد وأداء ما بينهما من فاضل الدية.
5. في الاتباع بالمعروف والأداء إليه بإحسان وجهان ذكرهما الزّجّاج:
أ. أحدهما: أن الاتباع بالمعروف عائد إلى ولي المقتول أن يطالب بالدية بمعروف، والأداء عائد إلى القاتل أن يؤدي الدية بإحسان.
ب. الثاني: أنهما جميعا عائدان إلى القاتل أن يؤدي الدية بمعروف وبإحسان.
6. ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ يعني خيار الولي في القود أو الدية، قال قتادة: وكان أهل التوراة يقولون: إنما هو قصاص أو عفو ليس بينهما أرش، وكان أهل الإنجيل يقولون: إنما هو أرش أو عفو ليس بينهما قود، فجعل لهذه الأمة القود والعفو والدية إن شاءوا، أحلها لهم ولم تكن لأمة قبلهم، فهو قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾
7. ثم قال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يعني من قتل بعد أخذه الدية فله عذاب أليم، وفيه أربعة تأويلات:
أ. أحدها: أن العذاب الأليم هو أن يقتل قصاصا، وهو قول عكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك.
ب. الثاني: أن العذاب الأليم هو أن يقتله الإمام حتما لا عفو فيه، وهو قول ابن جريج، وروي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: (لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدّية)
ج. الثالث: أن العذاب الأليم هو عقوبة السلطان.
د. الرابع: أن العذاب الأليم استرجاع الدية منه، ولا قود عليه، وهو قول الحسن البصري.
8. في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إذا ذكره الظالم المعتدي، كف عن القتل فحيي، وهذا قول مجاهد وقتادة.
ب. الثاني: أن إيجاب القصاص على القاتل وترك التعدي إلى من ليس بقاتل حياة للنفوس، لأن القاتل إذا علم أن نفسه تؤخذ بنفس من قتله كف عن القتل فحيي أن يقتل قودا، أو حيي المقتول أن يقتل ظلما.
وفي المعنيين تقارب، و الثاني أعم، وهو معنى قول السدي.
9. ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ يعني يا ذوي العقول، لأن الحياة في القصاص معقولة بالاعتبار، ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ قال ابن زيد: لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/229.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كتب: فرض، وأصل الكتب: الخط الدّال على معنى الفرض، وقيل: لأنه، مما كتبه الله في اللوح المحفوظ على جهة الفرض، قال الشاعر:
çكتب القتل والقتال علينا...وعلى المحصنات جرّ الذيولé
وقال النابغة الجعدي:
çيا بنت عمي كتاب الله أخرجني...عنكم فهل امنعنّ الله ما فعلاé
ومنه الصلاة المكتوبة أي المفروضة.
2. سؤال وإشكال: كيف قيل: كتب عليكم بمعنى فرض، و الأولياء مخيرون: بين القصاص، والعفو، وأخذ الدية؟ والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: انه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص، والفرض قد يكون مضيقاً ويكون مخيراً فيه.
ب. الثاني: فرض عليكم ترك مجاوزة ما حد لكم الى التعدي فيما لم يجعل لكم.
3. القصاص: الأخذ من الجاني مثل ما جنى، وذلك لأنه تال لجنايته، وأصله التلو، من قص الأثر: وهو تلو الأثر، والقصاص، والمقاصة، والمعاوضة، والمبادلة نظائر، يقال: قصّ يقصّ قصّا، وقصصاً، وأقصه به إقصاصاً، واقتصّ اقتصاصاً، وتقاصّوا تقاصاً، واستقص: إذا طلب القصاص استقصاصاً، وقاصه مقاصّة وقصاصاً، وقصّ الشيء بالمقص يقصه قصاً، وقص الحديث يقصه قصصاً، وكذلك قص أثره قصصاً: إذا اقتفى أثره، والقص والقصص: عظم الصدر من الناس، وغيرهم، والقصة: الخصلة من الشعر، والقصة من القصص معروفة، والقصة الجص، والقصاص: التقاص من الجراحات والحقوق شيء بشيء، والقصيص: نبات ينبت في أصول الكمأة، واقصّت الشاة، فهي مقصّ إذا استبان ولدها، وأصل الباب التلوّ.
4. ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ فالحر نقيض العبد، والحر من كل شيء، أعتقه، والحرّ: ولد الحية، وولد الظبية، وفرخ الحمام، وأحرار البقول: ما يؤكل غير مطبوخ، والحرَ: نقيض البرد، حرّ النهار يحر حرّا، والحرير: ثياب من إبريسم، والحريرة: دقيق يطبخ باللبن، والحرة: أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار، وتحرير الكتابة: إقامة حروفها، والحرورية: منسوب الى حرور: قرية كان أول مجتمعهم بها، فالمحرر المختص بخدمة الكنيسة ما عاش، ومنه قوله ﴿مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ وأصل الباب الحرّ خلاف البرد، ومنه الحرير، لأنه يستدفأ به.
5. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ معناه ترك، من عفت المنازل إذا تركت حتى درست، والعفو عن المعصية: ترك العقاب عليها، وقيل: معنى العفو هاهنا ترك القود بقبول الدية من أخيه.
6. الأخ يجمع أخوة إذا كانوا لأب، وإذا لم يكونوا لاب، فهم أخوان، ذكر ذلك صاحب العين، ومنه قوله: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ ومنه الإخاء، والتآخي، والأخوة قرابة الأخ، والتآخي اتخاذ الأخوان، وبينهما إخاء وأخوة، وآخيت فلاناً مؤاخاة، وإخاء، وأصل الباب الأخ من النسب، ثم شبه به الأخ من الصداقة.
7. اختلف في الهاء في قوله تعالى: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾:
أ. قيل: تعود الى أخي المقتول ـ في قول الحسن ـ.
ب. وقال غيره: تعود الى أخي القاتل.
8. سؤال وإشكال: كيف يجوز أن تعود الى أخي القاتل، وهو في تلك الحال فاسق؟ والجواب: عن ذلك ثلاثة أجوبة:
أ. أحدها: إنه أراد أخوة النسب، لا في الدين، كما قال ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾
ب. الثاني: لأن القاتل قد يتوب فيدخل في الجملة، وغير التائب على وجه التغليب.
ج. الثالث: تعريفه بذلك على أنه كان أخاه قبل أن يقتله، كما قال ﴿إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ﴾ يعنى الذين كانوا أزواجهن.
9. قال جعفر بن مبشر عن بعضهم: إن هذه الآية منسوخة بقوله ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، قال: وليست عندي كذلك، لأن الله تعالى إنما أخبرنا أنه كتبها على اليهود قبلنا، وليس في ذلك ما يوجب أنه فرض علينا، لأن شريعتهم منسوخة بشريعتنا، والذي أقوله: إن هذه الآية ليست منسوخة، لأن ما تضمنته معمول عليه ولا ينافي قوله تعالى: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ لأن تلك عامة، ويمكن بناء تلك على هذه، ولا تناقض ولا يحتاج الى أن ينسخ إحداهما بالأخرى، وقال قتادة: نزلت هذه الآية، لأن قوماً من أهل الجاهلية كانت لهم حولة على غيرهم من أهل الجاهلية، فكانوا يتعدون في ذلك، فلا يرضون بالعبد إلا الحرّ، ولا بالمرأة إلا الرجل، فنهاهم الله تعالى عن ذلك.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾:
أ. قيل: يعني العافي، وعلى المعفو عنه ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ وبه قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والشعبي، والربيع، وابن زيد، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
ب. وقال قوم: هما على المعفو عنه.
11. اختلف في الاعتداء في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾:
أ. قيل: هو القتل بعد قبول الدية على قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع، وابن زيد، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله عليه السلام.
ب. وقيل: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى﴾ بعد البيان في الآية، فقتل غير قاتل وليه أو بعد قبول الدية ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وهذا أيضاً جيد تحتمله الآية.
12. ﴿فَاتِّبَاعٌ﴾ رفع بأنه ابتداء لخبر محذوف، كأنه قيل: فحكمه اتباع، أو فعليه اتباع، وكان يجوز النصب في العربية، على تقدير فليتبع اتباعاً، ولم يقرأ به.
13. الأداء، قال الخليل: أدّى فلان يؤدّي ما عليه أداء وتأدية، ويقال: فلان آدّى للأمانة من غيره، والأداة من أدوات الحرب، وأصل الباب التأدية تبليغ الغاية.
14. ﴿تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ معناه: أنه جعل لكم القصاص، أو الدية، أو العفو، وكان لأهل التوراة قصاص، وعفو، ولأهل الإنجيل عفو، أو دية.
15. يجوز قتل العبد بالحر، والأنثى بالذكر إجماعاً، ولقوله: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ ولقوله: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، وقوله: في هذه الآية ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ لا يمنع من ذلك، لأنه تعالى لم يقل: ولا يقتل الأنثى بالذكر، ولا العبد بالحر، فإذا لم يكن ذلك في الظاهر، فما تضمنته الآية معمول به، وما قلناه مثبت بما تقدم من الأدلة، فأما قتل الحر بالعبد، فعندنا(2). لا يجوز، وبه قال الشافعي، وأهل المدينة، وقال أهل العراق: يجوز.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/100.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أصل الكتابة هو الخط الدال على معنى، فَ: ﴿كُتِبَ﴾ بمعنى فرض مشتق منه؛ لأن الخط يدل على معنى الفرض، ومنه الصلاة المكتوبة أي المفروضة، ومنه الكاتب لأجل ما يكتب من الكتاب، ومنه قول الشاعر:
çكُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا... وعلى المحصناتِ جرُّ الذُّيولِé
يعني فُرض.
ب. القصاص والمقاصة والمعاوضة نظائر، يقال: قص أثره؛ يعني تلاه شيئًا بعد شيء، ومنه القصاص؛ لأنه يتلو أهل الجناية ويتتبعه، وقيل: هو أن يفعل بالثاني مثل ما فعله بالأول مع مراعاة المماثلة، ومنه: قاصصته أي فعلت به مثل ما فعل، وهما متقاربان، ومن ذلك أُخِذَ القصص كأنه يتبع آثارهم، ولذكر أخبارهم شيئًا بعد شيء.
ج. الحر: نقيض العبد، والحر من كل شيء: أكرمه، مشبه بالحُرِّ، والعبد: المملوك من جنس الإنسان.
د. العفو: التَّرك، عفت الديار والمنازل: أي تركت حتى اندرست، والعفو عن المعصية: ترك العقوبة عليها، وقيل: أصل العفو هو الإعطاء، وأصله من الفضل، ومنه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾
هـ. الأداء: مصدر أدى يؤدي أداءً وتأدية.
و. التخفيف: خلاف التثقيل، وأصله الخفة، والثقل حقيقة في الأجسام ثم يستعمل في غيرها توسعًا، وقيل: إنهما يرجعان إلى الأجزاء، عن أبي علي، وقيل: إلى الاعتماد، عن أبي هاشم.
ز. اللُّبُّ: العقل، ولب كل شيء: خالصه، وأصل لب الشيء: داخلُهُ الذي تركبه القشر، واللب: العقل مشبه به.
ح. ﴿لَعَلَّ﴾: فيه تشكك، ولا يجوز على الله تعالى ذلك، فلذلك اختلفوا في معناه، فقيل: هو بمعنى اللام يعني لتتقوا، وقيل: معناه الرجاء والطمع كأنه قيل: على رجائكم في التقوى، وقيل: معناه التعرض كأنه قيل: على تعرضكم للتقوى.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن ابن عباس أن حيين من العرب اقتتلوا قبل الإسلام، فكان بينهم قتل وجراحات، ولأحدهما طَوْلٌ على الآخر في الكُثْرِ والشرف، فكانوا ينكحون نساءهم بغير مهر، فأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم ضعفين على جراحات أولئك، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام، فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وطلبوا ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهاهم عن ذلك.
ب. وعن السدي أنها نزلت في قومين أحدهما: مسلم، والآخر معاهد، فكانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اقتتلوا، وقيل: نزلت في حيين من الأنصار.
3. لما بَيَّنَ تعالى أن البر لا يكون إلا بالإيمان والتمسك بالشرائع، بين الشرائع خصلة خصلة، وبدأ بذكر القصاص في الدماء والجراح؛ لأنه أهم.
4. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ يعني فرض عليكم، وهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين:
أ. أحدهما: قوله: ﴿كُتِبَ﴾؛ لأنها في الشرع يُعَبَّرُ بها عن الوجوب.
ب. الثاني: قوله: ﴿عَلَيْكُمْ﴾؛ لأنه ينبئ عن الوجوب، كقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ ويقال: لفلان على فلان حق.
5. وقيل: معنى: ﴿كُتِبَ﴾ أن هذا الوجوب كتب عليهم في أم الكتاب.
6. ﴿الْقِصَاصِ﴾ يعني المساواة، فيفعل بالقاتل مثل ما فعله بالمقتول.
7. سؤال وإشكال: كيف يجب القصاص مع تخيير الأولياء، فإنه مخير بين فعله وتركه، والمقتص منه لا فعل له فيه ولا وجوب عليه، وإن صح وجوبه فعلى من يجب؟ والجواب:
أ. أما الأول ففيه قولان:
• الأول: فرض ذلك إن اختار الولي القصاص.
• وقيل: كتب عليكم التمسك بما حد لكم دون التعدي فيما ليس لكم.
ب. فأما من يجب عليه ففيه قولان:
• الأول: يجب على من يتولى القصاص، وهو الإمام ومن يجري مجراه، وقد جرى ذكره؛ لأنه من جملة المؤمنين.
• والثاني: يجب على القاتل تسليم النفس عند مطالبة الولي، وليس له الامتناع كما للزاني والسارق الهرب من الحد، وإنما كان كذلك؛ لأنه حق آدمي إلا أنه يجب عند شرائطه في المقتول والقتل والآلة والقاتل، فإذا تكاملت الشرائط يجب حَقًّا للولي.
8. اختلفوا في الاستيفاء:
أ. عند مشايخنا(2). استيفاء القصاص إلى الإمام فقط، أو من يجري مجراه.
ب. وعند أكثر الفقهاء لولي الدم أن يستوفي في القتلى جماعة القتيل.
9. لا خلاف أن المراد به قتل العمد؛ لأن العمد هو الذي يجب فيه القصاص دون الخطأ، وشبه العمد.
10. سؤال وإشكال: القصاص عقوبة أم لا؟ فإن كان عقوبة فلم وقفت على مطالبة الآدمي؟ والجواب: لا شبهة أنه عقوبة في المُصِرِّ امتحان في التائب ولطف له، ثم اختلفوا:
أ. فمنهم من قال: يجري مجرى حقوق الأموال، وعليه أكثر الفقهاء.
ب. ومنهم من قال: إنه حق لله تعالى، وللولي الطلب والإسقاط، فلا يمنع أن يكون عقوبة، والصلاح في استيفائه أن يكون عند مطالبة الولي كما هو في كثير من الحقوق.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾:
أ. قيل: الآية توجب القصاص بين هَؤُلَاءِ فقط، ولولا الدليل لما جاز القصاص بين الرجل والمرأة؛ لأن هذا التفصيل خصص أول الآية.
ب. وقيل: الآية تفيد القصاص بين المذكورين، وما عداه موقوف على الدليل؛ لأن تعليق الحكم بصفة لا يدل على نفي ما عداه.
ج. وقيل: قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ جملة مستقلة بنفسها، يفهم منها المراد، ثم ذكر هذه الأحكام بعدها لا لقصر الحكم عليها، لكن لفائدة أخرى، واختلفوا في تلك الفائدة:
• فمنهم من قال: بَيَّنَ بها أحكام القصاص فينا خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية على ما روينا من أسباب النزول، وبين أنه لا يقتل بالعبد غير قاتله، ولا بالمرأة غير قاتلها.
• ومنهم من قال: بَيَّنَ ما كان القصاص فيه جميع الحق، وهو الحر بالحر، فأما الحر والعبد فمع القود يجب التراجع في زيادة الدية، وكذلك الذكر والأنثى على ما رُوِيَ عن الحسن، ورواه الطبري في تفسيره عن علي، غير أنه ثابت عند أهل النقل عن علي، ولا يصح على النظر؛ لانعقاد الإجماع أن الجماعة تُقْتَلُ بالواحد من غير تراجع، فالأولى أن يقال: إنه يتضمن حكم المذكورين، وفائدة التخصيص ما بَيَّنَّا من الأسباب والنهي عن فعل أهل الجاهلية في ذلك.
12. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أقوال:
أ. الأول: من ترك له من جهة أخيه شيء يعني ترك له القتل، ووضي منه بالدية، و﴿عُفِيَ﴾ كناية عن القاتل، ولم يذكر تعالى العافي لَكِنْ معلوم أن المراد به من له القصاص والمطالبة، وهو ولي الدم، وفي قوله: ﴿مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ ذكر ﴿لَهُ﴾ والهاء في ﴿أَخِيهِ﴾ راجعة إلى القاتل تقديره: فمن ترك له من أخي القاتل شيء يعني القود؛ فحصل من هذه الجملة أن العافي هو ولي الدم الذي سماه الله أخا القاتل، ومن توجه العفو إليه فهو المطالب بالدم، وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والأصم وأبي علي وأبي القاسم وأبي مسلم، قال القاضي: هو الأولى؛ لأن الظاهر من العفو هو السقوط والترك، وهو ترك القود، ولأن أكثر المفسرين عليه، ثم اختلف هَؤُلَاءِ إذا عفا الولي:
• فقال بعضهم: يثبت المال بتراضيهما، وهو مذهب الأكثر واختيار أبي علي.
• ومنهم من قال: يثبت بغير تراض، وهذا فرع مسألة، وهو أن موجب العمد ماذا؟ واختلفوا في تلك الدية، فقيل: من مال القاتل، عن الأكثر، وعليه إجماع الفقهاء، وقيل: على العاقلة، عن ابن عباس والحسن.
ب. الثاني: فمن عفا له ولي الدم، والهاء في: ﴿أَخِيهِ﴾ ترجع إليه، وتقديره: فمن أُعِطْيَ له يعني الولي الدية بالرضاء لما عفا، وبذل له وضمن له: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ يعني أخا الولي، وهو المقتول فليتبعه بالمعروف، ويكون العافي معطي المال، عن علي بن موسى القمي، وذكره إسماعيل بن إسحاق عن مالك.
ج. الثالث: فمن عفا له ولي الدم بأن دفع إليه بقية ما يجب مع القود، عن السدي، وهذا إنما يصح على ما روي عن علي والحسن من التراجع مع القصاص بين الرجل والمرأة، والحر والعبد، وقد بَيَّنَّا أن ذلك لا يصح، فعلى هذين العفو بمعنى الإعطاء.
13. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ والقود لا يتبعض، وما الفائدة فيه؟ والجواب:
أ. أما: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ ففيه ثلاثة أوجه:
• الأول: أراد به الأخوة في النسب كقوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾
• الثاني: لأن القاتل قد يتوب، فيدخل فيه غير التائب على التغليب.
• الثالث: أنه خطاب له قبل حصول القتل، فأما الهاء في قوله: ﴿أَخِيهِ﴾ فقيل: أراد أخا المقتول، عن الحسن، وقيل: أخا القاتل.
ب. أما الفائدة فقيل: فيه فائدتان:
• إحداهما: أن حقه يتبعض؛ لأن حقه العفو والدية والقود.
• الثانية: أنه بين أن عفو البعض كعفو الكل.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾:
أ. قيل: ﴿مِنَ﴾ للتبعيض، والمعنى من بعض حقه الواجب بسبب أخيه.
ب. وقيل: هو لابتداء الغاية كأنه قيل: فمن ترك له من جهة أخيه الذي هو الولي.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾:
أ. قيل: على العافي الاتباع بالإحسان، وعلى المعفو عنه الأداء بالإحسان، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد.
ب. وقيل: هما على المعفو عنه.
ج. وقيل: على من أعطى، وهو الولي.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾:
أ. قيل: يعني أخذه، وعلى القاتل أداؤه، فأما الاتباع بالمعروف فترك التشديد في المطالبة والإنظار إن كان معسرًا، وألَّا يطالبه بالزيادة على حقه ونحو ذلك، وأما الأداء بالإحسان، فالدفع عند الإمكان من غير مطل، وكل ذلك تأديب منه تعالى لعباده لمن له الحق، ولمن عليه الحق.. وهو الأوجه.
ب. وقيل: فليتبع أمر الله بالمعروف، فيكون المعروف من صفة الأمر، عن أبي مسلم.
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾:
أ. قيل: إشارة إلى جميع ما تقدم من العفو وأخذ المال والاتباع بالمعروف والأداء بالإحسان.
ب. وقيل: يرجع إلى أخذ المال، وترك القود، عن ابن عباس وجماعة.
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾:
أ. قيل: كان أهل التوراة يقتلون، ولا يأخذون الدية، وأهل الإنجيل عليهم العفو بالقود ولا دية، فجعل تعالى لهذه الأمة التخفيف إن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا، عن ابن عباس.
ب. وقيل: ما خيركم فيه تخفيف، ولرحمته فعل ذلك، عن أبي علي.
ج. وقيل: تخفيف من باب الأداء والمطالبة، فإنه أوجب جميع ذلك المعروف.
19. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ يعني جاوز الحد إلى ما هو أكثر منه:
أ. قيل: بأن قتل بعد الدية والعفو، عن ابن عباس والحسن وجماعة، قال الحسن: كان أهل الجاهلية إذا عفا أو أخذ الدية ثم ظفر بالقاتل قتله، فنهى الله تعالى عن ذلك.
ب. وقيل: بأن قتل غير قاتله، أو أكثر من قاتله، أو طلب أكثر مما وجب له من الدية، وقيل: جاوز الخد بعدما تبين له كيفية القصاص، قال القاضي: ويحمل على الجميع لعموم اللفظ: ﴿فَلَهُ عَذَابٌ﴾ قيل: القود، مَنْ قَتَلَ بعد القود قُتِلَ لا محالة، وليس فيه العفو، عن الحسن وسعيد بن جبير.
ج. وقيل: المراد به عذاب الآخرة، وهو الوجه؛ لأنه المفهوم عند الإطلاق، وأكثر المفسرين عليه: ﴿أَلِيمٍ﴾ مؤلم موجع.
20. ثم بَيَّنَ تعالى ما في وجوب القصاص من المصلحة، فقال تعالى: ﴿وَلَكُمُ﴾ أيها المخاطبون ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾:
أ. قيل: في إيجابه حياة؛ لأن من هَمَّ بالقتل فتذكر القصاص ارتدع، عن مجاهد وقتادة والربيع وأكثر أهل العلم، وهو الأوجه.
ب. وقيل: في وقوعه.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿حَيَاةً﴾:
أ. قيل: بقاء، عن ابن عباس وجماعة.
ب. وقيل: في تصوره استمرار الحياة.
22. سؤال وإشكال: كيف تكون فيه الحياة ولمن تكون؟ والجواب:
أ. قيل: إذا تصور القصاص ارتدع ففيه بقاء من يَهُمُّ بالقتل، ومن يُهَمُّ به، ومن يتعصب لهما؛ لأن الفتنة تعظم بالقتل عن أكثر أهل العلم.
ب. وقيل: لأنه لا يقتل غير القاتل خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية، عن السدي.
23. سؤال وإشكال: إذا كانت الحياة فعله تعالى فكيف أضافه إلى القصاص؟ والجواب: إذا كان في وجوبه ترك القتل، وفي تركه البقاء واستمرار الحياة جاز أن يقال: إنه سبب الحياة توسعًا.
24. ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي يا ذوي العقول؛ لأنهم يعرفون العواقب، ويتصورون ذلك، فلذلك خصهم.
25. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾:
أ. قيل: تتقون القتل خوف القصاص، عن ابن عباس والحسن والأصم وابن زيد.
ب. وقيل: لتتقوا ربكم باجتناب معاصيه، عن أبي علي والقاضي.
26. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المتعلقة بالقصاص والديات ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
27. سؤال وإشكال: كيف تتعلق به هذه الحقوق؟ والجواب:
أ. المأثم حق الله تعالى لا يسقط إلا بالتوبة.
ب. والعوض حق المقتول لا بد أن يصل إليه؛ لأنه بالقصاص لم يصل إليه شيء إنما هو حق الله، أو حق الولي عقوبة أو مصلحة.
ج. والقود وإن كان حقًّا لله تعالى فالاستيفاء والإسقاط إلى الولي.
د. فأما الدية فخالص حق الولي، وهو في حكم تركة الميت، ولذلك تنفذ منه وصاياه، ويقسم بين ورثته.
28. سؤال وإشكال: حسن القود يعلم عقلاً أو شرعًا؟ والجواب: شرعًا؛ لأنه يجب لغير المقتول، فورد به الشرع لما فيه من المصلحة.
29. سؤال وإشكال: إذا كان عقوبة فكيف يكون مصلحة، والمصلحة في وجوبه أو فعله؟ والجواب: بينا أنه قد يكون عقوبة ومصلحة أيضًا، وتقديم بعض العقوبة لا يجوز إلا لوجه من المصلحة، فأما وجوبه فمصلحة على الإطلاق، فأما فعله فعلى ما قدمنا.
30. سؤال وإشكال: هل فرق بين القصاص والعقوبات المحضة؟ والجواب: نعم؛ لأنه يعتبر المماثلة، ولا يسقط بالتوبة، ولا يستوفى على وجه الاستحقاق.
31. سؤال وإشكال: هل في الآية نسخ؟ والجواب: حكى جعفر بن مبشر عن بعضهم أن فيه نسخًا، وليس بصحيح؛ لأنه تناول المذكورين، ولا نسخ فيه، فأما من قال: إنه يدل على نفي ما عداه لا يبعد أن يقول بنسخه.
32. سؤال وإشكال: من لا قصاص فيه يجب ألا يكون مزجورًا بالآية كالوالد عند الجميع، وكالمسلم في قتل الذمي، والحر في قتل العبد على قول بعضهم؟ والجواب: أما الوالد فما جبل عليه من الشفقة يمنعه من قتل ولده، ولا يحتاج إلى الزجر، كما لا يحتاج في قتل نفسه، وأما الحر والمسلم فلا يأمنان أن ترفع القضية إلى قاض يجتهد في وجوب القود عليهما، فالخوف قائم.
33. في الآية الكريمة كثرة الفوائد، ووضوح المعنى مع الإيجاز في العبارة والبعد عن الكلفة، مع حسن تأليف الحروف:
أ. أما كثرة الفوائد فلأن فيه كل ما في قولهم: القتل أنفى للقتل، وفيه زيادات كثيرة:
• أولها: بأنه العدل لذكر القصاص.
• وثانيها: بأنه الغرض المرغوب فيه بذكر الحياة.
• وثالثها: الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله به.
• ورابعها: أن في المَثَل بيان القتل فقط، وفي الآية بيان القتل وسائر الجراح.
• وخامسها: أن المثل لا ينبئ أن غير القاتل لا يقتل، والآية تنبئ عن ذلك.
ب. أما وضوح المعنى فلأنه قال: ﴿وَلَكُمُ﴾ فبين من له الحياة، وليس في المثل ذلك، ولأن قولهم: (القتل أنفى للقتل)، ليس فيه بيان أي قتل أنفى للقتل، ونحن نعلم أن من القتل ما يؤدي إلى قتلٍ كثيرٍ، وفي الآية بيان ذلك، وهو وجوب القصاص، ولأن في المثل لا يمكن تقدير وجوب القتل، فلا بد من حمله على وقوعه، ووقوعه لا يكون سببًا للحياة فصار ذلك كالناقص، وفي الآية تقرير الوجوب ممكن، فتتكامل فائدة بقاء الحياة في الجميع.
ج. أما الإيجاز فلأنه مع قلة حروفه يدل على معان خمسة كما بينا مما لا يدل عليه المثل، وحروف الآية اثنا عشر حرفًا: ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، وهو مستقل بنفسه يعني بغير ﴿وَلَكُمُ﴾، وحروف المثل أربعة عشر حرفًا.
د. أما البعد عن الكلفة فلأن المثل يشتمل على ألفاظ مكررة ينفر منها الطبع، ويمجها السمع، والآية تشتمل على ألفاظ تقبلها القلوب، وتدخل على السمع بغير حجاب.
هـ. أما حسن التأليف: فلأن الآية مؤلفة من حروف متلائمة تدرك حِسِّيًّا بخلاف المثل، وكل ذلك ظاهر.
34. تدل الآيات الكريمة على:
أ. وجوب القصاص؛ لأن قوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾ يتضمن ذلك.
ب. وجوب القصاص في جميع المقتولين إلا ما خصه الدليل؛ لأن الآية عامة مستقلة بنفسها يفهم المراد بظاهر قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾
ج. يدل قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ على جريان القصاص بين المسلم والذمي، وكذلك قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ وهو قول أهل العراق، وقال الشافعي: لا قصاص على المسلم بقتل الذمي، واتفقوا أنه يقطع بسرقة مال الذمي.
د. وجوب قتل الجماعة بالواحد؛ لأن كل واحد منهم قاتل.
هـ. يدل قوله تعالى: ﴿وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ على وجوب القصاص من غير اعتبار القيمة خلاف ما قال بعضهم، ولا خلاف بين الفقهاء في قتل الرجل بالمرأة من غير تراجع، وقد روي عن علي التراجع، وهو مذهب الهادي، قالوا: لأن الفعل الواحد لا يتعلق به القصاص والدية معًا، ولا خلاف في قتل العبد بالحر، واختلفوا في قتل الحر بالعبد، فقال أبو حنيفة: يقتل به، وقال الشافعي: لا يقتل، واتفقوا أن الوالد لا يقتل بالولد، وأن الولد يقتل بالوالد، وأما شريك الأب لا يقتل عند أبي حنيفة كشريك الخطأ، وقال الشافعي: يقتل.
و. يدل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ على أن العفو يسقط القصاص، ويدل على أن قليل العفو وكثيره سواء يقتضي سقوط القصاص.
ز. يدل قوله تعالى: ﴿وَأَدَاءٌ﴾ على أن للمال مدخلاً في العمد، وقد بَيَّنَّا أنه لا يثبت إلا بالتراضي، وعند الشافعي يثبت، ودية العمد في مال القاتل عند جماعة الفقهاء، وأما دية الخطأ وشبه العمد، وصفة الدية فنبينه في سورة النساء.
ح. يدل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ﴾ على أن الانتقال إلى الدية رحمة منه تعالى وتوسعة لهذه الأمة.
ط. يدل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى﴾ على أن من يأخذ ما ليس له، ويتجاوز الحد فله العذاب، فيبطل قول المرجئة، وإذا أضاف الاعتداء إليهم وأوجب الجزاء عليه بطل قول الْمُجْبِرَةِ في خلق الأفعال، وفي أن العمل لا يوجب الجزاء.
ي. يدل قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ على بطلان قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق والإرادة؛ لأنه يدل أنه أراد من الجميع التقوى، وأنه كلفهم ليتقوا، عن أبي علي.
ك. على أن المقتول لو لم يُقتل لا يجب أن يموت خلاف قولهم؛ لأنه لو كان إذا لم يقتل يموت لا محالة لم يكن في القصاص حياة، ولكان من يريد قتل غيره يعلم أنه يموت، وكذلك من يقاد منه، عن القاضي.
ل. على أن فعل العبد حادث من جهته؛ إذ لو كان خلقه لما صح إيجابه، ولما صح المؤاخذة بالقصاص ولا الذّم، عن القاضي، ولأنه لا يصح من الحكيم أن ينهى عن القتل ويُوعِدَ عليه، ثم يخلق فيه القتل، ثم يوجب القصاص، فيبطل قول الْمُجْبِرَة في المخلوق.
م. بيان وجه المصلحة في إيجاب القود، وتدل على أن في إيجاب القصاص زجرًا للقاتل عن القتل، وفيه بقاء الخلق.
ن. أن الجماعة تقتل بالواحد؛ لأنه لو لم تقتل لم يُؤْمَنْ أن من يهم بقتل واحد يستعين بغيره ليسقط القصاص، ولا خلاف فيه، فأما الواحد إذا قتل جماعة قتل بهم ولا دية عند أبي حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: تقتل بواحد ويغرم للباقي الدية، فإن اجتمعوا قتل، وتقسم الديات بينهم.
س. إعجاز القرآن، وأنه كلام الله تعالى؛ لأن العرب تقول في أمثالهم: (القتل أنفى للقتل)، وقالوا: أَكِثْرَ القتلَ لِيَقِلَّ القتلُ، فورد القرآن بما هو أحسن وأزجر وأصح في المعنى من وجوه كثيرة.
35. القراءة الظاهرة: ﴿الْقِصَاصِ﴾ وعن بعضهم: (في القصص) يعني قصص القرآن، فلا تجوز القراءة به؛ لأنه خلاف الإجماع. ولا يشاكل ما قبله.
36. ﴿فَاتِّبَاعٌ﴾ رفع لأنه خبر ابتداء محذوف، وتقديره: فحكمه اتباع أو فعليه اتباع بالمعروف.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/731.
(2) يقصد الزيدية.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. كتب: فرض، وأصل الكتابة: الخط الدال على معنى فسمي به ما دل على الفرض، قال الشاعر:
çكتب القتل والقتال، علينا... وعلى الغانيات: جر الذيولé
ب. القصاص والمقاصة والمعاوضة والمبادلة نظائر، يقال: قص أثره أي: تلاه شيئا بعد شيء، ومنه القصاص: لأنه يتلو أصل الجناية ويتبعه، وقيل: هو أن يفعل بالثاني ما فعله هو بالأول مع مراعاة المماثلة، ومنه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئا بعد شيء: والحر: نقيض العبد.
ج. الحر من كل شيء: أكرمه، وأحرار البقول: ما يؤكل غير مطبوخ، وتحرير الكتابة: إقامة حروفها.
د. العفو الترك، وعفت الدار أي: تركت حتى درست، والعفو عن المعصية: ترك العقاب عليها، وقيل: معنى العفو هاهنا: ترك القود بقبول الدية من أخيه.
هـ. جمع الأخ: الأخوة إذا كانوا لأب، فإن لم يكونوا لأب فهم إخوان، ذكر ذلك صاحب العين.
و. التأدية والأداء: تبليغ الغاية، يقال: أدى فلان ما عليه، وفلان آدى للأمانة من غيره.
ز. الألباب: العقول، واحدها لب، مأخوذ من لب النخلة، ولب بالمكان وألب به: إذا قام، واللب: البال.
2. نزلت هذه الآية في حيين من العرب لأحدهما طول على الآخر، وكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور، وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك حتى جاء الاسلام، فأنزل الله هذه الآية.
3. لما بين سبحانه أن البر لا يتم إلا بالإيمان، والتمسك بالشرائع، بين الشرائع، وبدأ بالدماء والجراح، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾:
أ. أي: فرض عليكم وأوجب.
ب. وقيل: كتب عليكم في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، على جهة الفرض.
4. ﴿الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ المساواة في القتلى أي: يفعل بالقاتل مثل ما فعله بالمقتول، ولا خلاف أن المراد به قتل العمد، لأن العمد هو الذي يجب فيه القصاص دون الخطأ المحض، وشبيه العمد.
5. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾، والأولياء مخيرون بين القصاص، والعفو وأخذ الدية، والمقتص منه لا فعل له فيه فلا وجوب عليه؟ والجواب: من وجهين:
أ. أحدهما: إنه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص، والفرض قد يكون مضيقا، وقد يكون مخيرا فيه.
ب. الثاني: إنه فرض عليكم التمسك بما حد عليكم، وترك مجاوزته إلى ما لم يجعل لكم.
6. من يتولى القصاص هو إمام المسلمين ومن يجري مجراه، فيجب عليه استيفاء القصاص عند مطالبة الولي، لأنه حق الآدمي، ويجب على القاتل تسليم النفس.
7. ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ قال الصادق: ولا يقتل حر بعبد، ولكن يضرب ضربا شديدا، ويغرم دية العبد، وهذا مذهب الشافعي، وقال: إن قتل رجل امرأة، فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه، أذوا نصف ديته إلى أهل الرجل، وهذا هو حقيقة المساواة فإن نفس المرأة لا تساوي نفس الرجل، بل هي على النصف منها، فيجب إذا أخذت النفس الكاملة بالنفس الناقصة، أن يرد فضل ما بينهما(2).، ويجوز قتل العبد بالحر، والأنثى بالذكر إجماعا، وليس في الآية ما يمنع من ذلك، لأنه لم يقل لا تقتل الأنثى بالذكر، ولا العبد بالحر، فما تضمنته الآية معمول به، وما قلناه مثبت بالإجماع، وبقوله سبحانه النفس بالنفس.
8. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إن معناه من ترك له وصفح عنه من الواجب عليه، وهو القصاص في قتل العمد من أخيه أي: من دم أخيه، فحذف المضاف للعلم به، وأراد بالأخ المقتول، سماه أخا للقاتل، فدل أن أخوة الاسلام بينهما لم تنقطع، وأن القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله.
ب. وقيل: أراد بالأخ العافي الذي هو ولي الدم، سماه الله أخا للقاتل.
9. قوله (شيء) دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا، سقط القود، لأن شيئا من الدم قد بطل بعفو البعض، والله تعالى قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾
10. اختلف في الضمير في قوله تعالى: ﴿لَهُ﴾ وفي ﴿أَخِيهِ﴾:
أ. قيل: كلاهما يرجع إلى ﴿مَنْ﴾ وهو القاتل أي: من ترك له القتل، ورضي منه بالدية، هذا قول أكثر المفسرين، قالوا: العفو أن يقبل الدية في قتل العمد، ولم يذكر سبحانه العافي، لكنه معلوم أن المراد به من له القصاص والمطالبة، وهو ولي الدم.
ب. والقول الآخر: إن المراد بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ ولي الدم والهاء في أخيه يرجع إليه، وتقديره فمن بذل له من أخيه، يعني أخا الولي وهو المقتول، الدية، ويكون العافي معطي المال، ذكر ذلك عن مالك، ومن نصر هذا القول قال: إن لفظ شيء منكر والقود معلوم، فلا يجوز الكناية عنه بلفظ النكرة، فيجب أن يكون المعنى: فمن بذل له من أخيه مال، وذلك يجوز أن يكون مجهولا لا يدري أنه يعطيه الدية أو جنسا آخر، ومقدار الدية، أو أقل أو أكثر، فصح أن يقال فيه شيء، وهذا ضعيف والقول الأول أظهر.
11. الذي له العفو عن القصاص فكل من يرث الدية إلا الزوج والزوجة عندنا(3).، وأما غير أصحابنا من العلماء، فلا يستثنونهما.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾:
أ. قيل: أي: فعلى العافي اتباع بالمعروف، هي أن لا يشدد في الطلب، وينظره إن كأن معسرا، ولا يطالبه بالزيادة على حقه، وعلى المعفو له ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ أي: الدفع عند الإمكان، من غير مطل، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
ب. وقيل: المراد فعلى المعفو عنه الاتباع والأداء.
13. ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى جميع ما تقدم ﴿تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ معناه إنه جعل لكم القصاص أو الدية أو العفو وخيركم بينها، وكان لأهل التوراة القصاص أو العفو، ولأهل الإنجيل العفو أو الدية.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾:
أ. قيل: أي بأن قتل بعد قبول الدية، أو العفو، عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
ب. وقيل: بأن قتل غير قاتله، أو طلب أكثر مما وجب له من الدية.
ج. وقيل: بأن جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص.
د. قال القاضي: ويجب حمله على الجميع لعموم اللفظ: ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة.
15. ثم بين سبحانه وجه الحكمة في إيجاب القصاص، فقال: ﴿وَلَكُمُ﴾ أيها المخاطبون: ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ فيه قولان:
أ. أحدهما: إن معناه في إيجاب القصاص حياة، لأن من هم بالقتل فذكر القصاص ارتدع، فكان ذلك سببا للحياة، عن مجاهد وقتادة وأكثر أهل العلم.
ب. الثاني: إن معناه لكم في وقوع القتل حياة، لأنه لا يقتل إلا القاتل دون غيره، بخلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية الذين كانوا يتفانون بالطوائل، عن السدي.
16. المعنيان جميعا حسنان، ونظيره من كلام العرب: القتل أنفى للقتل، إلا أن ما في القرآن أكثر فائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة، وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة:
أ. فأما كثرة الفائدة فلأن:
• فيه جميع ما في قولهم القتل أنفى للقتل، وزيادة معاني منها: إبانة العدل لذكره القصاص.
• ومنها: إبانة الغرض المرغوب فيه، وهو الحياة.
• ومنها: الاستدعاء بالرغبة والرهبة، وحكم الله به.
ب. وأما الإيجاز في العبارة فإن الذي هو نظير القتل أنفى للقتل، قوله تعالى: ﴿الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، وهو عشرة أحرف، وذلك أربعة عشر حرفا.
ج. وأما بعده من الكلفة فهو أن في قولهم القتل أنفى للقتل تكريرا غيره أبلغ منه.
د. وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فإنه مدرك بالحس، وموجود باللفظ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد الهمزة من اللام، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام.
17. باجتماع هذه الأمور التي ذكرناها كان أبلغ منه وأحسن، وإن كان الأول حسنا بليغا، وقد أخذه الشاعر فقال:
çأبلغ أبا مسمع عني مغلغلة... وفي العتاب حياة بين أقوامé
وهذا وإن كان حسنا، فبينه وبين لفظ القرآن ما بين أعلى الطبقة وأدناها، وأول ما فيه أن ذلك استدعاء إلى العتاب، وهذا استدعاء إلى العدل، وفي ذلك إبهام، وفي الآية بيان عجيب.
18. ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ معناه: يا ذوي العقول، لأنهم الذين يعرفون العواقب، ويتصورون ذلك، فلذلك خصهم.
19. في لعل في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: إنه بمعنى اللام أي: لتتقوا.
ب. الثاني: إنه للرجاء والطمع، كأنه قال: على رجائكم وطمعكم في التقوى.
ج. الثالث: على معنى التعرض أي: على تعرضكم للتقوى.
20. في قوله تعالى: ﴿تَتَّقُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: لعلكم تتقون القتل بالخوف من القصاص، عن ابن عباس والحسن وابن زيد.
ب. الثاني: لعلكم تتقون ربكم باجتناب معاصيه، وهذا أعم.
21. ﴿فَاتِّبَاعٌ﴾: مبتدأ، وخبره محذوف أي: فعليه اتباع، أو خبر لمبتدأ محذوف أي: فحكمه اتباع، ولو كان في غير القرآن لجاز فاتباعا بالمعروف وأداء إليه بإحسان، على معنى فليتبع اتباعا، وليود أداء ولكن الرفع عليه إجماع القراء، وهو الأجود في العربية.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/479.
(2) لا نرى صحة هذا، وتفاصيل هذه المسألة في محلها من السلسلة.
(3) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. روى شيبان عن قتادة أنّ أهل الجاهلية كان فيهم بغي، وكان الحيّ منهم إذا كان فيهم عدد وعدّة، فقتل عبدهم عبد قوم آخرين؛ قالوا: لن نقتل به إلا حرّا، تعزّزا لفضلهم على غيرهم، وإذا قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين؛ قالوا: لن نقتل بها إلّا رجلا؛ فنزلت هذه الآية.
2. معنى ﴿كُتُبٌ﴾: فرض، قاله ابن عباس وغيره، والقصاص: مقابلة الفعل بمثله، مأخوذ من: قصّ الأثر.
3. سؤال وإشكال: كيف يكون القصاص فرضا والوليّ مخيّر بينه وبين العفو؟ والجواب: أنه فرض على القاتل للوليّ، لا على الوليّ.
4. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾، أي: من دم أخيه؛ أي: ترك له القتل، ورضي منه بالدّية، ودلّ قوله تعالى: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ على أنّ القاتل لم يخرج عن الإسلام، ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: مطالبته بالمعروف، يأمر آخذ الدّية بالمطالبة الجميلة التي لا يرهقه فيها، ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ يأمر المطالب بأن لا يبخس ولا يماطل.
5. ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، قال سعيد بن جبير: كان حكم الله على أهل التّوراة أن يقتل قاتل العمد، ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه دية، فرخّص الله لأمّة محمّد، فإن شاء وليّ المقتول عمدا قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدّية، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى﴾، أي: ظلم، فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدّية؛ ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، قال قتادة: يقتل ولا تقبل منه الدّية.
6. ذهب جماعة من المفسّرين إلى أنّ دليل خطاب هذه الآية منسوخ، لأنّه لمّا قال ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾؛ اقتضى أن لا يقتل العبد بالحرّ، وكذلك لمّا قال: ﴿وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ اقتضى أن لا يقتل الذّكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب، وذلك منسوخ بقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، وقال شيخنا عليّ بن عبد الله: وهذا عند الفقهاء ليس بنسخ، لأنّ الفقهاء يقولون: دليل الخطاب حجّة ما لم يعارضه دليل أقوى منه.
7. ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، قال الزّجّاج: إذا علم الرجل أنه إن قتل قتل؛ أمسك عن القتل، وكان في ذلك حياة للذي همّ بقتله ولنفسه، لأنّه من أجل القصاص أمسك، وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
çأبلغ أبا مالك عنّي مغلغلة...وفي العتاب حياة بين أقوامé
يريد: أنّهم إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب.
8. الألباب: العقول، وإنّما خصّهم بهذا الخطاب وإن كان الخطاب عامّا، لأنهم المنتفعون بالخطاب، لكونهم يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه.
9. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، قال ابن عباس: لعلكم تتّقون الدّماء، وقال ابن زيد: لعلّك تتّقي أن يقتله فتقتل به.
10. نقل ابن منصور عن أحمد: إذا قتل رجل رجلا بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجر؛ يقتل بمثل الذي قتل به، فظاهر هذا أنّ القصاص يكون بغير السّيف، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها، وهو قول مالك والشّافعيّ، ونقل عنه حرب: إذا قتله بخشبة قتل بالسّيف، ونقل أبو طالب: إذا خنقه قتل بالسّيف، فظاهر هذا أنه لا يكون القصاص إلّا بالسّيف، وهو قول أبي حنيفة.
__________
(1) زاد المسير: 1/137.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).
1. في سبب النزول أوجه:
أ. أحدها: أن سبب نزوله إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك لأن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط، وأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل، وأخرى يوجبون الدية، لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من هذين الحكمين، أما في القتل فلأنه إذا وقع القتل بين قبيلتين إحداهما أشرف من الأخرى، فالأشراف كانوا يقولون: لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن واحدا قتل إنسانا من الأشراف، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول، وقالوا: ماذا تريد؟ فقال إحدى ثلاث قالوا: وما هي؟ قال إما تحيون ولدي، أو تملؤون داري من نجوم السماء، أو تدفعوا إلى جملة قومكم حتى أقتلهم، ثم لا أرى أني أخذت عوضا، وأما الظلم في أمر الدية فهو أنهم ربما جعلوا دية الشريف أضعاف دية الرجل الخسيس، فلما بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أوجب رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص، وأنزل هذه الآية.
ب. الرواية الثانية: في هذا المعنى وهو قول السدي: إن قريظة والنضير كانوا مع تدينهم بالكتاب سلكوا طريقة العرب في التعدي.
ج. الرواية الثالثة: أنها نزلت في واقعة قتل حمزة رضي الله عنه.
د. الرواية الرابعة: ما نقلها محمد بن جرير الطبري عن بعض الناس ورواها عن علي بن أبي طالب وعن الحسن البصري أن المقصود من هذه الآية بيان أن بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين يقع القصاص، ويكفي ذلك فقط، فأما إذا كان القاتل للعبد حرا، أو للحر عبدا فإنه يجب مع القصاص التراجع، وأما حر قتل عبدا فهو قوده، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر، ويردوا إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن قتل عبدا حرا فهو به قود، فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر، وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن شاءوا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد، وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا نصف الدية، وإن قتلت المرأة رجلا فهي به قود، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإن شاءوا أعطوا كل الدية وتركوها، قالوا فالله تعالى أنزل هذه الآية لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والأنثيين والذكرين فأما عند إخلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع فيه.
2. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ معناه: فرض عليكم فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين:
أ. أحدهما: أن قوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾ يفيد الوجوب في عرف الشرع قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ وقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ [البقرة: 180] وقد كانت الوصية واجبة ومنه الصلوات المكتوبات أي المفردات، وقال عليه السّلام: (ثلاث كتبن علي ولم تكتب عليكم)
ب. الثاني: لفظة ﴿عَلَيْكُمْ﴾ مشعرة بالوجوب كما في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ [آل عمران: 97]
3. القصاص هو أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل، من قولك: اقتص فلان أثر فلان إذا فعل مثل فعله، قال تعالى ﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ [الكهف: 64] وقال تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: 11] أي اتبعي أثره، وسميت القصة قصة لأن بالحكاية تساوي المحكي، وسمي القصص لأنه يذكر مثل أخبار الناس، ويسمى المقص مقصا لتعادل جانبيه.
4. ﴿فِي الْقَتْلَى﴾ أي بسبب قتل القتلى، لأن كلمة (في) قد تستعمل للسببية كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل)
5. بهذا صار تقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا وجب عليكم القصاص بسبب قتل القتلى، فدل ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب قتل جميع القتلى، إلا أنهم أجمعوا على أن غير القاتل خارج من هذا العموم، وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضا في صور كثيرة، وهي إذا قتل الوالد ولده، والسيد عبده وفيما إذا قتل المسلم حربيا أو معاهدا، وفيما إذا قتل مسلم خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه.
6. سؤال وإشكال: لو وجب القصاص لوجب إما على القاتل، أو على ولي الدم، أو على ثالث، والأقسام الثلاثة باطلة، وإنما قلنا: إنه لا يجب على القاتل لأن القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه، بل يحرم عليه ذلك، وإنما قلنا: إنه غير واجب على ولي الدم لأن ولي الدم مخير في الفعل والترك، بل هو مندوب إلى الترك بقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [البقرة: 237] و الثالث أيضا باطل لأنه يكون أجنبيا عن ذلك القتل والأجنبي عن الشيء لا تعلق له به، والجواب: من وجهين.
أ. الأول: أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجرى مجراه، لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود لأنه من جملة المؤمنين، والتقدير: يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أراد ولي الدم استيفاءه.
ب. الثاني: أنه خطاب مع القاتل والتقدير: يا أيها القاتلون كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص، وذلك لأن القاتل ليس له أن يمتنع هاهنا وليس له أن ينكر، بل للزاني والسارق الهرب من الحد، ولهما أيضا أن يستترا بستر الله ولا يقرا، والفرق أن ذلك حق الآدمي.
7. سؤال وإشكال: إذا بينا أن القصاص عبارة عن التسوية فكان مفهوم الآية إيجاب التسوية وعلى هذا التقدير لا تكون الآية دالة على إيجاب القتل ألبتة، بل أقصى ما في الباب أن الآية تدل على وجوب رعاية التسوية في القتل الذي يكون مشروعا، وعلى هذا التقدير تسقط دلالة على كون القتل مشرعا بسبب القتل، والجواب: ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل والتسوية في القتل صفة القتل وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات، فكانت الآية مفيدة لإيجاب القتل من هذا الوجه.
8. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المتعلقة بالقصاص ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
9. اتفقوا على أن هذا القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة، فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة من الله تعالى، وأما إذا كان تائبا فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة، وذلك لأن الدلائل دلت على أن التوبة مقبولة قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ﴾ [الشورى: 25] وإذا صارت التوبة مقبولة امتنع أن يبقى التائب مستحقا للعقاب، ولأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (التوبة تمحو الحوبة)، فثبت أن شرع القصاص في حق التائب لا يمكن أن يكون عقوبة، ثم عند هذا اختلفوا:
أ. فقال أهل السنة، ومن وافقهم: يفعل الله ما يشاء ولا اعتراض عليه في شيء.
ب. وقالت المعتزلة، ومن وافقهم: إنما شرع ليكون لطفا به، ثم سألوا أنفسهم فقالوا: إنه لا تكلف بعد القتل فكيف يكون هذا القتل لطفا به؟ وأجابوا عنه بأن:
• هذا القتل فيه منفعة لولي المقتول من حيث التشفي.
• ومنفعة لسائر المكلفين من حيث يزجر سائر الناس عن القتل.
• ومنفعة للقاتل من حيث إنه متى علم أنه لا بد وأن يقتل صار ذلك داعيا له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد.
10. في قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ قولان:
أ. الأول: إن هذه الآية تقتضي أن لا يكون القصاص مشروعا إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين، واحتجوا عليه بوجوه:
• الأول: أن الألف واللام في قوله تعالى: ﴿الْحَرَّ﴾ تفيد العموم فقوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ يفيد أن يقتل كل حر بالحر، فلو كان قتل حر بعبد مشروعا لكان ذلك الحر مقتولا لا بالحر وذلك ينافي إيجاب أن يكون كل حر مقتولا بالحر.
• الثاني: أن الباء من حروف الجر، فيكون متعلقا لا محالة بفعل، فيكون التقدير: الحر يقتل بالحر والمبتدأ لا يكون أعم من الخبر، بل إما أن يكون مساويا له أو أخص منه، وعلى التقديرين فهذا يقتضي أن يكون كل حر مقتولا بالحر وذلك ينافي كون حر مقتولا بالعبد.
• الثالث: وهو أنه تعالى أوجب في أول الآية رعاية المماثلة وهو قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ فلما ذكر عقيبة قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ دل ذلك على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة، لأن قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ خرج مخرج التفسير لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في هذا المعنى، فوجب أن لا يكون مشروعا فإن احتج الخصم بقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45] فجوابنا أن الترجيح معنا لوجهين:
● أحدهما: أن قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ شرع لمن قبلنا، والآية التي تمسكنا بها شرع لنا ولا شك أن شرعنا أقوى في الدلالة من شرع من قبلنا.
● أن الآية التي تمسكنا بها مشتملة على أحكام النفوس على التفصيل والتخصيص، ولا شك أن الخاص مقدم على العام.
ثم قال أصحاب هذا القول مقتضى ظاهر هذه الآية أن لا يقتل العبد إلا بالعبد، وأن لا تقتل الأنثى إلا بالأنثى، إلا أنا خالفنا هذا الظاهر لدلالة الاجتماع، وللمعنى المستنبط من نسق هذه الآية، وذلك المعنى غير موجود في قتل الحر بالعبد، فوجب أن يبقى هاهنا على ظاهر اللفظ، أما الإجماع فظاهر، وأما المعنى المستنبط فهو أنه لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه كان أولى، بخلاف الحر فإنه لما قتل بالحر لا يلزم أن يقتل بالعبد الذي هو دونه، وكذا القول في قتل الأنثى بالذكر، فأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع والله أعلم.
ب. الثاني: أن قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ لا يفيد الحصر ألبتة، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام، واحتجوا عليه بوجهين:
أ. الأول: أن قوله تعالى: ﴿وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ يقتضي قصاص المرأة الحرة بالمرأة الرقيقة، فلو كان قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ مانعا من ذلك لوقع التناقض.
ب. الثاني: أن قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ جملة تامة مستقلة بنفسها وقوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر وإذا تقدم ذكر الجملة المستقلة كان تخصيص بعض الجزئيات بالذكر لا يمتنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات بل ذلك التخصيص يمكن أن يكون لفوائد سوى نفي الحكم عن سائر الصور، ثم اختلفوا في تلك الفائدة فذكروا فيها وجهين:
• الأول: وهو الذي عليه الأكثرون أن تلك الفائدة بيان إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية على ما روينا في سبب نزول هذه الآية أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل، ففائدة التخصيص زجرهم عن ذلك، وللقائلين بالقول الأول أن يقولوا قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ هذا يمنع من جواز قتل الحر بالعبد لأن القصاص عبارة عن المساواة، وقتل الحر بالعبد لم يحصل فيه رعاية المساواة لأنه زائد عليه في الشرف وفي أهلية القضاء والإمامة والشهادة فوجب أن لا يكون مشروعا، أقصى ما في الباب أنه ترك العمل بهذا النص في قتل العالم بالجاهل والشريف بالخسيس، إلا أنه يبقى في غير محل الإجماع على الأصل، ثم إن سلمنا أن قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ يوجب قتل الحر بالعبد، إلا أنا بينا أن قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ يمنع من جواز قتل الحر بالعبد، هذا خاص وما قبله عام والخاص مقدم على العام لا سيما إذا كان الخاص متصلا بالعام في اللفظ فإنه يكون جاريا مجرى الاستثناء ولا شك في وجوب تقديمه على العام.
• الثاني: في بيان فائدة التخصيص ما نقله محمد بن جرير الطبري عن علي بن أبي طالب والحسن البصري، أن هذه الصور هي التي يكتفي فيها بالقصاص، أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعا بين الحر والعبد، وبين الذكر والأنثى، فهناك لا يكتفي بالقصاص بل لا بد فيه من التراجع، وقد شرحنا هذا القول في سبب نزول هذه الآية، إلا أن كثيرا من المحققين زعموا أن هذا النقل لم يصح عن علي بن أبي طالب وهو أيضا ضعيف عند النظر لأنه قد ثبت أن الجماعة تقتل بالواحد ولا تراجع، فكذلك يقتل الذكر بالأنثى ولا تراجع، ولأن القود نهاية ما يجب في القتل فلا يجوز وجوب غيره معه.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾:
أ. الذين قالوا: موجب العمد أحد أمرين إما القصاص وإما الدية تمسكوا بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾، وقالوا الآية تدل على أن في هذه القصة عافيا ومعفوا عنه، وليس هاهنا إلا ولي الدم والقاتل، فيكون العافي أحدهما ولا يجوز أن يكون هو القاتل لأن ظاهر العفو هو إسقاط الحق وذلك إنما يتأتى من الولي الذي له الحق على القتل، فصار تقدير الآية: فإذا عفي ولي الدم عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف، وقوله تعالى: ﴿شَيْءٍ﴾ مبهم فلا بد من حمله على المذكور السابق وهو وجوب القصاص إزالة للإبهام، فصار تقدير الآية: إذا حصل العفو للقاتل عن وجوب القصاص، فليتبع القاتل العافي بالمعروف، وليؤد إليه مالا بإحسان، وبالإجماع لا يجب أداء غير الدية، فوجب أن يكون ذلك الواجب هو الدية، وهذا يدل على أن موجب العمد هو القود أو المال، ولو لم يكن كذلك لما كان المال واجبا عند العفو عن القود، ومما يؤكد هذا الوجه قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ أي أثبت الخيار لكم في أخذ الدية، وفي القصاص رحمة من الله عليكم، لأن الحكم في اليهود حتم القصاص والحكم في النصارى حتم العفو فخف عن هذه الأمة وشرع لهم التخيير بين القصاص والدية، وذلك تخفيف من الله ورحمة في حق هذه الأمة لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إدا كان محتاجا إلى المال، وقد يكون القود آثر إذا كان راغبا في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه، فجعل الخيرة له فيما أحبه رحمة من الله في حقه.
ب. وقيل: لا نسلم أن العفو هو إسقاط الحق، بل المراد من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي فمن سهل له من أخيه شيء، يقال: أتاني هذا المال عفوا صفوا، أي سهلا، ويقال: خذ ما عفا، أي ما سهل، قال الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ فيكون تقدير الآية: فمن كان من أولياء الدم وسهل له من أخيه الذي هو القاتل شيء من المال فليتبع ولي الدم ذلك القاتل في مطالبة ذلك المال وليؤد القاتل إلى ولي الدم ذلك المال بالإحسان من غير معطل ولا مدافعة، فيكون معنى الآية على هذا التقدير: إن الله تعالى حث الأولياء إذا دعوا إلى الصلح من الدم على الدية كلها أو بعضها أن يرضوا به ويعفو عن القود:
• ولو سلمنا أن العافي هو ولي الدم، لكن لم لا يجوز أن يقال: المراد هو أن يكون القصاص مشتركا بين شريكين فيعفو أحدهما فحينئذ ينقلب نصيب الآخر مالا فالله تعالى أمر الشريك الساكت باتباع القاتل بالمعروف، وأمر القاتل بالأداء إليه بإحسان.
• ولو سلمنا أن العافي هو ولي الدم سواء كان له شريك أو لم يكن، لكن لم لا يجوز أن يقال: إن هذا مشروط برضا القاتل، إلا أنه تعالى لم يذكر رضا القاتل لأنه يكون ثابتا لا محالة لأن الظاهر من كل عامل أنه يبذل كل الدنيا لغرض دفع القتل عن نفسه لأنه إذا قتل لا يبقى له لا النفس ولا المال أما بذل المال ففيه إحياء النفس، فلما كان هذا الرضا حاصلا في الأعم الأغلب لا جرم ترك ذكره وإن كان معتبرا في النفس الأمر.
12. أجاب الذين قالوا: موجب العمد أحد أمرين إما القصاص وإما الدية على المخالفين:
أ. بأن حمل لفظ العفو في هذه الآية على إسقاط حق القصاص أولى من حمله على أن يبعث القاتل المال إلى ولي الدم، وبيانه من وجهين:
• الأول: أن حقيقة العفو إسقاط الحق، فيجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعا للاشتراك، وحمل اللفظ في هذه الآية على إسقاط الحق أولى من حمله على ما ذكرتم، لأنه لما تقدم قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ كان حمل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ على إسقاط حق القصاص أولى، لأن قوله تعالى: ﴿شَيْءٍ﴾ لفظ مبهم وحمل هذا المبهم على ذلك المعنى الذي هو المذكور السابق أولى.
• الثاني: أنه لو كان المراد بالعفو ما ذكرتم، لكان قوله تعالى: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ عبثا لأن بعد وصول المال إليه بالسهولة واليسر لا حاجة به إلى اتباعه، ولا حاجة بذلك المعطي إلى أن يؤمر بأداء ذلك المال بالإحسان.
ب. أن ذلك الكلام إنما يتمشى بفرض صورة مخصوصة، وهي ما إذا كان حق القصاص مشتركا بين شخصين ثم عفا أحدهما وسكت الآخر، والآية دالة على شرعية هذا الحكم على الإطلاق، فحمل اللفظ المطلق على الصورة الخاصة المفيدة خلاف الظاهر.
ج. أن الهاء في قوله: ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ ضمير عائد إلى مذكور سابق، والمذكور السابق هو العافي، فوجب أداء هذا المال إلى العافي، وعلى قولكم: يجب أداؤه إلى غير العافي فكان قولكم باطلا.
د. أن شرط الرضا إما أن يكون ممتنع الزوال، أو كان ممكن الزوال، فإن كان ممتنع الزوال، فوجب أن يكون مكنة أخذ الدية ثابتة لولي الدم على الإطلاق، وإن كان ممكن الزوال كان تقييد اللفظ بهذا الشرط الذي ما دلت الآية على اعتباره مخالفة للظاهر وأنه غير جائز.
13. سؤال وإشكال: كيف تركيب قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾، والجواب: تقديره: فمن له من أخيه شيء من العفو، وهو كقوله: سير بزيد بعض السير وطائفة من السير البحث.
14. سؤال وإشكال: ﴿عُفِيَ﴾ يتعدى بعن لا باللام، فما وجه قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ والجواب: أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب، فيقال عفوت عن فلان وعن ذنبه قال الله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ﴾ [التوبة: 43] فإذا تعدى إلى الذنب قيل: عفوت عن فلان عما جنى، كما تقول: عفوت له عن ذنبه، وتجاوزت له عنه، وعليه هذه الآية، كأنه قيل: فمن عفي له من جنايته، فاستغنى عن ذكر الجناية.
15. سؤال وإشكال: لم قيل شيء من العفو؟ والجواب: من وجهين.
أ. أحدهما: أن هذا إنما يشكل إذا كان الحق ليس إلا القود فقط، فحينئذ يقال: القود لا يتبعض فلا يبقى لقوله تعالى: ﴿شَيْءٍ﴾ فائدة، أما إذا كان مجموع حقه إما القود وإما المال كان مجموع حقه متبعضا لأن له أن يعفو عن القود دون المال، وله أن يعفو عن الكل، فلما كان الأمر كذلك جاز أن يقول ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾
ب. الثاني: أن تنكير الشيء يفيد فائدة عظيمة، لأنه يجوز أن يتوهم أن العفو لا يؤثر في سقوط القود، إلا أن يكون عفوا عن جميعه، فبين تعالى أن العفو عن جزئه كالعفو عن كله في سقوط القود، وعفو بعض الأولياء عن حقه، كعفو جميعهم عن خلقهم، فلو عرف الشيء كان لا يفهم منه ذلك، فلما نكره صار هذا المعنى مفهوما منه، فلذلك قال تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾
16. تمسك ابن عباس بهذه الآية ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ في بيان كون الفاسق مؤمنا من ثلاثة أوجه:
أ. الأول: أنه تعالى سماه مؤمنا حال ما وجب القصاص عليه، وإنما وجب القصاص عليه إذا صدر عنه القتل العمد العدوان وهو بالإجماع من الكبائر، وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن.
ب. الثاني: أنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الدم، ولا شك أن هذه الأخوة تكون بسبب الدين، لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 15] فلولا أن الإيمان باق مع الفسق وإلا لما بقيت الأخوة الحاصلة بسبب الإيمان.
ج. الثالث: أنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل، والندب إلى العفو إنما يليق بالمؤمن.
17. أجابت المعتزلة، ومن وافقهم:
أ. عن الوجه الأول فقالوا: إن قلنا المخاطب بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ هم الأئمة فالسؤال زائل، وإن قلنا: إنهم هم القاتلون فجوابه من وجهين:
• أحدهما: أن القاتل قبل إقدامه على القتل كان مؤمنا، فسماه الله تعالى مؤمنا بهذا التأويل.
• الثاني: أن القاتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمنا، ثم إنه تعالى أدخل فيه غير التائب على سبيل التغليب.
ب. أما الوجه الثاني: وهو ذكر الأخوة، فأجابوا عنه من وجوه:
• الأول: أن الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحدا، ولا شك أن المؤمنين إخوة قبل الإقدام على القتل.
• الثاني: الظاهر أن الفاسق يتوب، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخا له.
• الثالث: يجوز أن يكون جعله أخا له في النسب كقوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ [الأعراف: 65]
• الرابع: أنه حصل بين ولي الدم وبين القاتل تعلق واختصاص، وهذا القدر يكفي في إطلاق اسم الأخوة، كما تقول للرجل، قل لصاحبك كذا إذا كان بينهما أدنى تعلق و.
• الخامس: ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية في الإقرار والاعتقاد.
18. أجاب المخالفون أن هذه الوجوه بأسرها تقتضي تقييد الأخوة بزمان دون زمان، وبصفة دون صفة، والله تعالى أثبت الأخوة على الإطلاق.
19. ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره: فحكمه اتباع، أو هو مبتدأ خبره محذوف تقديره: فعليه اتباع بالمعروف.
20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾:
أ. قيل: على العافي الاتباع بالمعروف، وعلى المعفو عنه أداء بإحسان، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد.
ب. وقيل: هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف، ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان.
21. الاتباع بالمعروف أن لا يشدد بالمطالبة، بل يجري فيها على العادة المألوفة فإن كان معسرا فالنظرة، وإن كان واجدا لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق، وإن كان واجدا لغير المال الواجب، فالإمهال إلى أن يبتاع ويستبدل، وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات، فأما الأداء بإحسان فالمراد به أن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل.
22. في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أن المراد بقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ أي الحكم بشرع القصاص والدية تخفيف في حقكم، لأن العفو وأخذ الدية محرمان على أهل التوراة والقصاص مكتوب عليهم ألبتة والقصاص والدية محرمان على أهل الإنجيل والعفو مكتوب عليهم وهذه الأمة مخيرة بين القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيرا، وهذا قول ابن عباس،.
ب. ثانيها: أن قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ راجع إلى قوله تعالى: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾
23. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ التخفيف يعني جاوز الحد إلى ما هو أكثر منه:
أ. قال ابن عباس والحسن: المراد أن لا يقتل بعد العفو والدية، وذلك لأن أهل الجاهلية إذا عفوا وأخذوا الدية، ثم ظفروا بعد ذلك بالقاتل قتلوه، فنهى الله عن ذلك.
ب. وقيل المراد: أن يقتل غير قاتله، أو أكثر من قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية أو جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص.
ويجب أن يحمل على الجميع لعموم اللفظ.
24. في قوله تعالى: ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: وهو المشهور أنه نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة.
ب. الثاني: روي عن قتادة أن العذاب الأليم هو أن يقتل لا محالة ولا يعفى عنه ولا يقبل الدية منه لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا أعافي أحدا قتل بعد أن أخذ الدية)، وهو المروي عن الحسن وسعيد بن جبير وهذا القول ضعيف لوجوه:
• أحدها: أن المفهوم من العذاب الأليم عند الإطلاق هو عذاب الآخرة.
• ثانيها: أنا بينا أن القود تارة يكون عذابا وتارة يكون امتحانا، كما في حق التائب فلا يصح إطلاق اسم العذاب عليه إلا في وجه دون وجه.
• ثالثها: أن القاتل لمن عفي عنه لا يجوز أن يختص بأن لا يمكن ولي الدم من العفو عنه لأن ذلك حق ولي الدم فله إسقاطه قياسا على تمكنه من إسقاط سائر الحقوق.
25. ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لما أوجب الله تعالى في الآية المتقدمة القصاص وكان القصاص من باب الإيلام توجه فيه سؤال وهو أن يقال كيف يليق بكمال رحمته إيلام العبد الضعيف؟ فلأجل دفع هذا السؤال ذكر عقيبه حكمة شرع القصاص فقال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾
26. ليس المراد من قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أن نفس القصاص حياة لأن القصاص إزالة للحياة وإزالة الشيء يمتنع أن تكون نفس ذلك الشيء، بل المراد أن شرع القصاص يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلا، وفي حق من يراد جعله مقتولا وفي حق غيرهما أيضا:
أ. أما في حق من يريد أن يكون قاتلا فلأنه إذا علم أنه لو قتل قتل ترك القتل فلا يقتل فيبقى حيا.
ب. وأما في حق من يراد جعله مقتولا فلأن من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله فيبقى غير مقتول.
ج. وأما في حق غيرهما فلأن في شرع القصاص بقاء من هم بالقتل، أو من يهم به وفي بقائهما بقاء من يتعصب لهما، لأن الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدي إلى المحاربة التي تنتهي إلى قتل عالم من الناس وفي تصور كون القصاص مشروعا زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكل.
27. المراد من قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أن نفس القصاص سبب الحياة، وذلك لأن سافك الدم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل، فكان القصاص نفسه سببا للحياة من هذا الوجه، وهذا غير مختص بالقصاص الذي هو القتل، بل يدخل فيه القصاص في الجوارح والشجاج وذلك لأنه إذا علم أنه إن جرح عدوه اقتص منه زجره ذلك عن الإقدام فيصير سببا لبقائهما لأن المجروح لا يؤمن فيه الموت وكذلك الجارح إذا اقتص منه وأيضا فالشجة والجراحة التي لا قود فيها داخلة تحت الآية لأن الجارح لا يأمن أن تؤدى جراحته إلى زهوق النفس فيلزم القود، فخوف القصاص حاصل في النفس.
28. المراد من القصاص إيجاب التسوية فيكون المراد أن في إيجاب التسوية حياة لغير القاتل، لأنه لا يقتل غير القاتل بخلاف ما يفعله أهل الجاهلية وهو قول السدي.
29. قرأ أبو الجوزاء ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص وقيل: ﴿الْقِصَاصِ﴾ القرآن، أي لكم في القرآن حياة للقلوب كقوله: ﴿رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: 52] ﴿وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42]
30. اتفق علماء البيان على أن هذه الآية ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ في الإيجاز مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات، وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثير، كقولهم: (قتل البعض إحياء للجميع)، وقول آخرين: (أكثروا القتل ليقل القتل)، وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: (القتل أنفى للقتل)، ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا، وبيان التفاوت من وجوه:
أ. أحدها: أن قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أخصر من الكل، لأن قوله: ﴿وَلَكُمُ﴾ لا يدخل في هذا الباب، إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك، لأن قول القائل: قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله، وكذلك في قولهم: القتل أنفى للقتل فإذا تأملت علمت أن قوله: ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أشد اختصارا من قولهم: القتل أنفى للقتل.
ب. ثانيها: أن قولهم: القتل أنفى للقتل ظاهرة يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال، وقوله: ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ ليس كذلك، لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص، ثم ما جعله سببا لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة، بل جعله سببا لنوع من أنواع الحياة.
ج. ثالثها: أن قولهم القتل أنفى للقتل، فيه تكرار للفظ القتل وليس قوله: ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ كذلك.
د. رابعها: أن قول القائل: القتل أنفى للقتل، لا يفيد إلا الردع عن القتل، وقوله: ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد.
هـ. خامسها: أن نفي القتل مطلوب تبعا من حيث إنه يتضمن حصول الحياة، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي، فكان هذا أولى.
و. سادسها: أن القتل ظلما قتل، مع أنه لا يكون نافيا للقتل بل هو سبب لزيادة القتل، إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص، فظاهر قولهم باطل، أما الآية فهي صحيحة ظاهرا وتقديرا، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب.
31. احتجت المعتزلة، ومن وافقهم بهذه الآية ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ على فساد قول أهل السنة في قولهم: إن المقتول لو لم يقتل لوجب أن يموت، فقالوا إذا كان الذي يقتل يجب أن يموت لو لم يقتل، فهب أن شرع القصاص يزجر من يريد أن يكون قاتلا عن الإقدام على القتل، لكن ذلك الإنسان يموت سواء قتله هذا القاتل أو لم يقتله، فحينئذ لا يكون شرع القصاص مفضيا إلى حصول الحياة، فإن قيل: أنا إنما نقول فيمن قتل لو لم يقتل كان يموت لا فيمن أريد قتله ولم يقتل فلا يلزم ما قلتم، قلنا أليس إنما يقال فيمن قتل لو لم يقتل كيف يكون حاله؟ فإذا قلتم: كان يموت فقد حكمتم في أن من حق كل وقت صح وقوع قتله أن يكون موته كقتله، وذلك يصحح ما ألزمناكم لأنه لا بد من أن يكون على قولكم المعلوم أنه لو لم يقتله إما لأن منعه مانع عن القتل، أو بأن خاف قتله أنه كان يموت وفي ذلك صحة ما ألزمناكم، هذا كله ألفاظ القاضي.
32. ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ المراد به العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف، فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعداءهم، وعلموا أنهم يطالبون بالقود صار ذلك رادعا لهم لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه، فإذا خاف ذلك كان خوفه سببا للكف والامتناع، إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب.
33. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لفظة (لعل) للترجي، وذلك إنما يصح في حق من لم يكن عالما بجميع المعلومات، وجوابه ما سبق في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21]
34. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ قال الجبائي: هذا يدل على أنه تعالى أراد من الكل التقوي، سواء كان في المعلوم أنهم يتقون أو لا يتقون بخلاف قول المجبرة، وقد سبق جوابه أيضا في تلك الآية.
35. في تفسير قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: قول الحسن والأصم أن المراد لعلكم تتقون نفس القتل بخوف القصاص.
ب. الثاني: أن المراد هو التقوي من كل الوجوه وليس في الآية تخصيص للتقوى، فحمله على الكل أولى: ومعلوم أن الله تعالى إنما كتب على العباد الأمور الشاقة من القصاص وغيره لأجل أن يتقوا النار باجتناب المعاصي ويكفوا عنها، فإذا كان هذا هو المقصود الأصلي وجب حمل الكلام عليه.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 5/222.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ كتب: معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
çكتب القتل والقتال علينا...وعلى الغانيات جر الذيولé
وقد قيل: إن ﴿كُتُبٌ﴾ هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء.
2. القصاص: مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار، وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، ومنه ﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ [الكهف: 64]، وقيل: القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما، ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به، يقال: أقص الحاكم فلانا من فلان وإباءه به فأمثله فامتثل منه، أي اقتص منه.
3. صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول الجاهلية)، قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، وإذا قتل لهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلا شريفا، ويقولون: (القتل أوقى للقتل) بالواو والقاف، ويروي (أبقى) بالباء والقاف، ويروى (أنفى) بالنون والفاء، فنهاهم الله عن البغي فقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ الآية، وقال ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: 179]، وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم.
4. لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الامر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لان الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود، وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح.
5. سؤال وإشكال: قوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ معناه فرض وألزم، فكيف يكون القصاص غير واجب؟ والجواب: معناه إذا أردتم، فأعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح.
6. القتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة، وهو مما يدخل على الناس كرها، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقي، وشبههن.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾، فقالت طائفة: جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لاحد النوعين إذا قتل الأخر، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45]، وبينه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد، وذكره أبو عبيد عن ابن عباس، وروي عن ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية المائدة وهو قول أهل العراق.
8. قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ فعم، وقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45]، قالوا: والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه.
9. واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به، وهو قول داوود، وروي ذلك عن علي وابن مسعود، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة، والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد، للتنويع والتقسيم في الآية، وقال أبو ثور: (لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس كانت النفوس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض، وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد، وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، ويتصرف فيه الحر كيف شاء، فلا مساواة بينه وبين الحر ولا مقاومة)، قلت: هذا الإجماع صحيح، وأما قوله أولا: (ولما اتفق جميعهم ـ إلى قوله ـ فقد ناقض فقد قال ابن أبي ليلى وداوود بالقصاص بين الأحرار والعبيد في النفس وفي جميع الأعضاء، واستدل داوود بقوله عليه السلام: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) فلم يفرق بين حر وعبد.
10. الجمهور على أنه لا يقتل مسلم بكافر، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا يقتل مسلم بكافر) أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب، ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قتل يوم خيبر مسلما بكافر، لأنه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مرفوعا، قال الدارقطني: (لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث، والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله)، قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ الآية، وعموم قوله تعالى: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45]
11. روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة، وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها، روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح، لان الشعبي لم يلق عليا، وقد روى الحكم عن علي وعبد الله قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي، وأجمع العلماء على أن الأعور والأشل إذا قتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور، وقتل ذا يدين وهو أشل، فهذا يدل على أن النفس مكافيه للنفس، ويكافئ الطفل فيها الكبير، ويقال لقائل ذلك: إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس، قاله أبو عمر: وإذا قتل الحر العبد، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن، علي والحسن، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا.
12. أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات، قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور: وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس، وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: لا قصاص بينهما فيما دون النفس بالنفس وإنما هو في النفس بالنفس، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأخرى والاولى، على ما تقدم.
13. قال ابن العربي: ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (من قتل عبده قتلناه) وهو حديث ضعيف، ودليلنا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ [الاسراء: 33] والولي ها هنا السيد، فكيف يجعل له سلطان على نفسه)، وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به، فإن قيل: فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا: ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج، إذ النكاح ضرب من الرق، وقد قال ذلك الليث بن سعد، قلنا: النكاح ينعقد لها عليه، كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها، وتطالبه في حق الوطي بما يطالبها، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل الله له عليها بما أنفق من ماله، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة، فلو أورث شبهة لاورثها في الجانبين، قلت: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح، أخرجه النسائي وأبو داوود، وتتميم متنه: (ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه)، وقال البخاري عن علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، واخذ بهذا الحديث، وقال البخاري: وأنا أذهب إليه، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان، وحسبك بهما!، ويقتل الحر بعبد نفسه، قال النخعي والثوري في أحد قوليه وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، والله أعلم، واختلفوا ومالك والشافعي وأبو ثور، وقال الشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة: لا قصاص بينهم إلا في النفس، قال ابن المنذر: الأول أصح.
14. روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال: حضرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه، قال أبو عيسى: (هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح، والمثنى يضعف في الحديث، وقد روى هذا الحديث أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا، وهذا الحديث فيه اضطراب، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به، وإذا قذفه لا يحد)، وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا، فقالت طائفة: لا قود عليه وعليه ديته، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد، وقال مالك وابن نافع وابن عبد الحكم: يقتل به، وقال ابن المنذر: وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة، فأما ظاهر الكتاب فقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾، والثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الأب من جملة الآية، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة، وحكى الكيا الطبري عن عثمان البتي أنه يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص، وروي مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن، قلت: لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره [، وقد أثروا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (لا يقاد الوالد بولده) وهو حديث باطل، ومتعلقهم أن عمر قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء المسألة مسجلة: لا يقتل الوالد بولده، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال: إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله، قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: إذا قتل الابن الأب قتل به.
15. استدلّ الامام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله: لا تقتل الجماعة بالواحد، قال: لان الله سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد، وقد قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ﴾ [المائدة: 45]، والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر الله سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل، وقد قتل عمر سبعة برجل بصنعاء وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا، وقتل علي الحرورية بعبد الله بن خباب، فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب كما تذبح الشاة، وأخبر على بذلك قال الله أكبر! نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم على وأصحابه) خرج الحديثين الدارقطني في سننه، وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)، وقال فيه: حديث غريب، وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الاعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ، وقال ابن المنذر: وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين: لا يقتل اثنان بواحد. روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبد الملك، قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد، وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه.
16. روى الأئمة عن أبي شريح الكعبي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا)، لفظ أبي داود، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروي عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية)، وذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق.
17. اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة: ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل، يروى هذا عن سعيد ابن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه، وهو نص في موضع الخلاف، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لان فرضا عليه إحياء نفسه، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29]
18. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي ترك له دمه، في أحد التأويلات، ورضي منه بالدية ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ أي أن من كان قبلنا لم يفرض الله عليهم غير النفس بالنفس، فتفضل الله على هذه الامة بالدية إذا رضي بها ولي الدم، على ما يأتي بيانه، وقال آخرون: ليس لولي المقتول إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه، وبه قال الثوري والكوفيون، واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع حين كسرت ثنية المرأة، رواه الأئمة قالوا: فلما حكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالقصاص وقال: (القصاص كتاب الله، القصاص كتاب الله) ولم يخبر المجني عليه بين القصاص والديه ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله وسنة رسوله في العمد هو القصاص، و الأول أصح، لحديث أبي شريح المذكور، وروى الربيع عن الشافعي قال أخبرني أبو حنيفة ابن سماك بن الفضل الشهابي قال وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال عام الفتح: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود)، فقال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال: أحدثك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتقول: تأخذ به! نعم آخذ به، وذلك الفرض على وعلى من سمعه، إن الله عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت.
19. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ اختلف العلماء في تأويل من ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ على تأويلات:
أ. أحدها: أن من يراد بها القاتل، وعفي تتضمن عافيا هو ولي الدم، والأخ هو المقتول، وشيء هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء، والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك، والمعنى: أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتول وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان.
ب. الثاني: وهو قول مالك أن من يراد به الولي وعفي يسر، لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، وشيء هو الدية، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه، فمرة تيسر ومرة لا تيسر، وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه، وقد روي عن مالك هذا القول، ورجحه كثير من أصحابه، وقال أبو حنيفة: إن معنى عفي بذل، والعفو في اللغة: البذل، ولهذا قال الله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ [الأعراف: 199] أي ما سهل، وقال أبو الأسود الدؤلي: (خذي العفو مني تستديمي مودتي)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله) يعني شهد الله على عباده، فكأنه قال: من بذل له شي من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف، وقال قوم: وليؤد إليه القاتل بإحسان، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة المائدة ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: 45] فندب إلى رحمة العفو والصدقة، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان، وقد قال قوم: إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة، ومعنى الآية: فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شي من تلك الديات، ويكون (عفي) بمعنى فضل، روى سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال كان بين حيين من العرب قتال، فقتل من هؤلاء وهؤلاء، وقال أحد الحيين: لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة، فارتفعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال عليه السلام: (القتل سواء) فاصطلحوا على الديات، ففضل أحد الحيين على الأخر، فهو قوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية، وذكر سفيان العفو هنا الفضل، وهو معنى يحتمله اللفظ.
ج. الثالث: وهو قول علي والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و﴿عُفِيَ﴾ في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل.
20. هذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وهل ذلك على الوجوب أو الندب، فقراءة الرفع تدل على الوجوب، لان المعنى فعليه اتباع بالمعروف، قال النحاس: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ شرط والجواب، ﴿فَاتِّبَاعٌ﴾ وهو رفع بالابتداء، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف، ويجوز في غير القرآن (فاتباعا)، و(أداء) بجعلهما مصدرين، قال ابن عطية: وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة فاتباعا بالنصب، والرفع سبيل للواجبات، كقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 229]، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا، كقوله تعالى: ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: 4]
21. ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ لان أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية، فجعل الله تعالى ذلك تخفيفا لهذه الامة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا.
22. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ﴾ شرط وجوابه، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط الدم من قتل بعد أخذ الدية، وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة، وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الامام يصنع فيه ما يرى، وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (من أصيب بدم أو خبل ـ والخبل عرج ـ فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا)
23. ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم، ومعناه: لا يقتل بعضكم بعضا، رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك، والمعنى: أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا، وكانت العرب إذا قتل الرجل الأخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا، وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة.
24. اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لاحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض.
25. أجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته، إذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل، وذلك لا يمنع القصاص، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل، لقوله جل ذكره: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾، وثبت عن أبي بكر أنّه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده: لئن كنت صادقا لأقيدنك منه، وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال بينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل، فطعنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: تعال فاستقد، قال بل عفوت يا رسول الله، وروى أبو داوود الطيالسي عن أبي فراس قال خطب عمر بن الخطاب فقال: ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه، فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قال كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقص من نفسه!، ولفظ أبي داوود السجستاني عنه قال خطبنا عمر بن الخطاب فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه، وذكر الحديث بمعناه.
26. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ المراد هنا تتقون القتل فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوي في غير ذلك، فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة، وقرا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، قال النحاس: قراءة أبي الجوزاء شاذة، قال غيره: يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص، وقيل: أراد بالقصص القرآن، أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصص حياة، أي نجاة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/245.
المنصور بالله:
قال المنصور بالله الإمام القاسم بن محمد (ت 1029 هـ) في سياق كلام عن الآجال: لنا قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، وهو نص صريح يفيد القطع بأن القتل خرم؛ إذ لو ترك المقتول خشية القصاص لعاش قطعا، ولو ترك المقتص منه؛ لتركه القتل الموجب للقصاص ـ لعاش قطعا، كما أخبر الله تعالى في قصة قتل الخضر الغلام؛ لأنه لو لم يقتله لعاش قطعا، حتى يرهق أبويه طغيانا وكفرا كما أخبر الله تعالى(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/79.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ﴾ معناه: فرض، وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
çكتب القتل والقتال علينا...وعلى الغانيات جرّ الذّيولé
وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك، وقيل: إن ﴿كُتِبَ﴾ هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ.
2. ﴿الْقِصَاصِ﴾ أصله: قصّ الأثر: أي: اتباعه، ومنه: القاصّ، لأنه يتتبع الآثار، وقصّ الشعر: اتباع أثره، فكأن القاتل يسلك طريقا من القتل، يقصّ أثره فيها، ومنه قوله تعالى: ﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ وقيل: إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع، يقال: قصصت ما بينهما: أي: قطعته.
3. استدلّ بهذه الآية القائلون بأن الحرّ لا يقتل بالعبد، وهم الجمهور، وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، وابن أبي ليلى، وداوود إلى أنه يقتل به، قال القرطبي: وروي ذلك عن عليّ، وابن مسعود، وبه قال سعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والحكم بن عتيبة، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ مفسر لقوله تعالى: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ وقالوا أيضا: إن قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا﴾ يفيد: أن ذلك حكاية عما شرعه لبني إسرائيل في التوراة، ومن جملة ما استدلّ به الآخرون قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) ويجاب عنه بأنه مجمل والآية مبينة، ولكنه يقال: إن قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ إنما أفاد بمنطوقه أن الحرّ يقتل بالحرّ، والعبد يقتل بالعبد، وليس فيه ما يدل على أن الحرّ لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا، والبحث في هذا محرر في علم الأصول.
4. استدلّ بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر، وهم الكوفيون والثوري، لأن الحرّ يتناول الكافر كما يتناول المسلم، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم، واستدلوا أيضا بقوله تعالى: ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ لأن النفس تصدق على النفس الكافرة، كما تصدق على النفس المسلمة، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر، واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه لا يقتل مسلم بكافر، وهو مبين لما يراد في الآيتين، والبحث في هذا يطول.
5. استدل بهذه الآية القائلون: بأن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق؛ إلا إذا سلّم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والثوري، وأبو ثور، وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ولا زيادة، وهو الحق، وقد بسطنا البحث في شرح المنتقى فليرجع إليه.
6. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ (من) هنا عبارة عن القاتل، والمراد بالأخ: المقتول، أو الوليّ، والشيء: عبارة عن الدم، والمعنى: أن القاتل أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه، أو الوليّ، دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئا من الدية أو الأرش، فليتبع المجني عليه أو الولي من عليه الدم؛ فيما يأخذه منه من ذلك اتباعا بالمعروف، وليؤد الجاني ما لزمه من الدّية أو الأرش إلى المجني عليه، أو إلى الوليّ أداء بإحسان؛ وقيل: إن (من) عبارة عن الوليّ، والأخ: يراد به القاتل، والشيء: الدية؛ والمعنى: أن الوليّ إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه للقصاص، كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك؛ وذهب من عداه إلى أنه لا يخير، بل إذا رضي الأولياء بالدية؛ فلا خيار للقاتل، بل يلزمه تسليمها؛ وقيل: معنى: ﴿عُفِيَ﴾ بذل، أي: من بذل له شيء من الدية، فليقبل وليتبع بالمعروف؛ وقيل: إن المراد بذلك: أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات، فيكون عفي بمعنى: فضل، وعلى جميع التقادير فتنكير شيء للتقليل، فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة، وقوله تعالى: ﴿فَاتِّبَاعٌ﴾ مرتفع بفعل محذوف؛ أي: فليكن منه اتباع، أو على أنه: خبر مبتدأ محذوف، أي: فالأمر اتباع، وكذا قوله تعالى: ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾
7. ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ﴾ إشارة إلى العفو والدية، أي: أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض أو بعوض، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود، فإنه أوجب عليهم القصاص، ولا عفو؛ وكما ضيق على النصارى؛ فإنه أوجب عليهم العفو ولا دية.
8. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أي: بعد التخفيف، نحو: أن يأخذ الدية ثم يقتل القاتل، أو يعفو ثم يستقص، وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية، فقال جماعة منهم مالك والشافعي: إنه كمن قتل ابتداء، إن شاء الوليّ قتله وإن شاء عفا عنه، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم؛ عذابه أن يقتل ألبتة، ولا يمكن الحاكم الوليّ من العفو، وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة، وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.
9. ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أي: لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة، لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصا إذا قتل آخر؛ كفّ عن القتل، وانزجر عن التسرع إليه والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية، وهذا نوع من البلاغة بليغ، وجنس من الفصاحة رفيع، فإنه جعل القصاص الذي هو مات حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضا، إبقاء على أنفسهم واستدامة لحياتهم؛ وجعل هذا الخطاب موجها إلى أولي الألباب، لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب ويتحامون ما فيه الضرر الآجل؛ وأما من كان مصابا بالحمق والطيش والخفة فإنه لا ينظر عند سورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة ولا يفكر في أمر مستقبل، كما قال بعض فتاكهم:
çسأغسل عني العار بالسّيف جالبا...عليّ قضاء الله ما كان جالباé
10. ثم علّل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي: تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص؛ فيكون ذلك سببا للتقوى، وقرأ أبو الجوزاء: ولكم في القصص حياة قيل: أراد بالقصص القرآن، أي: لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص حياة، أي: نجاة، وقيل: أراد حياة القلوب؛ وقيل: هو مصدر بمعنى القصاص، والكل ضعيف، والقراءة به منكرة.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/202.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ هذا شروع في بيان الحدود والحقوق التي لآدميّ معيّن، وهي النفوس، و﴿كُتِبَ﴾ بمعنى فرض وأوجب، قال الراغب: الكتابة يعبر بها عن الإيجاب، وأصل ذلك أنّ الشيء يراد ثم يقال ثم يكتب، فيعبر عن المراد الذي هو المبدأ، بالكتابة التي هي المنتهى.
2. ﴿الْحَرَّ﴾ يقتل ﴿بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ من القاتلين ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ أي دم أخيه المقتول ﴿شَيْءٍ﴾ بأن ترك وليّه القود منه، ونزل عن طلب الدم إلى الدية، وفي ذكر الأخوة: تعطف داع إلى العفو، وإيذان بأنّ القتل لا يقطع أخوة الإيمان ﴿فَاتِّبَاعٌ﴾ أي: فعلى العافي اتباع للقاتل ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ بأن يطالبه بالدية بلا عنف ﴿و﴾ على القاتل ﴿أَداءٌ﴾ للدّية ﴿إِلَيْهِ﴾ أي: العافي وهو الوارث ﴿بِإِحْسَانٍ﴾ بلا مطل ولا بخس.
3. ﴿ذَلِكَ﴾ أي: ما ذكر من الحكم وهو جواز القصاص والعفو عنه على الدية ﴿تَخْفِيفٌ﴾ تسهيل ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ عليكم ﴿وَرَحْمَةً﴾ بكم حيث وسّع في ذلك ولم يحتم واحدا منهما ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم أو قتل القاتل بعد العفو أو أخذ الدية ﴿فَلَهُ﴾ باعتدائه ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أمّا في الدنيا فبالاقتصاص بما قتله بغير حقّ، وأمّا في الآخرة فبالنار.
4. سؤال وإشكال: على من يتوجه هذا الوجوب في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾؟ والجواب(2).: على الناس كافة، فمنهم من يلزمه استقادته ـ وهو الإمام ـ إذا طلبه الوليّ، ومنهم من يلزمه تسليم النفس وهو القاتل، ومنهم من يلزمه المعاونة والرضا به، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى بل يقتص أو يأخذ الدية، والقصد بالآية: منع التعدّي الجاهليّ.
5. القصاص مصدر قاصّه، المزيد، وأصل القصّ: قطع الشيء على سبيل الاجتذاذ، ومنه: قصّ شعره؛ وقصّ الحديث: اقتطع كلاما حادثا جدا وغيره، والقصة اسم منه، وحقيقة القصاص: أن يفعل بالقاتل والجارح مثل ما فعلا، أفاده الراغب.
6. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية نقلها عن ابن تيمية في (السياسة الشرعية) ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
7. ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ كلام في غاية الفصاحة والبلاغة لما فيه من الغرابة، حيث جعل الشيء محل ضدّه، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة، وعرّف القصاص ونكر الحياة، ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم ـ الذي هو القصاص ـ حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه حتى كاد يفني بكر بن وائل! وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة، ويقع بينهم التناحر..! فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة..! أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا همّ بالقتل، فعلم أنه يقتص منه فارتدع، سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود، فكان القصاص سبب حياة نفسين..! هذا ما يستفاد من (الكشاف)
8. اتفق علماء البيان على أنّ هذه الآية ـ في الإيجاز مع جمع المعاني ـ بالغة إلى أعلى الدرجات، وذلك لأنّ العرب عبّروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة، كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقول آخرين: أكثروا القتل ليقلّ القتل، وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم القتل أنفى للقتل؛ وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها..! ومن المعلوم لكلّ ذي لبّ أنّ بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه! وأنّى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته.
9. قال في (الإتقان): وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى وهو قولهم (القتل أنفى للقتل) بعشرين وجها أو أكثر، وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك:
أ. الأول: أنّ ما يناظره من كلامهم وهو ﴿الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أقلّ حروفا، فإنّ حروفه عشرة وحروف (القتل أنفى للقتل) أربعة عشر.
ب. الثاني: أنّ نفي القتل لا يستلزم الحياة، والحياة ناصّة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه.
ج. الثالث: أنّ تنكير ﴿حَيَاةً﴾ يفيد تعظيما، فيدلّ على أن في القصاص حياة متطاولة، كقوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة: 96]، ولا كذلك المثل، فإنّ اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء!.
د. الرابع: أنّ الآية فيه مطّردة، بخلاف المثل، فإنه ليس كلّ قتل أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلما،! وإنما ينفيه قتل خاصّ، وهو القصاص، ففيه حياة أبدا.
هـ. الخامس: أنّ الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلا بالفصاحة.
و. السادس: أنّ الآية مستغنية عن تقدير محذوف، بخلاف قولهم، فإنّ فيه حذف (من) التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها، وحذف (قصاصا) مع القتل الأول، (وظلما) مع القتل الثاني، والتقدير: القتل قصاصا أنفى ظلما من تركه.
ز. السابع: أنّ في الآية طباقا، لأنّ القصاص يشعر بضدّ الحياة بخلاف المثل.
ح. الثامن: أن الآية اشتملت على فنّ بديع، وهو جعل أحد الضدّين ـ الذي هو الفناء والموت ـ محلّا ومكانا لضدّه ـ الذي هو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة..! ذكره في (الكشاف)، وعبّر عنه صاحب (الإيضاح) بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال (في) عليه.
ط. التاسع: أنّ في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة ـ وهو السكون بعد الحركة ـ وذلك مستكره، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكّن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته! بخلاف ما إذا تعقّب كلّ حركة سكون، فالحركات تنقطع بالسكنات، نظيره: إذا تحركت الدابة أدنى حركة، فحبست، ثم تحرّكت فحبست، لا تطيق إطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره، فهي كالمقيدة!.
ي. العاشر: أنّ المثل كالتناقض من حيث الظاهر، لأن الشيء لا ينفي نفسه!.
ك. الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدّة، وبعدها عن غنة النون.
ل. الثاني عشر: اشتمالها على حروف متلائمة، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد، ـ إذ القاف من حروف الاستعلاء، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق، بخلاف الخروج من القاف إلى التاء ـ التي هي من حرف منخفض ـ فهو غير ملائم للقاف، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق.
م. الثالث عشر: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك تكرير القاف والتاء.
ن. الرابع عشر: سلامتها من لفظ (القتل) المشعر بالوحشة، بخلاف لفظ (الحياة) فإن الطباع أقبل له من لفظ (القتل)
س. الخامس عشر: أنّ لفظ القصاص مشعر بالمساواة، فهو منبئ عن العدل، بخلاف مطلق القتل.
ع. السادس عشر: الآية مبنية على الإثبات، والمثل على النفي، والإثبات أشرف لأنه أول، والنفي ثان عنه.
ف. السابع عشر: أنّ المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أنّ القصاص هو الحياة، وقوله ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ مفهوم من أول وهلة.
ص. الثامن عشر: أنّ في المثل بناء (أفعل التفضيل) من فعل متعدّ، والآية سالمة منه.
ق. التاسع عشر أنّ (أفعل) في الغالب يقتضي الاشتراك، فيكون ترك القصاص نافيا للقتل، ولكنّ القصاص أكثر نفيا..! وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من ذلك.
ر. العشرون: أنّ الآية رادعة عن القتل والجرح معا، لشمول القصاص لهما، والحياة أيضا في قصاص الأعضاء، لأنّ قطع العضو ينقص أو ينغّص مصلحة الحياة، وقد يسري النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل في أول الآية ﴿وَلَكُمُ﴾ وفيها لطيفة: وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم.
10. ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ المراد به: العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف، فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعدائهم، وعلموا أنهم يطالبون بالقود، صار ذلك رادعا لهم، لأنّ العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه، فإذا خاف ذلك كان خوفه سببا للكفّ والامتناع إلا أنّ هذا الخوف إنما يتولّد من الفكر الذي ذكرناه، ممّن له عقل يهديه إلى هذا الفكر، فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر، لا يحصل له هذا الخوف، فلهذا السبب خصّ الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب، ثمّ علّل ذلك بقوله ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي: الله تعالى بالانقياد لما شرع، فتتحامون القتل.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/4.
(2) الكلام هنا للراغب.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ﴾ أي: فُرض، وأصله: خُطَّ، ولَمَّا كان الخطُّ لإنفاذ ما خُطَّ كان بمعنى فُرِضَ مجازًا، ثمَّ صار حقيقةً عرفيَّة في معنى الإلزام، وتقوَّى ذلك بـ (عَلَى) في قوله: ﴿عَلَيْكُم﴾ أيُّها المؤمنون والقاتلون وولَاةُ الأمر، فالخطاب بالكاف للذين آمنوا والقاتلين وولَاة الأمر كقوله تعالى: ﴿يَآ أَيـُّهَا النَّبِيءُ اِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ﴾ [الطلاق: 1] فالخطاب للنبيء وسائر المطلِّقين، يقال لرئيس القوم: (يا فلان، إذا جئتم أكرمتكم).
2. ﴿القِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ الْمُمَاثلة فيهم، أي: في قتل القتلى، أي: في شأنه، أو بسببه، ومنه المقصُّ لتساوي أطرافه، والقصَّة لأنَّها تساوي المحكيَّ، والقاصُّ لأنَّه يذْكُرها بلا تغيير وإلَّا عُدَّ محرِّفًا، وذلك بأنْ يُقتَل القاتل فقط، كما قَتَل القاتل إنسانًا فقط، ويُقتل العبد إذا قتل عبدا كما قَتل العبدَ، ولا يُقتل به الحرُّ وهكذا.. ومعنى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ أنَّه حقٌّ واجبٌ على القاتل لمن له الدَّم، ووجوبُه لا ينافي أنَّه يجوز العفو مطلقًا، والعفو عن القتل مع أخذ الدِّيَة، كما تقول: يجب على المدين أن يقضي الغريم، فإنَّه لو تَرَكَ الغريمُ الدَّين جاز، فلا عطاء على المدين.
3. نزلت الآية في الأوس والخزرج، كان لأحدهما ـ ولعلَّهم الأوس ـ على الآخرين قوَّة وشرف، وكانوا ينكحون نساءهم بلا مهر، وأقسموا: لنقتلنَّ الحرَّ منهم بالعبد منَّا، وبالمرأة منَّا الرجل منهم بلا ردٍّ لنِصفِ ديَة الرجل، وبالرجل الرجلين، وجعلوا جراحاتهم ضِعف جراحات أولئك، فرفعوا أمرهم إلى النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم فأمرهم الله بالمساواة، فَرَضُوا وسَلَّموا؛ ويقال: ذلك بين قريظة والنضير من اليهود، يقولون لبني قريظة: إذا قتلتم منَّا عبدًا قتلنا منكم حرًّا، وإذا قتلتم منَّا حرًّا قتلنا منكم حرَّين، ونقتل رجلكم بأنثانا؛ قيل: ويردُّه قوله تعالى: ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ وهؤلاء كفرة، ويجاب أنَّه وقع ذلك بين الأوس والخزرج، ووقع أيضًا بين فريظة والنضير، كما مرَّ أنَّهم تحالفوا، إحداهما مع الأوس والأخرى مع الخزرج، فغلِّب المؤمنون وهم الأوس والخزرج، وبأنَّ المؤمنين هم الحكَّام على القاتل من اليهود أو من المسلمين.
4. ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ يقتل الحرُّ الواحد بالحرِّ لا بالعبد، ولا حُرَّان بحرٍّ واحدٍ، أو الحرُّ يقتل بالحرِّ، وكذا ما بعدُ، ﴿وَالْعَبْدُ﴾ الواحد لا اثنان ولا الحرُّ ﴿بِالْعَبْدِ وَالاُنثَى﴾ لا الأنثيان، ولا الذَّكَر به بلا ردٍّ لنصف ديَة الذَّكر ﴿بِالاُنثَى﴾ والخنثى بالخنثى، لا الذَّكر به، بلا ردِّ زائدٍ، ولا الخنثى بالمرأة بلا ردٍّ، وقيل: بيَّنت السنَّة أنَّ الذكر يقتل بالأنثى بلا ردٍّ، وأنَّه تعتبر المماثلة في الدِّين، وأنَّ الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، فلا يقتل مسلم ولو عبدًا بكافر ولو حرًّا، ويقتل كافر بمسلم، وعن عليٍّ: (مضت السنَّة أنْ لا يُقتل مسلم بذي عهد ولا حرٌّ بعبد)، والمشرك غير ذي العهد أولى بأنْ لا يقتل به مؤمن، وكان أبو بكر وعمر كلَّما قتَل حرٌّ عبدًا لا يقتلانه به، سواءً أكان له أم لغيره، وهما عمدة بين الصحابة ولا يخالفهما أحد، وقَتَل رجلٌ عبدَه فجلده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونفاه سنةً، ولم يصحَّ عن مالك والشافعيِّ أنَّه لا يُقتل الذكر بالأنثى؛ وقيل عن أبي حنيفة: أنَّه يقتل الحرُّ في العبد المؤمن لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، ورُدَّ بأنَّه استثنى منه العبد إذ قال: (لا يُقتل حرٌّ بعبد)، وعن مالك والحنفيَّة: أنَّه ليس للوليِّ إلَّا القتل، إلَّا إن رضي القاتل بالدِّيَة، ويردُّه تخييره صلّى الله عليه وآله وسلّم الوليَّ بين القتل والدِّيَة وتركهما.
5. ﴿فَمَنْ عُفِيَ﴾ سومح، ﴿لَهُ﴾ فالقاتل الذي تُرِكَ له ﴿مِنَ اَخِيهِ﴾ المقتول، أي: من دم أخيه، والتارك ورثة المقتول، وقيل: الأخ وليُّ الدم، والمراد الأخوَّة في التوحيد، وفيه ردٌّ على الصفريَّة القائلين بأنَّ فاعل الكبيرة أو المعصية مشرك، ويبعد التأويل بالأخوَّة في الآدميَّة، وذَكَره بلفظ (أَخِيهِ) ليرقَّ له، والقتل لا يقطع الأخوَّة، ﴿شَيْءٌ﴾ من القتل ولو جزاء من ألف جزاء، أو شيئًا من الدِّيَة، تركه الورثة كلُّهم أو بعضهم، ﴿فَاتِّبَاعُم بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ اِلَيْهِ بِإحْسَانٍ﴾ أي: فالواجب، أو فعلى المعفوِّ له، أو فالأمر أنْ يتَّبعه العافي وسائر الورثة بالدِّيَة، أو ببعضها إنْ ترك البعض منها بلا عنف، وبلا ملازمة إنْ أعسر، وأنْ يؤدِّي القاتل الديَة أو ما بقي منها بلا مطل ولا بخس، وإنْ ترك القتل والدِّيَة فلا اتِّباع، والواجب القتلُ، والدِّيَة بدله، كذا ما دون القتلِ الأرشُ بدَلُه، فلو قال: عفوت عنه، لم يكن له قتل لأنَّه الأصل وقد عفا، ولا ديَة لأنَّها بدَلُه وقد سَقَطَ فلا ديَة، وقيل الواجب أحدهما على الإبهام فلو عفا لم يحمل عليه بل يستبقى له بأنْ يحمل العفو على العفو عن القتل فيعطى الدِّيَة، وإنْ صَرَّح بما عفا فيه عُمِل به.
6. ﴿ذَالِكَ﴾ التخيير لوليِّ الدَّم بين القتل وأخذ الدِّيَة والعفو، ﴿تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ إذ لم يحتِّم عليكم القتل كاليهود ولا الدِّيَة كالنصارى، وفي تحتيم أحدهما تضييق على الوارث والقاتل.
7. ﴿فَمَنِ اِعْتَدَى﴾ بالقتل، ﴿بَعْدَ ذَالِكَ﴾ أي: بعد تركه أو بعد أخذ الدِّيَة أو بعد العفو الكلِّيِّ، ﴿فَلَهُ عَذَابٌ اَلِيمٌ﴾ في الدُّنيا بالقتل، فإنَّه لا يعفى عنه ولو عفا عنه وليُّ القاتل كما جاء به الحديث، وفي الآخرة بالنار إلَّا إنْ تاب فلا عذاب في الآخرة عليه في ذلك، وعليه القتل ولو تاب، وروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (لا أعفي أحدًا قتَلَ بعد أخذ الدِّيَة).
8. ﴿وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ نوع من الحياة عظيم في شأنه، كثير بأفراده؛ لأنَّه إذا علم مريد القتل ظلما أنَّه يقتل إذا قتل كفَّ عن القتل، فلا يقتله الوليُّ، وإنْ قتله قتل وحده فذلك القصاص، وقبل ذلك كانوا يَقتُلون جماعةً فيهم القاتل، ويَقتُلون غيرَ القاتل واحدًا أو جماعة، وذلك غير قصاص، فينتشر القتل في ذلك، وفي الآية جَعَل القتلَ سببًا للحياة، وكالقتلِ الجروحُ وأنواع الجنايات في البدن، فقد يُجنَى على غير الجاني من واحد أو متعدِّدٍ، أو عليه وعلى غيره، وتنتشر الفتنة، فقد يفضي ذلك إلى الموت بقتل أو جرح، فقد تحتمله الآية أيضًا مع القتل، وإذا اقتُصَّ من الجاني أو أُخِذ الأرش توقَّفت الفتنة، والآية زجر عن القتل الأوَّل وعن القتل الثَّاني بزيادة قتل غير القاتل أو بقتل غيره، وإنْ جعلنا الحياة أخرويَّة فالآية إغراء إلى الإذعان للقصاص؛ لأنَّه إذا أذعن إليه القاتل كانت له الحياة الطيِّبة الأبديَّة.
9. ﴿يَآ أُوْلِي الَالْبَابِ﴾ العقول الخالصة عن الكدورات، وكلُّ المكلَّفين يجب عليهم تعاطي خلوص العقل، ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أنْ تقتُلوا غيركم، أو تزيدوا على القاتل، أو تقتلوا غيره، وتتَّقون الله بالمحافظة على القصاص والحكم به والإذعان له، أو تتَّقُون القتْلَ خوفَ أنْ تُقتَلُوا، وختَم آيةَ القِصَاصِ هذه وآية الصَّوْمِ بعدها بالتَّقوَى لأنَّ القِصَاصَ والصَّوْمَ من أشقِّ التكاليف.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/304.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر المفسرون ان القصاص على القتل كان محتما عند اليهود وأن الدية كانت محتمة عند النصارى وان القرآن جاء وسطا يفرض القصاص إذا أصر عليه أولياء المقتول ويجيز الدية إذا عفوا، وقد أقرهم محمد عبده على قولهم ان القتل قصاصا كان حتما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج والعشرين من التثنية، وأنكر عليهم قولهم ان الدية كانت حتما عند النصارى فإنه ليس في كتبهم شيء يحتم عليهم ذلك إلا أن يقال ان ذلك مأخوذ من وصايا التساهل والعفو وجزاء الاساءة بالإحسان في الانجيل، ولكن أخذ الدية ضرب من ضروب الجزاء ينافي هذه الوصايا.
2. إذا نظرنا في أعمال الاولين والآخرين وشرائعهم في القتل نجد القرآن وسطا حقيقيا لا بين ما نقل عن اليهود والنصارى فقط بل بين مجموع آراء البشر من أهل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، فقد كانت العرب تتحكم في ذلك على قدر قوة القبائل وضعفها، فرب حر كان يقتل من قبيلة فلا ترضى قبيلته بأخذ القاتل به بل تطلب به رئيسها، وأحيانا كانوا يطلبون بالواحد عشرة وبالأنثى ذكرا، وبالعبد حرا، فان أجيبوا وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة، وهذا إفراط وظلم عظيم تفتضيه طبيعة البداوة الخشنة، وفرض التوراة قتل القاتل إصلاح في هذا الظلم، ولكن يوجد في الناس لا سيما أهل القوانين في زماننا هذا من ينكر المعاقبة بالقتل ويقولون انه من القسوة وحب الانتقام في البشر، ويرون أن المجرم الذي يسفك الدم يجب أن تكون عقوبته تربية لا انتقاما، وذلك يكون بما دون القتل، ويشددون النكير على من يحكم بالقتل إذا لم تثبت الجريمة على القاتل بالإقرار، بان ثبتت بالقرائن أو بشهادة شهود يجوز عليهم الكذب، ويرون أن الحكومة إذا علمت الناس التراحم في العقوبات فذلك أحسن تربية لهم، ومنهم من يقول ان المجرمين لا يكونون إلا مرضى العقول فالواجب أن بوضعوا في مستشفيات الامراض العقلية ويعالجوا فيها الى أن يبرؤوا وإذا دققنا النظر في أقوال هؤلاء نرى انهم يريدون أن يشرعوا أحكاما خاصة بقوم تعلموا وتربوا على الطرق الحديثة وسيسوا بالنظام والحكم، حتى لا سبيل لأولياء المقتول أن يثأروا له من القاتل ولا أن يسفكوا لاجله دماء بريئة، وحتى يؤمن من استمرار العداوة والبغضاء بين بيوت القاتلين وبيوت المقتولين، ووجدت عندهم جميع وسائل التربية والمعالجة، لا احكاما عامة لجميع البشر، في البدو والحضر، ومع هذا نرى كثيرا من الناس حتى المنتسبين إلى الاسلام يغترون بآرائهم ويرونها شبهة على الإسلام.
3. النافذ البصيرة العارف بمصالح الامم الذي يزن الامور العامة بميزان المصلحة العامة لا بميزان الوجدان الشخصي الخاص بنفسه أو ببلده فإنه يرى أن القصاص بالعدل والمساواة هو الاصل الذي يربي الامم والشعوب والقبائل كلها، وان تركه بالمرة يغري الاشقياء بالجراءة على سفك الدماء، وأن الخوف من الحبس والاشغال الشاقة إذا أمكن أن يكون مانعا من الإقدام على الانتقام بالقتل في البلاد التي غلب على أهلها التراحم أو الترف والانغماس في النعيم كبعض بلاد أوربة فإنه لا يكون كذلك في كل البلاد وكل الشعوب، بل ان من الناس في هذه البلاد وفي غيرها من يحبب اليه الجرائم أو يسهلها عليه كون عقوبتها السجن الذي يراه خيرا من بيته، وان في مصر من الاشقياء من يسمي السجن نزلا أو فندقا، وسمعت أنا غير واحد في سورية يقول: إذا فعل فلان كذا فإنني أقتله وأقيم في القلعة عشر سنين، وذلك ان القاتل هناك يحكم عليه غالبا بالسجن خمس عشرة سنة في قلعة طرابلس الشام، ويعفو السلطان في عيد جلوسه عمن تم له ثلثا المدة المحكوم بها عليه في السجن، واشتهر عن بعض المجرمين في مصر انهم يسمون بعض السجون العصرية (لو كاندة كولس) بالإضافة إلى كولس باشا مدير السجون الذي أنشئت في عهده، ويقول بعضهم: أسرق كذا أو أضرب فلانا وأشتو في لوكاندة كولس فان الشتاء فيها أرحم وأنعم من الشتاء في بيتنا أو في الشوارع، ولا يبعد على المجرم من هؤلاء أن يقتل لان عقاب القتل في هذه السجون إن ثبت عليه أهون من عيشته الشقية، فما القول في أهل البوادي أصحاب الثارات التي لا تموت؟ فقتل القاتل هو الذي يربي الناس في كل زمان ومكان ويمنعهم من القتل قال محمد عبده: وقد بالغ في الاعتراف بذلك معدل القانون المصري حيث أجاز الحكم بالإعدام إذا وجدت القرائن القاطعة على ثبوت التهمة، بعد أن كان لا يجيزه إلا بالاعتراف أو شهادة شهود الرؤية.
4. قد تقع في كل بلاد صور من جرائم القتل يكون فيها الحكم بقتل القاتل ضارا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل الانسان أخاه أو أحد اقاربه لعارض دفعه إلى ذلك، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت، وإذا قتل يفقدون بقتله المعين والظهير، بل قد يكون في قتل القاتل احيانا مفاسد ومضار وإن كان أجنبيا من المقتول، ويكون الخير لأولياء المقتول عدم قتله لدفع المفسدة، أو لان الدية انفع لهم، فأمثال هذه الصور توجب أن لا يكون الحكم بقتل القاتل حتما لازما في كل حال، بل يكون هو الاصل، ويكون تركه جائزا برضاء أولياء المقتول وعفوهم، فاذا ارتقت عاطفة الرحمة في شعب أو قبيل أو بلد الى أن صار أولياء القاتل منهم يستنكرون القتل ويرون العفو أفضل وأنفع فذلك إليهم، والشريعة لا تمنعهم منه بل ترغبهم فيه، وهذا الاصلاح الكامل في القصاص هو ما جاء به القرآن، وما كان ليرتقي اليه بنفسه علم الانسان.
5. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ القصاص في اصل اللغة يفيد المساواة، فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل لأنه في نظر الشريعة مساو للمقتول فيؤخذ به، فالغرض من الآية شرعية القصاص بالعدل والمساواة وإبطال ذلك الامتياز الذي للأقوياء على الضعفاء، ولذلك قال: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ أي ان هذا القصاص لا هوادة فيه ولا جور، فاذا قتل حر حرا يقتل هو به لا غيره من سادات القبيلة ولا اكثر من واحد، وإذا قتل عبد عبدا يقتل هو به لا سيده، ولا احد الاحرار من قبيلته، وكذلك المرأة إذا قتلت تقتل هي ولا يقتل واحد فداء عنها، خلافا لما كانت عليه الجاهلية في ذلك كله، فالقصاص على القاتل نفسه أيّا كان لا على احد من قبيلته، فما كانت عليه العرب في الثأريبين هذا المعنى من الآية ولكن مفهوم اللفظ بحد ذاته وسياق مقابلة الاصناف بالأصناف يفهم انه لا يقتل فريق بفريق آخر، وهو غير مراد على إطلاقه، فقد جرى العمل من زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الآن على قتل الرجل بالمرأة واختلفوا في قتل الحر بالعبد فذهب ابو حنيفة وابن أبي ليلى وداوود إلى انه يقتل به إذا لم يكن سيده، وذهب الجمهور الى انه لا يقتل به مطلقا، والاختلاف في قتل الرجل بالمرأة اضعف ولهذه الخلافات زعم بعضهم ان في الآية نسخا وإنما منشأ الخلاف ادلة أخرى من السنة وغيرها والاعتبار بمفهوم المخالفة في الآية وعدمه، والقرآن فوق كل خلاف، فمنطوق الآية لا مجال للخلاف فيه وهو أن الحر يقتل بالحر الخ وأما كون الحر يقتل بالعبد والرجل بالمرأة فهذا يؤخذ من لفظ القصاص ولا يعارضه مفهوم التفصيل، فان بعض اهل الاصول لا يعتبر المفهوم المخالف للمنطوق وبعضهم يعتبره بشرط لا يتحقق هنا لما ذكروه في سبب النزول منطبقا على ما ذكرناه عن العرب، قال البيضاوي في تفسير الآية: (كان في الجاهلية بين حيين من احياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى، فلما جاء الاسلام تحاكموا إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت وأمرهم ان يتبارؤوا، ولا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى كما لا تدل على عكسه، فان المفهوم يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم ) والبيضاوي من الشافعية القائلين بمفهوم المخالفة، وما ذكره في سبب النزول أخرجه ابن أبي حاتم.
6. يدخل في عموم الآية الكافر وبه قال الكوفيون والثوري وقال الجمهور لا يقتل به المسلم لما ورد في ذلك من الحديث الصحيح المبين لاجمال الآية، واستثني من عمومها السيد يقتل عبده قالوا لا يقتل به ولكن يعزر ولا يعرف في ذلك خلاف الاعن النخعي، قال محمد عبده: وللحاكم ان يقرر هذا التعزير بشدة تمنع الاعتداء والاستهانة بالدم ولا يخفى ان التعزير قد يكون بالقتل فاذا عهد في قوم من القسوة ما يقتلون به عبيدهم فللامام ان يقتل السيد بعبده تعزيرا لا حدا اذا رأى المصلحة العامة في ذلك.
7. واستثنوا ايضا الوالدين فقالوا: لا يقتل الوالد بولده وعلله محمد عبده بأن الحدود توضع حيث تتحرك النفوس للجناية لتكون رادعة عن الاستمرار فيها، وقد مضت السنة الالهية في الفطرة بأن قلوب الاصول مجبولة من طينة الشفقة والحنو على الفروع حتى ليبذلون أموالهم وأرواحهم في سبيلهم وكثيرا ما يقسو الولد على والده وقلما يقسو والد على ولده الا لسبب قوي كعقوق شديد أو فساد في اخلاق الولد جنى على اصل الفطرة كالإفراط في حب الذات ولكن هذه القسوة لا تفضى الى القتل الا لأمر يكاد يكون فوق الطبيعة كعارض جنون من الوالد أو ايذاء لا يطاق من الولد ولما كان هذا شاذا نادرا جعل كالعدم فلم يلاحظ في وضع الحد، لان الاحكام تناط بالمظنة لا بالشواذ التي يندر ان تقع، ومع هذا يعزر من يقتل ولده بما يراه الحاكم لائقا بحاله ومربيا لا مثاله، واعظم اسباب هذا الشذوذ في الوالدين طغيان الحكم الاستبدادي وجنون العشق فكثيرا ما قتل الملوك أولادهم، وكانت سنة سلاطين آل عثمان أن تسلم القوابل ابناء اسرتهم كلهم للقتل عقب الولادة الا من يسمى ولى العهد الوارث للسلطنة، ويلى ذلك قتل الوالدين حتى الأمهات بثوران جنون العشق.
8. اضطرب العلماء في تعيين المخاطب بهذا القصاص اذ لا يصح ان يكون القاتل ولا المقتول ولا ولي الدم ولا عصبة القاتل ولا سائر الناس الاجانب ولا يظهر ايضا ان المخاطب بقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ الحكام خاصة، قال محمد عبده بعد ما أورد هذا المعنى عن بعضهم: وهذه مشاغبة وتشكيك كمشاغبات الرازي وشكوكه والخطاب مفهوم بالبداهة، والآية جارية على أسلوب القرآن في مخاطبة جماعة المؤمنين في الشؤون العامة والمصالح لاعتبار الامة متكافلة ومطالبة بتنفيذ الشريعة وحفظها وبالخضوع لاحكامها كما تقدم بيانه في مخاطبة اليهود بإسناد ما كان من آبائهم اليهم اذ قلنا ان الأمة في هدى القرآن كالشخص الواحد يخاطب البعض منها بالكل والكل بالبعض، كما يقال للشخص جنيت وجنت يدك واخطأت وأخطأ سمعك أو رأيك، ففي هذا الخطاب بالقصاص يدخل القاتل لأنه مأمور بالخضوع لحكم الله، ويدخل الحاكم لأنه مأمور بالتنفيذ، ويدخل سائر المسلمين لأنهم مأمورون بمساعدة الشرع وتأييده، ومراقبة من يختارونه للحكم به وتنفيذه.. وأزيد عليه افادة الآية وأمثالها ان سلطة الحكم في الاسلام للامة في جملتها، كل يقوم بقسطه من الاجتهاد في التشريع بالشورى والتنفيذ للأحكام والخضوع لها بشروطها.
9. بعد أن بين تعالى وجوب القصاص وهو أصل العدل، ذكر أمر العفو وهو مقتضى التراحم والفضل، فقال ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ الخ اي فمن عفاله أخوه في الدين من أولياء الدم عن شيء من حقهم في القصاص ولو واحدا منهم ان تعددوا وجب اتباعه وسقط القصاص كما يأتي، وإنما يعفو من له حق طلب القصاص، وقد جعل الله هذا الحق لأولياء المقتول وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده ويهانون بفقده، ويحرمون من عونه ورفده، فمن أزهق روحه كان لهم ان يطلبوا ازهاق روحه، لما تستفزهم اليه نعرة القرابة وطبيعة المصلحة، فاذا لم يجب طلبهم، ولم يقتص الحاكم لهم، فانهم ربما يحتالون للانتقام، ويفشو بينهم وبين القاتل وقومه التشاحن والخصام، واذا جاء العفو من جانبهم أمن المحذور والفتنة، ولا سيما اذا كان من أسباب العفو استعطاف القاتل وقومه لهم، واستعتابهم اياهم، بإثارة عاطفة الاخوة الدينية، وأريحية المروءة والانسانية، ففي مثل هذه الحالة يوجب الله تعالى حجب الدم، وليس للحكومة ان تمتنع من العفو اذا رضوا به، ولا ان أن تستقل بالعفو اذا طلبوا القصاص فتحفظ قلوبهم، وتخرج أضغانهم، وتحملهم على محاولة الانتقام بأيديهم اذا قدروا، فيزيد البلاء، ويكثر الاعتداء، أو يعيش الناس في تباغض وعداء، وفوضى تستباح فيها الدماء، وعبارة الآية تشعر بان الله تعالى يحب من عباده العفو ولذلك فرض اتباع العفو وان لم يكن تاما متفقا عليه من جميع أولياء الدم كالآباء والابناء والاخوة، فان عفا بعضهم يرجح جانبه على الآخرين كما يدل عليه تنكير شيء في قوله ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ فقد ذهب جمهور المفسرين الى أن (شيء) هنا نائب عن المصدر أي عفى له شيء من العفو بان ناله بعضه ممن لهم المطالبة به، ويؤيد هذا ويؤكده التعبير عن العافي بلفظ الاخ الذي يحرك عاطفة الرحمة والحنان، وهو كما قال المفسرون يؤذن بان القتل لا يقتضي الارتداد عن الاسلام وقطع اخوة الايمان، الا اذا استحله فاعله.
10. من مباحث اللفظ هنا ان بعض المفسرين أشكل عليهم استعمال عفي متعدية باللام وزعموا أنها بمعنى ترك قال البيضاوي تبعا للكشاف: وهو ضعيف اذ لم يثبت عفا الشيء بمعني تركه بل أعفاه، وعفا يعدى بعن الى الجاني والى الذنب قال الله تعالى ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ﴾ وقال ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾ فاذا عدي به الى الذنب عدي الى الجاني باللام وعليه ما في الآية كأنه قيل: فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني ولي الدم.
11. لما كان العفو عن القصاص يتضمن الرضى بأخذ الدية قال تعالى: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ أي من ناله شيء من هذا العفو فالواجب في شأنه أو قضيته تنفيذ العفو وثبوت الدية، وعبر عن الاول باتباع العفو بالمعروف، وهو واجب على الامام الحاكم وعلى العافي وغيره من الاولياء، وان لم يعفوا فعليهم ان لا يرهقوا القاتل من امره عسرا، بل يطلبون منه الدية بالرفق والمعروف الذي لا يستنكره الناس، وعبر عن الثاني بالأداء اليه بإحسان، وهو واجب على القاتل بان لا يمطل ولا ينقص ولا يسيء في صفة الاداء، ويجوز العفو عن الدية ايضا كما في قوله تعالى في سورة النساء: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ هذا هو الظاهر في الآية فلا حاجة الى ذكر ما قالوه من احتمال غيره.
12. يؤكد رغبة الشارع في العفو امتنانه علينا بإجازته ووعيده لمن اعتدى، أما الامتنان به فقوله: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ واي تخفيف ورخصة أفضل من حجب الدم بتجويز العفو والاكتفاء عنه بقدر معلوم من المال؟ فهذه رحمة منه سبحانه بهذه الامة اذ رغبها في التراحم والتعاطف والعفو والاحسان، وأما الوعيد على الاعتداء بعده فقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ اي بعد العفو عن الدم والرضى بالدية بأن انتقم من القاتل ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قيل معناه أنه يتحتم قتل الولي العافي أو غيره إذا قتل القاتل بعد العفو ولا يجوز العفو عنه، بل يقتله الحاكم وإن عفا عنه ولي المقتول، وبه قال جماعة من المفسرين كعكرمة والسدي، وقال عمر بن عبد العزيز: أمره الى الامام يفعل فيه ما يراه، والجمهور على أن حكمه حكم القاتل ابتداء، وعليه مالك والشافعي، والمراد بالعذاب الاليم عذاب الآخرة، قال محمد عبده: وهو الصحيح، وفي الحديث المرفوع عند أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم ما يؤيده.
13. ثم قال تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ وهو تعليل لشرعية القصاص وبيان لحكمته، وقدم عليه تعليل العفو والترغيب فيه والوعيد على الغدر بعده عناية به، وايذانا بأن الترغيب في العفو لا يستلزم تصغير شأنه، وبيان الاسباب والحكم لوضع الاحكام العملية، كإقامة البراهين والدلائل للمطالب العقلية، بهذه يعرف الحق من الباطل، وبتلك يعرف العدل وما يتفق مع المصالح، وبذلك يكون الحكم أوقع في النفس وأبعث على المحافظة عليه، وأدعى الى الرغبة في العمل به.
14. بينت هذه الآية حكمة القصاص بأسلوب لا يسامى، وعبارة لا تحاكى، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن، التي تعجز في التحدي فرسان البيان، ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمنا لضده وهو الحياة في الاماتة التي هي القصاص، وعرّف القصاص ونكر الحياة للإشعار بان في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما لا يقدر قدره، ولا يجهل سره، ثم انها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز، وكانوا ينقلون كلمة في معناها عن بعض بلغاء العرب يعجبون من إيجازها في بلاغتها، ويحسبون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها، وهي قولهم: (القتل أنفى للقتل)، وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا انها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان، ويفصح به اللسان، لأنها قيلت قبلها كلمات أخرى في معناها لبلغائهم كقولهم: (قتل البعض إحياء للجميع)، وقولهم (أكثروا القتل ليقل القتل).. وأجمعوا على أن كلمة: (القتل أنفى للقتل)، أبلغها، وأين هي من كلمة الله العليا، وحكمته المثلى؟
15. نقل هنا كلام الفخر الرازي في الوجوه المرتبطة ببلاغة ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، وقد سبق ذكره.
16. ذكر السيد الالوسي هذه الوجوه باختصار أدق وزاد عليها نحوها فقال:
أ. الأول: قلة الحروف فان الملفوظ هنا (أي في الآية) عشرة أحرف إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة وهناك أربعة عشر حرفا.
ب. الثاني: الاطراد إذ في كل قصاص حياة وليس كل قتل انفى للقتل، فان القتل ظلما أدعى للقتل.
ج. الثالث: ما في تنوين (حياة) من النوعية أو التعظيم.
د. الرابع: صنعة الطباق بين القصاص والحياة فان القصاص تفويت الحياة فهو مقابلها.
هـ. الخامس: النص على ما هو المطلوب بالذات أعني الحياة فان نفي القتل انما يطلب لها لا لذاته.
و. السادس: الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلا في ضده، ومن جهة ان المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق، فكأن القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات.
ز. السابع: الخلو عن التكرار مع التقارب، فإنه لا يخلو عن استبشاع ولا يعد من رد العجز على الصدر حتى يكون محسنا.
ح. الثامن: عذوبة اللفظ وسلاسته، حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الاسباب الخفيفة، إذ ليس في قولهم حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد، ولا شك انه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان، وأيضا الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام الى الهمزة لبعد الهمزة من اللام، وكذلك الخروج من الصاد الى الحاء أعدل من الخروج من الالف الى اللام.
ط. التاسع: عدم الاحتياج الى الحيثية، أي التعليل: وقولهم يحتاج اليها.
ي. العاشر: تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل وغير ذلك، وقولهم لا يشمله.
ك. الحادي عشر: خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا.
ل. الثاني عشر: اشتماله على ما يصلح للقتال وهو الحياة بخلاف قولهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وانه لمما يليق بهم.
م. الثالث عشر: خلوه مما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال ـ إلى غير ذلك فسبحان من علت كلمته، وبهرت آيته.
17. الآية على كونها أبلغ، وكلمتها أوجز، قد أفادت حكما لم تكن عليه العرب قبلها، ولم يطلبه أحد من عقلائهم وبلغائهم، وهو المساواة في العقوبة وبيان ان فيه الحياة الطيبة، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض، وأما أمرهم بالقتل ليقل القتل أو ينتفي فهو يصدق باعتداء قبيلة على قبيلة والاسراف في قتل رجالها لتضعف فلا تقدر على أخذ الثأر فيكون المعنى: ان قتلنا لعدونا إحياء لنا، وتقليل أو نفي لقتله إيانا، وأين هذا الظلم من ذلك العدل؟ فالآية الحكيمة قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات، وان القصاص وسيلة من وسائلها، لان من علم انه إذا قتل نفسا يقتل بها يرتدع عن القتل فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع، فان من الناس من يبذل المال الكثير لأجل الايقاع بعدوه.
18. في الآية من براعة العبارة، وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة، ويوطن النفوس على قبول حكم المساواة إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم، هذا وان دول الافرنج تجري على سنة عرب الجاهلية في جعل القتل لأعدائها وخصومها أنفى لقتلهم إياها، وذلك شأنهم مع الضعفاء، كالشعوب التي ابتليت باستيلائهم عليها باسم الاستعمار أو غيره من الاسماء، فأين هي من عدل الاسلام، ومساواته بين جميع الانام؟
19. قال تعالى بعد هذا البيان، المتضمن للحكمة والبرهان: ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ فحص بالنداء أصحاب العقول الكاملة، مع أن الخطاب عام للتنبيه على أن ذا اللب هو الذي يعرف قيمة الحياة والمحافظة عليها، ويعرف ما تقوم به المصلحة العامة وما يتوسل به اليها، وهو مرتبتان: القصاص وهو العدل، والعفو وهو الفضل، كأنه يقول: ان ذا اللب هو الذي يفقه سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من الحكمة والمصلحة، فعلى كل مكلف أن يستعمل عقله في فهم دقائق الاحكام، وما فيها من المنفعة للأنام، وهو يفيد أن من ينكر منفعة القصاص بعد هذا البيان، فهو بلا لب ولا جنان، ولا رحمة ولا حنان.
20. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ جعله الجلال تعليلا لشرع القصاص وقدر له (شرع) أي لما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم، لعلكم تتقون الاعتداء، وتكفون عن سفك الدماء، وقال محمد عبده: ان هذا لا بأس به والشرعية مفهومة من الآية، وإيجاز القرآن يقتضي عدم التصريح بها لأجل التعليل كما صرح به في الآية التي قبلها ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ ويمكن أن يستغنى عن تقدير (شرع) ويتعلق الرجاء بالظرف في قوله ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أي ثبتت لكم الحياة في القصاص لتعدكم وتهيئكم للتقوى والاحتراس من سفك الدماء، وسائر ضروب الاعتداء، إذ العاقل حريص على الحياة ولوع بالأخذ بوسائلها، والاحتراس من غوائلها.
__________
(1) تفسير المنار: 2/123.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان القصاص على القتل أمرا محتوما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج، وكانت الدية أمرا مقضيا عند النصارى، وكانت العرب تتحكم في ذلك بحسب قوة القبائل وضعفها، فكثيرا ما كانت القبيلة تأبي أن تقتص من القاتل، بل تقتصّ من رئيس القبيلة، وربما طلبوا بالواحد عشرة، وبالأنثى ذكرا وبالعبد حرّا، فإن أجيبوا فيها ونعمت، وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة، وهذا ظلم عظيم، وقسوة شديدة، وقتل القاتل فحسب وهو ما جاء في التوراة إصلاح لهذا الظلم، ولكن قد تقع أحيانا بعض جرائم يكون الحكم فيها بقتل القاتل ضارّا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل المرء أخاه أو أحد أقار به لغضب فجائي اضطره إلى قتله، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت، فإذا قتل يفقدون بفقده النصير والمعين، بل قد يكون في قتل القاتل مفاسد ومضارّ، وإن كان القاتل أجنبيا من المقتول فيكون من الخير لوليّه عدم قتله دفعا للضرر أو استفادة للدية، ففي أمثال هذه الحالات يجوز لأولياء المقتول العفو مع أخذ الدية أو تركها، وإذا ارتقت عاطفة الرحمة لدى شعب أو بلد وصار يستنكر القتل ويرى أن العفو أفضل، فالأمر موكول إليهم والشريعة ترغبهم فيه، وهذا هو الإصلاح الكامل الذي جاء به الكتاب الكريم في القصاص.
2. قد يجول بخاطر بعض الناس ولا سيما في عصرنا الحاضر، أن عقوبة القاتل بالقتل انتقام لا تربية، والواجب أن تعلّم الحكومة الجمهور التراحم في العقوبات، لأنهم ما ارتكبوا هذه الجريمة إلا لمرض في عقولهم، فيجب أن يوضعوا في المستشفيات حتى يبرؤوا إلى كلام كثير كهذا وأشباهه، ولو أنا دققنا النظر وتأملنا لعلمنا أن مثل هذا إن ساغ في التشريع فلن يكون إلا في الأمم الراقية التي قطعت شوطا بعيدا في الحضارة، وكان أفرادها على حظ عظيم من الأخلاق الفاضلة، ولا يصلح أن يكون تشريعا عاما، فالقصاص بالعدل والمساواة هو الذي يربّى الأمم والشعوب، وتركه يغرى الأشقياء، ويجرئهم على سفك الدماء، فإن عقوبة السجن لا تزجر كثيرا من الناس، بل يرون السجون خيرا لهم من بيوتهم.
3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ أي فرض عليكم المساوات، والعدل في القصاص، لا كما كان يفعله الأقوياء مع الضعفاء من المغالاة في قتل الكثير بالقليل، وقتل السيد البريء بالمسود تعنتا وظلما.
4. ثم فسر هذه المساواة بقوله: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ أي يؤخذ الحر ويقتل بقتل الحر بلا إبطاء ولا جور، فإذا قتل حرّ حرّا قتل هو به لا غيره من سادة القبيلة، ولا عدد كثير منها، وإذا قتل عبد عبدا قتل به لا سيده ولا أحد الأحرار من قبيلته، وكذلك تقتل المرأة إذا قتلت ولا يقتل أحد فداء منها.
5. الخلاصة ـ إن القصاص على القاتل أيا كان لا على أحد من قبيلته، ولا فرد من أفراد عشيرته، قال البيضاوي في تفسيره: كان بين حيين من العرب دماء في الجاهلية، وكان لأحدهما طول (فضل وشرف) على الآخر، فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد والذكر بالأنثى، فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فنزلت الآية وأمرهم أن يتبارؤوا (يتساووا)
6. جرى العمل من لدن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على قتل الرجل بالمرأة، والحر بالعبد إذا لم يكن سيده، فإن كان هو عزّر بشدة تمنع أمثال هذا الاعتداء، ولا يقتل الوالد بولده، لأن المقصد من القصاص ردع الجاني عن الاستمرار في مثل هذه الجناية، والوالد بفطرته مجبول على الشفقة على ولده حتى ليبذل ماله وروحه في سبيله، وقلما يقسو عليه، ولكن كثيرا ما يقسو الولد على والده، وللحاكم أن يعزر قاتل ولده بما يراه زاجرا لأمثاله ومربّيا لهم.
7. بعد أن ذكر الله تعالى وجوب القصاص وهو أساس العدل، ذكر هنا العفو وهو مقتضى التراحم والفضل قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ أي فمن عفى له عن جنايته من جهة أخيه ولىّ الدم، ولو كان العافي واحدا إن تعددوا وجب اتباعه وسقط القصاص، وقد جعل هذا الحق لأولياء المقتول وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده، ويهانون بفقده، ويحرمون من رفده وعونه، فمن أزهق روحه كان لهم أن يطلبوا إزهاق روحه، إذ تحفزهم إلى ذلك النّعرة القومية والمصلحة، فإذا طلبوا ولم يقتصّ الحاكم، فربما احتالوا للانتقام، وفشا التشاحن والخصام، ولكن إن جاء العفو من جانبهم أمنت الفتنة، وليس للحاكم أن يمتنع من العفو إذا رضوا به، ولا أن يستقلّ بالعفو إذا طلبوا القصاص حتى لا تحملهم الضغينة على الانتقام بأيديهم إذا قدروا.. فيكثر الاعتداء ويعيشون في تباغض وفوضى تستباح فيها الدماء.
8. ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ أي فاتباع العفو بالمعروف واجب على العافي وغيره، وعليه ألا يرهق القاتل من أمره عسرا، بل يطلب منه الدية بالرفق والمعروف الذي لا يستنكره الناس، وكذلك لا يمطل القاتل ولا ينقص ولا يسيء في كيفية الأداء، ويجوز العفو عن الدية أيضا كما قال: (ودية مسلّمة إلى أهله إلّا أن يصّدّقوا)
9. ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ أي ذلك الحكم الذي شرعناه لكم من العفو عن القاتل والاكتفاء بقدر من المال، تخفيف ورخصة من ربكم ورحمة لكم، وأي رحمة أفضل من العطف والعفو والامتناع عن سفك الدماء.
10. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي فمن اعتدى وانتقم من القاتل بعد العفو والرضى بالدية، فله عذاب أليم من ربه يوم القيامة، يوم لا تغنى نفس عن نفس شيئا.
11. بعد أن ذكر الله تعالى حكمة العفو والرغبة فيه، وذكر الوعيد على الغدر، أرشد إلى بيان الحكمة في القصاص، إذ أن ذلك أدعى إلى ثبات الحكم في النفس، وأدعى إلى الرغبة في العمل به فقال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أي إن في القصاص الحياة الهنيئة، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض، إذ من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها، يرتدع عن القتل فيحفظ حياة من أراد قتله وحياة نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع، إذ من الناس من يبذل المال الكثير للإيقاع بعدوه.
12. قد أثر عن العرب كلمات تفيد معنى الآية كقولهم: القتل أنفى للقتل، وقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقولهم: أكثروا القتل ليقلّ القتل، ولكن الآية أخصر من هذا كله، وفيها من الفوائد ما لا يوجد فيما أثر عنهم، إذ أن القتل ظلما لا يكون نافيا للقتل بل هو سبب في زيادته، وإنما النافي للقتل هو القتل قصاصا، وأمرهم بالقتل ليقلّ القتل أو ينتفى، يصدق باعتداء قبيلة على أخرى والإسراف في قتل رجالها لتضعف فلا تقدر على الأخذ بالثأر، ويكون المراد أن قتلنا لعدوّنا إحياء لنا وتقليل أو نفى لقتله إيانا.
13. ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وخصّ أرباب العقول بالنداء للدلالة على أن الذي يفهم قيمة الحياة ويحافظ عليها هم العقلاء، كما أنهم هم الذين يفقهون سرّ هذا الحكم وما اشتمل عليه من المصلحة والحكمة، فعليكم أن تستعملوا عقولكم في فهم دقائق الأحكام.
14. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي ولما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم لعلكم تتقون الاعتداء وتكفّون عن سفك الدماء، إذ العاقل يحرص على الحياة، ويحترس من غوائل القصاص.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/61.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. يتضمن هذا الدرس جانبا من التنظيمات الاجتماعية للمجتمع المسلم الذي كان ينشأ في المدينة نشأته الأولى، كما يتضمن جانبا من العبادات المفروضة.. هذه وتلك مجموعة متجاورة في قطاع واحد من قطاعات السورة.
2. هذه وتلك مشدودة برباط واحد إلى تقوى الله وخشيته، حيث يتكرر ذكر التقوي في التعقيب على التنظيمات الاجتماعية والتكاليف التعبدية سواء بسواء.. وحيث تجيء كلها عقب آية البر التي استوعبت قواعد التصور الإيماني وقواعد السلوك العملي في نهاية الدرس السابق.
3. في هذا الدرس حديث عن القصاص في القتلى وتشريعاته، وفيه حديث عن الوصية عند الموت.. ثم حديث عن فريضة الصوم وشعيرة الدعاء وشعيرة الاعتكاف.. وفي النهاية حديث عن التقاضي في الأموال.
4. في التعقيب على القصاص ترد إشارة إلى التقوي: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.. وفي التعقيب على الوصية ترد الإشارة إلى التقوي كذلك: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾.. وفي التعقيب على الصيام ترد الإشارة إلى التقوي أيضا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.. ثم ترد نفس الإشارة بعد الحديث عن الاعتكاف في نهاية الحديث عن أحكام الصوم: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.. ولا تبعد التعقيبات القليلة الباقية في الدرس عن معنى التقوي، واستجاشة الحساسية والشعور بالله في القلوب، فتجيء هذه التعقيبات: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾..
5. هو اطراد يوجه النظر إلى حقيقة هذا الدين.. إنه وحدة لا تتجزأ.. تنظيماته الاجتماعية، وقواعده التشريعية وشعائره التعبدية.. كلها منبثقة من العقيدة فيه؛ وكلها نابعة من التصور الكلي الذي تنشئه هذه العقيدة؛ وكلها مشدودة برباط واحد إلى الله؛ وكلها تنتهي إلى غاية واحدة هي العبادة: عبادة الله الواحد، الله الذي خلق، ورزق، واستخلف الناس في هذا الملك، خلافة مشروطة بشرط: أن يؤمنوا به وحده؛ وأن يتوجهوا بالعبادة إليه وحده؛ وأن يستمدوا تصورهم ونظمهم وشرائعهم منه وحده.
6. هذا الدرس بمجموعة الموضوعات التي يحتويها، والتعقيبات التي يتضمنها، نموذج واضح لهذا الترابط المطلق في هذا الدين..
7. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ النداء للذين آمنوا.. بهذه الصفة التي تقتضي التلقي من الله، الذي آمنوا به، في تشريع القصاص، وهو يناديهم لينبئهم أن الله فرض عليهم شريعة القصاص في القتلى، بالتفصيل الذي جاء في الآية الأولى، وفي الآية الثانية يبين حكمة هذه الشريعة، ويوقظ فيهم التعقل والتدبر لهذه الحكمة، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوي؛ وهو صمام الأمن في مجال القتلى والقصاص.
8. هذه الشريعة التي تبينها الآية: أنه عند القصاص للقتلى ـ في حالة العمد ـ بقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾، وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلا من قتل الجاني، ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضى والمودة، ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال، تحقيقا لصفاء القلوب، وشفاء لجراح النفوس، وتقوية لأواصر الأخوة بين البقية الأحياء.
9. امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾، ولم يكن هذا التشريع مباحا لبني إسرائيل في التوراة، إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند الترضي والصفاء.
10. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وفوق العذاب الذي يتوعده به في الآخرة.. يتعين قتله، ولا تقبل منه الدية، لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول، نكث للعهد، وإهدار للتراضي، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب، ومتى قبل ولي الدم الدية، فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويعتدي.
11. من ثم ندرك سعة آفاق الإسلام؛ وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها؛ ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع.. إن الغضب للدم فطرة وطبيعة، فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص، فالعدل الجازم هو الذي يكسر شرة النفوس، ويفثأ حنق الصدور، ويردع الجاني كذلك عن التمادي، ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو، ويفتح له الطريق، ويرسم له الحدود، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع، لا فرضا يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق:
12. تذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة، نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقا: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾.. قال ابن كثير في التفسير: (وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم، حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ـ يعني إذا كان عمدا ـ الحر بالحر.. وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية ـ قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم.. فنزل فيهم: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ منسوخة نسختها: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾.. وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، والذي يظهر لنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس.. وأن لكل منهما مجالا غير مجال الأخرى، وأن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين على فرد معين، أو من أفراد معينين على فرد أو أفراد معينين كذلك، فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمدا.. فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء الجماعي ـ كحالة ذينك الحيين من العرب حيث تعتدي أسرة على أسرة، أو قبيلة على قبيلة، أو جماعة على جماعة، فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء.. فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه بالحر من تلك، والعبد من هذه بالعبد من تلك، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك، وإلا فكيف يكون القصاص في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة؟ وإذا صح هذا النظر لا يكون هناك نسخ لهذه الآية، ولا تعارض في آيات القصاص.
13. ثم يكمل السياق الحديث عن فريضة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها الأخيرة: (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إنه ليس الانتقام، وليس إرواء الأحقاد، إنما هو أجل من ذلك وأعلى، إنه للحياة، وفي سبيل الحياة، بل هو في ذاته حياة.. ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله..
14. الحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء، فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمنا لحياة من يقتل.. جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد، كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل، شفائها من الحقد والرغبة في الثأر، الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم، وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل، ولا تكف عن المسيل..
15. وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم، فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها، واعتداء على كل إنسان حي، يشترك مع القتيل في سمة الحياة، فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة، فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها، وكان في هذا الكف حياة، حياة مطلقة، لا حياة فرد، ولا حياة أسرة، ولا حياة جماعة.. بل حياة..
16. ثم ـ وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة ـ استجاشة شعور التدبر لحكمة الله، ولتقواه: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.. هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء، الاعتداء بالقتل ابتداء، والاعتداء في الثأر أخيرا.. التقوي.. حساسية القلب وشعوره بالخوف من الله؛ وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه، إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة، ولا يفلح قانون، ولا يتحرج متحرج، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان! وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعهد الخلفاء، ومعظمها كان مصحوبا باعتراف الجاني نفسه طائعا مختارا.. لقد كانت هنالك التقوي.. كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر، وفي حنايا القلوب، تكفها عن مواضع الحدود.. إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب.. وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور، نظيف الحركة نظيف السلوك، لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير! (حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان، وسقط الإنسان سقطة، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون، تحول هذا الإيمان نفسا لوامة عنيفة، ووخزا لاذعا للضمير، وخيالا مروعا، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة، ويتحملها مطمئنا مرتاحا، تفاديا من سخط الله، وعقوبة الآخرة)
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/163.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ممّا هو من البر الذي ذكر في الآية السابقة على هذه الآية، أن يأخذ المسلمون أنفسهم بالتطبيق العملي لما فرض عليهم في جرائم القتل، وهو القصاص، وهو قتل القاتل بمن قتل، وفى قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ بيان لتكافئ المسلمين.. فليس حرّ أحسن من حرّ، أو عبد أكرم من عبد، أو أنثى أفضل من أنثى!.
2. رأى بعض الأئمة الفقهاء أن القصاص هنا إنما يقع بين المتماثلين: الحرّ بالحرّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى.. فلا يقتل الحرّ بالعبد، ولا الرجل بالمرأة!.. وهذا تخريج غير سليم للآية الكريمة.. إذ ليس هذا التقسيم التنويعي للناس، بالذي يوجب التفاضل بين نوع ونوع! ولو كان موجبا لذلك لما كان قتل المرأة بالرجل، ولا العبد بالحرّ قصاصا.. إذ لا بفي دم المرأة ـ على هذا التقدير ـ بدم الرجل، وكذلك دم العبد ودم الحرّ.
3. أولى من هذا أن تفهم الآية على وجه آخر.. وهو أن التنويع الذي جاءت به الآية، ليس مقصودا به التفاضل بين نوع ونوع، وإنما المقصود به أولا هو: ألّا تفاضل بين أفراد الأنواع.. فالحر لا يفضل الحرّ، سواء أكان قرشيا، أو غير قرشي.. وهكذا سائر الأنواع.. فإذا استقام ذلك، وزالت الفوارق بين الناس، في النسب، والدم، والجاه، والسلطان، جمعهم جميعا ـ أحرارا وعبيدا، ذكورا وإناثا ـ نسب واحد.. هو الإسلام، الذي اصطبغوا بصبغته وحدها، وتعرّوا من كل نسبة إلا نسبته، وهنا تتكافأ دماؤهم.. الحر، والعبد، والأنثى.. سواء، كما في الحديث الشريف: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، وعلى هذا تقتل النفس بالنفس، أيّا كان جنسها، أو مكانها الاجتماعي.. إنسان بإنسان، وروح بروح.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/195.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. أعيد الخطاب بيا أيّها الذين آمنوا لأن هذا صنف من التشريع لأحكام ذات بال في صلاح المجتمع الإسلامي واستتباب نظامه وأمنه حين صار المسلمون بعد الهجرة جماعة ذات استقلال بنفسها ومدينتها، فإن هاته الآيات كانت من أول ما أنزل بالمدينة عام الهجرة كما ذكره المفسرون في سبب نزولها في تفسير قوله تعالى بعد هذا: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190] الآية.
2. تلك أحكام متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع، وابتدئ بأحكام القصاص، لأن أعظم شيء من اختلال الأحوال اختلال حفظ نفوس الأمة، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل، يعلم ذلك من له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم، فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك فلم يتداركهم الله فيه بنعمة الإسلام، فكانوا يغير بعضهم على بعض لغنيمة أنعامه وعبيده ونسائه فيدافع المغار عليه وتتلف نفوس بين الفريقين ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات فيسعى كل من قتل له قتيل في قتل قاتل وليّه وإن أعوزه ذلك قتل به غيره من واحد كفء له، أو عدد يراهم لا يوازونه ويسمون ذلك بالتكايل في الدم أي كأنّ دم الشريف يكال بدماء كثيرة فربما قدروه باثنين أو بعشرة أو بمائة، وهكذا يدور الأمر ويتزايد تزايدا فاحشا حتى يصير تفانيا قال زهير:
çتداركتما عبسا وذبيان بعد ما...تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشمé
وينتقل الأمر من قبيلة إلى قبيلة بالولاء والنسب والحلف والنصرة، حتى صارت الإحن فاشية فتخاذلوا بينهم واستنصر بعض القبائل على بعض فوجد الفرس والروم مدخلا إلى التفرقة بينهم فحكموهم وأرهبوهم، وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ حتى ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: 103] أي كنتم أعداء بأسباب الغارات والحروب فألف بينكم بكلمة الإسلام، وكنتم على وشك الهلاك فأنقذكم منه فضرب مثلا للهلاك العاجل الذي لا يبقي شيئا بحفرة النار فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلّا أقلّ حركة.
3. معنى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أنه حق لازم للأمة لا محيد عن الأخذ به، فضمير ﴿عَلَيْكُمْ﴾ لمجموع الأمة على الجملة لمن توجه له حق القصاص، وليس المراد على كل فرد فرد القصاص، لأن ولي الدم له العفو عن دم وليه كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾
4. أصل الكتابة نقش الحروف في حجر أو رقّ أو ثوب ولما كان ذلك النقش يراد به التوثق بما نقش به دوام تذكره أطلق كتب على معنى حقّ وثبت أي حق لأهل القتيل.
5. القصاص اسم لتعويض حق جناية أو حق غرم على أحد بمثل ذلك من عند المحقوق إنصافا وعدلا، فالقصاص يطلق على عقوبة الجاني بمثل ما جنى، وعلى محاسبة رب الدين بما عليه للمدين من دين يفي بدينه، فإطلاقاته كلها تدل على التعادل والتناصف في الحقوق والتبعات المعروضة للغمص، وهو بوزن فعال وهو وزن مصدر فاعل من القص وهو القطع ومنه قولهم: طائر مقصوص الجناح ومنه سمي المقص لآلة القص أي القطع وقصة الشعر بضم القاف ما يقص منه لأنه يجري في حقين متبادلين بين جانبين يقال قاصّ فلان فلانا إذا طرح من دين في ذمته مقدارا بدين له في ذمة الآخر فشبه التناصف بالقطع لأنه يقطع النزاع الناشب قبله، فلذلك سمي القود وهو تمكين ولي المقتول من قتل قاتل مولاه قصاصا قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: 179]، وسميت عقوبة من يجرح أحدا جرحا عمدا عدوانا بأن يجرح ذلك الجارح مثل ما جرح غيره قصاصا قال تعالى: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [المائدة: 45] وسموا معاملة المعتدي بمثل جرمه قصاصا ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة: 194]، فماهية القصاص تتضمن ماهية التعويض والتماثل.
6. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ يتحمّل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل، وتتحمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو كالعوض له والمثل، وتتحمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شركة له في قتل القتيل.
7. أفاد قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ حق المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى فلا يذهب حق قتيل باطلا ولا يقتل غير القاتل باطلا، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف وإهمال حق الضعيف إذا قتله القوي الذي يخشى قومه، ومن تحكّمهم بطلب قتل غير القاتل إذا قتل أحد رجلا شريفا يطلبون قتل رجل شريف مثله بحيث لا يقتلون القاتل إلّا إذا كان بواء للمقتول أي كفئا له في الشرف والمجد ويعتبرون قيمة الدماء متفاوتة بحسب تفاوت السؤدد والشرف ويسمون ذلك التفاوت تكايلا من الكيل، قالت ابنة بهدل بن قرفة الطائي تستثير رهطها على قتل رجل قتل أباها، وتذكر أنها ما كانت تقنع بقتله به لولا أن الإسلام أبطل تكايل الدماء:
çأما في بني حصن من ابن كريهة...من القوم طلّاب التّرات غشمشم
فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له...بواء ولكن لا تكايل بالدّمé
قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (المسلمون تتكافأ دماؤهم)
8. ثبت بهذه الآية شرع القصاص في قتل العمد، وحكمة ذلك ردع أهل العدوان عند الإقدام على قتل الأنفس إذا علموا أن جزاءهم القتل، فإن الحياة أعز شيء على الإنسان في الجبلة فلا تعادل عقوبة القتل في الردع والانزجار، ومن حكمة ذلك تطمين أولياء القتلى بأن القضاء ينتقم لهم ممّن اعتدى على قتيلهم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء: 33] أي لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم بأنفسهم؛ لأن ذلك يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس كما تقدم في الكلام على صدر الآية، ويأتي عند قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: 179]، وأول دم أقيد به في الإسلام دم رجل من هذيل قتله رجل من بني ليث فأقاد منه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو سائر إلى فتح الطائف بموضع يقال له: بحرة الرّغاء في طريق الطائف وذلك سنة ثمان من الهجرة.
9. ﴿فِي﴾ من قوله تعالى: ﴿فِي الْقَتْلَى﴾، للظرفية المجازية والقصاص لا يكون في ذوات القتلى، فتعين تقدير مضاف وحذفه هنا ليشمل القصاص سائر شئون القتلى وسائر معاني القصاص فهو إيجاز وتعميم.
10. جمع ﴿الْقَتْلَى﴾ باعتبار جمع المخاطبين أي في قتلاكم، والتعريف في القتلى تعريف الجنس، والقتيل هو من يقتله غيره من الناس والقتل فعل الإنسان إماتة إنسان آخر فليس الميت بدون فعل فاعل قتيلا.
11. جملة ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ بيان وتفصيل لجملة ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ فالباء في قوله تعالى: ﴿بِالْحُرِّ﴾ وما بعده، متعلقة بمحذوف دل عليه معنى القصاص والتقدير الحر يقتصّ أو يقتل بالحر إلخ ومفهوم القيد مع ما في الحر والعبد والأنثى من معنى الوصفية يقتضي أن الحر يقتل بالحر لا بغيره والعبد يقتل بالعبد لا بغيره، والأنثى تقتل بالأنثى لا بغيرها.
أ. اتفق علماء الإسلام على أن هذا المفهوم غير معمول به باطراد، لكنهم اختلفوا في المقدار المعمول به منه بحسب اختلاف الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة وفي المراد من هذه الآية ومحمل معناها: ففي (الموطأ) (قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية أن قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ فهؤلاء الذكور، وقوله تعالى: ﴿وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ أن القصاص يكون بين الإناث كما يكون بين الذكور والمرأة الحرة تقتل بالمرأة الحرة كما يقتل الحر بالحر والأمة تقتل بالأمة كما يقتل العبد بالعبد والقصاص يكون بين النساء كما يكون يبن الرجال، والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء)، أي وخصّت الأنثى بالذكر مع أنها مشمولة لعموم الحر بالحر والعبد لئلا يتوهم أن صيغة التذكير في قوله تعالى: ﴿الْحَرَّ﴾ وقوله تعالى: ﴿الْعَبْدُ﴾ مراد بها خصوص الذكور.
ب. قال القرطبي عن طائفة أن الآية جاءت مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه فبيّنت حكم الحر إذا قتل حرا والعبد إذا قتل عبدا والأنثى إذا قتلت أنثى ولم يتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة وفيها إجمال يبيّنه قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ﴾ [المائدة: 45] الآية ا ه، وعلى هذا الوجه فالتقييد لبيان عدم التفاضل في أفراد النوع، ولا مفهوم له فيما عدا ذلك من تفاضل الأنواع إثباتا ولا نفيا، وقال الشعبي: نزلت في قوم قالوا: لنقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى، وذلك وقع في قتال بين حيين من الأنصار، ولم يثبت هذا الذي رواه وهو لا يغني في إقامة محمل الآية.
وعلى هذين التأويلين لا اعتبار بعموم مفهوم القيد؛ لأن شرط اعتباره ألا يظهر لذكر القيد سبب إلّا الاحتراز عن نقيضه، فإذا ظهر سبب غير الاحتراز بطل الاحتجاج بالمفهوم، وحينئذ فلا دلالة في الآية على ألا يقتل حر بعبد ولا أنثى بذكر ولا على عكس ذلك، وأن دليل المساواة بين الأنثى والذكر وعدم المساواة بين العبد والحر عند من نفى المساواة مستنبط من أدلة أخرى.
ج. الثالث: نقل عن ابن عباس أن هذا كان حكما في صدر الإسلام ثم نسخ بآية المائدة ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45] ونقله في (الكشاف) عن سعيد بن المسيب والنخعي والثوري وأبي حنيفة، ورده ابن عطية والقرطبي بأن آية المائدة حكاية عن بني إسرائيل فكيف تصلح نسخا لحكم ثبت في شريعة الإسلام، أي حتى على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فمحله ما لم يأتي في شرعنا خلافه، قال ابن العربي في (الأحكام) عن الحنفية: إن قوله تعالى: ﴿فِي الْقَتْلَى﴾ هو نهاية الكلام وقوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ جاء بعد ذلك، وقد ثبت عموم المساواة بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ لأن القتلى عام وخصوص آخر الآية لا يبطل عموم أولها، ولذلك قالوا يقتل الحر بالعبد.. و يرد على هذا أنه لا فائدة في التفصيل لو لم يكن مقصودا، وإن الكلام بأواخره فالخاص يخصص العام لا محالة، وإنه لا محيص من اعتبار كونه تفصيلا إلّا أن يقولوا إن ذلك كالتمثيل، والمنقول عن الحنفية في (الكشاف) هو ما ذكرناه آنفا.
12. يبقى بعد هاته التأويلات سؤال قائم عن وجه تخصيص الأنثى بعد قوله تعالى: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾، وهل تخرج الأنثى عن كونها حرة أو أمة بعد ما تبين أن المراد بالحر والعبد الجنسان؛ إذ ليس صيغة الذكور فيها للاحتراز عن النساء منهم؛ فإن (ال) لمّا صيرته اسم جنس صار الحكم على الجنس وبطل ما فيه من صيغة تأنيث كما يبطل ما فيه من صيغة جمع إن كانت فيه، ولأجل هذا الإشكال سألت العلامة الجد الوزير رحمه الله عن وجه مجيء هذه المقابلة المشعرة بألا يقتص من صنف إلّا لقتل مماثله في الصفة فترك لي ورقة بخطه فيها ما يأتي:
أ. الظاهر والله تعالى أعلم أن الآية (يعني آية سورة المائدة) نزلت إعلاما بالحكم في بني إسرائيل تأنيسا وتمهيدا لحكم الشريعة الإسلامية، ولذلك تضمنت إناطة الحكم بلفظ النفس المتناول للذكر والأنثى الحر والعبد الصغير والكبير، ولم تتضمن حكما للعبيد ولا للإناث، وصدرت بقوله ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا﴾ [المائدة: 45]
ب. والآية الثانية (يعني آية سورة البقرة) صدرت بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ وناط الحكم فيها بالحرية المتناولة للأصناف كلها، ثم ذكر حكم العبيد والإناث ردا على من يزعم أنه لا يقتص لهم، وخصص الأنثى بالأنثى للدلالة على أن عدمها معصوم، وذلك لأنه إذا اقتص لها من الأنثى ولم يقتص لها من الذكر صار الدم معصوما تارة لذاته غير معصوم أخرى وهذا من لطف التبليغ حيث كان الحكم متضمنا لدليله، فقوله:
çكتب القتل والقتال علينا...وعلى الغانيات جر الذيولé
حكم جاهلي.
13. يعني أن الآية لم يقصد منها إلّا إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من ترك القصاص لشرف أو لقلة اكتراث، فقصدت التسوية بقوله ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ أي لا فضل لحر شريف على حر ضعيف ولا لعبيد السادة على عبيد العامة وقصدت من ذكر الأنثى إبطال ما كان عليه الجاهلية من عدم الاعتداد بجناية الأنثى واعتبارها غير مؤاخذة بجناياتها، وأراد بقوله: حكم جاهلي أنه ليس جاريا على أحكام الإسلام؛ لأن البيت لعمر ابن أبي ربيعة وهو شاعر إسلامي من صدر الدولة الأموية.
14. سؤال وإشكال: كان الوجه ألا يقول: ﴿بِالْأُنْثَى﴾ المشعر بأن الأنثى لا تقتل بالرجل مع إجماع المسلمين على أن المرأة يقتص منها للرجل، والجواب: الظاهر أن القيد خرج مخرج الغالب، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تقتل إلّا أنثى، إذ لا يتثاور الرجال والنساء فذكر ﴿بِالْأُنْثَى﴾ خارج على اعتبار الغالب كمخرج وصف السائمة في قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (في الغنم السائمة الزكاة)، والخلاصة أن الآية لا يلتئم منها معنى سليم من الإشكال إلّا معنى إرادة التسوية بين الأصناف لقصد إبطال عوائد الجاهلية.
15. إذا تقرر أن الآية لا دلالة لها على نفي القصاص بين الأصناف المختلفة ولا على إثباته من جهة ما ورد على كل تأويل غير ذلك من انتقاض بجهة أخرى، فتعين أن قوله: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ محمله الذي لا شك فيه هو مساواة أفراد كل صنف بعضها مع بعض دون تفاضل بين الأفراد، ثم أدلة العلماء في تسوية القصاص بين بعض الأصناف مع بعض الذكور بالإناث وفي عدمها كعدم تسوية الأحرار بالعبيد عند الذين لا يسوون بين صنفيهما خلافا لأبي حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وداوود أدلة أخرى غير هذا القيد الذي في ظاهر الآية، فأما أبو حنيفة فأخذ بعموم قوله تعالى: ﴿الْقَتْلَى﴾ ولم يثبت له مخصصا ولم يستثن منه إلّا القصاص بين المسلم والكافر الحربي واستثناؤه لا خلاف فيه، ووجهه أن الحربي غير معصوم الدم، وأما المعاهد ففي حكم قتل المسلم إياه مذاهب، وأما الشافعي وأحمد فنفيا القصاص من المسلم للذمي والمعاهد وأخذا بحديث (لا يقتل مسلم بكافر)، ومالك والليث قالا لا قصاص من المسلم إذا قتل الذمي والمعاهد قتل عدوان وأثبتا القصاص منه إذا قتل غيلة، وأما القصاص بين الحر والعبد في قطع الأطراف فليس من متعلقات هذه الآية وسيأتي عند قوله تعالى: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [المائدة: 45] في سورة العقود، ونفي مالك والشافعي وأحمد القصاص من الحر للعبد استنادا لعمل الخلفاء الراشدين وسكوت الصحابة، واستنادا لآثار مروية، وقياسا على انتفاء القصاص من الحر في إصابة أطراف العبد فالنفس أولى بالحفظ، والقصاص من العبد لقتله الحر ثابت عندهما بالفحوى، والقصاص من الذكر لقتل الأنثى ثابت بلحن الخطاب.
16. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾، الفاء لتفريع الإخبار أي لمجرد الترتيب اللفظي لا لتفريع حصول ما تضمنته الجملة المعطوفة بها على حصول ما تضمنته ما قبلها، والمقصود بيان أن أخذ الولي بالقصاص المستفاد من صور ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ ليس واجبا عليه، ولكنه حق له فقط لئلا يتوهم من قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أن الأخذ به واجب على ولي القتيل، والتصدي لتفريع ذكر هذا بعد ذكر حق القصاص للإيماء إلى أن الأولى بالناس قبول الصلح استبقاء لأواصر أخوة الإسلام.
17. قال الأزهري: (هذه آية مشكلة وقد فسروها تفسيرا قربوه على قدر أفهام أهل عصرهم)، ثم أخذ الأزهري في تفسيرها بما لم يكشف معنى وما أزال إشكالا، وللمفسرين مناح كثيرة في تفسير ألفاظها ذكر القرطبي خمسة منها، وذكر في (الكشاف) تأويلا آخر، وذكر الطيبي تأويلين راجعين إلى تأويل (الكشاف)، واتفق جميعهم على أن المقصد منها الترغيب في المصالحة عن الدماء، وينبغي ألا نذهب بأفهام الناظر طرائق قددا، فالقول الفصل أن نقول: إن ما صدق من في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ هو ولي المقتول وإن المراد بأخيه هو القاتل وصفا بأنه أخ تذكيرا بأخوة الإسلام وترقيقا لنفس ولي المقتول؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخا له كان من المروءة ألا يرضى بالقود منه؛ لأنه كمن رضي بقتل أخيه، ولقد قال بعض العرب: قتل أخوه ابنا له عمدا فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف وقال:
çأقول للنفس تأساء وتعزية...إحدى يديّ أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه...هذا أخي حين أدعوه وذا ولديé
وما صدق ﴿شَيْء﴾ هو عرض الصلح، ولفظ شيء اسم متوغل في التنكير دال على نوع ما يصلح له سياق الكلام، وقد تقدم حسن موقع كلمة شيء عند قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ [البقرة: 155]
18. معنى ﴿عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ﴾ أنه أعطى العفو أي الميسور على القاتل من عوض الصلح، ومن معاني العفو أنه الميسور من المال الذي لا يجحف بباذله وقد فسر به العفو من قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ [الأعراف: 199]، وإيثار هذا الفعل لأنه يؤذن بمراعاة التيسير والسماحة وهي من خلق الإسلام فهذا تأكيد للترغيب الذي دل عليه قوله تعالى: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾، والتعبير عن عوض الدم بشيء لأن العوض يختلف فقد يعرض على ولي الدم مال من ذهب أو فضة وقد يعرض عليه إبل أو عروض أو مقاصة دماء بين الحيين؛ إذ ليس العوض في قتل العمد معينا كما هو في دية قتل الخطأ.
19. ﴿اتِّبَاعَ﴾ و﴿أدَاء﴾ مصدران وقعا عوضا عن فعلين والتقدير: فليتبع اتباعا وليؤد أداء فعدل عن أن ينصب على المفعولية المطلقة إلى الرفع لإفادة معنى الثبات والتحقيق الحاصل بالجملة الاسمية كما عدل إلى الرفع في قوله تعالى: ﴿قَالَ سَلَامٌ﴾ [هود: 69] بعد قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَلَامًا﴾ [هود: 69]، وقد تقدم تطور المصدر الذي أصله مفعول مطلق إلى مصيره مرفوعا عند قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لله﴾ [الفاتحة: 2]، فنظم الكلام: فاتباع حاصل ممن عفي له من أخيه شيء وأداء حاصل من أخيه إليه، وفي هذا تحريض لمن عفي له على أن يقبل ما عفي له وتحريض لأخيه على أداء ما بذله بإحسان، والاتباع مستعمل في القبول والرضا، أي فليرض بما عفي له، كقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)
20. الضمير المقدر في ﴿اتِّبَاعَ﴾ عائد إلى ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ والضمير المقدر في أداء عائد إلى ﴿أَخِيهِ﴾، والمعنى: فليرض بما بذل له من الصلح المتيسر، وليؤد باذل الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص، والضمير المجرور باللام والضمير المجرور بإلى عائدان على ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾
21. مقصد الآية الترغيب في الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلا من القصاص لتغيير ما كان أهل الجاهلية يتعيرون به من أخذ الصلح في قتل العمد ويعدونه بيعا لدم مولاهم كما قال مرّة الفقعسي:
çفلا تأخذوا عقلا من القوم إنّني...أرى العار يبقى والمعاقل تذهبé
وقال غيره يذكر قوما لم يقبلوا منه صلحا عن قتيل:
çفلو أنّ حيّا يقبل المال فدية...لسقنا لهم سببا من المال مفعما
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم...رضا العار فاختاروا على اللّبن الدّماé
وهذا كله في العفو على قتل العمد وأما قتل الخطأ فإن شأنه الدية عن عاقلة القاتل وسيأتي في سورة النساء.
22. إطلاق وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام تأسيس أصل جاء به القرآن جعل به التوافق في العقيدة كالتوافق في نسب الإخوة، وحقّا فإن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية والروح أشرف من الجسد.
23. احتج ابن عباس بهذه الآية على الخوارج في أن المعصية لا تزيل الإيمان، لأن الله سمى القاتل أخا لولي الدم وتلك أخوة الإسلام مع كون القاتل عاصيا.
24. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ المعروف هو الذي تألفه النفوس وتستحسنه فهو مما تسر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره، ويقال لضده منكر وسيأتي عند قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: 110]
25. الباء في قوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ للملابسة أي فاتباع مصاحب للمعروف أي رضا وقبول، وحسن اقتضاء إن وقع مطل، وقبول التنجيم إن سأله القاتل.
26. الأداء: الدفع وإبلاغ الحق والمراد به إعطاء مال الصلح، وذكر متعلقه وهو قوله ﴿إِلَيْهِ﴾ المؤذن بالوصول إليه والانتهاء إليه للإشارة إلى إبلاغ مال الصلح إلى ولي المقتول بأن يذهب به إليه ولا يكلفه الحضور بنفسه لقبضه أو إرسال من يقبضه، وفيه إشارة إلى أنه لا يمطله، وزاد ذلك تقريرا بقوله تعالى: ﴿بِإِحْسَانٍ﴾ أي دون غضب ولا كلام كريه أو جفاء معاملة.
27. ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ إشارة إلى الحكم المذكور وهو قبول العفو وإحسان الأداء والعدول عن القصاص، تخفيف من الله على الناس فهو رحمة منه أي أثر رحمته، إذ التخفيف في الحكم أثر الرحمة، فالأخذ بالقصاص عدل والأخذ بالعفو رحمة.
28. لما كانت مشروعية القصاص كافية في تحقيق مقصد الشريعة في شرع القصاص من ازدجار الناس عن قتل النفوس وتحقيق حفظ حق المقتول بكون الخيرة للولي كان الإذن في العفو إن تراضيا عليه رحمة من الله بالجانبين، فالعدل مقدم والرحمة تأتي بعده.
29. قيل: إن الآية أشارت إلى ما كان في الشريعة الإسرائيلية من تعيين القصاص من قاتل العمد دون العفو ودون الدية كما ذكره كثير من المفسرين وهو في (صحيح البخاري) عن ابن عباس، وهو ظاهر ما في سفر الخروج الإصحاح الثالث: (من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده فأنا أجعل لك مكانا يهرب إليه وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحي تأخذه للموت)، وقال القرطبي: إن حكم الإنجيل العفو مطلقا والظاهر أن هذا غير ثابت في شريعة عيسى، لأنه ما حكى الله عنه إلّا أنّه قال ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: 50]، فلعله مما أخذه علماء المسيحية من أمره بالعفو والتسامح لكنه حكم تنزه شرائع الله عنه لإفضائه إلى انخرام نظام العالم، وشتان بين حال الجاني بالقتل في الإسلام يتوقع القصاص ويضع حياته في يد ولي دم المقتول فلا يدري أيقبل الصلح أم لا يقبل، وبين ما لو كان واثقا بأنه لا قصاص عليه فإن ذلك يجرئه على قتل عدوه وخصمه.
30. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ تفريع عن حكم العفو لأن العفو يقتضي شكر الله على أن أنجاه بشرع جواز العفو وبأن سخر الولي للعفو، ومن الشكر ألّا يعود إلى الجناية مرة أخرى، فإن عاد فله عذاب أليم:
أ. وقد فسر الجمهور العذاب الأليم بعذاب الآخرة، والمراد تشديد العذاب عليه كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ﴾ [المائدة: 95]، ثم له من حكم العفو والدية ما للقاتل ابتداء عندهم.
ب. وفسره بعضهم بعذاب الدنيا أعني القتل فقالوا: إن عاد المعفو عنه إلى القتل مرة أخرى فلا بد من قتله ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ونقلوا ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي ورواه أبو داوود عن سمرة بن جندب عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه موكول إلى اجتهاد الإمام.
31. الذي يستخلص من أقوالهم هنا سواء كان العذاب عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا أن تكرر الجناية يوجب التغليظ وهو ظاهر من مقاصد الشارع؛ لأن الجناية قد تصير له دربة فعوده إلى قتل النفس يؤذن باستخفافه بالأنفس فيجب أن يراح منه الناس، وإلى هذا نظر قتادة ومن معه، غير أن هذا لا يمنع حكم العفو إن رضي به الولي؛ لأن الحق حقه، وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز بتفويضه إلى الإمام لينظر هل صار هذا القاتل مزهق أنفس، وينبغي إن عفي عنه أن تشدد عليه العقوبة أكثر من ضرب مائة وحبس عام وإن لم يقولوه؛ لأن ذكر الله هذا الحكم بعد ذكر الرحمة دليل على أن هذا الجاني غير جدير في هاته المرة بمزيد الرحمة، وهذا موضع نظر من الفقه دقيق، قد كان الرجل في الجاهلية يقتل ثم يدفع الدية ثم يغدره ولي الدم فيقتله وقريب من هذا قصة حصين بن ضمضم التي أشار إليها زهير بقوله:
çلعمري لنعم الحيّ جرّ عليهم...بما لا يواتيهم حصين بن ضمضمé
32. ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ تذييل لهاته الأحكام الكبرى طمأن به نفوس الفريقين أولياء الدم والقاتلين في قبول أحكام القصاص فبين أن في القصاص حياة، والتنكير في ﴿حَيَاةً﴾ للتعظيم بقرينة المقام، أي في القصاص حياة لكم أي لنفوسكم؛ فإن فيه ارتداع الناس عن قتل النفوس، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس؛ لأن أشدّ ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت، فلو علم القاتل أنه يسلم من الموت لأقدم على القتل مستخفا بالعقوبات كما قال سعد بن ناشب لما أصاب دما وهرب فعاقبه أمير البصرة بهدم داره بها:
çسأغسل عني العار بالسيف جالبا...عليّ قضاء الله ما كان جالبا
وأذهل عن داري وأجعل هدمها...لعرضي من باقي المذمّة حاجبا
ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت...يميني بإدراك الذي كنت طالباé
ولو ترك الأمر للأخذ بالثأر كما كان عليه في الجاهلية لأفرطوا في القتل وتسلسل الأمر كما تقدم، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من الجانبين، وليس الترغيب في أخذ مال الصلح والعفو بناقض لحكمة القصاص؛ لأن الازدجار يحصل بتخيير الولي في قبول الدية فلا يطمئن مضمر القتل إلى عفو الولي إلّا نادرا وكفى بهذا في الازدجار.
33. في قوله تعالى: ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص، ولذلك جيء في التعريف بطريق الإضافة الدالة على أنهم من أهل العقول الكاملة؛ لأن حكمة القصاص لا يدركها إلّا أهل النظر الصحيح؛ إذ هو في بادئ الرأي كأنه عقوبة بمثل الجناية؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا رزية للوجهين المتقدمين.
34. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ إكمالا للعلة أي تقريبا لأن تتقوا فلا تتجاوزوا في أخذ الثأر حدّ العدل والإنصاف، ولعل للرجاء وهي هنا تمثيل أو استعارة تبعية كما تقدم عند قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21] في أول السورة.
35. ﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ من جوامع الكلم فاق ما كان سائرا مسرى المثل عند العرب وهو قولهم (القتل أنفى للقتل) وقد بينه السكاكي في (مفتاح العلوم) و(ذيله) من جاء بعده من علماء المعاني، ونزيد عليهم: أن لفظ القصاص قد دل على إبطال التكايل بالدماء وعلى إبطال قتل واحد من قبيلة القاتل إذا لم يظفروا بالقاتل وهذا لا تفيده كلمتهم الجامعة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/134.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا كلام في البر أيضا، ذلك أن البر عمل موجب وعمل مانع، أو عمل يبنى الجماعات فيكون موجبا، وعمل يحميها فيكون حاميا مانعا، و الأول تبين بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة] إلى آخر الآية، والآية التي نتعرض للكلام في معانيها الآن، هي لحماية الجماعة الإسلامية من الآفات التي تفتك في بنائها، وتحميها أيضا من الاعتداء وتفريق النفوس، وتأريث الأحقاد، فإذا كان من البر إعطاء المال على حبه للضعفاء، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصبر لأنه يؤلف القلوب، فمن البر أيضا الضرب على أيدى المفسدين، ومنعهم من أن يعيثوا في الأرض فسادا.
2. لذا كانت آية القصاص في ترتيب التنزيل وراء آية البر؛ لأن كليهما في بناء الجماعات الإسلامية، ونفى ما يهدد بنيانها، وإن العرب في الجاهلية كانوا لا يقتصون من الجاني، وإنما يثأرون من القبيلة، والدماء فيهم لا تتكافأ في نظر العصبية الجاهلية، فإذا قتل رجل من عامة الناس رئيس قبيلة لا يقتل القاتل أو لا يكتفى بقتله، بل يقتل من يكافئ رئيس القبيلة، وقد يقتل بالواحد مئات لكى يتكافؤوا مع من قتل، وهكذا كان قانون الغلب، وقانون العصبية لا قانون القصاص العادل هو الذي يحكم، وكان ذلك ناشئا من العصبية أولا، وفرض التفاوت ثانيا، والثأر الذي لا عدل فيه ثالثا.
3. جاء القرآن الكريم ليمحو هذه العادة الجاهلية، وإثبات أن الناس جميعا سواء، وأن المسلمين كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)، وفى ذلك إشارة إلى أنهم لا يكون أقوياء أمام من سواهم إلا بالعدل الذي لا يفرق بين شريف وضعيف.
4. جاءت هذه الآية الكريمة لرد هذه العادة الأثيمة فقال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾، وكتب معناها فرض فرضا مؤكدا مسجّلا، لا مرية فيه، والفرضية على الجماعة الإسلامية كلها، فيفرض على الحاكم أن يقتص من القاتل أو المقتول بشكل عام، وفرض على القاتل أن يقدم نفسه، وفرض على ولى الدم أن يطالب بالدم، أو يعفو حتى لا يطلّ دم قط في الإسلام، وفرض على الجماعة كلها أن يعين ولى الدم ليقتص القاضي من المعتدى، ولو كان ولى الأمر، فقد قرر الفقهاء على ضوء هذه الآية أن ولى الأمر، ولو كان الجامعة الأعظم إذا قتل شخصا بغير حق، وأراد ولى الأمر القصاص وجب على الأمة مجتمعة أن تعينه على القصاص فإنه لا يطلّ دم قط في الإسلام كما قال إمام الهدى على بن أبى طالب كرم الله تعالى وجهه.
5. القصاص مصدر قاص، وهو المساواة وتتبع الأثر، وقد كتبه الله تعالى بأن يؤخذ الجاني بما جنى، وتكون العقوبة مساوية للجريمة، وأساس الإسلام في قواعده العامة، وإن ذلك هو العدل، وهو أردع للجاني؛ لأنه إذا علم أنه سينزل مثل ما نزل بالجاني، فإنه يتردد في الارتكاب ثم يعدل، ولقد قال بعض علماء الاجتماع والقانون: إن العقوبة إذا اشتقت من الجريمة كانت رادعة إذ تجعل المجرم يحس بأنه نازل به مثل إجرامه.
6. فصّل الله تعالى حكم القصاص، فقال تعالت كلماته: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ أي الحر يقتل في مقابل الحر، ﴿وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ والعبد يقتل في مقابل العبد، ﴿وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ والأنثى تقتل في مقابل الأنثى، هذا هو العدل، وهو رد على الجاهليين الذين كانوا لا يسوون في الدماء، فالعبد إذا قتل حرا من قبيلة أو الحر إذا قتل حرا من قبيلة، وكان الأول من دهماء الناس، وكان الثاني من أشرافهم لا يقتل به بل يبحث عمن يكافئه وربما لا يكافئه واحد، وذلك من العصبية الجاهلية، ومن نظام التفاوت الذي لا يزال يسرى بين الناس مقيتا، وإن كان مألوفا.
7. بيّن القرآن حال المساواة في الوصف من حرية ورق، وذكورة وأنوثة، ولم يذكر إذا اختلف الوصف أو الجنس بأن قتل الحر العبد، والعبد الحر، والمرأة الرجل، والرجل المرأة، وذلك لأن النص سيق لإبطال العادة الجاهلية التي كانت تقتل غير القاتل، وتتعدى القاتل إلى قبيلة، وغير الشريف في زعمهم إذا كان هو القاتل إلى شرفائها، فرد الله تعالى زعمهم، وصحح الأمر في هذا المقام بالقصاص العادل.
8. أما التساوي في النفوس لا في الأوصاف، فقد ثبت:
أ. بقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [المائدة]، ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ [البقرة]
ب. وثبت أيضا بقوله تعالى بعد أن ذكر قصة ولدى آدم حين قتل قابيل أخاه هابيل لأنهما قدما قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، ﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ [المائدة] إلى أن قال ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ﴾ [المائدة]، بعد هذه القصة التي تصور الاعتداء في أقبح صوره، قال الله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة]
9. قد تقرر بذلك القصاص على أساس تساوى النفوس، وعلى ذلك يقتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، والعبد بالحر، والحر بالعبد.
10. ترد هنا أسئلة من حيث شمول هذه الآية، والآيات التي تلونا للصور الآتية:
أ. أولا: تكافؤ الدم بين المسلم والذمي، أيقتل المسلم بالكافر: اتفقوا على أن الكافر إذا قتل المسلم قتل به، ولكن كان الأكثرون على ألا يقتل المسلم بالكافر لما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (لا يقتل مسلم بكافر) ولعدم التكافؤ بين دم في أصله مباح، ودم في أصله حرام، قال أبو حنيفة والثوري: يقتل المسلم بالكافر إذا قتله عمدا بمحدّد؛ وذلك لأننا أخذنا عليهم العهد بأن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولأننا أعطيناهم العهد بحقن دمائهم ولو لم يقتص لهم لكان في ذلك إخلال بالعهد، ولأنهم وقد عقدوا الذمة معنا صار دمهم حراما كدمنا، ولأننا إذا وجد من يسرق الذمى قطعنا يده، ومؤدى ذلك أن ماله غير مباح فب الأولى دمه.
ب. ثانيا: إذا قتل الحر العبد أيقتص منه: قال جمهور الفقهاء: لا يقتص لأنهما ليسا سواء فالعبد مملوك والحر مالك ولأنه لا ند، والعبد شيء يقوم بقيمته فإذا قتل به الحر وهو ليس بمال لا يكون عدلا، لأن الإنسان لا يقتل في نظير مال، ولكن قال الإمام أحمد ونفاة القياس والثوري وبعض الكوفيين: إن الحر يقتل بالعبد إذا قتله؛ لأنه نفس والإسلام جعل أساس القصاص المساواة في النفوس، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ وهؤلاء الذين قالوا إن الحر يقتل بالعبد قالوا: إن المالك يقتل إن قتل عبده، لما ذكرنا، ولقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه النسائي وأبو داوود: (من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن أخصاه خصيناه) وقد أخذ به البخاري وارتأى ما اشتمل عليه الخبر صحيحا، فكان تصحيحا ضمنيّا له، ولما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من إكرام للرقيق، وفوق ذلك فإن الأساس هو المساواة في النفس، وهى ثابتة فكان القصاص حقا على الحر إذا قتل عبدا، وعلى المالك إذا قتل عبده.
ج. ثالثا: إذا قتل الجماعة واحدا فهل يؤخذون به: فجمهور الفقهاء أقروا على أنهم يقتلون به لأنه ما داموا قد اشتركوا في القتل فقد قتل كل واحد منهم فيؤخذ بحكم القصاص، وإن تعددوا، وبهذا الاعتبار يكون التساوي لا بين الجماعة مجتمعين، بل بين كل واحد منهم، واستحق كل واحد منهم القصاص عليه، ولأنه لو لم نقتل الجماعة بالواحد، لأهدرت الدماء، وإذا رأى واحد قتل شخص فقد تضافر مع غيره من الآثمين فيقتلون، وإن الآثار من الصحابة قد أقرت قتل الجماعة بالواحد، وقد روى عن الإمام عمر أن سبعة قتلوا واحدا، فقتلهم به، وقال كلمة حازمة: لو تمالأ أهل صنعاء عليه لقتلتهم به، وقتل على كرم الله وجهه جماعة من الخوارج لقتل عبد الله بن خباب بن الأرت، فإنه عندما أخبر الإمام على بذلك قال: الله أكبر، فدعاهم وقال لهم: أخرجوا إلينا قاتل عبد الله، فقالوا: كلنا قتلناه، ثلاث مرات، فقال الإمام لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم، واقتص علي كرم الله وجهه بذلك من قتلة عبد الله بن خباب بن الأرت، هذا ما نرى أن الأخذ بالقصاص في الآية ينطبق عليه، وثمة فروع في القصاص كقتل الرجل ولده وعدم جواز القصاص بتركه، لأنه ليس تطبيقا للآية، ولكنه أخذ بحديث.
11. القصاص بإجماع الفقهاء كما قرر القرطبي في أحكام القرآن يتولاه ولى الأمر بطلب ولى الدم، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء]
12. الآية الكريمة فتحت باب العفو، وهو من سلطان ولى الدم، فقال تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾، وفى هذا النص تحريض على العفو، لكيلا تنهار دماء المسلمين، ولكيلا تتأرث الأحقاد، ولينسل البغض ويعود التسامح بين المسلمين، ولأن جعل الحق للولى في القصاص يرهب الجاني، وقد يكون القصاص ضارا لولى الدم، كرجل قتل أخاه، وولى الدم أبوهما فإنه إن كان القصاص، وأغلق باب العفو، فإن الأب المكلوم يفقد الولدين معا، ولذلك كان من التخفيف والرحمة أن يكون حق القصاص قابلا للعفو، وإنه إذا كان العفو كانت الدية كما قال كثيرون من الفقهاء، ودل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وهذا يدل ضمنا على وجوب الدية، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أيما عبد أصيب بقتل أو خبل ـ أي جرح ـ فله إحدى ثلاث: القصاص أو الدية أو العفو فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه)
13. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ يدل على ثلاثة أمور:
أ. أولها: التحريض على العفو بذكر الأخوة الرابطة التي لم يقطعها الاعتداء؛ لأنها برباط الله تعالى فلا يفكه العبد.
ب. ثانيها: أن أي قدر من العفو يسقط القصاص، فلو تعدد الأولياء في درجة واحدة، وعفا أحدهم سقط القصاص.
ج. ثالثها: أن التعبير بالبناء للمجهول يدل على تلمس العفو.
14. ثم قال تعالى: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾، أي إذا كان العفو، فالأمر ينتقل من إراقة دم جديد إلى أن يكون اتباعا للقاتل من غير إرهاق بالملازمة، بل بالأمر الذي لا يستنكر في العرف وتتعاون أسرة القاتل في أدائه من غير غباب، وهذا من جانب ولى الدم، ومن جانب القاتل وأسرته يكون الواجب هو الأداء بإحسان، أي تكون نفوسهم سمحة، ويؤدون الدية في مواقيتها من غير ليّ، والإحسان الإجادة والإتقان وهو في مثل هذا المقام يكون بالمسارعة في الأداء والسماحة ولا مانع من الزيادة تطييبا للنفوس المكلومة.
15. النص الكريم يفيد بالإشارة إلى أن الدية بدل من القصاص عند العفو، ولذلك ذكرت مترتبة عليه، وكأنه إذا كان العفو ننتقل من القصاص صورة ومعنى بقتل القاتل، إلى القصاص معنى وهو الدية، فالقصاص ثابت في الحالين، وإن اختلف الشكل.
16. الذى يفزع النفوس، ويزعج وهو قاس؛ إذ يقدم للقود في وقت لا يكون فيه انفعال مغيظ محنق، بل في صبر وأناة، وذلك يكون أشد وأعنف، وفيه رحمة بالجاني، إذ خرجت رقبته من القتل الذريع إلى الفداء بمال، ورحمة بالعافي إذ به يتخلص من الأحقاد، وأضغانها، وقد يكون فيه رحمة خاصة بأسرته، على النحو الذي ذكرناه، ورحمة بالأمة لكونه بدل أن ينقص عددها اثنين ينقص إلى واحد، وبدل أن تتبادل الدماء تنته المعركة، وإن ذلك لا يسوغ الاعتداء ولا يسهله، ولا يفتح الباب لاعتداء جديد، بعد أن أفلتت الرقبة من ضرب سيف قاطع، ولذا قال تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي فمن اعتدى بعد العفو والدية، وبعد شرعية القصاص العادل، فله عذاب أليم في الدنيا، وله عذاب أليم أي مؤلم في الآخرة.
17. فهم بعض الفقهاء أن عذابه في الدنيا أن يحرم من رحمة العفو، وتحقيقه؛ ولذلك قرر كثيرون من الفقهاء أنه إذا عاد المعفو عنه في قصاص إلى القتل مرة أخرى، فإنه يكون من المفسدين، فيقتل حدا وليس قصاصا، وذلك لأنه قد يكون من الشّطّار الذين اعتادوا الاعتداء على الأنفس، وإرهاب النفس، ويكون عفو الولي رهبة منه لا رغبة، فعندئذ يكون القتل لمنع فساده، ولقطع طريق الشر، ولذلك لا يكون محلا للعفو إذ يكون تمكينا من الشر.
18. هنا نلاحظ أن فتح باب العفو، وأن يكون القصاص بطلب ولى الدم يخالف القوانين القائمة على أن جريمة الدماء تكون اعتداء على الجماعة، ويكون المجنى عليه شاهدا، وليس صاحب الحق الأول، وإن العدل هو في النظرية الشرعية التي تعتبر الجريمة ابتداء متجهة إلى أسرة المجنى عليه، وعن طريقها تتجه إلى الجماعة، وذلك تمكين للأسرة من أن تنال حقها، وردع للأشرار عن طريق القصاص، أو التمكين منه، ويكون منعا للثارات والفساد في الأرض، والعقوبة واحدة، القصاص صورة ومعنى أو صورة فقط، ولا يفتح باب للتخفيف من عقوبة أشد إلى أخف منها إلا بإرادة المجنى عليه، فيكون ذلك أمنع له من أن يفكر في ثأر، أو يكون في نفسه غيظ مكظوم دفين.
19. شرعية القصاص على النحو الذي ذكره القرآن الكريم فيه حفظ للأنفس، وإشاعة للطمأنينة في النفوس وإرهاب للعصاة المتمردين على المجتمع، وإحساس بالراحة؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ وإن هذه الكلمات السامية أبلغ تعبير عن آثار شرعية القصاص في الأمة.
20. القصاص كلمة عامة يشمل القصاص في الأنفس الذي اختصت به آية القصاص، إذ قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ أما في هذه الآية ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ فإن القصاص يشمل الأنفس والأطراف والجروح، كما قال تعالى في سورة المائدة، بل يشمل القصاص في الضرب واللطم على ما حققه فقهاء السلف، وأخذ به الإمام أحمد.
21. فى قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ تعميم للقصاص مع تعريفه بال التي تفيد الاستغراق، وتنكيره لكلمة حياة، والتنكير هنا للتعظيم، أي حياة سعيدة هادئة مطمئنة خالية من عبث السفاكين، واعتداء المعتدين واستهزاء المستهزئين هي حياة كريمة تظهر فيها الفضيلة، وتختفى فيها الرذيلة؛ تحترم فيها الحقوق، وتحقق فيها الواجبات؛ يقام فيها العدل، ويختفى فيها الظلم، ويتحقق الاجتماع، ولا يكون التنابذ والافتراق فلا شيء يربط الحياة بين الجماعات والآحاد سوى العدل والحق.
22. كلمة الله السامية ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ اشتملت على إيجاز القصر البليغ إلى ما لا يصل إليه إلا كلام رب العالمين، ولقد كان هناك مثل سائر في العرب، يقولون إنه أبلغ الكلام في إيجازه، وأعمقه في أدائه، وهو قولهم: (القتل أنفى للقتل)، وعقد بعض العلماء موازنة بينها، وبين الجملة السامية ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ وقد استنكر ابن الأثير هذه الموازنة؛ لأنه لا يوزن كلام الله تعالى بكلام أحد من الناس، وعقد هواة الموازنة ربما يكون فيها تنزيل من مقام المعجز الذي لا يستطيع أحد من البشر أو الجن أن يأتي بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
23. الموازنة انتهت بأنه لا يمكن المماثلة بين كلام العرب وكلام الله تعالى، وأنه بالنظرة العابرة نرى كلام الله تعالى في مكانة وكلام العرب في دركه:
أ. فنجد أولا التكرار في لفظ (القتل أنفى للقتل)، ولا تكرار في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾
ب. ونجد أن الآية تدل على القصاص العادل، و(القتل أنفى للقتل) لا تدل على القتل العادل، بل تدل على مجرد القتل.
ج. ونجد أن القصاص يشمل القتل وقطع الأطراف، بينما كلمة العرب لا تدل إلا على القتل فقط.
د. ونجد أن لفظ العرب لا يدل على حياة الجماعة، بينما أن النص القرآني السامي لا يدل فقط على نفى القتل بل يدل على قيام الحياة الكريمة من هذا القصاص العادل.
هـ. والمقابلة بين القصاص والحياة الكريمة تبين منزلة العدالة في القصاص.
24. وهكذا نجد أوجه الإعجاز في هذا الإيجاز بما لا يمكن أن يصل إليه كلام مهما بلغت مكانته من البيان عندهم، فهي بلاغة تليق بكلام الإنسان، وتتقاصر عن أن تصل إلى كلام الديان، وكلام الناس يجرى في مساره، ولا يصل إلى برج القرآن الأقدس، تعالت كلماته وتعالى منزله.
25. قال تعالى مخاطبا الذين يدركون ما في القصاص من ثمرة وهى الحياة العزيزة الآمنة الطاهرة من رجس الآثام وفسق الفساق واعتداء المعتدين، فقال تعالى: ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ الألباب جمع لب وهو العقل المدرك الذي لا يكتفى في إدراكه بمظاهر الأمور، فهؤلاء أصحاب الألباب التي تغوص إلى الحقائق فتدركها.
26. ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، ولعل هنا للرجاء والرجاء من الناس لا من الله تعالى، فالتقوى منهم وهو سبحانه وتعالى يتقبلها ويقرب بها عباده إليه سبحانه وتعالى، والتقوى رجاء من عند الله تعالى أن يتقوا بها عذاب النار وأن يتقوا في جماعتهم كل ما يفرقها، ويعملوا على أن يقوا من شر فسق الفاسقين واعتداء المعتدين والله سبحانه وتعالى ولينا، وهو نعم المولى ونعم النصير.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/531.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. صنف فقهاء الشريعة الاسلامية العقوبات إلى ثلاثة أصناف:
أ. الأول: الحدود، كقطع يد السارق، ورجم الزاني المتزوج، وجلد شارب الخمر.
ب. الثاني: الديات، وهي العقوبات المالية.
ج. الثالث: القصاص، وهو ان يستوفي المجني عليه عمدا، أو وليه من الجاني بمثل ما جنى من قتل، أو قطع عضو، أو جرح، أما الضرب فلا قصاص فيه.
وعقد الفقهاء لكل واحد من هذه الأصناف بابا مستقلا، وهذه الآية تدخل في باب القصاص.
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾، كانوا في الجاهلية يسيرون على شريعة الغاب والفوضى فيقتلون لأتفه الأسباب ظلما وعدوانا، ويقتص أولياء القتيل من الأبرياء، لا من الجاني نفسه، فإذا قتل رجل عادي مثله قتل أولياء القتيل عددا كبيرا من ذوي القاتل، وإذا قتلت امرأة مثلها أخذوا مكانها رجلا من أسرتها أو قبيلتها، وربما قتلوا عشرة بواحد، وأدى هذا الظلم الى الحروب الطاحنة بين القبائل، وإبادة الكثير منها، ووراثة العداء والأحقاد بين الأبناء والأحفاد.. فشرع الله القصاص، وهو بمفهومه يفيد المساواة، والوقوع على الجاني نفسه أيا كان دون غيره من الأبرياء، ودون زيادة أو نقصان خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية، وأن يكون القتل عمدا، ولا قصاص في قتل الخطأ وشبه العمد.
3. في معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، وقوله: ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾
4. ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾، المعنى واضح لا يحتاج الى شرح وتفسير، وهو اعتبار المساواة في القصاص بين القاتل والمقتول في الحرية والعبودية والأنوثة.
5. سؤال وإشكال: المفهوم من سياق اللفظ ان الحر لا يقتل بالعبد، وان الرجل لا يقتل بالمرأة، أي ان الحر إذا قتل عبدا لا يقتل به، وإذا قتل الرجل امرأة لا يقتل بها، فهل هذا محل وفاق بين الفقهاء؟ والجواب: ان الآية تعرضت لصور ثلاث فقط، وهي حر يقتل حرا، وعبد يقتل عبدا، وامرأة تقتل امرأة ولم تتعرض للصور الباقية، وهي أربع: حر يقتل عبدا، وعبد يقتل حرا، ورجل يقتل امرأة، وامرأة تقتل رجلا.. وقد دلت الآية بمنطوقها ان القصاص مشروع في الصور الثلاث الأولى، وهي محل وفاق بين الفقهاء، لأن صريح القرآن لا خلاف فيه.. والآية لم تنف أو تثبت القصاص في الصور الأخرى لا منطوقا ولا مفهوما، وعليه فلا بد من الرجوع الى دليل آخر من سنة أو اجماع.
6. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾، الضميران في له وأخيه يعودان الى القاتل، أما لفظة شيء فإنها تدل على ان ولي الدم إذا عفا عن شيء يتعلق بالقاتل، كالعفو عن قتله، والرضا بأخذ الدية فينبغي ان يقابل القاتل هذا العفو بالمعروف، وقيل: ان لفظة شيء تشعر بأن الورثة إذا تعددوا، وعفا واحد منهم عن القاتل سقط القصاص، حتى ولو أصر بقية ورثة المقتول على القتل، ومهما يكن، فان الله سبحانه جعل لولي الدم حق القصاص من قاتل العمد، وليس له أن يلزم القاتل بالدية إذا قدم نفسه للقتل، ولا للقاتل أن يلزم ولي المقتول بأخذ الدية إذا أصر على القتل قصاصا.. ولهما معا أن يتفقا ويصطلحا على مبلغ من المال بمقدار الدية، أو أقل، أو أكثر عوضا عن القصاص، فإذا تم مثل هذا الاتفاق أصبح لازما، ولا يجوز العدول عنه، وعلى ولي المقتول أن يطالب القاتل ببدل الصلح بالمعروف، فلا يشدد ويضيق في الطلب، أو يطلب أكثر من حقه، وعلى القاتل أن يؤدي المال بإحسان، وبلا مطل وبخس وأذى.
7. ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾، أي ان الحكمة من تشريع الدية بدلا عن القصاص هي التخفيف عنكم، والرحمة بكم، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٍ﴾، كان بعض أهل الجاهلية إذا عفوا وأخذوا الدية، ثم ظفروا بعد ذلك بالقاتل قتلوه، وجمعوا بين القتل وأخذ الدية، فنهى الله عن هذا الاعتداء، وتوعد فاعله بالعذاب الأليم، وقال جماعة من المفسرين: يتحتم على الحاكم أن يقتل من قتل القاتل بعد العفو عنه، حتى ولو بذل الدية، ورضي بها ولي المقتول.. وهذا القول مجرد استحسان لا تدل الآية عليه من قريب ولا بعيد.
8. ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، هذا تعليل لشرعية القصاص، وبيان للحكمة منه، وان فيه صيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض، فان من علم انه إذا قتل يقتل يرتدع خوفا على نفسه من الهلاك، أما دفع المال فليس بالرادع الكافي عن القتل، فان الكثير من الناس يبذلون الأموال الطائلة للانتقام من أعدائهم.
9. أطال المفسرون الكلام في بيان وجوه البلاغة في هذه الآية، والمقارنة بينها وبين قول من قال القتل أنفى للقتل، وذكر بعضهم ستة أوجه لأفضلية الآية، وزاد الألوسي عليه في تفسيره، حتى أنهاها 13 وجها، وزاد على الألوسي من جاء بعده، وكل هذه الوجوه أو جلها ترجع الى مباحث الألفاظ.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/275.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ في توجيه الخطاب إلى المؤمنين خاصة إشارة إلى كون الحكم خاصا بالمسلمين، وأما غيرهم من أهل الذمة وغيرهم فالآية ساكتة عن ذلك.
2. نسبة هذه الآية إلى قوله تعالى: ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، نسبة التفسير، فلا وجه لما ربما يقال، إن هذه الآية ناسخة لتلك الآية فلا يقتل حر بعبد ولا رجل بمرأة.
3. بالجملة القصاص مصدر؛ قاص يقاص؛ من قص أثره إذا تبعه ومنه القصاص لمن يحدث بالآثار والحكايات كأنه يتبع آثار الماضين فتسمية القصاص بالقصاص لما فيه من متابعة الجاني في جنايته فيوقع عليه مثل ما أوقعه على غيره.
4. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾، المراد بالموصول القاتل، والعفو للقاتل إنما يكون في حق القصاص، فالمراد بالشيء هو الحق، وفي تنكيره تعميم للحكم أي أي حق كان سواء كان تمام الحق أو بعضه كما إذا تعدد أولياء الدم فعفا بعضهم حقه للقاتل فلا قصاص حينئذ بل الدية، وفي التعبير عن ولي الدم بالأخ إثارة لحس المحبة والرأفة وتلويح إلى أن العفو أحب.
5. ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾، مبتدأ خبره محذوف أي فعليه أن يتبع القاتل في مطالبة الدية بمصاحبة المعروف، من الاتباع وعلى القاتل أن يؤدي الدية إلى أخيه ولي الدم بالإحسان من غير مماطلة فيها إيذاؤه.
6. ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾، أي الحكم بانتقال القصاص إلى الدية تخفيف من ربكم فلا يتغير فليس لولي الدم أن يقتص بعد العفو فيكون اعتداء فمن اعتدى فاقتص بعد العفو فله عذاب أليم.
7. ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، إشارة إلى حكمة التشريع، ودفع ما ربما يتوهم من تشريع العفو والدية وبيان المزية والمصلحة التي في العفو وهو نشر الرحمة وإيثار الرأفة أن العفو أقرب إلى مصلحة الناس، وحاصله أن العفو ولو كان فيه ما فيه من التخفيف والرحمة، لكن المصلحة العامة قائمة بالقصاص فإن الحياة لا يضمنها إلا القصاص دون العفو والدية ولا كل شيء مما عداهما، يحكم بذلك الإنسان إذا كان ذا لب وقوله ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، أي القتل وهو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص.
8. ذكروا: أن الجملة، أعني قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ الآية على اختصارها وإيجازها وقلة حروفها وسلاسة لفظها وصفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها، وأسماها في بلاغتها فهي جامعة بين قوة الاستدلال وجمال المعنى ولطفه، ورقة الدلالة وظهور المدلول، وقد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل والقصاص تعجبهم بلاغتها وجزالة أسلوبها ونظمها كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع وقولهم: أكثروا القتل ليقل القتل، وأعجب من الجميع عندهم قولهم: القتل أنفى للقتل غير أن الآية أنست الجميع ونفت الكل: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ فإن الآية أقل حروفا وأسهل في التلفظ، وفيها تعريف القصاص وتنكير الحياة ليدل على أن النتيجة أوسع من القصاص وأعظم وهي مشتملة على بيان النتيجة وعلى بيان حقيقة المصلحة وهي الحياة، وهي متضمن حقيقة المعنى المفيد للغاية فإن القصاص هو المؤدي إلى الحياة دون القتل فإن من القتل ما يقع عدوانا ليس يؤدي إلى الحياة، وهي مشتملة على أشياء أخر غير القتل يؤدي إلى الحياة وهي أقسام القصاص في غير القتل، وهي مشتملة على معنى زائد آخر، وهو معنى المتابعة التي تدل عليها كلمة القصاص بخلاف قولهم القتل أنفى للقتل، وهي مع ذلك متضمنة للحث والترغيب فإنها تدل على حياة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها نظير ما تقول: لك في مكان كذا أو عند فلان مالا وثروة، وهي ذلك تشير إلى أن القائل لا يريد بقوله هذا إلا حفظ منافعهم ورعاية مصلحتهم من غير عائد يعود إليه حيث قال ﴿وَلَكُمُ﴾
9. هذه وجوه من لطائف ما تشتمل عليه هذه الآية، وربما ذكر بعضهم وجوها أخرى يعثر عليه المراجع غير أن الآية كلما زدت فيه تدبرا زادتك في تجلياتها بجمالها وغلبتك بهور نورها ـ وكلمة الله هي العليا.
10. كانت العرب أوان نزول آية القصاص وقبله تعتقد القصاص بالقتل لكنها ما كانت تحده بحد وإنما يتبع ذلك قوة القبائل وضعفها فربما قتل الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فسلك في القتل مسلك التساوي وربما قتل العشرة بالواحد والحر بالعبد والرئيس بالمرؤوس وربما أبادت قبيلة قبيلة أخرى لواحد قتل منها، وكانت اليهود تعتقد القصاص كما ورد في الفصل الحادي والعشرين و الثاني والعشرين من الخروج والخامس والثلاثين من العدد، وقد حكاه القرآن حيث قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾، وكانت النصارى على ما يحكى لا ترى في مورد القتل إلا العفو والدية، وسائر الشعوب والأمم على اختلاف طبقاتهم ما كانت تخلو عن القصاص في القتل في الجملة وإن لم يضبطه ضابط تام حتى القرون الأخيرة.
11. الإسلام سلك في ذلك مسلكا وسطا بين الإلغاء والإثبات فأثبت القصاص وألغى تعينه، بل أجاز العفو والدية، ثم عدل القصاص بالمعادلة بين القاتل والمقتول، فالحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى.
12. اعترض على القصاص مطلقا وعلى القصاص بالقتل خاصة بأن القوانين المدنية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جوازها وإجراءها بين البشر اليوم:
أ. قالوا: إن القتل بالقتل مما يستهجنه الإنسان وينفر عنه طبعه ويمنع عنه وجدانه إذا عرض عليه رحمة وخدمة للإنسانية.
ب. وقالوا: إذا كان القتل الأول فقدا لفرد فالقتل الثاني فقد على فقد.
ج. وقالوا: إن القتل بالقصاص من القسوة وحب الانتقام، وهذه صفة يجب أن تزاح عن الناس بالتربية العامة ويؤخذ في القاتل أيضا بعقوبة التربية، وذلك إنما يكون بما دون القتل من السجن والأعمال الشاقة.
د. وقالوا: إن المجرم إنما يكون مجرما إذا كان مريض العقل فالواجب أن يوضع القاتل المجرم في المستشفيات العقلية ويعالج فيها.
هـ. وقالوا: إن القوانين المدنية تتبع الاجتماع الموجود، ولما كان الاجتماع غير ثابت على حال واحد كانت القوانين كذلك فلا وجه لثبوت القصاص بين الاجتماع للأبد حتى الاجتماعات الراقية اليوم، ومن اللازم أن يستفيد الاجتماع من وجود أفرادها ما استيسر، ومن الممكن أن يعاقب المجرم بما دون القتل مما يعادل القتل من حيث الثمرة والنتيجة كحبس الأبد أو حبس مدة سنين وفيه الجمع بين الحقين حق المجتمع وحق أولياء الدم.
13. هذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل، وقد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾، وبيان ذلك:
أ. أن القوانين الجارية بين أفراد الإنسان وإن كانت وضعية اعتبارية يراعى فيها مصالح الاجتماع الإنساني غير أن العلة العاملة فيها من أصلها هي الطبيعة الخارجية الإنسانية الداعية إلى تكميل نقصها ورفع حوائجها التكوينية، وهذه الواقعية الخارجية ليست هي العدد العارض على الإنسان ولا الهيأة الواحدة الاجتماعية فإنها نفسها من صنع الوجود الكوني الإنساني، بل هي الإنسان وطبيعته وليس بين الواحد من الإنسان والألوف المجتمعة منه فرق في أن الجميع إنسان ووزن الواحد والجميع واحد من حيث الوجود.
ب. وهذه الطبيعة الوجودية تجهزت في نفسها بقوى وأدوات تدفع بها عن نفسها العدم لكونها مفطورة على حب الوجود، وتطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت وإلى أي غاية بلغت حتى القتل والإعدام، ولذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله ولا ينتهي عنه إلا به، وهذه الأمم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعا عن استقلالهم وحريتهم وقوميتهم، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها، ويدفعون عن بطلان القانون بالغا ما بلغ حتى بالقتل ويتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحرب إذا لم يعالج الداء بغيرها، تلك الحرب التي فيها فناء الدنيا وهلاك الحرث والنسل ولا يزال ملل يتقدمون بالتسليحات وآخرون يتجهزون بما يجاوبهم، وليس ذلك كله إلا رعاية لحال الاجتماع وحفظا لحياته وليس الاجتماع إلا صنيعة من صنائع الطبيعة فما بال الطبيعة يجوز القتل الذريع والإفناء والإبادة لحفظ صنيعة من صنائعها، وهي الاجتماع المدني ولا تجوزها لحفظ حياة نفسها؟ وما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل ولم يفعل ولا تجوزه فيمن هم وفعل؟ وما بال الطبيعة تقضي بالانعكاس في الوقائع التاريخية، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولكل عمل عكس عمل في قانونها لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما وتنقض حكم نفسها.
ج. على أن الإسلام لا يرى في الدنيا قيمة للإنسان يقوم بها ولا وزنا يوزن به إلا إذا كان على دين التوحيد فوزن الاجتماع الإنساني ووزن الموحد الواحد عنده سيان، فمن الواجب أن يكون حكمهما عنده واحدا، فمن قتل مؤمنا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر إزرائه وهتكه لشرف الحقيقة كما أن من قتل نفسا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر الطبيعة الوجودية، وأما الملل المتمدنة فلا يبالون بالدين ولو كانت شرافة الدين عندهم تعادل في قيمتها أو وزنها ـ فضلا عن التفوق ـ الاجتماع المدني في الفضل لحكموا فيه بما حكموا في ذلك.
د. على أن الإسلام يشرع للدنيا لا لقوم خاص وأمة معينة، والملل الراقية إنما حكمت بما حكمت بعد ما أذعنت بتمام التربية في أفرادها وحسن صنيع حكوماتها ودلالة الإحصاء في مورد الجنايات والفجائع على أن التربية الموجودة مؤثرة وأن الأمة في أثر تربيتهم متنفرة عن القتل والفجيعة فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ وإذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل، والإسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية وأثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق، ويلوح إليه قوله تعالى: في آية القصاص ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾، فاللسان لسان التربية وإذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام.
هـ. وأما غير هؤلاء الأمم فالأمر فيها على خلاف ذلك والدليل عليه ما نشاهده من حال الناس وأرباب الفجيعة والفساد فلا يخوفهم حبس ولا عمل شاق ولا بصدهم وعظ ونصح، وما لهم من همة ولا ثبات على حق إنساني، والحياة المعدة لهم في السجون أرفق وأعلى وأسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم ولا ذم، ولا يدهشهم سجن ولا ضرب، وما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الفجائع في الإحصاءات يوما فيوما فالحكم العام الشامل للفريقين ـ والأغلب منهما الثاني: لا يكون إلا القصاص وجواز العفو فلو رقت الأمة وربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو (والإسلام لا يألو جهده في التربية) ولو لم يسلك إلا الانحطاط أو كفرت بأنعم ربها وفسقت، أخذ فيهم بالقصاص ويجوز معه العفو.
و. وأما ما ذكروه من حديث الرحمة والرأفة بالإنسانية فما كل رأفة بمحمودة ولا كل رحمة فضيلة، فاستعمال الرحمة في مورد الجاني القسي والعاصي المتخلف المتمرد والمتعدي على النفس والعرض جفاء على صالح الأفراد، وفي استعمالها المطلق اختلال النظام وهلاك الإنسانية وإبطال الفضيلة.
ز. وأما ما ذكروه أنه من القسوة وحب الانتقام فالقول فيه كسابقه، فالانتقام للمظلوم من ظالمة استظهارا للعدل والحق ليس بمذموم قبيح، ولا حب العدل من رذائل الصفات، على أن تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام بل فيه ملاك التربية العامة وسد باب الفساد.
ح. وأما ما ذكروه من كون جناية القتل من الأمراض العقلية التي يجب أن يعالج في المستشفيات فهو من الأعذار (ونعم العذر) الموجبة لشيوع القتل والفحشاء ونماء الجناية في الجامعة الإنسانية، وأي إنسان منا يحب القتل والفساد علم أن ذلك فيه مرض عقلي وعذر مسموع يجب على الحكومة أن يعالجه بعناية ورأفة وأن القوة الحاكمة والتنفيذية تعتقد فيه ذلك لم يقدم معه كل يوم على قتل.
ط. وأما ما ذكروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمين بمثل الأعمال الإجبارية ونحوها مع حبسهم ومنعهم عن الورود في الاجتماع فلو كان حقا متكئا على حقيقة فما بالهم لا يقضون بمثله في موارد الإعدام القانوني التي توجد في جميع القوانين الدائرة اليوم بين الأمم؟ وليس ذلك إلا للأهمية التي يرونها للإعدام في موارده، وقد مر أن الفرد والمجتمع في نظر الطبيعة من حيث الأهمية متساويان.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/433.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ القصاص قتل من قَتل ظلماً متعمداً وتوجيه الخطاب إلى الذين آمنوا عموماً، دليل على وجوب تحصيل سلطة تنفذ القصاص حين يعجز وليّ الدم، وأن الواجب معاونة وليّ الدم ليتمكن من القصاص، وهذا وأمثاله من التكاليف دليل على شرعية الإمامة ووجوبها على الأمة عموماً؛ لأنه تعالى قال ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ فعمهم في الخطاب والإيجاب، ولم يخص القاتل هنا.
2. ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ﴾ وهذا يعم الحر الأصلي ومن تجددت له الحرية وكان عبداً، وإن سمي عبداً مجازاً؛ لأنه حر ليس عبداً ﴿وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾ أي المملوك ﴿وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ الأنثى الحرة بالأنثى الحرة، والأنثى الأمة بالأنثى الأمة، وليس في هذه دلالة على قصاص الرجل بالمرأة ولا الحر بالعبد، ودلت على: قصاص الغني بالفقير، والأمير بالمأمور، وكبير الناس بصغيرهم، والشاب بالطفل، والرجل الشاب بالشيخ الكبير ونحو ذلك، وكذا في العبيد والإناث، فما يصدر من معاونة القاتل حتى لا يتمكن ولي الدم من القصاص بأي طريق مثل تخويف الشهود أو تخويف الحاكم أو تخويف الولي، فهو من الباطل، والتعاون على الإثم والعدوان.
3. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ ﴿عُفِيَ لَهُ﴾ أُسقط له من أخيه الذي على ملة الإسلام فهو أخوه في الدين المشترك بينهما الذي هو التوحيد والإقرار بالرسول والقرآن ونحو ذلك، وفي ذكر الأُخوّة ترغيب في العفو وحث على العطف، وقوله تعالى: ﴿شَيْءٍ﴾ يعم العفو عن القصاص، وعن بعض الدية إن عفى عن القصاص.
4. ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي لا يسيء المطالبة بالدية أو بقيتها لأجل أنه قد قتل قريبه، بل تكون المطالبة بشكل معروف لا يستنكره العقلاء أهل المروءة، فلا تقترن المطالبة بسب ولا وعيد، ولا تكون بصوت رفيع مع قرب المطالب بل تكون برفق.
5. ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ﴾ للدية أو ما بقي منها ﴿بِإِحْسَانٍ﴾ كلام طيب وتسليم جميل، وب الأولى أن يكون بالمعروف، فلا يسلم بواسطة الظالم الذي يأخذ بعضه ولا يقترن بالتشكي ودعوى أنه مظلوم بأخذ الدية أو نحو ذلك، وقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ﴾ يعود إلى ولي المقتول، فلا تدفع إلى غيره، وإذا كانوا ورثة دفع إلى كل منهم نصيبه، ولا يبعد دلالتها على: أنه لا يقضى منها دين الميت إلاَّ بإذن أهلها، وأنها ليست من الميراث، وإنما يعمل بها ما يعمل بالميراث بمعنى أنها تقسم على حسب الإرث، وهو في قول الله تعالى: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ [النساء:92] أوضح، وعلى هذا: فهي ليست عوضاً للميت عن نفسه بل هي عوض للولي؛ لأنه موتور مغيظ محنق، وفائدته: التخفيف عنه وتقريبه إلى العفو؛ لأن العفو لولا الدية يكون بعيداً، فأما الميت فيحكم بينه وبين قاتله يوم القيامة وينصف له ملك يوم الدين، وما قيل: إنها للميت كأرش الجراحات، يرده: إنها لو كانت كذلك لكانت أروشاً على عدد ما في الحي من أعضاء ومعانٍ؛ لأن القتل أبطل ذلك كله، ولأن الدية لا تستحق إلاَّ بما يستحق به القصاص في هذه الآية، وذلك لا يكون إلاَّ عند خروج الروح؛ لأن المجروح لا يسمى قتيلاً إلاَّ متى خرجت روحه بسبب الجرح مثلاً، وفي تلك الحال لا يملك بل يورث ما ترك.
6. ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ أي شرع العفو وسقوط القصاص بالعفو بإسقاطه، وكذلك سقوط ما عفى من الدية، فهو تخفيف؛ لأن التكليف بالقصاص ثقيل.
7. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ إما ولي الدم، وإما القاتل، فولي الدم إذا عفى وأسقط القصاص ثم قتل القاتل فهو معتدٍ يقتل به وله عذاب أليم لعدوانه لا بد من زجره لئلا يظهر إسقاط القصاص، ويأخذ الدية ثم يقتل لأنه قد يطمع في الجمع بين القصاص وأخذ الدية، وقد يقبل الدية، فإذا أكلها ندم على القصاص، وقد يقبل الدية، فإذا أغراه بعض الشياطين ندم وتجرأ على القصاص بعد أن بطل حقه فيه، وأما القاتل إذا عفي عنه فتجرأ على قتل مسلم آخر ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ لتجريه على العدوان بعد أن خفف الله عنه ورحمه، فلم يشكر تلك النعمة ويتق الله، بل ازداد جرأة على القتل، أو نسي النعمة كأن لم تكن.
8. ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ فقصاص إنسان واحد قد يكون سبباً لحياة كثير من الناس، ولو لم يشرع القصاص لتجرأ على القتل كثير من الناس، وحيث يترك القصاص في أهل الجهل ويعدلون إلى النقاء، يكثر القتل بالتسلسل، والنقاء قتل رجل يختارونه أو يتيسر لهم قتله بدل المقتول، وهو غير القاتل، وإنما هو من قبيلة القاتل مثلاً، وولي الدم من قبيلة أخرى، فإذا رجع الناس لحكم الله وقتلوا القاتل لا غيره انقطع التسلسل، وطريقة أهل الألباب ترجيح الحكمة على العاطفة المخالفة، وفي الآية الكريمة دليل على أن الذين يجادلون في حسن القصاص عادلون عن طريقة أولي الألباب، أي أهل العقول، وخاطب أولي الألباب؛ لأنهم هم الذين ينتفعون ويؤمنون بذلك.
9. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الله، فتقوى الله هي المراد الأهم؛ لأنها تؤدي إلى السلامة من عذاب الله، وهذا تعليل للتعليل، فتقليل القتل تعليل للقصاص والتقريب إلى تقوى الله تعليل لترك القتل العدوان، فالقصاص وسيلة للتقوى من حيث يزجر عن العدوان بالقتل، وهذا الانزجار قُربٌ إلى التقوي كما أن القتل عمداً عدواناً بُعدٌ عن التقوى.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/247.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في هذا الفصل من القرآن، نلتقي بالجو التشريعي الذي بدأه القرآن في هذه السورة ليشرع للناس الأحكام التي تتصل بحياتهم العامة في الواقع الجنائي وفي واقع العلاقات المتنوعة التي تحكم تصرفاتهم تجاه أنفسهم، وتجاه ربهم، وتجاه غيرهم من الذين يرتبطون بهم في الحياة، فمن هذه الأحكام، حكم القصاص، الذي تعرضت له هاتان الآيتان في موضوع جناية القتل، التي تعتبر من الجرائم الكبيرة في حياة الناس لأنها تمثل الاعتداء على الحياة، وبذلك كانت تشكل خطرا عظيما على مسار الوجود الإنساني، مما جعل من قضية معالجتها ومواجهتها قضية حيوية في مجالات النظرة الواقعية للمشكلة في إطار التشريع، ليمكن من خلالها المحافظة على سلامة الفرد والمجتمع.. فكان القصاص هو العلاج الحاسم للجريمة من وجهة النظر الإسلامية، كحق يملكه ولي المقتول، فله أن يقتل القاتل جزاء على جريمته، وله أن يعفو عنه في مقابل الدية التي يدفعها إلى أولياء المقتول، وله أن يعفو عنه بدون مقابل.
2. يلتقي الجانب التفسيري للآية الكريمة بنقطتين:
أ. أن الآية قد أكدت أن القصاص يعتمد على قاعدة التماثل، فالحر يقتل بالحر، والعبد يقتل بالعبد، والأنثى بالأنثى، لأن ذلك ما ترتكز عليه القاعدة الإسلامية في التماثل في الاعتداء ورد الاعتداء بمثله، وربما تكون القضية مرتكزة على أن الناس عندما تختلف أوضاعهم القانونية تبعا لاختلاف صفاتهم الجسدية أو المعنوية، فإن ذلك يفرض الاختلاف في تقييم العقوبة، وإلا كانت القضية تمثل إلغاء للاختلاف في الوضع التشريعي القانوني، وليس معنى هذا التأكيد على الطبقية في القصاص، لأن هذا ليس واردا في الحساب، فإن الغني يقتل بالفقير والشريف يقتل بالحقير، والقوي يقتل بالضعيف، أما الحرية والعبودية والذكورة والأنوثة، فإنّ لها أحكاما خاصة في التشريع فلا بد من مراعاتها في هذا الجانب، ففي مثل الرجل إذا قتل المرأة، يمكن لأولياء المرأة القتيل أن يقتلوا الرجل بها مع دفع نصف ديته انطلاقا من مبدأ التصنيف في القضايا المالية في موضوع الرجل والمرأة، وكذلك الحر إذا قتل العبد، فإنه يمكن أن يقتل به إذا كان ذلك أمرا معتادا له، ولسنا، هنا، في مجال التفصيل الفقهي لهذه الأحكام، ولكننا في مجال الإشارة إلى طبيعة التركيز على المماثلة لدى من يقول بها من المسلمين، فقد نجد في بعض الاجتهادات الإسلامية من لا يقول بها استنادا إلى اعتبار هذه الآية منسوخة بالآية الكريمة: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، حيث لم يفصل بين الحر وعبد وذكر وأنثى، ولكن هذا الرأي قابل للمناقشة، وسنتعرض له في تفسيرنا لتلك الآية إن شاء الله تعالى.
ب. أن الآية تؤكد إفساح المجال للعفو عن القاتل من قبل وليّ المقتول، وتعتبر العفو ملزما له في نطاق العلاقة المرتكزة على المعروف والوفاء بالحق الذي يتمثل بالدية ليؤدي إليه بإحسان، فلا يجوز له العودة إلى المطالبة بحقه بالقصاص لأن الحق قد سقط بالعفو فلا يرجع من جديد، فإذا عاد ولي القتيل للانتقام فإنه يعتبر قاتلا معتديا، ويستحق العذاب الأليم في الدنيا والآخرة.. وتشير الآية الكريمة إلى أن تشريع العفو في موقع تشريع القصاص، تخفيف من الله لعباده، ورحمة بهم حيث لم يحصر التشريع في زاوية ضيقة لا يملك الإنسان معها أمر التحرك بمرونة.
3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ فقد فرضه الله عليكم قانونا يحفظ لكم قوة احترام حياتكم ليخلصكم من شريعة الغاب التي تتحول الحياة معها إلى فوضى لا يأمن الإنسان فيها على حياته، أو يعيش الناس بعيدا عن الضوابط القانونية في شريعة الأخذ بالثأر التي قد يقتل فيها أولياء المقتول عددا كبيرا من الناس لا سيّما إذا كان المقتول شريفا في الموقع الاجتماعي، وكان القاتل وضيعا حيث لا يرضى الأولياء بأن يكون القاتل بدلا من القتيل، وربما أدّى الواقع غير المتوازن إلى حروب طاحنة بين القبائل يسقط فيها الكثير من القتلى، الأمر الذي يجعل إيجابيات هذا التشريع أكثر من سلبياته، بينما تكون السلبيات في إهماله وإلغائه كبيرة جدا، فلا تمثل الإيجابيات أمامها شيئا، ولا بد في القتل الذي يستوجب القصاص من أن يكون القتل عمدا بحيث يقدم القاتل عليه قاصدا له، سواء كان قاصدا للفعل القاتل والقتل، أو كان قاصدا للفعل القاتل وإن لم يقصد القتل بعنوانه، كمن طعن إنسانا في قلبه، ولكنه لم يقصد قتله، فإن طبيعة السبب القطعي للموت تمثل قصدا للقتل بشكل ذاتي من خلال ما يختزنه الفعل في علاقة السبب بالمسبب.
4. ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ﴾، فهذا هو الخط القانوني الذي يراعي التماثل في الخصوصيات الإنسانية بحسب التعدد في مفردات التشريع وخطوطه في هذا الجانب بعيدا عن المسألة الطبقية أو الانتقاص من إنسانية الإنسان في معناه الإنساني.
5. ﴿وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ فالمرأة تقتل بالمرأة، وفي الآية إيحاء خفي بأن الحر لا يقتل بالعبد، وأن الرجل لا يقتل بالمرأة، ولكنه ليس صريحا في ذلك، ولهذا انطلق بعض المفسرين ليستفيدوا حكم التخالف في الصفة، في الحرية والعبودية والذكورة والأنوثة من أدلة أخرى من السنّة أو الإجماع، وقد نقل الخلاف فيه بين المسلمين، فقال مالك والشافعي وابن حنبل إن الحر لا يقتل بالعبد، وقال أبو حنيفة: بل يقتل الحر بعبد غيره ولا يقتل بعبده، واتفق الأربعة على أن الرجل يقتل بالمرأة وبالعكس، وقال الإمامية: إذا قتل الحر عبدا لا يقتل به، بل يضرب ضربا شديدا، ويغرم دية العبد، وإذا قتلت المرأة رجلا عمدا كان ولي المقتول بالخيار بين أن يأخذ منها الدية إن رضيت هي، وبين أن يقتلها، فإن اختار القتل فلا يغرم أهلها شيئا وإذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين أن يأخذ الدية إن رضي القاتل وبين أن يقتله الولي، على أن يدفع لورثة القاتل نصف دية الرجل خمسمائة دينار.
6. ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ وهذا هو السلوك البديل الذي شجع عليه القرآن بطريقة الإيحاء، وهو عفو صاحب الحق عن حقه من موقع قدرته ـ من خلال التشريع ـ، ليكون من باب العفو عند المقدرة، باعتبار أن القضية إذا انطلقت من اختيار أولياء الدم فإنها لا تضعف الهدف، ولا تلغيه، على أساس انطلاقه من تأكيد المبدأ في الوقت الذي يمكن للعفو أن يحقق نتائج إيجابية في المسألة الاجتماعية، وفي القيمة الأخلاقية التي ترتفع بصاحب الحق إلى مستوى الإنسان الذي يملك القوة الروحية في الانتصار على نوازعه الذاتية أو العائلية، فيتحرك للانفتاح على القاتل من موقع المحبة الإنسانية التي تتجاوز الجريمة لتتذكر أخوّة هذا الإنسان من الناحية الإيمانية مما يوحي به التعبير بكلمة ﴿أَخِيهِ﴾ في الآية، لتكون النتيجة عفوا بدون بدل، وهذه هي قمة العطاء والسمو الروحي، أو المطالبة بالدية، وهي تمثل التعبير عن هبة الحياة للقاتل بعد أن ملكها وليّ الدم في التشريع، والاكتفاء بالتعويض عما لحق بالخسارة من جهة، وإيجاد بدليل واقعي يمتص المشاعر السلبية من جهة أخرى، لينطلق الصلح من خلال الواقعية الذاتية الإنسانية.
7. وقد أراد الله لمن عليه الحق أن يؤدي الحق من دون مماطلة ولا تعقيد ليتحسس المعروف في العفو عنه وينطلق الأداء بإحسان، كما ينبغي لمن يملك الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد اتفق معه على الدية، وقد جاء هذا التفسير، في رواية الكافي عن الحلبي عن الصادق عليه السّلام قال ـ أي الحلبي: (سألته عن قول الله عز وجل: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ قال ينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ويؤدي إليه بإحسان)
8. ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ والإشارة إلى تشريع العفو بدلا من القصاص، فقد أراده الله تخفيفا على الناس، فلا ينغلقوا على الأخذ بحقهم في قتل القاتل بعيدا عن التسامح والعفو اللذين قد يفتحان للإنسان أكثر من نافذة على الحلول الهادئة السلمية التي تنزع عن النفس كل المؤثرات السلبية في عملية احتواء لكل الآثار النفسية المؤلمة، لتلتقي الأوضاع الاجتماعية على الطريقة الحكيمة التي يتخفف فيها الإنسان من ذاتيات الألم والانتقام في شخصيته، وذلك هو التخفيف الإلهي من حدّة الحل الحاسم ﴿وَرَحْمَةً﴾ لهم في هذا الأسلوب الرحيم في العفو، واستبدال القتل بالتعويض المادي، والاكتفاء به عن العنف القاسي.
9. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ربما كان ذلك حديثا عما كان يفعله بعض أهل الجاهلية في الانتقام من القاتل بقتله بعد العفو وأخذ الدية، حيث يجمعون بين التعويض المادي والقصاص الجسدي كتعبير عن الثأر المزدوج الذي يؤكد عنفوان وليّ الدم وإخلاصه للقتيل ضد القاتل وأهله، ليكون ذلك انتقاما منه ومن أهله، مما يحقق لهم شفاء الغيظ بأعمق المشاعر الداخلية، وهذا يمثل حالة من حالات الاعتداء على النفس كما لو كان عدوانا ابتدائيا، لأن العفو الذي يرتكز الصلح عليه مع الدية أو بدونها يمثل محو آثار الجريمة واعتبارها شيئا لا امتداد له في المستقبل في آثاره المضادة على طريقة رد الفعل، مما يجعل من هذا القتل عدوانا غير مسبوق بشيء، فلولي الدم قتله قصاصا، أو العفو مع الدية أو بدونها.
10. ﴿وَلَكُمُ﴾ أيها الناس ﴿فِي الْقِصَاصِ﴾ الذي يجتث جذور الجريمة من عمق النفس المفجوعة في الحالة الشعورية التي تتطلب الثأر وتستسقي الدم، لتقتصر على التنفيس عن مشاعرها بقتل القاتل وعدم تجاوزه إلى غيره، وليكون ذلك عملية ردع لكل من تسوّل له نفسه أن يقوم بجريمة جديدة ضد إنسان جديد عندما يجد أن التشريع يفسح في المجال لوليّ الدم أن يقتص منه، وليحمي المقتص من أيّ أثر سلبي، وهذه هي الوسيلة المثلى للسيطرة على الجريمة المستقبلة التي يختزنها الواقع الاجتماعي في تعقيداته الفردية والاجتماعية بشكل جنينيّ، من دون أن يكون المال أو السجن كافيا في تحقيق ذلك.
11. ﴿حَيَاةً﴾ من خلال حصول الحياة على رصيد كبير في المستقبل الإنساني حيث يغلق على الموت العدواني أبواب النوازع الذاتية في حرية الحركة للعدوان، مما يفسح في المجال لامتداد الحياة بشكل طبيعي حتى يكون قتل القاتل بمثابة المنتج للحياة التي لولا ذلك لماتت وسقطت تحت تأثير الجريمة المرتقبة، إنها العملية الجراحية التي تستأصل العضو الذي يشكل الخطر على الحياة، لتمتد الحياة من خلاله، ولو ببعض النقصان في مفردات الواقع،
12. ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي يا ذوي العقول الذين لا تفكرون بعواطفكم ومشاعركم، بل تفكرون بعقولكم التي تدفعكم إلى الدخول في عملية الموازنة والمقارنة بين المصالح والمفاسد في الجوانب السلبية والإيجابية.
13. لم يكن هذا الحكم بالقصاص، حكما إسلاميا في خط سير الديانات، بل هو حكم ديني تلتقي فيه كل الديانات، وقد جاء القرآن ليحدثنا في آيات أخرى أن هذا التشريع من أحكام التوراة وذلك في قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ والسِّنَّ بِالسِّنِّ والْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، وقد أعطى الفكرة حجمها الطبيعي في تعليقه على قصة ابني آدم قابيل وهابيل في قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ [المائدة: 32]
14. قد نستوحي منها أن القاعدة التي تحكم التشريع هي إبعاد الحياة عن مواقع الخطر، فلا مجال للتلاعب بالحياة كمبدإ، وذلك بالمستوى الذي يجعل الاعتداء على حياة الفرد اعتداء على حياة الناس كلّهم، لأنه يمثل الاعتداء على المبدأ، فلا فرق في قيمة الحياة وقدسيتها بين فرد وآخر، كما أن الحفاظ على حياة الفرد يمثل في القيمة المحافظة على حياة الناس جميعا، لأنه يمثل احترام الحياة كمبدإ مما يؤدي إلى امتداده في حياة الآخرين.
15. أما المسيحية فقد يخيّل للبعض أنها لا تعترف بالقصاص كمبدإ، بل إنها شرعت بدلا منه العفو والتسامح، فقد ورد عن السيد المسيح عليه السّلام أنّه قال: (من ضربك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر) وقد نقل بعض المفسرين أن النصرانية قد فرضت الدية كفريضة حتمية بدلا من القصاص، ولكن هذه النسبة غير دقيقة في ما نظن، لأن الحديث عن التسامح والعفو في المسيحية لم ينطلق ليكون قاعدة وحيدة في التعامل الاجتماعي مع الجريمة والمجرمين، بل انطلق من أجل أن يخفف الجو القانوني المادي الذي سار عليه الناس في ذلك العصر الذي رافق إرسال السيد المسيح، فاعتبرت العلاقات القائمة بين الناس خاضعة للعوامل الذاتية التي لا تجد في الساحة أي أساس روحي للتنازل عن الحق، لأن المقاييس الروحية لم تكن واردة في حساب العلاقات الخاصة والعامة، كما حدثنا القرآن في أكثر من حديث عن واقع بني إسرائيل، فكانت شريعة التسامح تحاول أن لا تجعل الإنسان ذاتيا في المطالبة بحقوقه، فلا تكون القيمة كل القيمة أن يأخذ الإنسان بحقه، سواء في المطالبة بالحق من خلال كون الشريعة مرتكزة على أساس تشريع الحق ذلك الميزان الفردي أو الاجتماعي، بل تريد التأكيد على أن القيمة الروحية الكبرى هي أن يتنازل عن حقه ليتحقق للإنسان التوازن الداخلي والعملي بين أسلوب المطالبة بالحق من خلال كون الشريعة مرتكزة على أساس تشريع الحق القانوني، وبين أسلوب التنفيذ للحق، من خلال اعتبار التسامح قيمة روحية في حساب علاقة الإنسان بالله والإنسان، ولا تختلف المسيحية في هذا عن الإسلام الذي شرّع الحقوق في جميع المجالات الإنسانية للعلاقات العامة والخاصة، ولكنه قرن ذلك بالدعوة إلى التسامح والعفو والصبر، معتبرا ذلك خيرا وأقرب للتقوى.
16. من هذا المنطلق نريد أن نشير في هذا الاتجاه إلى رفض التحليل الذي يتحدث به بعض الكتاب الإسلاميين عن اعتبار اليهودية قريبة إلى المادية في التشريع في مقابل اعتبار النصرانية قريبة إلى الروحية في المفهوم، ليخلص من ذلك إلى الحديث عن عظمة الإسلام، لأنه حقق التوازن التشريعي والمفهومي والعملي بين المادة والروح فلم يمل إلى أحدهما أكثر من الآخر انطلاقا من واقعية الإنسان الذي كان كيانه مزيجا من المادة والروح، إننا نرفض هذا الاتجاه التحليلي في تقييم الديانات، لأننا نلاحظ في حديث القرآن عن الرسالات السابقة أنها تسير في خط واحد من ملاحظة مصلحة الإنسان، وذلك من خلال التركيز على علاقته بالله التي تمثل الجانب الروحي الذي يلتقي في نطاقه بالإنسان في جانبه المادي، فلا يبتعد أحدهما عن الآخر في قليل أو في كثير، وقد نستفيد ذلك من الآية الكريمة التي يقدم الله إلينا فيها صورة عيسى ابن مريم عليهما السّلام في بيانه الذي قدمه إلى بني إسرائيل في بداية رسالته: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف: 6] وجاء في آية أخرى قوله تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [آل عمران: 50]، فإن هاتين الآيتين تؤكدان على أن النصرانية لم تأت لتنسخ الخط العام الذي ارتكزت عليه شريعة التوراة، بل تحركت في اتجاه إقرارها بشكل عام مع بعض الاستثناءات في جانب التحليل والتحريم مما اقتضاه التطور الزمني لمواجهة المشاكل المستجدة مما لم يعد التشريع فيه عمليا في مستوى الحل الواقعي للأشياء.
17. قد نستطيع استيحاء الفكرة التي قررناها في شمولية هذا التشريع لكل الديانات من خلال الآية الكريمة التي أرادت أن تفلسف التشريع بالتأكيد على قيمة الحياة في جانبها السلبي والإيجابي، فإن مثل ذلك لا يختص بزمان أو بمكان، بل إنه يشمل الحياة كلها، فلا بد منه في كل موقف يراد من خلاله تعميق الإحساس بقيمة الحياة في الجانب الفكري والعملي من حياة الإنسان، وفي ضوء ذلك لا نستطيع الموافقة على أن النصرانية تكتفي بالدية فلا تتجاوزها إلى القصاص لأن الدية لا تنجسم مع تقرير مبدأ احترام الحياة كحل للمشكلة، بل يمكن أن تكون كما شرّعها الإسلام بديلا عن القصاص في مجالات العفو والتسامح، لا بديلا مطلقا في كل الأحوال.
18. قد يتحدث البعض عن وجود هذا التشريع في غير الديانات من الشرائع التي كانت مطروحة لدى بعض الشعوب، كشريعة حمورابي وغيره، ولكننا لا نستبعد أن كثيرا من تلك الشرائع كانت مستمدة من الرسالات السماوية التي حدثنا القرآن أنها كانت السبّاقة في معالجة قضايا الإنسان ومشاكله العامة والخاصة.
19. ذكر هنا مبحثا مفصلا حول الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وارتباط ذلك بالقصاص، ورد الشبهات المثارة حولها، وقد نقلناه إلى محله من السلسلة.
__________
(1) من وحي القرآن: 3/214.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شاع بين القبائل العربية انتقام قبيلة من قبيلة أخرى، ولم يكن لهذا الانتقام حدود، فقد يقتل رجل فتهدد قبيلته قتل كل رجال قبيلة القاتل، فنزلت الآية وشرعت حكم القصاص.
2. هذا الحكم الإسلامي جاء ليقرر الموقف من عرفين قائمين عن العرب، عرف يرى حتمية القصاص، وعرف يرى حتمية الدية، فجاءت الآية لتقرر القصاص عند عدم موافقة أولياء المقتول على أخذ الدية، وإن وافقوا فالدية.
3. الآيات السابقة طرحت المنهج الإسلامي في (البرّ)، وهنا يقدّم القرآن الكريم ـ وهكذا في الآيات التالية ـ مجموعة من الأحكام الإسلامية، إكمالا لبيان المنهج الإسلامي في الحياة.
4. تبدأ هذه الأحكام من مسألة حفظ حرمة الدماء، وهي مسألة هامة في الحياة الاجتماعية، فتنفي العادات والتقاليد الجاهلية، وتقول للمؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾، وعبارة ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ تبيّن أهمية الموضوع، وتوحي بالتأكيد عليه، وذكرت في آيات أخرى بشأن الصوم والوصيّة، ولا يكتب من المسائل عادة إلّا ما كان قاطعا وجادّا.
5. (القصاص) من (قصّ)، يقال قصّ أثره: أي تلاه شيئا بعد شيء، ومنه القصاص لأنه يتلو أصل الجناية ويتبعه، وقيل هو أن يفعل ب الثاني مثل ما فعله هو ب الأول، مع مراعاة المماثلة، ومنه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئا بعد شيء.
6. الآية تستهدف بيان الموقف الصحيح من المجرم، ولفظ القصاص يدلّ على إنزال عقوبة بالمجرم مماثلة لما ارتكبه هو، لكن الآية لا تكتفي بذلك، بل بينت التفاصيل فقالت: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾
7. ثم تبين الآية أنّ القصاص، حق لأولياء المقتول، وليس حكما إلزاميا، فإن شاءوا أن يعفوا ويأخذوا الدية، وإن شاءوا ترك الدية فلهم ذلك، وتقول: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ فبعد تبدل حكم القصاص عند عفو أولياء المقتول إلى دية ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي فعل العافي إتباع بالمعروف، وهو أن لا يشدّد في طلب الدّية وينظر من عليه الدية ﴿وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ أي على المعفوّ عنه أن يبادر إلى دفع الدية عند الإمكان، وأن لا يماطل.
8. التوصية إلى من له الدية أن لا يشددّ في طلبه، وأن يستوفي حقّه بشكل معقول.. وعلى من عليه الدية أن يؤديها بإحسان، وأن لا يسوّف ويماطل.
9. ثم تؤكد الآية على ضرورة الالتزام بحدود ما أقرّه الله، وعدم تجاوز هذه الحدود: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
10. وهذا الأمر بالقصاص وبالعفو يشكل تركيبا انسانيا منطقيا، فهو من جهة يدين التقاليد السائدة في الجاهلية الأولى والجاهليات التالية إلى يومنا هذا القاضية بالانتقام للمقتول الواحد بقتل الآلاف، ومن جهة أخرى، يفتح باب العفو أمام المذنب، مع الحفاظ على احترام الدم وردع القاتلين، ومن جهة ثالثة، لا يحقّ للطرفين بعد العفو وأخذ الدية التّعدّي، خلافا للجاهليين الذين كانوا يقتلون القاتل أحيانا حتى بعد العفو وأخذ الدية.
11. الآية التالية قصيرة العبارة وافرة المعنى، تجيب على كثير من الأسئلة المطروحة في حقل القصاص، ويقول: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، هذه الآية بكلماتها العشر، تضع الإطار العام ـ ببلاغة وفصاحة متناهيتين ـ للقصاص في الإسلام، وتبين أن القصاص ليس انتقاما، بل السبيل إلى ضمان حياة النّاس.
12. إنه يضمن حياة المجتمع، إذ لو انعدم حكم القصاص، وتشجّع القتلة القساة على تعريض أرواح النّاس للخطر ـ كما هو الحال في البلدان التي ألغت حكم القصاص ـ لارتفعت إحصائيات القتل والجريمة بسرعة، وهو من جهة أخرى، يصون حياة القاتل، بعد أن يصدّه إلى حدّ كبير عن ارتكاب جريمته، كما أنه يصون المجتمع بجعله قانون المماثلة من الانتقام والإسراف في القتل على طريقة التقاليد الجاهلية التي تبيح قتل الكثير مقابل فرد واحد، وهو بذلك يصون حياة المجتمع، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن القصاص مشروط بعدم العفو عن القاتل فهذا الشرط نافذة أمل للحياة أيضا بالنسبة للقاتل.
13. عبارة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ تحذير من كل عدوان لتكميل هذا الحكم الإسلامي العادل الحكيم.
14. النظرة الإسلامية نظرة شمولية في كل المجالات، قائمة على احتساب جميع جوانب الأمر الذي تعالجه، مسألة صيانة دم الأبرياء عالجها الإسلام بشكل دقيق بعيد عن كل إفراط أو تفريط، لا كما عالجتها الديانة اليهودية المحرّقة التي اعتمدت القصاص، ولا الديانة المسيحية المحرّفة التي ركزت على العفو.. لأن في الاولى خشونة وانتقاما، وفي الثانية تشجيعا على الإجرام، ولو افترضنا أنّ القاتل والمقتول أخوان أو قريبان أو صديقان، فإن الإجبار على القصاص يدخل لوعة أخرى في قلب أولياء المقتول، خاصّة إذا كان هؤلاء من ذوي العواطف الإنسانية المرهفة، وتحديد الحكم بالعفو يؤدي إلى تجرّؤ المجرمين وتشجيعهم، لذلك ذكرت الآية حكم القصاص باعتباره أساسا للحكم، ثم ذكرت إلى جانبه حكم العفو، بعبارة أوضح، إن لأولياء المقتول أن ينتخبوا أحد ثلاثة أحكام:
أ. القصاص.
ب. العفو دون أخذ الدية.
ج. العفو مع أخذ الدية (وفي هذه الحالة تشترط موافقة القاتل أيضا)
15. ثمّة فئة يحلو لها أن توجه إلى الإسلام ـ دون تفكير ـ اعتراضات وكثير شبهات، خاصة بالنسبة لمسألة القصاص، يقول:
أ. الجريمة لا تزيد على قتل إنسان واحد، والقصاص يؤدّي إلى تكرار هذا العمل الشنيع.
ب. القصاص ينمّ عن روح الانتقام والتشفّي والقسوة، ويجب إزالة هذه الروح عن طريق التربية، بينما يعمّق القصاص هذه الروح.
ج. القتل لا يصدر عن إنسان سالم، لا بدّ أن يكون القاتل مصابا بمرض نفسي، ويجب علاجه، والقصاص ليس بعلاج.
د. قوانين النظام الاجتماعي يجب أن تتطور مع تطور المجتمع، ولا يمكن لقانون سنّ قبل أربعة عشر قرنا أن يطبق اليوم.
هـ. من الأفضل الاستفادة من القاتل بتشغيله في معسكرات العمل الإجباري، وبذلك نستفيد من طاقاته ونصون المجتمع من شروره.
16. هذا ملخص ما يوجه للقصاص من اعتراضات، ولو أمعنا النظر في آيات القصاص، لرأينا فيها الجواب على كل هذه الاعتراضات: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾:
أ. فالحياة الاجتماعية لا يمكن أن تطوي مسيرتها الحياتية التكاملية، دون اقتلاع العوامل المضرّة الهدامة فيها، ولما كان القصاص في هذه المواضع يضمن استمرار الحياة والبقاء، فإن الشعور بضرورة القصاص أودع على شكل غريزة في وجود الإنسان، أنظمة الطب والزراعة والرعي قائمة على أساس هذا الأصل العقلي، وهو إزالة الموجودات المضرة الخطرة، فنرى الطب يجيز قطع العضو الفاسد إذا شكل خطورة على بقية أعضاء الجسد، وتقتلع النباتات والأغصان المضرة من أجل استمرار نمو النباتات المفيدة بشكل صحيح، أولئك الذين يرون في الاقتصاص من القاتل قتلا لشخص آخر، ينظرون إلى المسألة من منظار فردي، ولو أخذوا بنظر الاعتبار مصلحة المجتمع، وعلموا ما في القصاص من دور في حفظ سائر أفراد المجتمع وتربيتهم، لأعادوا النظر في أقوالهم، إزالة مثل هؤلاء الأفراد الخطرين المضرين من المجتمع، كقطع العضو الفاسد من جسد الإنسان، وكقطع الغصن المضر من الشجرة، ولا أحد يعترض على قطع ذلك العضو وهذا الغصن، هذا بشأن الاعتراض الأول.
ب. وبالنسبة إلى الاعتراض الثاني، لا بدّ من الالتفات إلى أن تشريع القصاص لا ارتباط له بمسألة الانتقام، لأن الهدف من الانتقام إطفاء نار الغضب المتأججة لمسألة شخصية، بينما القصاص يستهدف الحيلولة دون استمرار الظلم في المجتمع، وحماية سائر الأبرياء.
ج. وبشأن الاعتراض الثالث القائل إن القاتل مريض نفسيا، ولا تصدر هذه الجريمة من إنسان طبيعي، لا بدّ أن نقول: هذا الكلام صحيح في بعض المواضع، والإسلام لم يشرع حكم القصاص للقاتل المجنون وأمثاله، ولكن لا يمكن اعتبار المرض عذرا لكل قاتل، إذ لا يخفي ما يجرّ إليه ذلك من فساد، ومن تشجيع القتلة على ارتكاب جرائمهم، ولو صح هذا الاستدلال بالنسبة للقاتل، لصح أيضا بشأن جميع المعتدين على حقوق الآخرين، لأن الإنسان العاقل المعتدل لا يعتدي إطلاقا على الآخرين، وبذلك يجب حذف كل القوانين الجزائية، ويجب إرسال المعتدين والمجرمين إلى مستشفيات الأمراض النّفسية بدل السجون.
د. أمّا ادعاء عدم إمكان قبول قانون القصاص اليوم بسبب تطور المجتمع، وبسبب قدم هذا القانون، فمردود أمام إحصائيات الجرائم الفظيعة الي ترتكب في عصرنا الراهن، وأمام التجاوزات الوحشية التي تنتشر في بقاع مختلفة من عالمنا بسبب الحروب وغير الحروب، ولو أتيح للبشرية أن تقيم مجتمعا إنسانيا متطورا تطورا حقيقيا، فإن مثل هذا المجتمع يستطيع أن يلجأ إلى العفو بدل القصاص، فقد أقرّ الإسلام ذلك، ومن المؤكد أن المجتمع المتطور في آفاقه الإنسانية سيفضّل عفو القاتل، أمّا في مجتمعاتنا المعاصرة حيث ترتكب فيها أفظع الجرائم تحت عناوين مختلفة، فإن إلغاء قانون القصاص لا يزيد في جرائم المجتمع إلّا اتساعا وضراوة.
هـ. وحول حفظ القتلة في السجون، فإن هذه العملية لا تحقق هدف الإسلام من القصاص، فالقصاص ـ كما ذكرنا ـ يستهدف حفظ حياة المجتمع، والحيلولة دون تكرار القتل والجريمة، السجون وأمثالها لا تستطيع أن تحقق هذا الهدف (خاصة السجون الحالية التي هي أفضل من أكثر بيوت المجرمين)، ولا أدل على ذلك من ارتفاع إحصائيات جرائم القتل خلال فترة قصيرة، في البلدان التي ألغت حكم الإعدام، ولو كانت أحكام السجن عرضة للتقلّص بسبب أحكام العفو ـ كما هو سائد اليوم ـ فإن المجرمين يعمدون إلى ارتكاب جرائمهم دون تخوّف أو تردّد.
17. قد يظن البعض أن قانون القصاص الإسلامي قد انتقص المرأة حين قرّر أن (الرجل) لا يقتل (بالمرأة)، أي إن الرجل ـ قاتل المرأة ـ لا يقتص منه، وليس الأمر كذلك، مفهوم الآية لا يعني عدم جواز قتل الرجل بالمرأة، بل ـ كما هو مبين في كتب الفقه ـ يجوز لأولياء المقتولة أن يطلبوا القصاص من الرجل القاتل، بشرط أن يدفعوا نصف ديته، بعبارة أخرى: المقصود من عدم قصاص الرجل بالمرأة، هو القصاص دون شرط، أمّا إذا دفعت نصف ديته فيجوز قتله، وواضح أن دفع نصف دية الرجل القاتل، لا يعني انتقاص الإسلام للمرأة، بل يعني جبران الضرر المالي الذي يصيب عائلة الرجل القاتل بعد قتله، ولمزيد من التوضيح نقول: الرجال يتحملون غالبا مسئوليات إعالة الأسرة، ويؤمنون نفقاتها الاقتصادية، ولا يخفى الفرق بين أثر غياب الرجل وغياب المرأة على العائلة اقتصاديا، ولو لم يراع هذا الفرق لأصيبت عائلة المقتص منه بأضرار مالية، ولوقعت في حرج اقتصادي، ودفع نصف الدية يحول دون تزلزل تلك العائلة اقتصاديا، ولا يسمح الإسلام أن يتعرض أفراد أسرة لخطر اقتصادي وتغمط حقوقهم تحت شعار (المساواة)، قد تكون امرأة في أسرتها عضوة فعالة اقتصاديا أكثر من الرجل، ولكن الأحكام والقوانين لا تقوم على أساس الحالات الاستثنائية، بل على أساس الوضع العام، وفي هذه الحالة يجب أن نقارن كل الرجال بكل النساء.
18. يلفت النظر أيضا في الآية عبارة ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾، فالقرآن يركز على مفهوم الأخوة بين المسلمين، حتى يطلق هذا التعبير على القاتل، وبهذا التعبير يضرب القرآن على وتر العاطفة الأخوية بين المسلمين، كي يشجع أولياء المقتول على العفو! هذا طبعا بالنسبة للقاتل الذي انزلق في هاوية الجريمة في ظروف عصبية خاصة، وندم بذلك على فعلته، أمّا المجرمون الذي يفخرون بجرائمهم، ولا يشعرون بندم على ما ارتكبوه فلا يستحقون اسم الأخ ولا العفو.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/502.
76. أحكام الوصية
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈76⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 180 ـ 182]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث، فمن أوصى بالثلث فلم يترك(1)..
2. روي أنّه قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث، فقد ختم عمله بمعصية(2)..
3. روي أنّه قال: أن الآية منسوخة، ولا تجب الوصية، فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا شيء عليه(3)..
__________
(1) تفسير البغوي: ١/١٩٣.
(2) تفسير العيّاشي: 1/76.
(3) تفسير الثعلبي: ٢/٥٧.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ تمضى كما قال(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿جَنَفًا﴾ حيفا(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٤٠.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
مسروق:
روي عن مسروق (ت 63 هـ): أنّه أوصى جار له، فدعاه ليشهده، فوجده قد بذر وأكثر، فقال: لا أشهد؛ إن الله تعالى قسم بينكم فأحسن القسمة، فمن يرغب برأيه عن أمر الله فقد ضل، أوص لقرابتك الذين لا يرثون، ودع المال على قسم الله(1)..
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٦٠.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ مالا(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ وقد وقع أجر الموصي على الله، وبرئ من إثمه، وإن كان أوصى في ضرار لم تجز وصيته، كما قال ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾(2)..
3. روي أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: ﴿جَنَفًا﴾ قال الجور والميل في الوصية قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول عدي بن زيد وهو يقول(3).:
çوأمك يا نعمان في أخواتها... يأتين ما يأتينه جنفاé
4. روي أنّه قال: ﴿جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ الجنف: الخطأ، والإثم: العمد(4)..
5. روي أنّه قال: ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُم﴾ إذا أخطأ الميت في وصيته، أو حاف فيها؛ فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب(5)..
6. روي أنّه قال: في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ قال من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا(6)..
7. روي أنّه قال: إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوصي(7)..
8. روي أنّه قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (الثلث، والثلث كثير)(8)..
9. روي أنّه قال: الجنف في الوصية والإضرار فيها من الكبائر(9)..
10. روي عن ابن سيرين قال: خطب ابن عباس، فقرأ سورة البقرة، فبين ما فيها، حتى أتى على هذه الآية: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، فقال: نسخت هذه الآية(10)..
11. روي أنّه قال: ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ كان ولد الرجل يرثونه، وللوالدين والأقربين الوصية، فنسخها: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ [النساء: ٧](11)..
12. روي أنّه قال: كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية الأقربين، فأنزل الله آية الميراث، فبين ميراث الوالدين، وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت(12)..
13. روي أنّه قال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ فكانت الوصية كذلك، حتى نسختها آية الميراث(13)..
14. روي أنّه قال في الآية: نسخ من يرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون(14)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٣٤.
(2) ابن جرير: ٣/١٤٠.
(3) الطستي ـ كما في الإتقان: ٢/٧٩.
(4) ابن جرير: ٣/١٥١.
(5) ابن جرير: ٣/١٤٣.
(6) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(7) والبيهقي: ٦/٢٧٠.
(8) البخاري: ٤/٣.
(9) ابن جرير: ٦/٤٨٦.
(10) ابن جرير: ٣/١٣١.
(11) النحاس في ناسخه: ص٨٨.
(12) ابن جرير: ٣/١٢٩.
(13) أبو داوود: ٢٨٦٩.
(14) ابن جرير: ٣/١٢٨.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (ما حق امرئ مسلم تمر عليه ثلاث ليال إلا وصيته عنده)، قال ابن عمر: فما مرت علي ثلاث قط إلا ووصيتي عندي(1)..
2. روي أنه سئل عن هذه الآية: ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ فقال: نسختها آية الميراث(2)..
3. روي عن نافع: أن ابن عمر لم يوص، وقال: أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه في الحياة، وأما رباعي فما أحب أن يشرك ولدي فيها أحد(3)..
__________
(1) البخاري: ٤/٢.
(2) ابن أبي شيبة: ١١/٢٠٩.
(3) ابن جرير: ٣/١٣٣.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: من أوصى وسمى أعطينا من سمى(1)..
2. روي أنّه قال: هذه الآية منسوخة، نسختها آية الميراث(2)..
__________
(1) عبد الرزاق: ١٦٤٣٤.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٩.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ نسخ الوالدين، فألحقهما بأهل الميراث، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٠.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ تلك الوصية حق على المتقين(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ يقول للأوصياء: من بدل وصية الميت: ﴿بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ يعني: من بعد ما سمع من الميت، فلم يمض وصيته إذا كان عدلا؛: ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ﴾ يعني: إثم ذلك: ﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ يعني: الوصي، وبرئ منه الميت، ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ يعني: للوصية، ﴿عَلِيمٌ﴾ بها(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ فمن علم ﴿مِنْ مُوصٍ﴾ من الميت ﴿جَنَفًا﴾: ميلا، ﴿أَوْ إِثْمًا﴾ أو خطأ، فلم يعدل(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُم﴾ رد خطأه إلى الصواب، ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ للوصي؛ حيث أصلح بين الورثة، ﴿رَحِيمٌ﴾ به؛ حيث رخص له في خلاف جور وصية الميت(3)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٠.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٠ ـ: ٣٠١.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٣٠١ ـ: ٣٠٣.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ الجنف: الخطأ، والإثم: العمد(1)..
2. روي أنّه سئل عن رجل أوصى بأكثر من الثلث؟ فقال: ارددها، ثم قرأ: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُم﴾ رده إلى الحق(2)..
4. روي أنّه قال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ ألف درهم إلى خمسمائة درهم(3)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٥١.
(2) ابن جرير: ٣/١٤٤.
(3) عبد الرزاق: ١/٦٩.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ المال، ألا ترى أنه يقول: قال شعيب لقومه: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾؟ [هود: ٨٤]، يعني: الغنى(1)..
2. روي أنّه قال: لا تجوز وصية لوارث، ولا يوصي إلا لذي قرابة، فإن أوصى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية؛ إلا أن لا يكون قرابة، فيوصي لفقراء المسلمين(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٣٥.
(2) ابن جرير: ٣/١٢٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ الوصية(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ﴾ هذا حين يحضر الرجل وهو يموت، فإذا أسرف أمره بالعدل، وإذا قصر عن حق قالوا له: افعل كذا وكذا، وأعط فلانا كذا وكذا(2)..
3. روي أنّه قال: الخير في القرآن كله: المال ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾، ﴿لِحُبِّ الْخَيْرِ﴾ [العاديات: ٨]، ﴿أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ﴾ [ص: ٣٢]، ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: ٣٣](3)..
4. روي أنّه قال: كان الميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربين(4)..
5. روي أنّه قال في الآية: كان الميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربين، فهي منسوخة(5)..
6. روي أنّه قال: نسخها: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: ١١](6)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٣٩.
(2) ابن جرير: ٣/١٤٢.
(3) ابن جرير: ٣/١٣٥.
(4) تفسير مجاهد: ص٢٢١.
(5) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(6) النحاس في الناسخ والمنسوخ: ١/٤٨٣.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) أنّه قال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، فكانت الوصية كذلك، حتى نسختها آية الميراث(1)..
__________
(1) الدارمي في سننه: ٢/٥١١.
طاووس:
روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين؛ انتزعت منهم، وردت على قرابته(1)..
2. روي أنّه قال في الآية: أن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون، وبقي وجوبها في حق الذين لا يرثون من الوالدين والأقارب(2)..
3. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ هو الرجل يوصي لولد ابنته(3)..
4. روي أنّه قال: جنفه وإثمه: توليجه: أن يوصي الرجل لبني ابنه؛ ليكون المال لأبيهم، وتوصي المرأة لزوج ابنتها؛ ليكون المال لابنتها، وذو الوارث الكثير والمال قليل، فيوصي بثلث ماله كله، فيصلح بينهم الوصي أو الأمير، قلت: أفي حياته أم بعد موته؟ قال ما سمعنا أحدا يقول إلا بعد موته، وإنه ليوعظ عند ذلك(4)..
__________
(1) عبد الرزاق: ١٦٤٢٦.
(2) تفسير الثعلبي: ٢/٥٧.
(3) عبد الرزاق: ١/٦٩.
(4) ابن جرير: ٣/١٤٥.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ الوصية حق على كل مسلم؛ أن يوصي إذا حضر الموت بالمعروف غير المنكر(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ هذا في الوصية، من بدلها من بعد ما سمعها فإنما إثمه على من بدل(2)..
3. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾: كانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ من ذلك: ﴿لِلْوَالِدَيْنِ﴾، وأثبت لهما نصيبهما في سورة النساء، ونسخ من الأقربين كل وارث، وبقيت الوصية للأقربين الذين لا يرثون(3)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٢٩٨.
(2) ابن جرير: ٣/١٤١.
(3) سعيد بن منصور في سننه: ٢/٦٥٥.
العوفي:
روي عن عطية العوفي (ت 112 هـ) أنّه قال (﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا﴾ خطأ، ﴿أَوْ إِثْمًا﴾ متعمدا(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٥١.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه سئل عن الوصية للوارث، فقال: تجوز، ثم تلا هذه الآية: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة: 180](1)..
2. روي أنّه قال: من أوصى بوصية لغير الوارث من صغير أو كبير بالمعروف غير المنكر، فقد جازت وصيته(2)..
3. روي أنّه قال في رجل أوصى بماله في سبيل الله: أعط لمن أوصى به له، وإن كان يهوديا أو نصرانيا، إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾(3)..
4. روي أنّه كتب إلى جعفر وموسى: وفيما أمرتكما من الإشهاد بكذا وكذا، نجاة لكما في آخرتكما، وإنفاذا لما أوصى به أبواكما، وبرا منكما لهما، واحذرا أن تكونا بدلتما وصيتهما أو غيرتماها عن حالها، لأنهما قد خرجا من ذلك رضي الله عنهما، وصار ذلك في رقابكما، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه في الوصية: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(3)..
__________
(1) الكافي: 7/10.
(2) تفسير العيّاشي: 1/76.
(3) الكافي: 7/14.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿خَافَ مِنْ مُوصٍ﴾ من أوصى بحيف، أو جار في وصية، فيردها ولي الميت أو إمام من أئمة المسلمين إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه؛ كان له ذلك(1)..
2. روي أنّه قال: الخير: المال، كان يقال: ألف فما فوق ذلك(2)..
3. روي أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أيها الناس، ابتاعوا أنفسكم من ربكم، ألا إنه ليس لامرئ شيء، ألا لا أعرفن امرؤا بخل بحق الله عليه، حتى إذا حضره الموت أخذ يدعدع ماله ههنا وههنا)، ثم يقول قتادة: ويلك، يا ابن آدم، كنت بخيلا ممسكا، حتى إذا حضرك الموت أخذت تدعدع مالك وتفرقه، يا ابن آدم، اتق الله، ولا تجمع إساءتين في مالك؛ إساءة في الحياة، وإساءة عند الموت، انظر إلى قرابتك الذين يحتاجون ولا يرثون؛ فأوص لهم من مالك بالمعروف(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، أمر أن يوصي لوالديه وأقاربه، ثم نسخ بعد ذلك في سورة النساء، فجعل للوالدين نصيبا معلوما، وألحق لكل ذي ميراث نصيبه منه، وليست لهم وصية، فصارت الوصية لمن لا يرث من قريب وغيره(4)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٤٣.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(3) عبد الرزاق: ٩/٦٧.
(4) الدارمي في سننه: ٣/٢٠٦٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ فالجنف: الجور والخطأ.. والإثم: العمد، والإثم: الذنب أيضا في غير هذا المكان،(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 95.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) أنّه قال: جعل الله الوصية حقا، مما قل منه أو كثر(1)..
__________
(1) عبد الرزاق: ١/٦٨.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ فمن بدل الوصية التي أوصى بها، وكانت بمعروف؛ فإنما إثمها على من بدلها؛ أنه قد ظلم(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾، أما ﴿جَنَفًا﴾ فخطأ في وصيته، وأما ﴿آثِمًا﴾ فعمدا، يعمد في وصيته الظلم(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾: أما: ﴿الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ فيوم نزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلوم، إنما يوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم، حتى نسختها النساء، فقال: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم﴾(3)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٤٠.
(2) ابن جرير: ٣/١٥٠.
(3) ابن جرير: ٣/١٣٣.
الكلبي:
روي عن الكلبي (ت ١٤٦ هـ) أنّه قال: كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ الآية، وإن استغرق المال كله، ولم يبق للورثة شيء، ثم نسخها قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا﴾ الآية(1)..
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٦٠.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾، حق جعله الله في أموال الناس لصاحب هذا الأمر، قيل: لذلك حد محدود؟ قال نعم، قيل: كم؟ قال: أدناه السدس، وأكثره الثلث(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾: هو شيء جعله الله عز وجل لصاحب هذا الأمر، قيل: فهل لذلك حد؟ قال نعم، قيل: وما هو؟ قال: أدنى ما يكون ثلث الثلث(2)..
3. روي أنّه سئل عن رجل أوصى بماله في سبيل الله، فقال: أعطه لمن أوصى به له، وإن كان يهوديا أو نصرانيا، إن الله تعالى يقول: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(3)..
4. روي عن حجاج الخشاب، قال سألت الإمام الصادق عن امرأة أوصت إلي بمال أن يجعل في سبيل الله، فقيل لها: نحج به؟ فقالت: اجعله في سبيل الله، فقالوا لها: نعطيه آل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قالت: اجعله في سبيل الله، فقال الإمام الصادق أنّه قال: اجعله في سبيل الله كما أمرت، قلت: مرني كيف أجعله؟ قال: (اجعله كما أمرتك، إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أرأيتك لو أمرتك ان تعطيه يهوديا كنت تعطيه نصرانيا!؟)(4).
5. روي أنّه سئل عن رجل أوصى بحجة، فجعلها وصيه في نسمة، فقال: يغرمها وصيه، ويجعلها في حجة كما أوصى به، فإن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾(5)..
6. روي أنّه سئل عن رجل أوصي له بوصية، فمات قبل أن يقبضها ولم يترك عقبا، قال: اطلب له وارثا أو مولى فادفعها إليه، فإن الله يقول: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾، قيل: إن الرجل كان من أهل فارس، دخل في الإسلام، لم يسم، ولا يعرف له ولي؟ قال: اجهد أن تقدر له على ولي، فإن لم تجده وعلم الله منك الجهد، تتصدق بها(6)..
7. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 182]: يعني إذا اعتدى في الوصية، إذا ازداد على الثلث(7)..
8. روي أنّه قال: إذا أوصى الرجل بوصية، فلا يحل للوصي أن يغير وصية يوصيها، بل يمضيها على ما أوصى، إلا أن يوصي بغير ما أمر الله، فيعصي في الوصية ويظلم، فالموصى إليه جائز له أن يرده إلى الحق مثل رجل يكون له ورثة، فيجعل المال كله لبعض ورثته ويحرم بعضا، فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق، وهو قوله تعالى: ﴿جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ والجنف: الميل إلى بعض ورثته دون بعض، والإثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران واتخاذ المسكر، فيحل للوصي أن لا يعمل بشيء من ذلك(8)..
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/76.
(2) من لا يحضره الفقيه: 4/175.
(3) الكافي: 7/14.
(4) الكافي: 7/15.
(5) الكافي: 7/22.
(6) تفسير العياشي: 1/77.
(7) علل الشرائع: 567/4.
(8) تفسير القمّي: 1/65.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) أنّه قال: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، يعني: المؤمنين(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٠.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ يعني: فرض عليكم، نظيرها: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾، يعني: فرض، نظيرها أيضا: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِم﴾، يعني: ما فرضناها عليهم، يعني: الرهبانية(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾، يعني: تفضيل الوالدين على الأقربين في الوصية، وليوص للأقربين بالمعروف، والذين لا يرثون(1)..
3. روي أنّه قال: تلك الوصية: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، فمن لم يوص لقرابته عند موته فقد ختم عمله بالمعصية(1)..
4. روي أنّه قال: أي: إن جار الميت في وصيته عمدا أو خطأ، فلم يعدل، فخاف الوصي أو الولي من جور وصيته؛: ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُم﴾ بين الورثة بالحق والعدل، ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ حين خالف جور الميت، ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ للمصلح، ﴿رَحِيمٌ﴾ به؛ إذ رخص في مخالفة جور الميت(2)..
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٥٩.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٥٩ ـ: ١٦٠.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ بلغنا: أن الرجل إذا أوصى لم تغير وصيته، حتى نزلت: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُم﴾، فرده إلى الحق(1)..
__________
(1) عبد الرزاق في المصنف: ١٦٤٥٧.
مالك:
روي عن مالك بن أنس (ت 179 هـ) أنّه قال في هذه الآية: إنها منسوخة، قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ نسخها ما نزل من قسمة الفرائض في كتاب الله تعالى(1)..
__________
(1) مالك في الموطأ: ٢/٣١٤.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿جَنَفًا﴾ ميلا، والإثم: ميله لبعض على بعض، وكله يصير إلى واحد، كما يكون عفوا غفورا، وغفورا رحيما(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ الجنف: أن يجنف لبعضهم على بعض في الوصية، والإثم: أن يكون قد أثم في أثرته بعضهم على بعض(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ الآية، فنسخ الله ذلك كله، وفرض الفرائض(3)..
4. روي أنّه قال: فعجز الموصي أن يوصي للوالدين والأقربين كما أمر الله تعالى، وعجز الوصي أن يصلح؛ فانتزع الله تعالى ذلك منهم، ففرض الفرائض(4)..
5. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ الجنف: أن يجنف لبعضهم على بعض في الوصية، والإثم: أن يكون قد أثم في أثرته بعضهم على بعض، ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُم﴾ الموصى إليه بين الوالدين وبين الابن، والبنون هم الأقربون، فلا إثم عليه، فهذا الوصي الذي أوصى إليه بذلك، وجعل إليه، فرأى هذا قد جنف لهذا على هذا، فأصلح بينهم؛ فلا إثم عليه، فعجز الموصي أن يوصي كما أمره الله تعالى، وعجز الموصى إليه أن يصلح، فانتزع الله ذلك منه، ففرض الفرائض(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٥١.
(2) ابن جرير: ٣/١٤٦.
(3) ابن جرير: ٣/١٣١.
(4) تفسير الثعلبي: ٢/٦٠.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ تكلموا فيه بأوجه:
أ. قيل: إنه منسوخ بما بين عزّ وجل في آية أخرى من حق الميراث.
ب. ومنهم من قال: لم ينسخ، ثم قيل: فيه بوجهين:
• قيل: إنه قد كان ذلك؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد في الإسلام، يسلم الرجل ولا يسلم أبواه، فقوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾ إنما وقع على من كان لا يرث.
• ومنهم من يقول: بأنها كانت للوارث ولم ينسخ، وإنما يقع الأمر في غير من يرث ممن ذكر، لكن في ذلك ذكر (كتب)، وذلك إيجاب، ولا يحتمل أن يفرض عليهم صلتهم مع التحذير عن اتخاذهم أولياء بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ﴾ [التوبة: 223]، وقوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: 22]، وفى إلزام الفرضية من حيث المعروف إبقاء الموالاة وإلزام المحبة، وقد حذر وجود ذلك؛ فثبت أن الآية فيمن يتوارثون اليوم لكنها نسخت.
• ومنهم من يقول: لا، ولكنه وقع على من كان يرث وعلى من كان لا يرث بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ فهو كان مكتوبا عليهم مفروضا في حق الوصاية.
2. من رأى نسخه استدلّ بقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11]، ذكر فيه الوصاية على بيان كل ذي حق حقه، فليس الذي أوصى الله يمنع وصايته التي كتب عليهم.
3. لكن في الآية دليل لم ينسخ بهذه لوجهين:
أ. أحدهما: قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ فهو وصيته ذكره كذكر الوصاية في الأول، ففيه جعل حق كالحق المجعول لهم إذا لم يذكر ذلك الوصية مع الميراث ثم نفاه.
ب. والوجه الآخر: أنّه قال ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: 12]، فجعل حكم الإرث على ذكر الوصية، والإرث بعد الوصية؛ فبان أن لها حكم البقاء.
4. ثم قيل فيه بوجهين:
أ. قال قائلون: قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11]، لم يكن ميراثا، ولا هو من أهل الميراث، فحدوث الإرث لا يمنع حق القطع عنه بالمكتوب الأول.
ب. ومنهم من جعل ذلك فيمن كان وارثا، فورود البيان من بعد يقطع عنه المكتوب له.
5. ثم من الناس من ادعى نسخ هذا بقوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: 7]، ولو جعل الوصية له ما جعل الله لهم فيه من النصيب خص به الكثير دون القليل؛ فثبت أن ذلك (الكتاب) رفع عنهم مما جعل لهم الحق في الذي قل أو كثر.
6. الوجه فيه عندنا: هو أنه إن لم يكن نسخ بهذه الآيات، على ما قاله بعض الناس، فهو منسوخ بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)، فبين أنه قد كان أعطى ذا حق حقه على رفع ما كانت لهم من الوصاية فيه.
7. اختلفوا في الخبر الذي روى: (إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث):
أ. قال قائلون: فلا يجوز ورود النسخ على الآية؛ إذ السنة لا ترد على نسخ الكتاب.. والجواب عنه سبق القول فيه، أن الذي حملهم على هذا هو جهلهم بموقع النسخ، وإلا لو علموه ما أنكروه، وهو ما قلنا: إن النسخ بيان منتهى الحكم إلى الوقت المجعول له.
ب. وقال آخرون: لا، ولكنه من أخبار الآحاد، وأخبار الآحاد، على قولكم، لا ترد على نسخ خبر مثله، فكيف على كتاب رب العالمين؟.. والجواب عنه أن الأصل في هذا أن يقال: إنه من حيث الرواية من الآحاد، ومن حيث علم العمل به متواتر، ومن أصلنا: أن المتواتر بالعمل هو أرفع خبر يعمل، إذ المتواتر المتعارف قرنا بقرن مما عمل الناس به لم يعملوا به، إلا لظهوره، وظهوره يغنى الناس عن روايته، لما علموا خلوه عن الخفاء، ولهذا يقول في الخبر الذي جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع)، فترد به الخبر المروى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه من أخبار الآحاد، هو من حيث الرواية من الآحاد، ولكنه من حيث تواتر الناس للعمل به صار بحيث يوجب علم العمل، فما لم يجز أن يجتمع الأمة على شيء علموا كله من كتاب أو سنة غير ما ورد، فيكونوا قد اجتمعوا على تضييع كتاب أو سنة، فكذا هذا، لا يجوز أن يجتمع الناس على ترك الوصية للوارث، وثم كتاب نسخه أو سنة أخرى يلزم العمل به؛ فلهذا قضينا بنسخه.
8. قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قيل فيه بوجهين:
أ. يحتمل: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ هذه الوصاية المكتوبة للوالدين، إن كان هذا أراد بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ﴾ الآية، فإنما إثمه عليه.
ب. ويحتمل: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ الوصية ﴿بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ من الموصى ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾، ثم يحتمل بعد هذا وجهين:
• يحتمل: أنه أراد تبديل الوصى بعد موت الموصى.
• ويحتمل: تبديل من حضر الوصى ذلك الوقت من الشهود وغيره.
9. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ أي سميع لمقالته ووصايته، و﴿عَلِيمٌ﴾ بجوره وظلمه، أو ﴿عَلِيمٌ﴾ بتبديله، والله أعلم.
10. ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قيل: فيه بوجهين:
أ. يحتمل: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ أي علم من الموصى ظلما وجورا على الورثة بالزيادة على الثلث، ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في تبديله ومنعه ورده إلى الثلث وقت وصاية الموصى.
ب. ويحتمل: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ أي علم من الموصى خطأ وجورا بعد وفاته بالوصية، ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في تبديله ورده إلى ما يجوز من ذلك ويصح، وهو الواجب على الأوصياء أن يعملوا بما يجوز في الحكم، وإن كان الموصى أوصى بخلاف ما يجيزه الحكم ويوجبه.. قال الشيخ : وكان صرف (الخوف) إلى (العلم) أولى؛ إذ هو تبديل الوصية وقد نهى عنه وأذن به للجور، فإذا لم يعلم فهو تبديل بلا عذر، وقد يخفف للخوف حق العلم إذا غلب الوجه فيه، كما أن أذن للإكراه إظهار الكفر، وذلك في حقيقته خوف عما في التحقيق على العلم بغلبته وجه الوفاء في ذلك.
11. ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ يعنى بين الورثة بعد موت الموصى، ورد ما زاد على الثلث بين الورثة على قدر أنصبائهم.
12. قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: لجور الموصى وظلمه إذا بدل الوصى ذلك ورده إلى الحق.
ب. ويحتمل: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لمن رد على الموصى جنفه وميله في حال وصايته.
13. الأصل في أمر الوصاية للوارث، أن آيات المواريث لم تكن نزلت في أول ما بهم حاجة إلى معرفة ذلك، فيجوز أن يكون في الابتداء كانت الوصايا بالحق الذي اليوم هو ميراث، يبين ذلك ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ابنتي سعد، الذي قتل بأحد، وقد كان استولى عمهما على ميراثه، فسألت أمهما عن ذلك، فقال: لم ينزل فيه شيء، ثم دعاهما، وأعطاهما ما بين الله في كتابه في قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ الآية [النساء: 11]، وكذلك كان للنساء الحول في تركة الأزواج وصية لهن؛ فعلى ذلك كان الأمر بالوصية، فقال الله عزّ وجل: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ [النساء: 11] كالمبين بما كان قد أوجب التبيين على الميت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)، ومما يبين ذلك أنه معلوم أن تكون الوصية للوارث ليست تثبت فيما هي له؛ لأنه اليوم فيكون حصول الوصية بنصيب بعض الورثة على ذلك الوجه لا يجوز وصية الميت لأحد، فكذلك للورثة، وهذا يبين أنها كانت في وقت لم يبين الميراث، فلا يكون الوصية لمن تثبت له وصية بنصيب غيره في التحقيق، فكان يجوز، ثم بطل ببيان السنة، إذ ليس في متلو القرآن حقيقة ذلك، وإنما يكون بحق الانتزاع منه والنسخ، ومعناه بالانتزاع أبعد عن الاحتمال منه بالسنة، ولا قوة إلا بالله، ثم حق التواتر عندنا يقع بظهور العمل بالشيء على غير ظهور المنع منهم، والتكثير عليهم في الفعل، ثم القول أيضا من الأئمة بالفتوى به بلا تنازع ظهر فيهم مع ما قد ذكر الله في المواريث: ﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ﴾ [النساء: 12]، وتخصيص الورثة قصد مضارة بغيره، واستعمال الرأي فيما قد تولى قسمه على غير الذي قسم.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/17.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾
أ. قيل: نزلت لما كانوا يوصون الأبعد طلباً للفخر ويعدلون عن الأقربين فأوجب الله تعالى في صدر الإسلام الوصية لهؤلاء منعاً له عما اعتادوه.
ب. وقيل: كان الخيار للموصي في ماله فأمر أن لا يتعدى بوصية هؤلاء فيصل إليهم بتمليكه.
2. ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فمن خاف يحتمل إذا أوصى واستقرت الوصية ومات الموصي وخاف العدول عن الحق في إمضائه أصلحه فيزول الخطأ، الجنف الميل في الأمور والعدول عن الاستواء قال ابن عباس والجنف إذا زاد على الثلث وقيل أن يعدل في الوصية عن الطريق المشروع وهو الوجه.
3. ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾:
أ. قيل: المصلح هو الوصي.
ب. وقيل: الولاة.
ج. وقيل: المتوسط.
د. وقيل: الشاهد بينهم.
والإصلاح أن يرد الآمر إلى حقه فلا إثم عليه بل هو محسن يستحق الأجر.
4. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يعني إذا كان يغفر الذنوب ويرحم المذنب فبأن يكون كذلك ولا ذنب عليه أولى.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/96.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي فرض عليكم، وقوله تعالى: ﴿إِذَا حَضَرَ﴾ ليس يريد به ذكر الوصية عند حلول الموت، لأنه في شغل عنه، ولكن تكون العطية بما تقدم من الوصية عند حضور الموت.
2. ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، والخير: المال في قول الجميع، قال مجاهد: الخير في القرآن كله المال، ﴿إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8] أي المال، ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾، [ص: 32] ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: 33] وقال شعيب: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ [هود: 84] يعني الغنى والمال.
3. اختلف أهل العلم في ثبوت حكم هذه الآية:
أ. فذهب الجمهور من التابعين والفقهاء إلى أن العمل بها كان واجبا قبل فرض المواريث، لئلا يضع الرجل ماله في البعداء طلبا للسمعة والرياء، فلما نزلت آية المواريث في تعيين المستحقين، وتقدير ما يستحقون، نسخ بها وجوب الوصية ومنعت السنّة من جوازها للورثة.
ب. وقال آخرون: كان حكمها ثابتا في الوصية للوالدين، والأقربين حق واجب، فلما نزلت آي المواريث وفرض ميراث الأبوين نسخ بها الوصية للوالدين وكل وارث، وبقي فرض الوصية للأقربين الذين لا يرثون على حالة، وهذا قول الحسن، وقتادة، وطاووس وجابر بن زيد، فإن أوصى بثلثه لغير قرابته، فقد اختلف قائلو هذا القول في حكم وصيته على ثلاثة مذاهب:
• أحدها: أن يرد ثلث الثلث على قرابته ويكون ثلثا الثلث لمن أوصى له به، وهذا قول قتادة.
• الثاني: أن يرد ثلثا الثلث على قرابته ويكون ثلث الثلث لمن أوصى له به، وهذا قول جابر بن زيد.
• الثالث: أنه يرد الثلث كله على قرابته، وهذا قول طاووس.
4. اختلف في قدر المال الذي يجب عليه أن يوصي منه على ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه ألف درهم، تأويلا لقوله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ أن الخير ألف درهم وهذا قول عليّ.
ب. الثاني: من ألف درهم إلى خمسمائة درهم، وهذا قول إبراهيم النخعي.
ج. الثالث: أنه غير مقدر وأن الوصية تجب في قليل المال وكثيره، وهذا قول الزهري.
5. قوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ يحتمل قوله بالمعروف وجهين:
أ. أحدهما: بالعدل الوسط الذي لا بخس فيه ولا شطط.
ب. الثاني: يعني بالمعروف من ماله دون المجهول.
6. ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ يعني بالتقوى من الورثة أن لا يسرف، والأقربين أن لا يبخل:
أ. قال ابن مسعود: الأجل فالأجل، يعني الأحوج فالأحوج، وغاية ما لا سرف فيه: الثلث، لقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (الثلث والثلث كثير)
ب. وروى الحسن أن أبا بكر وعمر ما وصّيا بالخمس، وقالا: يوصي بما رضي الله لنفسه: بالخمس، وكان يقول: الخمس معروف، والربع جهد، والثلث غاية ما تجيزه القضاة.
7. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ يعني فمن غيّر الوصيّة بعد ما سمعها، وإنما جعل اللفظ مذكرا وإن كانت الوصية مؤنثة لأنه أراد قول الموصي، وقوله مذكر، ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ أي يسمعونه ويعدلون به عن مستحقه، إما ميلا أو خيانة، وللميت أجر قصده وثواب وصيته، وإن غيّرت بعده.
8. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لقول الموصي، عليم بفعل الوصي.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ على خمسة أقاويل:
أ. أحدها: أن تأويله فمن حضر مريضا، وهو يوصي عند إشرافه على الموت، فخاف أن يخطئ في وصيته، فيفعل ما ليس له أو أن يتعمد جورا فيها، فيأمر بما ليس له، فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه، أن يصلح بينه وبين ورثته، بأن يأمره بالعدل في وصيته، وهذا قول مجاهد.
ب. الثاني: أن تأويلها فمن خاف من أوصياء الميت جنفا في وصيته، فأصلح بين ورثته وبين الموصى لهم فيما أوصي به لهم حتى رد الوصية إلى العدل، فلا إثم عليه، وهذا قول ابن عباس، وقتادة.
ج. الثالث: أن تأويلها فمن خاف من موص جنفا أو إثما في عطيته لورثته عند حضور أجله، فأعطى بعضا دون بعض، فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك، وهذا قول عطاء.
د. الرابع: أن تأويلها فمن خاف من موص جنفا، أو إثما في وصيته لغير ورثته بما يرجع نفعه إلى ورثته فأصلح بين ورثته، فلا إثم عليه، وهذا قول طاووس.
هـ. الخامس: أن تأويلها فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جنفا على بعضهم لبعض، فأصلح بين الآباء والأقرباء، فلا إثم عليه، وهذا قول السدي.
10. في قوله تعالى: ﴿جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: أن الجنف الخطأ، والإثم العمد، وهذا قول السدي.
ب. الثاني: أن الجنف الميل، والإثم أن يكون قد أثم في أثرة بعضهم على بعض، وهذا قول عطاء وابن زيد.
11. الجنف في كلام العرب هو الجور والعدول عن الحق، ومنه قول الشاعر:
çهم المولى وهم جنفوا علينا...وإنا من لقائهم لزورé
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/232.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا ابتداء قصة، ولابد فيه من واو العطف، بان يقال: وكتب، لانه حذف اختصارا وقد بينا فيما مضى: أن معنى كتب فرض، وهاهنا معناه الحث والترغيب دون الفرض، والايجاب.
2. في الاية دلالة على أن الوصية جائزة للوارث، لانه قال الوالدين، والاقربين. والوالدان وارثان بلا خلاف إذا كانا مسلمين حرين غير قاتلين:
أ. ومن خص الاية بالكافرين، فقد قال: قولا بلا دليل.
ب. ومن ادعى نسخ الاية فهو مدع لذلك، ولا يسلم له نسخها، وبمثل ما قلناه قال محمد بن جرير الطبري سواء، فان ادعوا الاجماع على نسخها، كان ذلك دعوى باطلة ونحن نخالف في ذلك، وقد خالف في نسخ الاية طاووس، فانه خصها بالكافرين، لمكان الخبر ولم يحملها على النسخ، وقد قال أبومسلم محمد بن بحر: إن هذه الاية مجملة، وآية الموارث مفصلة، وليست نسخا، فمع هذا الخلاف كيف يدعى الاجماع على نسخها.
ج. ومن ادعى نسخها، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا وصية لوارث، فقد أبعد، لان هذا اولا خبر واحد لا يجوز نسخ القرآن به إجماعا، وعندنا لا يجوز العمل به في تخصيص عموم القرآن.
د. وادعاؤهم أن الامة أجمعت على الخبر دعوى عارية من برهان، ولو سلمنا الخبر جاز أن نحمله على أنه لا وصية لوارث فيما زاد على الثلث، لانا لو خلينا وظاهر الاية لاجزنا الوصية بجميع ما يملك للوالدين والاقربين، لكن خص ما زاد على الثلث لمكان الاجماع.
هـ. أما من قال: إن الاية منسوخة بآية الميراث فقوله بعيد عن الصواب، لان الشئ إنما ينسخ غيره: إذا لم يمكن الجمع بينهما، فأما اذا لم يكن بينهما تناف ولا تضاد بل أمكن الجمع بينهما، فلا يجب حمل الاية على النسخ، ولا تنافي بين ذكر ما فرض الله للوالدين وغيرهم من الميراث، وبين الامر بالوصية لهم على جهة الخصوص، فلم يجب حمل الآية على النسخ، وقول من قال حصول الإجماع على أن الوصية ليست فرضاً يدل على أنها منسوخة باطل، لأن إجماعهم على أنها لا تفيد الفرض، لا يمتنع من كونها مندوباً إليها ومرغّباً فيها، ولأجل ذلك كانت الوصية للوالدين، والأقربين الذين ليسوا بوارث ثابتة بالآية ولم يقل أحد أنها منسوخة في خبرهم.
و. ومن قال إن النسخ من الآية ما يتعلق بالوالدين، وهو قول الحسن والضحاك، فقد قال قولا ينافي ما قاله مدعي نسخ الآية ـ على كل حال ـ ومع ذلك فليس الأمر على ما قال لأنه لا دليل على دعواه، وقال طاووس: إذا وصى لغير ذي قرابة لم تجز وصيته، وقال الحسن: ليست الوصية إلا للأقربين وهذا الذي قالاه عندنا وإن كان غير صحيح، فهو مبطل قول من يدعي نسخ الآية، وإنما قلنا أنه ليس بصحيح، لأن الوصية لغير الوالدين، والأقربين عندنا جائزة، ولا خلاف بين الفقهاء في جوازها، والوصية لا تجوز بأكثر من الثلث إجماعاً، والأفضل أن يكون بأقل من الثلث، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: والثلث كثير، وأحق من وصي له من كان أقرب الى الميت إذا كانوا فقراء ـ بلا خلاف ـ وإن كانوا أغنياء، فقال الحسن وعمرو بن عبيد: هم أحق بها، وقال ابن مسعود، وواصل الأحقّ بها الأجوع، فالأجوع من القرابة.
3. ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ يعنى مالا، واختلفوا في مقداره الذي يجب الوصية عنده:
أ. فقال الزهري: كلما وقع عليه اسم مال من قليل أو كثير.
ب. وقال ابراهيم النخعي: الف درهم الى خمسمائة.
ج. وروي عن علي عليه السلام أنه دخل على مولى لهم في مرضه، وله سبع مائة درهم أو ستمائة، فقال: ألا أوصي، فقال: لا إنما قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وليس لك كبير مال، وبهذا نأخذ، لأن قوله حجة عندنا.
4. الوصية في الآية مرفوعة بأحد أمرين:
أ. أحدهما: ب ﴿كُتُبٌ﴾، لأنه لم يسم فاعله.
ب. الثاني: أن يكون العامل فيه الابتداء وخبره للوالدين، والجملة في موضع رفع على الحكاية بمنزلة قيل لكم: الوصية للوالدين.
5. ﴿إِذَا﴾ والعامل فيه قولان:
أ. أحدهما: كتب على معنى إذا حضر أحدكم الموت أي عند المرض.
ب. والوجه الآخر قال الزجاج، لأنه رغب في حال صحته أن يوصي، فتقديره كتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف في حال الصحة قائلين: إذا حضرنا الموت فلفلان كذا.
6. المعروف: هو العدل الذي لا يجوز أن ينكر ولا حيف فيه ولا جور والحضور وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك، وليس معناه في الآية إذا حضره الموت أي إذا عاين الموت، لأنه في تلك الحال في شغل عن الوصية، لكن المعنى كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الإنسان: إذا حضرني الموت أي إذا أنا مت، فلفلان كذا.
7. الحق: هو الفعل الذي لا يجوز إنكاره، وقيل ما علم صحته سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقاداً وهو مصدر حقّ يحق حقاً وانتصب في الآية على المصدر وتقديره أحق حقاً وقد استعمل على وجه الصفة.. بمعنى ذي الحق، كما وصف بالعدل ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ معناه على الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصيه، وامتثال أوامره.
8. الهاء في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ عائدة على الوصية، وإنما ذكرّ حملا على المعنى، لأن الإيصاء والوصية واحد، والهاء في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ﴾ عائدة على التبديل الذي دلّ عليه قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾، وقال الطبري: الهاء تعود على محذوف، لأن عودها على الوصية المذكورة لا يجوز، لأن التبديل إنما يكون لوصية الموصي، فأما أمر الله عز وجل بالوصية، فلا يقدر هو، ولا غيره أن يبدله قال الرماني: وهذا باطل، لأن ذكر الله الوصية إنما هو لوصية الموصي، فكأنه قيل: كتب عليكم وصية مفروضة عليكم، فالهاء تعود الى الوصية المفروضة التي يفعلها الموصي.
9. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ التبديل: هو تغيير الشيء عن الحق فيه، فأما البدل، فهو وضع شيء مكان آخر، ومن أوصى بوصية في ضرار فبدلها الوصي، لا يأثم، وقال ابن عباس: من وصى في ضرار لم تجز وصيته لقوله ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾
10. الوصي إذا بدّل الوصية لم ينقص من أجر الموصي شيء، كما لو لم تبدّل، لأنه لا يجازى أحد على عمل غيره، لكن يجوز أن يلحقه منافع الدعاء، والإحسان الواصل الى الموصى له، على غير وجه الأجر له، لكن على وجه الجزاء لغيره ممن وصل إليه ذلك الإحسان، فيكون ما يلحق المحسن إليه من ذلك أجراً له، يصح بما يصل الى المحسن إليه من المنفعة.
11. في الآية دلالة على بطلان مذهب من قال إن الطفل يعذب بكفر أبويه، لأن الله تعالى بين وجه العدل في هذا، وقياس العدل في الطفل ذلك القياس، فمن هناك دل على الحكم فيه.
12. وفيها ايضاً دلالة على بطلان قول من يقول: إن الوارث إذا لم يقبّض دين الميت أنه يؤخذ به في قبره أو في الآخرة، لما قلنا من أنه دلّ على أن العبد لا يؤاخذ بجرم غيره وأن لا إثم عليه بتبديل غيره، وكذلك لو قضى عنه الوارث من غير أن يوصي به الميت لم يزل عقابه بقضاء الوارث عنه إلا أن يتفضل بإسقاطه عنه.
13. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ معناه سميع لما قاله الموصى من العدل، أو الجنف، عليم بما يفعله الوصي من التبديل أو التصحيح، فيكون ذكر ذلك داعياً الى طاعته.
14. سؤال وإشكال: كيف قال ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ﴾ لما قد وقع، والخوف إنما يكون لما لم يقع؟ والجواب: فيه قولان:
أ. أحدهما: إنه خاف أن يكون قد زلّ في وصيته، فالخوف للمستقبل، وذلك الخوف هو أن يظهر ما يدل على أنه قد زلَّ، لأنه من جهة غالب الظن.
ب. الثاني: لما اشتمل على الواقع، وما لم يقع جاز فيه (خاف) ذلك فيأمره بما فيه الصلاح، وما وقع رده الى العدل بعد موته.
15. الجنف: الجور، وهو الميل عن الحق، وقال الحسن: هو أن يوصي من غير القرابة، قال: فمن أوصى لغير قرابته رد الى أن يجعل للقرابة الثلثان، ولمن أوصى له الثلث، وهذا باطل عندنا، لأن الوصية لا يجوز صرفها عن من وصي له، وإنما قال الحسن ذلك لقوله إن الوصية للقرابة واجبة، وعندنا(2). إن الامر بخلافه على ما بيناه.
16. الجنف: قال صاحب العين: الجنف: الميل في الكلام والأمور كلها، تقول: جنف علينا فلان، وأجنف في حكمه، وهو مثل الحيف إلا ان الحيف من الحاكم خاصه، والجنف عام، ومنه قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ﴾ أي متمايل: متعمد، ورجل أجنف: في أحد شقيه ميل على الآخر، وقال ابن دريد: جنف يجنف جنفاً إذا صدّ عن الحق وأصل الباب: الميل عن الاستواء، قال الشاعر في الجنف:
çهم المولى وإن جنفوا علينا...وإنا من لقائهم لزورé
17. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ﴾:
أ. قيل: لو جنف الموصي في وصيته للوصي أن يردها الى العدل، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام، وبه قال الحسن، وقتادة، وطاووس.
ب. وقال قوم، واختاره الطبري: ان قوله ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ﴾ في حال مرضه الذي يريد أن يوصي فيه، ويعطي بعضاً، ويضر ببعض، فلا إثم أن يشير عليه بالحق، ويرده الى الصواب ويسرع في الإصلاح بين الموصي، والورثة، والموصى له حتى يكون الكل راضين، ولا يحصل جنف، ولا ظلم، ويكون قوله ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ يريد فيما يخاف من حدوث الخلاف فيه ـ فيما بعد ـ ويكون قوله ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ على ظاهره، فيكون مترقباً غير واقع.
وهذا قريب ايضاً، غير أن الأول أصوب، لأن عليه أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
18. إنما قيل للمتوسط بالإصلاح ليس عليه إثم ولم يقل فله الأجر على الإصلاح، لأن المتوسط إنما يجري أمره في الغالب على أن ينقص صاحب الحق بعض حقه بسؤاله إياه، فاحتاج الى أن يبين الله لنا أنه لا إثم عليه في ذلك إذا قصد الإصلاح، والذي اقتضى قوله ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ انه إذا كان يغفر المعصية، فإنه لا يجوز أن يؤاخذ بما ليس بمعصية مما بين أنه لا إثم عليه.
19. الضمير في قوله ﴿بَيْنَهُمْ﴾ عائد على معلوم بالدلالة عليه عند ذكر الوصي، والإصلاح، لأنه قد دلّ على الموصى لهم ومن ينازعهم وأنشد الفراء ـ في مثل ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾:
çأعمى إذا ما جارتي خرجت...حتى يواري جارتي الخدر
ويصمّ عمّا كان بينهما...سمعي وما بي غيره وقرé
أراد بينها وبين زوجها، وإنما ذكرها وحدها، وأنشد أيضاً:
çوما أدري إذا يممت وجهاً...أريد الخير أيهما يليني
هل الخير الذي أنا أبتغيه...أم الشر الذي لا يأتلينيé
فكنى في البيت الأول عن الشر، وإنما ذكر الخير وحده، وقيل: بل يعود على مذكور، هم الوالدان والأقربون.
20. الضمير في قوله تعالى: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ عائد على الوصي ـ في قول الحسن ـ ويجوز أن يعود على المصلح المذكور في (من)
21. ﴿جَنَفًا﴾ وإنما يريد بالجنف: الميل عن الحق عن جهة الخطأ، لأنه لا يدري أنه لا يجوز، والإثم: أن يتعمد ذلك، وهو معنى قول ابن عباس، والحسن، والضحاك، والسدي، وروي ذلك عن أبي جعفر.
22. الجنف في الوصية: أن يوصي الرجل لابن ابنته، وله أولاد، أو يوصي لزوج بنته، وله أولاد، فلا يجوز رده على وجه عندنا، وخالف فيه ابن طاووس، وكذلك إن وصى للبعيد دون القريب لا تردّ وصيته، وخالف فيه الحسن.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/109.
(2) يقصد الإمامية.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. كُتب: فُرض، ومنه الصلاة المكتوبة، وأصله من الكتابة، وقد بينا.
ب. المعروف هو الذي لا يجوز أن يُنكَر.
ج. التبديل: تغيير الشيء بِوَضْع غيره موضعه، والبدل: وضع الشيء مكان آخر، ومنه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ﴾
د. الجنف: الميل في الكلام والأمور كلها، وأصله العدول عن الاستواء، يقال: جَنِفَ يَجْنَفُ جَنَفًا.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. قيل: كانوا يوصون للأبعد طلبًا للفخر، ويعدلون عن الأقربين، فأوجب الله تعالى في صدر الإسلام الوصية لهَؤُلَاءِ منعًا لهم عما اعتادوه، عن الأصم.
ب. وقيل: كان الخيار للموصي في ماله، فأمر ألا يتعدى بوصيته هَؤُلَاءِ، فيصل إليهم بتمليكه، ولذلك لما نزلت الآية آية المواريث قال، صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)
3. ثم بَيَّنَ تعالى شريعة أخرى وهو الوصية، فقال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾:
أ. قيل: يعني فرض عليكم ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ يعني أسباب الموت من مرض ونحوه، عن أكثر أهل العلَم.
ب. وقيل: فرض عليكم الوصية في حال الصحة أن تقولوا: إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا، عن الأصم.
4. ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ أي مالاً، واختلفوا:
أ. فقيل: يجب في القليل والكثير، عن الزهري.
ب. وقال غيره: لا بد من مقدار، وهو قول أكثر أهل العلم، قال القاضي: اتفقوا على إثبات قدر منه إلا من لا يعتد بِقَدْرِهِ؛ لأنه لا يقال لمن ترك درهمًا: إنه ترك خيرًا، فلا بد من قدر، ثم اختلفوا في ذلك القدر، فقيل: ألف درهم، عن قتادة، وقيل: من ألف إلى خمسمائة، عن النخعي، وقيل: ثمانمائة درهم، عن ابن عباس، وقيل: أربعة آلاف درهم، عن علي كرّم الله وجهه، وروي عنه في رجل ترك تسعمائة أنه قال: لم يترك خيرًا فيوصي، وعن عائشة أربعمائة دينار قليل.
ج. وقيل: إنه على قدر حال الرجل، وقال القاضي، وهو الأصح؛ لأنه بمقدار من المال يوصف المرء أنه غني، وبذلك القدر لا يوصف غيره بحسب كثرة العيلة والنفقة، وعلى هذا مجمل قول علي وابن عباس وعائشة.
5. ﴿الْوَصِيَّةِ﴾ هي التي فرض وكتبت ﴿لِلْوَالِدَيْنِ﴾ للأب وللأم، ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ قرابة الميت الأقرب فالأقرب، وهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وجبت لهم الوصية.
6. قوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل أن يرجع إلى قدر ما يوصى؛ لأن من يملك المال العظيم فأوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف.
ب. ويحتمل أن يرجع إلى الموصى لهم فيميز من الأقربين من يوصى له ممن لا يوصى، فكأنه أمر بالوصية بالطريقة الجميلة، إن سوّى أو فضل؛ لأنه ليس من المعروف أن يوصي للغني ويترك الفقير، وأن يسوي بين بني العم والوالدين.
ج. فالواجب حمله عليهما، فيكون المعروف في قدر الوصية والموصى لهم.
7. ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ تأكيدًا في وجوبه يعني حقًّا واجبًا لمن آثر التقوى.
8. لما ذكر تعالى الوصية عقبها بذكر الوعيد في تغييرها، فقال تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ يعني: بدل الوصية وغيرها عما أوصى ﴿بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ من الموصِي، أو من الشهود والأولياء، وذكر السماع ليدل على أن الوعيد لا يلزم إلا بعد العلم والسماع ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ﴾ يعني إثم التبديل.
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾:
أ. قيل: الوصي.
ب. وقيل: الشاهد.
ج. وقيل: الجميع؛ لأنهم دخلوا في أنهم سمعوا ذلك.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:
أ. قيل: سميع لجميع المسموعات عليم بجميع المعلومات، عن أبي علي.
ب. وقيل: سميع لشهادتهم، عليم بما يعملون، عن الأصم.
ج. وقيل: سميع للوصية، عليم بصفتها، لا يخفى عليه شيء منها.
د. وقيل: سميع لما قاله الموصي من العدل أو الجور، عليم بما يفعله الوصي من التصحيح أو التبديل.
هـ. وقيل: سميع لوصاياكم عليم بنياتكم.
11. لما تقدم الوعيد لمن بدل الوصية بين في هذه الآية أن ذلك يلزم من بدل حقًّا إلى باطل، فأما من بدل باطلاً إلى حق فهو يحسن، قال تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ وقيل: خشي، وقيل: علم: ﴿مِنْ مُوصٍ﴾ يعني الذي أوصى به هو الميت.
12. سؤال وإشكال: إذا كان الخوف إنما يصح في أمر منتظر، والوصية وقعت، فكيف علق بالخوف؟ وكيف يصلح؟ والجواب: فيه وجوه:
أ. يحتمل: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ أي إذا خاف وهو يشاوره في الوصية، وظهرت أمارات الميل عن الحق فأصلح، عن مجاهد.
ب. ويحتمل إذا أوصى ومَالَ عن الحق، وخاف أن يستمر أصلحه ليفسخه، ويوصي على طريقة الحق.
ج. ويحتمل إذا أوصى واستقرت الوصية، ومات الموصي، وخاف العدول عن الحق في إمضائه أصلح ليقع بين الورثة الموصى لهم مصالحة، فيزول الخطأ، عن ابن عباس وقتادة.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾:
أ. قيل: جنفًا: ميلاً عن الحق على جهة الخطأ والتأويل ﴿أَوْ إِثْمًا﴾ تعمدًا لذلك، عن ابن عباس ومجاهد.
ب. وقيل: ميلاً، عن عطاء وقتادة.
14. واختلفوا في الجنف والإثم:
أ. فقيل: إذا زاد على الثلث، عن ابن عباس.
ب. وقيل: أن يعدل عن موضع الوصية، فيوصي لغير قرابته، عن الحسن، وقيل: أن يوصي لابن ابنه، كيلا يكون المال لابنه، عن طاووس.
ج. وقيل: أن يعدل عن الطريق المشروع، وهو الوجه.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾:
أ. قيل: المصلح هو الوصي.
ب. وقيل: الولاة.
ج. وقيل: المتوسط.
د. وقيل: الشاهد بينهم.
هـ. وقيل: بين أهل الوصايا.
و. وقيل: بين أهل الوصية، وأهل الميراث.
16. الإصلاح أن يَرُدَّ الأمر إلى حقه بالإصلاح والتوسط ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي لا حرج عليه، قيل: على الوصي، وقيل: على المتوسط.
17. سؤال وإشكال: لِمَ قال: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، وهو محسن يستحق الأجر؟ والجواب:
أ. قيل: لما بين إثم المبدل وهو أيضًا ضرب من التبديل في الإصلاح بين مخالفته للأول، وأنه لا إثم عليه؛ لأنه رد الوصية إلى العدل.
ب. وقيل: لما كان المصلح ينقض الوصايا، وذلك يصعب على الموصى له، ويوهم فيه إثما أزال الشبهة، وقال: ﴿ لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، عن أبي علي.
ج. وقيل: بين أن بالوصية والإشهاد لا يتحتم ذلك، وأنه متى غير إلى الحق، وإن خالف وصيته فلا إثم عليه.
18. ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يعني، إذا كان يغفر الذنوب، ويرحم المذنب فَلأن يكون كذلك ولا ذنب أولى.
19. اختلفوا في الوصية للمذكورين:
أ. فمنهم من قال: كان واجبًا، وهو: الوجه بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾ ولقوله تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ وكلا اللفظين ينبئ على الوجوب، ثم أكد الوجوب بقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾
ب. ومنهم من قال: كان ندبًا.
20. اختلفوا في الآيات الكريمة على ثلاثة أوجه:
أ. فمنهم من قال: إنها منسوخة في الكل، وعليه أكثر الفقهاء.
ب. ومنهم من قال: ثابت في الكل.
ج. ومنهم من قال: منسوخة فيمن يرث، ثابتة فيمن لا يرث.
21. اختلفوا بأي دليل نسخ:
أ. قيل: بآية المواريث.
ب. وقيل: بالسنة وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿ لا وصية لوارث﴾ ونسخ القرآن بالسنة جائز.
ج. وقيل: بالإجماع، عن أبي علي، وعنده يجوز النسخ بالإجماع.
د. وقيل: بقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، قال أبو بكر الرازي: نسخت بآية المواريث؛ لأنه تعالى قال: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ وظاهره يقتضي إذا لم يكن وصية أن المال مصروف إلى الورثة، ولو كانت الوصية واجبة لكان إذا لم يوص لم تسقط، ولأنها لو كانت واجبة لوجبت في حال الصحة، ولأنه لا يأمن أن يأتيه الموت بغتة، وهذا لا قائل به.
22. اختلفوا فيمن لا يرث من الوالدين والأقربين:
أ. قيل: الوصية واجبة لهَؤُلَاءِ، عن ابن عباس والحسن وطاووس والضحاك وغيرهم.
ب. وقيل: لا تجب فيهم، وهي منسوخة، عن علي وعائشة وابن عمر وعكرمة ومجاهد والسدي.
23. يدل قوله تعالى: ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ على أنها كانت واجبة للأقارب، واختلفوا:
أ. فقيل: الأقرب إليه وإن كانوا أغنياء، عن الحسن وعمرو بن عبيد.
ب. وقيل: الأحوج، عن ابن مسعود وواصل بن عطاء.
24. استدل بعضهم بقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ على أن الكفار لا يخاطبون بالشرائع، وهذا لا يصح؛ لأن في الآية وجوبها على المتقين، وليس فيها أنها لا تجب على غيرهم، وقد ثبت أنه مكلف، والخطاب يتناوله، ولا خلاف أنه يحد بالزنا، ويقطع في السرقة، ويقتل قصاصًا، فلو لم يكن مكلفًا بترك هذه الأفعال ما وجب عليه ذلك كالمجنون والصبي.
25. سؤال وإشكال: مِلك الوارث، وملك الموصى له من جهة الميت أم لا؟ وهل هي عقلية أم شرعية؟ والجواب: هي أحكام شرعية تملك الورثة من جهة الله تعالى لا من جهة الميت، وكذلك الموصى له إلا أنه يعتبر شرطه، فيجوز أن يعتبر شرطه بعد زوال ملكه لوجه من المصلحة، كما قلنا في الأقارب.
26. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المتعلقة بأحكام الوصايا التي ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
27. تدل الآيات الكريمة على:
أ. وجوب الوصية للمذكورين.
ب. أن العقوبة لا يستحقها إلا من يتولى العمل، فيبطل قول الْمُجْبِرَة في عذاب أطفال الكفار، والعقوبة بغير ذنب.
ج. بطلان قول من يقول: إن الميت يعذب إذا قصر الوصي في تنفيذ وصاياه، أو قضاء ديونه.
د. حظر التبديل من الوصي والشاهد، وذلك يكون بزيادة أو نقصان أو تحويل أو إشراك أو تغيير صفة من الوصي، وكذلك من الشاهد؛ لأنه بشهادته تثبت.
هـ. أن الوعيد لا يلزم إلا بعد السماع، فوجب الفرق بين مَنْ بدَّلَ ولم يسمع، أو بدل وقد سمع.
و. أن الواجب على الوصي تنفيذ الوصية من دون حكم حاكم، فإذا نفذ ولم يبدل فقد أدى ما وجب.
ز. جواز الصلح في الحقوق، ولا خلاف أن الصلح عقد جائز ورد الشرع به، ثم الصلح على ثلاثة أوجه:
• الأول: صلح على الإقرار، وهو جائز بالإجماع، وأحكامه تشبه أحكام البياعات.
• والثاني: الصلح مع السكوت فيجوز عند أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وقال الشافعي: لا يجوز.
• والثالث: الصلح على الإنكار فيجوز عند أبي حنيفة، ولا يجوز عند الشافعي.
ح. أن الجنف في الوصية محظور، والجنف أن يزيد على القدر المأذون فيه في الشرع، أو لا يوصي بما يلزمه الوصية به، أو ينقص عن القدر الواجب، أو يوصي لمن يحب، وتقديم غيره عليه، أو يفاضل، والواجب التسوية، وجميع ذلك يرجع إلى ثلاثة أشياء: ميل في قَدْرِهِ، وميل في صفته، وميل في موضعه، وفي الجميع يجب الإصلاح.
ط. أن تغيير الوصية إلى الإصلاح جائز، بل قد يجب ذلك.
ي. إلحاق الوعيد بالموصي إذا مال عن الحق.
ك. الجنفِ مِنه؛ لذلك ألحق الوعيد به.
28. قراءات وحجج:
أ. قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب: ﴿مُوصٍ﴾ بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، وهما لغتان، وصَّى وأوصى بمعنى.
ب. قراءة العامة: ﴿جَنَفًا﴾ بالجيم، وروي عن علي ﴿ حيفًا﴾ بالحاء والياء، ويحمل على أنه فسر به الجنف.
29. مسائل نحوية:
أ. في رفع: ﴿الْوَصِيَّةِ﴾ وجهان: أحدهما: أنه اسم ما لم يسم فاعله، والعامل فيه ﴿كُتِبَ﴾، الثاني: العامل فيه الابتداء وخبره: ﴿لِلْوَالِدَيْنِ﴾، والجملة في موضع رفع على الحكاية كأنه قيل: لكم الوصية.
ب. العامل في: ﴿إِذَا﴾ قيل فيه وجهان: أحدهما: ﴿كُتِبَ﴾ كأنه قيل: كتب عند المرض، الثاني: قال الزجاج: كتب عليكم الوصية في حال الصحة قائلين: إذا حضرنا الموت فلفلان كذا.
ج. ﴿حَقًّا﴾ نصب على المصدر أي حق ذلك حقًّا، وقيل: على المفعول أي جعل الوصية حقًّا، وقيل: على القطع من الوصية على المتقين.
د. الهاء في قوله تعالى: ﴿بَدِّلْهُ﴾ يرجع إلى الوصية؛ لأنه بمنزلة الإيصاء، كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي: وعظ، وقيل: هو كناية عما أوصى به الميت، وقيل: الوصية قول، فلذلك ذكر الكتابة عن المفضل، وقيل: فمن بدل الأمر المتقدم، فأما الهاء في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ﴾ فيرجع على التبديل المدلول عليه بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾
هـ. الضمير في قوله تعالى: ﴿بَيْنَهُمْ﴾ يرجع على معلوم بالدلالة، وهم الموصى لهم ومَنْ نازعهم، وقيل: على الوالدين والأقربين، والضمير في قوله تعالى: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ يرجع على الموصي، وقيل: على المصلح، وهو مذكور في المعنى.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/745.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المعروف هو العدل الذي لا يجوز أن ينكر، ولا حيف فيه ولا جور.
ب. الحضور: وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك.
ج. الحق هو الفعل الذي لا يجوز إنكاره، وقيل: هو ما علم صحته سواء كان قولا أو فعلا أو اعتقادا، وهو مصدر حق يحق حقا.
د. الجنف: الجور، وهو الميل عن الحق، وقال صاحب العين: هو الميل في الكلام، وفي الأمور كلها، يقال: جنف علينا فلان، وأجنف في حكمه، وهو مثل الحيف إلا أن الحيف في الحكم خاصة، والجنف عام، ورجل أجنف: في أحد شقيه ميل على الآخر، قال الشاعر في الجنف:
çإني امرؤ منعت أرومة عامر... ضيمي. وقد جنفت علي خصومé
2. ثم بين سبحانه شريعة أخرى، وهو الوصية، فقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أي: فرض عليكم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾:
أ. قيل: أي: أسباب الموت من مرض ونحوه من الهرم، ولم يرد إذا عاين البأس، وملك الموت، لأن تلك الحالة تشغله عن الوصية.
ب. وقيل: فرض عليكم الوصية في حال الصحة أن تقولوا: إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا.
4. ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ أي: مالا، واختلف في المقدار الذي يجب الوصية عنده:
أ. فقال الزهري: في القليل والكثير مما يقع عليه اسم المال.
ب. وقال إبراهيم النخعي: من ألف درهم إلى خمسمائة.
ج. وقال ابن عباس: إلى ثمانمائة درهم.
د. وروي عن علي عليه السلام أنه دخل على مولى له في مرضه، وله سبعمائة أو ستمائة درهم، فقال: ألا أوصي؟ فقال: لا، إن الله سبحانه قال: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وليس لك كثير مال، وهذا هو المأخوذ به عندنا لأن قوله حجة.
5. ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ أي: الوصية لوالديه وقرابته ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾:
أ. أي: بالشيء الذي يعرف أهل التمييز أنه لا جور فيه ولا حيف.
ب. ويحتمل أن يرجع ذلك إلى قدر ما يوصي، لأن من يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم، فلم يوص بالمعروف.
ج. ويحتمل أن يرجع إلى الموصى لهم، فكأنه أمر بالطريقة الجميلة في الوصية، فليس من المعروف أن يوصي للغني، ويترك الفقير، ويوصي للقريب، ويترك الأقرب منه.
د. ويجب حمله على كلا الوجهين.
6. ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ أي: حقا واجبا على من آثر التقوى، وهذا تأكيد في الوجوب.
7. اختلف في هذه الآية، وهل هي منسوخة أم لا:
أ. قيل: إنها منسوخة.
ب. وقيل: إنها منسوخة في المواريث ثابتة في غير الوارث.
ج. وقيل: إنها غير منسوخة أصلا، وهو الصحيح عند المحققين من أصحابنا(2). لأن:
• من قال إنها منسوخة بآية المواريث، فقوله باطل بأن النسخ بين الخبرين، إنما يكون إذا تنافى العمل بموجبهما، ولا تنافي بين آية المواريث وآية الوصية، فكيف تكون هذه ناسخة بتلك مع فقد التنافي.
• ومن قال إنها منسوخة بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا وصية لوارث) فقد أبعد، لأن الخبر لو سلم من كل قدح، لكان يقتضي الظن، ولا يجوز أن ينسخ كتاب الله تعالى الذي يوجب العلم اليقين بما يقتضي الظن.
• ولو سلمنا الخبر مع ما ورد من الطعن على رواية لخصصنا عموم الآية، وحملناها على أنه لا وصية لوارث بما يزيد على الثلث لأن ظاهر الآية يقتضي أن الوصية جائزة لهم بجميع ما يملك.
• وقول من قال حصول الاجماع على أن الوصية ليست بفرض، يدل على أنها منسوخة، يفسد بأن الاجماع إنما هو على أنها لا تفيد الفرض، وذلك لا يمنع من كونها مندوبا إليها، مرغبا فيها.
• وقد روى أصحابنا عن أبي جعفر عليه السلام سئل: هل تجوز الوصية للوارث؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية، وروى السكوني عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي عليه السلام، قال: (من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث، فقد ختم عمله بمعصية)
• ومما يؤيد ما ذكرناه ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (من لم يحسن وصيته عند موته، كان نقصا في مروءته وعقله)، وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت إلا ووصيته تحت رأسه)
8. ثم أوعد سبحانه على تغيير الوصية، فقال: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ أي: بدل الوصية وغيرها من الأوصياء، أو الأولياء، أو الشهود، وإنما ذكر حملا على الإيصاء، كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي: وعظ.
9. التبديل: تغيير الشيء عن الحق فيه، بأن يوضع غيره في موضعه (بعدما سمعه) من الموصي الميت، وإنما ذكر السماع ليدل على أن الوعيد لا يلزم إلا بعد العلم والسماع، ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ﴾ أي إثم التبديل ﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ أي: على من يبدل الوصية، وبرئ الميت.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:
أ. قيل: أي: سميع لما قاله الموصي من العدل أو الجنف، عليم بما يفعله الوصي من التصحيح أو التبديل.
ب. وقيل: سميع لوصاياكم، عليم بنياتكم.
ج. وقيل: سميع بجميع المسموعات، عليم بجميع المعلومات.
11. في هذه الآية دلالة على:
أ. أن الوصي أو الوارث، إذا فرط في الوصية أو غيرها، لا يأثم الموصي بذلك، ولم ينقص من أجره شيء، فإنه لا يجازى أحد على عمل غيره.
ب. بطلان قول من يقول: إن الوارث إذا لم يقض دين الميت، فإنه يؤخذ به في قبره أو في الآخرة، لما قلناه من أنه يدل على أن العبد لا يؤاخذ بجرم غيره، إذ لا إثم عليه بتبديل غيره، وكذلك لو قضى عنه الوارث من غير أن يوصي به، لم يزل ذلك عقابه إلا أن يتفضل الله بإسقاطه عنه.
12. لما تقدم الوعيد لمن بدل الوصية، بين في هذه الآية ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أن ذلك يلزم من غير حقا بباطل، فأما من غير باطلا بحق فهو محسن.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾:
أ. قيل: أي: خشي.
ب. وقيل: علم لأن في الخوف طرفا من العلم، وذلك أن القائل إذا قال: أخاف أن يقع أمر كذا، فكأنه يقول: أعلم، وإنما يخاف لعلمه بوقوعه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾
14. ﴿مِنْ مُوصٍ جَنَفًا﴾ أي: ميلا عن الحق فيما يوصي به.
15. سؤال وإشكال: كيف قال: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ لما قد وقع، والخوف إنما يكون لما لم يقع؟ والجواب: إن فيه قولين:
أ. أحدهما: إنه خاف أن يكون قد زل في وصيته، فالخوف يكون للمستقبل، وهو من أن يظهر ما يدل على أنه قد زل، لأنه من جهة غالب الظن.
ب. الثاني: إنه لما اشتمل على الواقع، وعلى ما لم يقع، جاز فيه خاف، فيأمره بما فيه الصلاح، فيما لم يقع، وما وقع رده إلى العدل بعد موته.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا﴾:
أ. قال الحسن: الجنف هو أن يوصي به في غير قرابة، وإنما قال ذلك لأن عنده الوصية للقرابة واجبة، والأمر بخلافه، وعليه أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
ب. وقيل: المراد ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ﴾ في حال مرضه الذي يريد أن يوصي ﴿جَنَفًا﴾ وهو أن يعطي بعضا، ويضر ببعض، ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أن يشير عليه بالحق، ويرده إلى الصواب، ويصلح بين الموصي والورثة، والموصى له، حتى يكون الكل راضين، ولا يحصل جنف ولا إثم، ويكون قوله تعالى: ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: فيما يخاف بينهم من حدوث الخلاف فيه، فيما بعد، ولكون قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ على ظاهره، ويكون الخوف مترقبا غير واقع، وهذا قريب.
ج. وروي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ أنه بمعنى إذا اعتدى في الوصية، وزاد على الثلث، وروي ذلك عن ابن عباس، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنه قال: (من حضره الموت، فوضع وصيته على كتاب الله، كان ذلك كفارة لما ضيع من زكاته في حياته)
17. ﴿أَوْ إِثْمًا﴾ الإثم أن يكون الميل عن الحق على وجه العمد، والجنف: أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري أنه يجوز، وهو معنى قول ابن عباس والحسن، وروي ذلك عن أبي جعفر عليه السلام.
18. ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: بين الورثة والمختلفين في الوصية، وهم الموصى لهم: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ لأنه متوسط مريد للإصلاح، وإنما قال: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ ولم يقل يستحق الأجر:
أ. لأن المتوسط إنما يجري أمره في الغالب على أن ينقص صاحب الحق بعض حقه بسؤاله إياه، فبين سبحانه لنا أنه لا إثم عليه في ذلك إذا قصد الإصلاح.
ب. وقيل إنه لما بين إثم المبدل، وهذا أيضا ضرب من التبديل بين مخالفته للأول بكونه غير مأثوم برده الوصية إلى العدل.
19. ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: يعني إذا كان يغفر الذنوب، ويرحم المذنب، فأولى وأحرى أن يكون كذلك، ولا ذنب.
20. قرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب: ﴿مُوصٍ﴾ بالتشديد، وقرأ الباقون: ﴿مُوصٍ﴾ بالتخفيف.
21. مسائل نحوية:
أ. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾: المعنى وكتب عليكم إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو، وعلم أن معناه معنى الواو، لأن القصة الأولى قد استتمت، وفي القصة الثانية ذكر مما في الأولى، فاتصلت هذه بتلك لأجل الذكر.
ب. والوصية ارتفعت لأحد وجهين: إما بأنه اسم ما لم يسم فاعله، وهو كتب.. وإما بأنه مبتدأ وقوله تعالى: ﴿لِلْوَالِدَيْنِ﴾: خبره، والجملة في موضع رفع على الحكاية، لأن معنى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ قيل لكم الوصية للوالدين.
ج. في العامل في إذا وجهان: أحدهما: كتب فكأنه قيل: كتب عليكم الوصية وقت المرض والآخر: ما قاله الزجاج وهو: إن الوصية رغب فيها في حال الصحة، فتقديره كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، قائلين إذا حضرنا الموت فلفلان كذا.
د. ﴿حَقًّا﴾: نصب على المصدر وتقديره أحق ذلك حقا، وقد استعمل على وجه الصفة بمعنى ذي الحق، كما وصف بالعدل، فعلى هذا يكون نصبا على الحال، ويجوز أن يكون مصدر كتب من غير لفظه، تقديره كتب كتابا.
هـ. ﴿مِنَ﴾ في قوله تعالى: ﴿مِنْ مُوصٍ﴾: يتعلق بمحذوف تقديره: فمن خاف جنفا كائنا من موص، فموضع الجار والمجرور مع المحذوف، نصب على الحال، وذو الحال قوله تعالى: ﴿جَنَفًا﴾
و. بين: ظرف مكان لأصلح، والضمير في: ﴿بَيْنَهُمْ﴾ عائد إلى معلوم بالدلالة عليه عند ذكر الموصي والإصلاح، لأنه يدل على الموصى لهم، ومن ينازعهم، وأنشد الفراء في مثله:
çأعمى إذا ما جارتي خرجت... حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما... سمعي، وما بي غيره وقرé
أراد بينها وبين زوجها، وإنما ذكرها وحدها.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/483.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾، قال الزجّاج: المعنى: وكتب عليكم، إلّا أنّ الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو، وعلم أنّ معناه معنى الواو، وليس المراد: كتب عليكم أن يوصي أحدكم عند الموت، لأنّه في شغل حينئذ، وإنّما المعنى: كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصيّة، فيقول الرجل: إذا أنا متّ، فلفلان كذا.
2. الخير هاهنا هو المال في قول الجماعة، وفي مقدار المال الذي تقع هذه الوصيّة ستة أقوال:
أ. أحدها: أنه ألف درهم فصاعدا، روي عن عليّ، وقتادة.
ب. الثاني: أنه سبعمائة درهم فما فوقها، رواه طاووس عن ابن عباس.
ج. الثالث: ستون دينارا فما فوقها، رواه عكرمة عن ابن عباس.
د. الرابع: أنه المال الكثير الفاضل عن نفقة العيال، قالت عائشة لرجل سألها: إني أريد الوصيّة، فقالت: كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال أربعة، قالت: هذا شيء يسير، فدعه لعيالك.
هـ. الخامس: أنه من ألف درهم إلى خمسمائة، قاله إبراهيم النّخعيّ، و.
و. السادس: أنه القليل والكثير، رواه معمر عن الزّهريّ، فأمّا المعروف؛ فهو الذي لا حيف فيه.
3. هل كانت الوصيّة ندبا أو واجبة؟ فيه قولان:
أ. أحدهما: أنها كانت ندبا.
ب. الثاني: أنها كانت فرضا، وهو أصحّ، لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾، ومعناه: فرض.
4. العلماء متّفقون على نسخ الوصيّة للوالدين والأقربين الذين يرثون، وهم مختلفون في الأقربين الذين لا يرثون: هل تجب الوصيّة لهم؟ على قولين، أصحّهما أنها لا تجب لأحد، واختلف في الناسخ:
أ. قال ابن عمر: نسخت هذه الآية بآية الميراث.
ب. وقال ابن عباس: نسخها: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾،
5. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾، قال الزجّاج: من بدّل أمر الوصيّة بعد سماعه إيّاها، فإنّما إثمه على مبدّله، لا على الموصي، ولا على الموصى له ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لما قد قاله الموصي ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يفعله الموصى إليه.
6. ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ﴾، في المراد بالخوف هاهنا قولان:
أ. أحدهما: أنه العلم.
ب. الثاني: نفس الخوف، فعلى الأوّل؛ يكون الجور قد وجد، وعلى الثاني: يخشى وجوده.
7. الجنف: الميل عن الحقّ، قال الزجّاج: جنفا، أي: ميلا، أو إثما؛ أي قصد الإثم، وقال ابن عباس: الجنف: الخطأ، والإثم: التّعمّد، إلّا أنّ المفسّرين علّقوا الجنف على المخطئ، والإثم على العامد، وفي توجيه هذه الآية قولان:
أ. أحدهما: أنّ معناها: من حضر رجلا يموت، فأسرف في وصيّته؛ أو قصّر عن حقّ، فليأمره بالعدل، وهذا قول مجاهد.
ب. الثاني: أنّ معناها: من أوصى بجور، فردّ وليّه وصيّته، أو ردّها من أئمّة المسلمين إلى كتاب الله وسنّة نبيّه؛ فلا إثم عليه، وهذا قول قتادة.
8. ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾، أي: بين الذين أوصى لهم، ولم يجر لهم ذكر، غير أنّه لمّا ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أنّ هناك موصى له، وأنشد الفرّاء:
çوما أدري إذا يمّمت أرضا...أريد الخير أيّهما يليني!؟
ألخير الذي أنا أبتغيه...أم الشّرّ الذي هو يبتغينيé
فكنّى في البيت الأوّل عن الشّر بعد ذكره الخير وحده، لما في مفهوم اللفظ من الدّلالة.
__________
(1) زاد المسير: 1/140.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ يقتضي الوجوب على ما بيناه، أما قوله: ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ فليس المراد منه معاينة الموت، لأن في ذلك الوقت يكون عاجزا عن الإيصاء ثم ذكروا في تفسيره وجهين.
أ. الأول: وهو اختيار الأكثرين أن المراد حضور أمارة الموت، وهو المرض المخوف، وذلك ظاهر في اللغة، يقال فيمن يخاف عليه الموت: إنه قد حضره الموت كما يقال لمن قارب البلد إنه قد وصل، وهو أولى لوجهين:
• أحدهما: أن الموصي وإن لم يذكر في وصيته الموت جاز.
• الثاني: هو الظاهر، وإذا أمكن ذلك لم يجز حمل الكلام على غيره.
ب. الثاني: قول الأصم أن المراد فرض عليكم الوصية في حالة الصحة بأن تقولوا: إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا قال القاضي.
2. ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ لا خلاف أنه المال هاهنا والخير يراد به المال في كثير من القرآن كقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾، ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ﴾، ﴿مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، وهاهنا قولان:
أ. أحدهما: أنه لا فرق بين القليل والكثير، وهو قول الزهري، فالوصية واجبة في الكل، واحتج عليه بوجهين:
• الأول: أن الله تعالى أوجب الوصية فيما إذا ترك خيرا، والمال القليل خير، يدل عليه القرآن والمعقول، أما القرآن فقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، وأيضا قوله تعالى: ﴿لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص:] وأما المعقول فهو أن الخير ما ينتفع به، والمال القليل كذلك فيكون خيرا.
• الثاني: أن الله تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر، بدليل قوله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾، فوجب أن يكون الأمر كذلك في الوصية.
ب. الثاني: وهو أن لفظ الخير في هذه الآية مختص بالمال الكثير، واحتجوا عليه بوجوه:
• أن من ترك درهما لا يقال: إنه ترك خيرا، كما يقال: فلان ذو مال، فإنما يراد تعظيم ماله ومجاوزته حد أهل الحاجة، وإن كان اسم المال قد يقع في الحقيقة على كل ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير، وكذلك إذا قيل: فلان في نعمة، وفي رفاهية من العيش، فإنما يراد به تكثير النعمة، وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله، وهذا باب من المجاز مشهور وهو نفي الاسم عن الشيء لنقصه، كما قد روي من قوله: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، وقوله: (ليس بمؤمن من باب شبعانا وجاره جائع)، ونحو هذا.
• لو كانت الوصية واجبة في كل ما ترك، سواء كان قليلا، أو كثيرا، لما كان التقييد بقوله: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ كلاما مفيدا، لأن كل أحد لا بد وأن يترك شيئا ما، قليلا كان أو كثيرا، أما الذي يموت عريانا ولا يبقى معه كسرة خبر، ولا قدر من الكرباس الذي يستر به عورته، فذاك في غاية الندرة.
3. إذا ثبت أن المراد هاهنا من الخير المال الكثير، فذاك المال هل هو مقدر بمقدار معين محدود أم لا فيه قولان:
أ. الأول: أنه مقدر بمقدار معين، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا:
• فروي عن علي أنه دخل على مولى لهم في الموت، وله سبعمائة درهم، فقال أولا أوصي، قال لا إنما قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وليس لك كثير مال.
• وعن عائشة أن رجلا قال لها: إني أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال أربعة قالت: قال الله ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل.
• وعن ابن عباس إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصي وعن قتادة ألف درهم، وعن النخعي من ألف وخمسمائة درهم.
ب. الثاني: أنه غير مقدر بمقدار معين، بل يختلف دلك باختلاف حال الرجال، لأن بمقدار من المال يوصف المرء بأنه غني، وبذلك القدر لا يوصف غيره بالغنى لأجل كثرة العيال وكثرة النفقة.
4. لا يمتنع في الإيجاب أن يكون متعلقا بمقدار مقدر بحسب الاجتهاد، فليس لأحد أن يجعل فقد البيان في مقدار المال دلالة على أن هذه الوصية لم تجب فيها قط بأن يقول لو وجبت لوجب أن يقدر المال الواجب فيها.
5. إنما قال ﴿كُتِبَ﴾: لأنه أراد بالوصية الإيصاء، ولذلك ذكر الضمير في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ [البقرة: 181] وأيضا إنما ذكر للفصل بين الفعل والوصية، لأن الكلام لما طال كان الفاصل بين المؤنث والفعل، كالعوض من تاء التأنيث، والعرب تقول حضر القاضي امرأة، فيذكرون لأن القاضي بين الفعل وبين المرأة.
6. رفع الوصية من وجهين:
أ. أحدهما: على ما لم يسم فاعله.
ب. الثاني: على أن يكون مبتدأ وللوالدين الخبر، وتكون الجملة في موضع رفع بكتب، كما تقول قيل عبد الله قائم، فقولك عبد الله قائم جملة مركبة من مبتدأ وخبر، والجملة في موضع رفع بقيل.
7. ثم لما بين الله تعالى أن الوصية واجبة، بين بعد ذلك أنها واجبة لمن فقال: ﴿لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، وفيه وجهان:
أ. الأول: قال الأصم: إنهم كانوا يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشرف، ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة، فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصية لهؤلاء منعا للقوم عما كانوا اعتادوه وهذا بين.
ب. الثاني: قال آخرون إن إيجاب هذه الوصية لما كان قبل آية المواريث، جعل الله الخيار إلى الموصي في ماله وألزمه أن لا يتعدى في إخراجه ماله بعد موته عن الوالدان والأقربين فيكون وأصلا إليهم بتمليكه واختياره، ولذلك لما نزلت آية المواريث قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)، فبين أن ما تقدم كان وأصلا إليهم بعطية الموصي، فأما الآن فالله تعالى قدر لكل ذي حق حقه، وأن عطية الله أولى من عطية الموصي، وإذا كان كذلك فلا وصية لوارث ألبتة، فعلى هذا الوجه كانت الوصية من قبل واجبة للوالدين والأقربين.
8. اختلفوا في قوله تعالى: ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ على أقوال:
أ. الأول: قال قائلون: هم الأولاد، فعلى هذا أمر الله تعالى بالوصية للوالدين و الأولاد وهو قول عبد الرحمن بن زيد عن أبيه.
ب. الثاني: وهو قول ابن عباس ومجاهد أن المراد من الأقربين من عدا الوالدين.
ج. الثالث: أنهم جميع القرابات من يرث منهم ومن لا يرث، وهذا معنى قول من أوجب الوصية للقرابة، ثم رآها منسوخة.
د. الرابع: هم من لا يرثون من الرجل من أقاربه، فأما الوارثون فهم خارجون عن اللفظ.
9. قوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به.
ب. ويحتمل أن يكون المراد منه تمييز من يوصى له من الأقربين ممن لا يوصى.
10. كلا الوجهين يدخل في المعروف، فكأنه تعالى أمره في الوصية أن يسلك الطريق الجميلة، فإذا فاضل بينهم، فبالمعروف وإذا سوى فكمثل، وإذا حرم البعض فكمثل لأنه لو حرم الفقير وأوصى للغني لم يكن ذلك معروفا، ولو سوى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفا، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الأخوة لم يكن ما يأتيه معروفا، فالله تعالى كلفه الوصية على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش، وذلك من باب ما يعلم بالعادة فليس لأحد أن يقول: لو كانت الوصية واجبة لم يشترط تعالى فيه هذا الشرط، الذي لا يمكن الوقوف عليه لما بينا.
11. قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ زيادة في توكيد وجوبه، فقوله تعالى: ﴿حَقًّا﴾ مصدر مؤكد، أي حق ذلك حقا.
12. سؤال وإشكال: ظاهر قوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ يقتضي تخصيص هذا التكليف بالمتقين دون غيرهم، والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أن المراد بقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ أنه لازم لمن آثر التقوي، وتحراه وجعله طريقة له ومذهبا فيدخل الكل فيه.
ب. الثاني: أن هذه الآية تقتضي وجوب هذا المعنى على المتقين، والإجماع دل على أن الواجبات والتكاليف عامة في حق المتقين وغيرهم، فبهذا الطريق يدخل الكل تحت هذا التكليف.
13. اختلفوا في هذه الوصية:
أ. منهم من قال كانت واجبة، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾ وبقوله تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ﴾ وكلا اللفظين ينبئ عن الوجوب، ثم إنه تعالى أكد ذلك الإيجاب بقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، وهؤلاء اختلفوا:
• منهم من قال هذه الآية صارت منسوخة.
• ومنهم من قال إنها ما صارت منسوخة، وهذا اختيار أبي مسلم الأصفهاني
ب. ومنهم، من قال كانت ندبا.
14. استدل من قال بأن الوصية واجبة وليست منسوخة بوجوه:
أ. أحدها: أن هذه الآية ما هي مخالفة لآية المواريث ومعناها كتب عليكم ما أوصى به الله تعالى من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11] أو كتب على المختصر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم وأن لا ينقص من أنصبائهم.
ب. ثانيها: أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية بالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت، فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.
ج. ثالثها: لو قدرنا حصول المنافاة لكان يمكن جعل آية الميراث مخصصة لهذه الآية، وذلك لأن هذه الآية توجب الوصية للأقربين، ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث، ويبقى القريب الذي لا يكون وارثا داخلا تحت هذه الآية، وذلك لأن من الوالدين من يرث، ومنهم من لا يرث، وذلك بسبب اختلاف الدين والرق والقتل ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة من لا يرث بهذه الأسباب الحاجة، ومنهم من يسقط في حال ويثبت في حال، إذا كان في الواقعة من هو أولى بالميراث منهم، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم فكل من كان من هؤلاء وارثا لم يجز الوصية له، ومن لم يكن وارثا جازت الوصية له لأجل صلة الرحم، فقد أكد الله تعالى ذلك بقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1] وبقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل: 90]
15. القائلون بأن الآية منسوخة اختلفوا في أنها بأي دليل صارت منسوخة، وذكروا وجوها:
أ. أحدهما: أنها صارت منسوخة بإعطاء الله تعالى أهل المواريث كل ذي حق حقه فقط، وهذا بعيد لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوب قدر آخر بالوصية وأكثر ما يوجبه ذلك التخصيص لا النسخ بأن يقول قائل: إنه لا بد وأن تكون منسوخة فيمن لم يختلف إلا الوالدين من حيث يصير كل المال حقا لهما بسبب الإرث فلا يبقى للوصية شيء إلا أن هذا تخصيص لا نسخ.
ب. ثانيها: أنها صارت منسوخة بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا لا وصية لوارث)، وهذا أقرب إلا أن الإشكال فيه أن هذا خبر واحد فلا يجوز نسخ القرآن به، وأجيب عن هذا السؤال بأن هذا الخبر وإن كان خبر واحد إلا أن الأمة تلقته بالقبول فالتحق بالمتواتر، ولقائل أن يقول: يدعى أن الأمة تلقته بالقبول على وجه الظن أو على وجه القطع، و الأول مسلم إلا أن ذلك يكون إجماعا منهم على أنه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به، و الثاني ممنوع لأنهم لو قطعوا بصحته مع أنه من باب الآحاد لكانوا قد أجمعوا على الخطأ وأنه غير جائز.
ج. ثالثها: أنها صارت منسوخة بالإجماع والإجماع لا يجوز أن ينسخ به القرآن، لأن الإجماع يدل على أنه كان الدليل الناسخ موجودا إلا أنهم اكتفوا بالإجماع من ذكر ذلك الدليل، ولقائل أن يقول: لما ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ فكيف يدعى انعقاد الإجماع على حصول النسخ؟
د. رابعها: أنها صارت منسوخة بدليل قياسي وهو أن نقول: هذه الوصية لو كانت واجبة لكان عندما لم توجد هذه الوصية وجب أن لا يسقط حق هؤلاء الأقربين قياسا على الديون التي لا توجد الوصية بها لكن عندما لم توجد الوصية لهؤلاء الأقربين لا يستحقون شيئا، بدليل قوله تعالى في آية المواريث: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: 11] وظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم تكن وصية ولا دين، فالمال أجمع مصروف إلى أهل الميراث، ولقائل أن يقول: نسخ القرآن بالقياس غير جائز.
16. القائلون بأن هذه الآية صارت منسوخة اختلفوا على قولين:
أ. منهم من قال إنها صارت منسوخة في حق من يرث وفي حق من لا يرث وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء.
ب. ومنهم من قال إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث، وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاووس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى، قال الضحاك: من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية، وقال طاووس: إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب، فعند هؤلاء أن هذه الآية بقيت دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثا، وحجة هؤلاء من وجهين:
• الأولى: أن هذه الآية دالة على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق الوارث القريب، إما بآية المواريث وإما بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ألا لا وصية الوارث) أو بالإجماع على أنه لا وصية للوارث، وهاهنا الإجماع غير موجود مع ظهور الخلاف فيه قديما وحديثا، فوجب أن تبقى الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثا.
• الثانية: قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما حق امرئ مسلم له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)، وأجمعنا على أن الوصية لغير الأقارب غير واجبة، فوجب أن تكون هذه الوصية الواجبة مختصة بالأقارب، وصارت السنة مؤكدة للقرآن في وجوب هذه الوصية.
17. القائلون بأن هذه الآية ما صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثا، اختلفوا في موضعين.
أ. الأول: نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء، وقال الحسن البصري: هم الأغنياء سواء.
ب. الثاني: روي عن الحسن وخالد بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه: يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة وثلث الثلث لمن أوصي له وعن طاووس أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزعت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب.
18. ثم لما ذكر الله تعالى أمر الوصية ووجوبها، وعظم أمرها، أتبعه بما يجري مجرى الوعيد في تغييرها، قال: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
19. في المبدل في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: وهو المشهور أنه هو الوصي أو الشاهد أو سائر الناس:
• أما الوصي فبأن يغير الوصي الوصية إما في الكتابة وإما في قسمة الحقوق.
• وأما الشاهد فبأن يغير شهادة أو يكتمها.
• وأما غير الوصي والشاهد فبأن يمنعوا من وصول ذلك المال إلى مستحقة.
فهؤلاء كلهم داخلون تحت قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾
ب. الثاني: أن المنهي عن التغيير هو الموصي نهى عن تغيير الوصية عن المواضع التي بين الله تعالى بالوصية إليها، وذلك لأنا بينا أنهم كانوا في الجاهلية يوصون للأجانب ويتركون الأقارب في الجوع والضر، فالله تعالى أمرهم بالوصية للأقربين، ثم زجر بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ من أعرض عن هذا التكليف.
20. الكناية في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ عائد إلى الوصية، مع أن الكناية المذكورة مذكورة والوصية مؤنثة، وذكروا فيه وجوها:
أ. أحدها: أن الوصية بمعنى الإيصاء ودالة عليه، كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ﴾ [البقرة: 275] أي وعظ، والتقدير فمن بدل ما قاله الميت، أو ما أوصى به أو سمعه عنه.
ب. ثانيها: قيل الهاء راجعة إلى الحكم والفرض والتقدير فمن بدل الأمر المقدم ذكره.
ج. ثالثها: أن الضمير عائد إلى ما أوصى به الميت فلذلك ذكره، وإن كانت الوصية مؤنثة.
د. رابعها: أن الكناية تعود إلى معنى الوصية وهو قول أو فعل.
هـ. خامسها: أن تأنيث الوصية ليس بالحقيقي فيجوز أن يكنى عنها بكناية المذكر.
21. قوله تعالى: ﴿بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ يدل على أن الإثم إنما يثبت أو يعظم بشرط أن يكون المبدل قد علم ذلك، لأنه لا معنى للسماع لو لم يقع العلم به، فصار إثبات سماعه كإثبات علمه.
22. كلمة (إنما) في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ للحصر والضمير في قوله تعالى: ﴿إِثْمُهُ﴾ عائد إلى التبديل، والمعنى: أن إثم ذلك التبديل لا يعود إلا إلى المبدل.
23. استدل العلماء بهذه الآية على أحكام:
أ. أحدها: أن الطفل لا يُعذب على كفر أبيه.
ب. ثانيها: أن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه، ثم إن الوارث قصر فيه بأن لا يقضي دينه فإن الإنسان الميت لا يعذب بسبب تقصير ذلك الوارث خلافا لبعض الجهال.
ج. ثالثها: أن الميت لا يعذب ببكاء غيره عليه، وذلك لأن هذه الآية دالة على أن إثم التبديل لا يعود إلا إلى المبدل، فإن الله تعالى لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره وتتأكد دلالة هذه الآية بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ [الجاثية: 15، فصلت: 46]، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286]
24. سؤال وإشكال: إذا أوصى للأجانب، وفي الأقارب من تشتد حاجته هل يجوز للوصي تغيير الوصية أما من يقول بوجوب الوصية لمن لا يرث من الوالدين والأقربين؟ والجواب: اختلفوا فيه:
أ. فمنهم من قال: كانت الوصية للأقارب واجبة عليه، فإذا لم يفعل وصرف الوصية إلى الأجانب كان ذلك الأجنبي أحق به.
ب. ومنهم من قال: ينقض ذلك ويرد إلى الأقربين، وقد ذكرنا تفصيل قول هؤلاء.
ج. أما من لا يوجب الوصية للقريب الذي لا يرث:
• فإما أن يكون ذلك بالثلث أو بأكثر من الثلث، فإن كان بالثلث فهو جائز ولا يجوز تغييره.
• ثم اختلفوا في المستحب، فكان الحسن يقول: المستحب هو النقصان من الثلث، لأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (الثلث والثلث كثير)، فندب إلى النقصان.
• ومنهم من قال بل الثلث مستحب، لأنه حقه والثواب فيه أكثر.
• ومنهم من يعتبر حال الميت وحال الورثة وقدر التركة، وهذا هو الأولى.
• فأما إن كانت الوصية بأكثر من الثلث فقد اختلفوا فيه، فمنهم من قال لا يجوز ذلك إلا بأمر الورثة، والتماس الرضا منهم.
• وقال آخرون: لا تأثير لقول الورثة إلا بعد الموت.
• ثم إذا أوصى بأكثر من الثلث اختلفوا فمنهم من قال يجوز أن إجازة الوارث ويكون عطية من الميت.
• ومنهم من يقول: بل يكون كابتداء عطية من الوارث.
25. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فمعناه أنه تعالى سميع للوصية على حدها، ويعلمها على صفتها، فلا يخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها.
26. ثم لما توعد الله تعالى من يبدل الوصية، بين أن المراد بذلك التبديل أن يبدله عن الحق إلى الباطل، أما إذا غيره عن باطل إلى حق على طريق الإصلاح فقد أحسن، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ لأن الإصلاح يقتضي ضربا من التبديل والتغيير، فذكر تعالى الفرق بين هذا التبديل وبين ذلك التبديل الأول بأن أوجب الإثم في الأول وأزاله عن الثاني بعد اشتراكهما في كونهما تبديلين وتغييرين، لئلا يقدر أن حكمهما واحد في هذا الباب.
27. قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ﴿مُوصٍ﴾ بالتشديد، والباقون بالتخفيف وهما لغتان: وصى وأوصى بمعنى واحد.
28. الجنف: الميل في الأمور، وأصله العدول عن الاستواء، يقال: جنف يجنف بكسر النون في الماضي، وفتحها في المستقبل، جنفا، وكذلك: تجانف، ومنه قوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ﴾ [المائدة: 3] والفرق بين الجنف والإثم أن الجنف هو الخطأ من حيث لا يعلم به والإثم هو العمد.
29. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن المراد منه هو الخوف والخشية.
ب. الثاني: أي فمن علم، والخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم، وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص وبين العلم وبين الظن مشابهة في أمور كثيرة، فلهذا صح إطلاق اسم كل واحد منهما على الآخر، وعلى هذا التأويل يكون معنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمدا، فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويرده إلى الصلاح بعد موته، وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع.
30. سؤال وإشكال: الخوف إنما يصح في أمر منتظر، والوصية وقعت فكيف يمكن تعلقها بالخوف؟ والجواب من وجوه:
أ. أحدها: أن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي، فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريقة الحق مع ضرب من الجهالة، أو مع التأويل أو شاهد منه تعمدا بأن يزيد غير المستحق، أو ينقص المستحق حقه، أو يعدل عن المستحق، فعند ظهور أمارات ذلك، وقبل تحقيق الوصية يأخذ في الإصلاح، لأن إصلاح الأمر عند ظهور أمارت فساده وقبل تقرير فساده يكون أسهل، فلذلك علق تعالى بالخوف من دون العلم، فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة، أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب وأن أزيد فلانا مع أنه لا يكون مستحقا للزيادة، أو أنقص فلانا مع أنه مستحق للزيادة، فعند ذلك يصير السامع خائفا من جنف وإثم لا قاطعا عليه، ولذلك قال تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا﴾ فعلقه بالخوف الذي هو الظن ولم يعلقه بالعلم.
ب. الثاني: في الجواب أنه إذا أوصى على الوجه الذي ذكرناه لكنه يجوز أن لا يستمر الموصي على تلك الوصية بل يفسخها، ويجوز أن يستمر لأن الموصي ما لم يمت فله الرجوع عن الوصية وتغييرها بالزيادة والنقصان فلما كان كذلك لم يصر الجنف والإثم معلومين، لأن تجويز فسخه يمنع من أن يكون مقطوعا عليه، فلذلك علقه بالخوف.
ج. الثالث: في الجواب أن بتقدير أن تستقر الوصية ومات الموصي، فمن ذلك يجوز أن يقع بين الورثة والموصي لهم مصالحة على وجه ترك الميل والخطأ، فلما كان ذلك منتظرا لم يكن حكم الجنف والإثم ماضيا مستقرا، فصح أن يعلقه تعالى بالخوف وزوال اليقين، فهذه الوجوه يمكن أن تذكر في معنى الخوف وإن كان الوجه الأول هو الأقوى.
31. الجنف هو الخطأ والإثم هو العمد ومعلوم أن الخطأ في حق الغير في أنه يجب إبطاله بمنزلة العمد فلا فصل بين الخطأ والعمد في ذلك، فمن هذا الوجه سوى عز وجل بين الأمرين.
32. اختلف في المصلح في قوله تعالى: ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾:
أ. الظاهر أنه هو الوصي الذي لا بد منه في الوصية.
ب. وقد يدخل تحته الشاهد.
ج. وقد يكون المراد منه من يتولى ذلك بعد موته من وال أو ولي أو وصي، أو من يأمر بالمعروف، فكل هؤلاء يدخلون تحت قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ﴾ إذا ظهرت لهم أمارات الجنف والاسم في الوصية، أو علموا ذلك فلا وجه للتخصيص في هذا الباب، بل الوصي والشاهد أولى بالدخول تحت هذا التكليف وذلك لأن بهم تثبت الوصية فكان تعلقهم بها أشد.
33. اختلف في الضمير في قوله تعالى: ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ لأنه لا بد وأن يكون عائدا إلى مذكور سابق:
أ. قيل: لا شبهة أن المراد بين أهل الوصايا، لأن قوله تعالى: ﴿مِنْ مُوصٍ﴾ دل على من له الوصية فصار كأنهم ذكروا فصلح أن يقول تعالى فأصلح بينهم كأنه قال فأصلح بين أهل الوصية.
ب. وقيل: المراد فأصلح بين أهل الوصية والميراث، وذلك هو أن يزيد الموصي في الوصية على قدر الثلث، فالمصلح يصلح بين أهل الوصايا والورثة في ذلك، وهذا القول ضعيف من وجوه:
• أحدها: أن لفظ الموصي إنما يدل على أهل الوصية لا على الورثة.
• ثانيها: أن الجنف والإثم لا يدخل في أن يوصي بأكثر من الثلث لأن ذلك لما لم يجز إلا بالرضا صار ذكره كلا ذكر، ولا يحتاج في إبطاله إلى إصلاح لأنه ظاهر البطلان.
34. اختلف في في بيان كيفية هذا الإصلاح:
أ. الأول: قبل أن صارت هذه الآية منسوخة: ذلك الجنف والإثم كان إما بزيادة أو نقصان أو بعدول فإصلاحها إنما يكون بإزالة هذه الأمور الثلاثة ورد كل حق إلى مستحقه.
ب. الثاني: بعد أن صارت هذه الآية المنسوخة: الجنف والإثم هاهنا يقع على وجوه منها أن يظهر من المريض ما يدل على أنه يحاول منع وصول المال إلى الوارث، إما بذكر إقرار، أو بالتزام عقد، فههنا يمنع منه ومنها أن يوصي بأكثر من الثلث ومنها أن يوصي للأباعد وفي الأقارب شدة حاجة، ومنها أن يوصي مع قلة المال وكثرة العيال إلى غير ذلك من الوجوه.
35. سؤال وإشكال: هذا المصلح قد أتي بطاعة عظيمة في هذا الإصلاح وهو يستحق الثواب عليه، فكيف يليق به أن يقال: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أنه تعالى لما ذكر إثم المبدل في أول الآية، وهذا أيضا من التبديل بين مخالفته للأول، وأنه لا إثم عليه لأنه رد الوصية إلى العدل.
ب. الثاني: لما كان المصلح ينقص الوصايا وذلك يصعب على الموصي له ويوهم فيه إثما أزال الشبهة وقال: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾
ج. الثالث: بين أن بالوصية والإشهاد لا يتحتم ذلك، وأنه متى غير إلى الحق وإن كان خالف الوصية فلا إثم عليه، وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي وصرف لماله عمن أحب إلى من كره، لأن ذلك يوهم القبح، فبين الله عز وجل أن ذلك حسن لقوله تعالى: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾
د. الرابع: أن الإصلاح بين الجماعة يحتاج فيه إلى الإكثار من القول ويخاف فيه أن يتخلله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل، فبين تعالى أنه لا إثم على المصلح في هذا الجنس إذا كان قصده في الإصلاح جميلا.
36. دلت هذه الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع.
37. سؤال وإشكال: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ هذا الكلام إنما يليق بمن فعل فعلا لا يجوز، أما هذا الإصلاح فهو من جملة الطاعات فكيف به هذا الكلام؟ والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: أن هذا من باب تنبيه الأدنى على الأعلى كأنه قال: أنا الذي أغفر الذنوب ثم أرحم المذنب فبأن أوصل رحمتي وثوابي إليك مع أنك تحملت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهم كان أولى،.
ب. ثانيها: يحتمل أن يكون المراد أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم متى أصلحت وصيته فإن الله غفور رحيم يغفر له ويرحمه بفضله.
ج. ثالثها: أن المصلح ربما احتاج في إيتاء الإصلاح إلى أقوال وأفعال كان الأولى تركها فإذا علم تعالى منه أن غرضه ليس إلا الإصلاح فإنه لا يؤاخذه بها لأنه غفور رحيم.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 5/233.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ هذه آية الوصية، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي النساء: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ [النساء: 12] وفي المائدة: ﴿حِينَ الْوَصِيَّةِ﴾، [المائدة: 106]، والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث.
2. في الكلام تقدير واو العطف، أي وكتب عليكم، فلما طال الكلام أسقطت الواو، ومثله في بعض الأقوال: ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [الليل: 16 ـ 15] أي والذي، فحذف، وقيل: لما ذكر أن لولي الدم أن يقتص، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت، فهذا أوان الوصية، فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف.
3. ﴿كُتِبَ﴾ معناه فرض وأثبت، وحضور الموت: أسبابه، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب، قال شاعرهم:
çيا أيها الراكب المزجي مطيته...سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا...قولا يبرئكم إني أنا الموتé
وقال عنترة:
çوإن الموت طوع يدي إذا ما...وصلت بنانها بالهندوانé
وقال جرير في مهاجاة الفرزدق:
çأنا الموت الذي حدثت عنه...فليس لهارب مني نجاءé
4. سؤال وإشكال: لم قال ﴿كُتِبَ﴾ ولم يقل كتبت، والوصية مؤنثة؟ والجواب:
أ. قيل: إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء.
ب. وقيل: لأنه تخلل فاصل، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث، تقول العرب: حضر القاضي اليوم امرأة، وقد حكى سيبويه: قام امرأة، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل.
5. ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ شرط، وفي جوابه لابي الحسن الأخفش قولان:
أ. التقدير فالوصية، ثم حذفت الفاء، كما قال الشاعر:
çمن يفعل الحسنات الله يشكرها...و ـ الشر بالشر عند الله مثلانé
ب. أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده، فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا، فإن قدرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء، وإن لم تقدر الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء، وأن ترفعها على ما لم يسم فاعله، أي كتب عليكم الوصية.
6. لا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل ﴿الْوَصِيَّةِ﴾ في ﴿إِذَا﴾ لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمة، ويجوز أن يكون العامل في ﴿إِذَا﴾: ﴿كُتِبَ﴾ والمعنى: توجه إيجاب الله إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، ويجوز أن يكون العامل في ﴿إِذَا﴾ الإيصاء يكون مقدرا دل على الوصية، المعنى: كتب عليكم الإيصاء إذا.
7. ﴿خَيْرًا﴾ الخير هنا المال من غير خلاف، واختلفوا في مقداره، فقيل: المال الكثير، روي ذلك عن علي وعائشة وابن عباس وقالوا سبعمائة دينار إنه قليل، قتادة عن الحسن: الخير ألف دينار فما فوقها، الشعبي ما بين خمسمائة دينار إلى ألف.
8. الوصية عبارة عن كل شي يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت، وخصصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية، والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا، وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل، وأرض واصية: متصلة النبات، وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك، والاسم الوصاية والوصاية (بالكسر والفتح)، وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى، والاسم الوصاة، وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا، وفي الحديث: (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم)، ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به.
9. اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون:
أ. أكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك، وهو قول مالك والشافعي والثوري، موسرا كان الموصى أو فقيرا.. وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه، فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء، قال ابن المنذر: وهذا حسن، لان الله فرض أداء الأمانات إلى أهلها، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي، واحتجوا بأن قال لو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة الموصي، ولكان ذلك لازما على كل حال، ثم لو سلم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجب يرده، وذلك فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم، كما قال أبو ثور، وكذلك إن كانت له حقوق عند الناس يخاف تلفها على الورثة، فهذا يجب عليه الوصية ولا يختلف فيه.
ب. وقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر القرآن، قال الزهري وأبو مجلز، قليلا كان المال أو كثيرا، واحتجوا بما رواه الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (ما حق امرئ مسلم له شي يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) وفي رواية (يبيت ثلاث ليال) وفيها قال عبد الله بن عمر: ما مرت على ليلة منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ذلك إلا وعندي وصيتي.
10. لم يبين الله تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال، وإنما قال ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ والخير المال، كقوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ﴾﴾ خَيْرٍ﴾ [البقرة: 272]، ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ﴾ [العاديات: 8] فاختلف العلماء في مقدار ذلك، فروي عن أبي بكر أنه أوصى بالخمس، وقال علي من غنائم المسلمين بالخمس، وقال معمر عن قتادة، أوصى عمر بالربع، وذكره البخاري عن ابن عباس، وروي عن علي أنّه قال: (لان أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولان أوصي بالربع أحسن إلي من أوصي بالثلث)، واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة، روى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة قال لها: إني أريد أن أوصي: قالت: وكم مالك؟ قال ثلاثة آلاف، قالت: فكم عيالك؟ قال أربعة، قالت: إن الله تعالى يقول: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وهذا شي يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك.
11. ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لاحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا: إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله، وقالوا: إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) الحديث، رواه الأئمة، ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث، روي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة ومسروق، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قوليه، وروي عن علي، وسبب الخلاف مع ما ذكرنا، الخلاف في بيت المال هل هو وارث أو حافظ لما يجعل فيه؟ قولان.
12. أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله، وروي عن عمرو بن العاص أنّه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبد الله: إني قد أردت أن أوصي، فقال له: أوص ومالك في مالي، فدعا كاتبا فأملى، فقال عبد الله: فقلت له ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم.
13. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المتعلقة بالوصايا، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
14. اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة:
أ. فقيل: هي محكمة، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين وفي القرابة غير الورثة، قاله الضحاك وطاووس والحسن، واختاره الطبري، وعن الزهري أن الوصية واجبة فيما قل أو كثر، وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة.
ب. وقال ابن عباس والحسن أيضا وقتادة: الآية عامة، وتقرر الحكم بها برهة من الدهر، ونسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض، وقد قيل: إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى، وهي قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)، رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالإرث، على الصحيح من أقوال العلماء، ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع، والشافعي وأبو الفرج وإن كانا منعا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم الله تبارك وتعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء، وقد تقدم هذا المعنى، ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث، فقد ظهر أن وجوب الوصية للأقربين الوارثين منسوخ بالسنة وأنها مستند المجمعين.
ج. وقال ابن عباس والحسن: نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة النساء وثبتت للأقربين الذين لا يرثون، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم، وفي البخاري عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع.
د. وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد: الآية كلها منسوخة، وبقيت الوصية ندبا، ونحو هذا قول مالك، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي، وقال الربيع بن خثيم: لا وصية، قال عروة بن ثابت: قلت للربيع بن خثيم أوص لي بمصحفك، فنظر إلى ولده وقرأ ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75]، ونحو هذا صنع ابن عمر.
15. ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ الأقربون جمع أقرب، قال قوم: الوصية للأقربين أولى من الأجانب، لنص الله تعالى عليهم، حتى قال الضحاك: إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية، وروي عن ابن عمر منه على الموت فقلت يا رسول الله، بلغ بي ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا بنت واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال (لا)، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: (لا، الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) الحديث، ومنع أهل الظاهر أيضا الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة، وأجاز ذلك الكافة إذا أجازا الورثة، وهو الصحيح، لان المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث، فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزا صحيحا، وكان كالهبة من عندهم، وروى الدارقطني عن ابن عباس، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة)، وروي عن عمرو بن خارجة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة)
16. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ يعني بالعدل، لا وكس فيه ولا شطط، وكان هذا موكولا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي، ثم تولى الله سبحانه تقدير ذلك على لسان نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: (الثلث والثلث كثير)، وقد تقدم ما للعلماء في هذا، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعلها لكم زكاة)، أخرجه الدارقطني عن أبي أمامة عن معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال الحسن: لا تجوز وصية إلا في الثلث، وإليه ذهب البخاري واحتج بقوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: 49] وحكم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل الله، فمن تجاوز ما حده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وزاد على الثلث فقد أتى ما نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه، وكان بفعله ذلك عاصيا إذا كان بحكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عالما، وقال الشافعي: وقوله (الثلث كثير) يريد أنه غير قليل.
17. ﴿حَقًّا﴾ يعني ثابتا ثبوت نظر وتحصين، لا ثبوت فرض ووجوب، بدليل قوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ وهذا يدل على كونه ندبا، لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين، فلما خص الله من يتقي، أي يخاف تقصيرا، دل على أنه غير لازم إلا فيما يتوقع تلفه إن مات، فيلزمه فرضا المبادرة بكتبه والوصية به، لأنه إن سكت عنه كان تضييعا له وتقصيرا منه، وقد تقدم هذا المعنى، وانتصب ﴿حَقًّا﴾ على المصدر المؤكد، ويجوز في غير القرآن (حق) بمعنى ذلك حق.
18. المبادرة بكتب الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية وإنما هي من حديث ابن عمر، وفائدتها: المبالغة في زيادة الاستيثاق وكونها مكتوبة مشهودا بها وهي الوصية المتفق على العمل بها، فلو أشهد العدول وقاموا بتلك الشهادة لفظا لعمل بها وإن لم تكتب خطا، فلو كتبها بيده ولم يشهد فلم يختلف قول مالك أنه لا يعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن لا يتهم عليه فيلزمه تنفيذه.
19. روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم (هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك بعده من أهله بتقوى الله حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾)
20. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ شرط، وجوابه ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ و(ما) كافة لـ (إن) عن العمل، و﴿إِثْمُهُ﴾ رفع بالابتداء، ﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ موضع الخبر، والضمير في ﴿بَدِّلْهُ﴾ يرجع إلى الإيصاء، لان الوصية في معنى الإيصاء، وكذلك الضمير في ﴿سَمْعِهِ﴾، وهو كقوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ [البقرة: 275] أي وعظ، وقوله: ﴿إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ﴾ [النساء: 8] أي المال، بدليل قوله ﴿مِنْهُ﴾، ومثله قول الشاعر: (ما هذه الصوت)، أي الصيحة، وقال امرؤ القيس:
çبرهرهة رودة رخصة...كخرعوبة البانة المنفطرé
والمنفطر المنتفخ بالورق، وهو أنعم ما يكون، ذهب إلى القضيب وترك لفظ الخرعوبة، و﴿سَمْعِهِ﴾ يحتمل أن يكون سمعه من الوصي نفسه، ويحتمل أن يكون سمعه ممن يثبت به ذلك عنده، وذلك عدلان، والضمير في ﴿إِثْمُهُ﴾ عائد على التبديل، أي إثم التبديل عائد على المبدل لا على الميت، فإن الموصي خرج بالوصية عن اللوم وتوجهت على الوارث أو الولي، وقيل: إن هذا الموصي إذا غير فترك الوصية أو لم يجزها على ما رسم له في الشرع فعليه الإثم.
21. في هذه الآية ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ دليل على أن الدين إذا أوصى به الميت خرج به عن ذمته وحصل الولي مطلوبا به، له الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره، وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: (وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرط في أدائه، وأما إذا قدر عليه وتركه ثم وصى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه)
22. لا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شي من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث، قاله أبو عمر.
23. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ صفتان لله تعالى لا يخفى معهما شي من جنف الموصين وتبديل المعتدين.
24. قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ من شرط، و(خاف) بمعنى خشي، وقيل: علم، والأصل خوف، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها، وأهل الكوفة يميلون خاف ليدلوا على الكسرة من فعلت.
25. ﴿مِنْ مُوصٍ﴾ بالتشديد قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي، وخفف الباقون، والتخفيف أبين، لان أكثر النحويين يقولون موص للتكثير، وقد يجوز أن يكون مثل كرم وأكرم.
26. ﴿جَنَفًا﴾ من جنف يجنف إذا جار، والاسم منه جنف وجانف، عن النحاس، وقيل: الجنف الميل، قال الأعشى:
çتجانف عن حجر اليمامة ناقتي... وما قصدت من أهلها لسوائكاé
وفي الصحاح: الجنف الميل. وقد جنف بالكسر يجنف جنفا إذا مال، قال الشاعر:
çهم المولى وإن جنفوا علينا...وإنا من لقائهم لزورé
قال أبو عبيدة: المولى ها هنا في موضع الموالي، أي بني العم، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾، وقال لبيد:
çإني امرؤ منعت أرومة عامر...ضيمي وقد جنفت علي خصوميé
قال أبو عبيدة: وكذلك الجانئ (بالهمز) وهو المائل أيضا، ويقال: أجنف الرجل، أي جاء بالجنف، كما يقال: ألام، أي أتى بما يلام عليه، وأخس، أي أتى بخسيس، وتجانف لإثم، أي مال، ورجل أجنف، أي منحني الظهر، وجنفى على فعلى بضم الفاء وفتح العين: اسم موضع، عن ابن السكيت، وروي عن على أنه قرأ (حيفا) بالحاء والياء، أي ظلما.
27. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾:
أ. قال مجاهد: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الأذية، أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف دون إثم، فإن تعمد فهو الجنف في إثم، فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه، ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ عن الموصى إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية.
ب. وقال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم: معنى الآية من خاف أي علم وراي وأتى علمه بعد موت الموصى أن الموصى جنف وتعمد أذية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق.
28. ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل، وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، ولكنه تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى.
29. الخطاب بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ لجميع المسلمين، قيل لهم: إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوصى بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح، والإصلاح فرض على الكفاية، فإذا قام أحدهم به سقط عم الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل.
30. في هذه الآية ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ دليل على الحكم بالظن، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح، وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له.
31. قوله تعالى: ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ عطف على ﴿خَافَ﴾، والكناية عن الورثة، ولم يجر لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى، وجواب الشرط ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾
32. لا خلاف أن الصدقة في حال الحياة والصحة أفضل منها عند الموت، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح) الحديث، أخرجه أهل الصحيح، وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لان يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة)، وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع)
33. من لم يضر في وصيته كانت كفارة لما ترك من زكاته، روى الدارقطني عن معاوية بن قرة عن أبيه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من حضرته الوفاة فأوصى فكانت وصيته على كتاب الله كانت كفارة لما ترك من زكاته)
34. إن ضر في الوصية، فقد روى الدارقطني عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (الإضرار في الوصية من الكبائر)، وروى أبو داوود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار)، وترجم النسائي (الصلاة على من جنف) عن عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فغضب من ذلك وقال: (لقد هممت ألا أصلي عليه) ثم دعا مملوكيه، فجزأهم ثلاثة أجزاء، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، وأخرجه مسلم بمعناه إلا أنّه قال في آخره: وقال له قولا شديدا، بدل قوله: (لقد هممت ألا أصلي عليه)
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/258.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. حضور الموت: حضور أسبابه، وظهور علاماته، ومنه قول عنترة:
çوإنّ الموت طوع يدي إذا ما...وصلت بنانها بالهندوانé
وقال جرير:
çأنا الموت الذي حدّثت عنه...فليس لهارب منّي نجاءé
2. إنما لم يؤنث الفعل المسند إلى الوصية، وهو ﴿كُتِبَ﴾ لوجود الفاصل بينهما، وقيل: لأنها بمعنى الإيصاء، وقد روي جواز إسناد ما لا تأنيث فيه إلى المؤنث مع عدم الفصل، وقد حكى سيبويه: قام امرأة، وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية.
3. شرط سبحانه ما كتبه من الوصية بأن يترك الموصي خيرا، واختلف في جواب هذا الشرط ما هو؟ فروي عن الأخفش وجهان:
أ. أحدهما أن التقدير: إن ترك خيرا فالوصية، ثم حذفت الفاء.
ب. الثاني: أن جوابه مقدّر قبله، أي: كتب الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا.
4. اختلف أهل العلم في مقدار الخير، فقيل: ما زاد على سبعمائة دينار، وقيل: ألف دينار؛ وقيل: ما زاد على خمسمائة دينار.
5. الوصية في الأصل: عبارة عن الأمر بالشيء، والعهد به في الحياة وبعد الموت، وهي هنا: عبارة عن الأمر بالشيء لبعد الموت، وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من عليه دين أو عنده وديعة أو نحوها، وأما من لم يكن كذلك فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيرا أو غنيا؛ وقال طائفة: إنها واجبة، ولم يبين الله سبحانه هاهنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين والأقربين؛ فقيل: الخمس؛ وقيل: الربع؛ وقيل: الثلث، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب جماعة إلى أنها محكمة، قالوا: وهي وإن كانت عامة فمعناها الخصوص، والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين ومن هو في الرقّ، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين الذين لا يرثان، والأقرباء الذين لا يرثون جائزة، وقال كثير من أهل العلم: إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (لا وصيّة لوارث) وهو حديث صححه بعض أهل الحديث، وروي من غير وجه، وقال بعض أهل العلم: إنه نسخ الوجوب ونفى الندب، وروي عن الشعبي والنخعي ومالك.
6. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: العدل، لا وكس فيه ولا شطط، وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه، قوله: ﴿حَقًّا﴾ مصدر معناه: الثبوت والوجوب.
7. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ هذا الضمير عائد إلى الإيصاء المفهوم من الوصية، وكذلك الضمير في قوله: ﴿سَمْعِهِ﴾ والتبديل: التغيير، والضمير في قوله: ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ﴾ راجع إلى التبديل المفهوم من قوله: ﴿بَدِّلْهُ﴾ وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحقّ التي لا جنف فيها ولا مضارة، وأنه يبوء بالإثم، وليس على الموصي من ذلك شيء، فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به، قال القرطبي: ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر؛ أو خنزير؛ أو شيء من المعاصي؛ أنه يجوز تبديله، ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث.
8. ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق والاضطراب بسبب الوصية؛ بإبطال ما فيه ضرار ومخالفة لما شرعه الله؛ وإثبات ما هو حق كالوصية في قربة لغير وارث، والضمير في قوله: ﴿بَيْنَهُمْ﴾ راجع إلى الورثة، وإن لم يتقدّم لهم ذكر، لأنه قد عرف أنهم المرادون من السياق؛ وقيل: راجع إلى الموصى لهم، وهم الأبوان والقرابة.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/205.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أي: فرض، كما استفاض في الشرع ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي أمارته وهو المرض المخوف.
2. ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ أي مالا ينبغي أن يوصي فيه، وقد أطلق في القرآن الخير وأريد به المال في آيات كثيرة: منها هذه، ومنها قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ [البقرة: 272]، ومنها: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8]، ومنها: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]، إلى غيرها، وإنما سمّى المال خيرا تنبيها على معنى لطيف: وهو أنّ المال الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعا من وجه محمود، كما أنّ في التسمية إشارة إلى كثرته، كما قال بعضهم: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا ومن مكان طيّب، وقد روى ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه: أنّ عليّا رضي الله عنه دخل على رجل من قومه يعوده، فقال له: أوصي؟ فقال له عليّ: إنما قال الله ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾، إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لولدك، وروى الحاكم عن ابن عباس: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا، وقال طاووس: لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا، وقال قتادة: كان يقال: ألفا فما فوقها.. ومنه يعلم أن لا تحديد للكثرة المفهومة، وأنّ مردّها للعرف لاختلاف أحوال الزمان والمكان.
3. ثم ذكر نائب فاعل (كتب) بعد أن اشتد التشوّف إليه، فقال ﴿الْوَصِيَّةِ﴾ وتذكير الفعل الرافع لها: إمّا لأنه أريد بالوصية الإيصاء، ولذلك ذكّر الضمير في قوله ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ وإمّا للفصل بين الفعل ونائبه، لأنّ الكلام لما طال، كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث.
4. ﴿لِلْوَالِدَيْنِ﴾ بدأ بهما لشرفهما وعظم حقّهما ﴿وَالْأَقْرَبِينَ﴾ من عداهما من جميع القرابات ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ وهو ما تتقبله الأنفس ولا تجد منه تكرّها، وفي الصحيحين: أنّ سعدا قال يا رسول الله، إنّ لي مالا ولا يرثني إلّا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال لا، قال فبالشطر؟ قال لا، قال: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير، إنّك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.. وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: لو أنّ الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الثلث والثلث كثير، وروى أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة: سمعت حنظلة بن جذيم بن حنيفة أنّ جدّه أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل، فشقّ ذلك على بنيه، فارتفعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال حنيفة: إنّي أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها المطيبة، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا لا لا، الصدقة خمس، وإلّا فعشر، وإلّا فخمس عشرة، وإلّا فعشرون، وإلّا فخمس وعشرون، وإلا فثلاثون، وإلّا فخمس وثلاثون، فإن كثرت فأربعون! وذكر الحديث بطوله.
5. ثمّ أكد تعالى الوجوب بقوله ﴿حَقًّا﴾ ـ وكذا قوله ـ ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على من يسأله عن النقير والقطمير.
6. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ أي: فمن غيّر الإيصاء عن وجهه، إن كان موافقا للشرع، من الأوصياء والشهود ﴿بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ أي بعد ما وصل إليه وتحقق لديه ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ﴾ أي التبديل ﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع، فلا يلحق الموصي منه شيء وقد وقع أجره على الله ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ وعيد شديد للمبدّلين.
7. هذا، وما ذكرناه من أنّ المنهيّ عن التبديل إمّا الأوصياء أو الشهود هو المشهور، وهناك وجه آخر ـ أراه أقرب ـ وهو أن يكون المنهيّ عن التغيير هو الموصي نهي عن تغيير الوصية عن المواضع التي بيّن تعالى الوصية إليها، وذلك لأنهم كانوا في الجاهلية يوصون للأبعدين الأجانب، طلبا للفخر والشرف، ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة والضرّ، فأوجب الله تعالى الوصية لهؤلاء منعا للقوم عمّا اعتادوه ـ كذا قاله الأصم.
8. ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ أي توقّع وعلم، وهذا في كلامهم شائع، ويقولون: أخاف أن ترسل السماء، يريدون التوقع والظّن الغالب، الجاري مجرى العلم ﴿مِنْ مُوصٍ جَنَفًا﴾ ميلا عن الحقّ، بالخطإ في الوصية، والتصرف فيما ليس له ﴿أَوْ إِثْمًا﴾ أي: ميلا فيها عمدا ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: بينه وبين الموصى لهم ـ وهم الوالدان والأقربون ـ بإجرائهم على طريق الشرع، قال ابن جرير: بأن يأمره بالعدل في وصيته، وأن ينهاهم عن منعه فيما أذن له فيه وأبيح له، ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي: بهذا التبديل، لأن تبديله تبديل باطل إلى حقّ.
9. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قال ابن جرير: أي غفور للموصي فيما كان حدّث به نفسه من الجنف والإثم إذا ترك أن يأثم ويجنف في وصيته ـ فتجاوز له عما كان حدّث به نفسه من الجور إذ لم يمض ذلك، ﴿رَحِيمٌ﴾ بالمصلح بين الوصيّ وبين من أراد أن يحيف عليه لغيره أو يأثم فيه له.
10. ما أفادته الآية من فرضية الوصية للوالدين والأقربين، ذكر بعضهم: أنه كان واجبا قبل نزول آية المواريث، فلمّا نزلت آية الفرائض نسخت هذه وصارت المواريث المقدّرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمّل منّة الموصي، ولهذا جاء في الحديث ـ الذي في السنن وغيرها ـ عن عمرو بن خارجة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخطب وهو يقول: (إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقه، فلا وصيّة لوارث)، ونصّ الإمام الشافعي على أنّ هذا المتن متواتر، فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال عام الفتح: (لا وصية لوارث)، ويؤثرونه عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافة، فهو أقوى من نقل واحد، قال الإمام مالك في (الموطأ): السنّة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنّه: لا تجوز وصيّة لوارث إلّا أن يجيز له ذلك ورثة الميّت.
11. ذهبت طائفة إلى أنّ الآية محكمة لا تخالف آية المواريث، والمعنى: كتب عليكم ما أوصاكم به من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ أو كتب على المحتضر: أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم، وأن لا ينقص من أنصبائهم! فلا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء، مع ثبوت الوصية بالميراث عطيّة من الله تعالى، والوصية عطيّة ممن حضره الموت، فالوارث جمع له بين الوصيّة والميراث بحكم الآيتين، ولو فرض المنافاة، لأمكن جعل آية الميراث مخصّصة لهذه الآية، بإبقاء القريب الذي لا يكون وارثا لأجل صلة الرحم، فقد أكد تعالى الإحسان إلى الأرحام وذوي القربى في غير ما آية، فتكون الوصية للأقارب الذين لا يرثون عصبة، أو ذوي رحم مفروضة، قالوا: ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين الوارثين لا يستلزم نسخ وجوبها في غيرهم.
12. مما استدلّ به على وجوب الوصيّة، من السنّة خبر الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيّته مكتوبة عنده، قال ابن عمر: ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول ذلك إلّا وعندي وصيّتي، والآيات والأحاديث ـ بالأمر ببرّ الأقارب والإحسان إليهم ـ كثيرة جدّا.
13. ظهر لي في آية ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ ـ وكان درسنا صباحا من البخاريّ في كتاب (الوصايا) ـ أنّ هذه الآية ليست منسوخة ـ كما قيل ـ بل هي محكمة بطريقة لا أدري هل أحد سبقني بها أم لا؟ فإني ـ في تفسيري المسمّى بمحاسن التأويل ـ نقلت هناك مذاهب العلماء، ولا يحضرني الآن أن ما سأذكره مأثور أم لا؟ وهو أنّ هذه الآية مع آية: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾، متلاقيتان في المعنى، من حيث إنّ المراد بالوصيّة: وصية الله في إيتاء ذوي الحقوق حقوقهم، وعدم الغض منها، والحذر من تبديلها، لما يلحق المبدّل من الوعيد الشديد، وخلاصة المعنى على ما ظهر: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أي: فرض عليكم فرضا مؤكّدا بمثابة المكتوب الذي لا يمحى ولا يعتوره تغيير ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي: قرب نزوله به بأن قرب مفارقته الحياة ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ أي: مالا يورث ﴿الْوَصِيَّةِ﴾ أي: المعهودة، وهي وصيّة الله سبحانه وتعالى في إيتاء كل ذي حقّ حقّه، على ما بينته تلك الآية ﴿لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ أي: في إبلاغهم فرضهم المبين في آية ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ فإنه أجمع آية ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ تأكيد للكتابة بأنها أمر ثابت لا يسوغ التسامح فيه بوجه ما ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ أي: هذا المكتوب الحقّ ﴿بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ أي: فعلم الحق المفروض فيه ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي: فلا يخفى عليه شيء من حال الممتثل والمبدّل، وقوله تعالى ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا﴾ أي: ميلا عمّا فرضه تعالى ﴿أَوْ إِثْمًا﴾ أي: بقطع من يستحقّ عن حقّه، لما لا تخلو عنه كثير من الأنفس التي لم يدركها نور التهذيب ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: بأمر رضي به الكل ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي: لأنّ الصلح جائز إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/12.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كُتِبَ﴾ نائبُ فاعلِه (الْوَصِيَّةُ)، وذُكِّر للفصل، ولمعنى الإيصاء كما قال السَّعدُ، الأصل التأنيث ولو كان غير حقيقيٍّ، ويختار إلَّا لداع، كما لِفصل في غير الحقيقي هنا، قال الرَّضيُّ ـ زاعما ـ : إنَّ ذلك لإظهار فضل الحقيقيِّ على غيره، وهو تعليل لا يرضى، كيف يقال: اختار الله تعالى التذكير ليعلمنا بفضل الحقيقيِّ على المجازيِّ!.
2. ﴿عَلَيْكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي: أسبابه بحسب الظَّنِّ، وإلَّا فلا يَدري أحد أنَّه يموت في ذلك الوقت ولو اشتدَّ ضرُّه، ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾ مالاً قليلاً أو كثيرًا، بأنْ يكون له ربعُ دينارٍ زيادةً على ديون الخالق والمخلوق، والأنسب أنَّه إنْ قلَّ ماله عن ذلك، أوصى ولو بأقلَّ من ربع دينار، وذكره بلفظ خيرٍ تلويحًا بأنَّ الوصيَّة من طيب المال حلالاً وجودةً، ويجزي ما دون الجيِّد إلَّا أنَّه لا يحسن؛ وقد استعمل الخير في المال مطلقًا، كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8]، وفي المال الحلال كقوله تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ﴾ [البقرة: 272]، وقالت عائشة وعليٌّ: الخير المال الكثير؛ والكثرة والقلَّة بالنِّسبة إلى الموصي وحاله رجلاً أو امرأة، ككَثْرة حاجاتِه وكثرة الوارثين، أراد رجل أنْ يوصي فسألَتْه: كم مالك؟ فقال: ثلاثة آلاف درهم، فقالت: كم عيالك؟ فقال: أربعة، فقالت: إنَّما قال الله: ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾، وإنَّ هذا يسير فاتركه لعيالك، ولا شكَّ أنَّه كثير في نفسه لكن قلَّلته بالنِّسبة لعياله، وكذا سأل عليًّا مولى له الوصيَّة عند احتضاره وله سبعمائة درهم، ـ قيل: أو ستمائة ـ فمنعه لكونه ذا عيال، وقال: (إنَّ الله تعالى قال: ﴿إِن تَرَكَ خَيْرًا﴾، والخير هو المال الكثير)؛ ولا شكَّ أنَّ سبعمائة درهم كثير في ذاتها إلَّا أنَّها قليل بالنِّسبة، وعن ابن عبَّاس: من لم يترك ستَّمائة دينار لم يترك خيرًا؛ والخير في العرف العامِّ: المال الكثير، كما لا يقال: ذو مال، إلَّا إنْ كان كثيرًا، وإنْ أوصى من قبلُ وعند حضور الموت نقص عمَّا تجب الوصيَّة معه فله إسقاط ما أوصى به للأقرب، والتَّقييد بالقلَّة والكثرة إنَّما هو بالنَّظر إلى وصيَّة الأقرب الباقية بلا نسخ.
3. ﴿اِلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالَاقْرَبِينَ﴾ كالإخوة والأخوات والأعمام، والأجداد والجدَّات والأخوال، ثمَّ نُسخ بآيةِ الإرث، وحديثِ: (لا وصيَّة لوارث)، إلَّا أن يشاء الورثة، على أنَّه متواتر، وإلَّا فالناسخ آيات الإرث والحديثُ مبيِّن للنَّسخ بهنَّ، قال في حجَّة الوداع إذ خطب فيها: (إنَّ الله تعالى قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فلا وصيَّة لوارث)، وروي أنَّه خطب على راحلته وقال: (إنَّ الله تعالى قد قَسَمَ لكلِّ إنسانٍ نصيبَهُ مِن الميراثِ فَلا تَجوزُ لِوارثٍ وَصيَّةٌ)، وذلك ولا عبرة بإجازة الورثة إذا كان ما أوصي به لوارث لا يرجع إليهم إنْ ردُّوه، كالوصيَّة لوارثٍ بالكفَّارة أو بشاة الأعضاء أو نحو ذلك، وإنْ كان فيه عمل كالحجِّ والقراءة في موضع فقد يجوز، ومن وقف مع الحديث عمومًا منَعه، وإنْ أوصى الوارث بحقٍّ له عليه جاز إجماعًا مع انتفاء الريبة، مثل أنْ يوصي بأرش ضربة ضربه إيَّاها، أو بمال له أَكَلَه منه بلا رضًا، وخرج من الكلِّ، وبقيتِ الوصيَّة للأقارب الذين لا يرثون من جهة الأب ومن جهة الأم على ترتيب نذكره في الفقه، قيل: المراد بالأقارب ما يشمل المشركين تأليفًا للناس، ورعاية لحقِّ القرابة [في] أوَّل الإسلام وَلَمَّا كثر الإسلام شرع الإرث ونسخ الوصيَّة للوارث، وثبت أنَّ الكافر لا يرث الموحِّد، أو هذه الآية هي الميراث بحسب ما يريد الموصي، ثمَّ نسخ ردُّ التفصيل إليه بالتَّفصيل في آيات الإرث.
4. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ بأنْ ينوي إنفاذ حكم الله والتقرُّب إلى الله، لا الحميَّة أو الفخر أو الرئاء أو غرضًا من أغراض الدنيا، وأنْ يكون من الثلث، ولا يفضَّل الغنيُّ لغناه، وله تفضيل الفقير، وأنْ لا يكون فوق الثلث، وأنْ لا يكون جزاءً على معصية.
5. ﴿حَقًّا﴾ حقَّ ذلك حقًّا، ولا شكَّ أنَّ ما كتبه الله على العباد حقٌّ، فهو مصدر مؤكِّد للجملة، ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بدَّلَهُ﴾ بدَّلَ الإيصاءَ المدلولَ عليه بـ (الْوَصِيَّة)، بل المعبَّر عنه بـ (الْوَصِيَّة)، فإنَّ (الْوَصِيَّة) اسم مصدر ومعناه الإيصاء، أو بدل (الْوَصِيَّة)، فذكر الضمير لأنَّها بمعنى الإيصاء، أو بدل (الحقِّ) المذكور، أو بدل المكتوب المعروف من قوله: ﴿كُتِبَ﴾، أو بدل (الْمَعْرُوفِ)؛ فالمبدَّلُ إمَّا حكم الله، وتبديله تغييره بعد الحكم به، أو كتمُه فينفَّذُ غيرُه، أو تأويله بباطل، أو ترك الإيصاء المأمور به، وإمَّا شأن الوصيَّة بأن لا ينفِّذ الورثة أو الوصيُّ الوصيَّةَ، أو ينقصوا منها، أو يغيِّروا صفتها، مثل أنْ يوصي بثوب جديد فينفقوا خَلِقًا، أو بعتق عبدين فيعتقوا واحدًا، ويكتم الشَّاهد، أو يغيِّر ما شهد به، أو يدخل الحاكم فيه بجور، أو ينكر الورثة الوصيَّة.
6. ﴿بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ من كتاب الله أو من الموصِي أو الشهود، ﴿فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ﴾ إثم التبديل، ﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ لا على الموصي، أو على من بدَّل حكم الله، لا على غيره، فإنَّه لا تزر وازرة وزر أخرى؛ والذين يبدِّلونه هم من بدَّله بعد ما سمعه، فمقتضى الظَّاهر الإضمار هكذا: (فإنَّما إثمه عليه)، والهاء عائدة إلى ما عادت إليه هاء (بَدَّلَهُ)، ويجوز كونها مفعولاً مطلقًا عائدة إلى ما عادت إليه هاء (إِثْمُهُ)، وعليه فالمفعول محذوف وهو ضمير عائد إلى ما عاد إليه هاء (بَدَّلَهُ)، كقولك: (الإكرام الشديد أكرمه الله زيدًا)، ﴿إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ﴾ بالأقوال والأصوات، أي: عليم بها كلِّها، ﴿عَلِيمٌ﴾ بالأفعال والأوصاف والاعتقادات وكلِّ شيء، ومن ذلك عِلْمُه بقول الموصي وغيره وفعل الموصي وغيره، فيجازي على ذلك، وأنت خبير بأنَّ وصيَّة الأقرب واجبة فمن لم يوص بها وقد ترك خيرًا هلك، كما قال عليٌّ: (ختم عَمَله بالمعصية)، وقيل: نُسخَ الوجوب فهي مستحبَّة، وقيل: نُسِخ في حقِّ من يرث، وتجب لمن لا يرث ولو كافرًا.
7. ﴿فَمَنْ خَافَ﴾ كإمام وقاضٍ ووصيٍّ وغيرهم، ﴿مِن مُّوصٍ﴾ علم منه بعد موته، كقوله تعالى: ﴿اِلَّآ أَنْ يَّخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾ [البقرة: 229]: إلَّا أنْ يعلما، وذلك أنَّ الخوف من الشيء سبب وملزوم للبحث عنه هل كان؟ وللبحث عن أحواله كقرب وبُعد وشدَّة وضعفٍ فيحصل العلم، وأيضًا لا يخاف منه حتَّى يعلم أنَّه ممَّا يخاف منه، أو الخوف بمعنى التوقُّع الجاري بمعنى الظَّنِّ، فيُفهم حكمُ العِلْمِ اليقينيِّ بطريق الأولى، وأصل الخوف: توقُّع مكروه بسبب أمارة مظنونة أو معلومة، وَلَمَّا لم يكن للخوف من الميل والإثم بعد الإيصاء معنى حملناه على العلم أو الظَّنِّ، للتسبُّب واللُّزوم البياني، ويجوز إبقاء الخوف على أصله بأن أتُّهم الموصي في إيصائه.
8. ﴿جَنَفًا﴾ ميلاً عن الحقِّ خطَأً بنسيان أو غلط، ﴿اَوِ اِثْمًا﴾ بأنْ تعمَّد خلاف الحقِّ كالزِّيادة على الثلث، والوصيَّة للوارث لأجل حقٍّ له على الموصي بأكثر من حقِّه، مثل أنْ يقول: أوصيت لزوجي بكذا لأجل أنِّي ضربتها، أو لم أوف حقَّها في الفراش، أو لأنِّي أكلت مالها بلا رضًا منها، أو أكلته على أنْ أرُدَّه لها، مع أنَّ حقَّها أو أرشها أو ما أُكِل من مالها أقلُّ، ولم يوجد السبيل إلى تعيين كمِّية ذلك، وكذا في الوصيَّة للولد وغيره، ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ بين الموصى له والورثة المعلومين من المقام، أو بين الوالدين والأقربين الموصى لهم الذين تقدَّم ذكرهم آنفًا، وهذا أولى، وإنْ جعلنا الخوف من موصٍ حال الإيصاء أو بعده في حياته فالإصلاح بينه وبين الورثة؛ لأنَّ المآل إليهم، وبين الموصى له بأنْ يقال له: زد كذا أو أنقص كذا، بمقتضى العدل، ومن ذلك أنْ يوصي لفسق أو مكروه، قيل: أو يفضِّل غنيًّا.
9. ﴿فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ في الإصلاح، بل له الثَّواب، وذكر نفي الإثم إشارة إلى عظم ذنب التبديل حتَّى إنَّه ليخاف على المصلح الإثم لما عساه أنْ يكون في إصلاحه من الخطإ، وكذا ذكر لذلك قوله: ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وعد للمصلح بالمغفِرة والرَّحمة لإقامته بأمر الحقِّ، وإرشاد الضَّالِّ، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ولا يقال: المراد إنَّ الله غفور رحيمٌ للموصي بواسطة إصلاح الإمام أو القاضي أو المفتي أو الوصيِّ أو غيرهم؛ لأنَّه مات على غير صواب غير تائب، هذا ما نقول، وعند الله ما ليس عندنا، ولا يكون كمن لم يوقع إصلاحًا في شأن وصيَّته؛ لأنَّ ظلمه لم يصل غيره إذا أزيل بالصُّلحِ الجنفُ كلُّه، ودونَ ذلك أمرُ الخطإ في الحظْرِ إذْ لم يتعمَّد، إلَّا أنَّك خبير بأنَّ الجهل عمد.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/308.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. وجه التناسب والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها هو أن القصاص في القتل ضرب من ضروب الموت يذكر بما يطلب ممن يحضره الموت وهو الوصية، والخطاب فيه موجه إلى الناس كلهم بأن يوصوا بشيء من الخير ولا سيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته لتكون خاتمة أعمالهم خيرا، وهو على نسق ما تقدم في الخطاب بالقصاص من اعتبار الامة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الافراد، وقيام الافراد بحقوق الشريعة لا يتم إلا بالتعاون والتكافل والائتمار والتناهي، فلو لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على الائتمار.
2. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي فرض عليكم يا معشر المؤمنين اذا حضرت الواحد منكم أسباب الموت وعلاماته ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ أي إن كان له مال كثير يتركه لورثته ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي كتب عليكم في هذه الحالة أن توصوا للوالدين والاقربين بشيء من هذا الخير بالوجه المعروف الذي لا يستنكر لقلته بالنسبة الى ذلك الخير ولا بكثرته الضارة بالورثة بأن لا يزيد الموصى به لهم ولغيرهم من الاجانب عن ثلث المتروك للوارثين.
3. الوصية الاسم من الإيصاء والتوصية، وتطلق على الموصى به من عين أو عمل، وهي مندوبة في حال الصحة وتتأكد في المرض، وظاهر الآية انها تجب عند حضور أمارات الموت للوالدين والاقربين، وفيه الخلاف الآتي، يقال أوصى ووصى فلانا بكذا من العمل أو المال، ووصى بفلان، وأوصى له بكذا من مال أو منفعة، وأوصاه فيه ـ أي في شأنه، وإيصاء الله بالشيء وفيه أمره، وفسروا الخير بالمال وقيده الاكثرون بالكثير اخذا من التنكير، ولم يقيده الجلال بذلك، قال محمد عبده: لم يقتصر أحد من المفسرين على ذكر المال فقط إلا مفسرنا وقوله صادق فيما ذكروه وجها وذكروا معه قول من قيده بالكثير كالبيضاوي، وجزم المفسر بان الآية منسوخة بآية المواريث وحديث الترمذي (لا وصية لوارث) ورده بعضهم، فكلام الجلالين في المسألتين غير مسلم.
4. قالوا ان المال لا يسمى في العرف خيرا الا اذا كان كثيرا كما لا يقال فلان ذو مال إلا إذا كان ماله كثيرا، وإن تناول اللفظ صاحب المال القليل، وأيدوا هذا بما رواه ابن أبي شيبة عن عائشة قال لها رجل أريد أن أوصي، قالت كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف، قالت كم عيالك؟ قال أربعة، قالت قال الله تعالى ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو افضل، وروى البيهقي وغيره ان عليا دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم فقال ألا أوصي؟ قال لا إنما قال الله تعالى ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك ـ فعبارتهما تدل على انهم ما كانوا يفهمون من الخير إلا المال الكثير، واختلفوا في تقدير الكثير فروى عبد بن حميد عن ابن عباس انه قال من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا، واختار محمد عبده عدم تقديره لاختلافه باختلاف العرف، فهو موكول عنده الى اعتقاد الشخص وحاله، ولا يخفى أن العرف يختلف باختلاف الزمان والاشخاص والبيوت، فمن يترك سبعين دينارا في منزل قفر، وبلد فقر، وهو من الدهماء فقد ترك خيرا، ولكن الامير أو الوزير، إذا تركا مثل ذلك في المصر الكبير، فهما لم يتركا إلا العدم والفقر، وما لا يفي بتجهيزهما إلى القبر
5. الجمهور على ان الآية منسوخة بآية المواريث أو بحديث: لا وصية لوارث، أو بهما جميعا على أن الحديث مبين للآية، قال البيضاوي: وكان هذا الحكم في بدء الاسلام فنسخ بآية المواريث وبقوله عليه السّلام (ان الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث) وفيه نظر لان آية المواريث لا تعارضه بل تؤكده من حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقا، والحديث من الآحاد، وتلقي الأمة له بالقبول لا يلحقه بالمتواتر.. أي والظني من الحديث لا ينسخ القطعي منه فكيف ينسخ القرآن، وكله قطعي؟ وقد زاد محمد عبده عليه القول بأنه لا دليل على أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا، وبأن السياق ينافي النسخ، فان الله تعالى اذا شرع للناس حكما وعلم أنه مؤقت وانه سينسخه بعد زمن قريب فإنه لا يؤكده ويوثقه بمثل ما أكد به أمر الوصية هنا من كونه حقا على المتقين، ومن وعيد من بدله، وبإمكان الجمع بين الآيتين اذا قلنا ان الوصية في آية المواريث مخصوصة بغير الوارث، بأن يخص القريب هنا بالممنوع من الارث ولو بسبب اختلاف الدين، فاذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فله أن يوصي لهما بما يؤلف به قلوبهما، وقد أوصى الله تعالى بحسن معاملة الوالدين وإن كانا كافرين ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ الآية، وفي آية لقمان بعد الأمر بالشكر لله ولهما ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ الآية، أفلا يحسن أن يختم هذه المصاحبة بالمعروف بالوصية لهما بشيء من ماله الكثير.
6. وجوز بعض السلف الوصية للوارث نفسه(2). بأن يخص بها من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنيا والبعض الآخر فقيرا: مثال ذلك أن يطلق أبوه أمه وهو غني وهي لا عائل لها إلا ولدها ويرى أن ما يصيها من التركة لا يكفيها، ومثله أن يكون بعض ولده أو اخوته ـ إن لم يكن له ولد ـ عاجزا عن الكسب فنحن نرى ان الحكيم الخبير اللطيف بعباده، الذي وضع الشريعة والاحكام لمصلحة خلقه، لا يحتم أن يساوي الغني الفقير، والقادر على الكسب من يعجز عنه، فاذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنهم سواسية في الحاجة، كما انهم سواء في القرابة، فلا غرو أن يجعل أمر الوصية مقدما على أمر الارث، أو يجعل نفاذ هذا مشروطا بنفاذ ذلك قبله، ويجعل الوالدين والاقربين في آية أخرى أولى بالوصية لهم من غيرهم، لعلمه سبحانه وتعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحيانا، فقد قال في آيات الارث من سورة النساء: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ فأطلق أمر الوصية وقال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لتلك
7. ورأيت الالوسي نقل عن بعض فقهاء الحنفية أن آية الارث نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق، وأن الله تعالى رتب الميراث على وصية منكرة والوصية الاولى كانت معهودة، فلو كانت تلك الوصية باقية لوجب ترتيبه على المعهود، فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة، لان الاطلاق بعد التقييد نسخ، كما ان التقييد بعد الاطلاق نسخ.. فأما دعواه الاتفاق في التقدم والتأخر فلا دليل عليها، وأما تأويله فظاهر البطلان، وقاعدة الاطلاق والتقييد إن سلمت لا تؤخذ على اطلاقها لان شرع الوصية على الاطلاق لا ينافي شرع الوصية لصنف مخصوص، ونظير هذا الامر بمواساة الفقراء مطلقا، والامر بمواساة الضعفاء والمرضى منهم، لا يتعارضان، ولا يصح أن يكون الثاني منهما مبطلا للاول، إلا اذا وجد في العبارة ما ينفي ذلك وما في الآيتين ليس من قبيل تعارض المطلق والمقيد، وإنما آية الوصية خاصة، وذكر الوصية منكرة في آية الارث يفيد الاطلاق الذي يشمل ذلك الخاص وغيره، فان سلمنا لذلك الحنفي أن آية الميراث متأخرة، فلا نسلم له أنه كان يجب أن تذكر فيها الوصية بالتعريف لتدل على الوصية المعهودة، إذ لو رتب الارث على الوصية المعهودة لما جازت الوصية لغير الوالدين والاقربين، ولو كان الاسلوب العربي يقتضي ما قاله لما قال علي وابن عباس وغيرهما من السلف بالوصية للوالدين والاقربين على ما تقدم، وقد نقل ذلك الالوسي نفسه بعد ما تقدم عنه، ولكنه سمى التخصيص نسخا، فنقل عن ابن عباس أنها خاصة بمن لا يرث من الوالدين والاقربين، كأن يكون الوالدان كافرين، قال وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ـ ممن لم يرث ـ فقد ختم عمله بمعصية: ثم ذكر ان الاكثرين قالوا بأن هذه الوصية مستحبة لا واجبة، وسمى هذا كغيره نسخا للوجوب، ولنا أن نقول ان أكثر علماء الامة وأئمة السلف يقولون إن هذه الوصية المذكورة في الآية مشروعة ولكن منهم من يقول بعمومها ومنهم من يقول انها خاصة بغير الوارث، فحكمها إذا لم يبطل، فما هذا الحرص على اثبات نسخها، مع تأكيد الله تعالى إياها والوعيد على تبديلها؟ إن هذا إلا تأثير التقليد.
8. علم مما تقدم ان آية المواريث لا تعارض آية الوصية فيقال بأنها ناسخة لها اذا علم أنها بعدها، وأما الحديث فقد أرادوا أن يجعلوا له حكم المتواتر أو يلصقوه به بتلقي الامة له بالقبول ليصلح ناسخا، على أنه لم يصل الى درجة ثقة الشيخين به فلم يروه أحد منهما مسندا، ورواية أصحاب السنن محصورة في عمرو بن خارجة وأبي أمامة وابن عباس وفي إسناد الثاني اسماعيل بن عياش تكلموا فيه، وإنما حسنه الترمذي لان اسماعيل يرويه عن الشاميين، وقد قوى بعض الائمة روايته عنهم خاصة، وحديث ابن عباس معلول إذ هو من رواية عطاء عنه وقد قيل انه عطاء الخراساني، وهو لم يسمع من ابن عباس، وقيل عطاء بن أبي رباح، فان أبا داوود أخرجه في مراسيله عنه، وما أخرجه البخاري من طريق عطاء بن أبي رباح موقوف على ابن عباس، وما روي غير ذلك فلا نزاع في ضعفه، فعلم أنه ليس لنا رواية للحديث صححت إلا رواية عمرو بن خارجة، والذي صححها هو الترمذي وهو من المتساهلين في التصحيح، وقد علمت ان البخاري ومسلم لم يرضياها، فهل يقال إن حديثا كهذا تلقته الامة بالقبول؟
9. توسع محمد عبده هنا في الكلام على النسخ، وملخص ما قاله أن النسخ في الشرائع جائز موافق للحكمة وواقع، فان شرع موسى نسخ بعض الاحكام التي كان عليها ابراهيم، وشرع عيسى نسخ بعض أحكام التوراة، وشريعة الاسلام نسخت جميع الشرائع السابقة، لان الاحكام العملية التي تقبل النسخ إنما تشرع لمصلحة البشر، والمصلحة تختلف باختلاف الزمان، فالحكيم العليم يشرع لكل زمن ما يناسبه، وكما تنسخ شريعة بأخرى يجوز أن تنسخ بعض أحكام شريعة بأحكام أخرى في تلك الشريعة، فالمسلمون كانوا يتوجهون إلى بيت المقدس في صلاتهم فنسخ ذلك بالتوجه إلى الكعبة وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين، ولكن هناك خلافا في نسخ أحكام القرآن ولو بالقرآن، فقد قال أبو مسلم محمد ابن بحر الاصفهاني المفسر الشهير ليس في القرآن آية منسوخة، وهو يخرّج كل ما قالوا انه منسوخ على وجه صحيح بضرب من التخصيص أو التأويل، وظاهر ان مسألة القبلة ليس فيها نسخ للقرآن، وإنما هي نسخ لحكم لا ندري هل فعله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم باجتهاده أم بأمر من الله تعالى غير القرآن؟ فان الوحي غير محصور في القرآن.
10. الجمهور على ان القرآن ينسخ بالقرآن بناء على انه لا مانع من نسخ حكم آية مع بقائها في الكتاب يعبد الله تعالى بتلاوتها وبتذكر نعمته بالانتقال من حكم كان موافقا المصلحة ولحال المسلمين في أول الاسلام، الى حكم يوافق المصلحة في كل زمان ومكان، فإنه لا ينسخ حكم إلا بأمثل منه كالتخفيف في تكليف المؤمنين قتال عشر أمثالهم بالاكتفاء بمقابلة الضعف بأن تقاتل المئة مئتين، واتفقوا على انه لا يقال بالنسخ إلا اذا تعذر الجمع بين الآيتين من آيات الاحكام العملية، وعلم تاريخهما، فعند ذلك يقال ان الثانية ناسخة للأولى، وأما آيات العقائد والفضائل والاخبار فلا نسخ فيها، ونسخ السنة بالسنة كنسخ الكتاب بالكتاب، بل هو أولى وأظهر وكذلك نسخ السنة بالكتاب كما في مسألة القبلة ولا خلاف فيهما، ومن قبيل هذا نسخ الحديث المتواتر لحديث الآحاد وأما الخلاف القوي فهو في نسخ القرآن بالحديث ولو متواترا، أو الحديث المتواتر باخبار الآحاد، والذي عليه المحققون الاولون ان الظني (وهو خبر الآحاد) لا ينسخ القطعي كالقرآن والحديث المتواتر، والحنفية وكثير من محققي الشافعية صرحوا بجواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، لان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معصوم في تبليغ الاحكام، فمتى أيقنا بالرواية عنه واستوفت شروط النسخ تعتبر ناسخه للكتاب كما اذا نسخت آية آية، وذهب آخرون ومنهم الامام الشافعي كما في رسالته المشهورة في الاصول بأنه لا يجوز نسخ حكم من كتاب الله بحديث مهما تكن درجته لان للقرآن مزايا لا يشاركه فيها غيره، وقد أورد الشافعي كثيرا من الاحاديث التي زعموا أنها ناسخة لاحكام القرآن وبين انها غير ناسخة بل بين انها مفسرة ومبينة (قال الاستاذ) ولا أعرف لابي حنيفة قولا في هذه المسائل، والاصوليون المتقدمون من الحنفية والشافعية لا يقولون بنسخ القرآن بغير المتواتر من الأحاديث وإن اشتهر بنحو رواية الشيخين وأصحاب السنن له، والدليل ظاهر فان القرآن منقول بالتواتر فهو قطعي وأحاديث الآحاد ظنية يحتمل أن تكون مكذوبة من بعض رجال السند المتظاهرين بالصلاح لخداع الناس.
11. هناك تمييز آخر وهو ان كل ما في القرآن وحي من الله تعالى قطعا، وأما الاحاديث فان فيها ما هو من اجتهاد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو دون الوحي، وإن كان قد تقرر ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم اذا أخطأ في اجتهاده لا يقر على الخطأ بل يبين له كما في قوله تعالى ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ وقوله ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾، وقال بعضهم ينسخ الكتاب بالسنة ولو خبر آحاد لان دلالة الآية على الحكم ظنية فكأن الحديث لم ينسخ إلا حكما ظنيا، وفاتهم ان دلالة الحديث أيضا ظنية فكأننا بنسخ حكما ظنيا إسناده الى الشارع قطعي بحكم ظني اسناده اليه غير قطعي بل يحتمل أنه لم يقل به أو قاله رأيا لا تشريعا، ولما كان الخلاف هنا ضعيفا جدا احتاج القائلون بنسخ حديث (لا وصية لوارث) لآية الوصية الى زعم تواتره بتلقي الامة له بالقبول، وقد علمت ان هذا غير صحيح، وقد صرح بعض الشافعية بأن الخلاف في نسخ الكتاب بالسنة انما هو في الجواز وأنه غير واقع قطعا، وقالوا أيضا ان السنة لا تنسخ الكتاب إلا ومعها كتاب يؤيدها، والظاهر في مثل هذه الحال أن يقال إن الكتاب نسخ الكتاب لأنه الاصل، وكأنهم أرادوا تصحيح قول من قال بالنسخ تعظيما له أن يرد قوله، وتعظيم الله تعالى أولى ثم تعظيم رسوله يتلو تعظيمه ولا يبلغه، وإنما يطاع الرسول ويتبع باذن الله تعالى.
12. من أغرب مباحث النسخ ان الشافعية ـ الذين يبالغ امامهم في الاتباع فيمنع نسخ الكتاب بالسنة، ثم هو يبالغ في تعظيم السنة واتباعها ولا يبالي برأي أحد يخالفها، ثم هو يقول ان القياس لا يصار اليه إلا عند الضرورة كأكل الميتة كما رواه عنه الامام احمد ـ يقول بعضهم ان القياس الجلي ينسخ السنة مع ان البحث في العلة أمر عقلي يجوز أن يخطئ فيه كل أحد، ويجوز أن يكون ما فهمناه من عموم العلة غير مراد للشارع، فاذا جاء حديث ينافي هذا العموم وصح عندنا فالواجب أن نجعله مخصصا لعلة عموم الحكم، ولا نقول رجما بالغيب انه منسوخ لمخالفته للعلة التي ظنناها، فاذا كانت المجازفة في القياس قد وصلت الى هذا الحد وقد تجرأ الناس على القول بنسخ مئات من الآيات، والى ابطال اليقين بالظن، وترجيح الاجتهاد على النص، فعلينا أن لا نحفل بكل ما قيل، وأن نعتصم بكتاب الله قبل كل شيء، ثم بسنة رسوله التي جرى عليها أصحابه والسلف الصالحون، وليس في ذلك شيء يخالف الكتاب العزيز.
13. صفوة القول أن الآية غير منسوخة بآية المواريث لأنها لا تعارضها بل تؤيدها، ولا دليل على أنها بعدها، ولا بالحديث لأنه لا يصلح لنسخ الكتاب، فهي محكمة وحكمها باق، ولك أن تجعله خاصا بمن لا يرث من الوالدين والاقربين كما روى عن بعض الصحابة وأن تجعله على اطلاقه، ولا تكن من المجازفين الذين يخاطرون بدعوى النسخ فتنبذ ما كتبه الله عليك بغير عذر، ولا سيما بعد ما أكده بقوله ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ أي حق ذلك الذي كتب عليكم من الوصية أو حققته حقا على على المتقين لي، المطيعين لكتابي، والمتبادر ان معنى المكتوب المفروض وبه قال بعضهم هنا، وقال آخرون انه للندب، ويؤيد الفرضية قوله تعالى في وعيد المبدلين له.
14. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ أي بدل ما اوصى به الموصي ﴿بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ من الموصي أو علم به علما صحيحا، من كتابة الوصية وهو مشروع كما سيأتي ومن الحكم بها ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ من ولي ووصي وشاهد وقد برئت منه ذمة الموصي وثبت أجره عند الله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لما يقوله المبدلون في ذلك ﴿عَلِيمٌ﴾ بأعمالهم فيه فيجازيهم عليها، وهو يتضمن تأكيد الوعيد والضمير في الموضع الثلاثة راجع الى الحق أو الإيصاء اي اثره ومتعلقه وقد قال بوجوب الوصية بعض علماء السلف واستدلوا عليه بالآية وبحديث (ما حق أمرئ مسلم ييت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته عند رأسه) رواه الجماعة كلهم من حديث ابن عمر، ومنهم عطاء والزهري وأبو مجلز وطلحة بن مصرف، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم وبه قال اسحاق وداوود، واختاره أبو عوانة الإسفرائيني وابن جرير وآخرون اه من فتح الباري وقال الجمهور مندوبة وتقدم قولهم في الآية.
15. ثم قال ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ الجنف بالتحريك الخطأ، والاثم يراد به تعمد الاجحاف والظلم، والموصي فاعل الإيصاء وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب (موص) بالتشديد من التوصية، والمعنى إن خرج الموصي في وصيته عن المعروف والعدل خطأ أو عمدا فتنازع الموصى لهم فيه أو تنازعوا مع الورثة فينبغي أن يتوسط بينهم من يعلم بذلك ويصلح بينهم، ولا اثم عليه في هذا الاصلاح اذا وجد فيه شيء من تبديل الجنف والحيف لأنه تبديل باطل الى حق وإزالة مفسدة بمصلحة، فقلما يكون اصلاح الا بترك بعض الخصوم شيئا مما يراه حقا له للآخر، قال محمد عبده: الآية استثناء مما قبلها أي ان المبدل للوصية آثم إلا من رأى اجحافا أو جنفا في الوصية فبدل فيها لأجل الاصلاح وإزالة التخاصم والتنازع والتعادي بين الموصى لهم، فعبر بخاف بدلا عن رأى أو علم تبرئة للموصي من القطع بجنفه واثمه واحتماء من تقييد التصدي للإصلاح بالعلم بذلك يقينا، يعني ان من يتوقع النزاع للجنف أو الاثم فله أن يتصدى للإصلاح وإن لم يكن موقنا بذلك، وللتعبير عن مثل هذا العلم بالخوف شواهد في كلام العرب، والمصلح مثاب مأجور، ونفي الاثم عن تبديل الوصية المحرم تبديلها يشعر بذلك، إذ لو لم يكن التبديل للإصلاح مطلوبا لم ينف الاثم عنه، وختم الكلام بقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ للإشعار بما في هذه الاحكام من المصلحة والمنفعة وبأن من خالف لأجل المصلحة مع الاخلاص فهو مغفور له.
__________
(1) تفسير المنار: 2/135.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. كان الكلام في الآية السابقة في القصاص في القتل، وهو ضرب من ضروب الموت، فناسب أن يذكر ما يطلب ممن يحضره الموت من الوصية، والخطاب عام موجه إلى الناس كلهم، بأن يوصوا بشيء من الخير، ولا سيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته، لتكون خاتمة أعمالهم خيرا، وقد تقدم أن قلنا إن الأمة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتمّ إلا بالتعاون والتكافل والائتمار بأوامرها والتناهي عن نواهيها، فإن لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على ذلك.
2. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي فرض عليكم معشر المؤمنين إذا حضرت أسباب الموت وعلله والأمراض المخوفة، وتركتم مالا كثيرا لورثتكم، أن توصوا للوالدين وذوى القربى بشيء من هذا الخير لا يعدّ في نظر الناس قليلا ولا كثيرا، وقد قدروه بعدم الزيادة على ثلث المتروك للوارثين، وجمهرة العلماء وأئمة السلف، وروى عن بعض الصحابة أن هذه الوصية إنما تكون لهم ما لم يكونوا وارثين لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله أعطى كل ذي حقّ حقه، ألا لا وصية لوارث)
3. جوّز بعض الأئمة الوصية للوارث، بأن يخص بها بعض من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنيا وبعضهم فقيرا عاجزا عن الكسب، فمن الخير والمصلحة ألا يسوّى بين الغنى والفقير، والقادر على الكسب ومن يعجز عنه، وإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فله أن يوصى لهما بما يؤلّف به قلوبهما، وقد أوصى الله بحسن معاملتهما وإن كانا كافرين، كما قال ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾
4. ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ أي أوجب ذلك حقا على المتقين لي المؤمنين بكتابي، ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ أي فمن غيّر الإيصاء من شاهد ووصىّ، فإنما إثم التبديل على من بدّل، وقد برئت منه ذمة الموصى وثبت له الأجر عند ربه، والتغيير إما بإنكار الوصية، أو بالنقص فيها بعد أن علمها حق العلم.
5. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي إنه سميع لأقوال المبدّلين والموصين، ويعلم نياتهم ويجازيهم وفقها، ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد للمبدّلين، والوعد بالخير للموصين.
6. هذه الوصية واجبة عند بعض علماء السلف كما ترشد إلى ذلك هذه الآية والحديث: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصى به إلا ووصيته عند رأسه)، وعند جمهور العلماء مندوبة.
7. ثم استثنى من إثم التبديل حالة ما إذا كان للإصلاح وإزالة التنازع فقال: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ أي إذا خرج الموصى في وصيته عن نهج الشرع والعدل خطأ أو عمدا، فتنازع الموصى لهم في المال أو تنازعوا مع الورثة، فتوسط بينهم من يعلم بذلك، وأصلح بتبديل هذا الجنف والحيف، فلا إثم عليه في هذا التبديل، لأنه تبديل باطل بحق، وإزالة مفسدة بمصلحة، وقلما يكون إصلاح إلا بترك بعض الخصوم شيئا مما يرونه حقا لهم.
8. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي فمن خالف وبدل للإصلاح، فالله يغفر له ويثيبه على عمله.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/65.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثم يجيء تشريع الوصية عند الموت.. والمناسبة في جوها وجو آيات القصاص حاضرة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾.. وهذه كذلك كانت فريضة، الوصية للوالدين والأقربين، إن كان سيترك وراءه خيرا، وفسر الخير بأنه الثروة، واختلف في المقدار الذي تجب عنده الوصية، والأرجح أنها مسألة اعتبارية بحسب العرف، فقال بعضهم لا يترك خيرا من يترك أقل من ستين دينارا، وقيل ثمانين وقيل أربعمائة، وقيل ألف.. والمقدار الذي يعتبر ثروة تستحق الوصية لا شك يختلف من زمان إلى زمان، ومن بيئة إلى بيئة.
2. نزلت آيات المواريث بعد نزول آيات الوصية هذه، وحددت فيها أنصبة معينة للورثة، وجعل الوالدان وارثين في جميع الحالات، ومن ثم لم تعد لهما وصية لأنه لا وصية لوارث، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)، أما الأقربون فقد بقي النص بالقياس إليهم على عمومه، فمن ورثته آيات الميراث فلا وصية له؛ ومن لم يرث بقي نص الوصية هنا يشمله.. وهذا هو رأي بعض الصحابة والتابعين نأخذ به.
3. حكمة الوصية لغير الورثة تتضح في الحالات التي توجب فيها صلة القرابة البر ببعض الأقارب، على حين لا تورثهم آيات الميراث لأن غيرهم يحجبهم، وهي لون من ألوان التكافل العائلي العام في خارج حدود الوراثة، ومن ثم ذكر المعروف وذكر التقوى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، فلا يظلم فيها الورثة، ولا يهمل فيها غير الورثة؛ ويتحرى التقوي في قصد واعتدال، وفي بر وإفضال.
4. ومع هذا فقد حددت السنة نسبة الوصية، فحصرتها في الثلث لا تتعداه والربع أفضل، كيلا يضار الوارث بغير الوارث، وقام الأمر على التشريع وعلى التقوي، كما هي طبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يحققها الإسلام في تناسق وسلام، فمن سمع الوصية فهو آثم إن بدلها بعد وفاة المورث، وهذا من التبديل بريء (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ، فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).. وهو ـ سبحانه ـ الشهيد بما سمع وعلم، الشهيد للمورث فلا يؤاخذ بما فعل من وراءه، والشهيد على من بدل فيؤاخذه بإثم التبديل والتغيير، إلا حالة واحدة يجوز فيها للوصي أن يبدل من وصية الموصي، ذلك إذا عرف أن الموصي إنما يقصد بوصيته محاباة أحد، أو النكاية بالوريث، فعندئذ لا حرج على من يتولى تنفيذ الوصية أن يعدل فيها بما يتلافى به ذلك الجنف، وهو الحيف، ويرد الأمر إلى العدل والنصف: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.. والأمر موكول إلى مغفرة الله ورحمته لهذا ولذاك، ومشدود إلى مراعاة الله في كل حال، فهي الضمان الأخير للعدل والإنصاف، وهكذا نجد الأمر في الوصية مشدودا إلى تلك العروة التي شد إليها من قبل أمر القصاص في القتلى، والتي يشد إليها كل أمر في التصور الإيماني وفي المجتمع الإسلامي على السواء.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/167.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. مما هو من البر أيضا، التزام هذا التشريع الذي كتب على المؤمنين، وهو الوصية للوالدين والأقربين.. وقد ذكر في الآية أن مما يقوم عليه البر هو إيتاء ذوى القربى، وإذ جاء ذلك مطلقا من غير أن يبيّن، أهو على سبيل الوجوب، أو التطوع، فقد جاء في هذه الآية مبينا بأنه على سبيل الوجوب، إذ كان مما كتبه الله وفرضه على المؤمنين.
2. اختلف في وصف (الخير) الذي يتركه الذين يحضرهم الموت، من حيث الكثرة والقلة.. والرأي أنه يكون شيئا له وزنه واعتباره، بحيث يكون مما تطمح إليه الأنظار، وترصد مساره النفوس..
3. قوله تعالى ﴿الْوَصِيَّةِ﴾ هو نائب فاعل للفعل: كتب عليكم، أي فرض عليكم الوصية للوالدين والأقربين إذا حضر أحدكم الموت، وقوله تعالى ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ هو ضبط للمعيار الذي تقوم عليه الوصية، فلا يتحكم فيها هوى، فتميل بجانب، وتخفّ بجانب، أو أن يراد بها الكيد لا البرّ..
4. هذه الآية مما قيل إنها من المنسوخ، وأنها نسخت بآية المواريث! ونحن لا نقول بالنسخ، ولا نراه في تلك الآية الكريمة، فهي برّ خاص بالوالدين، اللّذين قد لا يقوم الميراث بحاجتهما، وخاصة إذا كانا قد تقدمت بهما السنّ، وخلا ظهرهما من الابن الذي كانا يأملانه لكفالة شيخوختهما! وإذا كان ما فرضه الله سبحانه وتعالى لهما من ميراث فيما ترك ابنهما هو القدر الذي قضت به الشريعة، كنصيب مفروض لهما، فإن ذلك لا يقضى بحرمانهما من برّ خاص يجيء من قبل الابن، أو الابنة، وهما في حال الحياة، ومن قبل أن يصير ما في أيديهما خارجا عن سلطانهما، ملكا لغيرهما.
5. ليس تأخير الوصية والبر الذي تحمله إلى ما بعد الوفاة ـ بالذي يخرجها عن كونها برّا خاصّا، جاء من عمل ابنهما أو ابنتهما، وعن إرادتهما.. فإذا عرفنا ـ مع هذا ـ أن الوصية محددة القدر، وأنّها، لا تتجاوز بحال ثلث التركة ـ كان القول بنسخها قطعا لآصرة المودة والبر بالوالدين، هذا البرّ الذي يرى فيه الولد ـ وقد أحسّ دنوّ أجله ـ شيئا من العوض عما فاته من برّ والديه، وقد قضى الموت قضاءه فيه قبلهما، ثم إن هذا البرّ قد يكون شيئا رمزيّا، لا يراد به إلا التعبير عمّا للوالدين من حقّ قبل ولدهما، إذ لم يكن ما يوصى به مقدورا بقدر معيّن من المال! هذا في الوصية للوالدين..
6. أما الأقربون، فإن كانوا ورثة كالزوجة والابن وغيرهما، فشأنهم شأن الوالدين، في إطلاق إرادة المورث، المشرف على الموت، أن يوصى لمن شاء منهم ـ في حدود الثلث ـ بما يراه، ليسدّ حاجة يراها المورث في ورثته، كأن تكون الزوجة مريضة، أو يكون أحد الأبناء ذا عاهة أو نحو هذا.
7. فإن كان الأقربون غير ورثة، فإطلاق إرادة المورث بالوصية لهما بشيء مما سيترك، أوجب وألزم.. إذ يرى أنهم ـ وهم ذوو رحمة ـ محرومون مما ترك للورثة من أقاربه! فالوصية ـ على هذا التقدير ـ ليست إلا استثناء من حكم عام هو الميراث، وبهذا الاستثناء تعالج الثغرات التي تظهر في الحكم العام عند تطبيقه، الأمر الذي لا يخلو منه حكم عام!
8. فى قوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ حراسة مؤكدة على هذا الاستثناء من أن يجوز على الحكم العام أو يعطّله، وبهذه الحراسة المؤكدة تكون الوصية دعامة قوية يقوم عليها الميراث، وتكمل بها جوانب النقص الذي قد يكون فيه، في أحوال وظروف خاصة، يترك تقديرها للمورث، ولما في قلبه من تقوى، خاصة وهو على مشارف الطريق إلى الله.
9. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ الضمير في ﴿بَدِّلْهُ﴾ يعود إلى قوله تعالى ﴿خَيْرًا﴾ أي فمن بدّل في هذا الخير المسوق إلى الموصى إليهم من الموصى، بأن زاد أو نقص فيما سمع من الموصى، فإن إثم ذلك التحريف والتبديل واقع عليه.. فليحذر شاهد الوصية أن يشهد بغير ما سمع: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قد سمع ما نطق به الموصى، وعلمه وشهد عليه.. ومخالفة شاهد الوصية لما أوصى به الموصى، هو مخالفة لما سمعه الله وعلمه، وشهد به.
10. الحديث المروىّ: (لا وصية لوارث) حديث غير متواتر، لا ينسخ به حكم من أحكام القرآن.
11. ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بعد أن أثّم الله سبحانه وتعالى الذين يحرّفون الوصية على غير ما أراده الموصى ونطق به، كان مما قضت به حكمة الحكيم العليم أن يقيم الوصية على العدل، وأن يحمى هذا البر من أن يدخل عليه ما يجعل منه أداة للظلم، وطريقا إلى الإثم، فقد يركب الموصى رأسه، فيتخذ من الوصية سلاحا يضرب به في عصبية وعمى، فيعمل على حرمان بعض أصوله أو فروعه، على حين يعطى بغير حساب من تقع عليه مشيئته منهم.. وفى هذا ما فيه من تقطيع أو أصر المودة والرحمة بين ذوى القربى، ولهذا جعل الله لشاهد الوصية جانبا من المسئولية فيها، وفى إقامتها على العدل والخير والمعروف، فهو ـ أي الشاهد ـ مطالب بأن يؤدى الشهادة في الوصية على وجهها، إذا كانت محققة للعدل والخير والمعروف، فإن حرّف أو بدل، اتباعا لهوى، أو ميلا إلى ذي قرابة أو صداقة، فهو آثم، يلقى من الله جزاء الآثمين، فإن كان التحريف أو التبديل لسدّ خلل في الوصية ولإقامة ميزان العدل فيها فإنه لا بأس حينئذ منه.
12. لما كان هذا التبديل خروجا على الأصل، فهو في حكم ما أبيح للاضطرار، ينبغي الأخذ منه بالقدر الضروري، وبحذر وحرج معا، إنه أشبه بعملية جراحية، لا تتعدى العضو الفاسد، وإلا كان الخطأ والخطر، وكان اللوم والمؤاخذة!.
13. فى قوله تعالى: ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ إشارة صريحة إلى الطريق الذي يلتزمه شاهد الوصية، إذا رأى أن يعدّل من صورتها، وهو الصلح بين ورثة الموصى وقرابته، بحيث يكون حظهم مما ترك مادة خير لهم، لا مصدر شقاق وفرقة.
14. فى قوله سبحانه: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ إشارة رفيقة إلى أن ما يفعله شاهد الوصية من تبديل، في الحال التي يعالج ما بها من عوج، ليس من باب اكتساب الثواب، وحسبه إن هو أحسن ووفق أن يخرج معافى، لا له ولا عليه!..
15. فى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ إشارة ثالثة إلى أن ما فعله شاهد الوصية في هذا الموقف أمر ترجى له المغفرة والرحمة من رب غفور رحيم، إذ كان داعيته البر والخير، وكانت النية القائمة وراءه الإصلاح بين الناس، فهو والأمر كذلك أشبه بمعصية، ترجى لها الرحمة والمغفرة، فإنّ الكذب هو الكذب، حتى ولو كان في سبيل البرّ والخير.. ولكنه في هذا المقام متسامح فيه بالقدر الضروري، كما يتسامح في أكل الميتة ولحم الخنزير وغيرهما من المحرمات عند الاضطرار!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/196.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ استئناف ابتدائي لبيان حكم المال بعد موت صاحبه، فإنه لم يسبق له تشريع ولم يفتتح بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام، فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم، ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيرا ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن وبها تختل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب كما قال طرفة:
çوظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة...على المرء من وقع الحسام المهنّدé
كان تغييرها إلى حال العدل فيها من أهم مقاصد الإسلام كما بيّنا تفصيله فيما تقدم في آية: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: 178]، أما مناسبة ذكره عقب حكم القصاص فهو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصا.
2. القول في ﴿كُتِبَ﴾ تقدم في الآية السابقة وهو ظاهر في الوجوب قريب من النص فيه، وتجريده من علامة التأنيث مع كون مرفوعه مؤنثا لفظا لاجتماع مسوغين للتجريد وهما كون التأنيث غير حقيقي وللفصل بينه وبين الفعل بفاصل، وقد زعم الشيخ الرضي أن اجتماع هذين المسوغين يرجح تجريد الفعل عن علامة التأنيث والدرك عليه.
3. معنى حضور الموت حضور أسبابه وعلاماته الدالة على أن الموت المتخيل للناس قد حضر عند المريض ونحوه ليصيره ميتا قال تأبط شرا: (والموت خزيان ينظر)، فإن حضور الشيء حلوله ونزوله وهو ضد الغيبة، فليس إطلاق حضر هنا من قبيل إطلاق الفعل على مقاربة الفعل نحو قد قامت الصلاة ولا على معنى إرادة الفعل كما في ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: 6]، ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [المائدة: 98]، ولكنه إسناد مجازي إلى الموت لأنه حضور أسبابه، وأما الحضور فمستعار للعرو والظهور، ثم إن إطلاق الموت على أسبابه شائع قال رويشد بن كثير الطائي:
çوقل لهم بادروا بالعفو والتمسوا...قولا يبرّئكم إنّي أنا الموتé
4. الخير: المال وقيل الكثير منه، والجمهور على أن الوصية مشروعة في المال قليله وكثيره، وروي عن عليّ وعائشة وابن عباس أن الوصية لا تجب إلّا في المال الكثير.
5. كانت عادة العرب في الجاهلية أن الميت إذا كان له ولد أو أولاد ذكور استأثروا بماله كله، وإن لم يكن له ولد ذكر استأثر بماله أقرب الذكور له من أب أو عم أو ابن عم الأدنين فالأدنين، وكان صاحب المال ربما أوصى ببعض ماله أو بجميعه لبعض أولاده أو قرابته أو أصدقائه، فلما استقر المسلمون بدار الهجرة واختصوا بجماعتهم شرع الله لهم تشريك بعض القرابة في أموالهم ممن كانوا قد يهملون توريثه من البنات والأخوات والوالدين في حال وجود البنين ولذلك لم يذكر الأبناء في هذه الآية.
6. عبر بفعل ﴿تَرَكَ﴾ وهو ماض عن معنى المستقبل أي إن يترك، للتنبيه على اقتراب المستقبل من المضي إذا أوشك أن يصير ماضيا، والمعنى: إن أوحشك أن يترك خيرا أو شارف أن يترك خيرا، كما قدّروه في قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: 9] في سورة النساء وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: 96] في سورة يونس أي حتى يقاربوا رؤية العذاب.
7. الوصية فعيلة من وصّى، فهو الموصّى بها فوقع الحذف والإيصال ليتأتى بناء فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأن زنة فعيلة لا تبنى من القاصر، والوصية الأمر بفعل شيء أو تركه مما فيه نفع للمأمور أو للآمر في مغيب الآمر في حياته أو فيما بعد موته، وشاع إطلاقها على أمر بشيء يصلح بعد موت الموصي وفي حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا)
8. التعريف في الوصية تعريف الجنس أي كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين، فقوله تعالى: ﴿لِلْوَالِدَيْنِ﴾ متعلق بالوصية معمول له؛ لأن اسم المصدر يعمل عمل المصدر ولا يحتاج إلى تأويله بأن والفعل، والوصية مرفوع نائب عن الفاعل لفعل ﴿كُتِبَ﴾، و﴿إِذَا﴾ ظرف.
9. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ الفعل الذي تألفه العقول ولا تنكره النفوس فهو الشيء المحبوب المرضي سمي معروفا لأنه لكثرة تداوله والتأنّس به صار معروفا بين الناس، وضدّه يسمى المنكر.. والمراد بالمعروف هنا العدل الذي لا مضارة فيه ولا يحدث منه تحاسد بين الأقارب بأن ينظر الموصي في ترجيح من هو الأولى بأن يوصي إليه لقوة قرابة أو شدة حاجة، فإنه إن توخي ذلك استحسن فعله الناس ولم يلوموه، ومن المعروف في الوصية ألا تكون للإضرار يوارث أو زوج أو قريب وسيجيء عند قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ [البقرة: 182]
10. الباء في ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية.
11. شمل قوله ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ تقدير ما يوصي به وتمييز من يوصي له ووكل ذلك إلى نظر الموصي فهو مؤتمن على ترجيح من هو أهل للترجيح في العطاء كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾
12. ﴿حَقًّا﴾ مصدر مؤكد لـ ﴿كُتِبَ﴾ لأنه بمعناه و﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ صفة أي حقا كائنا على المتقين، ولك أن تجعله معمول ﴿حَقًّا﴾ ولا مانع من أن يعمل المصدر المؤكد في شيء ولا يخرجه ذلك عن كونه مؤكدا بما زاده على معنى فعله؛ لأن التأكيد حاصل بإعادة مدلول الفعل، نعم إذا أوجب ذلك المعمول له تقييدا يجعله نوعا أو عددا فحينئذ يخرج عن التأكيد.
13. خص هذا الحق بالمتقين ترغيبا في الرضى به؛ لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس، فليس في الآية دليل على أن هذا الوجوب على المتقين دون غيرهم من العصاة، بل معناه أن هذا الحكم هو من التقوي وأن غيره معصية، وقال ابن عطية: خص المتقون بالذكر تشريفا للرتبة ليتبارى الناس إليها.
14. خص الوالدين والأقربين لأنهم مظنة النسيان من الموصي، لأنهم كانوا يورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة.
15. قدم الوالدين للدلالة على أنهما أرجح في التبدية بالوصية، وكانوا قد يوصون بإيثار بعض أولادهم على بعض أو يوصون بكيفية توزيع أموالهم على أولادهم، ومن أشهر الوصايا في ذلك وصية نزار بن معد بن عدنان إذ أوصى لابنه مضر بالحمراء، ولابنه ربيعة بالفرس، ولابنه أنمار بالحمار، ولابنه إياد بالخادم، وجعل القسمة في ذلك للأفعى الجرهمي، وقد قيل إن العرب كانوا يوصون للأباعد طلبا للفخر ويتركون الأقربين في الفقر وقد يكون ذلك لأجل العداوة والشنآن.
16. هذه الآية صريحة في إيجاب الوصية، لأن قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ صريح في ذلك، وجمهور العلماء على أنها ثبت بها حكم وجوب الإيصاء للوالدين والأقربين، وقد وقت الوجوب بوقت حضور الموت ويلحق به وقت توقع الموت، ولم يعين المقدار الموصى به وقد حرضت السنة على إعداد الوصية من وقت الصحة بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما حق امرئ له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيته مكتوبة عنده)، أي لأنه قد يفجأه الموت.
17. الآية تشعر بتفويض تعيين المقدار الموصى به إلى ما يراه الموصي، وأمره بالعدل بقوله: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ فتقرر حكم الإيصاء في صدر الإسلام لغير الأبناء من القرابة زيادة على ما يأخذه الأبناء.
18. ثم إن آية المواريث التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخا مجملا فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفا على إيصاء الميت له بل صار حقه ثابتا معينا رضي الميت أم كره، فيكون تقرر حكم الوصية في أول الأمر استئناسا لمشروعية فرائض الميراث، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11] فجعلها وصية نفسه سبحانه إبطالا للمنة التي كانت للموصي.
19. بالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء، الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد، ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال: عادني النبي وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليّ فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله فنزلت: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: 11] الآية، فدل على أن آخر عهد بمشروعية الوصايا سؤال جابر بن عبد الله، وفي البخاري عن ابن عباس كان المال وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب.. وقيل نسخت مشروعية الوصية فصارت ممنوعة قاله إبراهيم بن خثيم وهو شذوذ وخلاف لما اشتهر في السنة إلّا أن يريد بأنها صارت ممنوعة للوارث.
20. وقيل: الآية محكمة لم تنسخ والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبدين والأقارب الذين لا ميراث لهم، وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري، والأصح هو الأول.
21. ثم القائلون ببقاء حكم الوصية بعد النسخ منهم من قال إنها بقيت مفروضة للأقربين الذين لا يرثون وهذا قول الحسن وطاووس والضحاك والطبري لأنهم قالوا: هي غير منسوخة، وقال به ممن قال إنها منسوخة ابن عباس ومسروق ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد، ومنهم من قال بقيت مندوبة للأقربين وغيرهم وهذا قول الجمهور إلّا أنه إذا كان أقاربه في حاجة ولم يوص لهم فبئس ما صنع ولا تبطل الوصية، وقيل تختص بالقرابة لو أوصى لغيرهم بطلت وترد على أقاربه قاله جابر بن زيد والشعبي وإسحاق بن راهويه والحسن البصري، والذي عليه قول من تعتمد أقوالهم أن الوصية لغير الوارث إذا لم يخش بتركها ضياع حق أحد عند الموصي مطلوبة، وأنها مترددة بين الوجوب والسنة المؤكدة لحديث (لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيته مكتوبة عند رأسه)، إذا كان هذا الحديث قد قاله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد مشروعية الفرائض فإن كان قبل ذلك كان بيانا لآية الوصية وتحريضا عليها، ولم يزل المسلمون يرون الوصية في المال حقا شرعيا، وفي (صحيح البخاري) عن طلحة بن مصرّف قال سألت عبد الله بن أبي أوفى هل كان النبي أوصى فقال: لا، فقلت: كيف كتبت على الناس الوصية ولم يوص؟ قال أوصى بكتاب الله، يريد أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كان لا يورث فكذلك لا يوصي بماله، ولكنه أوصى بما يعود على المسلمين بالتمسك بكتاب الإسلام، وقد كان من عادة المسلمين أن يقولوا للمريض إذا خيف عليه الموت أن يقولوا له أوص.
22. اتفق علماء الإسلام على أن الوصية لا تكون لوارث لما رواه أصحاب (السنن) عن عمر بن خارجة وما رواه أبو داوود والترمذي عن أبي أمامة كلاهما يقول سمعت النبي قال: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث)، وذلك في حجة الوداع، فخص بذلك عموم الوالدين وعموم الأقربين وهذا التخصيص نسخ، لأنه وقع بعد العمل بالعام وهو وإن كان خبر آحاد فقد اعتبر من قبيل المتواتر، لأنه سمعه الكافة وتلقاه علماء الأمة بالقبول.
23. الجمهور على أن الوصية بأكثر من الثلث باطلة للحديث المشهور عن سعد بن أبي وقاص أنه مرض فعاده النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فاستأذنه في أن يوصي بجميع ماله فمنعه إلى أن قال له: (الثلث والثلث كثير إنّك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس)، وقال أبو حنيفة: إن لم يكن للموصي ورثة ولو عصبة دون بيت المال جاز للموصي أن يوصي بجميع ماله ومضى ذلك أخذا بالإيماء إلى العلة في قوله (إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير) إلخ، وقال: إن بيت المال جامع لا عاصب، وروي أيضا عن علي وابن عباس ومسروق وإسحاق بن راهويه، واختلف في إمضائها للوارث إذا أجازها بقية الورثة ومذهب العلماء من أهل الأمصار أنها إذا أجازها الوارث مضت.
24. هذا وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى عين كيفية قسمة تركة الميت بآية المواريث، وأن آية الوصية المذكورة هنا صارت بعد ذلك غير مراد منها ظاهرها، فالقائلون بأنها محكمة قالوا: بقيت الوصية لغير الوارث والوصية للوارث بما زاد على نصيبه من الميراث فلا نسخ بين الآيتين، والقائلون بالنسخ يقول منهم من يرون الوصية لم تزل مفروضة لغير الوارث: إن آية المواريث نسخت الاختيار في الموصى له والإطلاق في المقدار الموصى به، ومن يرى منهم الوصية قد نسخ وجوبها وصارت مندوبة يقولون: إن آية المواريث نسخت هذه الآية كلها فأصبحت الوصية المشروعة بهذه الآية منسوخة بآية المواريث للإجماع على أن آية المواريث نسخت عموم الوالدين والأقربين الوارثين، ونسخت الإطلاق الذي في لفظ (الوصية) والتخصيص بعد العمل بالعام، والتقييد بعد العمل بالمطلق كلاهما نسخ، وإن كان لفظ آية المواريث لا يدل على ما يناقض آية الوصية، لاحتمالها أن يكون الميراث بعد إعطاء الوصايا أو عند عدم الوصية بل ظاهرها ذلك لقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ [النساء: 11]، وإن كان الحديثان الواردان في ذلك آحادا لا يصلحان لنسخ القرآن عند من لا يرون نسخ القرآن بخبر الآحاد، فقد ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة، ولمّا ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإجماع، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين والفقهاء في تقرير كيفية النسخ.
25. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ الضمائر البارزة في (بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه) عائدة إلى القول أو الكلام الذي يقوله الموصي ودل عليه لفظ ﴿الْوَصِيَّةِ﴾ [البقرة: 180]، وقد أكد ذلك بما دل عليه قوله ﴿سَمْعِهِ﴾ إذ إنما تسمع الأقوال وقيل هي عائدة إلى الإيصاء المفهوم من قوله تعالى: ﴿الْوَصِيَّةِ﴾ أي كما يعود الضمير على المصدر المأخوذ من الفعل نحو قوله تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، ولك أن تجعل الضمير عائدا إلى ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 180]، والمعنى فمن بدل الوصية الواقعة بالمعروف، لأن الإثم في تبديل المعروف، بدليل قوله الآتي: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 182]
26. المراد من التبديل هنا الإبطال أو النقص؛ وما صدق (من بدّله) هو الذي بيده تنفيذ الوصية من خاصة الورثة كالأبناء ومن الشهود عليها بإشهاد من الموصي أو بحضور موطن الوصية كما في الوصية في السفر المذكورة في سورة المائدة: ﴿لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ﴾ [المائدة: 106] فالتبديل مستعمل في معناه المجازي لأن حقيقة التبديل جعل شيء في مكان شيء آخر والنقض يستلزم الإتيان بضد المنقوض وتقييد التبديل بظرف ﴿بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾ تعليل للوعيد أي لأنه بدل ما سمعه وتحققه وإلّا فإن التبديل لا يتصور إلّا في معلوم مسموع؛ إذ لا تتوجه النفوس إلى المجهول.
27. القصر في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ﴾ إضافي، لنفي الإثم عن الموصي وإلّا فإن إثمه أيضا يكون على الذي يأخذ ما يجعله له الموصي مع علمه إذا حاباه منفذ الوصية أو الحاكم فإن الحكم لا يحل حراما، وقد قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار)، وإنما انتفى الإثم عن الموصي لأنه استبرأ لنفسه حين أوصى بالمعروف فلا وزر عليه في مخالفة الناس بعده لما أوصى به، إذ ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 38 ـ 39]
28. المقصود من هذا القصر إبطال تعلل بعض الناس بترك الوصية بعلة خيفة ألّا ينفذها الموكول إليهم تنفيذها، أي فعليكم بالإيصاء ووجوب التنفيذ متعين على ناظر الوصية فإن بدله فعليه إثمه، وقد دل قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ أي هذا التبديل يمنعه الشرع ويضرب ولاة الأمور على يد من يحاول هذا التبديل؛ لأن الإثم لا يقرر شرعا.
29. قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ وعيد للمبدل، لأن الله لا يخفى عليه شيء وإن تحيل الناس لإبطال الحقوق بوجوه الحيل وجاروا بأنواع الجور فالله سميع وصية الموصي ويعلم فعل المبدل، وإذا كان سميعا عليما وهو قادر فلا حائل بينه وبين مجازاة المبدل، والتأكيد بأنّ ناظر إلى حالة المبدل الحكمية في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ﴾ لأنه في إقدامه على التبديل يكون كمن ينكر أنّ الله عالم فلذلك أكّد له الحكم تنزيلا له منزلة المنكر.
30. ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تفريع على الحكم الذي تقدمه وهو تحريم التبديل، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيد المبدل لها، وتفرع عن وعيد المبدل الإذن في تبديل هو من المعروف وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقة الإصلاح بين الموصي لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية بأن كان جديرا بالإيصاء إليه فتركه الموصي أو كان جديرا بمقدار فأجحف به الموصي؛ لأن آية الوصية حضرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولا إلى أمانته بالمعروف، فإذا حاف حيفا واضحا وجنف عن المعروف أمر ولاة الأمور بالصلح.
31. معنى ﴿خَافَ﴾ هنا الظن والتوقع؛ لأن ظن المكروه خوف فأطلق الخوف على لازمه وهو الظن والتوقع إشارة إلى أن ما توقعه المتوقع من قبيل المكروه، والقرينة هي أن الجنف والإثم لا يخيفان أحدا ولا سيما من ليس من أهل الوصية وهو المصلح بين أهلها، ومن إطلاق الخوف في مثل هذا قول أبي محجن الثقفي: (أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها)، أي أظن وأعلم شيئا مكروها ولذا قال قبله: (تروّي عظامي بعد موتي عروقها)
32. الجنف: الحيف والميل والجور وفعله كفرح، والإثم المعصية، فالمراد من الجنف هنا تفضيل من لا يستحق التفضيل على غيره من القرابة المساوي له أو الأحق، فيشمل ما كان من ذلك عن غير قصد ولكنه في الواقع حيف في الحق، والمراد بالإثم ما كان قصد الموصي به حرمان من يستحق أو تفضيل غيره عليه.
33. الإصلاح: جعل الشيء صالحا يقال: أصلحه أي جعله صالحا، ولذلك يطلق على الدخول بين الخصمين بالمراضاة؛ لأنه يجعلهم صالحين بعد أن فسدوا، ويقال: أصلح بينهم لتضمينه معنى دخل، والضمير المجرور ببين في الآية عائد إلى الموصي والموصى لهم المفهومين من قوله تعالى: ﴿مُوصٍ﴾ إذ يقتضي موصى لهم، ومعنى ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 173] أنه لا يلحقه حرج من تغيير الوصية؛ لأنه تغيير إلى ما فيه خير، والمعنى: أن من وجد في وصية الموصي إضرارا ببعض أقربائه، بأن حرمه من وصيته أو قدم عليه من هو أبعد نسبا، أو أوصى إلى غني من أقربائه وترك فقيرهم فسعى في إصلاح ذلك وطلب من الموصي تبديل وصيته، فلا إثم عليه في ذلك؛ لأنه سعى في إصلاح بينهم، أو حدث شقاق بين الأقربين بعد موت الموصي لأنه آثر بعضهم، ولذلك عقبه بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وفيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجا للإذن من الله تعالى والتنصيص على أنه مغفور.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/145.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن بين سبحانه بناء الجماعة الإسلامية بما ذكره في آية البر، وبين حماية الجماعة الإسلامية من آفات المجتمع من الاعتداء والتفريق بالقصاص بين سبحانه وتعالى بعض أحكام الأسرة التي تربط بينها بعد الوفاة، وبين في آية البر إيتاء ذوى القربى في حياته، وفى هذه الآية يبين سبحانه وتعالى الوصية بالإيتاء بعد وفاته، فقال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وقد قال بعض الفقهاء مناسبة الآية بعد آية القصاص فوق ما ذكرنا أن آية القصاص تفيد أن للولى أن يقتص فيكون هذا الذي يقتص منه قد حضرته الوفاة، فكان له أن يوصى، بما يوصيه، إذ قد حضره الموت، فيجب عليه أن يوصى، إن ترك خيرا.
2. هذه أول آية ذكرت فيها الوصية، وقد ذكرت بعد ذلك في توزيع الميراث، وأنه يكون بعد وصية يوصى بها أو دين، ثم ذكرت في آخر المائدة عند الشهادة عليها، إن حضر الموت وهو في سفر.
3. ﴿كُتِبَ﴾ تدل على الفرضية المؤكدة مما يؤكد به القول عادة وهو الكتابة المقيدة المسجلة، وقد قال بعض الفقهاء: إن الوصية لمن كان عنده مال يسمى (خيرا) تكون واجبة، وقد احتجوا بما روى عن ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصى به فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)، وإذا استدلّ على هذا بأن ذلك إذا أراد الوصية، فإذا لم يردها لا جناح عليه إذا لم يوص ولم يكتب، فنقول إنه بعد ذكر صيغة الوجوب، وهى ﴿كُتُبٌ﴾ الدالة على الفرضية يكون الحديث دالا على الكتابة تنفيذا للفرضية وتأكيدا لها، وتثبيتا، وقال الأكثرون الوصية ليست واجبة في غير الودائع، والديون التي عليه، والصدقات التي وجبت ولم يؤدها، وقد اتفق الفقهاء على وجوب الوصية في هذه الأمور التي تكون حقا عليه، ولم يقم بأدائه في حياته فيوصى به بعد وفاته، والظاهرية من نفاة القياس قرروا أن الوصية واجبة بظاهر الوجوب في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ وأنه إن لم يقم بذلك كان للقاضي أن يأخذ قدرا من الوصية يعطيه لمن يستحقه أي قدر كان.
4. علق تعالى طلب الوصية على وجود قدر من المال يسمى ﴿خَيْرًا﴾ فقال تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾:
أ. قال بعض العلماء: إن أي قدر من المال خير، لأن الله تعالى سماه خيرا فقال تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة] وإن المال القليل يطلق عليه إنه خير؛ ولذا قال تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص] وإطلاق كلمة خير على المال قل أو جل لأنه سبيل للخير، وخلق المال لجلب الخير، ودفع الضر.
ب. وروى عن كثير من الصحابة أن الخير المراد به في الآية الكثير كثرة نسبية بالنسبة لحال الورثة وعددهم، روى عن عائشة أن رجلا قال لها: إني أريد أن أوصى، قالت: كم مالك؟ قال ثلاثة آلاف درهم، قالت: فكم عيالك؟ قال أربعة، قالت: إن الله تعالى يقول: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك، وروى أن عليا كرم الله وجهه دخل على رجل يعوده، فقال الرجل: أوصى؟ فقال الإمام كرم الله وجهه: (قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لأولادك)، ويفهم من هذا أن المراد بالخير المال الكثير.
تقدير الخير نسبى بحسب حال الورثة وحاجتهم وعددهم؛ ولذلك اختلف الصحابة في تقدير الكثرة فمعظمهم قدرها بما فوق الستين دينارا، وقدرها بعضهم بثمانين دينارا فأكثر، وروى عن قتادة أنّه قال ألف فما فوقها، أي من الدراهم، وهكذا نرى أن الكثرة من علماء الصحابة فسروا الخير بأنه المال الكثير الذي يتناسب مع حاله وحال ورثته وعددهم وأن أحدا من الصحابة لم يفسره بأنه أي مال، ولم يقدر مقدار الموصى به، ولا دليل على تقدير قدر معين له، وقد ترك التقدير لتحقيق كلمة بالمعروف، أي الأمر الذي لا تستنكره العقول، وتعرفه وتقر به، وتعبير القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ يدل على ما لا يستنكر في العرف والعادات، المستقيم الذي يضع الأمور في مواضعها ويزنها بميزان الحق.
5. ﴿لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ذكرنا معنى بالمعروف، وقد كان النصب يوجب على من يقول بالوجوب الوصية للوالدين والأقربين وذكر الوالدين أولا؛ لأن الله تعالى أوصى بالإحسان إليهما وأكد الإحسان ولو كانا مشركين وقال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان]
6. الأقربون من الأقارب هم الذي تدنو قرابتهم أكثر من غيرهم كالإخوة والأخوات والأبناء والبنات، وغيرهم من ذوى العلاقات المباشرة بالقرابة كالعم وابن الأخ.
7. سؤال وإشكال: أيوصى لها وجوبا بالمعروف، ولو كان لهم ميراث مقرر في آية المواريث، والميراث فريضة محكمة، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)، والجواب: لقد قال الأكثرون من الفقهاء: إن هذه الآية إنما يؤخذ بها إذا كان هؤلاء غير وارثين كما كان الأمر في أول الإسلام إذا أسلم وأبواه مشركان، وكما كان من بعد من تزاحم الورثة أو تقديم بعضهم على بعض، كأن يكون له أخت شقيقة أو لأب، وله ابن، فإن الأخت لا ترث وهى من الأقربين، وكذلك أخوه؛ لأن الابن حجبه ففي الحال إذا كان الأخ ذا حاجة كمتقدم السن فإنه يوصى له، ولذا قال هؤلاء الغلبة من الفقهاء إنه يجمع بين آية الوصية وآية المواريث وتكون آية الميراث مخصصة لآية الوصية بأنها في غير الوارثين من الأقارب، هذا ما عليه الجمهرة العظمى من الفقهاء، ولا يقال إن آية الميراث نسخت آية الوصية؛ لأنها بقيت شريعتها في غير الوارثين، وهى في ذاتها سير لما عساه يكون من حاجة عند بعض الأقارب الأقربين الذين لم يصل إليهم تقسيم الميراث ويكون هذا هو العدل، وهو البر والرحمة بذوي قرباه.
8. يرى بعض الفقهاء أنه لا تعارض لا في الكل ولا في الجزء بين آيات الميراث، وآية الوصية، فآية الوصية في الثلث يوصى به لمن يراه أشد حاجة وأقوى قرابة، والميراث في الثلثين، ولقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث أموالكم فضعوه حيث شئتم)، ولقد قال ذلك القول من الشيعة الجعفرية، وقالوا: إنه حديث (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث إلا بالثلث)، ولعلهم عللوا ذلك بأن بعض الورثة ربما لا يسد نصيبه حاجته، فالأخ قد يكون ذا متربة فلا يسد نصيبه حاجته، وقد يكون أحد الورثة زمنا مريضا بمرض لا يرجى البرء منه، وهو في حاجة إلى أكبر من نصيبه، فيوصى له بما يكمل حاجته وقد شرع الله تعالى الوصية لتكميل ما عساه يكون في توزيع الميراث من رأب يجب سده، وقد أخذ القانون المصري برأي الإمامية في جواز الوصية.
9. الاعتبار في حال الأخذ بجواز الوصية للوارث أن يكون ذلك بالأمر المعروف الذي لا يستنكره الشرع ولا يستنكره العقل، فإن فعل فقد ارتكب إثما، فلا يوصى لابنه الغنى، أو الذي يكون من الزوج المحبوبة ويترك الآخر، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (سووا بين أولادكم) أو يوصى لابنه، ويترك ابنته فإن الوصية للوارث مهما يكن مبررها هي مخالفة للميراث، أو استثناء من أحكامه ويستقيم الاستثناء إذا كان في بر وعدل، لا في قطيعة وإثم، وإن القاعدة الشرعية في الأمور الاستثنائية أو الاستحسانية التي تجيء على خلاف القاعدة أن تكون مكملة للقاعدة أو الأصل العام والباعث عليه، غير مناقضة له.
10. أكد سبحانه طلب الوصية، فقال تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ وحقا في الآية مفعولا لفعل محذوف يقدر بما يناسب القول أو الحكم، فيقدر مثلا يجعلها الله حقا، أو أوجبه حقا على المتقين.
11. اقتران حكم الوصية الدال على وجوبها للوالدين والأقربين يومئ إلى أنها محكمة لا تنسخ؛ لأن الله تعالى لا يؤكد حكما جرى في علمه المكنون أنه سينسخه ذلك التأكيد، وهو يدل على الوجوب ويؤكده، وذكر الوجوب على المتقين للإشارة إلى أنهم الذين يطيعونه اتقاء غضب الله سبحانه وتعالى وابتغاء رضوانه، وإلى أنهم يسارعون بإجابته، وأنهم ينفذون في دائرة المعروف غير المنكور.
12. الوصية تكون عطاء من رجل فان يتركها لمن بعده من ذوى قرابته أو الاتصال به، وهى تكون وديعة بين أيديهم، هي وديعة ذلك المتوفى الذي صار لا يملك من أمره شيئا، وهى أيضا وديعة الله إذا كانت في سبيل الخير الذي يرضاه الله تعالى؛ ولذا نهى الله تعالى عن تبديلها، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ وهذا يدل على أن التبديل إثم ممن يقع منه التبديل سواء أكان وصيا في التركة أم كان وصيا على الورثة الضعفاء أم كان شاهدا، أم كان قد أودع الوصية، وبعبارة عامة، كل من يكون في قدرته التبديل والتغيير في موضوعها، أو في مقدارها، أو في مستحقها، ولا يقال إن التبديل من الموصى نفسه للسياق؛ إذ يقول ﴿بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾، أي القول الدال على الوصية، والموصى لم يسمع القول بل قاله، متفق عليه أن الموصى له أن يغير في الوصية، ويبدل ما دام حيا؛ لأنها تصرف غير لازم، ولا تنفذ إلا بعد وفاة، ولا يأثم إلا إذا غيرها من خير إلى غيره، ولا يكون الإثم إلا من قصد الشر.
13. كان التبديل إثما لأنه خيانة للموصى الذي استودعه أسراره، ولأنه اعتدى فغير وبدل فيما لا يملك التغيير، ولأنه كشاهد الزور الذي يشهد بغير ما يعلم أنه الحق، ولأنه يفوت الخير المعروف الذي قصده الموصى بوصيته.
14. ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ الفاء هنا واقعة في جواب الشرط، و(إنما) دالة على القصر، أي فإن الإثم واقع على الذين يبدلونه، وليس على الموصى وزر فيما فعلوه، فقد احتسب الخير ونواه، وأراد تنفيذه، وليس عليه وزر الذين غيروا وبدلوا.
15. ﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ بواو الجمع، وقد يكون الذي غيره واحدا، للإشارة إلى أن ذلك التغيير عادة يكون من الورثة الذين يريدون أن يغيروا إرادة المورث، ففي التعبير بواو الجماعة إشارة إلى ائتمار منه ولا ينسب إلى واحد يتحمل وحده الوزر، بل يتحملون جميعا الوزر.
16. هدد الله تعالى أولئك المغيرين المبدلين المناعين للخير، بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي أنه سبحانه وتعالى سميع لأقوالهم التي غيروا بها وبدلوا، ومنعوا الخير عن صاحبه، وعليم بكل شيء، عليم بالوصية الحق التي كتبها الموصى، وعليم بمن غير وبدل وهو المتصف بالعلم الكامل، وهو الذي أحاط بكل شيء علما سبحانه وتعالى، وإن ذلك إنذار شديد لمن يغير.
17. أكد سبحانه الكلام بأنّ المؤكدة، والجملة الاسمية، وذكر اسم (الله) سبحانه وتعالى العالم بكل شيء.
18. قد يكون الموصى ظالما، أو ميالا لظلم، أو يريد إثما لوصيته كمن يوصى في موضع، أو يعين في وصيته على إثم فهل تنفذ هذه الوصية، وهل يجوز تغييرها؟ قال الله تعالى في ذلك: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، والخوف يكون في الأمر المتوقع فيخاف أن يقع، فتقول أخاف أن تفعل كذا، إذا كنت تتوقع الفعل المخوف، كما قال يعقوب: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ [يوسف]، أو رأيت بوادره من قول أو فعل أو نحو ذلك، والجنف الميل إلى ناحية الظلم، وهو ضد الحنف فهو الميل إلى ناحية العدل فقوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ معناه من خاف من موص ميلا إلى ظلم، أو توجها خطأ إلى ظلم أو إثما مقصودا فأصلح بينهم أي بينه وبين ورثته وحمله على الاتجاه إلى العدل والخير، أو قصد إثما بأن أوصى لبنيه دون بناته أو أراد أن يوصى في معصية، أو في ناحية لا خير فيها، فحملوه على اختيار ما لا معصية فيه ولا ظلم، فإنه لا يكون عليه إثم، كإثم التبديل؛ لأنه ما بدل إنما الذي بدل الموصى، وله فضل الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر وفضل الصلح والصلح خير، وفضل منع الظلم، ومنع الظلم خير لا شك فيه.
19. مثل هذا عمل عام يجب القيام به على عامة المؤمنين، وإن قام به البعض سقط الحرج عن الباقين، وإنه يجب على والى الحسبة القيام بالإصلاح في هذه الوصايا التي تجنف لإثم والقاصدة الإثم.
20. إذا كانت الوصية فيها جنف لإثم أو تعمد لإثم، ومات الموصى مصرا عليها، كأن يوصي لغير قرابته، وهم أغنياء، وفى قرابته فقراء فإنه إن حولت الوصية إلى فقراء ذوى قربا كان أولى لأنها عدلت إلى خير، وقد روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن معنى الآية من علم بعد موت الموصى جنفا أو تعمد إيذاء بعض فأصلح ما وقع من الإثم وما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم أي لا يكون إثم التبديل، بل يكون له ثواب الإصلاح، وروى النسائي أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته، وليس له مال غيرهم فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فغضب من ذلك وقال: (لقد هممت ألا أصلى عليه)، ثم دعا مملوكيه فجزأهم ثلاثة أجزاء، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة، وقد أخرج مسلم هذا الحديث.
21. اشترط في نفاذ الوصية ألا يكون فيها مضارة، فلقد قال تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ [النساء] وقرر مالك أن كل وصية فيها مضارة تكون باطلة.
22. اتفق الفقهاء على أن الوصية بمعصية تكون باطلة، وكذلك الوصايا التي يكون الباعث عليها معصية من المعاصي كان يوصى لخليلته لتبقى معه على العشرة الحرام، وإن تكلموا في مدى قوة الباعث.
23. فى الجملة إن الآية الكريمة تدل على أنه لا إثم على من بدل وصية آثمة فحولها إلى الخير، أو أبطلها إن لم يمكن تحويلها، وإن ذلك يكون للقضاء أو لوالى الحسبة.
24. لأن التبديل لا يكون في دائرة الإثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي إن الله تعالى بالغ الغفر؛ غفار للموصى أن همّ وعدل، وغفار لمن أصلح ونجح، ولا يأثم من غيّر بعد الوفاة، وحولها من جنف إلى عدل، وأن الله يرحم الموصى ويرجى ألا يؤاخذه ما دام لم يتم ما أقدم عليه، وقد أكد سبحانه الغفران والرحمة بصيغة الغفور الرحيم، وبإن المؤكدة، وبالجملة الاسمية، اللهم اجعلنا ندخل في غفرانك، ونحن في رحمتك.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/541.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ هذه الآية من آيات الأحكام، وتدخل في باب الوصية، وقد كثرت وتضاربت حولها أقوال الفقهاء والمفسرين.. من ذلك ان من كان عنده مال وظهرت له دلائل الموت وعلاماته فيجب عليه أن يوصي بشيء من ماله للوالدين والأقربين، حتى ولو كانوا وراثا، فيجمع لهم بين الميراث والوصية بالمال، ومنها ان الوصية تجب للقريب إذا كان غير وارث، ومنها ان الوصية للأقرباء مستحبة، وليست بواجبة، ومنها أن يوصي لورثته بحقهم وأنصبتهم من الميراث، فالآية تجري مجرى قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، ومنها ان الوصية للأقارب انما تجب إذا كان المال كثيرا، ومنها ان الآية منسوخة بآية المواريث، الى غير ذلك من الأقوال التي لا تعتمد على أساس.
2. اختلف السنة والشيعة في صحة الوصية للوارث، وقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على انها لا تصح معتمدين على حديث: (لا وصية لوارث)، واتفق فقهاء الشيعة الامامية على صحة الوصية لوارث وغيره، لعدم ثبوت هذا الحديث عندهم، ولأن الأدلة الدالة على صحة الوصية وجوازها تشمل بعمومها الوصية للوارث.. بالإضافة الى روايات خاصة عن أهل البيت عليه السلام، وأقوى الأدلة كلها على صحة الوصية للوارث هذه الآية، قال العلامة الحلي في كتاب التذكرة: (الوصية للوارث صحيحة عند علمائنا كافة، سواء أجاز الوارث أو لا، لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ـ فأوجب الله الوصية للوالدين اللذين هما أقرب الناس الى الميت، ثم قال تأكيدا للوجوب: ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، وهو يعطي عدم اتقاء من لا يعتقد ذلك، ثم ثنى التأكيد بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾، ثم أكد هذه الجملة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، وهذه الآية نص في الباب)
3. سؤال وإشكال: الشيعة قالوا بجواز الوصية للوالدين والأقربين، ولم يقولوا بوجوبها مع ان الآية صريحة في الوجوب، لأن معنى كتب فرض، وعلى هذا فان الشيعة قد خالفوا ظاهر الآية، كما خالفها السنة القائلون بعدم صحة الوصية للوارث، والجواب: من المتفق عليه بين المسلمين كافة ان استخراج الحكم الشرعي من القرآن لا يجوز إلا بعد النظر الى السنة النبوية، بل والبحث عن الإجماع أيضا، فإذا لم يكن سنة ولا اجماع في موضوع الآية جاز الاعتماد على ظاهرها، وقد ثبت في السنة، وقام الإجماع على ان الوصية للأقرباء ليست بواجبة.. اذن، فلا بد من حمل الآية على استحباب الوصية لهم دون الوجوب، ويكون معنى: حقا على المتقين، ان هذا الاستحباب ثابت حقا، لأن معنى الحق هو الثبوت.
4. المراد من المعروف بالآية أن يكون الشيء الموصى به مناسبا بحال الموصي والموصى له، فلا يستنكر ويستهجن لقلته، ولا يبلغ حدا من الكثرة يضر بالوارث، كما لو تجاوز عن ثلث التركة، فلقد جاء في الحديث: (ان الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم)
5. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾، أي بدّل الإيصاء وحرفه، وهو عالم به، ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾، أي أن اثم التبديل والتحريف يقع على من بدّل وحرّف، وارثا كان أو وليا أو حاكما أو وصيا أو شاهدا.. وفي هذا دليل على ان من اقترف ذنبا فان وباله عليه وحده لا على غيره، فإذا أوصى الميت بما عليه من حق لله أو للناس، وأوصى في تنفيذه الى من اعتقد صدقه وأمانته، ثم قصر الوصي أو خان فلا اثم على الميت وإنما الآثم المسئول هو الوصي وحده.
6. قال الرازي: ان العلماء استدلوا بهذه الآية على ان الطفل لا يعذب بكفر أبيه.. وهذا من بديهيات العقل التي أقرها القرآن بشتى الأساليب، منها: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
7. ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، الجنف الخطأ، والإثم تعمد الظلم، وهذه الآية استثناء من الحكم السابق، أي ان المبدل للوصية آثم الا إذا زل الوصي في وصيته، فعندها يجوز للوصي أو للولي أو الحاكم أن يبدل الوصية من الباطل الى الحق، فالمحرّم هو تبديل الحق الى الباطل، لا تبديل الباطل الى الحق.
8. هذا ما ذكره المفسرون في معنى الآية، وهو صحيح في نفسه.. ولكن الذي نفهمه من سياق الآية، وقربه صاحب مجمع البيان: ان الإنسان إذا ظهرت له دلائل الموت، وأراد أن يوصي بأشياء فيها حيف، مثل أن يعطي بعضا ويحرم بعضا.. وحضر هذه الوصية من حضر من العقلاء والمؤمنين فلا إثم على الحاضر أن يشير على الموصي بالحق، وأن يرده الى الصواب، ويصلح بينه وبين الورثة، كي يكون الجميع على رضا ووفاق، ولا يحدث بينهم التشاجر والتطاحن بعد موت الموصي.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/278.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ لسان الآية لسان الوجوب، فإن الكتابة يستعمل في القرآن في مورد القطع واللزوم ويؤيده ما في آخر الآية من قوله ﴿حَقًّا﴾، فإن الحق أيضا كالكتابة يقتضي معنى اللزوم، لكن تقييد الحق بقوله ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، مما يوهن الدلالة على الوجوب والعزيمة، فإن الأنسب بالوجوب أن يقال: ﴿حقا على المؤمنين﴾، وكيف كان فقد قيل إن الآية منسوخة بآية الإرث، ولو كان كذلك فالمنسوخ هو الفرض دون الندب وأصل المحبوبية، ولعل تقييد الحق بالمتقين في الآية لإفادة هذا الغرض.
2. المراد بالخير المال، وكأنه المال المعتد به، دون اليسير الذي لا يعبأ به والمراد بالمعروف هو المعروف المتداول من الصنيعة والإحسان.
3. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾، ضمير إثمه راجع إلى التبديل، والباقي من الضمائر إلى الوصية بالمعروف، وهي مصدر يجوز فيه الوجهان، وإنما قال: ﴿عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾، ولم يقل عليهم ليكون فيه دلالة على سبب الإثم، وهو تبديل الوصية بالمعروف، وليستقيم تفريع الآية التالية عليه.
4. ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، الجنف هو الميل والانحراف، وقيل: هو ميل القدمين إلى الخارج كما أن الحنف بالحاء المهملة انحرافهما إلى الداخل، والمراد على أي حال الميل إلى الإثم بقرينة الإثم، والآية تفريع على الآية السابقة عليها، والمعنى: فإنما إثم التبديل على الذين يبدلون الوصية بالمعروف، ويتفرع عليه: أن من خاف من وصية الموصي أن يكون وصيته بالإثم أو مائلا إليه فأصلح بينهم برده إلى ما لا إثم فيه فلا إثم عليه لأنه لم يبدل وصيته بالمعروف بل إنما بدل ما فيه إثم أو جنف.
في الكافي، عن محمد بن سوقة قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾، قال: (نسختها التي بعدها قوله تعالى: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، قال يعني الموصى إليه ـ إن خاف جنفا من الموصي في ولده فيما أوصى به إليه ـ فيما لا يرضى الله به من خلاف الحق ـ فلا إثم عليه أي على الموصى إليه ـ أن يبدله إلى الحق وإلى ما يرضى الله به من سبيل الحق) هذا من تفسير الآية بالآية فإطلاق النسخ عليه ليس على الاصطلاح، وقد مر أن النسخ في كلامهم ربما يطلق على غير ما اصطلح عليه الأصوليون.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/439.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ أوجب عليكم، وعم الخطاب؛ لأن السامعين كلهم يموتون، والخير المال، و﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بما تعرفه العقول ولا تنكره الفطرة السليمة، وهو إما أن يكون قبل المواريث فيكون على ما يراه الميت بالمعروف، وإما أن يكون بعد نزول وصية الله التي هي أقدم وأوجب، فالمعروف ما طابقها؛ لأنه تعالى صدّر (آيات المواريث) بقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ [النساء:11] وختمها في أوائل (سورة النساء) بقوله تعالى: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ [آية:12] فأرشد إلى العمل بوصيته وترك وصية غيره إذا خالفت.
2. ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ أي حق الإيصاء المذكور حقاً على المتقين، أي وجب أو حال من الوصية، أي واجباً كالدين وسائر الحقوق، وفي قوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ تأكيد لإيجابها.
3. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ﴾ التبديل: إيجاد بدل، إما بدعوى أنه الوصية، أو بدعوى أنه رجع عن الوصية وأبدلها بهذا البدل، وعلى هذا فالتبديل يكون من الكاتب أو الشهود، ويكون من غيرهم.
4. ﴿فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ حصر وقصرٌ إضافي، أي إثمه عليهم، لا على الميت ومن أقام الشهادة على وجهها، فأما من أخذ البدل بالزور وهو يعلم فهو حرام عليه وهو آثم بأخذه، وأخذه منكر خارج عن التبديل، بل هو غصب أعانه عليه التبديل ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
5. ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا﴾ الجنف: الميل، وفي (تفسير الغريب) للإمام زيد بن علي عليهما السلام: (الجنف: الجور والخطأ، والإثم: العمد)، الحاصل الحيف بمخالفة المعروف في تفضيل بعض الموصَى لهم على بعض، تفضيلاً يستنكر ويعاب بغير تعمد لمخالفة المعروف، والإثم: ترك بعضهم، والإيصاء بالكل للآخرين عمداً، ومخالفةً لأمر الله، أو تفضيلهم كذلك، ولعل الجنف خاص ب الأولاد فيما بينهم والأقربين المستوين في الدرجة؛ لأن التفضيل بينهم هو الذي يسمى ميلاً، والإثم: مخالفة الحق عمداً بمخالفة المعروف، أو بترك الإيصاء لبعض مع الإيصاء بالكل للآخرين.
6. ﴿فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ بين الوالدين والأقربين، فإن الوصية المخالفة لأمر الله لا حكم لها ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ وليس ذلك من التبديل المنهي عنه.
7. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يغفر للمصلح المتحري للصواب والقسمة حسبما كان ينبغي للموصي أن يوصي، وفائدة ذكر الغفران والرحمة: التشجيع على الإصلاح لئلا يترك خوفاً من الخطأ، ومعنى الخوف من الجنف أو الإثم: الخوف مما يترتب عليه من الفساد والشقاق، وكون التركة تؤخذ على غير الحق إن تركت كما أوصى.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/250.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه إحدى آيات الأحكام التي تضمنتها هذه السورة كجزء من تنظيم المجتمع المسلم في المدينة في علاقاته الإنسانية، وذلك في نطاق مبدأ الوصية للوالدين والأقربين، فقد أراد الله للإنسان أن يعبّر عن شعوره بالمسؤولية تجاه أرحامه بعد الموت، كما أراد له أن يصلهم في حال الحياة، وذلك بأن يوصي لهم ببعض من ماله ـ في ما إذا ترك شيئا منه ـ ليدلّل على عاطفته نحوهم، مما يحقق لرابطة القرابة أساسا يمتزج فيه الجانب الروحي بالعطاء المادي في عملية إنسانية هادفة.
2. لعل هذا ما يميز الوصية عن الإرث، فإن الإرث، يمثل وضعا تشريعيا لا تتدخل فيه إرادة الإنسان وعاطفته، لأنه حكم شرعي لا خيار للإنسان فيه فهو من فرض الله الذي يجب أن يخضع له، أمّا الوصية، فإنّها تنطلق من إرادة الموصي وتفكيره بحالة الموصى له بعد الموت، ومحاولته إيجاد فرصة مادية له في ما يوصي له به، ويأتي التشريع ـ بعد ذلك ـ ليؤكد هذه الإرادة، وليفرض تنفيذها على المكلفين بشكل دقيق لا مجال فيه للتغيير والتبديل تحت طائلة الإثم والعقاب.
3. حاول بعض الفقهاء والمفسرين أن يعتبر الآية منسوخة بآية الإرث، وقيل في وجه ذلك: (إن الميراث في أول الإسلام لم يكن ثابتا على الكيفية التي جعلت في الشريعة بعد ذلك، وإنما كان الإرث يدفع جميعه للولد، وما يعطي الوالدان من المال فهو بطريق الوصية)، لكن هذا الرأي غير دقيق من وجهين:
أ. الأول: لأن آية الإرث قد رتّبت على عدم الوصية، الأمر الذي يجعلها مؤكدة لشرعية الوصية بدرجة متقدمة، فكيف يمكن أن تتضمن إلغاءها ونسخها الذي يتوقف على أن يكون الناسخ منافيا للمنسوخ في دلالته!؟
ب. الثاني: لأن النسخ يفرض تأخر الآية الناسخة عن المنسوخة، ولم يثبت ذلك بدرجة قطعية، لأن الخبر الدال على ذلك من أخبار الآحاد التي لا تفيد علما، مع أن النسخ يحتاج إلى الدليل القطعي.
ج. ونضيف إلى ذلك أنه لا يمكن أن تكون ناسخة للوصية للأقربين، لأنهم لا يرثون مع الولد ليكون الإرث بديلا عن الوصية.
4. حاول البعض اعتبارها منسوخة بالحديث المروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا وصية لوارث).. ولكن ذلك لا يتم لوجوه ذكرها أستاذنا السيد الخوئي قده في كتابه (البيان في تفسير القرآن) وهي:
أ. إن الرواية لم تثبت صحتها، والبخاري ومسلم لم يرضياها، وقد تكلم في تفسير المنار على سندها.
ب. إنها معارضة بالروايات المستفيضة عن أهل البيت عليهم السّلام الدالّة على جواز الوصية للوارث، ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سألته عن الوصية للوارث فقال: تجوز، قال ثم تلا هذه الآية: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، وبمضمونها روايات أخرى.
ج. إن الرواية لو صحت وسلمت عن المعارضة بشيء، فهي لا تصلح لنسخ الآية، لأنها لا تنافيها في المدلول، غاية الأمر أنها تكون مقيدة لإطلاق الآية، فتختص الوصية بالوالدين إذا لم يستحقا الإرث لمانع، وبمن لا يرث من الأقربين، وإذا فرض وجود المنافاة بينها وبين الآية، فقد تقدم أن خبر الواحد لا يصلح أن يكون ناسخا للقرآن بإجماع المسلمين فالآية محكمة وليست منسوخة.
5. قد يخطر في البال، أن ظهور الآية في أن الوصية فرض على الإنسان لا يتناسب مع فريضة الإرث، لأن الاهتمام بالإيصاء ينطلق من مبدأ الحرص على مساعدة الموصى لهم بعد الموت، نظرا إلى فقدان رعايته الثابتة لهم حال الحياة، وهذا ما يمكن أن يحققه مبدأ الإرث، قد يخطر ذلك في البال على أساس الاستبعاد، لا على أساس الحجة والاستدلال.
6. في ضوء ذلك، يمكن أن يستوحي الإنسان منها أجواء النسخ، ولكن في ما تدل عليه الآية من الوجوب، فلا تنافي ثبوت الجواز في ما تدل عليه الأحاديث عن أهل البيت عليهم السّلام، ولكننا ألمحنا في بداية الحديث عن الآية، إلى أن دور الوصية في مدلوله الإنساني، يختلف عن مدلول تشريع الإرث، ونضيف إلى ذلك أن موارد الوصية لا تلتقي دائما مع موارد الإرث، فقد تحدث بعض الحالات التي لا مجال للإرث فيها، مما يجعل للوصية دورها الفاعل الكبير، وقد تحدث بعض الأوضاع التي يحتاج فيها الوارث إلى مزيد من الرعاية المادية التي لا يحصل عليها من خلال نصيب الإرث.. وعلى كل حال، فإن الاستبعاد لا يصلح أساسا لتقرير فكرة أو رفضها في أي مورد من الموارد القرآنية التي لا بد لنا فيها من الاعتماد على الأسس الدقيقة للتفسير.
7. ﴿كُتِبَ﴾ بمعنى قضي من القضاء، وهو الحكم الذي قد يوحي بالإلزام، فلا بد من الالتزام به إلا أن يدل دليل من كتاب أو سنة أو إجماع على خلاف ذلك، لأن اللفظ لا يخلو من قابلية لذلك، فالحكم بشيء على شخص قد يقترن بالظروف التخفيفية التي تجعل المضمون اختياريا، وقد لا يقترن بذلك فيبقى على حاله، ولما كان إجماع المسلمين قائما على عدم وجوب الوصية للوالدين والأقربين، فلا بد من أن نلتزم بذلك فنحمل الكتابة على أصل التشريع والجعل، وعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي: سجل عليكم تأكيد الوصية ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ مالا معتدا به.
8. الخير: كناية عن المال، وقد اختلفت الروايات في تحديده، ولكن الظاهر منها هو المقدار المعتد به، الذي يمكن أن يبقى منه مقدار زائد على حصة الإرث ـ حسب حالة الورثة ـ كما ورد في الحديث عن علي عليه السّلام، أنه (دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم، أو ستمائة درهم، فقال: ألا أوصي؟ قال لا، إنما قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وليس لك كثير مال، فدع مالك لورثتك)، والظاهر منه المقدار الذي يتناسب مع طبيعة واقع الحال للموصي والموصى له والورثة.
9. ﴿الْوَصِيَّة﴾ وهي التحليل لما بعد الموت ﴿لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الذي يحسن الإنسان فيه إلى أقربائه، ﴿حَقًّا﴾ ثابتا ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ لأن التقوي تفجر في الإنسان طاقات الخير بما توحي به من الحصول على محبة الله ورضاه، والابتعاد عن غضبه وسخطه، مما يدفعه إلى القيام بالأعمال المحبوبة له، واجبة كانت أو مستحبة، لأن ذلك هو سبيل القرب إليه والنجاة من عذابه.
10. ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ إن تنفيذ الوصية وتحوّلها إلى واقع عملي هي مسئولية الوصي، في ما سمعه وعرفه من الوصية تحت طائلة العقاب في حالة التبديل والتغيير، وقد أكد الله على ذلك وشدد الأمر فيه، لأن غياب الموصي بالموت يجعل الوصي في أمن من جهته، على أساس أن الإنسان لا يلتزم عادة بتنفيذ إرادة الآخرين، إلا إذا كانوا في وضع خاص من القوة المادية أو المعنوية التي تستتبع الحساب أو العقاب أو العتاب، فلهذا أراد الله أن يثير القضية في نطاق عذاب الآخرة، كوسيلة من وسائل التنفيذ الحاسمة.
11. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لا يعزب عن سمعه وعلمه أي شيء مما يخوض الناس فيه في ما يريدون وما يفعلون.. وفي الآية دلالة على أن الميت لا إثم عليه في تبديل الوصي للوصية، لأنها مسئولية الوصي لا مسئوليته.
12. ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾:
أ. ربما تفسر هذه الآية بما قبل موت الموصي، وذلك في الحالة التي يتصرف الموصي تصرفا جائرا ـ وهو معنى الجنف ـ أو منحرفا عن خط الحق ـ وهو معنى الإثم الذي يوحي بتعمد الظلم ـ فإن للوصي أن يتدخل لإصلاح الأمر بين الموصي وبين الوالدين والأقربين، وذلك بإرجاعه عن الخطأ وإعادته إلى الحق، لئلا يحصل الخصام والنزاع من جراء ذلك، كما نشاهده في بعض الأوضاع الخاصة، عندما يحاول الموصي أن يحرم بعضا ويعطي بعضا كنتيجة لبعض الدوافع الذاتية.
ب. وربما تفسر بما بعد الموت، وذلك على أساس الاستثناء من حرمة التبديل، فإن للوصي أن يبدل الوصية من حالة الباطل إلى حالة الحق، لأن الإثم هو في تغيير الوصية المنسجمة مع خط الحق، لا المنحرفة عنه، كما إذا كانت الوصية بما يزيد على الثلث للورثة، فللوصي إرجاعه إلى الثلث إذا رفض الورثة ذلك، أو إذا أوصى بتوزيع جميع ثروته على غير الورثة الشرعيين، فلا بد من ردها إلى الثلث، وإذا كان في الوصية ما يؤدي إلى الظلم كإعانة مراكز الفساد أو فعل حرام أو ترك واجب، أو إذا أدت الوصية إلى نزاع أو فساد يوجب إزهاق الأرواح، فللوصي أن يتدخل لمنع ذلك بنفسه أو بالاستعانة بالحاكم الشرعي.
13. ربما يوحي سياق الآية بالتفسير الثاني، لأنها وقعت بعد الآية الأخرى التي تتحدث عن التبديل بعد الموت، باعتبار أن التصرف من صلاحية الوصي، أمّا حالة ما قبل الموت، فلا يملك الوصي أيّة صلاحية فيها، لكن دراسة الآية بدقة، توحي بالمعنى الأول، لأنها واردة في تخطيط خط الوصية في ما هو تكليف الموصي في ما ينبغي أن يوصي به مما لا يتناسب مع خط الجور أو الظلم، فإذا انطلق في هذا الاتجاه الذي يثير الخصومة والنزاع، فإن للوصي ـ باعتبار علاقته الأكيدة بالموضوع لأنها مهمته في المستقبل ـ أن يتدخل للإصلاح من موقع الإصلاح، لا من موقع السلطة ليقال ـ كما سبق ـ إنه لا يملك صلاحية في الموضوع، وهذا التفسير هو المروي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السّلام في ما ذكره صاحب مجمع البيان، وقد جاء في كلمة الإمام علي عليه السّلام في نهج البلاغة: (يا بن آدم كن وصيّ نفسك واعمل في مالك ما تؤثر أن يعمل فيه من بعدك) إنها توحي بأن الإنسان قد يفكر بالخير في وصيته بماله بعد الوفاة سواء أكان ذلك في ما يتعلق بقضاياه الخاصة في عباداته أو معاملاته أو صدقاته، أم في ما يتعلق بالآخرين، وهذا عمل جيّد يدلّ على روح الخير في نفسه، ولكن هناك مسألة مهمّة في عمق القيمة الروحية الأخلاقية في النظرة الواقعية إلى الأمور، فإنه عندما كان يوصي بماله بعد الموت، كان يودّع الحياة ويبتعد عن كل علاقة له بالمال، مما لا يجعله يواجه تضحية كبري بإنفاقه في الخير لنفسه أو للآخرين، ولكنه عندما ينفقه في الحياة مع امتداد الأمل بالبقاء، فإنه يضحي به في الوقت الذي تكبر حاجته إليه ويعيش الارتباط به، الأمر الذي يؤكد عمق القيمة الإيمانية الروحية في الإخلاص لله في عمله.
14. ختم الله الآية بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ للإيحاء بأن رعاية الله له لهذا الوحي كانت بإيجاد المصلح الذي يرد الوصية إلى الخط المستقيم في الصلاح والإصلاح، من موقع المغفرة والرحمة اللّتين يمنحهما الله لعباده الصالحين إذا أذنبوا، فكيف هو الحال إذا أصلحوا ولم يكن هناك ذنب!؟
15. نستوحي من مبدأ الوصية في هذه الآيات أمورا:
أ. إن الإسلام يريد أن يركز على مسئولية المسلم في الاهتمام بأمور الآخرين ـ لا سيما أقربائه ـ فيفكر بأمورهم في حالة الحياة وفي ما بعد الموت، ويعمل على تحويل التفكير إلى ممارسة عملية حقيقية بما يوصي به إليهم من مال ليضمن لهم نوعا من كرامة الحياة في ما بعد الموت.
ب. إن في اعتبار هذا التوجه مظهرا من مظاهر التقوي دلالة على أن قضية التقوي في الإسلام لا تتصل بالجانب الروحي العبادي فحسب، بل تتسع لتواجه حسّ المسؤولية في الإنسان تجاه أخيه الإنسان في الحياة وفي ما بعد الموت، مما يؤكد على تنمية الجانب الإنساني للشعور في أعماق الإنسان.
ج. ربما نستوحي من فقرة ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾: أن الله يريد للإنسان أن يستفيد من الفرصة الأخيرة في الحياة ليتقرّب إليه من خلال عمل الخير للناس الذين يحتاجون إليه ممن كانوا السبب في وجوده، أو الذين يرتبطون به برابطة الرحم من خلال إيحاءات القرابة التي تفتح كل مشاعر الخير في نفس الإنسان في الأجواء الحميمة المنسابة في روحه، الأمر الذي يجعله يفكر بطريقة موضوعية متوازنة بعيدة عن كل نوازع الطمع والجشع والذاتية، لأنه سوف يفارق المال كله والحياة كلها بعد قليل فيفقد كل شيء، بينما توحي الوصية إليه الفرصة الإلهية في الحصول على العفو والمغفرة والرحمة في عمل الخير.
د. إن الله لم يعط الإنسان كل الحرية في الوصية، بل حدّد له الثلث كحدٍّ أقصى حتى لا يجور على ورثته، فيتركهم في فقر وحاجةِ يسألون الناس إذا تجاوز ذلك فخص بعضهم بالمال كله أو أوصى به للمشاريع العامة أو لبعض الناس الذين تربطه بهم علاقة خدمة أو إحسان أو نحو ذلك، فللورثة أن يرفضوا الزيادة على الثلث، فتبطل الوصية في الثلثين، وواضح ما في هذه النظرة من مراعاة كلا الطرفين: الموصي، والموصى لهم، فالإجازة للموصي بالتصرف بثلث التركة يشبع لديه الحاجة إلى التصرف في تركته في السياق الذي يلبي شعوره بالواجب وإحساسه بالمسؤولية، فضلا عن إشباع رغبته وأحلامه، فلا يحرم ـ لذلك ـ من التصرف بماله في ما بعد الموت، وأما ترك الثلثين للموصى لهم فيندرج في سياق إعانتهم على تلبية حاجاتهم ومعالجة قضاياهم الخاصة، وقد جاء في الحديث عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنّه قال: (من عدل في وصيته كان بمنزلة من تصدق بها في حياته، ومن جار في وصيته لقي الله يوم القيامة وهو عنه معرض)، وربما كان المراد بالجور هو الوصية بأكثر من الثلث، أو بالمقدار الذي يخلق للورثة مشكلة في حياتهم لحاجتهم المال الذي أوصى به.
هـ. إن الوصية ليست ملزمة لصاحبها ما دام في الحياة، فله أن يرجع عنها أو يغيرها بأي نحو كان، فلا حق لأحد عليه في ذلك.
و. إن على الإنسان أن يوصي بكل الواجبات والمسؤوليات المترتبة عليه، في حقوق الناس عنده أو حقوق الله التي لا بد من قضائها، إذا خاف على نفسه الموت وفوات الفرصة في الأداء والقضاء، أما في غير ذلك فالوصية مستحبة.
__________
(1) من وحي القرآن: 4/8.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الآيات السابقة ذكرت تشريع القصاص، وهذه الآيات تذكر تشريع الوصية، باعتباره جزءا من النظام المالي، وتذكر بأسلوب الحكم الإلزامي فتقول: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ثم تضيف الآية أن هذه الوصيّة كتبت ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾
2. تعبير ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ يدل على الوجوب، من هنا كان هذا التعبير وقع بحث لدى المفسرين في هذه الآية، ولهم فيها أقوال مختلفة:
أ. جاء في الآية الكريمة بشأن كتابة الوصية كونها ﴿حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾، من هنا فإنها مستحبة استحبابا مؤكدا، ولو كانت واجبة لقالت الآية، (حقّا على المؤمنين)
ب. قيل أيضا: إن هذه الآية نزلت قبل نزول أحكام الإرث، وكانت الوصية آنئذ واجبة، كي لا يقع نزاع بين الورثة، ثم نسخ هذا الوجوب بعد نزول آيات الإرث، وأصبح حكما استحبابيا، وفي تفسير (العيّاشي) حديث يؤيّد هذا الاتجاه.
ج. يحتمل أيضا أن يكون حديث الآية عن موارد الضرورة والحاجة، أي حين يكون الإنسان مدينا، أو في ذمته حق، والوصية واجبة في هذه الحالات.
ويبدو أن التّفسير الأول أقرب من بقية التفاسير.
3. يلفت النظر أن الآية الكريمة عبرت عن المال بكلمة ﴿خَيْرُ﴾ فقالت: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾، وهذا يعني أن الإسلام يعتبر الثروة المستحصلة عن طريق مشروع، والمستخدمة على طريق تحقيق منافع المجتمع ومصالحه خيرا وبركة، ويرفض النظرات الخاطئة التي ترى الثروة شرا ذاتيا، ويردّ على أولئك المتظاهرين بالزهد، القائلين إن الزهد مساو للفقر، مسببين بذلك ركود المجتمع الإسلامي اقتصاديا، ومؤدين بمواقفهم الانزوائية إلى فسح المجال لاستثمار الطامعين خيرات أمتهم، وهذا التعبير يشير ضمنيا إلى مشروعية الثروة، لأن الأموال غير المشروعة ليست خيرا بل شرا وبالا.
4. يستفاد من بعض الروايات أن تعبير ﴿خَيْرًا﴾ يراد به الأموال الموفورة، لأن المال اليسير لا يحتاج إلى وصية، ويستطيع الورثة أن يقسّموه بينهم حسب قانون الإرث، بعبارة أخرى المال اليسير ليس بشيء يستدعي أن يفصل الإنسان ثلثه عن طريق الوصية.
5. جملة ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ تبيّن آخر فرصة للوصيّة، وهذه الفرصة الأخيرة إن فاتت أيضا فلا فرصة بعدها.. أي لا مانع أن يكتب الإنسان وصيته قبل ذلك، بل يستفاد من الروايات أن هذا عمل مستحسن.
6. لا قيمة لتلك التصورات المتشائمة من كتابة الوصية، فالوصية إن لم تكن باعثا على طول العمر، لا تبعث إطلاقا على تقريب أجل الإنسان! بل هي دليل على بعد النظر وتحسّب الاحتمالات.
7. تقييد الوصية ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ إشارة إلى أن الوصية ينبغي أن تكون موافقة للعقل من كل جهة، لأن (المعروف) هو المعروف بالحسن لدى العقل، يجب أن تكون الوصية متعقلة في مقدارها وفي نسبة توزيعها، دون أن يكون فيها تمييز، ودون أن تؤدي إلى نزاع وانحراف عن أصول الحق والعدالة.
8. حين تكون الوصية جامعة للخصائص المذكورة فهي محترمة ومقدسة، وكل تبديل وتغيير فيها محظور وحرام، لذلك تقول الآية التالية: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾، ولا يظنّن المحرفون المتلاعبون أن الله غافل عمّا يفعلون، كلّا ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
9. لعل هذه الآية تشير إلى أن تلاعب (الوصيّ) (وهو المسؤول عن تنفيذ الوصية) لا يصادر أجر الموصي، فالموصي ينال أجره، والإثم على الوصي المحرّف في كميّة الوصية أو كيفيتها أو في أصلها، ويحتمل أيضا أن الآية تبرئ ساحة غير المستحقين الذين قسم بينهم الإرث عند عدم التزام الوصيّ بمفاد الوصية، وتقول إن هؤلاء (الذين لا يعملون بتلاعب الوصي) لا إثم عليهم، بل الإثم على الوصيّ المحرّف، ولا تناقض بين التّفسيرين، فالآية تجمع التّفسيرين معا.
10. بيّن القرآن فيما سبق الأحكام العامّة للوصية، وأكد على حرمة كل تبديل فيها، ولكن في كل قانون استثناء، والآية الثالثة من آيات بحثنا هذا تبين هذا الاستثناء وتقول: ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
11. الاستثناء يرتبط بالوصية المدونة بشكل غير صحيح، وهنا يحق للوصي أن ينبّه الموصي على خطئه إن كان حبّا، وأن يعدّل الوصيّة إن كان ميتا، وحدّد الفقهاء مواضع جواز التعديل فيما يلي:
أ. إذا كانت الوصيّة تتعلق بأكثر من ثلث مجموع الثروة، فقد أكدت نصوص المعصومين على جواز الوصية في الثلث، وحظرت ما زاد على ذلك، من هنا لو وصّى شخص بتوزيع كل ثروته على غير الورثة الشرعيين، فلا تصح وصيته، وعلى الوصي أن يقلل إلى حدّ الثلث.
ب. إذا كان في الوصية ما يؤدي إلى الظلم والإثم، كالوصية بإعانة مراكز الفساد، أو الوصية بترك واجب من الواجبات.
ج. إذا أدت الوصية إلى حدوث نزاع وفساد وسفك دماء، وهنا يجب تعديل الوصية بإشراف الحاكم الشرعي.
12. عبرت الآية (بالجنف) عن الانحرافات التي تصيب الموصي في وصيته عن سهو، و(بالإثم) عن الانحرافات العمدية.
13. عبارة ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تشير إلى ما قد يقع فيه الوصي من خطأ غير عمدي عندما يعدّل الوصية المنحرفة، وتقول: إن الله يعفو عن مثل هذا الخطأ.
14. الإرث يوزع حسب القانون الإسلامي بنسب معينة على عدد محدود من الأقارب، وقد يكون بين الأقارب والأصدقاء والمعارف من له حاجة ماسة إلى المال، ولكن لا سهم له في قانون الإرث، وقد يكون بين الورثة من له حاجة أكبر إلى المال من بقية الورثة، من هنا وضع الإسلام قانون الوصية إلى جانب قانون الإرث، وأجاز للمسلم أن يتصرّف في ثلث أمواله (بعد الوفاة) بالشكل الذي يرشد لملء هذا الفراغ.
15. أضف إلى ما سبق، قد يرغب إنسان أن يعمل بعد مماته الخيرات التي ما أتيح له أن يعملها في حياته، ومنطق العقل يفرض أن لا يحرم هذا الشخص من مثل هذا العمل الخيري.
16. الوصية غير محصورة بالموارد المذكورة طبعا، بل على الإنسان أن يشخّص في وصيته ما لديه من أمانات وما عليه من ديون وأمثالها، حتى لا يبقى في أمواله شيء مبهم من حقوق النّاس وحقوق الله.
17. النصوص الإسلامية أكّدت على ضرورة الوصية كثيرا، من ذلك ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت ليلة إلّا ووصيّته تحت رأسه)، والمقصود بوضع الوصية تحت الرأس إعدادها وتهيئتها طبعا، وفي رواية أخرى: (من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة)
18. في الروايات الإسلامية تأكيد وافر على (عدم الجور) و(عدم الضرار) في الوصية، يستفاد منها جميعا أنّ تعدي الحدود الشرعية المنطقية في الوصية عمل مذموم ومن كبائر الذنوب، روي عن الإمام الباقر عليه السّلام: (من عدل في وصيّته كان كمن تصدّق بها في حياته، ومن جار في وصيّته لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عنه معرض)، والجور في الوصية هو الوصية بأكثر من الثلث، وحرمان الورثة من حقهم المشروع، أو التمييز بين الورثة بسبب عواطف شخصية سطحية، وأوصت النصوص الإسلامية أيضا بعدم الوصية بالثلث إن كان الورثة فقراء محتاجين، وتقليل النسبة إلى الربع وإلى الخمس.
19. موضوع العدالة في الوصية يبلغ درجة من الأهمية نراها في هذه الرواية: (أنّ رجلا من الأنصار توفى وله صبية صغار وله ستّة من الرّقيق فأعتقهم عند موته وليس له مال غيرهم فلمّا علم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سأل قومه ما صنعتم بصاحبكم قالوا دفنّاه قال أما إنّي لو علمته ما تركتكم تدفنونه مع أهل الإسلام ترك ولده صغارا يتكفّفون النّاس)
20. الوصية وإن كانت مستحبة بطبيعة حالها ـ كما أشرنا إليه ـ ولكن قد تكون واجبة لأمور طارئة، مثل أن يكون على الإنسان حقوق واجبة للناس أو لله قصّر في أدائها، أو كانت عنده أمانات وديون أو مثل ذلك بحيث لو لم يوص احتمل ضياع حقوق النّاس بذلك، وأهم من الكل أن يكون للإنسان مكانة خاصة في المجتمع لو لم يوص لمن بعده وقعت اضطرابات وأمور مؤسفة ففي جميع هذه الصور تجب الوصيّة.
21. القوانين الإسلامية أجازت للموصي أن يعيد النظر في وصيته ما دام على قيد الحياة، وجواز هذا التغيير يشمل الوصي وكيفية الوصية، ذلك لأن مرور الزمان قد يغيّر نظرات الموصي، ويغير المصالح المرتبطة بالوصية.
22. جدير بالذكر أن الإنسان ينبغي أن يجعل وصيته وسيلة لتلافي ما مضى من تقصير، وأن يتودّد بها إلى من جفاه من أقاربه أيضا، وفي الروايات أن قادة الإسلام كانوا يوصون خاصة لمن جفاهم من أقاربهم ويخصصون لهم مبلغا من المال، كي يعيدوا ما انقطع من أواصر الودّ، ويحررون عبيدهم، أو يوصون بتحريرهم.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/511.
77. الصيام وأحكامه
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈77⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 183-185]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنه كان يكبر: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد(1)..
__________
(1) ابن أبي شيبة: ٢/١٦٨.
سلمان:
روي عن سلمان الفارسي (ت 34 هـ): كان سلمان يعلمنا التكبير: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا، اللهم أنت أعلى وأجل من أن يكون لك صاحبة، أو يكون لك ولد، أو يكون لك شريك في الملك، أو يكون لك ولي من الذل، وكبره تكبيرا، اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا(1)..
__________
(1) البيهقي: ٣/٣١٦.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم يفطر، ويطعم مكان كل يوم مسكينا(1)..
2. روي أنّه قال: من مرض في شهر رمضان، فلم يصحّ حتى مات، فقد حيل بينه وبين القضاء، ومن مرض ثم صح فلم يقض حتى مات، فيستحبّ لوليّه أن يقضي عنه ما مرض عليه(2)..
3. روي أنّه قال: يقضي شهر رمضان من كان فيه عليلا أو مسافرا، عدّة ما اعتلّ وسافر فيه، إن شاء متّصلا، وإن شاء متفرّقا، وإنّما قال الله عزّ وجل: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184] فإذا أتى بالعدّة، (فقد أتى بما يجب(2)..
4. روي عن زيد بن علي، عن آبائه، قال خرج الإمام علي، وهو يريد صفّين، حتى إذا قطع النّهر، أمر مناديه فنادى بالصّلاة، قال فتقدّم فصلّى ركعتين، حتى إذا قضى الصلاة، أقبل علينا فقال: يا أيها الناس ألا من كان مشيعا أو مقيما فليتمّ فإنّا قوم على سفر، ومن صحبنا فلا يصم المفروض، والصّلاة ركعتان(3)..
5. روي أنّه قال: من خرج من منزله مسافرا في شهر رمضان، قبل انشقاق الفجر، فهو في صيام ذلك اليوم بالخيار، وإذا هو خرج بعد انشقاق الفجر، فعليه صيامه ولا يفطر(4)..
6. روي أنّه قال: ليس للعبد أن يخرج إلى سفر إذا حضر شهر رمضان، لقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185](5)..
7. روي عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال كنت مع علي في ضيعة له على ثلاث من المدينة، فخرجنا نريد المدينة في شهر رمضان، وعلي راكب وأنا ماش قال فصام، وأفطرت، وفي رواية: وأمرني فأفطرت(6)..
8. روي أنّه قال: لمّا أنزل الله عزّ وجلّ، فريضة شهر رمضان، وأنزل: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184] أتى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شيخ كبير.. وأتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إنّي امرأة حبلى، وهذا شهر رمضان مفروض، وأنا أخاف على ما في بطني إن صمت، فقال لها: انطلقي فافطري، وإن أطقت فصومي، وأتته امرأة مرضعة فقالت: يا رسول الله، هذا شهر مفروض صيامه، وإن صمت خفت أن يقطع لبني، فيهلك ولدي، فقال: انطلقي وافطري، وإذا أطقت فصومي(7)..
9. روي أنّه قال: من أدرك رمضان وهو مقيم، ثم سافر؛ فقد لزمه الصوم؛ لأن الله يقول: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(8)..
10. روي أنّه قال: لما حضر شهر رمضان قام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس، كفاكم الله عدوكم من الجن والانس، وقال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم﴾ [غافر: 60] ووعدكم الإجابة، ألا وقد وكل الله بكل شيطان مريد سبعة من ملائكته، فليس بمحلول حتى ينقضي شهركم هذا، ألا وأبواب السماء مفتحة من أول ليلة منه، ألا والدعاء فيه مقبول(9)..
11. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير، وأعطى كل سائل(10)..
12. روي أنّه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم فقال: أيها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.. أيها الناس، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنّ الله أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين.. أيها الناس من فطر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق نسمة، ومغفرة لما مضى من ذنوبه، قيل: يا رسول الله فليس كلنا يقدر على ذلك، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار ولو بشربة من ماء.. أيها الناس من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازا على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن خفف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيما أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضا كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة علي ثقل الله ميزانه يوم تخفف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور.. أيها الناس، إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة، فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عنكم، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم، قيل: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله(11)..
13. روي أنّه قال: عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار والدعاء، فأما الدعاء فيدفع البلاء عنكم، وأما الاستغفار فتمحى به ذنوبكم(12)..
14. روي أنّه قال: من مرض في شهر رمضان، فلم يصحّ حتى مات، فقد حيل بينه وبين القضاء، ومن مرض ثم صح فلم يقض حتى مات، فيستحبّ لوليّه أن يقضي عنه ما مرض عليه(2)..
15. روي أنّه قال: يقضي شهر رمضان من كان فيه عليلا أو مسافرا، عدّة ما اعتلّ وسافر فيه، إن شاء متّصلا، وإن شاء متفرّقا، وإنّما قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184] فإذا أتى بالعدّة، (فقد أتى بما يجب(2)..
16. روي أنّه قال: لا يقبل ممّن كان عليه صيام فريضة، صيام نافلة، حتى يقضي الفريضة(13)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٧٦.
(2) دعائم الاسلام 1/279.
(3) كتاب وقعة صفّين: ص134.
(4) الجعفريات: ص60.
(5) الخصال: 614.
(6) ابن جرير: ٣/١٩٦.
(7) دعائم الاسلام 1/278.
(8) ابن جرير: ٣/١٩٤.
(9) من لا يحضره الفقيه: 2/60/260.
(10) من لا يحضره الفقيه: 2/61/263.
(11) أمالي الصدوق: 84/4.
(12) من لا يحضره الفقيه: 2/67/281.
(13) دعائم الاسلام 1/285.
عائشة:
روي عن عائشة (ت 57 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن عبد الرحمن بن القاسم: أن إبراهيم بن محمد جاء إلى عائشة يسلم عليها وهو في رمضان، فقالت: أين تريد؟ قال العمرة، قالت: قعدت حتى دخل هذا الشهر! لا تخرج قال إن أصحابي وثقلي قد خرجوا، قالت: وإن، فرده، ثم أقم حتى تفطر(1)..
2. روي عن أم ذرة، قالت: كنت عند عائشة، فجاء رسول أخي، وذلك في رمضان، فقالت لي عائشة: ما هذا؟ فقلت: رسول أخي، يريد أن يخرج، فقالت: لا يخرج حتى ينقضي الشهر، فإن رمضان لو أدركني وأنا في الطريق لأقمت(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٩٥.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ)في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾ ثلاثة أيام من كل شهر(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ مد بمد أهل مكة(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿خَيْرًا﴾ زاد على مسكين(3)..
4. روي أنّه قال: هو تعليم، وليس بعزم، قول الله: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾؛ إن شاء صام، وإن شاء لم يصم(4)..
5. روي أنّه قال: من أدركه شهر رمضان فلا بأس أن يسافر، ثم يفطر(5)..
6. روي أنّه قال: الصيام في السفر مثل الصلاة، تقصر إذا أفطرت، وتصوم إذا وفيت الصلاة(6)..
__________
(1) سعيد بن منصور: ٢/٦٧٧.
(2) الدرّ المنثور: وكيع.
(3) ابن جرير: ٣/١٨٥.
(4) ابن جرير: ٣/٢١١.
(5) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(6) ابن أبي شيبة: ٣/٢٠.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾، يعني بذلك: أهل الكتاب(1)..
2. روي أنّه قال: كتب على النصارى الصيام كما كتب عليكم، وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾ فكان أول أمر النصارى أن قدموا يوما، قالوا: حتى لا نخطئ، ثم قدموا يوما وأخروا يوما، قالوا: حتى لا نخطئ، ثم إن آخر أمرهم صاروا إلى أن قالوا: نقدم عشرا ونؤخر عشرا؛ حتى لا نخطئ، فضلوا(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾ كان ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نُسخ بالذي أنزل الله من صيام شهر رمضان، فهذا الصوم الأول من العتمة(3)..
4. روي أنّه قرأ: (وعلى الذين يطوقونه) قال يتجشمونه، يتكلفونه(4)..
5. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ يتكفلونه ولا يستطيعونه(5)..
6. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾: لم ينسخها آية أخرى، ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(6)..
7. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام، يفطر ويتصدق لكل يوم نصف صاع من بر؛ مدا لطعامه، ومدا لإدامه(4)..
8. روي أنّه كان يقرؤها: (وعلى الذين يطوقونه)، ويقول: هو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام؛ فيفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع من حنطة(7)..
9. روي أنّه كان يقرأ: (وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين) قال فكان يقول: هي للناس اليوم قائمة(8)..
10. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾؛ فكان من شاء منهم أن يفتدي بطعام مسكين افتدى وتم له صومه، فقال: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم﴾، وقال: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ الآية(9)..
11. روي أنّه قال: (وعلى الذين يطوقونه) يكلفونه، ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ واحد، ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ زاد طعام مسكين آخر: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم﴾ قال فهذه ليست منسوخة، ولا يرخص إلا للكبير الذي لا يطيق الصوم، أو مريض يعلم أنه لا يشفى(5)..
12. روي أنّه كان يقرأ: (وعلى الذين يطوقونه) مشددة قال يكلفونه ولا يطيقونه، ويقول: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير الهم، والعجوز الكبيرة الهمة؛ يطعمون لكل يوم مسكينا ولا يقضون(10)..
13. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ هو الشيخ الكبير كان يطيق صوم شهر رمضان وهو شاب، فكبر وهو لا يستطيع صومه، فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أفطره، حين يفطر وحين يتسحر(11)..
14. روي أنّه قال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ من لم يطق الصوم إلا على جهد فله أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينا، والحامل، والمرضع، والشيخ الكبير، والذي به سقم دائم(12)..
15. روي أنّه قال: قالت امرأةٌ: يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال أرأيت لو كان على أمك دينٌ فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم، قال فصومي عن أمك(13)..
16. روي أنّه قال: الإفطار في السفر عزمة(14)..
17. روي أنّه قال: لا أعيب على من صام، ولا على من أفطر في السفر(2)..
18. روي أنّه قال: خذ بأيسرهما عليك، قال الله ـ تبارك وتعالى ـ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(15)..
19. روي أنّه قال لأم ولد له حامل أو مرضع: أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصوم، عليك الطعام، ولا قضاء عليك(16)..
20. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾؛ فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا، ثم نزلت هذه الآية: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، فنسخت الأولى، إلا الكبير الفاني، إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر(17)..
21. روي أنّه قال: جعل الله في الصوم الأول فدية طعام مسكين، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكينا ويفطر كان ذلك رخصة له؛ فأنزل الله في الصوم الآخر: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، ولم يذكر الله في الصوم الآخر فدية طعام مسكين، فنسخت الفدية، وثبت في الصوم الآخر: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، وهو الإفطار في السفر، وجعله عدة من أيام أخر(18)..
22. روي أنّه قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والعجوز، وهما يطيقان الصوم؛ أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، ثم نسخت بعد ذلك، فقال الله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وأثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان أن يفطرا ويطعما، وللحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا مكان كل يوم مسكينا، ولا قضاء عليهما(19)..
23. روي عن ابن سيرين قال: كان ابن عباس يخطب، فقرأ هذه الآية: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ قد نسخت هذه الآية(2)..
24. روي عن مقسم: سأل عطية بن الأسود ابن عباس، فقال: إنه قد وقع في قلبي الشك في قوله الله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: ١]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: ٣]؛ وقد أنزل في شوال، وذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم، وشهر ربيع الأول! فقال ابن عباس أنّه قال (إنه أنزل في رمضان، وفي ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام(20)..
25. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ هو إهلاله بالدار(21)..
26. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾: فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم؛ أقام أو سافر، وإن شهده وهو في سفر فإن شاء صام وإن شاء أفطر(21)..
27. روي عن عبيدة: إذا سافر الرجل وقد صام في رمضان؛ فليصم ما بقي، ثم قرأ هذه الآية: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ قال وكان ابن عباس يقول: من شاء صام، ومن شاء أفطر(2)..
28. روي أنّه قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ اليسر: الإفطار في السفر، والعسر: الصوم في السفر(22)..
29. روي أنّه قال: لا تعب على من صام في السفر، ولا على من أفطر، خذ بأيسرهما عليك؛ قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(23)..
30. روي أنّه قال: حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم؛ لأن الله يقول: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾(24)..
31. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير، وأعطى كل سائل(25)..
32. روي أنّه قال: قالت امرأةٌ: يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال أرأيت لو كان على أمك دينٌ فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم، قال فصومي عن أمك(13)..
33. روي أنّه كان يكبر: الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر وأجل، الله أكبر على ما هدانا(26)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٥.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(3) ابن جرير: ٣/١٥٧.
(4) ابن جرير: ٣/١٧٤.
(5) تفسير مجاهد: ص٢٢٠.
(6) عبد الرزاق في مصنفه: ٤/٢٢٠ ـ: ٢٢١.
(7) سفيان الثوري في تفسيره: ص٥٦.
(8) ابن جرير: ٣/١٧٢.
(9) أبو داوود: ٢٣١٦.
(10) سفيان: ص٥٦.
(11) ابن جرير: ٣/١٧١.
(12) ابن جرير: ٣/١٧٥.
(13) البخاري: 1953.
(14) ابن أبي شيبة: ٣/١٤.
(15) عبد الرزاق في مصنفه: ٢/٥٦٩.
(16) ابن جرير: ٣/١٧٠.
(17) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٧.
(18) ابن جرير: ٣/١٦٥.
(19) أبو داوود: ٢٣١٨.
(20) ابن جرير: ٣/١٨٢.
(21) ابن جرير: ٣/١٩٣.
(22) ابن جرير: ٣/٢١٨.
(23) عبد الرزاق: ٤٤٩٢.
(24) ابن جرير: ٣/٢١٦.
(25) أمالي الصدوق: 57/3.
(26) ابن أبي شيبة: ٢/١٦٧ ـ: ١٦٨.
السلمي:
روي عن أبو عبد الرحمن السلمي (ت 74 هـ) أنّه قال: كانوا في الفطر أشد منهم في الأضحى، يعني: في التكبير(1)..
__________
(1) الدارقطني: ٢/٤٤.
ابن عمر:
روي عن ابن عمر (ت 74 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أنزلت: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾، كتب عليهم أن أحدهم إذا صلى العتمة ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها(1)..
2. روي أنّه سئل عن الصوم في السفر، فقال: لو تصدقت بصدقة فردت؛ ألم تكن تغضب؟ إنما هو صدقة تصدقها الله عليكم(2)..
3. روي أنّه قال: لأن أفطر في رمضان في السفر أحب إلي من أن أصوم(2)..
4. روي أنّه سئل عن الصوم في السفر، فقال: رخصة نزلت من السماء، فإن شئتم فردوها(2)..
5. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ من أدركه رمضان في أهله، ثم أراد السفر؛ فليصم(3)..
6. روي أنّه قال: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم)(4)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٥.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(3) سعيد بن منصور: ٢٧٣ ـ تفسير.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٤.
سلمة:
روي عن سلمة بن الأكوع (ت 74 هـ) قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ من شاء منا صام، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(1).
__________
(1) الدارمي: ٢/١٥.
ابن أبي ليلى:
روي عن ابن أبي ليلى (ت 83 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: حدثنا أصحابنا: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعا من غير فريضة، ثم نزل صيام رمضان(1)..
2. روي أنّه قال: حدثنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: نزل رمضان فشق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك، فنسختها: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم﴾، فأمروا بالصوم(2)..
3. روي أنّه قال: حدثنا أصحابنا: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعا من غير فريضة، ثم نزل صيام رمضان، وكانوا قوما لم يتعودوا الصيام، فكان يشتد عليهم الصوم، فكان من لم يصم أطعم مسكينا، ثم نزلت هذه الآية: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، فكانت الرخصة للمريض والمسافر، وأمرنا بالصيام(3)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٥٩.
(2) البخاري: عَقِب: ١٩٤٨.
(3) ابن جرير: ٣/١٦٢.
أنس:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: من أفطر قبل رخصة، ومن صام فهو أفضل(1)..
2. روي أنّه ضعف عن الصوم عاما قبل موته، فصنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم(2)..
3. روي أنّه ضعف عن الصوم قبل موته عاما، فأفطر وأطعم كل يوم مسكينا(3)..
4. روي عن خيثمة قال: سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر، فقال: يصوم، قلت: فأين هذه الآية: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾؟ قال إنها نزلت يوم نزلت ونحن نرتحل جياعا وننزل على غير شبع، واليوم نرتحل شباعا وننزل على شبع(4)..
5. روي أنّه سئل عن قضاء رمضان، فقال: إنما قال الله: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، فإذا أحصى العدة فلا بأس بالتفريق(5)..
__________
(1) ابن أبي شيبة: ٣/١٥.
(2) أبو يعلى ـ كما في المطالب العالية: ١٠٨٧.
(3) الطبراني.
(4) النسائي في الكبرى: ١١٠٢٠.
(5) البيهقي: ٤/٢٥٨.
المسيب:
روي عن سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير دينكم أيسره)، قال قتادة: إن كتاب الله قد جاءكم بذاك، ورب الكعبة: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، إن كتاب الله قد جاءكم بذاك، ورب الكعبة: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(1)..
2. روي أنّه قال: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خير دينكم أيسره)، قال قتادة: إن كتاب الله قد جاءكم بذاك، ورب الكعبة: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، إن كتاب الله قد جاءكم بذاك، ورب الكعبة: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣١٣.
جابر بن زيد:
سئل جابر بن زيد (ت 93 هـ) عن الصلاة عند القتال، فقال: يصلي الرجل راكبا وماشيا حيث كان وجهه، وذلك من تيسير الله على عباده؛ إنه يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣١٣.
عروة:
روي عن عروة بن الزبير (ت 94 هـ) أنه لا يجوز الصوم في السفر، ومن صام فعليه القضاء(1)..
__________
(1) تفسير البغوي: ١/١٩٩.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن ابن شهاب الزهري أنّه قال: دخلنا على علي بن الحسين بن علي، فقال: يا زهري، فيم كنتم؟ قلت: تذاكرنا الصوم، فأجمع رأيي ورأي أصحابي على أنه ليس من الصوم شيء واجب إلا شهر رمضان، فقال: يا زهري، ليس كما قلتم، الصوم على أربعين وجها؛ عشرة منها واجبة كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها حرام، وأربعة عشرة خصلة صاحبها بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب قال قلت: فسرهن، يا ابن رسول الله قال أما الواجب فصوم شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين ـ يعني: في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق ـ، قال تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ [النساء: ٩٢]، وصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد الإطعام، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُم﴾ [المائدة: ٨٩]، وصيام حلق الرأس ـ قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ﴾ [البقرة: ١٩٦] ـ صاحبه بالخيار إن شاء صام ثلاثا، وصوم دم المتعة لمن لم يجد الهدي، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٦]، وصوم جزاء الصيد، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ [المائدة: ٩٥]، وإنما يقوم ذلك الصيد قيمة، ثم يقص ذلك الثمن على الحنطة، وأما الذي صاحبه بالخيار: فصوم يوم الاثنين والخميس، وصوم ستة أيام من شوال بعد رمضان، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، كل ذلك صاحبه بالخيار، إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأما صوم الإذن: فالمرأة لا تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، وكذلك العبد والأمة، وأما صوم الحرام: فصوم يوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم الشك نهينا أن نصومه كرمضان، وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر حرام، والضيف لا يصوم إلا بإذن صاحبه، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم)، ويؤمر الصبي بالصوم إذا لم يراهق تأنيسا، وليس بفرض، وكذلك من أفطر لعلة من أول النهار ثم وجد قوة في بدنه أمر بالإمساك، وذلك تأديب الله تعالى، وليس بفرض، وكذلك المسافر إذا أكل أول النهار ثم قدم أمر بالإمساك، وأما صوم الإباحة: فمن أكل أو شرب ناسيا من غير عمد، فقد أبيح له ذلك وأجزأه عن صومه، وأما صوم المريض وصوم المسافر فإن العامة اختلف فيه، فقال بعضهم: يصوم، وقال قوم: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطران في الحالين جميعا، فإن صام في السفر والمرض فعليه القضاء، قال الله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾(1)..
2. روي أنّه قال في دعائه عند دخول شهر رمضان: وأعنّا على صيامه، بكفّ الجوارح عن معاصيك، واستعملنا فيه بما يرضيك، حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، ولا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تعي بطوننا إلّا ما أحللت، ولا تنطق ألسنتنا إلّا ما قلت، ولا نتكلّف إلّا ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلّا الذي يقي من عقابك، ثم خلّص ذلك كلّه من رياء المرائين، وسمعة المستمعين، ولا نشرك فيه أحدا دونك، ولا نبتغي به مرادا سواك(2)..
3. روي أنّه قال: وأما صوم المريض وصوم المسافر فإن العامة اختلفت فيه؛ فقال بعضهم: يصوم، وقال قوم: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطران في الحالين جميعا، فإن صام في السفر والمرض فعليه القضاء، قال الله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾(1)..
4. روي أنّه قال: المسافر إذا أكل من أول النهار ثم قدم أهله أمر بالإمساك بقية يومه تأديبا وليس بفرض.. وكذلك الحائض إذا طهرت أمسكت بقية يومها(3)..
5. روي أنّه قال: أما صوم السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك، فقال قوم: يصوم، وقال آخرون لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعا، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء، فإن الله عزّ وجلّ يقول: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184] فهذا تفسير الصيام(4)..
6. روي عن الإمام الصادق أنّه قال: كان علي بن الحسين إذا كان شهر رمضان لم يتكلم إلاّ بالدعاء والتسبيح والاستغفار والتكبير، فإذا أفطر قال: اللهم إن شئت أن تفعل فعلت(5)..
7. روي أنّه كان يدعو بهذا الدعاء في كل يوم من شهر رمضان: اللهم إن هذا شهر رمضان، وهذا شهر الصيام، وهذا شهر الإنابة، وهذا شهر التوبة، وهذا شهر المغفرة والرحمة، وهذا شهر العتق من النار والفوز بالجنة، اللهم فسلمه لي، وتسلمه مني، وأعني عليه بأفضل عونك، ووفقني فيه لطاعتك، وفرغني فيه لعبادتك ودعائك وتلاوة كتابك، وأعظم لي فيه البركة، وأحسن لي فيه العافية، وأصح لي فيه بدني، وأوسع فيه رزقي، واكفني فيه ما أهمني، واستجب لي فيه دعائي، وبلغني فيه رجائي، اللهم اذهب فيه عني النعاس والكسل والسأمة والفترة والقسوة والغفلة والغرة، اللهم جنبني فيه العلل والأسقام والهموم والأحزان والأعراض والأمراض والخطايا والذنوب، واصرف عني فيه السوء والفحشاء والجهد والبلاء والتعب والعناء إنك سميع الدعاء، اللهم أعذني فيه من الشيطان الرجيم، وهمزه ولمزه ونفثه ونفخه ووسواسه وكيده ومكره وحيله وأمانيه وخدعه وغروره وفتنته ورجله وشركه وأعوانه، وأتباعه وإخوانه وأشياعه وأوليائه وشركائه وجميع كيدهم، اللهم ارزقني فيه تمام صيامه، وبلوغ الأمل في قيامه، واستكمال ما يرضيك فيه صبرا وإيمانا ويقينا واحتسابا، ثم تقبل ذلك منا بالأضعاف الكثيرة، والأجر العظيم، اللهم ارزقني فيه الجد والاجتهاد، والقوة والنشاط، والإنابة والتوبة، والرغبة والرهبة، والجزع والرقة، وصدقة اللسان، والوجل منك والرجاء لك، والتوكل عليك والثقة بك، والورع عن محارمك بصالح القول ومقبول السعي ومرفوع العمل ومستجاب الدعاء، ولا تحل بيني وبين شيء من ذلك بعرض ولا مرض، برحمتك يا أرحم الراحمين(6)..
8. روي عن أبي حمزة الثمالي قال كان علي بن الحسين سيد العابدين يصلّي عامّة الليل في شهر رمضان، فإذا كان في السحر دعا بهذا الدعاء: الهي لا تؤدبني بعقوبتك، إلى آخر الدعاء(7)..
9. روي أنّه قال: الصوم الواجب صيام شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين في كفارة قتل الخطأ لمن لم يجد العتق واجب، وصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين واجب.. وكل ذلك متتابع وليس بمتفرق(8)..
__________
(1) أبو نعيم في حلية الأولياء: ٣/١٤١ ـ: ١٤٢.
(2) الصحيفة السجادية: ص227 دعاء: 44.
(3) من لا يحضره الفقيه: 2/48/208.
(4) الكافي: 4/86/1.
(5) الكافي: 4/88/8.
(6) الكافي: 4/75/7.
(7) مصباح المتهجد: 524.
(8) الكافي: 4/85/1.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ فرض عليكم(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾ كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم شيئا لم يحل له أن يطعم إلى القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام، وهو عليهم ثابت، وقد رخص لكم في ذلك(2)..
3. روي أنّه قال: تفطر الحامل التي في شهرها، والمرضع التي تخاف على ولدها، يفطران ويطعمان كل يوم مسكينا، كل واحدة منهما، ولا قضاء عليهما(3)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٣.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(3) عبد الرزاق: ٧٥٥٥.
النخعي:
روي عن إبراهيم النخعي (ت 96 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إذا لم يستطع المريض أن يصلي قائما أفطر(1)..
2. روي أنّه قال: الحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا، وقضتا مكان ذلك صوما(2)..
3. روي أنّه قال: إذ خشي إنسان على نفسه في رمضان فليفطر(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٢٠٢.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
عمر:
سئل عمر بن عبد العزيز (ت101 هـ) عن الصوم في السفر، فقال: إن كان أهون عليك فصم، وفي لفظ: إذا كان يسر فصوموا، وإن كان عسر فأفطروا؛ قال الله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(1)..
__________
(1) الدرّ المنثور: وكيع: وعبد بن حميد.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كان الصوم الأول صامه نوح فمن دونه، حتى صامه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، وكان صومهم من كل شهر ثلاثة أيام إلى العشاء، وهكذا صامه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ الآية: فرض الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة، فإذا صلى الرجل العتمة حرم عليه الطعام والجماع إلى مثلها من القابلة، ثم نزل الصوم الآخر بإحلال الطعام والجماع بالليل كله، وهو قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾، وأحل الجماع أيضا، فقال: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُم﴾، وكان في الصوم الأول الفدية، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكينا ويفطر فعل ذلك، ولم يذكر الله في الصوم الآخر الفدية، وقال: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، فنسخ هذا الصوم الآخر الفدية(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ الإفطار في السفر، ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾: الصيام في السفر(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ تفطر الحامل والمرضع، والإفطار في السفر(4)..
5. روي أنّه قال: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ عدة ما أفطر المريض والمسافر(5)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٤.
(2) ابن جرير: ٣/١٦٦.
(3) ابن جرير: ٣/٢١٩، وابن أبي حاتم: ١/٣١٣.
(4) ابن أبي حاتم: ١/٣١٢.
(5) تفسير يحيى بن سلام: (١/٣٩٠.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) أنّه قال: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان، وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل، وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدون ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الآخر يستن سنة القرن الذي قبله، حتى صارت إلى خمسين، فذلك قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٥٣.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كتب الله تعالى صوم شهر رمضان على كل أمة(1)..
2. روي أنّه قال: وتلك الرخصة أيضا في المسافر والمريض، فإن الله يقول: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ أطعم المسكين صاعا(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ فزاد طعاما: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾(4)..
5. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ أطعم مسكينا آخر(5)..
6. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾ هو: ﴿خَيْرٌ لَكُم﴾(6)..
7. روي أنّه قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يصوم ويفطر في السفر، ويرى أصحابه أنه يصوم، ويقول: (كلوا، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني)، قال العوام: فقلت لمجاهد: فأي ذلك ترى؟ قال صوم في رمضان أفضل من صوم في غير رمضان(7)..
8. روي عن عثمان بن الأسود: سألت مجاهدا عن امرأتي وكانت حاملا، فوافق تاسعها شهر رمضان في حر شديد، فشكت إلي الصوم، قد شق عليها، فقال: مرها فلتفطر، ولتطعم مسكينا كل يوم، فإذا أصحت فلتقض(2)..
9. روي أنّه قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ هو الإفطار في السفر، وجعل عدة من أيام أخر، ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(8)..
__________
(1) النحاس في ناسخه: ١/٤٩١.
(2) ابن جرير: ٣/١٧٦.
(3) ابن جرير: ٣/١٨٤.
(4) ابن جرير: ٣/١٨٥.
(5) عبد الرزاق في مصنفه: ٤/٢٢٣.
(6) ابن جرير: ٣/١٨٦.
(7) ابن جرير في تهذيب الآثار: ١/١٢٧.
(8) ابن جرير: ٣/٢١٨.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه كان يقرأ: (وعلى الذين يطوقونه) وقال: يكلفونه، وقال: ليس هي منسوخة، الذين يطيقونه يصومونه، والذين يطوقونه عليهم الفدية(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ أطعم مسكينين(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم﴾ الصيام خير إن استطاع(3)..
4. روي أنّه قال: سألت طاووسا عن أمي، وكان أصابها عطاش، فلم تستطع أن تصوم، فقال: تفطر، وتطعم عن كل يوم مدا من بر، قلت: بأي مد؟ قال بمد أرضك(4)..
__________
(1) الدرّ المنثور: وكيع وعبد بن حميد وابن الأنباري.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٩.
(4) عبد الرزاق: ٧٥٨١.
قاسم:
روي عن قاسم بن محمد (ت 106 هـ) أنه سئل: إنا نسافر في الشتاء في رمضان، فإن صمت فيه كان أهون علي من أن أقضيه في الحر، فقال: قال الله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾؛ ما كان أيسر عليك فافعل(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٢١٣.
طاووس:
روي عن طاووس بن كيسان (ت 106 هـ) أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ إطعام مساكين عن كل يوم(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٨٤.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لقد كتب الصيام على كل أمة خلت، كما كتب علينا شهرا كاملا(1)..
2. روي أنّه قال في الرجل يسافر في رمضان: إن شاء صام، وإن شاء أفطر(2)..
3. روي أنّه قال: لا بأس أن يسافر الرجل في رمضان، ويفطر إن شاء(3)..
4. روي أنّه قال: لم يجعل الله رمضان قيدا(3)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٥.
(2) ابن جرير: ٣/٢١١.
(3) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
ابن سيرين:
روي عن محمد بن سيرين (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي عن طريف بن شهاب العطاردي: أنه دخل على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلم يسأله، فلما فرغ قال: إنه وجعت إصبعي هذه(1)..
2. روي أنّه قال: سألت عبيدة، قلت: أسافر في رمضان؟ قال لا(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٢٠٢.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال:إن الكذبة لتفطر الصائم، والنظرة بعد النظرة، والظلم قليله وكثيره(1)..
2. روي أنّه قال:لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال: الطعام والشراب، والارتماس في الماء، والنساء، والنحس من الفعل والقول(2)..
3. روي أنّه قال:الغيبة تفطر الصائم وعليه القضاء(2)..
4. روي أنّه قال:إن الكذبة لتفطر الصائم، والنظرة بعد النظرة، والظلم كله قليله وكثيره(1)..
5. روي أنّه سئل عن رجل أدركه رمضان وهو مريض فتوفي قبل أن يبرأ، فقال: ليس عليه شيء ولكن يقضى عن الذي يبرأ ثم يموت قبل أن يقضي(3)..
6. روي أنّه سئل عن امرأة مرضت في شهر رمضان أو طمثت أو سافرت فماتت قبل خروج شهر رمضان، هل يقضى عنها؟ قال أما الطمث والمرض فلا، وأما السفر فنعم(4)..
7. روي أنّه سئل عن رجل مرض فلم يصم حتى أدركه رمضان آخر، فقال: إن كان برئ ثم توانى قبل أن يدركه الرمضان الآخر صام الذي أدركه وتصدق عن كل يوم بمد من طعام على مسكين وعليه قضاؤه، وإن كان لم يزل مريضا حتى أدركه رمضان آخر صام الذي أدركه وتصدق عن الأول لكل يوم مد على مسكين وليس عليه قضاؤه(5)..
8. روي أنّه سئل عن الرجل يمرض فيدركه شهر رمضان ويخرج عنه وهو مريض ولا يصح حتى يدركه شهر رمضان آخر، فقال: يتصدق عن الأول ويصوم الثاني، فإن كان صح فيما بينهما ولم يصم حتى أدركه شهر رمضان آخر صامهما جميعا وتصدق عن الأول(6)..
9. روي أنّه قال: الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان، ويتصدق كل واحد منهما في كل يوم بمد من طعام، ولا قضاء عليهما، فإن لم يقدرا فلا شيء عليهما(7)..
10. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184]: الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش.. وقال في قوله عز وجل: ﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة: 4]: من مرض أو عطاش(8)..
11. روي أنّه قال:الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان لأنّهما لا يطيقان الصوم، وعليهما أن يتصدق كل واحد منهما في كل يوم يفطر فيه بمدّ من طعام، وعليهما قضاء كل يوم أفطرتا فيه، تقضيانه بعد(9)..
12. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة: 4]: من مرض أو عطاش(8)..
13. روي أنّه سئل عن المرأة ترى الدم غدوة أو ارتفاع النهار أو عند الزوال، فقال: تفطر، وإذا كان ذلك بعد العصر أو بعد الزوال فلتمض على صومها ولتقض ذلك اليوم(10)..
14. روي أنّه قال:إن الصلاة والزكاة والحج والولاية ليس ينفع شيء مكانها دون أدائها، وإن الصوم إذا فاتك أو قصرت أو سافرت فيه أديت مكانه أياما غيرها، وجزيت ذلك الذنب بصدقة، ولا قضاء عليك(11)..
15. روي أنّه قال: أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن ليلة القدر، فقام خطيبا فقال بعد الثناء على الله عز وجل: أما بعد، فإنّكم سألتموني عن ليلة القدر ولم أطوها عنكم لأنّي لم أكن بها عالما، اعلموا أيها الناس، أنّه من ورد عليه شهر رمضان وهو صحيح فصام نهاره وقام وردا من ليله وواظب على صلاته وهجر إلى جمعته وغدا إلى عيده فقد أدرك ليلة القدر، وفاز بجائزة الرب عز وجل.. وقال الإمام الصادق أنّه قال (فازوا والله بجوائز ليست كجوائز العباد(12)..
16. روي أنّه قال:خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس في آخر جمعة من شعبان، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال أيها الناس أنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر وهو شهر رمضان، فرض الله صيامه وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة كتطوع صلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر كأجر من أدى فريضة من فرائض الله عز وجل، ومن أدى فيه فريضة من فرائض الله كان كمن أدى سبعين فريضة من فرائض الله فيما سواه من الشهور، وهو شهر الصبر، وإنّ الصبر ثوابه الجنة وهو شهر المواساة، وهو شهر يزيد الله في رزق المؤمن فيه، ومن فطّر فيه مؤمنا صائما كان له بذلك عند الله عتق رقبة ومغفرة لذنوبه فيما مضى.. ومن خفف فيه عن مملوكه خفف الله عنه حسابه، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره الإجابة والعتق من النار، ولا غنى بكم فيه عن أربع خصال: خصلتين ترضون الله بهما، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما اللتان ترضون الله عز وجل بهما فشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله فيه حوائجكم والجنة، وتسألون العافية، وتعوذون به من النار(13)..
17. روي أنّه قال:كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقبل بوجهه إلى الناس فيقول: يا معاشر الناس، إذا طلع هلال شهر رمضان غلت مردة الشياطين، وفتحت أبواب السماء وأبواب الجنان وأبواب الرحمة، وغلقت أبواب النار، واستجيب الدعاء، وكان لله فيه عند كل فطر عتقاء يعتقهم الله من النار، وينادي مناد كل ليلة: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ اللهم أعط كل منفق خلفا، وأعط كل ممسك تلفا، حتى إذا طلع هلال شوال نودي المؤمنون أن اغدوا إلى جوائزكم فهو يوم الجائزة، ثم قال: أما والذي نفسي بيده، ما هي بجائزة الدنانير والدراهم(14)..
18. روي أنّه قال:كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا أهل هلال شهر رمضان استقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والاسلام، والعافية المجللة، والرزق الواسع، ودفع الاسقام، اللهم ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه، اللهم سلمه لنا وتسلمه منا وسلمنا فيه(15)..
19. روي أنّه قال:لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان(16)..
20. روي أنّه قال:من دخل عليه شهر رمضان فصام نهاره وقام وردا من ليله وحفظ فرجه ولسانه وغض بصره وكف أذاه خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه، قيل: ما أحسن هذا من حديث، قال وما أشد هذا من شرط!؟(17)..
21. روي أنّه قال:كان الإمام علي لا يرى بقضاء شهر رمضان منقطعا بأسا، وقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قضى شهر رمضان متفرّقا، وكان إذا غزا في شهر رمضان أفطر(18)..
22. روي أنّه سئل عن رجل أدركه رمضان وهو مريض فتوفي قبل أن يبرأ، فقال: ليس عليه شيء ولكن يقضى عن الذي يبرأ ثم يموت قبل أن يقضي(3)..
23. روي أنّه سئل عن امرأة مرضت في شهر رمضان أو طمثت أو سافرت فماتت قبل خروج شهر رمضان، هل يقضى عنها؟ قال أما الطمث والمرض فلا، وأما السفر فنعم(4)..
24. روي أنّه سئل عن رجل مرض فلم يصم حتى أدركه رمضان آخر، فقال: إن كان برئ ثم توانى قبل أن يدركه الرمضان الآخر صام الذي أدركه وتصدق عن كل يوم بمد من طعام على مسكين وعليه قضاؤه، وإن كان لم يزل مريضا حتى أدركه رمضان آخر صام الذي أدركه وتصدق عن الأول لكل يوم مد على مسكين وليس عليه قضاؤه(5)..
25. روي أنّه سئل عن الرجل يمرض فيدركه شهر رمضان ويخرج عنه وهو مريض ولا يصح حتى يدركه شهر رمضان آخر، فقال: يتصدق عن الأول ويصوم الثاني، فإن كان صح فيما بينهما ولم يصم حتى أدركه شهر رمضان آخر صامهما جميعا وتصدق عن الأول(6)..
26. روي أنّه سئل عن ركعتي الفجر، فقال: قبل الفجر.. أتريد أن تقايس؟ لو كان عليك من شهر رمضان أكنت تتطوع إذا دخل عليك وقت الفريضة!؟ فابدأ بالفريضة(19)..
27. روي أنّه سئل عن رجل أتى أهله في يوم يقضيه من شهر رمضان، قال إن كان أتى أهله قبل زوال الشمس فلا شيء عليه إلا يوم مكان يوم، وإن كان أتى أهله بعد زوال الشمس فإن عليه أن يتصدق على عشرة مساكين، فإن لم يقدر عليه صام يوما مكان يوم، وصام ثلاثة أيام كفارة لما صنع(20)..
28. روي أنّه سئل عن رجل صام قضاء من شهر رمضان فأتى أهله، فقال: عليه من الكفارة ما على الذي أصاب في شهر رمضان، لأن ذلك اليوم عند الله من أيام رمضان(21)..
29. روي أنّه سئل عن امرأة تجعل لله عليها صوم شهرين متتابعين فتحيض، فقال: تصوم ما حاضت فهو يجزيها(22)..
30. روي أنّه سئل عن رجل قتل رجلا خطأ في الشهر الحرام، فقال: تغلظ عليه الدية، وعليه عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين من أشهر الحرم، قيل: فإنه يدخل في هذا شيء، يوم العيد وأيام التشريق، فقال: يصومه فإنه حق يلزمه(23)..
31. روي أنّه سئل عن رجل قتل رجلا في الحرم؟ فقال: عليه دية وثلث، ويصوم شهرين متتابعين من أشهر الحرم، ويعتق رقبة، ويطعم ستين مسكينا، قيل: يدخل في هذا شيء العيدان وأيام التشريق، فقال: يصوم فإنه حق لزمه(24)..
__________
(1) إقبال الاعمال: 87.
(2) نوادر أحمد بن محمد بن عيسى: 23/12.
(3) الكافي: 4/123/2.
(4) الكافي: 4/137/9.
(5) الكافي: 4/119/1.
(6) الكافي: 4/119/2.
(7) الكافي: 4/116/4.
(8) الكافي: 4/116/1.
(9) الكافي: 4/117/1.
(10) التهذيب: 1/393/1217.
(11) الكافي: 2/16/5.
(12) من لا يحضره الفقيه: 2/60/257.
(13) الكافي: 4/66/4.
(14) الكافي: 4/67/6.
(15) الكافي: 4/70/1.
(16) الكافي: 2/461/10.
(17) من لا يحضره الفقيه: 2/60/259.
(18) الجعفريات: ص61.
(19) التهذيب: 2/133/513.
(20) الكافي: 4/122/5.
(21) التهذيب: 4/279/846.
(22) التهذيب: 4/327/1016.
(23) الكافي: 4/139/8.
(24) الكافي: 4/140/9.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾ هو شهر رمضان، كتبه الله على من كان قبلكم، وقد كانوا يصومون من كل شهر ثلاثة أيام، ويصلون ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، حتى افترض عليهم شهر رمضان(1)..
__________
(1) عبد الرزاق: ١/٦٩.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: أتيت أنسا في رمضان، وهو يريد سفرا، وقد رحلت إليه راحلته ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنةٌ، فقال: سنةٌ ثم ركب(1)..
__________
(1) الترمذي: 799.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: (﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ معناه فرض عليكم،(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 95.
الزهري:
روي عن ابن شهاب الزهري (ت 124 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾، قال ابن شهاب: كتب الله الصيام علينا، فكان من شاء افتدى ممن يطيق الصيام من صحيح أو مريض أو مسافر، ولم يكن عليه غير ذلك، فلما أوجب الله على من شهد الشهر الصيام؛ فمن كان صحيحا يطيقه وضع عنه الفدية، وكان من كان على سفر أو كان مريضا فعدة من أيام أخر قال وبقيت الفدية التي كانت تقبل قبل ذلك للكبير الذي لا يطيق الصيام، والذي يعرض له العطش أو العلة التي لا يستطيع معها الصيام(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾، يريد: أن من صام مع الفدية فهو خير له(2)..
3. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يخرج يوم الفطر، فيكبر حتى يأتي المصلى وحتى يقضي الصلاة، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير(3)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٦٤.
(2) ابن جرير: ٣/١٨٥.
(3) ابن أبي شيبة: ١/٤٨٧.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فتتقون من الطعام والشراب والنساء مثل ما اتقوا(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾ أما الذين من قبلنا هم النصارى، كتب عليهم رمضان، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساء في شهر رمضان، فاشتد على النصارى صيام رمضان، وجعل يقلب عليهم في الشتاء والصيف، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياما في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يوما، نكفر بها ما صنعنا، فجعلوا صيامهم خمسين يوما، فلم يزل المسلمون على ذلك يصنعون كما تصنع النصارى، حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب ما كان؛ فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر(2)..
3. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم﴾ ومن تكلف الصيام فصامه فهو خير له(3)..
4. روي أنّه قال: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ بينات من الحلال، والحرام(4)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٥٦.
(2) ابن جرير: ٣/١٥٤.
(3) ابن جرير: ٣/١٨٦.
(4) ابن جرير: ٣/١٩٢.
ابن أسلم:
روي عن زيد بن أسلم (ت 136 هـ) أنّه قال: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُم﴾ إذا رئي الهلال فالتكبير من حين يرى الهلال حتى ينصرف الإمام، في الطريق والمسجد، إلا أنه إذا حضر الإمام كف فلا يكبر إلا بتكبيره(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٢٢١.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾ كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ عدة رمضان(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٥٤.
(2) تفسير الثعلبي: ٢/٧٣.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا، قيل: فقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]؟ قال إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضل به هذه الأمة وجعل صيامه فرضا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى أمته(1)..
2. روي أنّه قال: نوم الصائم عبادة، ونفسه تسبيح(2)..
3. روي أنّه قال: أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام: ما يمنعك من مناجاتي؟ فقال: يا رب، أجلك عن المناجاة لخلوف فم الصائم، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا موسى، لخلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك(3)..
4. روي أنّه قال: ألا أخبرك بأبواب الخير، إن الصوم جنة من النار(4)..
5. روي عن الوليد بن صبيح قال: حممت بالمدينة يوما من شهر رمضان فبعث إلي الإمام الصادق بقصعة فيها خل وزيت، وقال: أفطر وصل وأنت قاعد(5)..
6. روي أنّه قال: الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر(6)..
7. روي أنه سئل عن حد المرض الذي يترك الإنسان فيه الصوم؟ قال إذا لم يستطع أن يتسحر(7)..
8. روي أنّه قال: كل ما أضر به الصوم فالإفطار له واجب(8)..
9. روي أنه سئل: ما حد المريض إذا نقه في الصيام؟ فقال: ذلك إليه هو أعلم بنفسه، إذا قوي فليصم(9)..
10. روي أنه سئل: ما حد المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار كما يجب عليه في السفر؟ قال هو مؤتمن عليه، مفوض إليه، فإن وجد ضعفا فليفطر، وإن وجد قوة فليصمه كان المرض ما كان(10)..
11. روي أنه سئل: ما حد المرض الذي يفطر فيه صاحبه؟ والمرض الذي يدع صاحبه الصلاة من قيام؟ قال ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: 14].. ذاك إليه هو أعلم بنفسه(11)..
12. روي أنه سئل: الرجل يجد في رأسه وجعا من صداع شديد، هل يجوز له الإفطار؟ قال إذا صدع صداعا شديدا، وإذا حم حمى شديدة، وإذا رمدت عيناه رمدا شديدا فقد حل له الإفطار(12)..
13. روي أنه سئل عمن ترك الصيام ثلاثة أيام في كل شهر، فقال: إن كان من مرض فإذا برئ فليقضه(13)..
14. روي أنّه قال: الصائم في السفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر، ثم قال إن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله أصوم شهر رمضان في السفر؟ فقال: لا، فقال: يا رسول الله، إنه علي يسير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن الله عزّ وجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالإفطار في شهر رمضان أيعجب أحدكم لو تصدق بصدقة أن ترد عليه؟(14)..
15. روي أنّه قال: لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصوم في السفر في شهر رمضان ولا غيره، وكان يوم بدر في شهر رمضان، وكان الفتح في شهر رمضان(15)..
16. روي أنّه قال: لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصوم في السفر تطوعا ولا فريضة(16)..
17. روي أنّه قال: إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافرا أفطر، فإن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشربه وأفطر، ثم أفطر الناس معه، وتم ناس على صومهم فسماهم العصاة: وإنما يؤخذ بآخر أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(17)..
18. روي أنّه قال في حديث القوم الذين رفعوا إلى الإمام علي وهم مفطرون في شهر رمضان ـ أن الإمام علي قال لهم: أسفر أنتم؟ قالوا: لا، قال فيكم علة استوجبتم الإفطار لا نشعر بها؟ فإنكم أبصر بأنفسكم لأن الله تعالى يقول: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: 14](18)..
19. روي أنه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184]، فقال: الذين كانوا يطيقون الصوم وأصابهم كبر أو عطاش أو شبه ذلك فعليهم لكل يوم مد(19)..
20. روي أنّه قال في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184]: المرأة تخاف على ولدها، والشيخ الكبير(20)..
21. روي أنه سئل عن رجل كبير ضعف عن صوم شهر رمضان، فقال: يتصدق كل يوم بما يجزي من طعام مسكين(21)..
22. روي أنه سئل عن قول الله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184]، فقال: هو الشيخ الكبير الذي لا يستطيع، والمريض(22)..
23. روي أنه سئل عن رجل كبير يضعف عن صوم شهر رمضان؟ فقال: يتصدق بما يجزي عنه طعام مسكين لكل يوم(23)..
24. روي أنه سئل: رجل شيخ لا يستطيع القيام إلى الخلاء لضعفه به، ولا يمكنه الركوع والسجود؟ فقال: ليومئ برأسه إيماء.. قيل: فالصيام؟ قال إذا كان في ذلك الحد فقد وضع الله عنه، فإن كانت له مقدرة فصدقة مد من طعام بدل كل يوم أحب إلي، وإن لم يكن له يسار ذلك فلا شيء عليه(24)..
25. روي أنه سئل: الشيخ الكبير لا يقدر أن يصوم؟ فقال: يصوم عنه بعض ولده، قيل: فإن لم يكن له ولد؟ قال فأدنى قرابته، قيل: فإن لم يكن قرابة؟ قال يتصدق بمد في كل يوم، فإن لم يكن عنده شيء فليس عليه(25)..
26. روي أنّه قال: أيما رجل كان كبيرا لا يستطيع الصيام، أو مرض من رمضان إلى رمضان، ثم صح، فإنما عليه لكل يوم أفطر فيه فدية إطعام، وهو مد لكل مسكين(26)..
27. روي أنه سئل عن الرجل يصيبه العطاش حتى يخاف على نفسه، فقال: يشرب بقدر ما يمسك رمقه ولا يشرب حتى يروى(27)..
28. روي أنه سئل: إن لنا فتيات وشبانا لا يقدرون على الصيام من شدة ما يصيبهم من العطش، فقال: فليشربوا بقدر ما تروى به نفوسهم وما يحذرون(28)..
29. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا دخل العشر الأواخر شد المئزر، واجتنب النساء، وأحيى الليل، وتفرغ للعبادة(29)..
30. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يزيد في صلاته في شهر رمضان، إذا صلّى العتمة صلّى بعدها، فيقوم الناس خلفه فيدخل ويدعهم، ثمّ يخرج أيضاً فيجيئون ويقومون خلفه فيدخل ويدعهم مراراً(30)..
31. روي أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا جاء شهر رمضان زاد في الصلاة، وأنا أزيد فزيدوا(31)..
32. روي عن محمّد بن يحيى قال: كنت عند الإمام الصادق، فاسأل: هل يزاد في شهر رمضان في صلاة النوافل؟ فقال: نعم، قد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلّي بعد العتمة في مصلاّه ويكثر، وكان الناس يجتمعون خلفه ليصلّوا بصلاته، فإذا كثروا خلفه تركهم ودخل منزله، فإذا تفرّق الناس عاد إلى مصلاّه فصلّى كما كان يصلّي، فإذا كثر الناس خلفه تركهم ودخل، وكان يصنع ذلك مراراً(32)..
33. روي أنّه قال: إنّ أصحابنا هؤلاء أبوا أن يزيدوا فيه صلاتهم في رمضان، وقد زاد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في صلاته في رمضان(33)..
34. روي أنه سئل: أيزيد الرجل في الصلاة في رمضان؟ قال نعم، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد زاد في رمضان في الصلاة(34)..
35. روي أنّه قال: ما من سنة إلا وكان السجاد يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين عبدا إلى أقل أو أكثر وكان يقول: إن لله عزّ وجلّ في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف ألف عتيق من النار، كل قد استوجب النار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، وإني لأُحب أن يراني الله وقد أعتقت رقابا في ملكي في دار الدنيا رجاء أن يعتق رقبتي من النار، وما استخدم خادما فوق حول، كان إذا ملك عبدا في أول السنة أو في وسط السنة إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني ثم أعتق، كذلك كان يفعل حتى لحق بالله، ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة، يأتي بهم عرفات فيسدّ بهم تلك الفرج والخلال فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم، وجوائز لهم من المال(35)..
36. روي أنه قال يوصي بعض أهله: أجهدوا أنفسكم؛ فإن فيه تقسم الأرزاق، وتكتب الآجال، وفيه يكتب وفد الله الذين يفدون إليه، وفيه ليلة العمل فيها خير من ألف شهر(36)..
37. روي أنّه قال: إنّ الشهور عند الله اثني عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض، فغرة الشهور شهر الله عز ذكره وهو شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر، ونزل القرآن في أول ليلة من شهر رمضان، فاستقبل الشهر بالقرآن(37)..
38. روي أنّه قال: إن لله عز وجل في كل ليلة من شهر رمضان عتقاء وطلقاء من النار إلا من أفطر على مسكر، فإذا كان في آخر ليلة منه أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه(38)..
39. روي أنّه قال: إذا سلم شهر رمضان سلمت السنة.. ورأس السنة شهر رمضان(39)..
40. روي أنه سئل عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185] فقال: إن القرآن نزل جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم أنزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة(40)..
41. روي أنّه قال: رمضان شهر الله، استكثروا فيه من التهليل والتكبير والتحميد والتسبيح، وهو ربيع الفقراء، وإنما جعل الأضحى ليشبع المساكين من اللحم، فأطعموا من فضل ما أنعم الله به عليكم على عيالاتكم وجيرانكم، وأحسنوا جوار نعم الله عليكم، وواصلوا إخوانكم، وأطعموا الفقراء والمساكين من إخوانكم، فإنه من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئا(41)..
42. روي أنّه قال: لا تقولوا رمضان، ولكن قولوا: شهر رمضان، فإنكم لا تدرون ما رمضان(42)..
43. روي أنّه قال: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان فقل: اللهم رب شهر رمضان، ومنزل القرآن، هذا شهر رمضان الذي أنزلت فيه القرآن وأنزلت فيه آيات بينات من الهدى والفرقان، اللهم ارزقنا صيامه، وأعنا على قيامه اللهم سلمه لنا وتسلمه منا في يسر منك ومعافاة، واجعل فيما تقضي وتقدر من الأمر المحتوم فيما تفرق من الأمر الحكيم في ليلة القدر من القضاء الذي لا يرد ولا يبدل أن تكتبني من حجاج بيتك الحرام، المبرور حجهم، المشكور سعيهم، المغفور ذنبهم، المكفر عنهم سيئاتهم، واجعل فيما تقضي وتقدر أن تطول لي في عمري في طاعتك، وتوسع عليّ من الرزق الحلال(43)..
44. روي أنّه قال: إذا حضر شهر رمضان فقل: اللهم قد حضر شهر رمضان، وقد افترضت علينا صيامه، وأنزلت فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، اللهم أعنا على صيامه، اللهم تقبله منا وسلمنا فيه وتسلمه منا في يسر منك وعافية إنك على كل شيء قدير يا أرحم الراحمين(44)..
45. روي أنه كان يدعو بهذا الدعاء في شهر رمضان: اللهم إني بك ومنك أطلب حاجتي، ومن طلب حاجته إلى الناس فاني لا أطلب حاجتي إلا منك، وحدك لا شريك لك، وأسألك بفضلك ورضوانك أن تصلي على محمد وأهل بيته، وأن تجعل لي في عامي هذا إلى بيتك الحرام سبيلا، حجة مبرورة متقبلة زاكية خالصة لك، تقر بها عيني، وترفع بها درجتي، وترزقني أن أغض بصري، وأن أحفظ فرجي، وأن أكف عن جميع محارمك حتى لا يكون شيء آثر عندي من طاعتك وخشيتك، والعمل بما أحببت، والترك لما كرهت ونهيت عنه، واجعل ذلك في يسر ويسار وعافية وما أنعمت به عليّ وأسألك أن تجعل وفاتي قتلا في سبيلك تحت راية نبيك مع أوليائك، وأسألك أن تقتل بي أعداءك وأعداء رسولك، وأسألك أن تكرمني بهوان من شئت من خلقك، ولا تهني بكرامة أحد من أوليائك، اللهم اجعل لي مع الرسول سبيلا، حسبي الله، ما شاء الله(45)..
46. روي أنه سئل عن الصلاة في رمضان، فقال: ثلاث عشر ركعة، منها الوتر وركعتا الصبح بعد الفجر، كذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي وأنا كذلك أصلّي، ولو كان خيرا لم يتركه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم(46)..
47. روي أنه سئل عن الصلاة في شهر رمضان، فقال: ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتان قبل صلاة الفجر، كذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي، ولو كان فضلا كان رسول الله أعمل به وأحق(47)..
48. روي أنّه قال: كنّ نساء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كان عليهن صيام أخّرن ذلك إلى شعبان.. فإذا كان شعبان صمن وصام معهن(48)..
49. روي أنه سئل عن رجل أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا، فقال: إن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: هلكت يا رسول الله! فقال: مالك؟ قال النار يا رسول الله! قال ومالك؟ قال وقعت على أهلي، قال تصدق واستغفر فقال الرجل: فوالذي عظم حقك ما تركت في البيت شيئا، لا قليلا ولا كثيرا، قال فدخل رجل من الناس بمكتل من تمر فيه عشرون صاعا يكون عشرة أصوع بصاعنا، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: خذ هذا التمر فتصدق به، فقال: يا رسول الله على من أتصدق به وقد أخبرتك أنه ليس في بيتي قليل ولا كثير، قال فخذه وأطعمه عيالك واستغفر الله، قال فلما خرجنا قال أصحابنا: إنه بدأ بالعتق، فقال: أعتق، أو صم، أو تصدق(49)..
50. روي أنه سئل عن رجل أتى أهله في شهر رمضان، فقال: عليه عشرون صاعا من تمر، فبذلك أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الرجل الذي أتاه فسأله عن ذلك(50)..
51. روي أنه سئل عن قوم أسلموا في شهر رمضان وقد مضى منه أيام، هل عليهم أن يصوموا ما مضى منه أو يومهم الذي أسلموا فيه؟ فقال: ليس عليهم قضاء ولا يومهم الذي أسلموا فيه إلا أن يكونوا أسلموا قبل طلوع الفجر(51)..
52. روي أنه سئل عن رجل أسلم في النصف من شهر رمضان، ما عليه من صيامه؟ قال ليس عليه أن يصوم إلا ما أسلم فيه، وليس عليه أن يقضي ما مضى منه(52)..
53. روي أنه سئل عن رجل أسلم بعدما دخل شهر رمضان أيام؟ فقال: ليقض ما فاته(53)..
54. روي أنّه قال: إذا مات الرجل وعليه صوم شهر رمضان فليقض عنه من شاء من أهله(54)..
55. روي أنه سئل عن الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام، قال يقضي عنه أولى الناس بميراثه(55)..
56. روي أنّه قال: إذا صام الرجل شيئا من شهر رمضان ثم لم يزل مريضا حتى مات فليس عليه شيء، وإن صح ثم مرض ثم مات وكان له مال تصدق عنه مكان كل يوم بمد، وإن لم يكن له مال صام عنه وليه(56)..
57. روي أنه سئل عن المريض في شهر رمضان فلا يصح حتى يموت، فقال: لا يقضى عنه.. واسأل عن الحائض تموت في شهر رمضان، فقال: لا يقضى عنها(57)..
58. روي أنه سئل عن رجل دخل عليه شهر رمضان وهو مريض لا يقدر على الصيام فمات في شهر رمضان أو في شهر شوال، فقال: لا صيام عليه ولا يقضى عنه، قيل: فامرأة نفساء دخل عليها شهر رمضان ولم تقدر على الصوم فماتت في شهر رمضان أو في شوال؟ فقال: لا يقضى عنها(58)..
59. روي أنه سئل عن رجل سافر في شهر رمضان فأدركه الموت قبل أن يقضيه؟ قال يقضيه أفضل أهل بيته(59)..
60. روي أنه سئل: امرأة مرضت في شهر رمضان وماتت في شوال فأوصتني أن أقضي عنها، فقال: هل برئت من مرضها؟ قيل: لا، ماتت فيه، قال لا تقضي عنها، فإن الله لم يجعله عليها، قيل: فإني أشتهي أن أقضي عنها وقد أوصتني بذلك؟ فقال: كيف تقضي عنها شيئا لم يجعله الله عليها، فإن اشتهيت أن تصوم لنفسك فصم(60)..
61. روي أنه سئل عن رجل يموت في شهر رمضان، فقال: ليس على وليه أن يقضي عنه ما بقي من الشهر، وإن مرض فلم يصم رمضان ثم لم يزل مريضا حتى مضى رمضان وهو مريض ثم مات في مرضه ذلك فليس على وليه أن يقضي عنه الصيام، فإن مرض فلم يصم شهر رمضان ثم صح بعد ذلك ولم يقضه ثم مرض فمات فعلى وليه أن يقضي عنه، لأنه قد صح فلم يقض ووجب عليه(61)..
62. روي أنه سئل عن الرجل يسافر في شهر رمضان فيموت، فقال: يقضى عنه، وإن امرأة حاضت في شهر رمضان فماتت لم يقض عنها، والمريض في شهر رمضان لم يصح حتى مات لا يقضى عنه(62)..
63. روي أنّه قال: أما إن في ليلة الفطر تكبيرا، ولكنه مسنون، قيل: وأين هو؟ قال في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة، وفي صلاة الفجر، وفي صلاة العيد، ثم يقطع، قيل: كيف أقول؟ قال تقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا وهو قول الله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ يعني الصيام وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ﴾(63)..
__________
(1) من لا يحضره الفقيه: 2/61/267.
(2) الكافي: 4/64/12.
(3) الكافي: 4/64/13.
(4) الكافي: 4/62/3.
(5) من لا يحضره الفقيه: 2/83/370.
(6) من لا يحضره الفقيه: 2/84/373.
(7) من لا يحضره الفقيه: 2/83/371.
(8) من لا يحضره الفقيه: 2/84/374.
(9) الكافي: 4/119/8.
(10) الكافي: 4/118/3.
(11) الكافي: 4/118/2.
(12) الكافي: 4/118/5.
(13) التهذيب: 4/239/700.
(14) الكافي: 4/127/3.
(15) التهذيب: 4/235/691.
(16) مجمع البيان: 1/274.
(17) الكافي: 4/127/5.
(18) الكافي: 4/181/7.
(19) الكافي: 4/116/5.
(20) تفسير العياشي 1/79.
(21) الكافي: 4/116/3.
(22) تفسير العياشي: 1/78/177.
(23) التهذيب: 4/237/694.
(24) التهذيب: 3/307/951.
(25) التهذيب: 4/239/699.
(26) نوادر أحمد بن محمد بن عيسى: 70/146.
(27) الكافي: 4/117/6.
(28) الكافي: 4/117/7.
(29) من لا يحضره الفقيه: 2/100/449.
(30) الكافي: 4/154/2.
(31) التهذيب: 3/60/204.
(32) التهذيب: 3/60/205.
(33) التهذيب: 3/60/206.
(34) التهذيب: 3/61/207.
(35) إقبال الاعمال: 260.
(36) الكافي: 4/66/4.
(37) الكافي: 4/65/1.
(38) الكافي: 4/68/7.
(39) التهذيب: 4/333/1046.
(40) فضائل الاشهر الثلاثة: 87/67.
(41) نوادر أحمد بن محمد بن عيسى: 17 و: 18/2.
(42) الكافي: 4/69/1.
(43) الكافي: 4/71/2.
(44) الكافي: 4/74/5.
(45) الكافي: 4/74/6.
(46) التهذيب: 3/68/223.
(47) التهذيب: 3/69/224.
(48) الكافي: 4/90/4.
(49) الكافي: 4/102/2.
(50) من لا يحضره الفقيه: 2/72/311.
(51) الكافي: 4/125/3.
(52) من لا يحضره الفقيه: 2/80/356.
(53) التهذيب: 4/246/730.
(54) من لا يحضره الفقيه: 2/98/440.
(55) الكافي: 4/123/1.
(56) الكافي: 4/123/3.
(57) التهذيب: 4/247/734.
(58) التهذيب: 4/247/733.
(59) التهذيب: 4/325/1007.
(60) التهذيب: 4/248/737.
(61) التهذيب: 4/249/739.
(62) التهذيب: 4/249/740.
(63) الكافي: 4/166.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ أيام رمضان ثلاثين يوما(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ في الصوم الأول: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣٠٦.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ فرض عليكم، نظيرها: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: ٢١٥]، يعني: فرض عليكم القتال(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ يعني: كما فرض ﴿عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم﴾ يعني: أهل الإنجيل(1)..
3. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، يعني: لكي تتقوا الطعام والشراب والجماع، فمن صلى العشاء الآخرة، أو نام قبل أن يصلي العشاء الآخرة؛ حرم عليه ما يحرم على الصائم(1)..
4. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ فزاد على مسكين، فأطعم مسكينين أو ثلاثة مكان كل يوم؛: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ من أن يطعم مسكينا واحدا(2)..
5. روي أنّه قال: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، يعني: في الدين من الشبهة والضلالة، نظيرها في آل عمران: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [الآية: ٤]، يعني: المخرج من الشبهات(2)..
6. روي أنّه قال: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، فواجب عليه الصيام، ولا يطعم(2)..
7. روي أنّه قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ يعني: الرفق في أمر دينكم حين رخص للمريض والمسافر في الفطر، ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ يعني: الضيق في الدين، فلو لم يرخص للمريض والمسافر كان عسرا(2)..
8. روي أنّه قال: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ لكي تعظموا الله ﴿عَلَى مَا هَدَاكُم﴾ من أمر دينه، ﴿وَلَعَلَّكُم﴾ يعني: لكي ﴿تَشْكُرُونَ﴾ ربكم في هذه النعم؛ إذ هداكم لأمر دينه(3)..
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٦٠.
(2) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٦١.
(3) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٦٢.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: قلت لعطاء: ما قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾؟ قال بلغنا: أن الكبير إذا لم يستطع الصوم يفتدي من كل يوم بمسكين، قلت: الكبير الذي لا يستطيع الصوم، أو الذي لا يستطيعه إلا بالجهد؟ قال بل الكبير الذي لا يستطيعه بجهد ولا بشيء، فأما من استطاع بجهد فليصمه، ولا عذر له في تركه(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ يهتدون به، ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾ فيه الحلال، والحرام، والحدود(2)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/١٧٧.
(2) أخرج ابن أبي حاتم: ١/٣١١.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ما الصدقات والكفارات إلا بمد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم(1)..
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد الرزاق: وعبد بن حميد.
الكاظم:
روي عن الإمام الكاظم (ت 183 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه سئل عن الرجل يسافر في شهر رمضان، أيفطر في منزله؟ قال إذا حدث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا خرج من منزله، وإن لم يحدث نفسه من الليلة ثم بدا له في السفر من يومه أتم صومه(1)..
2. روي أنّه سئل عن رجل قدم من سفر في شهر رمضان ولم يطعم شيئا قبل الزوال، فقال: يصوم(2)..
3. روي أنّه قال: المسافر يدخل أهله وهو جنب قبل الزوال ولم يكن أكل فعليه أن يتم صومه ولا قضاء عليه ـ يعني: إذا كانت جنابته من احتلام(3)..
4. روي أنّه سئل عن الرجل يكون عليه أيام من شهر رمضان وهو مسافر، يقضي إذا قام في المكان، فقال: لا، حتى يجمع على مقام عشرة أيام(4)..
5. روي أنّه سئل عن الرجل يترك شهر رمضان في السفر فيقيم الأيام في مكان، هل عليه صوم؟ قال لا، حتى يجمع على مقام عشرة أيام، فإذا أجمع على مقام عشرة أيام صام وأتم الصلاة(5)..
6. روي أنّه سئل عن رجل جعل على نفسه صوم شهر بالكوفة وشهر بالمدينة وشهر بمكة من بلاء ابتلي به، فقضي له أنه صام بالكوفة شهرا، ودخل المدينة فصام بها ثمانية عشر يوما ولم يقم عليه الجمال، فقال: يصوم ما بقي عليه إذا انتهى إلى بلده، ولا يصومه في سفر(6)..
7. روي أنّه سئل عن الرجل يجعل لله عليه صوم يوم مسمى، فقال: يصوم أبدا في السفر والحضر(7)..
8. روي أنّه سئل عن الصيام بمكة والمدينة في السفر، قال أفريضة؟ قيل: لا، ولكنه تطوع كما يتطوع بالصلاة، فقال: تقول: اليوم وغدا؟ قيل: نعم، فقال: لا تصم(8)..
9. روي أنّه سئل عن الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة التي تضعف عن الصوم في شهر رمضان، فقال: تصدق في كل يوم بمد حنطة(9)..
10. روي أنّه قيل له: إن امرأتي جعلت على نفسها صوم شهرين فوضعت ولدها وأدركها الحبل فلم تقو على الصوم، فقال: فلتصدق مكان كل يوم بمدّ على مسكين(10)..
__________
(1) التهذيب: 4/228/669.
(2) الكافي: 4/132/7.
(3) الكافي: 4/132/9.
(4) الكافي: 4/133/2.
(5) قرب الاسناد: 102.
(6) التهذيب: 4/233/684.
(7) التهذيب: 4: 235 | 688.
(8) التهذيب: 4/235/690.
(9) الكافي: 4/116/2.
(10) من لا يحضره الفقيه: 2/95/424.
الرضا:
روي عن الإمام الرضا (ت 203 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: أكثر في هذا الشهر المبارك، من قراءة القرآن، والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكثرة الصّدقة، وذكر الله في آناء اللّيل والنهار، وبر الإِخوان، وإفطارهم معك بما يمكنك، فإنّ في ذلك ثوابا عظيما، وأجرا كبيرا(1)..
2. روي عن عبد السلام بن صالح الهروي قال دخلت على الإمام الرضا في آخر جمعة من شعبان فقال لي: يا أبا الصلت إن شعبان قد مضى أكثره، وهذا آخر جمعة منه فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبال على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك، وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن، وتب إلى الله من ذنوبك ليقبل شهر الله عليك وأنت مخلص لله عز وجل، ولا تدعن أمانة في عنقك إلا أديتها، ولا في قلبك حقدا على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنبا أنت ترتكبه إلا أقلعت عنه، واتق الله وتوكل عليه في سرائرك وعلانيتك ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3] وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشهر: اللهم إن لم تكن غفرت لنا فيما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه؛ فإن الله تبارك وتعالى يعتق في هذا الشهر رقابا من النار لحرمة شهر رمضان(2)..
__________
(1) فقه الإمام الرضا: ص24.
(2) عيون أخبار الإمام الرضا: 2/51/198.
الرسّي:
قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): سألت: عن قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا﴾، هو: من حضر الشهر، فلم يغب عنه ـ فليصم في حضوره له ما ألزمه الله فيه منه، والمشاهدة له هو: أن يحضره كله، ومن شهد بعضه ـ فلم يحضر كله؛ والشهر ـ كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ثلاثون، وتسعة وعشرون)، وليس الهلال والرؤية بشهر تام، ولو لزم من حضر الرؤية الصيام ـ لكان ذلك لأهله إضرارا، وعاد تيسير الله فيه إعسارا، وقد سافر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى بدر وغير بدر، فصام في سفره وأفطر، ولو لزم من رآه وأهله في أهله المقام ـ لما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (عمرة كحجة: العمرة في رمضان)، ولما جاز لأحد من الناس فيه اعتمار(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/83.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، يقول سبحانه: لعلكم تتقون مخالفتي، وتتبعون أمري وطاعتي، فتتبعون حكمي، ولا تبدلون فرضي، كما بدله من كان قبلكم من بني إسرائيل، الذين أنزلت عليهم وفيهم ما أنزلت من الانجيل؛ وذلك أن الله كتب في الانجيل على بني اسرائيل: أن يصوموا شهر رمضان، وأن لا ينكحوا فيه ما أحل لهم نكاحه في غيره من النسوان، فبدلوا ذلك وغيره، وخالفوا ما أمروا به فيه ورفضوه؛ جزعا من دورانه عليهم في اشتداد حرهم، وسبرات بردهم، فنقلوا الصيام إلى غير رمضان من الأيام، وزادوا فيها عشرين يوما كفارة بزعمهم لما غيروا؛ فلعنهم الله وأخزاهم، وأهلكهم بذلك وأرادهم؛ وذلك قوله سبحانه: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، يعني: النصارى.
2. ثم قال ـ جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله ـ في المريض والمسافر: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، فأطلق للمريض والمسافر: الإفطار، وحكم عليهم بقضاء ما أفطروا من الايام، ثم قال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، فأخبر بتيسيره على عباده، وتخفيفه عنهم بما أجاز لهم من الإفطار، وترك الصيام الذي لم يجز تركه لأحد مقيم من الأنام، ثم قال سبحانه في إيجاب القضاء لما أفطر المسافرون من أيامهم التي أجاز لهم إفطارها في أسفارهم: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
3. ثم قال سبحانه: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾، يعني: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن؛ فجعل الله عدد شهر رمضان ثلاثين يوما، وتسعة وعشرين يوما، يكون ثلاثين يوما إذا وفي، وتسعة وعشرين يوما إذا نقص، فإن كانت في السماء علة من سحاب أو غبار أو ضباب أو غير ذلك من سبب من الاسبابـ أوفيت أيام الصيام ثلاثين يوما، وكذلك يروى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنّه قال (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما)؛ يريد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: من يوم رأيتموه، وصح عندكم أنه قد أهل فيه، وقد روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنّه قال (الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا)، ثم قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: (وهكذا قد يكون، وهكذا، وهكذا)، ونقص من أصابعه واحدة، وأشار في الأولى بكفيه جميعا ثلاث مرات، وأشار بكفيه في الثانية ثلاث مرات، ونقص في الثالثة إصبعا؛ فدل ذلك منه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على أن الشهر قد يكون مرة ثلاثين يوما سواء، ومرة تسعة وعشرين يوما سواء.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/80.
المرتضى:
قال الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ): اعلم ـ هداك الله وأعانك ـ: أن معنى قوله عز وجل: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ الله أنزل فيه القرآن على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان أول ما أنزل عليه في رمضان، ثم كان ينزل عليه خمسا وخمسا، وقد قيل: إن سورا من القرآن أنزلت عليه جملة.. ولست أقف على صحة ذلك، فلم يرووه عن من نثق به؛ ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾، قال فرقناه، أي: أنزلناه شيئا شيئا، والمكث هو: المدة؛ لأن التوراة أنزلت على موسى مرة واحدة، مكتوبة في الألواح، وكان موسى يقرأها ويستخرجها، كذلك الإنجيل أنزل مرة واحدة على عيسى صلى الله عليه، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان أميا، ليس يقرأ إلا على ظهر قلبه، فلو أنزل القرآن مرة واحدة في الألواح كما أنزلت التوراة والإنجيل، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يكن يقرأ الكتب السالفة، ولا يخط بيده، وعند كونه كذلك فلو نزل عليه مجملا في الألواح ـ لاحتاج إلى من يقرأه عليه ويبينه، ولو كان كذلك لوقع الشك والارتياب؛ إذ المعبر له غيره، والمبين سواه؛ ولو كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقرأ ويكتب لكان الأجر كما ذكر الله ـ عز وجل ـ في كتابه من شك المبطلين، حين يقول: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾، فكان إتيان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عليه بالقرآن المعجز للخلق، وهو لا يكتب ولا يقرأ ـ دلالة عظيمة، وآية في نبوته باهرة؛ فأنزل الله عليه القران شيئا شيئا؛ لما أراد الله عز وجل من تدبيره، وحكمته، وتثبيته في قلبه؛ فجعله للخلق شفاء ونورا، وهدى وجلاء للصدور، ومبينا لما التبس من جميع الأمور، فلن يضل من تعلق به، ولا يتحير أبدا من استضاء بنوره؛ نسأل الله أن يجعله لنا ولكم نورا، وهدى شافيا، ومعينا برحمته(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/84.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هؤلاء الآيات فيهن فرضية بقوله: ﴿كُتُبٌ﴾، وأيد ذلك الإبدال فيها الإفطار لعذر والأمر بالقضاء، وذلك ليس بشرط الآداب مع الامتنان علينا بقوله عزّ وجل: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾، أي يريد بكم الإذن لكم في الفطر للعذر، ولو كان غير فرض بدؤه لم يكن الفطر للعذر بموضع الرخصة مع شرطه إكمال العدة في القضاء معنى، وفى ذلك لزوم حفظ المتروك لئلا يدخل التقصير في القضاء، وعلى ذلك إجماع الأمة.
2. ثم بين عزّ وجل أن لم تكن هذه الأمة بمخصوصة في الصيام، بل هي أحق من فيهم.. استعمل العفو أو الصفح بما خصهم بأن جعلهم ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، وأخبر أنه لم يجعل عليهم فِي ﴿الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ولا ألزمهم العبادات الشاقة فضلا منه عليهم وتخصيصا لهم؛ إذ جعلهم ﴿شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الحج: 78]، فقال عزّ وجل: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾
3. ﴿كَمَا﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: العذر الذي كتب عليهم.
ب. ويحتمل: الفرضية في الجملة لا عين ما فرض عليهم من حيث الإشارة إلى ذلك.
4. اختلف في (الكاف) في قوله: ﴿كَمَا﴾ أنها زائدة، أو حقيقية.
5. اختلف فيما يأتيه ذلك الصيام:
أ. فمن الصحابة من جعله صوم عاشوراء وأيام البيض، ثم استعملوا نسخ ذلك بصيام الشهر، وقد روى مرفوعا: (أن صوم شهر رمضان نسخ كل صيام كان)، وروى عن جماعة في أمر صوم عاشوراء: أنا كنا نصومه حتى نزل صوم الشهر، فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يأمرنا به ولا ينهانا، وأصل هذا أنه كان يصام، لو كان ابتداء الآية عليه بحق الفرض فأبدل ذلك بصوم الشهر، فارتفعت عنه الفرضية على ما إذا كان يخرج منه بالفداء لم يكن معه فرضية القضاء، وبقى الفصل فيه، النسخ لم يكن من حيث نفس الصوم، إذ مثله من النسخ يكون بغير الصوم ولا يصوم، فثبت أنه في نسخ الفرضية، فبقى فيه حق الأدب والفضل، وتبين النسخ الصوم إذ مثله، وإن ذلك غير صوم الشهر الذكر في صوم الشهر بقوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾.. الآية إذ ذلك كان غير موضع الشهر، ولو كان الكل واحدا لكان الذكر في موضع منه كافيا عن الإعادة؛ فثبت أنه على تناسخ الصيام، وقد روى عن معاذ أنّه قال (أحيل الصيام ثلاثة أحوال)، وبين الخبر على وجهه في ذلك.
ب. ويحتمل: أن يكون المراد منه صوم الشهر، ويكون تكرار الذكر في الرخصة لمكان رفع الفداء، أو لمكان ذكر حق الامتنان بالتيسير، أو التحريض على حفظ العدد، والله الموفق.
6. أي ذلك كان؟ فليس بنا حاجة إلى معرفة حقيقة ذلك؛ لأن كيفية الابتداء لم تكلف، وإنما كلفنا ما أبقى فرضه، وهو صيام الشهر الذي لم يختلف في ذلك.
7. ثم قد خاطب جل ثناؤه بالصيام من قد آمن بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فكان فيما خاطب وجهان:
أ. أحدهما: أنه خاطب المؤمنين فعرف المخاطبون أن الاسم يذكرهم؛ إذ لم يذكر عن أحد أنه ظن خروجه من حكم الآية، من حيث لم يكن وفاء بما به يستحق الاسم، وكذلك سائر عبادات الأفعال، وهذا من أوضح ما يجب به العلم أن الإيمان ليس باسم لجميع القرب، بل تحقيقه يصير أفعال القرب قربا، وفيه إذ لم يقل: يا أيها الذين قلتم: نحن مؤمنون به صلّى الله عليه وآله وسلّم، دلالة ظاهرة على هجر هذا القول، وأنه من تلقين الشيطان ليبطل عليهم عقدهم، كما يبطل كل عقد يستعمله فيه صاحبه مما أراد إلزامه العقد.
ب. الثاني: أن الله تعالى خص بالعبادات المؤمنين، وأنهن لا يلزمن غيرهم وإنما يلزم غيرهم فيها الاعتقاد، لا الأفعال التي هي تقوم بالاعتقاد، وليس الاعتقاد بواجب لمكان تلك الأفعال حتى تكون كالأسباب التي توجب بإيجاب أفعال بها تقوم، بل له أوجب غيره، ألا ترى أنه لا يجوز أن يرتفع ذلك عن الخلائق بحال من الأحوال في الدنيا والآخرة مع ارتفاع غير ذلك من العبادات؛ ثبت أن الأمر بذلك بحيث نفسه، لا لغيره، ثم لا قيام لغيره مع عدمه.
8. ثبت أن المعنى الذي به يصير المرء أهلا لاحتمال فعل العبادات، لذلك لا يجوز الأمر بشيء منها دون ذلك، وله وجهان يحيلان الأمر أيضا:
أ. أحدهما: العقل، أنه من البعيد أن يكون من لم يقبل العبودية، ولا أقر بالرسالة تؤمر بالعبادة وباتباع الرسول بحق الرسالة، بل يقول: ألزمونا الأول، حتى يكون الثاني، وهو كما أحال الناس المناظرة في الرسل مع منكري الصانع والمرسل، فمثله الأول، بل يجب كل قربة به؛ إذ لا يكون إلا به، والله أعلم.
ب. الثاني: القول بأن من أسلم بعد أوقات العبادات لا يلزمه القضاء.
9. لذلك وجهان من المعتبر:
أ. أحدهما: بأنهم إذا لم يدخلوا في خطاب القضاء، بما ليس معهم في الحال ما يحتمل معه القضاء، فكذلك خطاب الابتداء؛ إذ هو الذي به لزم القضاء في الإسلام.
ب. الثاني: أنه لا يلزم القضاء بعد الإسلام، ولا يجوز الابتداء في حاله، فكان ذا تكليف لم يجعل الله للمكلف وجه القيام، وقد تبرأ الله عن هذا الوجه من التكليف بقوله عزّ وجل: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، مع ما بين الله تعالى بقوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ [البقرة: 126] أن ما للكافر التمتع في الدنيا، لا العبادات في ذلك.
10. ثبت بالآية التي ذكرنا جميع المؤمنين في الخطاب؛ إذ بين الرخصة لذى العذر في الإفطار على وجوب القضاء فإذ لم يحتمل خروج من له العذر في الفطر عن أن يتضمنه الخطاب وجه ألزم القضاء، ثبت أن من لا عذر له داخل فيه ولا يسعه الفطر، وعلى هذا جاء ممن ابتلى بالجماع نهارا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أكد عليه الأمر وألزم الكفارة على غير سؤال عن أحوال سوى ما علم من حاله أنه ليس بمريض ولا مسافر، فكان في ذلك دليل تأكيد الفرض، وفى ذلك إيجاب الكفارة لتعديه على الصيام على حال لا يحتمل الإرخاص، إذ قد كان تلك البلية في الليالي، فلم يؤمروا بها من حيث كانوا يملكون إبقاء الرخصة لأنفسهم لولا النوم، وفى ذلك أن فرض الصيام يعم المؤمنين.
11. ثم قال الله عزّ وجل: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ والشهر اسم للكل، ولو كان المراد راجعا إليه لكان الصيام في غيره؛ لأنه عند هجوم غيره يتم شهوده، ثم يتناقض؛ لأنه قال ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ ومحال أن يصوم في غيره ابتداء؛ فرجع التأويل إلى أن من شهد منكم شيئا من الشهر ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ فمن اعترضه الجنون فيه فهو ممن قد تضمنه الخطاب، ويجوز في حالة الفرض أيضا؛ إذ لو شهد ليلة الصيام فعزم على الصيام يجوز له فرضه، فدخل في حق الخطاب، ثم اعترضه في سائر الليالي عذر منع النية، لا عذر منع الصيام، فيقتضيه إذ هو أهل الحكم للآية التي ذكرنا، والقيام بذلك الفرض على ما وصفنا، ففاته بفوت النية كمن كان فوت لعذر المرض، والسفر والحيض ونحو ذلك بعد أن علم أنه ممن تضمنه الآية، فعليه قضاؤه، وعلى ذلك في الصبى والكافر لم يدخلا في معنى الآية، ولا كانا يحتملان في حال قضاء فرض الصيام، فالقضاء في غيره عن ذلك لا يعمل في حق الفرض، لذلك لم يلزم، وقد روى عن محمد على هذا: أن من أدرك مجنونا ثم أفاق في بعض الشهر، أنه لا يقضى ما مضى، على ما ذكرت، وعن أبى حنيفة: أنه يقضى، إن كان في أول الشهر بالغا، لما أخبرت أن صيامه لم يجز لعدم النية، والصبى والكافر بنفسه، ومن فوته لعدم النية، فهو داخل في حكم فرضه، فعليه القضاء.
12. من جن الشهر كله لا يقضى لشرط الشهود، وهو لم يشهد شيئا منه مع إمكان الإسقاط بدليل آخر، وإن كان حق الخطاب في الظاهر قد اقتضاه على مثل المريض الذي لا يصح، والمسافر الذي لا يقيم، والله الموفق.
13. فى قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ دلالة أن ابتداء الآية في غير صوم الشهر؛ إذ صوم الشهر يحفظ بالأهلة لا بالأيام، لكن الله تعالى إذ علم الأمر الظاهر في الخلق أنهم يعدونه بالأيام وإن كان لهم عن ذلك غنى، وقد روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (الشهر هكذا وهكذا وهكذا بأصابع يديه كلتيهما، وعقد إصبعا منها في آخر المرات)، وجاء عن غير واحد أنهم قالوا: (ما كنا نصوم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسعة وعشرين أكثر مما نصوم ثلاثين)، فجائز ذكر قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ يعنى يعدها الخلق.
14. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي ما حرم عليكم من أنواع اللذات بكف الأنفس عن الذي به يدعو إليها من الأغذية، أو ﴿تَتَّقُونَ﴾ نقمة الله في الآخرة، ومخالفته في الفعل في الدنيا، وقد جعل الله جل ثناؤه عباداته أعوانا للمعتادين بها على الكف عن المعاصي والخلاف لله في الشهوات، فقال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 45]، وقال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]، وغير ذلك، والأصل: أن العبادات تذكر أصحابها عظم أحوالهم في أوقات فيها من المقام بين يدى الجبار، وتطلعهم على الموعود لهم في الميعاد، وهما أمران عظيمان:
أ. أحدهما: في الزجر بما يعلم من عظم المقام واطلاع الواحد القهار عليه.
ب. الثاني: في الترغيب بما يشعر قلبه من لذيذ الموعد ما يضمحل لديه كل لذة دونه، وتنقطع شهواته التي بينه وبين ما وعد.
15. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ الآية، من غير أن ذكر فطرا، فلا أشار إلى ما ذكر من السفر والمرض اللذين جعلا له تأخير الصيام إلى أيام أخر، ولا أشار إلى أعين تلك الأيام، وكذلك قال مثله فيما كان عرف الوقت لابتداء الصيام بقوله عزّ وجل: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ على أثر المعرف له بقوله عزّ وجل: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ لكن الفطر يعرف أنه مضمر فيه بالعقل والسمع:
أ. فأما السمع: فما جاء من الآثار في الإذن بالإفطار للسفر والمرض؛ دل أن في ذكر العدة ﴿مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ إضمار فطر، والله أعلم.
ب. والعقل: أن الله تعالى جعل المرض والسفر سببي الرخص، فلا يجوز أن يصيرا سببي زيادة فرض على ما كان قبل اعتراضهما.
﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ أضاف عزّ وجل الفعل إلى الشهر بقوله تعالى: ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ فلذلك إذا قصد به صوم الشهر جائز الصوم وإن لم ينو الفرض سوى ما ذكرنا، وكذلك سائر الفرائض نحو الظهر والعصر ينوى ذلك، فيكون ذلك على ما جعله الله من فرض وإن لم ينو الفرض، ولا قوة إلا بالله، وعلى ذلك من نوى بالصيام غير صيام الشهر جائز عن صيام الشهر، لما أمرنا بصيام الشهر ولم نؤمر بأن نجعل ذلك لشيء سواه، والشهر موجود لنفسه لا يحتاج صاحبه إلى أن يوجده كان من ذلك على كل حال، وكذلك كل حق معين في شيء لم يزل عنه نيته إلى غيره؛ كمن يأمر إنسانا بشراء شيء بعينه لم يتحول عنه بالنية، على أن ذلك كالظهر والعصر ونحو ذلك؛ فيحال على تحقيق ذلك قصد غير، وبعد فإن كلا يجمع ألا يجوز غير؛ فثبت أن استحقاق الشهر بصومه لا يستحق عليه غيره من الصيام فجاز عنه، وعلى ذلك أجاز أبو حنيفة في السفر غيره، من حيث أذن له في تأخير هذا، أو غيره فرض عليه نحو صوم الظهار والقتل، ولا رخصة له في تأخيره، فجاز فيه؛ إذ هو وقت صيام حول إلى وقت غيره، فصار هذا الوقت بالحكم لغيره، وليس كنية المتطوع؛ لأنه في موضع الرخصة وفى العمل به وقد يكون له مقدار التطوع من الفضل على غيره فهو أولى به، ولما قد يجوز النفل بلا نية نفل، فكأنه لم ينو النفل، فهو رجل لم يعمل برخصة الله بل عمل بوجه العزم، ولا قوة إلا بالله.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
أ. قيل: ﴿تَتَّقُونَ﴾ الأكل والشرب والجماع.
ب. ويحتمل: ﴿تَتَّقُونَ﴾ المعاصي لأن النفس إذا جاعت شبعت عن جميع ما تهوى وتشتهى، وإذا شبعت تمنت الشهوات، وتتمنى ما تهوى.
ج. ويحتمل: ﴿تَتَّقُونَ﴾ عذاب الله وعقابه، والله أعلم.
17. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ ألزم بعض الناس على المريض والمسافر قضاء عدة الأيام وإن صاموا، فاستدلوا بظاهر الآية فقالوا: أوجب عليهم القضاء على غير ذكر الإفطار فيها، واحتجوا أيضا بما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قال (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر)، فقد حقق له حكم الإفطار في أن لا صوم له؛ فدل أنه لم يجز، فكان كتقديم الصوم عن وقته، وأما عندنا: فهو على إضمار الإفطار، كأنه قال ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ فأفطر، ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ وهو كما ذكر عزّ وجل في المتأذى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196]، أي من كان به أذى فرفع من رأسه ففدية، وكما قال في المضطر: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 173]، ومثله كثير في القرآن، فلا يجوز لأحد أن يأتي ذلك، ولأن المرض والسفر أعذار رخص الإفطار فيها تخفيفا وتوسيعا على أربابها، فلو كان على ما قال هو لكان فيه تضييق عليهم؛ ولأنه إذا قضى في عدة من الأيام إنما يقضى عن ذلك الوقت، فلو لم يجز الفعل في ذلك الوقت وفى تلك الحال، لكان لا يأمر بالقضاء عن ذلك الوقت ولا عن تلك الحال؛ فدل أنه على ما ذكرنا، والله أعلم، وأصله: ما روى عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنه صام في السفر، وروى أنه أفطر، وروى عن الصحابة، أنهم صاموا في السفر، ولو كان لا يجوز لكان لا معنى لصومهم، وأما قوله: (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر)، فهو عندنا: إذا كان الصوم أجهده وضعفه لزمه أن يفطر، صار كالذي أفطر في الحضر، وروى عن أنس أنه قال: (الصوم أفضل والفطر رخصة)
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾:
أ. قرأ بعضهم: (وعلى الذين يطوّقونه)، فمعناه يكلفونه، وقال بعضهم: (لا يطيقونه)، لكن هذا لا يحتمل؛ وذلك أنّه قال ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، دل أن قوله: (لا يطيقونه) لا يحتمل.
ب. وقيل: كان أول ما ترك الصوم كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا كل يوم، فلما نزل صوم شهر رمضان نسخ ما كان قبله عمن يطيق الصوم، ويثبت الرخصة لمن لا يطيق من نحو الشيخ الفاني، والحبلى والمرضع إذا خافت على ولدها.
ج. وقيل: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾، أي الفدية.
د. وقيل: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾، ثم عجزوا، ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ كل يوم.
هـ. وقيل: إن المريض والمسافر إن شاءا أفطرا وقضيا، وإن شاءا أفطرا وفديا.
19. لكن ذلك كله منسوخ بما ذكرنا بنزول شَهْرُ رَمَضانَ، وروى عن أنس أنّه قال: (أحيل الصوم ثلاثة أحوال: فمرة يقضى، ومرة يطعم، ومرة يصام، ثم نسخ هذا كله)، ثم الأصل في هذا: أن من عجز عن قضائه جعل له الخروج بالفداء بعجزه عن ابتدائه، من نحو الشيخ الفاني وغيره، ومن لم يعجز عن قضائه، لم يجعل له الخروج بالفداء، من نحو المرضع والحبلى والمريض والمسافر؛ لأنهم لم يعجزوا عن غير المفروض والبدل أبدا، إنما يجب إذا عجز عن إتيان الأصل.
20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾:
أ. قيل: يهتدون به الطريق المستقيم.
ب. وقيل: بيان للناس من الضلالة.
21. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾:.
أ. قيل: حجج للناس إذا تأملوه.
ب. وقيل: وبَيِّناتٍ أي فيه الحلال، والحرام، والأحكام، والشرائع.
22. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾:
أ. قيل: يفرق بين الحق والباطل.
ب. وقيل: والْفُرْقانِ، المخرج في الدّين من الشبهة والضلالة.
23. قال ابن عباس: (نزل الفرقان إلى السماء الدنيا من اللوح جملة في شهر رمضان في ليلة القدر ـ في ليلة مباركة ـ جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلا رسلا في الشهور والأيام على قدر الحاجات)
24. قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل قوله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ وهو مقيم صحيح، ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾، ثم رخص للمريض والمسافر الإفطار بقوله عزّ وجل: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
ب. ويحتمل قوله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ أي من شهد منكم بعقله الشهر ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ فلا يدخل في الخطاب المجانين ولا الصبيان، ألا ترى أن أول الخطاب خرج للمؤمنين بقوله عزّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ فهؤلاء لم يدخلوا فيه؛ فدل أن قوله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ أي شهد منكم بعقله، ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾
ج. ثم يحتمل أن تكون فرضية الصوم بقوله عزّ وجل: ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾، ويحتمل: لا بهذا، ولكن بقوله: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾؛ إذ لا يجب إكمال العدة لما مضى إلا على حق الفرضية.
25. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ قالت المعتزلة: من صام في السفر أو في المرض فعل ما لم يرد الله؛ لأن الله عزّ وجل أخبر أنه لم يرد العسر، وإنما أراد اليسر، فإذا صام في المرض أو في السفر أراد العسر، والله تعالى أخبر أنه لم يرد، فدل أنه فعل ما لم يرد الله، لكن الوجه عندنا: أن قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾ معناه: أراد الله بكم اليسر لما رخص لكم الإفطار في السفر؛ لأنهم أجمعوا على أن الصوم في السفر أفضل، والإفطار رخصة، ولا جائز أن يقال: لم يرد الله ما هو أفضل، وأراد ما هو دونه على قولهم، ولكن يقال: أراد لمن أفطر اليسر، وأراد لمن ترك الإفطار العسر، وإرادته نافذة، فلا جائز أن ينفذ في وجه ولا ينفذ في وجه آخر.
26. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ أي يريد أن ييسر عليكم بالإذن في الفطر، لا أن يعسر عليكم بالنهى عنه، وقد يحتمل الفعل، لكنه لم يذكر عن أحد أن الله تعالى أراد به اليسر فصام؛ فثبت أن الإرادة موجبة، مع ما لا يحتمل على قولهم أن يكون الصائم في السفر غير مراد، وقد قضى به فرض الله، وأطاع الله فيه، والمعتزلة يقولون بالإرادة في كل فعل الطاعة فضلا عن الفريضة.
27. ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ قيل: يعنى تعظمون الله، ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ لأمر دينه، ويجوز أن يريد بالتعظيم الأمر بالشكر لما أنعم عليهم من أنواع النعم من التوحيد والإسلام وغيره.
28. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي ربكم بهذه النعم التي أنعمها عليكم.. ويحتمل: أنه أمر بالتعظيم له والشكر لما رخص لهم الإفطار في السفر والمرض.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/23.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾ أي وعلى الذين لا يطيقونه فدية طعام مساكين، ولكنه حذف لا وهو يريدها، فمن كان من البرية ذا ضعف وهلاك، وجب عليه أن يطعم ثلاثين مسكيناً(1)..
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 281.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
أ. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ هذه الآية نزلت على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قدم المدينة ففرض عليهم صوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ ذلك ونزل صيام شهر رمضان.
ب. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مساكين﴾ يعني إذا أفطروا وهو منسوخ وقيل إنها نزلت في الشيخ الهم فلا نسخ.
ج. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ بين سبحانه وقت الصوم ووجوبه والرخصة فيه والقرآن أنزل في ليلة القدر منه إلى سماء الدنيا ثم أنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم متفرقاً وقيل: ابتدأ إنزاله ليلة القدر من شهر رمضان، وقيل: كان ينزل إلى السماء الدنيا في ليلة ما كان يحتاج إليه في تلك السنة و الأول الوجه لما يعلمه الله من المصلحة.
د. معنى شهد: شاهد الشهر، ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ قيل: أراد التكبير ليلة الفطر ويوم الفطر ذكره ابن عباس، وجماعة وقيل هو التعظيم له شكراً لـ ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ الله على نعمه والشكر باللسان والجَنَان.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/96.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ بمعنى فرض عليكم الصيام.
2. الصيام من كل شيء الإمساك عنه، ومن قوله تعالى: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ أي صمتا، لأنه إمساك عن الكلام، وذم أعرابي قوما فقال: يصومون عن المعروف ويقصون على الفواحش، وأصله مأخوذ من صيام الخيل، وهو إمساكها عن السير والعلف، قال النابغة الذبياني:
çخيل صيام وخيل غير صائمة...تحت العجاج وأخرى تعلك اللّجماé
ولذلك قيل لقائم الظهيرة: قد صام النهار، لإبطاء الشمس فيه عن السير، فصارت بالإبطاء كالممسكة عنه، قال الشاعر:
çفدعها وسلّ الهمّ عنك بجسرة...ذمول إذا صام النهار وهجّراé
إلا أن الصوم في الشرع: إنما هو إمساك عن محظورات الصيام في زمانه، فجعل الصيام من أوكد عباداته وألزم فروضه، حتى روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (يقول الله عزّ وجلّ: كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك)، وإنما اختص الصوم بأنه له، وإن كان كل العبادات له، لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات:
أ. أحدهما: أن الصوم منع من ملاذّ النفس وشهواتها، ما لا يمنع منه سائر العبادات.
ب. الثاني: أن الصوم سر بين العبد وربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به، وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنّعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره.
3. في قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنهم النصارى، وهو قول الشعبي والربيع وأسباط.
ب. الثاني: أنهم أهل الكتاب، وهو قول مجاهد.
ج. الثالث: أنهم جميع الناس، وهو قول قتادة.
4. اختلفوا في موضع التشبيه بين صومنا، وصوم الذين من قبلنا، على قولين:
أ. أحدهما: أن التشبيه في حكم الصوم وصفته، لا في عدده لأن اليهود يصومون من العتمة إلى العتمة، ولا يأكلون بعد النوم شيئا، وكان المسلمون على ذلك في أول الإسلام، لا يأكلون بعد النوم شيئا حتى كان من شأن عمر بن الخطاب وأبي قيس بن صرمة ما كان، فأحلّ الله تعالى لهم الأكل والشرب، وهذا قول الربيع بن أنس، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (بين صومنا وصوم أهل الكتاب أكلة السّحر)
ب. الثاني: أن التشبيه في عدد الصوم، وفيه قولان:
• أحدهما: أن النصارى كان الله فرض عليهم صيام ثلاثين يوما كما فرض علينا، فكان ربما وقع في القيظ، فجعلوه في الفصل بين الشتاء والصيف، ثم كفّروه بصوم عشرين يوما زائدة، ليكون تمحيصا لذنوبهم وتكفيرا لتبديلهم، وهذا قول الشعبي.
• الثاني: أنهم اليهود كان عليهم صيام ثلاثة أيام من كل يوم عاشوراء، وثلاثة أيام م كل شهر، فكان على ذلك سبعة عشر شهرا إلى أن نسخ بصوم رمضان، قال ابن عباس: كان أول ما نسخ شأن القبلة والصيام الأول.
5. في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: لعلكم تتقون ما حرم عليكم في الصيام، من أكل الطعام، وشرب الشراب، ووطء النساء، وهو قول أبي جعفر الطبري.
ب. الثاني: معناه أن الصوم سبب يؤول بصاحبه إلى تقوى الله، لما فيه من قهر النفس، وكسر الشهوة، وإذهاب الأشر، وهو معنى قول الزجاج.
6. في قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنها أيام شهر رمضان التي أبانها من بعد، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين.
ب. الثاني: أنها صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كانت مفروضة قبل صيام شهر رمضان، ثم نسخت به، وهو قول ابن عباس، وقتادة وعطاء، وهي الأيام البيض من كل شهر، وفيها وجهان:
• أحدهما: أنه الثاني عشر وما يليه.
• الثاني: أنها الثالث عشر وما يليه، وهو أظهر الوجهين، لأن أيام الشهر مجزأة عند العرب عشرة أجزاء، كل جزء منها ثلاثة أيام، تختص باسم، فأولها ثلاث غرر، ثم ثلاث شهب، ثم ثلاث بهر، ثم ثلاث عشر، ثم ثلاث بيض، ثم ثلاث درع، والدرع هو سواد مقدم الشاة، وبياض مؤخرها، فقيل لهذه الثلاث درع، لأن القمر يغيب في أولها، فيصير ليلها درعا، لسواد أوله، وبياض آخره، ثم ثلاث خنس، لأن القمر يخنس فيها، أي يتأخر، ثم ثلاث دهم، وقيل حنادس لإظلامها، ثم ثلاث فحم، لأن القمر يتفحم فيها، أي يطلع آخر الليل، ثم ثلاث رادي، وهي آخر الشهر، مأخوذة من الرادة، أن تسرع نقل أرجلها حتى تضعها في موضع أيديها، وقد حكى أبو زيد، وابن الأعرابي، أنهم جعلوا للقمر في كل ليلة من ليالي العشر اسما، فقالوا ليلة عتمة سخيلة حل أهلها برميلة، وابن ليلتين حديث مين مكذب ومبين، ورواه ابن الأعرابي كذب ومين، وابن ثلاث قليل اللباث، وابن أربع عتمة ربع لا جائع ولا مرضع، وابن خمس حديث وأنس، وابن ست سر وبت، وابن سبع دلجة الضبع، وابن ثمان قمر إضحيان، وابن تسع انقطع الشسع، وفي رواية غير أبي زيد: يلتقط فيه الجزع، وابن عشر ثلث الشهر، عن أبي زيد وعن غيره، ولم يجعل له فيما زاد عن العشر اسما مفردا، واختلفوا في الهلال متى يصير قمرا، فقال قوم يسمى هلالا لليلتين، ثم يسمّى بعدها قمرا، وقال آخرون يسمى هلالا إلى ثلاث، ثم يسمى بعدها قمرا، وقال آخرون يسمى هلالا إلى ثلاث، ثم يسمى بعدها قمرا، وقال آخرون يسمى هلالا حتى يحجر، وتحجيره أن يستدير بخطّة دقيقة، وهو قول الأصمعي، وقال آخرون يسمى هلالا إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل، فإذا بهر ضوؤه يسمى قمرا، وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة.
7. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ يعني مريضا لا يقدر مع مرضه على الصيام، أو على سفر يشق عليه في سفره الصيام.
8. في قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه مع وجود السفر، يلزمه القضاء سواء صام في سفره أو أفطر، وهذا قول داوود الظاهري.
ب. الثاني: أن في الكلام محذوفا وتقديره: فأفطر فعدة من أيام أخر، ولو صام في مرضه وسفره لم يعد، لكون الفطر بهما رخصة لا حتما، وهذا قول الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وجمهور الفقهاء.
9. ثم قال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ هكذا قرأ أكثر القراء، وقرأ ابن عباس، ومجاهد: وعلى الّذين لا يطيقونه فدية، وتأويلها: وعلى الذين يكلفونه، فلا يقدرون على صيامه لعجزهم عنه، كالشيخ والشيخة والحامل والمرضع، فدية طعام مسكين، ولا قضاء عليهم لعجزهم عنه، وعلى القراءة المشهورة فيها تأويلان:
أ. أحدهما: أنها وردت في أول الإسلام، خيّر الله تعالى بها المطيقين للصيام من الناس كلهم بين أن يصوموا ولا يكفروا، وبين أن يفطروا ويكفروا كل يوم بإطعام مسكين، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وقيل بل نسخ بقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وهذا قول ابن عمر، وعكرمة، والشعبي، والزهري، وعلقمة، والضحاك.
ب. الثاني: أن حكمها ثابت، وأن معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ أي كانوا يطيقونه في حال شبابهم، وإذا كبروا عجزوا عن الصوم لكبرهم أن يفطروا، وهذا قول سعيد بن المسيب، والسدي.
10. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: فمن تطوع بأن زاد على مسكين واحد فهو خير له وهذا قول ابن عباس ومجاهد وطاووس والسدي.
ب. الثاني: فمن تطوع بأن صام مع الفدية فهو خير له وهذا قول الزهري ورواية ابن جريج عن مجاهد.
11. قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ يحتمل تأويلين:
أ. أحدهما: أن الصوم في السفر خير من الفطر فيه والقضاء بعده.
ب. الثاني: أن الصوم لمطيقه خير وأفضل ثوابا من التكفير لمن أفطر بالعجز.
12. قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: إن كنتم تعلمون ما شرّعته فيكم وبيّنته من دينكم.
ب. الثاني: إن كنتم تعلمون فضل أعمالكم وثواب أفعالكم.
13. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ أما الشهر فمأخوذ من الشهرة، ومنه قيل قد شهر فلان سيفه، إذا أخرجه، وأما رمضان فإن بعض أهل اللغة يزعم أنه سمي بذلك، لشدة ما كان يوجد فيه من الحر حتى ترمض فيه الفصال، كما قيل لشهر الحج ذو الحجة، وقد كان شهر رمضان يسمى في الجاهلية ناتقا، وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال رمضان، ويقول لعله من أسماء الله عزّ وجل.
14. في إنزال القرآن الكريم فيه قولان:
أ. أحدهما: أن الله تعالى أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في شهر رمضان في ليلة القدر منه، ثم أنزله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، على ما أراد إنزاله عليه، روى أبو المسلم عن وائلة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان.
ب. الثاني: أنه بمعنى أنزل القرآن في فرض صيامه، وهو قول مجاهد.
15. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ يعني رشادا للناس، ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ أي بينات من الحلال والحرام، وفرقان بين الحق والباطل.
16. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ الشهر لا يغيب عن أحد، وفي تأويله ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: فمن شهد أول الشهر، وهو مقيم فعليه صيامه إلى آخره، وليس له أن يفطر في بقيته، وهذا قول عليّ، وابن عباس، والسدي.
ب. الثاني: فمن شهد منكم الشهر، فليصم ما شهد منه وهو مقيم دون ما لم يشهده في السفر، وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن البصري.
ج. الثالث: فمن شهد بالغا عاقلا مكلّفا فليصمه، ولا يسقط صوم بقيته إذا جن فيه، وهذا قول أبي حنيفة، وصاحبيه.
17. ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ وإنما أعاد ذكر الفطر بالمرض والسفر مع قرب ذكره من قبل، لأنه في حكم تلك الآية منسوخا، فأعاد ذكره، لئلّا يصير بالمنسوخ مقرونا، وتقديره فمن كان مريضا أو على سفر في شهر رمضان فأفطر، فعليه عدة ما أفطر منه، أن يقضيه من بعده.
18. اختلفوا في المرض الذي يجوز معه الفطر في شهر رمضان، على ثلاثة مذاهب:
أ. أحدها: أنه كل مرض لم يطق الصلاة معه قائما، وهذا قول الحسن البصري.
ب. الثاني: أنه المرض الذي الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة، وهو قول الشافعي.
ج. الثالث: أنه كل مرض انطلق عليه اسم المرض، وهو قول ابن سيرين.
19. اختلفوا في السفر الذي يجوز معه الفطر في شهر رمضان، على مذاهب:
أ. أحدها: أنه ما انطلق اسم السفر من طويل أو قصير، وهذا قول داوود.
ب. الثاني: أنه مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول أبي حنيفة.
20. اختلفوا في وجوب الفطر فيه على قولين:
أ. أحدهما: أنه واجب وهو قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنه مباح، وهو قول الجمهور.
21. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ قال ابن عباس: اليسر الإفطار، والعسر الصيام في السفر، ونحوه عن مجاهد وقتادة، ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ يعني عدة ما أفطر ثم في صيام شهر رمضان بالقضاء في غيره، ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ قيل إنه تكبير الفطر من أول الشهر.
22. قوله تعالى: ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: يعني من صيام شهر رمضان.
ب. ويحتمل أن يكون على عموم ما هدانا إليه من دينه.
23. قوله تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: تشكرون على هدايته لكم.
ب. الثاني: على ما أنعم به من ثواب طاعته.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/235.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ هذه الآية ظاهرها يتوجه الى من كان على ظاهر الايمان، فأما الكافر، فلا يعلم بهذا الظاهر أنه مخاطب بالصيام، وقوله ﴿كُتُبٌ﴾ معناه فرض.
2. الصيام، والصوم: مصدر صام يصوم صوماً قال النابغة:
çخيل صيام وخيل غير صائمة...تحت العجاج وخيل تعلك اللجماé
وقال صاحب العين: الصوم، والصمت واحد، كقوله تعالى ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ أي صمتاً، والصوم قيام بلا عمل، صام الفرس على أريه: إذا لم يعلف، وصامت الريح: إذا ركدت، وصامت الشمس: حين تستوي في منتصف النهار، وصامت الفرس: موقفه، والصوم ذرق النعام، والصوم: شجر، وأصل الباب: الإمساك، فالصوم: الصمت، لأنه إمساك عن الكلام، والصوم في الشرع هو الإمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة في زمان مخصوص، ومن شرط انعقاده النية.
3. في قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أقوال:
أ. أحسنها: انه كتب عليكم صيام أيام، كما كتب عليهم صيام أيام، وهو اختيار الجبائي، وغيره، ويكون الصيام رفعاً، لأنه ما لم يسمّ فاعله، ويكون موضع (كما) نصب على المصدر، والمعنى فرض عليكم فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم، ويحتمل أن يكون نصباً على الحال من الصيام، وتقديره كتب عليكم مفروضاً أي في هذه الحال.. وإنما قلنا: هو المعتمد، لأنه يصح ذلك في اللغة، إذا كان فرض عليهم صيام أيام كما علينا صيام أيام وإن اختلف ذلك بالزيادة والنقصان.
ب. الثاني: ما قاله الشعبي، والحسن: انه فرض علينا شهر رمضان كما فرض شهر رمضان على النصارى، وإنما زادوا فيه وحوّلوه الى زمان الربيع.
ج. الثالث: ما قاله الربيع، والسدي: إنه كان الصوم من العتمة إلى العتمة لا يحلّ بعد النوم مأكل، ولا مشرب، ولا منكح، ثم نسخ، و الأول هو المعتمد.
د. وقال مجاهد، وقتادة: المعني بالذين من قبلكم أهل الكتاب.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾:
أ. قيل: أي لعلكم تتقون المعاصي بفعل الصوم في قول الجبائي.
ب. وقال السدي: لتتقوا ما حرم عليكم من المأكل والمشرب.
ج. وقالت فرقة: معناه لتكونوا أتقياء بما لطف لكم في الصيام، لأنه لو لم بلطف به لم تكونوا أتقياء.
5. قرأ ابن عامر، ونافع (فدية طعام مساكين) على إضافة الفدية وجمع المساكين، الباقون (فدية) منون (طعام مسكين) على التوحيد، والقراءتان متقاربتا المعنى، لأن المعنى لكل يوم يفطر طعام مسكين، والقراءتان يفيدان ذلك.
6. ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ منصوب بأحد شيئين: أحدهما: على الظرف، كأنه قيل: الصيام في أيام معدودات، وهو الذي اختاره الزجاج، الثاني: أن يكون قد عدي الصيام إليه كقولك: اليوم صمته، وقال الفراء: هو مفعول ما لم يسمى فاعله كقولك: أعطي زيد المال، وخالفه الزجاج، قال لأنه لا يجوز رفع الأيام، كما لا يجوز رفع المال، وإذا كان المفروض في الحقيقة هو الصيام دون الأيام، فلا يجوز ما قاله الفراء إلا على سعة في الكلام، وقال عطا، وقتادة: الأيام المعدودات كانت ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ، وكذلك روي عن ابن عباس، وقال ابن أبي ليلى: المعني به شهر رمضان وإنما كان صيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعاً.
7. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ ارتفع عدّة على الابتداء، وتقديره فعليه عدة من أيام أخر، وإنما قال (أخر) ولا يوصف بهذا الوصف إلا جمع المؤنث التي كل واحدة أنثى ـ والأيام جمع يوم وهو مذكر ـ حملا له على لفظ الجمع، لأن الجمع يؤنث كما يقال جاءت الأيام ومضت الأيام، و(أخر) لا يصرف، لأنه معدول عن الألف واللام، لأن نظائرها من الصغر والكبر لا يستعمل إلا بالألف واللام، لا يجوز نسوة صغر، ويجوز في العربية (فعدة) على معنى، فليعد عدة من أيام أخر بدلا مما أفطر.
8. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ هذه الآية فيها دلالة على أن المسافر، والمريض يجب عليهما الإفطار، لأنه تعالى أوجب عليهما القضاء مطلقاً، وكل من أوجب القضاء بنفس السفر والمرض أوجب الإفطار وداوود أوجب القضاء، وخيرّ في الإفطار، فان قدّروا في الآية فأفطر، كان ذلك خلاف الآية، وبوجوب الإفطار في السفر قال عمر بن الخطاب، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو هريرة، وعروة ابن الزبير، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وروى سعيد بن جبير عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس: قال الإفطار في السفر عزيمة، وروى يوسف ابن الحكم، قال سألت ابن عمر عن الصوم في السفر قال أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردها عليك ألا تغضب، فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم، وروى عبد الملك بن حميد قال قال أبو جعفر: كان أبي لا يصوم في السفر وينهى عنه، وروي عن عمر، أن رجلا صام في السفر، فأمره أن يعيد صومه، وروى عطا عن المحرز بن أبي هريرة قال كنت مع أبي في سفر في شهر رمضان، فكنت أصوم ويفطر، فقال أبي أما أنك إذا أقمت قضيت، وروى عاصم مولى قومه: أن رجلا صام في السفر فأمره عروة أن يقضي، وروى الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ابن عوف قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر.
9. أصل السفر الكشف تقول: سفر يسفر سفراً: إذا كشف، وأسفر لونه إسفاراً، وانسفرت الإبل: إذا انكشفت داهية انسفاراً، وسافر سفراً، وسفرت الريح السحاب إذا قشعته قال العجاج: (سفر الشمال الزّبرج المزبررجا) الزبرج السحاب الرقيق، ومنه السفر، لأنه يظهر به ما لم يكن ظهر، وينكشف به ما لم يكن انكشف، والسفرة طعام السفر، وبه سميت الجلدة التي يحمل فيها الطعام سفرة، والمسفرة: المكنسة، والسفير الداخل بين اثنين للصلح، والسفير: ورق الشجر إذا سقط، وسفر فلان شعره إذا استأصله عن رأسه، ومنه قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ أي مشرفة مضيئة ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ﴾ إذا أضاء، والاسفار جمع سفر ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ أي كتبة.
10. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ يقال: طاق يطوق طوقاً وطاقة وهي القوة، وأطاقه إطاقة ايضاً إذا قوي عليه، وطوّقه تطويقاً: ألبسه الطوق، وهو معروف من ذهب كان أو فضة كأنه يكسيه قوة بما يعطيه من الجلالة، وكل شيء استدار فهو طوق، كطوق الرحا الذي يدير القطب مشبه بالطوق المعروف في الصورة، وتطوقت الحية على عنقها: أي صارت كالطوق فيه، والطاقة: شعبة من ريحان أو شعر ونحو ذلك، والطاق: عقد البناء حيث ما كان، والجمع الاطواق، وذلك لقوته، وطوقه الأمر إذا جعله كالطوق في عنقه.
11. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ قال الحسن وأكثر أهل التأويل: إن هذا الحكم كان في المراضع، والحوامل، والشيخ الكبير، فنسخ من الآية المراضع، والحوامل وبقي الشيخ الكبير، وقال أبو عبد الله عليه السلام ذلك في الشيخ الكبير يطعم لكل يوم مسكيناً، منهم من قال نصف صاع وهم أهل العراق، وقال الشافعي: مد عن كل يوم، وعندنا إن كان قادراً فمدان، وإن لم يقدر إلا على مد أجزاه، وقال السدي: لم ينسخ، وإنما المعنى وعلى الذين كانوا يطيقونه.
12. ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ يعني أطعم أكثر من مسكين في قول ابن عباس، وعمل برّا في جميع الدين في قول الحسن، وهو أعم فائدة، ومنهم من قال من جمع بين الصوم، والصدقة ذهب إليه ابن شهاب، والهاء في قوله يطيقونه ـ عند أكثر أهل العلم ـ عائدة على الصوم، وهو الأقوى، وقال قوم: عائدة على الفداء، لأنه معلوم وإن لم يجر له ذكر.
13. في المعني بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أولها ـ أنه سائر الناس من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى لكل يوم إطعام مسكين حتى نسخ ذلك ـ في قول ابن عباس، والشعبي.
ب. الثاني: قال الحسن وعطا: إنه في الحامل، والمرضع، والشيخ الكبير، فنسخ من الآية الحامل، والمرضع، وبقي الشيخ الكبير.
ج. وقال السدي: إنه فيمن كان يطيقه إذا صار الى حال العجز عنه.
14. ﴿وَمِنْ﴾ في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ﴾ الظاهر، والأليق أنها للجزاء، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي، وما روي في الشواذ من قراءة من قرأ (يطوقونه) قيل فيه قولان:
أ. أحدهما: يكلفونه على مشقة فيه، وهم لا يطيقونه لصعوبته.
ب. الثاني: أن يكون معناه يلزمونه، وهم الذين يطيقونه، فيؤول الى معنى واحد.
15. من قرأ (فدية طعام مساكين) على إضافة الفدية، وجمع المساكين: عن ابن عامر ونافع، فان معنى قراءته تؤول الى قراءة من ينوّن ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، لأن المعنى: لكل يوم يفطر طعام مسكين، والأول يفيد هذا ايضاً، لأنه إذا قيل: إطعام مساكين للأيام بمعنى لكل يوم مسكين، صار المعنى واحداً.
16. في الآية دلالة على بطلان قول المجبرة: إن القدرة مع الفعل، لأنه لو كانت الاستطاعة مع الفعل الذي هو الصيام، لسقطت عنه الفدية ـ لأن إذا صام لم يجب عليه فدية.
17. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ رفع (خير)، لأنه خبر المبتدأ، وتقديره وصومكم خير لكم، كأن هذا مع جواز الفدية، فأما بعد النسخ، فلا يجوز أن يقال: الصوم خير من الفدية مع أن الإفطار لا يجوز أصلا.
18. قرأ أبو بكر عن عاصم (ولتكملوا) بتشديد الميم، الباقون بتخفيفها، قال أبو العباس: أكملت وكملّت بمعنى واحد إلا أن في التشديد مبالغة، ومن قرأ بالتخفيف فلقوله ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾
19. الشهر: معروف، وجمعه: الأشهر، والشهور والشهرة: ظهور الأمر في شنعة، وشهرت الحديث أظهرته، وشهر فلان سيفه: إذا انتضاه، والمشهر: الذي أتى عليه شهر، وأشهرت المرأة: إذا دخلت في شهر ولادتها، وأتان شهيرة: أي عريضة ضخمة، والمشاهرة: المعاملة شهراً بشهر، وسمى الشهر شهراً، لاشتهاره بالهلال، فأصل الباب الظهور.
20. ﴿رَمَضَانَ﴾ قال ابن دريد: الرمض: شدة وقع الشمس على الرمل وغيره، والأرض رمضاء، ورمض يومنا رمضاً: إذا اشتد حرّه، ورمضان من هذا اشتقاقه، لأنهم سمّوا الشهور بالأزمنة التي فيها، فوافق رمضان أيام رمض الحر، وقد جمعوا رمضان، رمضانات، قال صاحب العين: والرمض حرقة غيظ تقول: أرمضني هذا الأمر، ورمضت له، والرمض: مطر يكون قبل الخريف، وأصل الباب شدة الحر.
21. شهر رمضان رفع لأحد ثلاثة أشياء:
أ. أولها: أن يكون خبر ابتداء محذوف يدل عليه ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ وتقديره هي شهر رمضان.
ب. الثاني: على ما لم يُسم فاعله، ويكون بدلا من الصيام، وتقديره (كتب عليكم الصيام) ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾
ج. الثالث: أن يكون مبتدأ وخبره ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ ويجوز في العربية شهر رمضان بالنصب من وجهين: أحدهما: صوموا شهر رمضان، والآخر ـ على البدل من أيام.
22. في قوله تعالى: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن: إن الله تعالى أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد ذلك نجوماً، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
ب. الثاني: أنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان.
23. سؤال وإشكال: كيف يجوز إنزاله كله في ليلة، وفيه الاخبار عما كان، ولا يصلح ذلك قبل أن يكون؟ والجواب: يجوز ذلك في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ وقوله: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ على إذا كان وقت كذا أنزل ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ﴾ كما قال تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ أي إذا كان يوم القيامة ﴿نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ﴾
24. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ موضعه نصب على الحال، كأنه قال أنزل فيه القرآن هادياً للناس، ولا يحتمل سواه، لقوله ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾
25. القرآن اشتقاقه قرأ يقرأ قراءة، وأقرأه إقراء، وقال صاحب العين: رجل قارء: أي عابد ناسك، وفعله التقري والقراءة، وأقرأت المرأة: إذا حاضت، وقرأت الناقة: إذا حملت، والقرء: الحيض، وقد جاء بمعنى الطهر، وأصل الباب الجمع، لقولهم ما قرأت الناقة سلاقط: أي ما جمعت رحمها على سلاقط، وفلان قرأ، لأنه جمع الحروف بعضها الى بعض، والقرء الحيض، لاجتماع الدم في ذلك الوقت، والفرقان: هو الذي يفرق بين الحق، والباطل، والمراد به القرآن هاهنا.
26. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: من شاهد منكم الشهر مقيما.
ب. الثاني: من شهده بان حضره، ولم يغب، لأنه يقال: شاهد: بمعنى حاضر، وشاهد: بمعنى مشاهد، وروي عن ابن عباس، وعبيدة السلماني، ومجاهد، وجماعة من المفسرين، ورووه عن علي عليه السلام أنهم قالوا: من شهد الشهر بأن دخل عليه الشهر، كره له أن يسافر حتى يمضي ثلاث وعشرون من الشهر إلا أن يكون واجباً كالحج، أو تطوعاً كالزيارة، فان لم يفعل، وخرج قبل ذلك كان عليه الإفطار، ولم يجزه الصوم.
27. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ ناسخ الفدية ـ على قول من قال بالتخيير ـ وناسخ للفدية ايضاً في المراضع والحوامل ـ عند من ذهب اليه ـ وبقي الشيخ الكبير، له أن يطعم، ولم ينسخ، وعندنا أن المرضعة والحامل إذا خافا على ولدهما أفطرتا وكفرّتا، وكان عليهما القضاء فيما بعد إذا زال العذر، وبه قال جماعة من المفسرين، كالطبري وغيره.
28. ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ قد بينا أنه يدلّ على وجوب الإفطار ـ في السفر ـ، لأنه أوجب القضاء بنفس السفر، والمرض، وكل من قال ذلك أوجب الإفطار، ومن قدر في الآية أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، زاد في الظاهر ما ليس فيه، فان قيل: هذا كقوله ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ ومعناه فحلق، قلنا: إنما قدرنا هناك فحلق للإجماع على ذلك، وليس هاهنا إجماع، فيجب أن لا يترك الظاهر، ولا يزاد فيه ما ليس فيه.
29. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ قال صاحب العين: الارادة: أصلها الواو، لأنك تقول: راودته على أن يفعل كذا وكذا، مراودة، ومنه راد، يرود، رواداً، فهو رائد بمعنى الطالب شيئاً، ويقال أرود فلان إرواداً: إذا رفق في مشي أو غيره، ومنه رويداً فلاناً: أي أمهله يتفسح منصرفاً، ومنه ارتاد ارتياداً كقولك: طلب طلباً، والرود: الميل، وفي المثل (الرائد لا يكذب أهله) أي الطالب صلاحهم لا يكذبهم، لأنه لو كذّبهم غشهم، وأصل الباب الطلب، والارادة بمنزلة الطلب للمراد، لأنها كالسبب له.
30. اليسر ضد العسر، يقال: أيسر إيساراً، ويسره تيسيراً، وتيسر تيسراً، وتياسر تياسراً، واستيسر استيساراً، واليسار: اليد اليسرى، واليسار: الغنى، والسعة، واليسر: الجماعة الذين يجتمعون على الجزور في الميسر، والجمع: الإيسار، وفرس حسن التيسور: إذا كان حسن السمن، وأصل الباب السهولة.
31. العسر ضد اليسر، وعسر الشيء عسراً، ورجل عسر بيّن العسر، ورجل أعسر: يعمل بشماله، وأعسر الرجل إعساراً: إذا افتقر، والعسير الناقة التي اعتاضت فلم تحمل من سنتها، وبعير عسران إذا رُكب قبل أن يُراض، وأصل الباب الصعوبة.
32. ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ يقال: كمل يكمل كمالا، وأكمل إكمالا، وتكامل تكاملا، وكمله تكميلا، واستكمل استكمالا، وتكمل تكملا، وأصل الباب الكمال، وهو التمام.
33. عطف باللام في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ على أحد أمرين:
أ. أحدهما: عطف جملة على جملة، لأن بعده محذوفاً، كأنه قال ولتكملوا العدة شرع ذلك أو أريد، ومثله قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ أي أريناه، هذا قول الفراء.
ب. الثاني: أن يكون عطفاً على تأويل محذوف دلّ عليه ما تقدم من الكلام، لأنه لما قال ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ دلّ على أنه فعل ذلك ليسهل عليكم، فجاز ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ عطفاً عليه، قال الشاعر:
çيا رب غيرّ آيهن مع البلى...إلا رواكد جمرهنّ هباء
ومشجج أمّا سواء قذاله...فبدا وغيّب ساره المعزاءُé
فعطف على تأويل الكلام الأول كأنه قال بها رواكد، ومشجج، وهذا قول الزجاج وهو الأجود، لأن العطف يعتمد على ما قبله، لا على ما بعده، وعطف الظرف على الاسم في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ جائز، لأنه معنى الاسم، وتقديره أو مسافراً، ومثله قوله تعالى: ﴿دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾ كأنه قال مضطجعاً أو قائماً أو قاعداً.
34. اليسر المذكور في الآية: الإفطار في السفر ـ في قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والعسر: الصوم فيه وفي المرض.
35. العدة: المأمور بإكمالها، والمراد بها: أيام السفر، والمرض الذي أمر بالإفطار فيها وقال الضحاك، وابن زيد: عدة ما أفطروا فيه.
36. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾:
أ. قيل: المراد به تكبير ليلة الفطر عقيب أربع صلوات: المغرب، والعشاء الآخرة، وصلاة الغداة، وصلاة العيد ـ على مذهبنا ـ
ب. وقال ابن عباس، وزيد بن أسلم، وسفيان، وابن زيد: التكبير يوم الفطر.
في الآية دلالة على فساد قول المجبرة من ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: قوله ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ فعمّ بذلك كل إنسان مكلف، وهم يقولون ليس يهدى الكفار.
ب. الثاني: قوله تعالى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ والمجبرة تقول: قد أراد تكليف العبد ما لا يطيق مما لم يعطه عليه قدرة، ولا يعطيه، ولا عسر أعسر من ذلك.
ج. الثالث: لو أن إنساناً حمل نفسه على المشقة الشديدة التي يخاف معها التلف في الصوم لمرض شديد لكان عاصياً، ولكان قد حمل نفسه على العسر الذي أخبر الله أنه لا يريده بالعبد، والمجبرة تزعم أن كلما يكون من العبد من كفر أو عسر أو غير ذلك من أنواع الفعل يريده الله.
37. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بأحكام الصوم، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/115.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الصوم في اللغة: هو الإمساك، ويقال: للصمت صوم؛ لأنه إمساك عن الكلام، ومنه: ﴿نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ وأما في الشرع فهو إمساك مخصوص في وقت مخصوص عن أشياء مخصوصة، مع شرط العزم والنية، وقيل: هو الامتناع من المفطرات إذا عرضت له من حين طلوع الفجر إلى غروب الشمس بشرط النية، فالاسم الشرعي فيه معنى اللغة، والصوم والصيام بمعنىً؟
ب. السفر: معروف، وأصله من الكشف، ومنه: ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ﴾
ج. والطوق: الطاقة وأطاقه: إذا قوي عليه.
د. الفدية: الجزاء والبدل، يقال: فديت هذا بهذا أي جزيته وأعطيته بدلاً منه، وفديت فِدْية مثل مشيت مِشْية، وجلست جِلْسة.
هـ. الشهر: معروف، وهو اسم لمدة مخصوصة، ثلاثون يومًا، أو تسعة وعشرون يومًا، والاعتبار في الشهر في أحكام الشرع بالأهلة إلا في مدة العِنِّين، فعندنا يعتبر سنة شمسية لا قمرية، أو جمع الشهر: أشهر وشهور، وأصله من الظهور، يقال: شَهَرْتُ الحديث أظهرته، والشهرة ظهور الأمر في شُنْعَةٍ.
و. رمضان أصل الرمض شدة الحر، وكانوا يسمون الشهور باسم الأزمنة التي فيها وقعت فوافق رمضان أيام الحر، وجمع رمضان: رمضانات، واختلفوا، فقيل: سمي رمضان؛ لأن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، كأنه قيل: شهر الله، وقيل: لأن الحجارة كانت ترمض من شدة الحر، وقيل: لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها.
ز. القرآن: أصله الجمع، ومنه سمي القراءة؛ لأنها تجمع الحروف.
ح. العسر: الصعوبة، ونقيضه اليسر، وهو السهولة.
ط. الإكمال من الكمال وهو التمام.
ي. التكبير: التعظيم.
2. ذكر أهل التفسير أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما قدم المدينة فرض عليهم صوم يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ ذلك، ونزل صيام شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام
3. بَيَّنَ تعالى شريعة أخرى مصلحة لعباده، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ فرض عليكم، ووجوبه على أهل الإيمان لا ينافي وجوبه على غيرهم، وخصهم بالذكر لقبولهم ذلك، وصحته منهم ﴿الصِّيَامِ﴾ وهو العبادة المعروفة في الشرع، ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ فرض.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾:
أ. قيل: النصارى عن الحسن والشعبي.
ب. وقيل: أهل الكتاب، عن قتادة ومجاهد.
ج. وقيل: أهل الملل، عن ابن عباس والأصم وأبي علي.
5. اختلفوا فيما وقع فيه التشبيه:
أ. فقيل: في شهر رمضان وقدره، عن الحسن والشعبي لكن حرفوه وزادوا فيه.. وأنكر الأصم قول الحسن، قال القاضي: وما روي في ذلك خبر واحد ضعيف، فما هم عليه من النقل أولى
ب. وقيل: في صفته، وكان الصوم من العتمة إلى العتمة لا يحل بعد النوم أكل ولا شرب ولا نكاح، ثم نسخ، عن الربيع والسدي.
ج. وقيل: في نفس الصوم، يعني كتب علينا صيام أيام كما كتب عليهم، عن الأصم وأبي علي وأبي مسلم.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾:
أ. قيل: لتتقوا المعاصي بفعل الصوم، عن أبي علي.
ب. وقيل: لتتقوا ما حرم عليكم في الصوم، عن السدي.
ج. وقيل: لتكونوا أتقياء لما لطف لكم في الصوم.
7. اختلف في وجه اللطف في الصوم:
أ. قيل: إنه يضعف البدن، ويصرفه عن الشهوات؛ ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿ خصاء أمتي الصوم﴾ وقال: (الصوم جنة)
ب. وقيل: لأنه إذا جاع وعطش تذكر جوع الآخرة وعطشها وحاجة أهل النار إلى ذلك حتى قالوا: ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ﴾
ج. وقيل: فيه تذليل النفس، ومنعها من الشهوات.
8. ثم لما أوجب تعالى الصوم، وبين محله في موضع الرخصة، فقال تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، واختلفوا فيها:
أ. قيل: معلومات، واختلفوا في هذه الأيام على قولين:
• الأول: على أنها غير رمضان، عن معاذ وقتادة وعطاء، ورواه عن ابن عباس، ثم اختلف هَؤُلَاءِ فقيل:
● ثلاثة أيام من كل شهر، عن عطاء.
● وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم عاشوراء، عن قتادة.
● وقيل: إنه كان تطوعًا ثم فرض.
● وقيل: كان واجبًا، واتفق هَؤُلَاءِ أنه منسوخ بصوم رمضان.
• الثاني: أن المراد بالمعدودات شهر رمضان، عن ابن عباس والحسن وأبي علي وأبي مسلم وعليه أكثر المفسرين.
ب. وقيل: أوجب الصوم أولاً فأجمل، ولم يبين أنه يوم أو يومان أو أكثر ثم بين أنه أيام معلومات، وأبهم، ثم بينه بقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ قال القاضي: وهو الأولى؛ لأنه إذا أمكن حمله على معنى من غير إثبات نسخ كان أولى، ولأن ما قالوه زيادة لا دليل عليه، ووجه التشبيه إيجاب الصوم، وإن لم تتفق الأيام وعدته.
9. سؤال وإشكال: روي أن صوم رمضان نسجْ كل صوم؟ والجواب: يحتمل كل صوم واجب في الشرائع المتقدمة، ويحتمل صيامًا وجب على هذه الأمة بغير الآية.
10. سؤال وإشكال: إن كان المراد بالجميع شهر رمضان فلم كرر قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾؟ والجواب: لأن الابتداء لم يتحتم بشهر رمضان، وكان مخيرًا بين الصوم والفدية، ورخص للمسافر والمريض الفطر، وكان يجوز أن يظن أن لا فدية عليهما، ولا قضاء، وأن عليه الفدية دون القضاء، فَبَيَّنَ تعالى أن حكمه خلاف التخيير في المقيم، وأن عليهما القضاء، فلما نسخ التخيير في المقيم وحتم الصوم كان من الجائز أن يظن أن التضييق يعم المقيم والمسافر والصحيح والمريض، فبين أن حكم الرخصة في حق المريض والمسافر ثابت، هذا هو الفائدة في إعادته.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾:
أ. قيل: الرخصة تتبع الاسم فكل مريض ومسافر له أن يفطر، عن الحسن.
ب. وقيل: بل كل مريض ومسافر يلحقه الجهد إن صام، ومن لا جهد فلا رخصة، عن الأصم.
ج. وقيل: هو كل مرض يؤدي الصوم إلى ضرر في النفس أو زيادة علة والرخصة ثابتة، وفي السفر أن يكون قدرًا مخصوصًا، ولا اعتبار بحال المسافر وجهده، وعليه الفقهاء وأكثر المفسرين.
﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، لا بد من حذف وتقديره: فأفطر فعليه عدة ذلك، ونظيره: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾ أي فحلق فعليه فدية.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾:
أ. قيل: إنه يرجع إلى المريض والمسافر فلهما حالان:
• أحدهما: يلزمه الفطر وعليه القضاء، وهو حال الجهد الشديد إن صام.
• الثانية: ألا يثقل عليه فهو مخير بين الصوم والفدية، ولم يكن هذا التخيير في المقيم فقط، بل كان في المريض والمسافر، ثم نسخ، عن الأصم.
ب. وقال الأكثر: هو عام، والتخيير كان في المقيم الصحيح وغيره، ثم نسخ، والهاء ترجع إلى الصوم، وتقديره: وعلى الَّذِينَ يطيقون الصوم إذا أفطروا فدية، وقيل: الَّذِينَ يطيقون الفدية، عن الحسن والأصم وأبي مسلم، وهذا لا يصح؛ لأنه لم يَجْرِ له ذكر، ولأن الإضمار مذكر.
ج. وقيل: إنها نزلت في الشيخ الهرم، ولا نسخ فيه، عن السدي.
د. روي عنه أنها نزلت فيه وفي الحامل والمرضع إذا خافتا على ولدهما فنسخ فيهما دون الشيخ الهرم.
13. ﴿طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾ يعني لكل يوم طعام مسكين، وعلى القراءة الأخرى لكل الأيام طعام مساكين.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾:
أ. قيل: تطوع بزيادة، عن ابن عباس وأبي علي، وذلك يكون بوجهين:
• أحدهما: أن يطعم مسكينين أو أكثر، عن عطاء وطاووس والسدي.
• الثاني: أن يطعم المسكين الواحد أكثر من قدر الكفاية حتى يزيده على نصف صاع، عن مجاهد.
ب. وقيل: عَمِلَ بِرًّا في جميع الدين، عن الحسن.
ج. وقيل: صيام مع الفدية، عن ابن شهاب.
15. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ يعني الصوم خير من الإفطار والفدية ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾:
أ. قيل: إن كنتم علماء لمشقته عليكم.
ب. وقيل: إن كنتم تعلمون أن الصوم خير لكم من الإفطار.
16. ثم بَيَّنَ تعالى وقت الصوم ووجوبه والرخصة فيه، فقال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ عرف الشهر، وبيّن أنه خصه بالصوم لاختصاصه بالفضائل المذكورة، وهو أنه أنزل فيه القرآن، وعليه مدار الدين، واختلفوا:
أ. فقيل: أنزل القرآن كله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم متفرقًا بعده، عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وجماعة، وهو الأقرب لما يعلمه الله تعالى من المصلحة.
ب. وقيل: ابتدأ إنزاله ليلة القدر من شهر رمضان، عن أبي إسحاق.
ج. وقيل: كان ينزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السنة.
17. ثم وصف الله تعالى القرآن فقال: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ يعني دلالة لهم فيما كلفوه من العلوم، ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾:
أ. قيل: بيّن أنه مع كونه هدى يتضمن بينات من الهدى والفرقان فوجب حمله على غير ما تقدم ليفيد:
ب. وقيل: المراد بالهدى الأول الهدى من الضلالة، وبالثاني: بيان الحلال والحرام، عن ابن عباس.
ج. وقيل: أراد بالأول ما كلف من المعلوم، وبالثاني ما يشتمل عليه من ذكر الأنبياء وشرائعهم وأخبارهم؛ لأنها لا تدرك إلا بالقرآن، عن الأصم والقاضي؛ ولذلك قال: ﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾؛ لأنه كالحكاية عن هدى من تقدم من الأنبياء.
18. ثم وصف الله تعالى القرآن بأنه فرقان يعني يفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام، وكل ذلك ترغيب في تدبره، والتعويل عليه، والتحذير من خلافه.
19. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾:
أ. قيل: الألف واللام في الشهر للعهد، والمراد به شهر رمضان.
ب. وقيل: من شهد أول الشهر فليصم جميعه عن علي.
ج. وقيل: من شهد كل الشهر مقيمًا صحيحًا مكلفًا فليصمه.
20. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿شَهِدَ﴾:
أ. قيل: شاهد الشهر وهو مكلف.
ب. وقيل: حضر ولم يغب، ومعناه أن يرد الشهر وأوقاته وهو على صفة يلزمه الصوم فليصمه، فأوجب الصوم حتمًا ونسخ التخيير، وإن كان موصولاً به في التلاوة؛ لأن الانفصال تغيير عند الإنزال لا عند التلاوة، وعلى هذا قال العلماء في عدة المتوفى عنها زوجها: إن المقدم ناسخ، والمتأخر في التلاوة منسوخ؛ إذ لا معتد بالتلاوة، والمتلو أولا هو المنزل آخرًا.
21. الصوم هو الإمساك مع النية، ولا خلاف أن تقديم النية في وقت الشروع جائز، والخلاف في تأخره.
22. ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ بَيَّنَّا الرخصة للمريض والمسافر وصفتهما وذكرنا أن منهم من قال: الفطر للمسافر عزيمة، ومنهم من قال: رخصة، وهو قول الفقهاء، ثم اختلفوا:
أ. فمنهم من قال: الصوم أفضل، وعليه الأكثر.
ب. وبعضهم قال: الفطر أفضل.
23. ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أي فأفطر فعليه عدة من أيام أخر يقضي فيها ذلك، واختلفوا هل للعدة وقت:
أ. قال أبو حنيفة: لا، وهو موسع.
ب. وقيل: هو مُضَيَّق إذا برئ أو قَدِمَ، عن الحسن وجماعة.
ج. وقيل: مؤقت بما بين رمضانين، فإن فرط لزمه الفدية، عن الشافعي.
24. ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ بالرخصة للمريض والمسافر إذْ لم يوجب الصوم عليهما حتمًا فقيل: يريد الله بكم اليسر في جميع أموركم، ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ أي التضييق عليكم.
25. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾:
أ. قيل: يعني تتموا العدة ما أفطرتم بالقضاء.
ب. وقيل: وليكمل المقيم الصحيح والمريض والمسافر على ما أمر؛ لأنه مع الطاقة وعدم العذر يسهل عليه كمال العدة، والمريض والمسافر يتعسر عليه فيكمل في وقت آخر.
26. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا الله﴾:
أ. قيل: أراد التكبير ليلة الفطر ويوم الفطر، عن ابن عباس وجماعة.
ب. وقيل: هو التعظيم له شكرًا لقوله تعالى: ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ ولأنه لم يُرْوَ تكبير في ذلك الوقت فجمع عليه.
27. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي لتشكروا الله على نعمه، والشكر:
أ. قيل: هو تعظيم النعم بالثناء باللسان والتعظيم بالقلب.
ب. وقيل: العبادات بالجوارح، عن أبي مسلم.
ج. وقيل: إنه يقع على القول والاعتقاد حقيقة، وفي أفعال الجوارح، وهو مجاز، عن القاضي.
28. تدل الآيات الكريمة على:
أ. وجوب الصوم، والخطاب وإن كان للمؤمنين فالصوم لازم للجميع فيجب على الكفار بشرط تقديم الإيمان، كما تجب الصلاة على المُحْدِث بشرط تقديم الطهارة، وقد بَيَّنَّا فائدة تخصيص المؤمنين بالذكر.
ب. أن الصوم كان في شريعة من قبلنا كما في شريعتنا.
ج. أنه تعالى أراد من الجميع التقوى؛ لأن معنى الكلام لتتقوا بفعل الصوم، فلا بد من شرائط في الصيام والوقت والفعل، فأما الصوم فيصح من العاقل، ولا يصح من المجنون، ولا من الحائض، فأما الصبي إن كان يعقل فيصح منه نفلاً ولا يجب، وإن لم يعقل لا يصح، فأما وقته فجميع السنة إلا خمسة أيام: أيام العيدين، وأيام التشريق، ولا يصح الصوم في الليالي، وإنما يصح في الأيام من وقت الفجر إلى غروب الشمس، ولا يتبعض صيام يوم، فأما الفعل فالنية، والصوم على ثلاثة أوجه: تطوع، وفرض عين كشهر رمضان، وقضاء وكفارات، ونذور، ففي الأول يجوز النية ليلاً أو نهارا إلى أن تزول الشمس، ولا يجوز بعد ذلك عند أهل العراق، ويجوز عند الشافعي، وفي الثالث لا تجوز النية إلا بالليل بالاتفاق، واختلفوا في شهر رمضان، فعند أبي حنيفة تجوز بالنهار، وقال الشافعي لا تجوز، والثاني الإمساك عن المفطرات، منها: الجماع، ومنها: ما يحصل في الجوف من مأكول أو مشروب أو غيره، وتفصيل ذلك في كتب الفقه، فأما صيام رمضان وما يجب فيه، وذكر الكفارات فَنُبَيِّنُهُ من بعد.
د. يدل قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ على أن الصوم يجب في أيام، والصحيح أنها شهر رمضان لما قدمنا، ولأن صومه ثابت بالإجماع، وحمل الآية عليه أولى.
هـ. يدل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ على الرخصة لهما، واختلفوا في مدة السفر فقيل: ثلاثة أيام ولياليها عن أهل العراق، وقيل: ستة وأربعين ميلاً عن الشافعي، وقيل: مسيرة يوم، وقيل: مسيرة يومين، واختلفوا في صفة المسافر، فقيل: الرخصة ثابتة سواء كان السفر طاعة أو مباحًا، أو معصية، عن أبي حنيفة وأصحابه وعليه الأكثر، وقال الشافعي: لا يثبت في سفر المعصية، وإذا سافر بعدما دخل الشهر أو قبله جاز له الفطر، واتفق الفقهاء أن الفطر في السفر رخصة، وإن صام جاز صومه إلا أن يبلغ الجهد، وعن عمر وابن عباس أن الفطر عزيمة، ثم اختلفوا، فالأكثر على أن الصوم أفضل من الفطر، وعن بعضهم الفطر أفضل، فأما المريض فقد بينا ما قيل فيه، والصحيح أن كل مريض يؤثر الصوم فيه فله أن يفطر، وسواء كان وجعًا أو حُمّى أو غيره.
و. يدل قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ على وجوب القضاء على المريض والمسافر، ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف في موضعين إذا لم يقض حتى دخل رمضان آخر، فعندنا هو مسيء، وعليه القضاء فقط، وقال الشافعي: عليه مع القضاء الفدية، والثاني الحامل والمرضع إذا أفطرتا عليهما القضاء عندنا، وعند الشافعي القضاء والفدية، ولا خلاف أنه إذا لم يبرأ من مرضه، ولم يعد من سفره فلا قضاء عليه، فإذا عاد وبَرَأَ ولم يقض حتى مات أوصى به، ثم اختلفوا، فعتدنا تؤدى عنه الفدية ولا يصوم عنه أحد، وقال الشافعي: يصوم عنه وليه، واختلفوا في العدة، فقيل: التتابع شرط فيه، عن مالك بن أنس، وقيل: ليس بشرط، عن ابن عباس ومعاذ، وعليه أكثر الفقهاء.
ز. يدل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ على وجوب الفدية، قد بَيَّنَّا ما قيل فيه، وأن الأولى أن يحمل على أنه كان مخيرًا ثم نسخ و﴿يُطِيقُونَهُ﴾ يعني الصوم، واختلفوا في الفدية، فقيل: مقدر بنصف صاع بر أو صاع من تمر أو شعير، عن أهل العراق، وقيل: مقدر بِمُدٍّ عن الشافعي، واتفقت الأمة أنه لا يجوز الفطر في رمضان إلا لعذر، والعذر ثلاثة: المرض، والسفر وعليهما القضاء فقط، والشيخ الهرم وعليه الفدية، فأما الحامل والمرضع فتدخل في عذر المرض، فأما إذا أفطر لغير عذر مقصود جنسه من جماع أو طعام فعليه التوبة والقضاء والكفارة العظمى.
ح. يدل قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ على أن الصوم في السفر أفضل، فيبطل قول من خالف فيه.
ط. يدل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ على أن الاستطاعة قبل الفعل.
ي. أن الهدى ليس هو نفس الإيمان كما تزعمه الْمُجْبِرَة؛ لأنه تعالى جعل القرآن هدى.
ك. بطلان قول أصحاب المعارف؛ إذ لو كانت ضرورية لما أفاد وصفه بأنه هدى.
ل. بطلان قول الْمُجْبِرَةِ؛ لأنه بين أن في أفعال المكلف ما يريد وهو اليسر، ومنها ما لا يريد، وهو العسر، وهذا خلاف قولهم، فإنهم يزعمون أنه يريد كل عسر بعباده.
م. بطلان قولهم في تكليف ما لا يطاق ولا يستطاع؛ لأنه إذا كان لا يريد بهم العسر فلأن لا يريد تكليف ما لا يطاق أولى.
ن. بطلان قولهم في خلق الأفعال؛ لأنه أثبت أن لهم فعلاً بتعسير وتيسير، وتدل على بطلان قولهم أيضًا قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ فبين أنه أراد من الجميع الإكمال، خلاف قول الْمُجْبِرَةِ.
س. يدل قوله تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أنه أراد من الجميع الشكر، وعندهم أراد الإهمال ممن فعله، والشكر ممن شكره، والكفر ممن كفره.
ع. أن المصالح قد تعلق بالمكان؛ والزمان لذلك أوجب صوم شهر رمضان.
ف. تدل على أن القرآن أنزل ليلة القدر، ومعلوم أنه لم ينزل في تلك الليلة على الرسول فلم يبق إلا ما بَيَّنَّاه، ولا يقال: إنه خبر عن الماضي؛ لأنه بمنزلة قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ يعني سينادي، ولا يمتنع أن يقول: يكون وقعة حنين، فإذا وقعت أنزل على الرسول: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾
ص. أن القرآن هدى ودلالة.
ق. أن القرآن يُفهَمُ معناه، فيبطل قول من يخالف فيه، وقال: لا يُعْرَفُ بظاهره، أو يُرجع إلى إمام؛ لأنه يخرجه من كونه هدى.
ر. وجوب صوم الشهر، ولا خلاف أن من شهد جميع الشهر وهو مكلف لزمه الصوم، واتفقوا أن الصبي إذا أدرك والكافر إذا أسلم يلزمه ما بقي، ولا يلزمه ما مضى، واختلفوا في المجنون إذا أفاق في بعض الشهر فعند أبي حنيفة يلزمه صوم الجميع، وقال الشافعي: لا يلزم إلا ما بقي، واختلفوا في الشهر فالفقهاء كلهم على أنه يعتبر رؤية الأهلة، أو يكون بالعدد ثلاثين يومًا، فأما الذي تزعمه الباطنية من الحساب وغيره، فذاك خلاف الإجماع، وما علم من دينه ضرورة، وكل من قال بذلك كَفَرَ، واختلفوا فيما يثبت به الرؤية ففي الصوم بشهادة رجل واحد، وفي الفطر بشهادة رجلين قال الشافعي: تثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين في جميع ذلك.. ومن شرائط الصوم: النية، ثم اختلفوا إذا أطلق النية أو نوى التطوع عند أبي حنيفة يكون صائمًا عن الفرض، وقال الشافعي: لا يكون صائمًا، اختلفوا، فقيل: وقتها من غروب الشمس إلى أن تزول الشمس من اليوم عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: حتى يطلع الفجر، وإن أفطر ناسيًا لا يلزمه القضاء، وعن مالك بن أنس يلزمه، وإن تعمد فعليه القضاء والكفارة، والكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا على الترتيب، وعن بعضهم على التخيير.
ش. الرخصة للمريض والمسافر.
ت. أنهما إذا لم يطيقا وخافا الضرر يجب الفطر.
ث. أن التكليف نعمة لذلك أَمَرَ بالشكر عليه.
29. قراءات وحجج:
أ. قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر: ﴿فِدْيَةٌ﴾ بغير تنوين: ﴿طَعَامِ﴾ بالكسر مضاف إليه: ﴿مَسَاكِينَ﴾ جمعًا، أضافوا الفدية إلى الطعام، وإن كان واحدًا لاختلاف اللغة، كقولهم: مسجد الجامع، وقرأ الباقون: ﴿فِدْيَةٌ﴾ منونة: ﴿طَعَامِ﴾ رفع: ﴿مِسْكِينٌ﴾ على الواحد مخفوض، فمن وحد فمعناه لكل يوم طعام مسكين، وَمَنَ جَمَعَ رَدَّهُ إلى الجميع.
ب. قرأ حمزة والكسائي: ﴿ يَطَّوعْ خَيرًا﴾ بالياء وتشديد الطاء وجزم العين، وقرأ الباقون بالتاء وفتح العين والتخفيف على الماضي، والأول على معنى يتطوع، فأدغم التاء في الطاء.
ج. المجمع عليه: ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ بضم الياء وكسر الطاء مخففة، وعن ابن عباس وعائشة: ﴿ يُطوَّقونه﴾ بضم الياء وفتح الواو وتشديده، وفيه وجهان: أحدهما يكلفونه، ولا يطيقونه لمشقة، الثاني: يلزمونه، وعن مجاهد وعكرمة ﴿ يَطَّوَّقُونه﴾ بفتح الياء الأول والثاني، وتشديد الطاء على معنى يتطوقونه، يقال: طاق، وأطاق، بمعنى، ولا يجوز القراءة بهذين؛ لأنه خلاف الشائع المستفيض.
د. قرأ ابن كثير وحده: ﴿الْقُرْآنُ﴾ بغير همز حيث كان، والباقون بالهمز، وهما لغتان.
هـ. قرأ أبو جعفر: ﴿الْيُسْرَ﴾ و﴿الْعُسْرِ﴾ بالتثقيل فيهما، والباقون بالتخفيف، والمعنى واحد.
و. قرأ أبو بكر عن عاصم: ﴿وَلِتُكْمِلُوا﴾ بتشديد الميم، والباقون بالتخفيف، قال أبو العباس: أكملت وكملت في المعنى سواء، والظاهر من القراءة: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ بضم الراء، وحكى أبو القاسم عن مجاهد بفتح الراء، وروي عن الحسن بسكون الراء، ولا تجوز القراءة بهما؛ لأنه خلاف النقل المستفيض.
30. مسائل نحوية:
أ. ﴿كَمَا﴾ نصب على المصدر كأنه قيل: فرض عليكم فرضًا، كالذي فرض على الَّذِينَ من قبلكم، وقيل: فصب على الحال من الصيام.
ب. في انتصاب ﴿أَيَّامًا﴾ أقوال: الأول: نصب على الظرف، كأنه قيل: الصيام في أيام.. الثاني: خبر ما لم يسم فاعله كقولهم: أعطي زيد مالاً.. الثالث: على التفسير.. الرابع: بإضمار، أي مصوموا أيامًا.
ج. رفع: ﴿عِدَّةٍ﴾ فقيل: بالابتداء كأنه قيل: فعليه عدة، ويجوز نصبها على تقدير فليعتد عدة.
د. في رفع: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ ثلاثة أو جه:
• الأول: أنه خبر ابتداء محذوف، يدل عليه قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا﴾ فكأنه قيل: متى هي؟ قال: شهر رمضان، عن الفراء والأخفش.
• الثاني: على ما لم يسم فاعله بدلاً من الصيام، كأنه قيل: كتب عليكم شهر رمضان، عن الكسائي.
• الثالث: الابتداء، وخبره: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾
هـ. في نصب ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ وجوه: قيل: صوموا شهر رمضان.. وقيل: بدلاً من أيام معدودات.. وقيل: نصب على الظرف، وهو قول الأخفش.. وقيل: على الإغراء، عن أبي عبيدة، كأنه قيل: عليكم شهر رمضان، كقوله: ناقَة الله.
و. في عطف ﴿وَلِتُكْمِلُوا﴾ وجهان: قيل: عطف على جملة؛ لأن بعده محذوفًا، كأنه قيل: ولتكملوا العدة شرع ذلك، عن الفراء.. وقيل: على تأويل محذوف دل عليه ما تقدم أن يسهل عليكم ولتكملوا العدة، عن الزجاج.
ز. ﴿هُدًى﴾ نصب على الحال، كأنه قيل: أنزل فيه القرآن هاديًا.
ح. عطف الظرف على الاسم في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ لأنه بمعنى الاسم، كأنه قيل: أو مسافرًا، ومثله: ﴿دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾ معنى مضطجعًا أو قائمًا.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/755.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الصوم في اللغة: الإمساك، ومنه يقال للصمت صوم، لأنه إمساك عن الكلام، قال ابن دريد: كل شئ سكنت حركته فقد صام صوما، وقال النابغة:
çخيل صيام، وخيل غير صائمة...تحت العجاج، وأخرى تملك اللجماé
أي: قيام، وصامت الريح أي: ركدت، وصامت الشمس: إذا استوت في منتصف النهار، وصام النهار أيضا بمقدار، قال امرؤ القيس:
çفدعها وسل الهم عنك بجسرة...ذمول إذا صام النهار، وهجراé
والصوم: ذرق النعام، وأصل الباب: الإمساك، وهو في الشرع: إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص، ممن هو على صفات مخصوصة، في زمان مخصوص، فالاسم شرعي، وفيه معنى اللغة، والصيام بمعنى الصوم، يقال صمت صوما وصياما
ب. السفر: أصله من السفر الذي هو الكشف، تقول: سفر يسفر سفرا، وانسفرت الإبل: إذا انكشفت ذاهبة، وسفرت الريح السحاب، قال العجاج: (سفر الشمال الزبرج المزبرجا) الزبرج: السحاب الرقيق، وفي السفر يظهر ما لا يظهر إلا به، وينكشف من أخلاق الناس ما لا ينكشف إلا به.
ج. العدة: فعلة من العد وهي بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون، والحمل بمعنى المحمول.
د. الطوق: الطاقة وهي القوة، يقال: طاق الشئ يطوقه طوقا وطاقة، وأطاق إطاقة: إذا قوي عليه، وطوقه تطويقا: ألبسه الطوق، وهو معروف من ذهب كان، أو من فضة، لأنه يكسبه قوة بما يعطيه من الجلالة، وكل شئ استدار فهو طوق، وطوقه الأمير أي: جعله كالطوق في عنقه.
هـ. الشهر: معروف وجمعه في القلة أشهر، وفي الكثرة شهور، وأصله من اشتهاره بالهلال، يقال: شهرت الحديث: أظهرته، وشهرت السيف: انتضيته،وأتان شهيرة: عريضة ضخمة، وأصل الباب: الظهور.
و. أصل رمضان من الرمض: وهو شدة وقع الشمس على الرمل وغيره، وإنما سموه رمضان:
• قيل: لأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق رمضان أيام رمض الحر، وقد جمعوا رمضان على رمضانات.
• وقيل: إن رمضان اسم من أسماء الله، فروي عن مجاهد: لا تقل رمضان، ولكن قل شهر رمضان، فإنك لا تدري ما رمضان،وقد جاء في الأخبار المروية عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه )
• وقيل: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي: يحرقها.
ز. القرآن: أصله الجمع، لقولهم: ما قرأت الناقة سلا قط أي: ما جمعت رحمها على سلا، ومنه القراءة والقارئ، لأنه يجمع الحروف.
ح. الفرقان: الذي يفرق بين الحق والباطل.
ط. الإرادة: أصلها الواو، لأنك تقول راودته على أن يفعل كذا مراودة، ومنه راد يرود رودا، فهو رائد، وفي المثل: ( الرائد لا يكذب أهله )، وأصل الباب: الطلب والإرادة بمعنى الطلب للمراد، لأنها كالسبب له.
ي. اليسر: ضد العسر، واليسار: الغنى والسعة، واليسار: اليد اليسرى،واليسر: الجماعة يجتمعون على الجزور في الميسر، والجمع الايسار، وأصل الباب: السهولة.
ك. أصل العسر: الصلابة، يقال: عسر الشئ عسرا، ورجل أعسر: يعمل بشماله، وأعسر الرجل: إذا افتقر وضده اليسر، ويقال: كمل الشئ وأكملته وكملته أي: تممته
2. ثم بين سبحانه فريضة أخرى، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: يا أيها المصدقون، وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: (لذة ما في الندا، أزال تعب العبادة والعنا)، وقال الحسن: (إذا سمعت الله، عز وجل، يقول ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فارع لها سمعك، فإنها لأمر تؤمر به، أو لنهي تنهى عنه)
3. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ أي: فرض عليكم العبادة المعروفة في الشرع، وإنما خص المؤمنين بالخطاب، لقبولهم لذلك، ولأن العبادة لا تصح إلا منهم، ووجوبه عليهم لا ينافي وجوبه على غيرهم.
4. في قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أقوال:
أ. أحدها: إنه شبه فرض صومنا بفرض صوم من تقدمنا من الأمم أي: كتب عليكم صيام أيام، كما كتب عليهم صيام أيام، وليس فيه تشبيه عدد الصوم المفروض علينا، ولا وقته بعدد الصوم المفروض عليهم أو وقته، وهو اختيار أبي مسلم والجبائي.
ب. ثانيها: إنه فرض علينا صوم شهر رمضان، كما كان فرض صوم شهر رمضان على النصارى، وكان يتفق ذلك في الحر الشديد، والبرد الشديد، فحولوه إلى الربيع، وزادوا في عدده، عن الشعبي والحسن، وقيل: كان الصوم علينا من العتمة إلى العتمة، ثم اختلف فيه، فقال بعضهم: كان يحرم الطعام والشراب من وقت صلاة العتمة إلى وقت صلاة العتمة، وقال بعضهم: كان يحرم من وقت النوم إلى وقت النوم، ثم نسخ ذلك.
5. المراد بقوله ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ النصارى، على قول الحسن والشعبي، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى على قول غيرهما.
6. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾:
أ. قيل: أي: لكي تتقوا المعاصي بفعل الصوم، عن الجبائي.
ب. وقيل: لتكونوا أتقياء بما لطف لكم في الصيام، فإنه أقوى الوسائل، والوصل إلى الكف عن المعاصي، كما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: ( خصاء أمتي الصوم )، وسأل هشام بن الحكم أبا عبد الله عليه السلام عن علة الصيام، فقال: (إنما فرض الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير، فأراد الله سبحانه أن يذيق الغني مس الجوع ليرق على الضعيف، ويرحم الجائع)
7. قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أي معلومات محصورات مضبوطات، كما يقال أعطيت مالا معدودا أي: محصورا متعينا.
ب. ويجوز أن يريد بقوله ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾ أنها قلائل، كما قال سبحانه: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ يريد أنها قليلة.
8. اختلف في هذه الأيام على قولين:
أ. أحدهما: أنها غير شهر رمضان، وكان ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ، عن معاذ وعطا وعن ابن عباس، وروي ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم عاشورا، عن قتادة، ثم قيل: إنه كان تطوعا، وقيل: بل كان واجبا، واتفق هؤلاء على أن ذلك منسوخ بصوم شهر رمضان.
ب. والآخر: إن المعني بالمعدودات شهر رمضان، عن ابن عباس والحسن، واختاره الجبائي، وأبو مسلم، وعليه أكثر المفسرين قالوا: أوجب سبحانه الصوم أولا فأجمله، ولم يبين أنها يوم أو يومان أم أكثر، ثم بين أنها أيام معلومات، وأبهم ثم بينه بقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ قال القاضي: وهذا أولى، لأنه إذا أمكن حمله على معنى من غير إثبات نسخ، كان أولى، ولأن ما قالوه زيادة لا دليل عليه.
9. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ عطف قوله ﴿عَلَى سَفَرٍ﴾ وهو ظرف، على قوله ﴿مَرِيضًا﴾ وهو اسم، مع أن الظرف لا يعطف على الاسم، لأنه وإن كان ظرفا، فهو بمعنى الاسم، وتقديره: فمن كان منكم مريضا، أو مسافرا، فالذي ينوب مناب صومه عدة من أيام أخر، وفيه دلالة على أن المسافر والمريض، يجب عليهما الإفطار، لأنه سبحانه أوجب القضاء بنفس السفر والمرض، ومن قدر في الآية فأفطر، فقد خالف الظاهر، وقد ذهب إلى وجوب الإفطار في السفر جماعة من الصحابة كعمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وعروة بن الزبير، وهو المروي عن أئمتنا، فقد روي أن عمر أمر رجلا صام في السفر أن يعيد صومه، وروى يوسف بن الحكم قال: سالت ابن عمر عن الصوم في السفر فقال: أرأيت لو تصدقت على رجل صدقة فردها عليك ألا تغضب، فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم، وروى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله: ( الصائم في السفر كالمفطر في الحضر )، وروي عن ابن عباس أنه قال: الإفطار في السفر عزيمة، وروى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: الصائم في شهر رمضان في السفر كالمفطر فيه في الحضر، وعنه عليه السلام قال: لو أن رجلا مات صائما في السفر لما صليت عليه، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من سافر أفطر وقصر إلا أن يكون رجلا سفره إلى صيد، أو في معصية الله)، وروى العياشي بإسناده مرفوعا إلى محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله قال: لم يكن رسول الله يصوم في السفر تطوعا، ولا فريضة حتى نزلت هذه الآية بكراع الغميم، عند صلاة الهجير، فدعا رسول الله بإناء فيه ماء، فشرب وأمر الناس أن يفطروا، فقال قوم: قد توجه النهار، ولو تممنا يومنا هذا! فسماهم رسول الله العصاة، فلم يزالوا يسمون بذلك الاسم حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
10. اختلف في الهاء في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾:
أ. قيل: الهاء: يعود إلى الصوم عند أكثر أهل العلم أي: يطيقون الصوم، خير الله المطيقين الصوم من الناس كلهم بين أن يصوموا ولا يكفروا، وبين أن يفطروا ويكفروا عن كل يوم بإطعام مسكين، لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم، ثم نسخ ذلك بقوله ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾
ب. وقيل: إن الهاء يعود إلى الفداء، عن الحسن وأبي مسلم.
11. اختلف في المعني بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. أولها: إنه سائر الناس كما قدمنا ذكره من التخيير والنسخ بعده، وهو قول ابن عباس والشعبي.
ب. ثانيها: إن هذه الرخصة كانت للحوامل والمراضع والشيخ الفاني، ثم نسخ من الآية الحامل والمرضع، وبقي الشيخ الكبير، عن الحسن وعطاء.
ج. ثالثها: إن معناه وعلى الذين كانوا يطيقونه، ثم صاروا بحيث لا يطيقونه، ولا نسخ فيه، عن السدي، وقد رواه بعض أصحابنا عن أبي عبد الله أن معناه (وعلى الذين كانوا يطيقون الصوم، ثم أصابهم كبر أو عطاش وشبه ذلك، فعليهم كل يوم مد)، وروى علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق عليه السلام (وعلى الذين يطيقونه فدية من مرض في شهر رمضان، فأفطر، ثم صح فلم يقض ما فاته حتى جاء شهر رمضان آخر، فعليه أن يقضي، ويتصدق لكل يوم مدا من طعام)
12. اختلف في مقدار الفدية في قوله تعالى: ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾:
أ. قال أهل العراق: نصف صاع عن كل يوم.
ب. وقال الشافعي: عن كل يوم مد.
ج. وعندنا(2). إن كان قادرا فمدان، فإن لم يقدر أجزأه مد واحد.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾:
أ. قيل: معناه من أطعم أكثر من مسكين واحد، عن عطا وطاوس.
ب. وقيل: أطعم المسكين الواحد أكثر من قدر الكفاية، حتى يزيده على نصف صاع، عن مجاهد، ويجمع بين القولين قول ابن عباس: من تطوع بزيادة الإطعام.
ج. وقيل: معناه من عمل برا في جميع الدين فهو خير له، عن الحسن.
د. وقيل: من صام مع الفدية، عن الزهري،وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أي: وصومكم خير لكم من الافطار والفدية، وكان هذا مع جواز الفدية، فأما بعد النسخ فلا يجوز أن يقال الصوم خير من الفدية، مع أن الإفطار لا يجوز أصلا.
هـ. وقيل: معناه الصوم خير لمطيقه، وأفضل ثوابا من التكفير لمن أفطر بالعجز.
14. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾:
أ. قيل: أي الصوم خير لكم من الفدية.
ب. وقيل: إن كنتم تعلمون أفضل أعمالكم.
15. في قوله سبحانه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ دلالة على أن الاستطاعة قبل الفعل.
16. ثم بين سبحانه وقت الصوم فقال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ أي هذه الأيام المعدودات شهر رمضان، أو كتب عليكم شهر رمضان، أو شهر رمضان هو الشهر ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ فبين أنه خصه بالصوم فيه لاختصاصه بالفضائل المذكورة، وهو أنه أنزل فيه القرآن الذي عليه مدار الدين والأيمان.
17. اختلف في قوله تعالى: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾:
أ. قيل: إن الله أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد ذلك نجوما في طول عشرين سنة، عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن وقتادة، وهو المروي عن أبي عبد الله.
ب. وقيل: إن الله تعالى ابتدأ إنزاله في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السنة جملة واحدة، ثم ينزل على مواقع النجوم إرسالا في الشهور والأيام، عن السدي، يسنده إلى ابن عباس، وروى الثعلبي بإسناده عن أبي ذر الغفاري، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: أنزلت صحف إبراهيم لثلاث مضين من شهر رمضان، وفي رواية الواحدي: في أول ليلة منه، وأنزلت توراة موسى لست مضين من شهر رمضان، وأنزل إنجيل عيسى لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل زبور داود لثمان عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل الفرقان على محمد لأربع وعشرين من شهر رمضان، وهذا بعينه رواه العياشي عن أبي عبد الله، عن آبائه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. وقيل: المراد بقوله ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ أنه أنزل في فرضه وإيجاب صومه على الخلق القرآن، فيكون فيه بمعنى في فرضه، كما يقول القائل: أنزل الله في الزكاة كذا، يريد: في فرضها.
18. ثم وصف سبحانه القرآن بقوله: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾:
أ. قيل: أي: هاديا للناس، ودالا على ما كلفوه من العلوم ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾ أي: ودلالات من الهدى.
ب. وقيل المراد بالهدى الأول: الهدى من الضلالة، وبالثاني: بيان الحلال والحرام، عن ابن عباس.
ج. وقيل: أراد بالأول ما كلف من العلم، وبالثاني ما يشتمل عليه من ذكر الأنبياء وشرائعهم وأخبارهم، لأنها لا تدرك إلا بالقرآن، عن الأصم والقاضي.
19. ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾ أي: ومما يفرق بين الحق والباطل، وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به)، وروى الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن أبي الورد، عن أبي جعفر قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس في آخر جمعة من شعبان، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس! إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر وهو شهر رمضان، فرض الله صيامه، وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة، كمن تطوع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور، وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر، كأجر من أدى فريضة من فرائض الله فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة من فرائض الله، كان كمن أدى سبعين فريضة من فرائض فيما سواه من الشهور وهو شهر الصبر وإن الصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة، وهو شهر يزيد الله فيه من رزق المؤمنين،ومن فطر فيه مؤمنا صائما، كان له بذلك عند الله عتق رقبة، ومغفرة لذنوبه فيما مضى)، فقيل له: يا رسول الله! ليس كلنا نقدر على أن نفطر صائما؟ قال: فإن الله كريم يعطي هذا الثواب من لم يقدر منكم إلا على مذقة من لبن، يفطر بها صائما، أو شربة من ماء عذب، أو تميرات لا يقدر على أكثر من ذلك، ومن خفف فيه عن مملوكه، خفف الله عليه حسابه، وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره إجابة والعتق من النار،ولا غنى بكم فيه عن أربع خصال، خصلتين ترضون الله بهما، وخصلتين لا غنى بكم عنهما: فأما اللتان ترضون الله بهما فشهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله فيه حوائجكم والجنة، وتسألون الله فيه العافية، وتتعوذون به من النار، وفي رواية سلمان الفارسي فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتان ترضون بهما ربكم، وخصلتان لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون ربكم بهما، فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتتعوذون به من النار وقال رسول الله: نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف.
20. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: فمن شهد منكم المصر، وحضر ولم يغب في الشهر، والألف واللام في الشهر للعهد، والمراد به شهر رمضان، فليصم جميعه، وهذا معنى ما رواه زرارة عن أبي جعفر أنه قال لما سئل عن هذه: ما أبينها لمن عقلها، قال: من شهد شهر رمضان فليصمه، ومن سافر فيه فليفطر، وقد روي أيضا عن علي وابن عباس ومجاهد، وجماعة من المفسرين أنهم قالوا: من شهد الشهر بأن دخل عليه الشهر وهو حاضر، فعليه أن يصوم الشهر كله.
ب. الثاني: من شاهد منكم الشهر مقيما مكلفا، فليصم الشهر بعينه،وهذا نسخ للتخيير بين الصوم والفدية، وإن كان موصولا به في التلاوة، لأن الانفصال لا يعتبر عند التلاوة، بل عند الإنزال والأول أقوى.
21. ﴿ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر﴾، حد المرض الذي يوجب الإفطار:
أ. ما يخاف الانسان معه الزيادة المفرطة في مرضه، وروى أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله عن حد المرض الذي على صاحبه فيه الإفطار؟ قال: هو مؤتمن عليه، مفوض إليه، فإن وجد ضعفا فليفطر، وإن وجد قوة فليصم، كان المرض على ما كان،
ب. وروي أيضا: أن ذلك كل مرض لا يقدر معه على القيام بمقدار زمان صلاته، وبه قال الحسن، وفي ذلك اختلاف بين الفقهاء.
22. أما السفر الذي يوجب الإفطار عندنا فما كان مباحا، أو طاعة وكانت المسافة ثمانية فراسخ: أربعة وعشرين ميلا، وعند الشافعي ستة عشر فرسخا، وعند أبي حنيفة أربعة وعشرين فرسخا.
23. اختلف في العدة من الأيام الأخر:
أ. قال الحسن وجماعة: هي على التضييق إذا برئ المريض، أو قدم المسافر.
ب. وقال أبو حنيفة: موسع فيها.
ج. وعندنا موقت بما بين رمضانين، وتجوز متتابعة ومتفرقة، والتتابع أفضل، فإن فرط حتى لحقه رمضان آخر لزمه الفدية والقضاء، وبه قال الشافعي
24. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾:
أ. قيل: أي: في الرخصة للمريض والمسافر، إذ لم يوجب الصوم عليهما.
ب. وقيل: يريد الله بكم اليسر في جميع أموركم.
25. ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ أي: التضييق عليكم، وفيه دلالة على بطلان قول المجبرة، لأنه بين أن في أفعال المكلفين ما يريده سبحانه، وهو اليسر، وفيها ما لا يريده، وهو العسر، ولأنه إذا كان لا يريد بهم العسر، فأن لا يريد تكليف ما لا يطاق أولى.
26. قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. تقديره: يريد الله لأن يسهل عليكم، ولأن تكملوا أي: تتموا عدة ما أفطرتم فيه، وهي أيام السفر والمرض بالقضاء، إذا أقمتم وبرأتم، فتصوموا للقضاء بعدد أيام الإفطار.
ب. وعلى القول الأخر: فتقديره ولاكمال العدة شرع الرخصة في الإفطار.
ج. ويحتمل أن يكون معناه: ولتكملوا عدة الشهر، لأنه مع الطاقة وعدم العذر يسهل عليه إكمال العدة، والمريض والمسافر يتعسر عليهما ذلك، فيكملان العدة في وقت آخر.
27. من قال: إن شهر رمضان لا ينقص أبدا، استدل بقوله: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾، وقال: بين تعالى أن عدة شهر رمضان محصورة، يجب صيامها على الكمال، ولا يدخلها نقصان ولا اختلال، والجواب عنه من وجهين:
أ. أحدهما: إن المراد ﴿أكملوا العدة﴾ التي وجب عليكم صيامها، وقد يجوز أن يكون هذه العدة تارة ثلاثين، وتارة تسعة وعشرين.
ب. والآخر: ما ذكرناه من أن المراد راجع إلى القضاء، ويؤيده أنه سبحانه ذكره عقيب ذكر السفر والمرض.
28. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾:
أ. قيل: المراد به تكبير ليلة الفطر، عقيب أربعة صلوات: المغرب والعشاء الآخرة والغداة وصلاة العيد على مذهبنا.
ب. وقال ابن عباس وجماعة: التكبير يوم الفطر.
ج. وقيل: المراد به ولتعظموا الله على ما أرشدكم له من شرائع الدين.
29. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي: لتشكروا الله على نعمه.
30. قراءات وحجج:
أ. قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر: (فدية طعام مساكين) على إضافة فدية إلى طعام وجمع المساكين، وقرأ الباقون: ﴿فِدْيَةٌ﴾ منونة، ﴿طَعَامِ﴾ رفع، مسكين موحد مجرورا.
ب. قرأ حمزة والكسائي: (ومن يطوع خيرا)، والباقون: ﴿تَطَوَّعَ﴾ وقد مضى ذكره، وروي في الشواذ: (يطوقونه) عن ابن عباس بخلاف وعائشة، وسعيد بن المسيب وعكرمة وعطا: (يطوقونه) على معنى يتطوقونه، عن مجاهد وعن ابن عباس وعن عكرمة، وروي عن ابن عباس أيضا: يتطيقونه، ويطيقونه أيضا.
ج. من قرأ ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾: فطعام مسكين عطف بيان لفدية، وإفراد مسكين جائز، وإن كان المعنى على الكثرة، لأن المعنى على كل واحد طعام مسكين، قال أبو زيد: يقال أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة، وأعطانا كلنا مائة، وأما من أضاف الفدية إلى طعام كإضافة البعض إلى ما هو بعض له، فإنه سمى الطعام الذي يفدى به فدية، ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية وغيرها، وهو على هذا من باب خاتم حديد.
د. من قرأ يطوقونه فإنه يفعلونه من الطاقة، فهو كقوله: يجشمونه ويكلفونه، ويجعل لهم كالطوق في أعناقهم، ويطوقونه، كقولك: يتكلفونه ويتجشمونه، وأما من قرأ يطيقونه: فإنه يتطيقونه يتفعلونه، إلا أن العينين أبدلتا ياء، كما قالوا في تصور الجرف: تهير، ويطيقونه يفعلونه منه.
هـ. قرأ أبو بكر عن عاصم: ﴿وَلِتُكْمِلُوا﴾ بالتشديد، والباقون: (لتكملوا) بالتخفيف، وقرأ أبو جعفر: العسر، واليسر بالتثقيل فيهما، والباقون بالتخفيف، وحجة من قرأ ﴿وَلِتُكْمِلُوا﴾ قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، ومن قرأ ولتكملوا فلأن فعل وأفعل كثيرا ما يستعمل أحدهما موضع الآخر، قال النابغة:
çفكملت مائة منها حمامتها،...وأسرعت حسبة في ذلك العددé
31. مسائل نحوية:
أ. ﴿الصِّيَامِ﴾: رفع بما لم يسم فاعله.
ب. ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ أي: مثل ما كتب، فما هذه: مصدرية، وتقدير الكلام: كتب عليكم الصيام كتابة مثل كتابته على الذين من قبلكم، فحذف المصدر، وأقيم صفته مقامه، ويحتمل أن يكون موضع الكاف نصبا على الحال من الصيام، وتقديره كتب عليكم الصيام مفروضا أي: في هذه الحال.
ج. ﴿أَيَّامًا﴾:
• قال الزجاج: يجوز في انتصابه وجهان: أحدهما: أن يكون ظرفا كأنه كتب عليكم الصيام في أيام، والعامل فيه الصيام، كأن المعنى كتب عليكم أن تصوموا أياما.. وقال بعض النحويين: إنه مفعول ما لم يسم فاعله، نحو قولك: أعطي زيد المال، قال: وليس هذا بشئ، لأن الأيام هاهنا متعلقة بالصوم، وزيد والمال مفعولان لأعطي، ذلك أن تقيم أيهما شئت مقام الفاعل، وليس في هذا إلا نصب أيام بالصيام.
• وقال أبو علي: ﴿أَيَّامًا﴾ يجوز في انتصابه وجهان أحدهما: أن ينتصب على الظرف، والآخر: أن ينتصب انتصاب المفعول به على السعة، فإذا انتصب على أنه ظرف جاز أن يكون العامل فيه كتب، فيكون التقدير كتب عليكم الصيام في أيام، وإن شئت اتسعت فنصبته نصب المفعول به فتقول على هذا يا مكتوب أيام عليه، أو يا كاتب أيام الصيام، وإنما جاز إضافة اسم الفاعل أو المفعول إلى أيام لاخراجك إياه عن أن يكون ظرفا، واتساعك في تقديره اسما، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه كان ما منعه أبو إسحاق من إجازة من أجاز أن كتب عليكم الصيام أياما، بمنزلة أعطي زيد المال، جائز غير ممتنع، قال: ولا يستقيم أن ينتصب أياما بالصيام على أن يكون المعنى كتب عليكم الصيام في أيام، لأن ذلك وإن كان مستقيما في المعنى، فهو في اللفظ ليس كذلك، ألا ترى أنك إذا حملته على ذلك، فصلت بين الصلة والموصول بأجنبي منهما، وذلك أن ﴿أَيَّامًا﴾ تصير من صلة الصيام، وقد فصلت بينهما بمصدر ﴿كُتِبَ﴾ لأن التقدير كتب عليكم الصيام كتابة مثل كتابته على من كان قبلكم، فالكاف في ﴿كَمَا﴾ متعلقة بكتب، وقد فصلت بها بين المصدر وصلته، وليس من واحد منهما.
• أقول: إنه يستقيم أن ينتصب أياما بالصيام إذا جعلت الكاف من قوله ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ في موضع نصب على الحال أي: مفروضا مثل ما فرض عليهم، فيكون ﴿مَا﴾ موصولا، و﴿كُتِبَ﴾ صلته، وفي ﴿كُتِبَ﴾ ضمير يعود إلى ﴿مَا﴾ والموصول وصلته في موضع جر بإضافة الكاف إليه، والكاف [2] موضع النصب بأنه صفة للمحذوف الذي هو الحال من الصيام، فعلى هذا لم يفصل بين الصلة والموصول ما هو أجنبي منهما على ما ذكره الشيخ أبو علي.
د. ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ تقديره فعليه عدة، فيكون ارتفاع عدة على الابتداء على قول سيبويه، وعلى قول الأخفش يكون مرتفعا بالظرف على ما تقدم بيانه، ويجوز أن يكون تقديره فالذي ينوب عن صومه في وقت الصوم عدة من أيام أخر، فيكون ﴿عِدَّةٍ﴾ خبر الابتداء، و ﴿أُخَرَ﴾ لا ينصرف لأنه وصف معدول عن الألف واللام، لأن نظائرها من الصغر والكبر لا يستعمل إلا بالألف واللام لا يجوز نسوة صغر، ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾: في موضع رفع بالابتداء، و ﴿خَيْرُ﴾ خبر له، و ﴿لَكُمْ﴾ صفة الخبر.
هـ. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾:
• في ارتفاعه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف يدل عليه قوله ﴿أَيَّامًا﴾ أي: هي شهر رمضان.. والثاني: أن يكون بدلا من الصيام، فكأنه قال: كتب عليكم شهر رمضان.. الثالث: أن يرتفع بالابتداء ويكون خبره ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وإن شئت جعلت ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ صفة له، وأضمرت الخبر حتى كأنه قال: وفيما كتب عليكم شهر رمضان أي: صيام شهر رمضان، ولا ينصرف رمضان للتعريف وزيادة الألف والنون المضارعتين لألفي التأنيث.
• ويجوز في العربية شهر رمضان بالنصب من وجهين أحدهما: صوموا شهر رمضان، والآخر: على البدل من قوله ﴿أَيَّامًا﴾
و. ﴿هُدًى﴾: في موضع النصب على الحال أي: هاديا للناس.
ز. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ فالشهر ينتصب على أنه ظرف، لا على أنه مفعول به، لأنه لو كان مفعولا به للزم الصيام المسافر كما يلزم المقيم، من حيث إن المسافر يشهد الشهر شهادة المقيم، فلما لم يلزم المسافر، علمنا أن معناه: فمن شهد منكم المصر في الشهر، ولا يكون مفعولا به كما لو قلت: أحييت شهر رمضان، يكون مفعولا به.
ح. جاء ضميره متصلا في قوله ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ إذا لم يكن مفعولا به لأن الاتساع وقع فيه بعد أن استعمل ظرفا على ما تقدم بيان أمثاله.
ط. إنما عطف الظرف على الاسم في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ لأنه بمعنى الاسم، فكأنه قال: أو مسافرا، كقوله سبحانه: ﴿دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾ أي: دعانا مضطجعا.
ي. أما العطف باللام في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ ففيه وجهان: أحدهما أنه عطف جملة على جملة، لأن بعده محذوفا، وتقديره ولتكملوا العدة شرع ذلك، أو أريد ذلك، ومثله قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ أي: وليكون من الموقنين أريناه ذلك والثاني: أن يكون عطفا على تأويل محذوف، ودل عليه ما تقدم من الكلام، لأنه لما قال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ دل على أنه قد فعل ذلك ليسهل عليكم، فجاز، ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ عطفا عليه، قال الشاعر:
çبادت وغير آيهن مع البلى...إلا رواكد جمرهن هباء
ومشجج أما سواء قذاله...فبدا، وغيب ساره المعزاءé
أي: سائره، فعطف على تأويل الكلام، كأنه قال بها رواكد ومشجج، هذا قول الزجاج، والأول قول الفراء.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/490.
(2) يقصد الإمامية.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الصّيام في اللغة: الإمساك في الجملة، يقال: صامت الخيل: إذا أمسكت عن السّير، وصامت الرّيح: إذا أمسكت عن الهبوب، والصّوم في الشّرع: عبارة عن الإمساك عن الطّعام والشّراب والجماع مع انضمام النّيّة إليه.
2. في الذين من قبلنا ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم أهل الكتاب، رواه عطاء الخراسانيّ عن ابن عباس، وهو قول مجاهد.
ب. الثاني: أنهم النّصارى، قاله الشّعبيّ، والرّبيع.
ج. الثالث: أنهم جميع أهل الملل، ذكره أبو صالح عن ابن عباس.
3. في موضع التّشبيه في كاف ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن التّشبيه في حكم الصّوم وصفته، لا في عدده، قال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحلّ له أن يطعم إلى القابلة، والنّساء عليهم حرام ليلة الصّيام، وهو عليهم ثابت، وقد أرخص لكم، فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾، فإنها بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين.
ب. الثاني: أن التّشبيه في عدد الأيّام، ثمّ في ذلك قولان:
• أحدهما: أنه فرض على هذه الأمّة صوم ثلاثة أيام من كلّ شهر، وقد كان ذلك فرضا على من قبلهم، قال عطيّة عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، قال كان ثلاثة أيام من كلّ شهر، ثم نسخ برمضان، وقال معمر عن قتادة: كان الله قد كتب على الناس قبل رمضان ثلاثة أيام من كل شهر، فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾
• الثاني: أنه فرض على من قبلنا صوم رمضان بعينه، قال ابن عبّاس: فقدّم النّصارى يوما ثم يوما، وأخّروا يوما، ثمّ قالوا: نقدّم عشرا ونؤخّر عشرا، وقال السّدّيّ عن أشياخه: اشتدّ على النّصارى صوم رمضان، فجعل يتقلّب عليهم في الشتاء والصّيف، فلمّا رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياما في الفصل بين الشتاء والصّيف، وقالوا: نزيد عشرين يوما نكفّر بها ما صنعنا، فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة.
4. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، لأنّ الصّيام وصلة إلى التّقى، إذ هو يكفّ النّفس عن كثير ممّا تتطلّع إليه من المعاصي، وقيل: لعلّكم تتّقون محظورات الصّوم.
5. ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، قال الزجّاج: نصب (أياما) على الظّرف، كأنّه قال كتب عليكم الصيام في هذه الأيام، والعامل فيه (الصّيام)، كأنّ المعنى: كتب عليكم أن تصوموا أياما معدودات، وفي هذه الأيام ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنها ثلاثة أيام من كلّ شهر.
ب. الثاني: أنها ثلاثة أيام من كلّ شهر ويوم عاشوراء.
ج. الثالث: أنها شهر رمضان، وهو الأصحّ، وتكون الآية محكمة في هذا القول، وفي القولين قبله تكون منسوخة.
6. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ﴾، فيه إضمار: فأفطر، وليس المرض والسّفر على الإطلاق، فإنّ المريض إذا لم يضرّ به الصّوم؛ لم يجز له الإفطار، وإنّما الرخصة موقوفة على زيادة المرض بالصّوم، واتّفق العلماء أنّ السفر مقدّر، واختلفوا في تقديره، فقال أحمد، ومالك، والشّافعيّ: أقلّه مسيرة ستة عشر فرسخا: يومان، وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقلّه مسيرة ثلاثة أيام، مسيرة أربعة وعشرين فرسخا، وقال الأوزاعيّ: أقلّه مرحلة يوم، مسيرة ثمانية فراسخ، وقيل: إنّ السّفر مشتقّ من السّفر الذي هو الكشف، يقال: سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصّبح: إذا أضاء، فسمّي الخروج إلى المكان البعيد: سفرا، لأنّه يكشف عن أخلاق المسافر.
7. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾:
أ. نقل عن ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، وعلقمة، والزّهريّ في آخرين في هذه الآية أنهم قالوا: كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى، يطعم عن كل يوم مسكينا، حتى نزلت: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، فعلى هذا يكون معنى الكلام: وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية، ثم نسخت.
ب. وروي عن عكرمة أنّه قال نزلت في الحامل والمرضع.
ج. وقرأ أبو بكر، وابن عباس: (وعلى الذين يطوّقونه) بضمّ الياء وفتح الطاء وتشديد الواو، قال ابن عباس: هو الشّيخ والشّيخة.
8. ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة والكسائيّ (فدية) منون ﴿طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾ موحّد، وقرأ نافع، وابن عامر: (فدية) بغير تنوين (طعام) بالخفض (مساكين) بالجمع، وقال أبو عليّ: معنى القراءة الأولى: على كلّ واحد طعام مساكين، ومثله: ﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ﴾، أي: اجلدوا كلّ واحد ثمانين، قال أبو زيد: أتينا الأمير فكسانا كلّنا حلّة، وأعطانا كلّنا مائة، أي: فعل ذلك بكلّ واحد منّا، قال فأمّا من أضاف الفدية إلى الطعام، فكإضافة البعض إلى ما هو بعض له، وذلك أنه سمّى الطعام الذي يفدي به فدية، ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعمّ الفدية وغيرها، فهو على هذا من باب: خاتم حديد.
9. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾، ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن معناه: من أطعم مسكينين، قاله ابن عباس، ومجاهد.
ب. الثاني: أن التّطوّع إطعام مساكين، قاله طاووس.
ج. الثالث: أنه زيادة المساكين على قوته، وهو مرويّ عن مجاهد، وفعله أنس بن مالك لمّا كبر.
10. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ عائد إلى من تقدّم ذكره من الأصحّاء المقيمين المخيّرين بين الصّوم والإطعام على ما حكينا في أوّل الآية عن السّلف، ولم يرجع ذلك إلى المرضى والمسافرين، والحامل والمرضع، إذ الفطر في حقّ هؤلاء أفضل من الصّوم، وقد نهوا عن تعريض أنفسهم للتّلف، وهذا يقوّي قول القائلين بنسخ الآية.
11. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾، قال الأخفش: شهر رمضان بالرّفع على تفسير الأيام، كأنّه لمّا قال ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ فسّرها فقال: هي شهر رمضان، قال أبو عبيد: وقرأ مجاهد: (شهر رمضان) بالنّصب، وأراه نصبه على معنى الإغراء: عليكم شهر رمضان فصوموه كقوله تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾، وممن قرأ بالنّصب معاوية والحسن وزيد بن عليّ وعكرمة ويحيى بن يعمر.
12. ﴿رَمَضَانَ﴾ قال ابن فارس: الرّمض: حرّ الحجارة من شدّة حرّ الشمس، ويقال: شهر رمضان، من شدّة الحرّ، لأنهم لما نقلوا أسماء الشّهور عن اللغة القديمة، سمّوها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشّهر أيام رمض الحرّ، ويجمع على رمضانات وأرمضاء وأرمضة.
13. في قوله تعالى: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه أنزل القرآن فيه جملة واحدة، وذلك في ليلة القدر إلى بيت العزّة من السماء الدنيا، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: أنّ معناه: أنزل القرآن بفرض صيامه، وروي عن مجاهد، والضّحاك.
ج. الثالث: أن معناه: إنّ القرآن ابتدئ بنزوله فيه على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قاله ابن إسحاق، وأبو سليمان الدّمشقيّ.
14. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، أي: من كان حاضرا غير مسافر.
15. سؤال وإشكال: ما الفائدة في إعادة المرض والسّفر في هذه الآية، وقد تقدّم ذلك؟ والجواب: لأنّ في الآية المتقدّمة منسوخا، فأعاده لئلّا يكون مقرونا بالمنسوخ.
16. اختلف في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾:
أ. قال ابن عباس، ومجاهد وقتادة والضّحّاك: اليسر: الإفطار في السّفر، والعسر: الصّوم فيه.
ب. وقال عمر بن عبد العزيز: أي ذلك كان أيسر عليك فافعل: الصّوم في السّفر، أو الفطر.
17. ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾، قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائيّ: (ولتكملوا) بإسكان الكاف خفيفة، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتشديد الميم، وذلك مثل: (وصّى) و(أوصى)
18. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾:
أ. قال ابن عباس: ولتكملوا عدة ما أفطرتم.
ب. وقال بعضهم: المراد به: لا تزيدوا على ما افترض، كما فعلت النّصارى، ولا تنقلوه عن زمانه كما نقلته.
19. ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾، قال ابن عباس: حقّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوّال، أن يكبّروا لله حتى يفرغوا من عيدهم.
20. سؤال وإشكال: ما وجه دخول الواو في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾، وليس هناك ما يعطف عليه؟ والجواب: أنّ هذه الواو عطفت اللام التي بعدها على لام محذوفة، والمعنى: ولا يريد بكم العسر، ليسعدكم، ولتكملوا العدّة، فحذفت اللام الأولى لوضوح معناها، ذكره ابن الأنباريّ.
__________
(1) زاد المسير: 1/141.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الصيام مصدر صام كالقيام، وأصله في اللغة الإمساك عن الشيء والترك له، ومنه قيل للصمت: صوم لأنه إمساك عن الكلام، قال الله تعالى: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ [مريم: 26] وصوم النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة قال امرؤ القيس:
çفدعها وسل الهم عنها بحسرة...ذمول إذا صام النهار وهجراé
وقال آخر: (حتى إذا صام النهار واعتدل)، وصامت الريح إذا ركدت، وصام الفرس إذا قام على غير اعتلاف وقال النابغة:
çخيل صيام وخيل غير صائمة...تحت العجاج وأخرى تعلك اللجماé
ويقال: بكرة صائمة إذا قامت فلم تدر قال الراجز: (والبكرات شرهن الصائمة)، ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار، وكذلك مصام النجم قال امرؤ القيس:
çكأن الثريا علقت في فصامها...بأمراس كتان إلى صم جندلé
هذا هو معنى الصوم في اللغة، وفي الشريعة هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات حال العلم بكونه صائما مع اقتران النية.
2. في التشبيه في قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، يعني هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم، ما أخلى الله أمة من إيجابها عليهم لا يفرضها عليكم وحدكم وفائدة هذا الكلام أن الصوم عبادة شاقة، والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله.
ب. الثاني: أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره، وهذا ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور فأما أن يقال: إنه يقتضي الإستواء في كل الأمور فلا.
3. القائلون بأن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره ذكروا وجوها:
أ. أحدها: أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى، أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر وصامت يوما من السنة، زعموا أنه يوم غرق فيه فرعون، وكذبوا في ذلك أيضا، لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أما النصارى فإنهم صاموا رمضان فصادفوا فيه الحر الشديد فحولوه إلى وقت لا يتغير، ثم قالوا عند التحويل نزيد فيه فزادوا عشرا، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فنذر سبعا فزادوه، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال: ما بال هذه الثلاثة فأتمه خمسين يوما، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾ [التوبة: 31] وهذا مروي عن الحسن.
ب. ثانيها: أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما، ولهذا كره صوم يوم الشك، وهو مروي عن الشعبي.
ج. ثالثها: أن وجه التشبيه أنه يحرم الطعام والشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك حراما على سائر الأمم واحتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة: 187] يفيد نسخ هذا الحكم، فهذا الحكم لا بد فيه من دليل يدل عليه ولا دليل عليه إلا هذا التشبيه، وهو قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ فوجب أن يكون هذا التشبيه دليلا على ثبوت هذا المعنى.
4. رد القائلون بأن التشبيه في قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ عائد إلى أصل إيجاب الصوم على ما ذكره المخالفون بأن تشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصا برمضان، وأن يكون صومهم مقدرا بثلاثين يوما، ثم إن هذه الرواية مما ينفر من قبول الإسلام إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك.
5. في موضع ﴿كَمَا﴾ ثلاثة أقوال.
أ. الأول: قال الزجاج موضع ﴿كَمَا﴾ نصب على المصدر لأن المعنى: فرض عليكم فرضا كالذي فرض على الذين من قبلكم.
ب. الثاني: قال ابن الأنباري يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من الصيام يراد بها: كتب عليكم الصيام مشبها وممثلا بما كتب على الذين من قبلكم.
ج. الثالث: قال أبو علي: هو صفة لمصدر محذوف تقديره: كتابة كما كتب عليهم، فحذف المصدر وأقيم نعته مقامه قال ومثله في الاتساع والحذف قولهم في صريح الطلاق: أنت واحدة، ويريدون أنت ذات تطليقة واحدة، فحذف المضاف والمضاف إليه وأقيم صفة المضاف مقام الاسم المضاف إليه.
6. في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وكيف يليق بهذا الموضع وجوه:
أ. أحدها: أنه سبحانه بين بهذا الكلام أن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش ويهون لذات الدنيا ورئاستها، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر: المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه، فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين وخفت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادعا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونا عليه أمر الرياسة في الدنيا وذلك جامع لأسباب التقوي فيكون معنى الآية فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم في كتابي، وأعلمت أن هذا الكتاب هدى لهم ولما اختص الصوم بهذه الخاصية حسن منه تعالى أن يقول عند إيجابها ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ منها بذلك على وجه وجوبه لأن ما يمنع النفس عن المعاصي لا بد وأن يكون واجبا.
ب. ثانيها: المعنى ينبغي لكم بالصوم أن يقوى وجاؤكم في التقوي وهذا معنى (لعل)
ج. ثالثها: المعنى: لعلكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات، فإن الشيء كلما كانت الرغبة فيه أكثر كان الاتقاء عنه أشق والرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في سائر الأشياء فإذا سهل عليكم اتقاء الله بترك المطعوم والمنكوح، كان اتقاء الله بترك سائر الأشياء أسهل وأخف.
د. رابعها: المراد ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ إهمالها وترك المحافظة عليها بسبب عظم درجاتها وأصالتها.
هـ. خامسها: لعلكم تنتظمون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين لأن الصوم شعارهم.
7. في انتصاب ﴿أَيَّامًا﴾ في قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ أقوال:
أ. الأول: نصب على الظرف، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام في أيام، ونظيره قولك: نويت الخروج يوم الجمعة.
ب. الثاني: وهو قول الفراء أنه خبر ما لم يسم فاعله، كقولهم: أعطى زيد مالا.
ج. الثالث: على التفسير.
د. الرابع: بإضمار أي فصوموا أياما.
8. اختلفوا في الأيام في قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ على قولين:
أ. الأول: أنها غير رمضان، وهو قول معاذ وقتادة وعطاء، ورواه عن ابن عباس.
ب. الثاني: وهو اختيار أكثر المحققين، كابن عباس والحسن وأبي مسلم أن المراد بهذه الأيام المعدودات: شهر رمضان قالوا، وتقريره أنه تعالى قال أولا: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183] وهذا محتمل ليوم ويومين وأيام ثم بينه بقوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ فزال بعض الاحتمال ثم بينه بقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185] فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النسخ فيه، لأن كل ذلك زيادة لا يدل اللفظ عليها فلا يجوز القول به.
9. اختلف القائلون بأن الأيام في قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ أنها غير رمضان:
• فقيل: ثلاثة أيام من كل شهر، عن عطاء.
• وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عاشوراء، عن قتادة
10. اتفق القائلون بأن الأيام في قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ أنها غير رمضان بأنه منسوخ بصوم رمضان، ثم اختلفوا:
• فقال بعضهم: إنه كان تطوعا ثم فرض.
• وقيل: بل كان واجبا.
11. احتج القائلون بأن المراد بهذه الأيام غير صوم رمضان بوجوه:
أ. الأول: ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن صوم رمضان نسخ كل صوم، فدل هذا على أن قبل وجوب رمضان كان صوما آخر واجبا.
ب. الثاني: أنه تعالى ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية، ثم ذكر حكمهما أيضا في الآية التي بعد هذه الآية الدالة على صوم رمضان، فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان، لكان ذلك تكريرا محضا من غير فائدة وأنه لا يجوز.
ج. الثالث: أن قوله تعالى في هذا الموضع: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ يدل على أن الصوم واجب على التخيير، يعني: إن شاء صام، وإن شاء أعطى الفدية، وأما صوم رمضان فإنه واجب على التعيين فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان.
12. أجاب القائلون بأن المراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان على ما ذكره المخالفون بأن:
أ. تمسكهم أولا بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن صوم رمضان نسخ كل صوم)، الجواب:
• أنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يكون المراد أنه نسخ كل صوم واجب في الشرائع المتقدمة، لأنه كما يصح أن يكون بعض شرعه ناسخا للبعض، فيصح أن يكون شرعه ناسخا لشرع غيره.
• سلمنا أن هذا الخبر يقتضي أن يكون صوم رمضان نسخ صوما ثبت في شرعه، ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخا لصيام وجب بغير هذه الآية فمن أين لنا أن المراد بهذه الآية غير شهر رمضان.
ب. أن هذه الأيام لو كانت هي شهر رمضان، لكان حكم المريض والمسافر مكررا، فالجواب: أن في الابتداء كان صوم شهر رمضان ليس بواجب معين، بل كان التخيير ثابتا بينه وبين الفدية، فلما كان كذلك ورخص للمسافر الفطر كان من الجائز أن يظن أن الواجب عليه الفدية دون القضاء، ويجوز أيضا أنه لا فدية عليه ولا قضاء لمكان المشقة التي يفارق بها المقيم، فلما لم يكن ذلك بعيدا بين تعالى أن إفطار المسافر والمريض في الحكم خلاف التخيير في حكم المقيم، فإنه يجب عليهما القضاء في عدة من أيام أخر، فلما نسخ الله تعالى ذلك عن المقيم الصحيح وألزمه بالصوم حتما، كان من الجائز أن يظن أن حكم الصوم لما انتقل عن التخيير إلى التضييق حكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم الصحيح من حيث تغير حكم الله في الصوم، فبين تعالى أن حال المريض والمسافر ثابت في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالها أولا، فهذا هو الفائدة في إعادة ذكر حكم المسافر والمريض، لا لأن الأيام المعدودات سوى شهر رمضان.
ج. أن قولهم صوم هذه الأيام واجب مخير، وصوم شهر رمضان واجب معين، جوابه ما ذكرنا من أن صوم شهر رمضان كان واجبا مخيرا، ثم صار معينا.
13. على كلا القولين لا بد من تطرق النسخ إلى هذه الآية، أما على القول الأول فظاهر، وأما على القول الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجبا مخيرا، والآية التي بعدها تدل على التعيين، فكانت الآية الثانية ناسخة لحكم هذه الآية، وفيه إشكال وهو أنه كيف يصح أن يكون قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185] ناسخا للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصح، وجوابه: أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول، وهذا كما قاله الفقهاء في عدة المتوفى عنها زوجها أن المقدم في التلاوة وهو الناسخ والمنسوخ متأخر وهذا ضد ما يجب أن يكون عليه حال الناسخ والمنسوخ فقالوا: إن ذلك في التلاوة أما في الإنزال فكان الاعتداد بالحول هو المتقدم، والآية الدالة على أربعة أشهر وعشر هي المتأخرة فصح كونها ناسخة، وكذلك نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدينة وذلك كثير.
14. في قوله تعالى: ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: مقدرات بعدد معلوم.
ب. ثانيهما: قلائل كقوله تعالى: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: 20] وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد ويحتاط في معرفة تقديره، وأما الكثير فإنه يصب صبا ويحثى والمقصود من هذا الكلام كأنه سبحانه يقول: إني رحمتكم وخففت عنكم حين لم أفرض عليكم صيام الدهر كله، ولا صيام أكثره، ولو شئت لفعلت ذلك، ولكني رحمتكم وما أوجبت الصوم عليكم إلا في أيام قليلة.
ج. وقال بعض المحققين: يجوز أن يكون قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ من صلة قوله: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183] وتكون المماثلة واقعة بين الفرضين من هذا الوجه، وهو تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان في الطول والقصر، ويكون المراد ما ذكرناه من تعريفه سبحانه إيانا أن فرض الصوم علينا وعلى من قبلنا ما كان إلا مدة قليلة لا تشتد مشقتها، فكان هذا بيانا لكونه تعالى رحيما بجميع الأمم، ومسهلا أمر التكاليف على كل الأمم.
15. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ المراد منه أن فرض الصوم في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المقيمين، فأما من كان مريضا أو مسافرا فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر قال القفال: انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف:
أ. وأنه تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة والغرض منه ما ذكرنا أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت.
ب. ثم ثانيا بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم، وهو أنه سبب لحصول التقوى، فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف.
ج. ثم ثالثا: بين أنه مختص بأيام معدودة، فإنه لو جعله أبدا أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة.
د. ثم بين رابعا: أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة.
هـ. ثم بين خامسا: إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون، فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيرا.
16. قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أُخَرَ﴾ فيه معنى الشرط والجزاء أي من يكن منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فليقض، وإذا قدرت فيه معنى الشرط كان المراد بقوله كان الاستقبال لا الماضي، كما تقول: من أتاني أتيته.
17. المرض عبارة عن عدم اختصاص جميع أعضاء الحي بالحالة المقتضية لصدور أفعاله سليمة سلامة تليق به، واختلفوا في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن أي مريض كان، وأي مسافر كان، فله أن يترخص تنزيلا للفظه المطلق على أقل أحواله، وهذا قول الحسن وابن سيرين، يروى أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل، فاعتل بوجع إصبعه.
ب. ثانيها: أن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد، وبالمسافر الذي يكون كذلك، وهذا قول الأصم، وحاصله تنزيل اللفظ المطلق على أكمل الأحوال.
ج. ثالثها: وهو قول أكثر الفقهاء: أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر النفس أو زيادة في العلة، إذ لا فرق في الفعل بين ما يخاف منه وبين ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحموم إذا خاف أنه لو صام تشتد حماه، وصاحب وجع العين يخاف إن صام أن يشتد وجع عينه، قالوا: وكيف يمكن أن يقال كل مرض مرخص مع علمنا أن في الأمراض ما ينقصه الصوم، فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته، ثم تأثيره في الأمر اليسير لا عبرة به، لأن ذلك قد يحصل فيمن ليس بمريض أيضا، فإذن يجب في تأثيره ما ذكرناه.
18. أصل السفر من الكشف، وذلك أنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم والمسفرة المكنسة، لأنها تسفر التراب عن الأرض، والسفير الداخل بين اثنين للصلح، لأنه يكشف المكروه الذي اتصل بهما، والمسفر المضيء، لأنه قد انكشف وظهر ومنه أسفر الصبح والسفر الكتاب، لأنه يكشف عن المعاني ببيانه، وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب، قال الأزهري: وسمي المسافر لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء، وسمي السفر سفرا لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، ويظهر ما كان خافيا منهم.
19. اختلف الفقهاء في قدر السفر المبيح للرخص:
أ. قال داوود: الرخص حاصلة في كل سفر ولو كان السفر فرسخا، وتمسك فيه بأن الحكم لما كان معلقا على كونه مسافرا، فحيث تحقق هذا المعنى حصل هذا الحكم أقصى ما في الباب أنه يروي خبر واحد في تخصيص هذا العموم، لكن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز.
ب. وقال الأوزاعي: السفر المبيح مسافة يوم: وذلك لأن أقل من هذا القدر قد يتفق للمقيم، وأما الأكثر فليس عدد أولى من عدد، فوجب الاقتصار على الواحد.
ج. ومذهب الشافعي أنه مقدر بستة عشر فرسخا، ولا يحسب منه مسافة الإياب، كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو الذي قدر أميال البادية، كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة، فإن كل ثلاث أقدام خطوة، وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق.
د. وقال أبو حنيفة والثوري: رخص السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل أربعة وعشرين فرسخا.
20. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بمسافة السفر ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
21. سؤال وإشكال: رعاية اللفظ تقتضي أن يقال فمن كان منكم مريضا أو مسافرا ولم يقل هكذا بل قال ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ والجواب: أن الفرق هو أن المرض صفة قائمة بالذات، فإن حصلت حصلت وإلا فلا، وأما السفر فليس كذلك لأن الإنسان إذا نزل في منزل فإن عدم الإقامة كان سكونه هناك إقامة لا سفرا وإن عدم السفر كان هو في ذلك الكون مسافرا فإذن كونه مسافرا أمر يتعلق بقصده واختياره، فقوله تعالى: ﴿عَلَى سَفَرٍ﴾ معناه كونه على قصد السفر والله أعلم بمراده.
22. العدة فعلة من العد، وهو بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون ومنه يقال للجماعة المعدودة من الناس عدة وعدة المرأة من هذا، وقال ﴿فَعِدَّةٌ﴾ على التنكير ولم يقل فعدتها أي فعدة الأيام المعدودات، لأن العدة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياما معدودة مكانها والظاهر أنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة.
23. ﴿فَعِدَّةٌ﴾ قرئت مرفوعة ومنصوبة، أما الرفع فعلى معنى فعليه صوم عدة فيكون هذا من باب حذف المضاف، وأما إضمار (عليه) فيدل عليه حرف الفاء، وأما النصب فعلى معنى: فليصم عدة.
24. اختلف في وجوب الفطر على المريض والمسافر:
أ. ذهب قوم من علماء الصحابة إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر، وهو قول ابن عباس وابن عمر، ونقل الخطابي في أعلام التنزيل عن ابن عمر أنّه قال لو صام في السفر قضى في الحضر، وهذا اختيار داوود بن علي الأصفهاني، واستدلوا بما يلي:
• أنا إن قرأنا ﴿فَعِدَّةٌ﴾ بالنصب كان التقدير: فليصم عدة من أيام أخر وهذا للإيجاب، ولو أنا قرأنا بالرفع كان التقدير: فعليه عدة من أيام، وكلمة (على) للوجوب فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إيجاب صوم أيام أخر، فوجب أن يكون فطر هذه الأيام واجبا ضرورة أنه لا قائل بالجمع.
• أنه تعالى أعاد فيما بعد ذلك هذه الآية، ثم قال عقيبها ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185] ولا بد وأن يكون هذا اليسر والعسر شيئا تقدم ذكرهما، وليس هناك يسر إلا أنه أذن للمريض والمسافر في الفطر، وليس هناك عسر إلا كونهما صائمين فكان قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ معناه يريد منكم الإفطار ولا يريد منكم الصوم.
• قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس من البر الصيام في السفر)، ولا يقال هذا الخبر وارد عن سبب خاص، وهو ما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم مر على رجل جالس تحت مظلة فسأل عنه فقيل هذا صائم أجهده العطش، فقال: (ليس من البر الصيام في السفر)، لأنا نقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
• قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر)
ب. وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام.
25. استدل القائلون بأن الإفطار رخصة إن شاء أفطر وإن شاء صام بما يلي:
أ. أن في الآية إضمارا لأن التقدير: فأفطر فعدة من أيام أخر وتمام تقرير هذا الكلام أن الإضمار في كلام الله جائز في الجملة وقد دل الدليل على وقوعه هاهنا أما بيان الجواز فكما في قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ﴾ [البقرة: 60] والتقدير فضرب فانفجرت وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رؤوسكم﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾ [البقرة: 196] أي فلحق فعليه فدية فثبت أن الإضمار جائز.
ب. أن الدليل دل على وقوعه، وفي تقريره وجوه:
• الأول: قال القفال: قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185] يدل على وجوب الصوم ولقائل أن يقول هذا ضعيف وبيانه من وجهين.
● الأول: أنا إذا أجرينا ظاهر قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185] على العموم لزمنا الإضمار في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وقد بينا في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص وبين الإضمار كان تحمل التخصيص أولى.
● الثاني: وهو أن ظاهر قوله تعالى: ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ يقتضي الوجوب عينا، ثم إن هذا الوجوب منتف في حق المريض والمسافر، فهذه الآية مخصوصة في حقهما على جميع التقديرات سواء أجرينا قوله تعالى فعليه: عدة ﴿مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ على ظاهره أو لم نفعل ذلك وإذا كان كذلك وجب إجراء هذه الآية على ظاهرها من غير إضمار.
• الثاني: ما ذكره الواحدي في كتاب البسيط، فقال: القضاء إنما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر، فلما أوجب الله القضاء والقضاء مسبوق بالفطر، دل على أنه لا بد من إضمار الإفطار وهذا في غاية السقوط لأن الله تعالى لم يقل: فعليه قضاء ما مضى بل قال فعليه صوم عدة من أيام أخر وإيجاب الصوم عليه في أيام أخر لا يستدعي أن يكون مسبوقا بالإفطار.
• الثالث: ما روى أبو داوود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا رسول الله هل أصوم على السفر؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صم إن شئت وأفطر إن شئت)، ولقائل أن يقول: هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد لأن ظاهر القرآن يقتضي وجوب صوم سائر الأيام، فرفع هذا الخبر غير جائز إذا ثبت ضعف هذه الوجوه، فالاعتماد في إثبات المذهب على قوله تعالى بعد هذه الآية: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وسيأتي بيان وجه الاستدلال إن شاء الله تعالى.
26. اختلف القائلون بأن الصوم جائز في السفر في أن الصوم أفضل أم الفطر:
أ. فقال أنس بن مالك وعثمان بن أبي أوفى الصوم أفضل وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾
ب. وقالت طائفة أفضل الأمرين الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق، واستدلوا بأن القصر في الصلاة أفضل، فوجب أن يكون الإفطار أفضل، والجواب: أن من أصحابنا من قال الإتمام أفضل إلا أنه ضعيف، والفرق من وجهين: أحدهما: أن الذمة تبقى مشغولة بقضاء الصوم دون الصلاة إذا قصرها.. الثاني: أن فضيلة الوقت تفوت بالفطر ولا تفوت بالقصر.
ج. وقالت فرقة ثالثة: أفضل الأمرين أيسرهما على المرء،، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185] فهذا يقتضي أنه إن كان الصوم أيسر عليه صام وإن كان الفطر أيسر أفطر.
27. اختلف القائلون بأن الصوم جائز في السفر في أنه إذا أفطر كيف يقضي:
أ. مذهب علي وابن عمر والشعبي أنه يقضيه متتابعا، واستدلوا بما يلي:
• الأول: أن قراءة أبي فعدة من أيام متتابعات.
• الثاني: أن القضاء نظير الأداء فلما كان الأداء متتابعا، فكذا القضاء.
ب. وقال الباقون: التتابع مستحب وإن فرق جاز، واستدلوا بأن قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ نكرة في سياق الإثبات، فيكون ذلك أمرا بصوم أيام على عدد تلك الأيام مطلقا، فيكون التقييد بالتتابع مخالفا لهذا التعميم، وعن أبي عبيدة بن الجراح أنّه قال إن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه، إن شئت فواتر وإن شئت ففرق، وروي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علي أيام من رمضان أفيجزيني أن أقضيها متفرقا فقال له: (أرأيت لو كان عليك دين فقضيته الدرهم والدرهمين أما كان يجزيك؟ فقال: نعم، قال فالله أحق أن يعفو ويصفح)
28. ﴿أُخَرَ﴾ لا ينصرف لأنه حصل فيه سببان الجمع والعدل أما الجمع فلأنها جمع أخرى، وأما العدل فلأنها جمع أخرى، وأخرى تأنيث آخر، وآخر على وزن أفعل، وما كان على وزن أفعل فإنه إما أن يستعمل مع (من) أو مع الألف واللام، يقال: زيد أفضل من عمرو وزيد الأفضل، وكان القياس أن يقال رجل آخر من زيد كما تقول قدم أمن عمرو، إلا أنهم حذفوا لفظ (من) لأن لفظه اقتضى معنى (من) فأسقطوا (من) اكتفاء بدلالة اللفظ عليه، والألف واللام منافيان (من) فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أخر وآخر وأخرى معدولة عن حكم نظائرها، لأن الألف واللام استعملتا فيها ثم حذف.
29. القراءة المشهورة المتواترة ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ وقرأ عكرمة وأيوب السختياني وعطاء ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ ومن الناس من قال هذه القراءة مروية عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد قال ابن جني: أما عين الطاقة فواو كقولهم: لا طاقة لي به ولا طوق لي به وعليه قراءة (يطوقونه) فهو يفعلونه فهو كقولك: يجشمونه، أي يكلفونه.
30. اختلفوا في المراد بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ على ثلاثة أقوال:
أ. الأول: أن هذا راجع إلى المسافر والمريض، وذلك لأن المسافر والمريض قد يكون منهما من لا يطيق الصوم ومنهما من يطيق الصوم.
• أما القسم الأول: فقد ذكر الله حكمه في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
• أما القسم الثاني: وهو المسافر والمريض اللذان يطيقان الصوم، فإليهما الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ فكأنه تعالى أثبت للمريض وللمسافر حالتين في إحداهما: يلزمه أن يفطر وعليه القضاء وهي حال الجهد الشديد لو صام و الثانية: أن يكون مطيقا للصوم لا يثقل عليه فحينئذ يكون مخيرا بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية.
ب. الثاني: وهو قول أكثر المفسرين أن المراد من قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ المقيم الصحيح فخيره الله تعالى أولا بين هذين، ثم نسخ ذلك وأوجب الصوم عليه مضيقا معينا.
ج. الثالث: أنها نزلت هذه الآية في حق الشيخ الهرم، وتقريره من وجهين:
• أحدهما: أن الوسع فوق الطاقة فالوسع اسم لمن كان قادرا على الشيء على وجه السهولة أما الطاقة فهو اسم لمن كان قادرا على الشيء مع الشدة والمشقة فقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدة والمشقة.
• الثاني: في تقرير هذا القول القراءة الشاذة ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ فإن معناه وعلى الذين يجشمونه ويكلفونه، ومعلوم أن هذا لا يصح إلا في حق من قدر على الشيء مع ضرب من المشقة.
31. القائلون بأنها نزلت هذه الآية في حق الشيخ الهرم اختلفوا على قولين:
أ. أحدهما: وهو قول السدي: أنه هو الشيخ الهرم، فعلى هذا لا تكون الآية منسوخة، يروى أن أنسا كان قبل موته يفطر ولا يستطيع الصوم ويطعم لكل يوم مسكينا
ب. وقال آخرون: إنها تتناول الشيخ الهرم والحامل والمرضع سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسهما وعلى ولديهما فقال: فأي مرض أشد من الحمل تفطر وتقضي.
32. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية التي ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
33. ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ قرأ نافع وابن عامر فدية بغير تنوين طعام بالكسر مضافا إليه مساكين جمعا، والباقون ﴿فِدْيَةٌ﴾ منونة ﴿طَعَامِ﴾ بالرفع ﴿مِسْكِينٌ﴾ مخفوض، وذكر أصحاب القراءة الأولى في معنى إضافة فدية إلى طعام وجهين:
أ. أحدهما: أن الفدية لها ذات وصفتها أنها طعام، فهذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، كقولهم: مسجد الجامع وبقله الحمقاء.
ب. الثاني: قال الواحدي: الفدية اسم للقدر الواجب، والطعام اسم يعم الفدية وغيرها، فهذه الإضافة من الإضافة التي تكون بمعنى (من) كقولك: ثوب خز وخاتم حديد، والمعنى: ثوب من خز وخاتم من حديد، فكذا هاهنا التقدير: فدية من طعام فأضيفت الفدية إلى الطعام مع أنك تطلق على الفدية اسم الطعام.
34. في القراءة الأولى جمعوا المساكين لأن الذين يطيقونه جماعة، وكل واحد منهم يلزمه مسكين، وأما القراءة الثانية وهي ﴿فِدْيَةٌ﴾ بالتنوين فجعلوا ما بعده مفسرا له ووحدوا المسكين لأن المعنى على كل واحد لكل يوم طعام مسكين.
35. الفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم على الشيء وعند أبي حنيفة أنه نصف صاع من بر أو صاع من غيره، وهو مدان وعند الشافعي مد.
36. احتج الجبائي بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ على أن الاستطاعة قبل الفعل، فقال: الضمير في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ عائد إلى الصوم، فأثبت القدرة على الصوم حال عدم الصوم، لأنه أوجب عليه الفدية، وإنما يجب عليه الفدية إذا لم يصم، فدل هذا على أن القدرة على الصوم حاصلة قبل حصول الصوم.
37. سؤال وإشكال: هذه الآية منسوخة فكيف يجوز الاستدلال بها؟ والجواب: كانت قبل أن صارت منسوخة دالة على أن القدرة حاصلة قبل الفعل، والحقائق لا تتغير.
38. سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يكون الضمير عائد إلى الفدية؟ والجواب: لوجهين:
أ. أحدهما: أن الفدية غير مذكورة من قبل فكيف يرجع الضمير إليها؟
ب. الثاني: أن الضمير مذكر والفدية مؤنثة.
39. في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ ففيه ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن يطعم مسكينا أو أكثر.
ب. الثاني: أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.
ج. الثالث: قال الزهري: من صام مع الفدية فهو خير له.
40. لا بد من الإضمار في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ وأن التقدير: فأفطر فعدة من أيام أخر.
41. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وجوه:
أ. أحدها: أن يكون هذا خطابا مع الذين يطيقونه فقط، فيكون التقدير: وأن تصوموا أيها المطيقون أو المطوقون، وتحملتم المشقة فهو خير لكم من الفدية.
ب. الثاني: أن هذا خطاب مع كل من تقدم ذكرهم، أعني المريض والمسافر والذين يطيقونه، وهذا أولى لأن اللفظ عام، ولا يلزم من اتصاله بقوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ أن يكون حكمه مختصا بهم، لأن اللفظ عام ولا منافاة في رجوعه إلى الكل، فوجب الحكم بذلك وعند هذا يتبين أنه لا بد من الإضمار في قوله: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، وأن التقدير: فأفطر فعدة من أيام أخر.
ج. الثالث: أن يكون قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ عطفا عليه على أول الآية فالتقدير: كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم.
42. قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أي أن الصوم عليكم فاعلموا صدق قولنا وأن تصوموا خير لكم.
ب. يحتمل: أن آخر الآية متعلق بأولها والتقدير كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أي أنكم إذا تدبرتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للتقوى وغيرها مما ذكرناه في صدر هذه الآية.
ج. يحتمل: أن العالم بالله لا بد وأن يكون في قلبه خشية الله على ما قال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28] فذكر العلم والمراد الخشية، وصاحب الخشية يراعي الاحتياط والاحتياط في فعل الصوم، فكأنه قيل: إن كنتم تعلمون الله حتى تخشونه كان الصوم خيرا لكم.
43. ﴿شَهْرُ﴾ الشهر مأخوذ من الشهرة يقال، شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا إذا ظهر، وسمي الشهر شهرا لشهرة أمره وذلك لأن حاجات الناس ماسة إلى معرفته بسبب أوقات ديونهم، وقضاء نسكهم في صومهم وحجهم، والشهرة ظهور الشيء وسمي الهلال شهرا لشهرته وبيانه قال بعضهم سمي الشهر شهرا باسم الهلال.
44. اختلفوا في رمضان على وجوه:
45. أحدها: قال مجاهد: إنه اسم الله تعالى، ومعنى قول القائل: شهر رمضان أي شهر الله، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا: جاء شهر رمضان وذهب شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى)
46. الثاني: أنه اسم للشهر كشهر رجب وشعبان، ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه:
• الأول: ما نقل عن الخليل أنه من الرمضاء بسكون الميم، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار والمعنى فيه أنه كما يغسل ذلك المطر وجه الأرض ويطهرها فكذلك شهر رمضان يغسل أبدان هذه الأمة من الذنوب ويطهر قلوبهم.
• الثاني: أنه مأخوذ من الرمض وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس، والاسم الرمضاء، فسمي هذا الشهر بهذا الاسم إما لارتماضهم في هذا الشهر من حر الجوع أو مقاساة شدته، كما سموه تابعا لأنه كان يتبعهم أي يزعجهم لشدته عليهم، وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، وقيل سمي بهذا الاسم لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباد الله)
• الثالث: أن هذا الاسم مأخوذ من قولهم: رمضت النصل أرمضه رمضا إذا دفعته بين حجرين ليرق، ونصل رميض ومرموض، فسمي هذا الشهر: رمضان، لأنهم كانوا يرمضون فيه أسلحتهم ليقضوا منها أوطارهم، وهذا القول يحكى عن الأزهري.
• الرابع: لو صح قولهم: إن رمضان اسم الله تعالى، وهذا الشهر أيضا سمي بهذا الاسم فالمعنى أن الذنوب تتلاشى في جنب رحمة الله حتى كأنها احترقت، وهذا الشهر أيضا رمضان بمعنى أن الذنوب تحترق في جنب بركته.
47. قرئ ﴿شَهْرٍ﴾ بالرفع وبالنصب، أما الرفع ففيه وجوه:
أ. أحدها: وهو قول الكسائي أنه ارتفع على البدل من الصيام، والمعنى: كتب عليكم شهر رمضان.
ب. الثاني: وهو قول الفراء والأخفش أنه خبر مبتدأ محذوف بدل من قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا﴾ كأنه قيل: هي شهر رمضان، لأن قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ تفسير للأيام المعدودات وتبيين لها.
ج. الثالث: قال أبو علي: إن شئت جعلته مبتدأ محذوف الخبر، كأنه لما تقدم ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183] قيل فيما كتب عليكم من الصيام شهر رمضان أي صيامه.
د. الرابع: قال بعضهم: يجوز أن يكون مبتدأ وخبره ﴿الَّذِي﴾ مع صلته كقوله زيد الذي في الدار، قال أبو علي: والأشبه أن يكون ﴿الَّذِي﴾ وصفا ليكون لفظ القرآن نصا في الأمر بصوم الشهر، لأنك إن جعلته خبرا لم يكن شهر رمضان منصوصا على صومه بهذا اللفظ، إنما يكون مخبرا عنه بإنزال القرآن فيه، وأيضا إذا جعلت ﴿الَّذِي﴾ وصفا كان حق النظم أن يكنى عن الشهر لا أن يظهر كقولك، شهر رمضان المبارك من شهده فليصمه.
48. قرئ ﴿شَهْرٍ﴾ بالرفع وبالنصب، أما قراءة النصب ففيها وجوه:
أ. أحدها: التقدير: صوموا شهر رمضان.
ب. ثانيها: على الإبدال من أيام معدودات.
ج. ثالثها: أنه مفعول ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾ وهذا الوجه ذكره الزمخشري، واعترض عليه بأن قيل: فعلى هذا التقدير يصير النظم: وأن تصوموا رمضان الذين أنزل فيه القرآن خير لكم، وهذا يقتضي وقوع الفصل بين المبتدأ والخبر بهذا الكلام الكثير وهو غير جائز لأن المبتدأ والخبر جاريان مجرى الشيء الواحد وإيقاع الفصل بين الشيء وبين نفسه غير جائز.
49. ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ لما خص الله تعالى هذا الشهر بهذه العبادة بين العلة لهذا التخصيص، وذلك هو أن الله سبحانه خصه بأعظم آيات الربوبية، وهو أنه أنزل فيه القرآن، فلا يبعد أيضا تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبودية وهو الصوم، مما يحقق ذلك أن الأنوار الصمدية متجلية أبدا يمتنع عليها الإخفاء والاحتجاب إلا أن العلائق البشرية مانعة من ظهورها في الأرواح البشرية والصوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشرية ولذلك فإن أرباب المكاشفات لا سبيل لهم إلى التوصل إليها إلا بالصوم، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات)، فثبت أن بين الصوم وبين نزول القرآن مناسبة عظيمة فلما كان هذا الشهر مختصا بنزول القرآن، وجب أن يكون مختصا بالصوم، وفي هذا الموضع أسرار كثيرة والقدر الذي أشرنا إليه كاف هاهنا.
50. في قوله تعالى: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ قولان:
أ. الأول: وهو اختيار الجمهور: أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (نزل صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشر والقرآن لأربع وعشرين)
ب. الثاني: قال سفيان بن عيينة: أنزل فيه القرآن معناه أنزل في فضله القرآن، وهذا اختيار الحسين بن الفضل، قال ابن الأنباري: أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن، كأن يقول: أنزل الله في الزكاة كذا وكذا يريد في إيجابها، وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها.
51. سؤال وإشكال: ما نزل القرآن الكريم على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم دفعة، وإنما نزل عليه في مدة ثلاث وعشرين سنة منجما مبعضا، وكما نزل بعضه في رمضان نزل بعضه في سائر الشهور، فما معنى تخصيص إنزاله برمضان؟ والجواب: من وجهين:
أ. الأول: أن القرآن أنزل في ليلة القدر جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى الأرض نجوما، وإنما جرت الحال على هذا الوجه لما علمه تعالى من المصلحة على هذا الوجه، فإنه لا يبعد أن يكون للملائكة عليهم السلام الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم أو كان في المعلوم أن في ذلك مصلحة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في توقع الوحي من أقرب الجهات، أو كان فيه مصلحة لجبريل عليه السلام، لأنه كان هو المأمور بإنزاله وتأديته، أما الحكمة في إنزال القرآن على الرسول منجما مفرقا فقد شرحناها في سورة الفرقان في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان: 32]
ب. الثاني: أن المراد منه أنه ابتدئ إنزاله ليلة القدر من شهر رمضان، وهو قول محمد بن إسحاق، وذلك لأن مبادئ الملل والدول هي التي يؤرخ بها لكونها أشرف الأوقات، ولأنها أيضا أوقات مضبوطة معلومة، والجواب الأول لا يحتاج فيه إلى تحمل شيء من المجاز، وهاهنا يحتاج فإنه لا بد على هذا الجواب من حمل القرآن على بعض أجزائه وأقسامه.
52. سؤال وإشكال: كيف الجمع بين هذه الآية على هذا القول، وبين قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1] وبين قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: 3]؟ والجواب: روي أن ابن عمر استدلّ بهذه الآية، وبقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ أن ليلة القدر لا بد وأن تكون في رمضان، وذلك لأن ليلة القدر إذا كانت في رمضان كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا له في رمضان، وهذا كمن يقول: لقيت فلانا في هذا الشهر فيقال له، في أي يوم منه فيقول يوم كذا فيكون ذلك تفسيرا للكلام الأول فكذا هاهنا.
53. سؤال وإشكال: أن القرآن على هذا القول يحتمل أن يقال: إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزله إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم منجما إلى آخر عمره، ويحتمل أيضا أن يقال: إنه سبحانه كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا من القرآن ما يعلم أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته يحتاجون إليه في تلك السنة ثم ينزله على الرسول على قدر الحاجة، ثم كذلك أبدا ما دام فأيهما أقرب إلى الصواب؟ والجواب: كلاهما محتمل، وذلك لأن قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ يحتمل أن يكون المراد منه الشخص، وهو رمضان معين، وأن يكون المراد منه النوع، وإذا كان كل واحد منهما محتملا صالحا وجب التوقف.
54. ﴿الْقُرْآنُ﴾ اسم لما بين الدفتين من كلام الله، واختلفوا في اشتقاقه:
أ. روى الواحدي في (البسيط) عن محمد بن عبد الله بن الحكم أن الشافعي كان يقول: إن القرآن اسم، وليس بمهموز ولم يؤخذ من قرأت ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل، قال ويهمز قراءة ولا يهمز القرآن كما يقول: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ [الإسراء: 45] قال الواحدي: وقول الشافعي أنه اسم لكتاب الله يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتق.
ب. وذهب آخرون إلى أنه مشتق، والقائلون بهذا القول منهم من لا يهمزه ومنهم من يهمزه.
55. القائلون بأن لفظ﴿الْقُرْآنُ﴾ مشتق، منهم من لا يهمزه ومنهم من يهمزه:
أ. أما الأولون فلهم فيه اشتقاقان:
• أحدهما: أنه مأخوذ من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، فهو مشتق من قرن والاسم قران غير مهموز، فسمي القرآن قرآنا إما لأن ما فيه من السور والآيات والحروف يقترن بعضها ببعض، أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع مقترن بعضها ببعض، أو لأن ما فيه من الدلائل الدالة على كونه من عند الله مقترن بعضها ببعض، أعني اشتماله على جهات الفصاحة وعلى الأسلوب الغريب، وعلى الأخبار عن المغيبات، وعلى العلوم الكثيرة، فعلى هذا التقدير هو مشتق من قرن والاسم قران غير مهموز.
• ثانيهما: قال الفراء: أظن أن القرآن سمي من القرائن، وذلك لأن الآيات يصدق بعضها بعضا على ما قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82] فهي قرائن.
ب. أما الذين همزوا فلهم وجوه:
• أحدها: أنه مصدر القراءة يقال: قرأت القرآن فأنا أقرؤه قرأ وقراءة وقرآنا، فهو مصدر، ومثل القرآن من المصادر: الرجحان والنقصان والخسران والغفران، قال الشاعر:
çضحوا بأشمط عنوان السجود به...يقطع الليل تسبيحا وقرآناé
أي قراءة، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78] هذا هو الأصل، ثم إن المقروء يسمى قرآنا، لأن المفعول يسمى بالمصدر كما قالوا للمشرب: شراب وللمكتوب كتاب، واشتهر هذا الاسم في العرف حتى جعلوه اسما لكلام الله تعالى.
• ثانيها: قال الزجاج وأبو عبيدة: إنه مأخوذ من القرء وهو الجمع، قال عمرو: (هجان اللون لم تقرأ جنينا)، أي لم تجمع في رحمها ولدا، ومن هذا الأصل: قرء المرأة وهو أيام اجتماع الدم في رحمها، فسمي القرآن قرآنا، لأنه يجمع السور ويضمها.
• ثالثها: قول قطرب وهو أنه سمي قرآنا، لأن القارئ يكتبه، وعند القراءة كأنه يلقيه من فيه أخذا من قول العرب: ما قرأت الناقة سلى قط، أي ما رمت بولد وما أسقطت ولدا قط وما طرحت، وسمي الحيض، قرأ لهذا التأويل، فالقرآن يلفظه القارئ من فيه ويلقيه فسمي قرآنا.
56. ذكرنا في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ [البقرة: 23] أن التنزيل مختص بالنزول على سبيل التدريج، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ إذا ثبت هذا، فإنه لما كان المراد هاهنا من قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، لا جرم ذكره بلفظ الإنزال دون التنزيل، وهذا يدل على أن هذا القول راجح على سائر الأقوال.
57. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ﴾ نصب على الحال، أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل.
58. سؤال وإشكال: ما معنى قوله تعالى: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾ بعد قوله تعالى: ﴿هُدًى﴾؟ والجواب: من وجوه:
أ. الأول: أنه تعالى ذكر أولا أنه هدى، ثم الهدى على قسمين: تارة يكون كونه هدى للناس بينا جليا، وتارة لا يكون كذلك، والقسم الأول لا شك أنه أفضل فكأنه قيل: هو هدى لأنه هو البين من الهدى، والفارق بين الحق والباطل، فهذا من باب ما يذكر الجنس ويعطف نوعه عليه، لكونه أشرف أنواعه، والتقدير كأنه قيل: هذا هدى، وهذا بين من الهدى، وهذا بينات من الهدى، ولا شك أن هذا غاية المبالغات.
ب. الثاني: أن يقال: القرآن هدى في نفسه، ومع كونه كذلك فهو أيضا بينات من الهدى والفرقان، والمراد بالهدى والفرقان: التوراة والإنجيل قال الله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران: 3 و4] وقال: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 53] وقال ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأنبياء: 48] فبين تعالى وتقدس أن القرآن مع كونه هدى في نفسه ففيه أيضا هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان.
ج. الثالث: أن يحمل الأول على أصول الدين، والهدي الثاني على فروع الدين، فحينئذ يزول التكرار.
59. عن الأخفش والمازني أنهما قالا: الفاء في قوله: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ زائدة، قالا: وذلك لأن الفاء قد تدخل للعطف أو للجزاء أو تكون زائدة، وليس للعطف والجزاء هاهنا وجه، ومن زيادة الفاء قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ﴾ [الجمعة: 8].. ويمكن أن يقال الفاء هاهنا للجزاء فإنه تعالى لما بين كون رمضان مختصا بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سائر الشهور فيها، فبين أن اختصاصه بتلك الفضيلة يناسب اختصاصه بهذه العبادة، ولولا ذلك لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وجه، كأنه قيل: لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة فأنتم أيضا خصوه بهذه العبادة، أما قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ الفاء فيه غير زائدة وأيضا، بل هذا من باب مقابلة الضد بالضد كأنه قيل: لما فروا من الموت فجزائهم أن يقرب الموت منهم ليعلموا أنه لا يغني الحذر عن القدر.
60. ﴿شَهِدَ﴾ أي حضر والشهود الحضور، ثم هاهنا قولان:
أ. أحدهما: أن مفعول شهد محذوف لأن المعنى: فمن شهد منكم البلد أو بيته بمعنى لم يكن مسافرا وقوله تعالى: ﴿الشَّهْرَ﴾ انتصابه على الظرف وكذلك الهاء في قوله تعالى: ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾
ب. الثاني: مفعول ﴿شَهِدَ﴾ هو ﴿الشَّهْرَ﴾ والتقدير: من شاهد الشهر بعقله ومعرفته فليصمه وهو كما يقال: شهدت عصر فلان، وأدركت زمان فلان، واعلم أن كلا القولين لا يتم إلا بمخالفة الظاهر.
61. القول الأول فإنما يتم بإضمار أمر زائد، وأما القول الثاني فيوجب دخول التخصيص في الآية، وذلك لأن شهود الشهر حاصل في حق الصبي والمجنون والمريض والمسافر مع أنه لم يجب على واحد منهم الصوم إلا أنا بينا في أصول الفقه أنه متى أنه وقع التعارض بين التخصيص والإضمار فالتخصيص أولى، وأيضا فلانا على القول الأول لما التزمنا الإضمار لا بد أيضا من التزام التخصيص لأن الصبي والمجنون والمريض كل واحد منهم شهد الشهر مع أنه لا يجب عليهم الصوم بل المسافر لا يدخل فلا يحتاج إلى تخصيص هذه الصورة فيه فالقول الأول لا يتمشى إلا مع التزام الإضمار والتخصيص والقول الثاني يتمشى بمجرد التزام التخصيص فكان القول الثاني أولى هذا ما عندي فيه مع أن أكثر المحققين كالواحدي والزمخشري ذهبوا إلى الأول.
62. الألف واللام في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ للمعهود السابق وهو شهر رمضان، ونظيره قوله تعالى: ﴿لولا جاؤوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ﴾ [النور: 13] أي فإذ لم يأتوا بالشهداء الأربعة.
63. سؤال وإشكال: في الآية إشكال، وهو أن قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ جملة مركبة من شرط وجزاء، فالشرط هو شهود الشهر، والجزاء هو الأمر بالصوم وما لم يوجد الشرط بتمامه لا يترتب عليه الجزاء، والشهر اسم للزمان المخصوص من أوله إلى آخره، فشهود الشهر إنما يحصل عند الجزاء الأخير من الشهر، وظاهر هذه الآية يقتضي أن عند شهود الجزء الأخير من الشهر يجب عليه صوم كل الشهر وهذا محال، لأنه يفضي إلى إيقاع الفعل في الزمان المنقضي وهو ممتنع، والجواب: لهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، وأنه لا بد من صرفها إلى التأويل، وطريقه أن يحمل لفظ الشهر على جزء من أجزاء الشهر في جانب الشرط فيصير تقريره: من شهد جزأ من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر، فعلى هذا: من شهد هلال رمضان فقد شهد جزأ من أجزاء الشهر، وقد تحقق الشرط فيترتب عليه الجزاء، وهو الأمر بصوم كل الشهر، وعلى هذا التأويل يستقيم معنى الآية وليس فيه إلا حمل لفظ الكل على الجزء وهو مجاز مشهور.
64. المنقول عن علي أن المراد من هذه الآية، فمن شهد منكم أول الشهر فليصم جميعه، وقد عرفت بما ذكرنا من الدليل أنه لا يصح ألبتة إلا هذا القول، ثم يتفرع على هذا الأصل فرعان:
أ. أحدهما: أنه إذا شهد أول الشهر هل يلزمه صوم كل الشهر: نقل عن علي رضي الله عنه أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر، أن الواجب أن يصوم الكل، لأنا بينا أن الآية تدل على أن من شهد أول الشهر وجب عليه صوم كل الشهر، وأما سائر المجتهدين فيقولون: إن قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وإن كان معناه: أن من شهد أول الشهر فليصمه كله إلا أنه عام يدخل فيه الحاضر والمسافر، وقوله بعد ذلك: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ خاص والخاص مقدم على العام، فثبت أنه وإن سافر بعد شهوة الشهر فإنه يحل له الإفطار.
ب. الثاني: وهو أن أبا حنيفة زعم أن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى، قال لأنا قد دللنا على أن المفهوم من هذه الآية أن من أدرك جزأ من رمضان لزمه صوم كل رمضان والمجنون إذا أفاق في أثناء الشهر فقد شهد جزأ من رمضان فوجب أن يلزمه صوم كل رمضان، فإذا لم يمكن صيام ما تقدم فالقضاء واجب.
65. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ هذا الكلام إنما يحسن ذكره هاهنا بشرط دخول ما قبله فيه والأمر هاهنا كذلك لأن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر، فإنه ما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض ولا على المسافر، وكل ذلك رعاية لمعنى اليسر والسهولة.
66. اليسر في اللغة معناه السهولة ومنه يقال للغني والسعة اليسار لأنه يسهل به الأمور واليد اليسرى قيل تلي الفعال باليسر، وقيل إنه يتسهل الأمر بمعونتها اليمنى.
67. المعتزلة، ومن وافقهم احتجوا بهذه الآية في أن تكليف ما لا يطاق غير واقع، قالوا لأنه تعالى لما بين أنه يريد بهم ما تيسر دون ما تعسر فكيف يكلفهم ما لا يقدرون عليه من الإيمان، وجوابه أن اليسر والعسر لا يفيدان العموم لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ المفرد الذي دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم، وأيضا فلو سلمنا ذلك لكنه قد ينصرف إلى المعهود السابق فنصرفه إلى المعهود السابق في هذا الموضع.
68. المعتزلة، ومن وافقهم تمسكوا بهذه الآية في إثبات أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله وذلك لأن المريض لو حمل نفسه على الصوم حتى أجهده، لكان يجب أن يكون قد فعل ما لا يريده الله منه إذا كان لا يريد العسر، والجواب: يحتمل اللفظ على أنه تعالى لا يريد أن يأمره بما فيه عسر، وإن كان قد يريد منه العسر وذلك لأن عندنا الأمر قد يثبت بدون الإرادة.
69. المعتزلة، ومن وافقهم قالوا: هذه الآية دالة على رحمته سبحانه لعباده فلو أراد بهم أن يكفروا فيصيروا إلى النار، وخلق فيهم ذلك الكفر لم يكن لائقا به أن يقول: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ والجواب أنه معارض بالعلم.
70. قرأ أبو بكر عن عاصم ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وهما لغتان: أكملت وكملت.
71. سؤال وإشكال: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ على ماذا علق؟ والجواب: أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف، ثم فيه وجهان:
أ. أحدهما: ما قاله الفراء وهو أن التقدير: ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون، فعل جملة لما ذكر وهو الأمر بصوم العدة، وتعليم كيفية القضاء، والرخصة في إباحة الفطر، وذلك لأنه تعالى لما ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر عقيبها ألفاظا ثلاثة، فقوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ علة للأمر بمراعاة العدة ﴿وَلِتُكَبِّرُوا﴾ علة ما علمتم من كيفية القضاء ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ علة الترخص والتسهيل، ونظير ما ذكرنا من حذف الفعل المنبه ما قبله عليه قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: 75] أي أريناه.
ب. الثاني: ما قاله الزجاج، وهو أن المراد به أن الذي تقدم من التكليف على المقيم صحيح والرخصة للمريض والمسافر إنما هو إكمال العدة لأنه مع الطاقة يسهل عليه إكمال العدة، ومع الرخصة في المرض والسفر يسهل إكمال العدة بالقضاء، فلا يكون عسرا، فبين تعالى أنه كلف الكل على وجه لا يكون إكمال العدة عسيرا، بل يكون سهلا يسيرا.
والفرق بين الوجهين أن في الأول إضمارا وقع بعد قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ وفي الثاني قبله.
72. إنما قال ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ ولم يقل: ولتكملوا الشهر، لأنه لما قال ولتكملوا العدة دخل تحته عدة أيام الشهر وأيام القضاء لتقدم ذكرهما جميعا، ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلا لعدد المقضي، ولو قال تعالى: ولتكملوا الشهر لدل ذلك على حكم الأداء فقط ولم يدخل حكم القضاء.
73. في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ وجهان:
أ. الأول: أن المراد منه التكبير ليلة الفطر قال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا، وقال الشافعي: وأحب إظهار التكبير في العيدين، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد واحتج الشافعي بقوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ وقال: معناه ولتكملوا عدة شهر رمضان لتكبروا الله عند انقضائه على ما هداكم إلى هذه الطاعة، وقال أبو حنيفة: يكره ذلك غداة الفطر.. وهو أقرب، وذلك لأن تكبير الله تعالى بهذا التفسير واجب في جميع الأوقات، ومع كل الطاعات فتخصيص هذه الطاعة بهذا التكبير يوجب أن يكون هذا التكبير له خصوصية زائدة على التكبير الواجب في كل الأوقات.
ب. الثاني: أن المراد منه التعظيم لله شكرا على ما وفق على هذه الطاعة.
74. تمام هذا التكبير إنما يكون بالقول والاعتقاد والعمل:
أ. أما القول: فالإقرار بصفاته العلي، وأسمائه الحسنى، وتنزيهه عما لا يليق به من ند وصاحبة وولد وشبه بالخلق، وكل ذلك لا يصح إلا بعد صحة الاعتقاد بالقلب.
ب. وأما العمل: فالتعبد بالطاعات من الصلاة والصيام، والحج.
قوله تعالى: ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ يتضمن الإنعام العظيم في الدنيا بالأدلة والتعريف والتوفيق والعصمة، وعند أهل السنة، ومن وافقهم بخلق الطاعة.
75. سؤال وإشكال: ما الفائدة في ذكر ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ في هذا الموضع؟ والجواب: إن الله تعالى لما أمر بالتكبير وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبريائه وعزته وعظمته، وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء، وأوصاف الواصفين، وذكر الذاكرين، ثم يعلم أنه سبحانه مع جلاله وعزته واستغنائه عن جميع المخلوقات، فضلا عن هذا المسكين خصه الله بهذه الهداية العظيمة لا بد وأن يصير ذلك داعيا للعبد إلى الاشتغال بشكره، والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته فلهذا قال ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 5/240.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر أيضا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج)، ومعناه في اللغة: الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال، ويقال للصمت صوم، لأنه، إمساك عن الكلام، قال الله تعالى مخبرا عن مريم: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ [مريم: 26] أي سكوتا عن الكلام، والصوم: ركود الريح، وهو إمساكها عن الهبوب، وصامت الدابة على أريها: قامت وثبتت فلم تعتلف، وصام النهار: اعتدل، ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف النهار، ومنه قول النابغة:
çخيل صيام وخيل غير صائمة...تحت العجاج وخيل تعلك اللجماé
أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة، كما قال وسلّ الهمّ عنك بجسرة...ذمول إذا صام النهار وهجرا أي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالإبطاء كالممسكة، وقال آخر:
çحتى إذا صام النهار واعتدل...وسال للشمس لعاب فنزلé
وقال آخر:
çنعاما بوجرة صفر الخدود...دما تطعم النوم إلا صياماé
أي قائمة، والشعر في هذا المعنى كثير.
2. الصوم في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله عليه السلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)
3. فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الأئمة في مسانيدهم، ويكفيك منها في فضل الصوم أن خصه الله بالإضافة إليه، كما ثبت في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال مخبرا عن ربه: (يقول الله تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) الحديث، وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات:
أ. أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.
ب. الثاني: أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به، وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره، وقيل غير هذا.
4. ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ الكاف في موضع نصب على النعت، التقدير كتابا كما، أو صوما كما، أو على الحال من الصيام، أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم، وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع نعتا للصيام، إذ ليس تعريفه بمحض، لمكان الإجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته بـ ﴿كَمَا﴾ إذ لا ينعت بها إلا النكرات، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول، و﴿مَا﴾ في موضع خفض، وصلتها: ﴿كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، والضمير في كتب يعود على ﴿مَا﴾
5. اختلف أهل التأويل في موضع التشبيه:
أ. فقال الشعبي وقتادة وغيرهما: التشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم، فإن الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام، ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع، واختار هذا القول النحاس وقال: وهو الأشبه بما في الآية، وفيه حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل ابن حنظلة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن سبعة ثم كان ملك آخر فقالوا لنتمّنّ هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خمسين)، وقال مجاهد: كتب الله عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة، وقيل: أخذوا بالوثيقة فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، قرنا بعد قرن، حتى بلغ صومهم خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي، قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي.. ولهذا كره الآن صوم يوم الشك والستة من شوال بأثر يوم الفطر متصلا به، قال الشعبي: لو صمت السنة كلها لأفطرت يوم الشك، وذلك أن النصارى فرض عليهم صوم شهر رمضان كما فرض علينا، فحولوه إلى الفصل الشمسي، لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوما، ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم يزل الآخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾
ب. وقيل: التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم، لا في الوقت والكيفية.
ج. وقيل: التشبيه واقع على صفة الصوم الذي كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام، وكذلك كان في النصارى أولا وكان في أول الإسلام، ثم نسخه الله تعالى بقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة: 187]، قاله السدي وأبو العالية والربيع.
د. وقال معاذ بن جبل وعطاء: التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدة وإن اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان، المعنى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ أي في أول الإسلام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وهم اليهود ـ في قول ابن عباس ـ ثلاثة أيام ويوم عاشوراء، ثم نسخ هذا في هذه الامة بشهر رمضان، وقال معاذ بن جبل: نسخ ذلك بـ ﴿أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ ثم نسخت الأيام برمضان.
6. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لعل ترج في حقهم، ﴿تَتَّقُونَ﴾:
أ. قيل: معناه هنا تضعفون، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي، وهذا وجه مجازي حسن.
ب. وقيل: لتتقوا المعاصي.
ج. وقيل: هو على العموم، لان الصيام كما قال عليه السلام: (الصيام جنة ووجاء) وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات.
7. ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾: ﴿أَيَّامًا﴾ مفعول ثان بـ ﴿كُتِبَ﴾، قاله الفراء، وقيل: نصب على الظرف ل ﴿كُتِبَ﴾، أي كتب عليكم الصيام في أيام، والأيام المعدودات: شهر رمضان، وهذا يدل على خلاف ما روي عن معاذ.
8. ﴿مَرِيضًا﴾ للمريض حالتان:
أ. إحداهما ألا يطيق الصوم بحال، فعليه الفطر واجبا.
ب. الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل:
• قال ابن سيرين: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر، قياسا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى الفطر ضرورة، قال طريف ابن تمام العطاردي: دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال إنه وجعت إصبعي هذه.
• وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر، قال ابن عطية: وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون، وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به، وقال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال مرة: هو خوف التلف من الصيام، وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة، وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر، لأنه لم يخص مرضا من مرض فهو مباح في كل مرض، إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرضى اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام، وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر، وقاله النخعي.
• وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر، وهذا قول الشافعي.
9. قول ابن سيرين أعدل شي في هذا الباب إن شاء الله تعالى، قال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟ فقلت نعم، فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة، قلت: حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ قال من أي مرض كان، كما قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق، وقال أبو حنيفة: إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعا أو حماه شدة أفطر.
10. ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري، أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة، والقول بالجواز أرجح، وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع، والقول بالمنع أرجح، قاله ابن عطية، ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة، واختلف العلماء في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا، قال ابن خويز منداد: وهو ظاهر مذهبه، وقال مرة: اثنان وأربعون ميلا، وقال مرة ستة وثلاثون ميلا، وقال مرة: مسيرة يوم وليلة، وروى عنه يومان، وهو قول الشافعي، وفصل مرة بين البر والبحر، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا، وفي المذهب ثلاثون ميلا، وفي غير المذهب ثلاثة أميال، وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام، حكاه ابن عطية، قلت: والذي في البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا.
11. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بصيام المسافر، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
12. ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ﴾ في الكلام حذف، أي من يكن منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فليقض، والجمهور من العلماء على أن أهل البلد إذا صاموا تسعة وعشرين يوما وفي البلد رجل مريض لم يصح فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما، وقال قوم منهم الحسن بن صالح بن حي: إنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الأيام، قال الكيا الطبري: وهذا بعيد، لقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ ولم يقل فشهر من أيام أخر، وقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ﴾ يقتضي استيفاء عدد ما أفطر فيه، ولا شك أنه لو أفطر بعض رمضان وجب قضاء ما أفطر بعده بعدده، كذلك يجب أن يكون حكم إفطاره جميعه في اعتبار عدده.
13. ﴿فَعِدَّةٌ﴾ ارتفع عدة على خبر الابتداء، تقديره فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح فعليه عدة، وقال الكسائي: ويجوز فعدة، أي فليصم عدة من أيام، وقيل: المعنى فعليه صيام عدة، فحذف المضاف وأقيمت العدة مقامة، والعدة فعلة من العد، وهي بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون، تقول: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا متتابعات قال هذا إسناد صحيح، وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه) في إسناده عبد الرحمن ابن إبراهيم ضعيف الحديث، وأسنده عن ابن عباس في قضاء رمضان (صمه كيف شئت)، وقال ابن عمر: (صمه كما أفطرته)، وأسند عن أبي عبيدة بن الجراح وابن عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص، وعن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل عن تقطيع صيام رمضان فقال: (ذلك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاه فالله أحق أن يعفو ويغفر)، إسناده حسن إلا أنه مرسل ولا يثبت متصلا، وفي موطأ مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: يصوم رمضان متتابعا من أفطره متتابعا من مرض أو في سفر، قال الباجي: (يحتمل أن يريد الإخبار عن الوجوب، ويحتمل أن يريد الإخبار عن الاستحباب، وعلى الاستحباب جمهور الفقهاء، وإن فرقه أجزأه، وبذلك قال مالك والشافعي، والدليل على صحة هذا قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، ولم يخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر، فوجب أن يجزيه)، وقال ابن العربي: (إنما وجب التتابع في الشهر لكونه معينا، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق)
14. لما قال تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ دل ذلك على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان، لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول الله، أو برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، في رواية: وذلك لمكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا نص وزيادة بيان للآية، وذلك يرد على داوود قوله: إنه يجب عليه قضاؤه ثاني شوال، ومن لم يصمه ثم مات فهو آثم عنده، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة فوجد رقبة تباع بثمن فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها، لأن الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا يجزيه غيرها، ولو كانت عنده رقبة فلا يجوز له أن يشتري غيرها، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق، كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره، وذلك يفسد قوله، وقال بعض الأصوليين: إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصي على شرط العزم، والصحيح أنه غير آثم ولا مفرط، وهو قول الجمهور، غير أنه يستحب له تعجيل القضاء لئلا تدركه المنية فيبقى عليه الفرض.
15. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية في حكم من فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر، ومسائل أخرى ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
16. استدلّ بهذه الآية من قال إن الصوم لا ينعقد في السفر وعليه القضاء أبدا، فإن الله تعالى يقول: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أي فعليه عدة، ولا حذف في الكلام ولا إضمار، وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس من البر الصيام في السفر) وما لم يكن من البر فهو من الإثم، فيدل ذلك على أن صوم رمضان لا يجوز في السفر، والجمهور يقولون: فيه محذوف فأفطر، كما تقدم، وهو الصحيح، لحديث أنس قال: (سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، رواه مالك عن حميد الطويل عن أنس، وأخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: (غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لست عشرة مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
17. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وقرأ حميد على الأصل من غير اعتلال، والقياس الاعتلال، ومشهور قراءة ابن عباس (يطوقونه) بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه، وقد روى مجاهد (يطيقونه) بالياء بعد الطاء على لفظ (يكيلونه)، وهي باطلة ومحال، لأن الفعل مأخوذ من الطوق، فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال، وروى ابن الأنباري عن ابن عباس (يطيقونه) بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى يطيقونه، يقال: طاق وأطاق وأطيق بمعنى، وعن ابن عباس أيضا وعائشة وطاووس وعمرو بن دينار يطوقونه بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة، وهي صواب في اللغة، لان الأصل يتطوقونه فأسكنت التاء وأدغمت في الطاء فصارت طاء مشددة، وليست من القرآن، خلافا لمن أثبتها قرآنا، وإنما هي قراءة على التفسير، وقرا أهل المدينة والشام (فدية طعام) مضافا، مساكين جمعا، وقرا ابن عباس (طعام مسكين) بالإفراد فيما ذكر البخاري وأبو داوود والنسائي عن عطاء عنه، وهي قراءة حسنة، لأنها بينت الحكم في اليوم، واختارها أبو عبيد، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي، قال أبو عبيد: فبينت أن لكل يوم إطعام واحد، فالواحد مترجم عن الجميع، وليس الجميع بمترجم عن واحد، وتخرج قراءة الجمع في مساكين لما كان الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فجمع لفظه، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: 4] أي اجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم، بل لكل واحد ثمانون، قال معناه أبو علي، واختار قراءة الجمع النحاس قال وما اختاره أبو عبيد مردود، لان هذا إنما يعرف بالدلالة، فقد علم أن معنى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين أن لكل يوم مسكينا، فاختيار هذه القراءة لترد جمعا على جمع، قال النحاس: واختار أبو عبيد أن يقرأ ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ﴾ قال لان الطعام هو الفدية، ولا يجوز أن يكون الطعام نعتا لأنه جوهر ولكنه يجوز على البدل، وأبين من أن يقرأ ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ﴾ بالإضافة، لان ﴿فِدْيَةٌ﴾ مبهمة تقع للطعام وغيره، فصار مثل قولك: هذا ثوب خز.
18. اختلف العلماء في المراد بـ ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾:
أ. قيل: هي منسوخة، روى البخاري عن ابن أبي ليلى: حدثنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وعلى هذا قراءة الجمهور ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ أي يقدرون عليه، لان فرض الصيام هكذا: من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا، وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم، ثم نسخت بقوله ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185] فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم، قال الفراء: الضمير في ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ يجوز أن يعود على الصيام، أي وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا، ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾، ويجوز أن يعود على الفداء، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية.
ب. أما قراءة يطوقونه على معنى يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم، كالمريض والحامل فإنهما يقدران عليه لكن بمشقة تلحقهم في أنفسهم، فإن صاموا أجزأهم وإن افتدوا فلهم ذلك، ففسر ابن عباس ـ إن كان الاسناد عنه صحيحا ـ ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ بيطوقونه ويتكلفونه فأدخله بعض النقلة في القرآن، روى أبو داوود عن ابن عباس ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ قال أثبتت للحبلى والمرضع، وروي عنه أيضا ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ قال كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا، وخرج الدارقطني عنه أيضا قال رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه، هذا إسناد صحيح، وروي عنه أنّه قال ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ﴾ ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعما مكان كل يوم مسكينا، وهذا صحيح، وروي عنه أيضا أنّه قال لام ولد له حبلى أو مرضع: أنت من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء ولا عليك القضاء، وهذا إسناد صحيح، وفي رواية: كانت له أم ولد ترضع ـ من غير شك ـ فأجهدت فأمرها أن تفطر ولا تقضي، هذا صحيح، فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر، والقول الأول صحيح أيضا، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص، فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه.
19. قال الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأصحاب الرأي: الحامل والمرضع يفطران ولا إطعام عليهما، بمنزلة المريض يفطر ويقضي، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور، وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي ثور، واختاره ابن المنذر، وهو قول مالك في الحبلى إن أفطرت، فأما المرضع إن أفطرت فعليها القضاء والإطعام، وقال الشافعي وأحمد: يفطران ويطعمان ويقضيان، وأجمعوا على أن المشايخ والعجائز الذين لا يطيقون الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة أن يفطروا، واختلفوا فيما عليهم، فقال ربيعة ومالك: لا شي عليهم، غير أن مالكا قال لو أطعموا عن كل يوم مسكينا كان أحب إلى، وقال أنس وابن عباس وقيس بن السائب وأبو هريرة: عليهم الفدية، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، اتباعا لقول الصحابة، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ ثم قال ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ وهؤلاء ليسوا بمرضى ولا مسافرين، فوجبت عليهم الفدية، والدليل لقول مالك: أن هذا مفطر لعذر موجود فيه وهو الشيخوخة والكبر فلم يلزمه إطعام كالمسافر والمريض، وروي هذا عن الثوري ومكحول، واختاره ابن المنذر.
20. اختلف من أوجب الفدية على من ذكر في مقدارها، فقال مالك: مد بمد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن كل يوم أفطره، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: كفارة كل يوم صاع تمر أو نصف صاع بر، وروي عن ابن عباس نصف صاع من حنطة، ذكره الدارقطني، وروي عن أبي هريرة قال من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم فعليه لكل يوم مد من قمح، وروي عن أنس بن مالك أنه ضعف عن الصوم عاما فصنع جفنة من طعام ثم دعا بثلاثين مسكينا فأشبعهم.
21. ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ قال ابن شهاب: من أراد الإطعام مع الصوم، وقال مجاهد: من زاد في الإطعام على المد، ابن عباس: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ قال مسكينا آخر ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾، ذكره الدارقطني وقال: إسناد صحيح ثابت، و﴿خَيْرُ﴾ الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث و﴿خَيْرًا﴾ الأول، وقرا عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي يطوع خيرا مشددا وجزم العين على معنى يتطوع، الباقون ﴿تَطَوَّعَ﴾ بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين على الماضي.
22. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أي والصيام خير لكم، وكذا قرأ أبي، أي من الإفطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ، وقيل: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾ في السفر والمرض غير الشاق والله أعلم، وعلى الجملة فإنه يقتضي الحض على الصوم، أي فاعلموا ذلك وصوموا.
23. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ قال أهل التاريخ: أول من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة، وقد تقدم قول مجاهد: كتب الله رمضان على كل أمة، ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم.
24. الشهر مشتق من الإشهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ومنه يقال: شهرت السيف إذا سللته، ورمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش، والرمضاء (ممدودة): شدة الحر، ومنه الحديث: (صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال)، خرجه مسلم، ورمض الفصال أن تحرق الرمضاء أخفافها فتبرك من شدة حرها، فرمضان ـ فيما ذكروا ـ وافق شدة الحر، فهو مأخوذ من الرمضاء، قال الجوهري: وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء، يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك، وقيل: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة، من الارماض وهو الإحراق، ومنه رمضت قدمه من الرمضاء أي احترقت، وأرمضتني الرمضاء أي أحرقتني، ومنه قيل: أرمضني الامر، وقيل: لان القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس، والرمضاء: الحجارة المحماة، وقيل: هو من رمضت النصل أرمضه وأرمضه رمضا إذا دققته بين حجرين ليرق، ومنه نصل رميض ومرموض ـ عن ابن السكيت ـ، وسمي الشهر به لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان ليحاربوا بها في شوال قبل دخول الأشهر الحرم، وحكى الماوردي أن اسمه في الجاهلية ناتق وأنشد للمفضل:
çوفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى...وولت على الأدبار فرسان خثعماé
25. ﴿شَهْر﴾ بالرفع قراءة الجماعة على الابتداء، والخبر ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، أو يرتفع على إضمار مبتدأ، المعنى: المفروض عليكم صومه شهر رمضان، أو فيما كتب عليكم شهر رمضان، ويجوز أن يكون ﴿شَهْر﴾ مبتدأ، و﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ صفة، والخبر ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾، وأعيد ذكر الشهر تعظيما، كقوله تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ﴾، [الحاقة: 2 ـ 1]، وجاز أن يدخله معنى الجزاء، لان شهر رمضان وإن كان معرفة فليس معرفة بعينها لأنه شائع في جميع القابل، قاله أبو علي، وروي عن مجاهد وشهر بن حوشب نصب ﴿شَهْر﴾، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو، ومعناه: الزموا شهر رمضان أو صوموا، و﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ نعت له، ولا يجوز أن ينتصب بتصوموا، لئلا يفرق بين الصلة والموصول بخبر أن وهو ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾، الرماني: يجوز نصبه على البدل من قوله ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 184]
26. اختلف هل يقال رمضان دون أن يضاف إلى شهر، فكره ذلك مجاهد وقال: يقال كما قال الله تعالى، وفي الخبر: (لا تقولوا رمضان بل انسبوه كما نسبه الله في القرآن فقال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾)، وكان يقول: بلغني أنه اسم من أسماء الله، وكان يكره أن يجمع لفظه لهذا المعنى، ويحتج بما روي: رمضان اسم من أسماء الله تعالى، وهذا ليس بصحيح فإنه من حديث أبي معشر نجيح وهو ضعيف، والصحيح جواز إطلاق رمضان من غير إضافة كما ثبت في الصحاح وغيرها، روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين)، وفي صحيح البستي عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا كان رمضان فتحت له أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين)، وروى النسائي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم)، وأخرجه أبو حاتم البستي أيضا وقال: فقوله: (مردة الشياطين) تقييد لقوله: (صفدت الشياطين وسلسلت)، وروى النسائي أيضا عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لامرأة من الأنصار: (إذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة)، وروى النسائي أيضا عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله تعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، والآثار في هذا كثيرة، كلها بإسقاط شهر، وربما أسقطت العرب ذكر الشهر من رمضان، قال الشاعر:
çجارية في درعها الفضفاض...أبيض من أخت بني إباض
جارية في رمضان الماضي...تقطع الحديث بالايماضé
وفضل رمضان عظيم، وثوابه جسيم، يدل على ذلك معنى الاشتقاق من كونه محرقا للذنوب، وما كتبناه من الأحاديث.
27. فرض الله صيام شهر رمضان أي مدة هلاله، وبه سمي الشهر، كما جاء في الحديث: (فإن غمي عليكم الشهر) أي الهلال، وقال الشاعر:
çأخوان من نجد على ثقة...والشهر مثل قلامة الظفر
حتى تكامل في استدارته...في أربع زادت على عشرé
وفرض علينا عند غمة الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوما، حتى ندخل في العبادة بيقين ونخرج عنها بيقين، فقال في كتابه: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، وروى الأئمة الإثبات عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدد) في رواية (فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين)، وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة من اللغويين فقالا: يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان، حتى إنه لو كان صحوا لروى، لقوله عليه السلام: (فإن أغمي عليكم فاقدروا له) أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه، وقال الجمهور: معنى (فاقدروا له) فأكملوا المقدار، يفسره حديث أبي هريرة (فأكملوا العدة)، وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله فاقدروا له): أي قدروا المنازل، وهذا لا نعلم أحدا قال به إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين، والإجماع حجة عليهم، وقد روى ابن نافع عن مالك في الامام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويفطر على الحساب: إنه لا يقتدى به ولا يتبع، قال ابن العربي: وقد زل بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنّه قال يعول على الحساب، وهي عثرة لا لعاد لها.
28. ذكر هنا بعض المباحث الفقهية المرتبطة بثبوب هلال رمضان ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
29. قرأ جمهور الناس ﴿شَهْر﴾ بالرفع على أنه خبر ابتداء مضمر، أي ذلكم شهر، أو المفترض عليكم صيامه شهر رمضان، أو الصوم أو الأيام، وقيل: ارتفع على أنه مفعول لم يسم فاعله بـ ﴿كُتِبَ﴾ أي كتب عليكم شهر رمضان، و﴿رَمَضَانَ﴾ لا ينصرف لان النون فيه زائدة، ويجوز أن يكون مرفوعا على الابتداء، وخبره ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وقيل: خبره ﴿فَمَنْ شَهِدَ﴾، و﴿الَّذِي أَنْزَلَ﴾ نعت له، وقيل: ارتفع على البدل من الصيام، فمن قال إن الصيام في قوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هنا بالابتداء، ومن قال إن الصيام هناك رمضان قال هنا بالابتداء أو بالبدل من الصيام، أي كتب عليكم شهر رمضان، وقرا مجاهد وشهر بن حوشب شهر بالنصب، قال الكسائي: المعنى كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا شهر رمضان، وقال الفراء: أي كتب عليكم الصيام أي أن تصوموا شهر رمضان، قال النحاس: (لا يجوز أن ينتصبـ ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ بـ ﴿تَصُومُوا﴾، لأنه يدخل في الصلة ثم يفرق بين الصلة والموصول، وكذلك إن نصبته بالصيام، ولكن يجوز أن تنصبه على الإغراء، أي الزموا شهر رمضان، وصوموا شهر رمضان، وهذا بعيد أيضا لأنه لم يتقدم ذكر الشهر فيغرى به)، قوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ يدل على الشهر فجاز الإغراء، وهو اختيار أبي عبيد، وقال الأخفش: انتصب على الظرف، وحكي عن الحسن وأبي عمرو إدغام الراء في الراء، وهذا لا يجوز لئلا يجتمع ساكنان، ويجوز أن تقلب حركة الراء على الهاء فتضم الهاء ثم تدغم، وهو قول الكوفيين.
30. ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان، وهو يبين قوله عز وجل: ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: 3 ـ 1] يعني ليلة القدر، ولقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1]، وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره، ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر ـ على ما بيناه ـ جملة واحدة، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل صلّى الله عليه وآله وسلّم ينزل به نجما نجما في الأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في عشرين سنة، وقال ابن عباس: أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجوما ـ يعني الآية والآيتين ـ في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة، وقال مقاتل في قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ قال أنزل من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا، ونزل به جبريل في عشرين سنة، وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع أن القرآن أنزل جملة واحدة، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين)، وفي هذا الحديث دلالة على ما يقول الحسن أن ليلة القدر تكون ليلة أربع وعشرين.
﴿الْقُرْآنُ﴾ اسم لكلام الله تعالى، وهو بمعنى المقروء، كالمشروب يسمى شرابا، والمكتوب يسمى كتابا، وعلى هذا قيل: هو مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا بمعنى، قال الشاعر:
çضحوا بأشمط عنوان السجود به...يقطع الليل تسبيحا وقرآناé
أي قراءة، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر أن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان عليه السلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا، أي قراءة، وفي التنزيل: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الاسراء: 78] أي قراءة الفجر، ويسمى المقروء قرآنا على عادة العرب في تسميتها المفعول باسم المصدر، كتسميتهم للمعلوم علما وللمضروب ضربا وللمشروب شربا، ثم اشتهر الاستعمال في هذا واقترن به العرف الشرعي، فصار القرآن اسما لكلام الله، حتى إذا قيل: القرآن غير مخلوق، يراد به المقروء لا القراءة لذلك، وقد يسمى المصحف الذي يكتب فيه كلام الله قرآنا توسعا، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) أراد به المصحف، وهو مشتق من قرأت الشيء جمعته، وقيل: هو اسم علم لكتاب الله، غير مشتق كالتوراة والإنجيل، وهذا يحكى عن الشافعي، والصحيح الاشتقاق في الجميع.
31. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾: ﴿هُدًى﴾ في موضع نصب على الحال من القرآن، أي هاديا لهم، ﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾ عطف عليه، و﴿الْهُدَى﴾ الإرشاد والبيان، أي بيانا لهم وإرشادا، والمراد القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه، يعني الحلال والحرام والمواعظ والأحكام، ﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾ جمع بينة، من بان الشيء يبين إذا وضح، ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾ ما فرق بين الحق والباطل، أي فصل.
32. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ قراءة العامة بجزم اللام، وقرا الحسن والأعرج بكسر اللام، وهي لام الامر وحقها الكسر إذا أفردت، فإذا وصلت بشيء ففيها وجهان: الجزم والكسر، وإنما توصل بثلاثة أحرف: بالفاء كقوله ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾ [قريش: 3]، والواو كقوله تعالى: ﴿وَلْيُوفُوا﴾ [الحج: 29]، وثم كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا﴾ [الحج: 29]
33. ﴿شَهِدَ﴾ بمعنى حضر، وفيه إضمار، أي من شهد منكم المصر في الشهر عاقلا بالغا صحيحا مقيما فليصمه، وهو عام فيخصص بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ الآية، وليس الشهر بمفعول وإنما هو ظرف زمان، وقد اختلف العلماء في تأويل هذا:
أ. فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وسويد بن غفلة وعائشة ـ أربعة من الصحابة ـ وأبو مجلز لاحق بن حميد وعبيدة السلماني: من شهد أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله في بلده واهله فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر، والمعنى عندهم: من أدركه رمضان مسافرا أفطر وعليه عدة من أيام أخر، ومن أدركه حاضرا فليصمه.
ب. وقال جمهور الامة: من شهد أول الشهر وآخره فليصم ما دام مقيما، فإن سافر أفطر، وهذا هو الصحيح وعليه تدل الاخبار الثابتة، وقد ترجم البخاري ردا على القول الأول باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد.. ويحتمل أن يحمل قول على رضي الله عنه ومن وافقه على السفر المندوب كزيارة الاخوان من الفضلاء والصالحين، أو المباح في طلب الرزق الزائد على الكفاية، وأما السفر الواجب في طلب القوت الضروري، أو فتح بلد إذا تحقق ذلك، أو دفع عدو، فالمرء فيه مخير ولا يجب عليه الإمساك، بل الفطر فيه أفضل للتقوى، وإن كان شهد الشهر في بلده وصام بعضه فيه، لحديث ابن عباس وغيره، ولا يكون في هذا خلاف إن شاء الله.
ج. وقال أبو حنيفة وأصحابه: من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه، لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام، ومن جن أول الشهر وآخره فإنه يقضي أيام جنونه، ونصب الشهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح بـ ﴿شَهِدَ﴾
34. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة ببعض شروط فرضية الصوم، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي نقلناها إلى محلها من السلسلة.
35. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ قراءة جماعة ﴿الْيُسْرَ﴾ بضم السين لغتان، وكذلك ﴿الْعُسْرِ﴾، قال مجاهد والضحاك: ﴿الْيُسْرَ﴾ الفطر في السفر، و﴿الْعُسْرِ﴾ الصوم في السفر، والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، كما قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم (دين الله يسر)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يسروا ولا تعسروا)، واليسر من السهولة، ومنه اليسار للغنى، وسميت اليد اليسرى تفاؤلا، أو لأنه يسهل له الامر بمعاونتها لليمنى، قولان، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ هو بمعنى قوله ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ فكرر تأكيدا.
36. دلت الآية على أن الله سبحانه مريد بإرادة قديمة أزلية زائدة على الذات، هذا مذهب أهل السنة، كما أنه عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، وهذه كلها معان وجودية أزلية زائدة على الذات، وذهب الفلاسفة والشيعة إلى نفيها(2).، تعالى الله عن قول الزائغين وإبطال المبطلين، والذي يقطع دابر أهل التعطيل أن يقال: لو لم يصدق كونه ذا إرادة لصدق أنه ليس بذي إرادة، ولو صح ذلك لكان كل ما ليس بذي إرادة ناقصا بالنسبة إلى من له إرادة، فإن من كانت له الصفات الإرادية فله أن يخصص الشيء وله ألا يخصصه، فالعقل السليم يقضي بأن ذنك كمال له وليس بنقصان، حتى أنه لو قدر بالوهم سلب ذلك الامر عنه لقد كان حاله أولا أكمل بالنسبة إلى حاله ثانيا، فلم يبق إلا أن يكون ما لم يتصف أنقص مما هو متصف به، ولا يخفي ما فيه من المحال، فإنه كيف يتصور أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، والخالق أنقص منه، والبديهة تقضي برده وإبطاله، وقد وصف نفسه جل جلاله وتقدست أسماؤه بأنه مريد فقال تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود: 107] وقال سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185] وقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ [النساء: 28]، إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون، ثم إن هذا العالم على غاية من الحكمة والإتقان والانتظام والأحكام، وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه، فالذي خصصه بالوجود يجب أن يكون مريدا له قادرا عليه عالما به، فإن لم يكن عالما قادرا لا يصح منه صدور شي، ومن لم يكن عالما وإن كان قادرا لم يكن ما صدر منه على نظام الحكمة والإتقان، ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات بأحوال وأوقات دون البعض بأولى من العكس، إذ نسبتها إليه نسبة واحدة، قالوا: وإذ ثبت كونه قادرا مريدا وجب أن يكون حيا، إذ الحياة شرط هذه الصفات، ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما، فإن لم تثبت له هذه الصفات فإنه لا محالة متصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد، والبارئ سبحانه وتعالى يتقدس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصا.
37. في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: إكمال عدة الأداء لمن أفطر في سفره أو مرضه.
ب. الثاني: عدة الهلال سواء كانت تسعا وعشرين أو ثلاثين، قال جابر بن عبد الله قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الشهر يكون تسعا وعشرين)، وفي هذا رد لتأويل من تأول قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة) أنهما لا ينقصان عن ثلاثين يوما، أخرجه أبو داوود، وتأوله جمهور العلماء على معنى أنهما لا ينقصان في الأجر وتكفير الخطايا، سواء كانا من تسع وعشرين أو ثلاثين.
38. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة برؤية هلال شوال، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
39. ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ عطف عليه، ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل، واختلف الناس في حده: فقال الشافعي: روي عن سعيد بن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ويحمدون، قال: وتشبه ليلة النحر بها، وقال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا وروي عنه: يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الامام ويكبر بتكبيره، وقال قوم: يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الامام للصلاة، وقال سفيان: هو التكبير يوم الفطر، زيد بن أسلم: يكبرون إذا خرجوا إلى المصلى فإذا انقضت الصلاة انقضى العيد، وهذا مذهب مالك، قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الامام، وروى ابن القاسم وعلي بن زياد: أنه إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا جلوسه حتى تطلع الشمس، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الامام، والفطر والأضحى في ذلك سواء عند مالك، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر، والليل عليه قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ ولان هذا يوم عيد لا يتكرر في العام فسن التكبير في الخروج إليه كالأضحى، وروى الدارقطني عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كانوا في التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى، وروي عن ابن عمر: (أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى) وروي عن ابن عمر: أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الامام، وأكثر أهل العلم على التكبير في عيد الفطر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيرهم فيما ذكر ابن المنذر قال وحكى ذلك الأوزاعي عن إلياس، وكان الشافعي يقول إذا رأى هلال شوال: أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى، ولا يزالون يكبرون ويظهرون التكبير حتى يغدوا إلى المصلى وحين يخرج الامام إلى الصلاة، وكذلك أحب ليلة الأضحى لمن لم يحج.
40. لفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثلاثا، وروي عن جابر بن عبد الله، ومن العلماء من يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وكان ابن المبارك يقول إذا خرج من يوم الفطر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، قال ابن المنذر: وكان مالك لا يحد فيه حدا، وقال أحمد: هو واسع، قال ابن العربي: (واختار علماؤنا التكبير المطلق، وهو ظاهر القرآن وإليه أميل)
41. ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ قيل: لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وقيل: بدلا عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء والتظاهر بالأحساب وتعديد المناقب، وقيل: لتعظموه على ما أرشدكم إليه من الشرائع، فهو عام.
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/273.
(2) سنذكر الأقوال المختلفة في المسألة في محلها من السلسلة، ومن خلال مصادرها.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة افترضها الله سبحانه على هذه الأمة، والصيام أصله في اللغة: الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال، ويقال للصمت: صوم، لأنه إمساك عن الكلام، ومنه: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي: إمساكا عن الكلام.. وهو في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
2. ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ أي: صوما كما كتب، على أن الكاف في موضع نصب على النعت، أو: كتب عليكم الصيام مشبها ما كتب، على أنه في محل نصب على الحال، وقال بعض النحاة: إن الكاف في موضع رفع نعتا للصيام، وهو ضعيف؛ لأن الصيام معرّف باللام، والضمير المستتر في قوله: ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ راجع إلى ما.
3. اختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو؟ فقيل: هو قدر الصوم ووقته، فإن الله كتب على اليهود والنصارى صوم رمضان فغيّروا؛ وقيل: هو الوجوب، فإن الله أوجب على الأمم الصيام؛ وقيل: هو الصفة، أي: ترك الأكل والشرب ونحوهما في وقت؛ فعلى الأوّل معناه: أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم؛ وعلى الثاني: أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم؛ وعلى الثالث: أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم.
4. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ بالمحافظة عليها؛ وقيل: تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة، لأنها تكسر الشهوة؛ وتضعف دواعي المعاصي، كما ورد في الحديث أنه جنّة وأنه وجاء.
5. ﴿أَيَّامًا﴾ منتصب على أنه مفعول ثان لقوله: ﴿كُتُبٌ﴾، قاله الفراء: وقيل: إنه منتصب على أنه ظرف، أي: كتب عليكم الصيام في أيام.
6. ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾ أي: معينات بعدد معلوم، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع ـ لكونه من جموع القلة ـ إشارة إلى تقليل الأيام.
7. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ قيل: للمريض حالتان: إن كان لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة، وإن كان يطيقه مع تضرّر ومشقة كان رخصة، وبهذا قال الجمهور.
8. ﴿عَلَى سَفَرٍ﴾ اختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار؛ فقيل: مسافة قصر الصلاة، والخلاف في قدرها معروف، وبه قال الجمهور، وقال غيرهم بمقادير لا دليل عليها، والحقّ أن ما صدق عليه مسمّى السفر؛ فهو الذي يباح عنده الفطر، وهكذا ما صدق عليه مسمّى المرض؛ فهو الذي يباح عنده الفطر، وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة، واختلفوا في الأسفار المباحة، والحق أن الرخصة ثابتة فيه، وكذا اختلفوا في سفر المعصية.
9. ﴿فَعِدَّةٌ﴾ أي: فعليه عدّة، أو فالحكم عدّة، أو فالواجب عدّة؛ والعدّة: فعلة من العدد، وهو بمعنى المعدود، ﴿مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ قال سيبويه: ولم ينصرف لأنه معدول به عن الآخر، لأن سبيل هذا الباب أن يأتي بالألف واللام، وقال الكسائي: هو معدول به عن آخر؛ وقيل: إنه جمع أخرى، وليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء.
10. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ قراءة الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وقرأ حميد على الأصل من غير إعلال، وقرأ ابن عباس بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو، أي: يكلّفونه، وروى ابن الأنباري عن ابن عباس: ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين، بمعنى: يطيقونه، وروي عن عائشة وابن عباس وعمرو بن دينار وطاووس أنهم قرؤوا (يطّيّقونه) بفتح الياء وتشديد الطاء مفتوحة، وقرأ أهل المدينة والشام ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ﴾ مضافا، وقرؤوا أيضا مساكين وقرأ ابن عباس: ﴿طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي.
11. اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة؛ فقيل: إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام لأنه شقّ عليهم، فكان من أطعم كلّ يوم مسكينا ترك الصوم وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك، وهذا قول الجمهور، وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة، وهذا يناسب قراءة التشديد، أي: يكلفونه كما مرّ، والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾
12. اختلفوا في مقدار الفدية؛ فقيل: كل يوم صاع من غير البرّ، ونصف صاع منه؛ وقيل: مدّ فقط.
13. ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾، قال ابن شهاب: معناه: من أراد الإطعام مع الصوم، وقال مجاهد: معناه: من زاد في الإطعام على المدّ؛ وقيل: من أطعم مع المسكين مسكينا آخر، وقرأ عيسى ابن عمرو، ويحيى بن وثاب، وحمزة، والكسائي (يطوّع) مشدّدا مع جزم الفعل على معنى يتطوّع، وقرأ الباقون بتخفيف الطاء على أنه فعل ماض.
14. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ معناه: أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية، وكان هذا قبل النسخ؛ وقيل: معناه: وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق.
15. ﴿رَمَضَانَ﴾ مأخوذ من: رمض الصائم يرمض: إذا احترق جوفه من شدة العطش، والرمضاء ممدود: شدّة الحرّ، ومنه: الحديث الثابت في الصحيح: (صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال) أي أحرقت الرمضاء أجوافها، قال الجوهري: وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء ـ يقال: إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام الحرّ فسمي بذلك، وقيل: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها بالأعمال الصالحة، وقال الماوردي: إن اسمه في الجاهلية ناتق، وأنشد للمفضّل:
çوفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى...وولّت على الأدبار فرسان خثعماé
وإنما سمّوه بذلك؛ لأنه كان ينتقهم لشدّته عليهم، وشهر: مرتفع في قراءة الجماعة على أنه مبتدأ خبره.
16. ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: المفروض عليكم صومه شهر رمضان، ويجوز أن يكون بدلا من الصيام المذكور في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، وقرأ مجاهد، وشهر ابن حوشب: بنصب الشهر، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو، وهو منتصب بتقدير: الزموا، أو صوموا، قال الكسائي والفرّاء: إنه منصوب بتقدير فعل: كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا، وأنكر ذلك النحاس وقال: إنه منصوب على الإغراء، وقال الأخفش: إنه نصب على الظرف، ومنع الصرف: للألف والنون الزائدتين.
17. ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ قيل: أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم كان جبريل ينزل به نجما نجما، وقيل: أنزل فيه أوّله؛ وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهذه الآية أعمّ من قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ يعني ليلة القدر.
18. القرآن: اسم لكلام الله تعالى، وهو بمعنى: المقروء، كالمشروب سمي: شرابا، والمكتوب سمي: كتابا؛ وقيل: هو مصدر قرأ يقرأ، ومنه قول الشاعر:
çضحّوا بأشمط عنوان السّجود به...يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآناé
أي: قراءة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ أي: قراءة الفجر.
19. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ منتصب على الحال، أي: هاديا لهم، وقوله تعالى: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾ من عطف الخاص على العام؛ إظهارا لشرف المعطوف بإفراده بالذكر، لأن القرآن يشمل محكمه ومتشابهه، والبينات تختصّ بالمحكم منه، والفرقان: ما فرق بين الحق والباطل، أي: فصل.
20. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ أي: حضر ولم يكن في سفر بل كان مقيما، والشهر منتصب على أنه ظرف، ولا يصح أن يكون مفعولا به، قال جماعة من السلف والخلف: إن من أدركه شهر رمضان مقيما غير مسافر لزمه صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام استدلالا بهذه الآية، وقال الجمهور: إنه إذا سافر أفطر، لأن معنى الآية: إن حضر الشهر من أوّله إلى آخره، لا إذا حضر بعضه وسافر، فإنه لا يتحتم عليه إلا صوم ما حضره، وهذا هو الحقّ، وعليه دلت الأدلة الصحيحة من السنة، وقد كان يخرج صلّى الله عليه وآله وسلّم في رمضان فيفطر.
21. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ فيه أن هذا مقصد من مقاصد الربّ سبحانه، ومراد من مراداته في جميع أمور الدين، ومثله قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ وقد ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يرشد إلى التيسير، وينهى عن التعسير، كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا) وهو في الصحيح، واليسر السهل الذي لا عسر فيه.
22. ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ الظاهر أنه معطوف على قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ أي: يريد بكم اليسر، ويريد إكمالكم للعدّة، وتكبيركم؛ وقيل: إنه متعلق بمحذوف تقديره: رخّص لكم هذه الرخصة لتكملوا العدة، وشرع لكم الصوم لمن شهد الشهر لتكملوا العدة، وقد ذهب إلى الأوّل البصريون قالوا: والتقدير: يريد لأن تكملوا العدّة، ومثله: قول كثيّر أبو صخر:
çأريد لأنسى ذكرها فكأنّما...تمثّل لي ليلى بكلّ سبيلé
وذهب الكوفيون إلى الثاني؛ وقيل: الواو مقحمة، وقيل: إن هذه اللام لام الأمر، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها، وقال في الكشاف: إن قوله: ﴿لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ علة للأمر بمراعاة العدّة ﴿وَلِتُكَبِّرُوا﴾ علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر.
23. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ علة الترخيص والتيسير.
24. المراد بالتكبير هنا: هو قول القائل: الله أكبر، قال الجمهور: ومعناه الحضّ على التكبير في آخر رمضان، وقد وقع الخلاف في وقته، فروي عن بعض السلف أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر، وقيل: إذا رأوا هلال شوال كبروا إلى انقضاء الخطبة، وقيل: إلى خروج الإمام؛ وقيل: هو التكبير يوم الفطر، قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يكبّر في الأضحى؛ ولا يكبّر في الفطر.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/208.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ﴾ ـ فرض ـ ﴿عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
2. مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة لهم، وإحسانا إليهم، وحميّة، وجنّة، فإن المقصود من الصيام: حبس النفس عن الشهوات، وفطمها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به ممّا فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كلّ عضو منها وكلّ قوّة عن جماحها، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنّة المجاهدين، ورياضة الأبرار والمقرّبين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإنّ الصائم لا يفعل شيئا، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته، وهو سرّ بين العبد وربّه، ولا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأمّا كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم، وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها الموادّ الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ الموادّ الردية المانعة له من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوي، كما قال تعالى في تتمة الآية: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: الصوم جنّة، وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه، بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة.
3. هدى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه أكمل الهدى، وأعظم تحصيلا للمقصود، وأسهله على النفوس، ولما كان فطم النفس عن مألوفاتها وشهواتها من أشقّ الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة، لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج، وكان فرضه السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد صام تسعة رمضانات، وفرض أوّلا على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كلّ يوم مسكينا، ثمّ نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة ـ إذا لم يطيقا الصيام ـ فإنهما يفطران ويطعمان عن كلّ يوم مسكينا.
4. كان للصوم رتب ثلاث: أحدها: إيجابه بوصف التخيير، و الثانية: تحتمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة: وهي التي استقرّ عليها الشرع إلى يوم القيامة.
5. ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ تأكيد للحكم، وترغيب فيه، وتطييب لأنفس المخاطبين به؛ فإنّ الشاقّ إذا عمّ سهل عمله! والمماثلة إنّما هي في أصل الوجوب لا في الوقت والمقدار، وفيه دليل على أنّ الصوم عبادة قديمة، وفي التوراة، سفر عزرا، الإصحاح الثاني، ص 750: (وناديت هناك بصوم على نهر أهوا لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب منه طريقا مستقيمة لنا ولأطفالنا ولكل مالنا)، وفي سفر إشعياء، الإصحاح الثامن والخمسون ص 1062: (يقولون لماذا صمنا ولم ننظر، ذلّلنا أنفسنا ولم نلاحظ، ها إنكم في يوم صومكم توجدون مسرّة وبكل أشغالكم تسخّرون، ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمة الشرّ، لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء، أمثل هذا يكون صوم أختاره، يوما يذلّل الإنسان فيه نفسه يحنى كالأسلة رأسه ويفرش تحته مسحا ورمادا، هل تسمي هذا صوما ويوما مقبولا للرب؟).. إلخ، وفي سفر يوئيل، الإصحاح الأول، ص 1299: (قدّسوا صوما)، وفي الإصحاح الثاني، ص 1300: (ولكن الآن يقول الرب: ارجعوا إليّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح، ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة.. قدّسوا صوما نادوا باعتكاف، اجمعوا الشعب قدسوا الجماعة)، وفي سفر زكريا، الإصحاح الثامن، ص 1347: (هكذا قال رب الجنود، إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجا وفرحا وأعيادا طيبة، فأحبوا الحق والسلام)، وفي إنجيل متّى، الإصحاح السادس ص 11: (وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية)، الإصحاح السابع عشر ص 32: (لما رأى عيسى فتى وأخرج منه الشيطان قال لأصحابه، وأما هذا الجنس فلا ـ يخرج إلا بالصلاة والصوم)، وفي الإصحاح الرابع ص 6: فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا ـ أي المسيح عليه السلام ـ)، وفي رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس، الإصحاح السادس ص 295: (بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدّام الله في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات، في ضربات في سجون في اضطرابات في أتعاب في أسهار في أصوام)، وفي الإصحاح الحادي عشر ص 301: (في تعب وكدّ، في أسهار مرارا كثيرة، في جوع وعطش، في أصوام مرارا كثيرة، في برد وعري)
6. متى أطلق الصوم في كل شريعة، فلا يقصد به الّا الامتناع عن الأكل كلّ النهار إلى المساء، لا مجرّد إبدال طعام بطعام.
7. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي: تجعلون بينكم وبين سخطه تعالى وقاية بالمسارعة إليه، والمواظبة عليه، رجاء لرضاه تعالى؛ فإنّ الصوم يكسر الشهوة، فيقمع الهوى، فيردع عن مواقعة السوء.
8. ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ نصب على الظرف، أي: كتب عليكم الصيام في أيام معدودات وهي أيام شهر رمضان، كما بينها تعالى فيما بعد بقوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ أي: مرضا يضرّه الصوم، أو يعسر معه.
9. المرض: السقم وهو نقيض الصحة واضطراب الطبيعة بعد صفائها واعتدالها ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ أي: فأفطر ﴿فَعِدَّةٌ﴾ أي: فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر ﴿مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ غير المعدودات المذكورة، وإنما رخّص الفطر في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة، وقد سافر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلها: في غزوة بدر وغزوة الفتح، قال عمر بن الخطاب: غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في رمضان غزوتين: يوم بدر والفتح، فأفطرنا فيهما.
10. ثبت أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم صام في السفر وأفطر، كما خيّر بعض الصحابة بين الصوم والفطر، ففي الصحيحين: عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في بعض أسفاره في يوم حارّ، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ، وما فينا صائم إلّا ما كان من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وابن رواحة، وقوله (في بعض أسفاره) وقع في إحدى روايتي مسلم، بدله (في شهر رمضان)، وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: سرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو صائم، وفي رواية: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفر، فلما غابت الشمس قال لرجل: انزل فاجدح لنا، فقال: يا رسول الله! لو أمسيت، قال أنزل فاجدح لنا قال إن عليك نهارا، فنزل، فجدح له، فشرب، ثمّ قال إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا ـ وأشار بيده نحو المشرق ـ فقد أفطر الصائم، رواه الشيخان، واللفظ لمسلم، وعن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان، فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر، رواه الشيخان، واللفظ للبخاريّ، وعن قزعة قال: أتيت أبا سعيد الخدريّ فسألته عن الصوم في السفر فقال: سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى مكّة ونحن صيام، قال فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنكم قد دنوتم من عدوّكم، والفطر أقوى لكم! فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر، ثمّ نزلنا منزلا آخر فقال: إنكم مصبحو عدوّكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، وكانت عزمة فأفطرنا، ثم قال لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد ذلك في السفر، رواه مسلم، وعن عائشة: أن حمزة بن عمرو الأسلميّ قال للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أأصوم في السفر؟، ـ وكان كثير الصيام ـ فقال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر، رواه البخاريّ، ورواه مسلم من طريق آخر، أنّه قال يا رسول الله! أجد بي قوّة على الصيام في السفر فهل عليّ جناح؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه، وعن أنس بن مالك قال: كنا نسافر مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، رواه الشيخان.
11. لا يخفى أنّ جواز الصوم للمسافر، إذا أطاقه بلا ضرر، وأمّا إذا شقّ عليه الصوم فلا ريب في كراهته، لما في الصحيحين عن جابر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفر، فرأى زحاما، ورجل قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البرّ الصوم في السفر.. فلا ينافي هذا ما تقدم، كما لا يرد أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لأن السياق والقرائن تدل على تخصيصه بمن شقّ عليه الصوم، وما تقدم، في غيره، قال ابن دقيق العيد: (وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام، وعلى مراد المتكلم؛ وبين مجرد العام على سبب، فإن بين المقامين فرقا واضحا، ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب، فإنّ مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به، كنزول آية السرقة في قصة رداء صفوان، وأمّا السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة إلى بيان المجملات كما في هذا الحديث)، وهو استنباط جيد، وبالجملة: فالمريض والمسافر يباح لهما الفطر، فإن صاما، صحّ، فإن تضرّرا، كره.
12. لم يكن من هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحدّ، ولا صحّ عنه في ذلك شيء، وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبيّ في سفر ثلاثة أميال، وقال لمن صام: قد رغبوا عن هدي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أنّ ذلك سنته وهديه صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما قال عبيد بن جبر: ركبت مع أبي بصرة الغفاريّ صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فلم نجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة، قال اقترب، قلت: ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة: أترغب عن سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ رواه أبو داوود وأحمد، ولفظ أحمد: ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة، فلما دفعنا من مرسانا أمر بسفرته فقربت، ثم دعاني إلى الغداء، وذلك في رمضان، فقلت يا أبا بصرة! والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد، فقال: أترغب عن سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ فقلت لا! قال فلم نزل مفطرين حتى بلغنا ما حوزنا (قيل: أي موضعهم الذي أرادوه) وقال محمد بن كعب: أتيت أنس بن مالك في رمضان ـ وهو يريد السفر ـ وقد رحلت راحلته، وقد لبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال سنّة، ثم ركب، قال الترمذي: حديث حسن، وقال الدارقطنيّ فيه: فأكل وقد تقارب غروب الشمس، وهذه الآثار صريحة أنّ من أنشأ السفر في أثناء يوم من رمضان فله الفطر فيه.
13. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ أي الصوم، إن أفطروا ﴿فِدْيَةٌ﴾ أي إعطاء فدية وهي ﴿طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ و(الفدية) ما يقي الإنسان به نفسه من مال يبذله في عبادة يقصّر فيها، و(الطعام) ما يؤكل وما به قوام البدن ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ بأن أطعم أكثر من مسكين ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ لأنه فعل ما يدل على مزيد حبّه لربه ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾ أيها المطيقون ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من الفدية وإن زادت ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي فضيلة الصوم وفوائده، أو إن كنتم من أهل العلم.
14. ذهب الأكثرون إلى أن هذه الآية منسوخة بما بعدها، فإنه كان في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه، فاشتد عليهم، فرخّص لهم في الإفطار والفدية، كما روى مسلم عن سلمة بن الأكوع قال لما نزلت هذه الآية ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية بعدها فنسختها، وأسند من طريق آخر عن سلمة أيضا قال كنا في رمضان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من شاء صام، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين، حتى أنزلت هذه الآية ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وفي البخاري: قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع: نسختها ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ الآية، ثم روي عن ابن أبي ليلى: حدثنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: نزل رمضان فشقّ عليهم، فكان من أطعم كلّ يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك، فنسخت وأمروا بالصوم، ثم أسند أيضا عن ابن عمر أنّه قال هي منسوخة.
15. روى البخاري في (التفسير): عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كلّ يوم مسكينا، هذا، وقد ذكر البخاري في (التفسير): أنّ أنس بن مالك أطعم ـ بعد ما كبر ـ عاما أو عامين، كلّ يوم مسكينا، خبزا ولحما، وأفطر، رواه تعليقا، ووصله أبو يعلى الموصليّ في (مسنده)، ورواه عبد بن حميد في (مسنده) من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه، وروى محمد بن هشام في فوائده عن حميد قال ضعف أنس عن الصوم عام توفي فسألت ابنه عمر بن أنس: أطاق الصوم؟ قال لا، فلما عرف أنه لا يطيق القضاء أمر بجفان من خبز ولحم فأطعم العدة أو أكثر.
16. لما أبهم الأمر في الأيام عيّنت هنا بقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ لأنّ ذلك أفخم وآكد من تعيينه من أوّل الأمر، وقال الراغب: جعل معالم فرضه على الأهلة ليبادر الإنسان به في كلّ وقت من أوقات السنة، كما يدور الشهر فيه من الصيف والشتاء والربيعين.
17. في رفع ﴿شَهْرٍ﴾ وجهان: أحدهما أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي شهر، يعني الأيام المعدودات، فعلى هذا يكون قوله ﴿الَّذِي أَنْزَلَ﴾ نعتا للشهر أو لرمضان.. و الثاني هو مبتدأ، ثم في الخبر وجهان: أحدهما ﴿الَّذِي أَنْزَلَ﴾؛ و الثاني إنّ ﴿الَّذِي أَنْزَلَ﴾ صفة، والخبر هو الجملة التي هي قوله ﴿فَمَنْ شَهِدَ﴾، فإن قيل: لو كان خبرا لم يكن فيه الفاء لأنّ شهر رمضان لا يشبه الشرط!، قيل: الفاء ـ على قول الأخفش ـ زائدة، وعلى قول غيره ليست زائدة، وإنما دخلت لأنك وصفت الشهر بـ ﴿الَّذِي﴾، فدخلت الفاء كما تدخل في خبر نفس (الذي)، ومثله ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ [الجمعة: 8]، فإن قيل: فأين الضمير العائد على المبتدأ من الجملة؟ قيل: وضع الظاهر موضعه تفخيما أي: فمن شهده منكم، كذا في العكبريّ.
18. ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ أي: ابتدأ فيه إنزاله، وكان ذلك في ليلة القدر، قال الرازيّ: لأن مبادي الملل والدول هي التي يؤرخ بها، لكونها أشرف الأوقات، ولأنها أيضا أوقات مضبوطة معلومة، وقال سفيان بن عيينة: معناه: أنزل في فضله القرآن، وهذا اختيار الحسين بن الفضل، قال ومثله أن يقال: أنزل الله في الصديق كذا آية، يريدون في فضله، وقال ابن الأنباريّ: أنزل ـ في إيجاب صومه على الخلق ـ القرآن، كما يقال: أنزل الله في الزكاة كذا وكذا، يريد في إيجابها، وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها، والله أعلم، قال الحراليّ: أشعرت الآية أنّ في الصوم حسن تلقّ لمعناه، ويسرا لتلاوته، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجّد الليل، وهو صيغة مبالغة من (القرء) وهو ما جمع الكتب والصحف والألواح.
19. في مدحه ـ بإنزاله فيه ـ مدح للقرآن به، من حيث أشعر أنّ من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن، ليوقف على حقيقة ما اتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة، من أنّه لا ريب فيه، وأنه هدى، على وجه أعمّ من ذلك الأول، فقال تعالى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ نصب على الحال، ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ عطف على الحال قبله، فهي حال أيضا، والظرف صفة، أي: أنزل حال كونه هداية للناس، وآيات واضحة مرشدة إلى الحقّ، فارقة بينه وبين الباطل، ولدفع سؤال التكرار في قوله ﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾ إلخ بعد قوله ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾
20. حمل بعض المفسرين الهدى الأول بواسطة النكرة على الهدى الذي لا يقدر قدره المختص بالقرآن أعني هدايته بإعجازه، و الثاني على الهدى الحاصل باشتماله على الواضحات من أمر الدين، والفرقان بين الحلال والحرام والأحكام والحدود والخروج من الشبهات، وثمّة وجه آخر نقله الرازيّ: وهو أن ﴿الْهُدَى﴾ الثاني المراد به التوراة والإنجيل، قال تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران: 3 ـ 4]، فبين تعالى أن القرآن ـ مع كونه هدى في نفسه ـ ففيه أيضا هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان.
21. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر ـ أي: حضر فيه بأن كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح في بدنه ـ أن يصوم لا محالة، ووضع الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان.
22. ثم أعيد ذكر الرخصة بقوله تعالى ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ لئلّا يتوهم من تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنّه خير، أن الصوم حتم لا تتناوله الرخصة بوجه، أو تتناوله، ولكنها مفضولة، وفيه عناية بأمر الرخصة، وأنها محبوبة له تعالى كما ورد، وفي إطلاقه، إشعار بصحة وقوع القضاء متتابعا وغير متتابع.
23. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ أي تشريع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر، وبقصر الصوم على شهر ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ في جعله عزيمة على الكلّ، وزيادته على شهر، قال الحراليّ: اليسر عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، والعسر ما يجهد النفس ويضرّ الجسم، قال الشعبيّ: إذا اختلف عليك أمران، فإنّ أيسرهما أقربهما إلى الحقّ، لهذه الآية، وروى الإمام أحمد مرفوعا: إنّ خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، وروى أيضا: إنّ دين الله في يسر (ثلاثا)، وفي الصحيحين: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لمعاذ وأبي موسى، حين بعثهما إلى اليمن: يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا، وتطاوعا ولا تختلفا، وفي السنن والمسانيد: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال بعثت بالحنيفية السمحة، أي التي لا إصر فيها ولا حرج، كما قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]
24. ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، علل لفعل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره، ولهذه الأمور شرع ذلك، يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخّص له بمراعاة عدّة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله: ﴿لِتُكْمِلُوا﴾ علّة الأمر بمراعاة العدّة، ﴿وَلِتُكَبِّرُوا﴾، علّة ما علّم من كيفية القضاء، والخروج عن عهدة الفطر.
25. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ علّة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك، لا يكاد يهتدي إلى تبيّنه إلّا النقّاب المحدث من علماء البيان! وإما عدّي فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمنا معنى الحمد، كأنه قيل: ولتكبّروا الله حامدين على ما هداكم، ومعنى ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ وإرادة أن تشكروا، ويجوز عطفها على اليسر أي: يريد بكم لتكملوا.. كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا﴾ [الصف: 8]
26. المراد بالتكبير تعظيمه تعالى والثناء عليه ـ كذا أفاده الزمخشري، قال الحراليّ: وفي لفظ: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾، إشعار لما أظهرته السنّة من صلاة العيد، وأعلن فيها بالتكبير، وكرر مع الجهر فيها لمقصد موافقة معنى التكبير الذي إنّما يكون علنا، وجعلت في براح من متسع الأرض لمقصد التكبير، لأن تكبير الله إنما هو بما جلّ من مخلوقاته، وقال ابن كثير: وقوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾، أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، كما قال: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200] وقال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10] وقال: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ [ق: 39 ـ 40] ولهذا جاءت السنّة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات، وقال ابن عباس: ما كنّا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا بالتكبير، ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعيّة التكبير في عيد الفطر من هذه الآية، حتى ذهب داوود بن عليّ الأصبهانيّ الظاهريّ إلى وجوبه في عيد الفطر، لظاهر الأمر في قوله ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة: أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر، والباقون على استحبابه، وفي (زوائد المشكاة) عن عبد الله بن عمر أنّه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلّى، ثم يكبّر حتى يأتي الإمام، وفي رواية: رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ رواه الدارقطنيّ، وعن نافع أنّ ابن عمر كان يغدو إلى المصلّى يوم الفطر إذا طلعت الشمس فيكبّر حتى يأتي المصلّى، ثم يكبّر بالمصلّي حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير، رواه الشافعيّ، قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعيّ: حديث أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعا صوته بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى، رواه الحاكم والبيهقيّ من حديث ابن عمر من طرق مرفوعا وموقوفا، وصحّح وقفه، ورواه الشافعيّ موقوفا أيضا، وفي الأوسط عن أبي هريرة مرفوعا: زينوا أعيادكم بالتكبير، إسناده غريب.
27. فائدة طلب الشكر في هذا الموضع، هو أنّه تعالى، لما أمر بالتكبير، وهو لا يتم إلّا بأن يعلم العبد جلال الله وكبرياءه وعزته وعظمته، وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء، وأوصاف الواصفين، وذكر الذاكرين، ثمّ يعلم أنه سبحانه ـ مع جلاله وعزّته واستغنائه عن جميع المخلوقات، فضلا عن هذا المسكين ـ خصه الله بهذه الهداية العظيمة ـ لا بدّ وأن يصير ذلك داعيا للعبد إلى الاشتغال بشكره، والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته، فلهذا قال ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أفاده الرازيّ.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/17.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا﴾ حال من الكتب المحذوف المنصوب على المفعوليَّة المطلقة، أي: (كتب عليكم الصِّيام الكتبَ ثابتًا كما)، أو نعت لمصدر محذوف، أي: (كتِبَ كتبًا كَمَا) أو (صومًا مماثلاً للصَّوم الذي كتب)، أو حال من (الصِّيَام)، أو نعت له لأنَّ (ال) فيه للجنس فهو كالنَّكرة، أو يقدَّر المتعلِّق معرفة، أي: (الثابت كما)، و(ما) اسم في ذلك، إلَّا في الأوَّلين فمصدريَّة.
2. ﴿كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ من الأنبياء وأممهم ولو تفاوت قدرًا وزمانًا، وقيل: لم يتفاوت من آدم إلى عهدكم، قال علي: (ما أخلى الله أمَّة مِن فَرضِ الصَّوم، فارغبُوا فيه، وطيبُوا نفسًا به، واستسهلوه)، والمشقَّة إذا عمَّت طابت.
3. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ المعاصي وما لا يَعْنِي فيه؛ لأنَّه يكسر النفس فَتَغْتَنِمُوا فيه، وتصفو قلوبكم به لما بعدُ، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (يا معشرَ الشبابِ مَن اِستطاعَ مِنكم البَاءَةَ فليتزوَّجْ، فَإنَّهُ أَغضُّ للبصرِ، وأحصنُ للفرجِ، ومن لم يستَطِعْ فَعليهِ بالصومِ، فَإنَّ الصومَ لهُ وِجاءٌ)، أو تتَّقون التقصير فيه وإفساده، أو تركه، يشير إلى أنَّ قِدمه وعمومَه من موجبات المحافظة عليه، فلا تكونوا بتركها أنقص من غيركم وأنتم أفضل الأمم ونبيئكم أفضل الأنبياء.
4. ويقال: كان على النصارى صوم رمضان فربَّما وقع في حرٍّ، وربَّما وقع في بردٍ فحوَّلوه للربيع، وزادُوا عشرين يومًا كفَّارة لتحويله، والمراد أنَّ غالبه في الربيع أمَّا أقلُّه ففي فبراير، فإنَّ أوَّل صومهم في ثامن فبراير فسبعة أيَّامٍ قبل الربيع، ويقال: ترك اليهود رمضان وصاموا يوما في السنة قالوا: إنَّه يوم غرق فرعَوْن، وزاد فيه النصارى يومًا قبله ويومًا بعده احتياطًا حتَّى بلغوا خمسين، فشقَّ عليهم للحَرِّ والبردِ فنقلوه إلى زمان حلول الشمس في برج الحمل، فالمماثلة في قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ مماثلة في الوجود والمقدار والزمان، وهو عين رمضان، وقيل: في أصل الوجوب، وقيل: زادوا عشرة كفَّارة للتحويل ثمَّ مرض ملكهم بأكل لحم فشفاه الله، فزاد خمسة، وقال آخر: أتمُّوه خمسين؛ وقيل: زادوا عشرين لموت أصاب مواشيهم؛ وقيل: لموتٍ أصاب أنفسهم.
5. ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾ متعلِّق بـ (الصِّيَام)، أي: كتب عليكم الصيام في أيَّام معدودات، أي: كتب عليكم أنْ تصوموا في أيَّامٍ معدودات، ولا بأس بالفصل لقلَّته وظهور المعنى، وهو أولى من الحذف، ومن كل ما هو خلاف الأصل، أو يقدَّر: صوموا أيَّامًا معدودات بدليل (الصيام)، وفيه السلامة من الفصل بـ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وبأجنبيٍّ، وهو: (كَمَا كُتِبَ)، إلَّا أنهم يتوسَّعون في الفصل بالظروف.
6. ووَصَفَها بـ (مَعْدُودَاتٍ) تقليلاً لها، أي: هي دون أربعين على ما قيل من أنَّ المعتاد إذا ذكر لفظ العدد فالمراد ما دونها، وأيضًا من شأن القليل أنْ يُعدَّ ومن شأن الكثير أنْ يُهَال، فيكون المعنى: أيَّاما مضبوطة بالعدِّ لا مجازفًا بها.
7. وكلٌّ من (أيَّام) و(معدودات) جمع قلَّة فلو شاء لقال: أيَّامًا معدودة، بإفراد معدودة، ولو شاء لقال: شهرًا معدودًا، أو جملة معدودة، وفي ذلك تسهيل، أو لعلَّكم تتَّقون المكاره والمعاصي والكسل في أيَّام معدودات، أو يتعلَّق بضمير (كُتِبَ) الثاني لعوده للصيام عند الكوفيِّين، أي: كما كتب على الذين من قبلكم أنْ يصوموا أيَّامًا معدودات، أو بـ (كُتِبَ) الأوَّل أو الثاني لتضمُّنه معنى: صوموا، أو المعنى: كُتب عليكم الصيام كتابة شبيهة بكتابته على من قبلكم في كونه في أيَّامٍ معدودات، وقيل: الأيَّام المعدودات يوم عاشوراء وثلاثة من كلِّ شهر ثم وجب رمضان دونهنَّ، وقيل: لم يفرض قبله صوم، وقيل فرض قبله عاشوراء، وقيل: أيَّام البيض، ولا يقال: لو أريد بهنَّ رمضان لكان ذكر المريض والمسافر تكرارا لأنَّا نقول: وجب الصوم على التخيير بينه وبين الفدية، ثمَّ وجب بلا تخيير فنبَّه على أنَّ رخصة السفر والمرض باقية وأيضًا المسافر والمريض ممَّن شهد الشهر.
8. ﴿فَمَن كَانَ مِنكُمْ﴾ معشر البالغين العقلاء الداخل عليهم رمضان، ﴿مَّرِيضًا﴾ مرضا يشقُّ معه الصوم بعض مشقَّةٍ، أو يضرُّه أو يتأخَّر معه برؤه، أو يزيد به المرض، وذلك بالتجربة أو بإخبار الطبيب المسلم الحاذق لقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، فإذا كان الصوم يعسر مع مرض حلَّ الإفطار، لا كما قيل عن ابن سيرين أنَّه أفطر لوجع إصبعه، ولا كما قال الشافعي: لا يفطر حتَّى يجهده الجهد الذي لا يحتمل، وروي عن مالك أنَّه يفطر صاحب الرمد الشديد أو الصداع المضرِّ، وليس به مرض يضجعه إنْ شاء، واحتجَّ من أباح الإفطار بالمرض ولو لم يعسر ولم تكن فيه مشقَّة بإطلاق الآية، وهو رواية عن الشافعي، وهو قول ابن سيرين والحسن البصريِّ، وبأنَّ السفر قد يخلو عن مشقَّة وحلَّ الإفطار فيه ولو بلا مشقَّة لأنَّه سبب لها، ويجاب بأنَّ الرخصة لم تتعلَّق بنفس المرض لتنوُّعه إلى ما يزاد بالصوم وإلى ما يخفُّ به، وما يخفُّ به لا يكون مرخِّصًا البتَّة، فجعل ما يزاد به مرخِّصًا، بخلاف السفر لأنَّه لا يعرى عن المشقَّة، فجعل نفس السفر عذرًا.
9. ﴿اَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ ثابتًا أو راكبًا على سفر، ولو قصيرًا بعد مجاوزة الفرسخين ممَّا استوطنه، ولو لم يجاوز الحوزة على التحقيق إنْ جاوزهما ليلا فبيَّت الإفطار من الليل، أو جاوزهما نهارًا فإذا جاء الليل بيَّت الإفطار؛ أو صام يومًا في السفر، فإذا جاء الليل بيَّت الإفطار، وإن أفطر نهارًا قبل المجاوزة أو بعدها نهارًا، أو بلا تبييت فلا كفَّارة عليه لشبهة السفر، ولشبهة أقوال العلماء فيه، حتَّى إنَّ منهم من أجاز أن يفطر من بيته.
10. وَأَمَّا المريض فيبيِّت الإفطار من الليل، وإنْ أفطر بلا تبييت لشبهة المرض فلا كفَّارة عليه، وإن اشتدَّ المرض بحيث لا يطيق الصوم وخاف على نفسه أو عضوه أفطر بقدر ما يصل به الليل، وقيل: أو بما شاء، فيبيِّت نيَّة الإفطار في الليل المستقبل، وزعم بعض قومنا أنَّه يفطر المريض بلا تبييت إفطار بخلاف المسافر؛ لقوله تعالى: ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ وليس بشيءٍ؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم﴾ [محمَّد: 33]، فليتمَّ المريض يومه إن قدر على إتمامه كالمسافر، والمسافر متمكِّن على السفر في أثناء اليوم كما تمكَّن عليه وقت طلوع الفجر، وإنْ كان السَّفر لمعصية لم يجز له الإفطار على الصحيح، وعليه الأكثر، ويجب الإفطار إنْ كان الصوم يضرُّ المريض والمسافر، وإلَّا ولا مشقَّة فالصوم أفضل عند بعضٍ، والإفطار أفضل عند بعض، وأوجبته الإماميَّة، وأخطؤوا.
11. ﴿فَعِدَّةٌ﴾ قدر ما أفطر، بمعنى: معدودة، كالطحن بمعنى: المطحون، ﴿مِّنَ اَيَّامٍ اُخَرَ﴾ فعليه صوم عدَّة إنْ أفطر، أو يقدَّر: فأفطَرَ عقب قوله: ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾، وكذلك عليه عدَّة الشهر إنْ أفطره كلَّه، إنْ كان تسعة وعشرين قضى تسعة وعشرين فقط، ولو بدأ القضاء من أوَّل شهر وكان فيه ثلاثون فلا تَهِمْ، فإنَّما عليه قضاء شهر رمضان الذي خوطب به، فإذا كان من تسعة وعشرين لم يزدد، والآية حجَّة لي، وذَكَر بعض أصحابنا(2) وشهَّروه وبعض قومنا أنَّه إنْ بدأ من أوَّل الشهر أتمَّه زاد على رمضان أم نقص، وبعض: إنْ نقصَ أَتَمَّه، و(مِن) للبيان أو للتبعيض، أي: عدَّة من جملة أيَّام، مثل أنْ يخصَّ أيَّاما من شهرٍ كأوَّله ووسطه وآخره.
12. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ إن أفطروا في غير سفر، أو يقدَّر هذا بعد ﴿فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ﴾ أي: فدية هي طعام مساكين، والجمع باعتبار الجمع في إفطاره بأنْ أفطر ثلاثة أيَّام فصاعدًا، ولو أفطر يومًا لكان فدية طعام مسكين بالإفراد، أو يومين لكان طعام مسكينين، يكال لكلِّ مسكين مدَّان من بُرٍّ أو أربعة من غيره عند العراقيِّين، ومدًّا من برٍّ عند الحجازيِّين، ويجوز ذلك من غالب قوت البلد، وأجيز مدَّان من شعير، ويجوز أنْ يأكل في بطنه حتَّى يشبع غداء وعشاء، وأجيز أكلة واحدة حتَّى يشبع، وإنْ لم يفطروا فلا فدية عليهم ثمَّ نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، أو بقوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ﴾، وبقوله: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم﴾ وذلك تدريج لهم لمشقَّته إذ لم يتعوَّدوه ليتدرَّبوا، والنسخ بعد العمل هنا، ولو كان الصحيح أنَّه يجوز قبل العمل أيضًا، وحكمته قبل العمل قبول المنسوخ والإذعان له قبل نسخه، فيثاب على ذلك وغيره ممَّا قرَّرته في أصول الفقه، وعن ابن عبَّاس: كانوا يفطرون ويطعمون ولو أصبحوا على الصوم.
13. ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ عالج الطاعة بصوم أكثر من العدَّة التي أفطر فيها، أو بإطعام أكثر ممَّا لزمه، ﴿فَهُوَ﴾ أي: الخير وهو صوم الزائد على العدَّة، أو على الإطعام الواجب، أو الضمير للتطوُّع، ﴿خَيْرٌ لَّهُ﴾ أفضل ثوابًا، فهو نفع له أخرويٌّ.
14. ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم﴾ من الإطعام والإفطار ولو مع زيادة على القدر الواجب في الإطعام، أو خير لكم من الإفطار والإطعام والزيادة فيه، وإن قدَّرنا: (لا يطيقونه) لنحو كبر من العلل اللازمة، أو الذين كانوا يطيقونه ثمَّ عجزوا لِكبر ونحوه من العلل اللازمة ـ مع ما فيهما من التكلُّف ـ فلا نسخ، وقدَّر بعضهم: لا يطيقونه، أو كانوا يطيقونه شاملا لكبر ونحوه، وحمل ورضاع، إلَّا أنَّ الحامل والمرضع تقضيان ولو أطعمتا، ولا إطعام على مريض يرجى برؤه، وَأَمَّا قوله تعالى : ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ على إبقائه بلا تأويل بـ (كانوا)، ولا بـ (لَا) فغير شامل للحامل والمرضع؛ لأنَّهما ولو تطيقان لكن خافتا على الحمل والرضيع، وتفطران وجوبًا وتطعمان وتقضيان، بخلاف الصحيحِ المطيق فإنَّ إفطاره على التخيير بينه وبين الصوم ولا قضاء عليه، وذلك قبل النسخ، ومن عجز بعده على الصوم لكبر أو علَّة لازمة أفطر وأطعمَ، وقيل: لا إطعام عليه، وقال بعض: على الحامل والمرضع القضاء والإطعام إن خافتا على الولد، وإن خافتا عليهما فقط أو عليهما وعلى الولد فالقضاء فقط، وقال أبو حنيفة: لا إطعام على الحامل والمرضع لأنَّهما تقضيان بخلاف الكبير، وعن الحسن: أيُّ مرض أشدُّ من الحمل!؟ تفطر الحامل وتقضي ولا تطعم، خافت على نفسها أو ولدها أو عليهما، ويقال: الصوم خير لمن تطوَّع به وهو مريض أو مسافر مع عدم شدَّة المشقَّة، وَأَمَّا معها فالإفطار خير، والمطيق بحسب الأصل: اسم القادر على الشيء مع شدَّة، فتشمل الآية الكبير بلا تقدير (لا)، وبلا تقدير (كانوا).
15. ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يظهر لكم أنَّه خير إن كنتم من أهل العلم، وإن كنتم تعلمون ثوابه وحُسن براءة الذمَّة اخترتموه، أو فافعلوه.
16. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ إضافة عامٍّ لخاصٍّ، كشجر أراك، وهي للبيان، أي: شهر هو رمضان، فيجوز ذكر رمضان بلا شهر، وليس اسمًا لله كما ادَّعى من زعم أنَّه مرويٌّ، والمعنى: كتب عليكم الصيام، صيام شهر رمضان ﴿الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْءَانُ﴾ أو تلكم الأيَّام المعدودات ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِل﴾، أو شهر رمضان، الشهر الذي أنزل فيه القرآن بمرَّة كلُّه إلى السماء الدنيا.
17. والشهر من شَهرتُ الشيء: أظهرتُه؛ لأنَّ الشهور تُعيَّن للعبادة أو للمعاملة، ورمضان من الرمْض (بإسكان الميم)، وهو مطر يأتي قبل الخريف يزيل الغبار عن وجه الأرض، فكذلك صومه يزيل الذنوب، وقيل: سمِّي لارتماضهم فيه عامًا بالجوع والعطش، أو لوقوعه أيَّام رمَض، أي: شدَّة حرٍّ، فسمِّي بعدُ، ولو لم يكن جوع أو عطش أو حرٌّ، أو لاحتراق الذنوب، إلَّا أنَّ هذا يناسب النزول لا ما قبله، ولا بأس، بل هو المرويُّ عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أو لمرض الفصال، قيل: نقلت أسماء الشهور على أسمائها الأولى: دفعة، وقيل: تدريجًا، واختير الأوَّل، ووجه الثاني: أنَّهم حفظوا لكلِّ شهر ما وقع فيه، وَلَمَّا تمَّت اتُّفق أنَّهم سمَّوها لتحريم القتال في المحرَّم، وخلوِّ مكَّة عن أهلها في صفر للحرب، وارتباع الناس في الربيعين، وجمود الماء في الجمادين، وشوال أذناب اللقاح في شوَّال، ورجب الناس شجرهم بالعمد لعظم حملها، وتعظيمهم ـ ولو في الجاهليَّة ـ رجبًا، حتَّى إنَّهم يحجُّون فيها كما في ذي الحجَّة، والرجب: التعظيم، وقعودهم عن الحرب في ذي القعدة، وحجُّهم من قبْل الإسلام في ذي الحجَّة أصالة، وتشعُّب القبائل في شعبان.
18. ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ حال كونه هاديًا، وإسناد الهداية إليه مجاز عقليٌّ، ولولا قوله: ﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾ لكان مفعولا من أجله، أي: وآيات واضحات، والهدى أعمُّ لأنَّه يكون بواضح وخفيٍّ، ﴿مِّنَ الْهُدَى﴾ مِمَّا يهدي إلى الحقِّ ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾ ومن الفرقان، مِمَّا يفرق بين الحقِّ والباطل، الهدى الأوَّل: هداية حاصلة بإعجازه، والهدى الثاني: هو الهدى الحاصل باشتماله على الحقِّ، والتفريق بينه وبين الباطل لما فيه من أنواع الحكمة وأمور الدين، من واجب وحرام ومستحبٍّ، أو الأولى: الآداب والديانات الاعتقاديَّة، والثانية: أمور الدين، أو الأولى: الاعتقادات، والثانية: باقي ما ذكر، فلا تكرير.
19. ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ المذكورَ، أي: حضره بالغًا عاقلا صحيحًا قادرًا غير مسافر، رأى الهلال هو أو غيره، أو استكمل العدَّة لشعبان، وليس الشهر مرادًا به الهلال، فسمِّي أوَّل الشهر باسم كلِّه، أو يقدَّر مضاف، قال ابن عبَّاس وعليٌّ وابن عمر: من شهد أوَّل الشهر فليصمه جميعَه ولا يفطر، ولو سافر، ولذلك قال الله جلَّ وعلا: ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ ولم يقل: فليصم فيه، والصحيح أنَّ لمن شهد أوَّله أن يسافر ويفطر، والآية لا تمنع ذلك بل توجب الصوم على حاضره ما لم يكن مريضًا أو مسافرًا؛ ولو جُنَّ في باقيه حتَّى انسلخ فإنَّه يقضي، أو جنَّ قبله وأفاق فيه فإنَّه يقضي ما مضى، وقيل: لا يقضيان بناء على أنَّ كلَّ يوم فرض، وإن جنَّ قبله وأفاق بعده فلا قضاء عليه لأنَّه لم يشهده.
20. ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا اَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنَ اَيَّامٍ اُخَرَ﴾ كرَّره لئلَّا يُتوهَّم أنَّهما داخلان فيمن شهد المعبَّر به هنا دون ما مضى، ولئلَّا يتوهَّم نسخ قوله أوَّلاً: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا﴾ بقوله هنا: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ بأن يجب الصوم على المريض والمسافر مع أنَّه ليس كذلك، كما نسخ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾.
21. ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ في دينه، أي: يشرِّعه، وهو مراد أبي حيَّان إذ فسَّر الإرادة بالطلب، قال ذلك خروجًا عن تبدُّل الإرادة، فإنَّ إرادة الله لا تتبدَّل، وذلك منه خروج عن مذهب الاعتزال، إذ زعمت المعتزلة أنَّ إرادته تعالى قد يخالفها العبد وتبطل.
22. ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ ومن ذلك أنَّه أباح الإفطار في المرض والسفر دائمًا، وخيَّر بين الصوم والإطعام أوَّلاً، تسهيلاً أو تأنيسًا ثمَّ نسخ لَمَّا تدرَّبتم فتوفَّر لكم الأجر.
23. ﴿وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ﴾ اللام ليست للأمر بإكمال ما أفطرتم فيه، أو بإكمال عدَّة رمضان ثلاثين أو تسعة وعشرين، بل للتعليل عطفًا على المعنى، كعطف التوهُّم في غير القرآن؛ لأنَّ قوله: ﴿يُرِيدُ﴾ في معنى العلَّة للأمر بالصوم، وكذا قوله: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ﴾ ولا تكون لام الأمر؛ لأنَّ أمْرَ المخاطب باللام يختصُّ بالضرورة أو شاذٌّ أو لغية.
24. ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ أي: ولتُثنوا عليه لأجل هدايته إيَّاكم لدينه، أو تثنوا عليه حامدين عليها، والتكبير للتعظيم والثناء؛ وقيل: تكبير العيد من المغرب إلى صلاة العيد؛ وقيل: تكبير رؤية الهلال.
25. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ اللهَ على التيسير والترخيص، ويجوز أن يكون المعنى: فصوموا عدَّة أيَّام أخر لتكملوا العدَّة التي لم يصم المريض والمسافر في مثل تلك العدَّة، وهداكم كيفيَّة القضاء متتابعًا، كما دلَّ له لفظ (عدَّة)، كأنَّه قيل: مجموعة بِنِيَّة من الليل نيَّة واحدة له، لتكبِّروا الله على إرشادكم إلى الحقِّ، ولا سيما القضاء المطلق، ورخَّص في الإفطار للمسافر والمريض وحامل ومرضع، لكي تشكروا، أو العطف على محذوف، أي: ليسهِّل، ولتكملوا، أو لتعلموا ما تعملون، ولتكملوا.
26. ولا يخفى أنَّ أمر الله ونهيه يتخلَّفان، يأمر المكَّلفَ ولا يمتثل، وينهاه ولا ينتهي، وإرادته لا تتخلَّف كما قال أبو حيَّان ردًّا منه على المعتزلة؛ فلا يجوز العطف على اليسر بزيادة اللام، هكذا: يُريِدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وتكميلَ العدَّة، فقد لا يكملها ولا يكبِّر الله، وقد قضى الله بالتكبير والتكميل، هذا باطل لا يصحُّ، إلَّا أن يُتكلَّف بتأويل الإرادة هنا بالأمر، وصائم رمضان يثاب على ثلاثين يومًا ولو نقص الشهر؛ لأنَّه نوى إن تمَّ صامه تامًّا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/313.
(2) يقصد الإباضية
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الكلام في سرد الاحكام، فلا حاجة الى التناسب بين كل حكم وما يليه.
2. الصيام في اللغة الامساك والكف عن الشيء، وفي الشرع الامساك عن الأكل والشرب وغشيان النساء من الفجر الى المغرب احتسابا لله، واعدادا للنفس وتهيئة لها لتقوى الله بالمراقبة له وتربية الارادة على ترك كبح جماح الشهوات، ليقوى صاحبها على ترك المضار والمحرمات.
3. كتب الصوم على أهل الملل السابقة فكان ركنا من كل دين لأنه من أقوى العبادات وأعظم ذرائع التهذيب، وفي إعلام الله تعالى لنا بأنه فرضه علينا كما فرضه على الذين من قبلنا اشعار بوحدة الدين في أصوله ومقصده، وتأكيد لأمر هذه الفرضية وترغيب فيها، قال محمد عبده: أبهم الله هؤلاء الذين من قبلنا والمعروف ان الصوم مشروع في جميع الملل حتى الوثنية فهو معروف عن قدماء المصريين في أيام وثنيتهم، وانتقل منهم الى اليونان فكانوا يفرضونه لا سيما على النساء، وكذلك الرومانيون كانوا يعنون بالصيام، ولا يزال وثنيو الهند وغيرهم يصومون الى الآن، وليس في أسفار التوراة التي بين أيدينا ما يدل على فرضية الصيام، وإنما فيها مدحه ومدح الصائمين، وثبت ان موسى عليه السّلام صام أربعين يوما وهو يدل على ان الصوم كان معروفا مشروعا ومعددا من العبادات، واليهود في هذه الازمنة يصومون أسبوعا تذكارا لخراب أورشليم وأخذها، ويصومون يوما من شهرآب.. وينقل أن التوراة فرضت عليهم صوم اليوم العاشر من الشهر السابع وانهم يصومونه بليلته ولعلهم كانوا يسمونه عاشوراء، ولهم ايام أخر يصومونها نهارا.
4. أما النصارى فليس في اناجيلهم المعروفة نص في فريضة الصوم وإنما فيها ذكره ومدحه، واعتباره عبادة كالنهي عن الرياء وإظهار الكآبة فيه، بل تأمر الصائم بدهن الرأس وغسل الوجه حتى لا تظهر عليه أمارة الصيام فيكون مرائيا كالفرّيسيين، وأشهر صومهم وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى عليهما السّلام، والحواريون رضي الله عنهم، ثم وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام وفيها خلاف بين المذاهب والطوائف، ومنها صوم عن اللحم وصوم عن السمك وصوم عن البيض واللبن، وكان الصوم المشروع عند الاولين منهم كصوم اليهود يأكلون في اليوم والليلة مرة واحدة، فغيروه وصاروا يصومون من نصف الليل الى نصف النهار.
5. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي فرض عليكم كما فرض على المؤمنين من اهل الملل قبلكم، فهو تشبيه الفرضية بالفرضية، ولا تدخل فيه صفته ولا عدة ايامه، وفي قصتي زكريا ومريم عليهما السّلام انهم كانوا يصومون عن الكلام، أي مع الصيام عن شهوات الزوجية والشراب والطعام، قال البيضاوي: (ان الصوم في اللغة الامساك عما تنازع اليه النفس، لا مطلق الامساك كما يقول الجمهور، وقال أبو عبيدة من رواة اللغة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم، ثم قال خيل صيام وخيل غير صائمة أي قيام بلا اعتلاف)
6. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو انه يعدّ نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالا لأمره واحتسابا للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم (الصيام نصف الصبر) رواه ابن ماجه وصححه في الجامع الصغير، وهذا معنى دلالة (لعل) على الترجي فالرجاء انما يكون فيما وقعت اسبابه، وموضعه هنا المخاطبون لا المتكلم، ومن لم يصم بالنية وقصد القربة لا ترجى له هذه الملكة في التقوي، فليس الصيام في الاسلام لتعذيب النفس لذاته بل لتربيتها وتزكيتها، قال محمد عبده: إن الوثنيين كانوا يصومون لتسكين غضب آلهتهم اذا عملوا ما يغضبهم، أو لإرضائها واستمالتها الى مساعدتهم في بعض الشؤون والاغراض، وكانوا يعتقدون ان إرضاء الآلهة والتزلف اليها يكون بتعذيب النفس وإماتة حظوظ الجسد، وانتشر هذا الاعتقاد في أهل الكتاب، حتى جاء الاسلام يعلمنا ان الصوم ونحوه انما فرص لأنه يعدنا للسعادة بالتقوى، وان الله غني عنا وعن عملنا، وما كتب علينا الصيام إلا لمنفعتنا.
7. معنى (لعل) الاعداد والتهيئة، وإعداد الصيام نفوس الصائمين لتقوى الله تعالى يظهر من وجوه كثيرة(2). أعظمها شأنا، وأنصعها برهانا، وأظهرها أثرا، وأعلاها خطرا (شرفا) أنه أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه فيه إلا الله تعالى، وسر بين العبد وربه لا يشرف عليه أحد غيره سبحانه، فاذا ترك الانسان شهواته ولذاته التي تعرض له في عامة الاوقات لمجرد الامتثال لأمر ربه والخضوع لإرشاد دينه مدة شهر كامل في السنة، ملاحظا عند عروض كل رغيبة لهـ من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة، وغير ذلك كزينة زوجه أو جمالها الداعي إلى ملابستها ـ انه لولا اطلاع الله تعالى عليه ومراقبته له لما صبر عن تناولها وهو في أشد التوق لها، لا جرم أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملكة المراقبة لله تعالى والحياء منه سبحانه أن يراه حيث نهاه، وفي هذه المراقبة من كمال الايمان بالله تعالى والاستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبر معد للنفوس ومؤهل ها لضبط النفس ونزاهتها في الدنيا، ولسعادتها في الآخرة كما تؤهل هذه المراقبة النفوس المتحلية بها لسعادة الآخرة تؤهلها لسعادة الدنيا أيضا، انظر هل يقدم من تلابس هذه المراقبة قلبه على غش الناس ومخادعتهم؟ هل يسهل عليه أن يراه الله آكلا لأموالهم بالباطل؟ هل يحتال على الله تعالى في منع الزكاة وهدم هذا الركن الركين من أركان دينه؟ هل يحتال على أكل الربا؟ هل يقترف المنكرات جهارا؟ هل يجترح السيئات ويسدل بينه وبين الله ستارا؟ كلا؟ ان صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى، وإذا نسي وألمّ بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الفيء والرجوع بالتوبة الصحيحة ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ فالصيام أعظم مرب للإرادة، وكابح لجماح الاهواء، فأجدر بالصائم أن يكون حرّا يعمل ما يعتقد أنه خير، لا عبدا للشهوات.
8. انما روح الصوم وسره في هذا القصد والملاحظة التي تحدث هذه المراقبة وهذا هو معنى كون العمل لوجه الله تعالى، وقد لاحظه من أوجب من الأئمة تبييت النية في كل ليلة ويؤيد هذا ما ورد من الاحاديث المتفق عليها كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من صام رمضان ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ـ قالوا أي من الصغائر، وقد يكون الغفران للكبائر مع التوبة منها لان الصائم احتسابا وإيمانا على ما بينا يكون من التائبين عما اقترفه فيما قبل الصوم، وقوله في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) وفي حديث آخر (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) رواهما البخاري وغيره.
9. من وجوه إعداد الصوم للتقوى أن الصائم عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتا فيحمله التذكر على الرأفة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، وقد وصف الله تعالى نبيه بأنه رَؤُوف رحيم، ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم ولذلك أمرهم بالتأسي به ووصفهم بقوله ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾
10. ومن فوائد عبادة الصيام الاجتماعية المساواة فيه بين الأغنياء والفقراء والملوك والسوقة، ومنها تعليم الامة النظام في المعيشة فجميع المسلمين يفطرون في وقت واحد لا يتقدم أحد على آخر دقيقة واحدة وقلما يتأخر عنه دقيقة واحدة.
11. ومن فوائده الصحية انه يفني المواد الراسبة في البدن ولا سيما ابدان المترفين أولي النهم وقليلي العمل، ويجفف الرطوبات الضارة، ويطهر الامعاء من فساد الذرب والسموم التي تحدثها البطنة، ويذيب الشحم أو يحول دون كثرته في الجوف وهي شديدة الخطر على القلب، فهو كتضمير الخيل الذي يزيدها قوة على الكر والفرّ، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم (صوموا تصحوا) رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة وأشار في الجامع الصغير الى حسنه ويؤيده (اغزوا تغتنموا وصوموا تصحوا وسافروا تستغنوا) رواه الطبراني في الاوسط عنه، وقال بعض أطباء الافرنج ان صيام شهر واحد في السنة يذهب بالفضلات الميتة في البدن مدة سنة.
12. وأعظم فوائده كلها الفائدة الروحية التعبدية المقصودة بالذات وهي أن يصوم لوجه الله تعالى كما هو الملاحظ في النية على ما قدمنا، ومن صام لأجل الصحة فقط فهو غير عابد لله في صيامه فاذا نوى الصحة مع التعبد كان مثابا كمن ينوي التجارة مع الحج، فإنه لولا العبادة لا كتفي بالجوع والحمية، وآية الصيام بهذه النية والملاحظة التحلي بتقوى الله تعالى وما يتبعها من أحاسن الصفات والخلال، وفضائل الاعمال، وقال محمد عبده: لا أشك في أن من يصوم على هذا الوجه يكون راضيا مرضيا مطمئنا بحيث لا يجد في نفسه اضطرابا ولا انزعاجا، نعم ربما يوجد عنده شيء من الفتور الجسماني وأما الروحاني فلا، وأعرف رجلا لا يغضب في رمضان مما يغضب له في غيره، ولا يمل من حديث الناس ما كان يمله في ايام الفطر، وذلك لأنه صائم لوجه الله تعالى، ويؤيد قوله ما ورد في علامات الصائم، من ترك المعاصي والمآثم، ومنها حديث أبي هريرة عند أحمد والبخاري وأصحاب السنن إلا النسائي مرفوعا: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، أين هذا كله من الصوم الذي عليه أكثر الناس وهو ما تراهم متفقين عليه من إثارته لسرعة السخط والحمق، وشدة الغضب لأدنى سبب، واشتهر هذا بينهم وأخذوه بالتسليم حتى صاروا يعتقدون انه أثر طبيعي للصوم، فهم إذا أفحش أحدهم قال الآخر: لا عتب عليه فإنه صائم، وهو وهم استحوذ على النفوس فحل منها محل الحقيقة وكان له أثرها، ومتى رسخ الوهم في النفس يصعب انتزاعه على العقلاء الذين يتعاهدون أنفسهم بالتربية الحقيقية دائما، فكيف حال الغافلين عن أنفسهم المنحدرين في تيار العادات والتقاليد الشائعة، لا يتفكرون في مصيرهم، ولا يشعرون في أي لجة يقذفون، فتأثير الصوم في أنفسهم مناف للتقوى التي شرع لأجلها، ومخالف للاحاديث النبوية التي وصف بها أهلها، ومن أشهرها حديث (الصيام جنة) وهي بضم الجيم الوقاية والستر فهو يقي صاحبه من المعاصي والآثام، ومن عقابها وغايته دخول النار، وللحديث ألفاظ وفيه زيادة في الصحاح والسنن، وذكر الحافظ في شرحه من الفتح لفظ أبي عبيدة عند أحمد (الصيام جنة ما لم يخرقها) زاد الدارمي (بالغيبة) وقال في هذه الزيادة: ان الغيبة تضر بالصيام وحكي عن عائشة وبه قال الاوزاعي ان الغيبة تفطر الصائم وتوجب قضاء ذلك اليوم، وأفرط ابن حزم فقال يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه الخ وقال الغزالي فيمن يعصي الله وهو صائم انه كمن يبني قصرا ويهدم مصرا.
13. قال محمد عبده: ان أكثر الناس يلاحظون في صومهم حفظ رسم الدين الظاهر وموافقة الناس فيما هم فيه حتى ان الحائض تصوم وترى الفطر في نهار رمضان عارا ومأثما ولا بأس بهذا الصوم من غير الحائض لحفظ ظاهر الاسلام وإقامة هيكل شعائره، ولكنه لا يفيد الأفراد شيئا في دينهم ولا في دنياهم لخلوه من الروح الذي يعدهم للتقوى، ويؤهلهم لسعادة الآخرة والدنيا، وذكر في الدرس ما عليه الناس من الاستعداد لمآكل رمضان وشرابه بحيث ينفقون فيه على ذلك ما يكاد يساوي نفقة سائر السنة، حتى كأنه موسم أكل، وكأن الامساك عن الطعام في النهار انما هو لأجل الاستكثار منه في الليل، وهذا هو الصوم المراد بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش) رواه النسائي وابن ماجه.
14. ثم بين تعالى ان الصيام الذي كتبه علينا معين محدود، فقال: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ أي معينات بالعدد أو قليلات وهي أيام رمضان، وروي عن ابن عباس وغيره قال المفسرون وعليه أكثر المحققين، وزعم بعض الناس ان هذه الايام غير رمضان وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وعينها بعضهم بأنها الايام البيض أي الثالث عشر وما بعده ثم نسخت بآية (شهر رمضان) الآتية ولم يثبت في السنة أن الصوم كان واجبا على المسلمين قبل فرض رمضان، ولو وقع لنقل بالتواتر لأنه من العبادات العملية العامة، نعم ورد في الصحيح الآحادي أحاديث متعارضة في صوم يوم عاشوراء في الجاهلية وبعد الاسلام بعضها بالأمر به في المدينة وبعضها بالتخيير، ولكن لا دليل على انه كان فرضا عاما في المسلمين، ولا على أنه نسخ، فهم لا يزالون يصومونه استحبابا من شاء منهم، بل يدل حديث: (لئن بقيت الى قابل لأصومن التاسع) مع ما ورد من انه صلّى الله عليه وآله وسلّم مات من سنته تلك على أن الامر بصوم عاشوراء كان في آخر زمن البعثة، وليس هذا محل تمحيص هذه الروايات والجمع بينها ولكن كان لبعض العلماء ولع بتكثير استخراج الناسخ والمنسوخ من القرآن لما فيه من الدلالة على سعة العلم بالقرآن وإن كان علما بابطال القرآن بادي الرأي، من غير حجة تضاهي حجة القرآن في القطع والقوة، ولا ينبغي للمؤمن أن يحسب هذا هينا وهو عند الله عظيم.
15. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أي من كان كذلك فأفطر فعليه صيام عدة من أيام أخر غير تلك الايام المعدودات، أي فالواجب عليه القضاء اذا أفطر بعدد الايام التي لم يصمها، وكل من المريض والمسافر عرضة لاحتمال المشقة بالصيام، واطلاق كلمة (مريضا) يدل على أن الرخصة لا تتقيد بالمرض الشديد الذي يعسر معه الصوم، وروي هذا عن عطاء وابن سيرين وعليه البخاري لان أمثال هذه الاحكام تقرن بمظنة المشقة تحقيقا للرخصة، فرب مرض لا يشق معه الصوم ولكنه يكون ضارا بالمريض وسببا في زيادة مرضه وطول مدته، وتحقيق المشقة عسر، وعرفان الضرر أعسر، واستدل الجمهور على تقييده بالمرض الذي يعسر الصوم معه بقوله في الآية الأخرى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ ولا دليل فإنه تعليل لأصل الرخصة، وكمالها أن لا يكون فيها تضييق، وكذلك السفر يشمل إطلاقه وتنكيره الطويل والقصير وسفر المعصية، فالعمدة فيه ما يسمى في العرف سفرا كسائر الالفاظ المطلقة في الشرع، والعرف يختلف باختلاف أسباب المعيشة ووسائل النقل فالذي يركب في هذا الزمان سيارة بخارية أو طيارة هوائية مسافة ثلاثة أميال أو فراسخ أو مسافة يوم أو يومين بتقدير سير الاثقال ليمكث مدة قصيرة ثم يعود إلى بلده وداره، لا يسمى في العرف مسافرا بل متنزها، وقد جاء في السنة ما يؤيد هذا الاطلاق في السفر القصير فقد روى أحمد ومسلم وأبو داوود عن أنس انه قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اذا خرج مسيرة ثلاثة أيام أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين، ويرجح كون الرواية ثلاثة أميال حديث أبي سعيد عند سعيد بن منصور قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اذا سافر فرسخا يقصر الصلاة والفرسخ ثلاثة أميال، بل روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر انه كان يقصر في الميل الواحد، وما روي في قصره صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسافة أطول لا ينافي هذا فان القصر فيها أولى، ولا خلاف بين المسلمين في أن السفر الذي يباح فيه القصر يباح فيه الفطر، وأما العاصي بالسفر فهو على دخوله في الاطلاق من جملة المكلفين المخاطبين بالشريعة كلها كغيرهم كما تقدم بيانه في تفسير ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾
16. زعم بعض المفسرين المقلدين أن قوله تعالى ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ يومئ الى أن من سافر في أثناء اليوم لا يجوز له أن يفطر فيه، بل يفطر في اليوم الثاني لان الكلمة تدل على التمكن من السفر بجعله كالمركوب، ولكن السنة جرت بخلاف ذلك، فقد روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الى حنين والناس مختلفون فصائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحته أو راحلته ثم نظر الى الناس فقال المفطرون للصوام افطروا، وفي حديث أنس وأبي بصرة الأمر بذلك وتسميته سنة، وفي لفظ آخر لابن عباس في البخاري وغيره: ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج الى مكة في رمضان فصام فلما بلغ الكديد (بفتح فكسر) أفطر فأفطر الناس، قال أبو عبد الله (البخاري) والكديد ماء بين عسفان وقديد (بالتصغير) وفي رواية أخرى: حتى بلغ عسفان، والكديد تابعة لعسفان وهي أقرب الى المدينة) قال الحافظ في الفتح: واستدل به على ان للمرء أن يفطر ولو نوى الصيام من الليل وأصبح صائما فله أن يفطر في أثناء النهار وهو قول الجمهور وقطع به أكثر الشافعية الخ، وذهبت الظاهرية أو بعضهم الى وجوب الافطار في المرض والسفر والآية لا تقتضيه وقد مضت السنة العملية بخلافه، وذهب قوم الى وجوب هذه العدة عليهما وان صاما، ومقتضاها ان الله تعالى ضيق على المريض والمسافر وشدد عليهما ما لم يشدد على غيرهما وهو كما ترى.
17. الصواب أن من صام فقد أدى فرضه ومن افطر وجب عليه القضاء، وبذلك مضت السنة العملية فقد ورد في الصحيح انهم كانوا يسافرون مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم المفطر ومنهم الصائم لا يعيب احد على الاخر، وانه كان يأمرهم بالإفطار عند توقع المشقة فيفطرون جميعا كما جاء في حديث ابي سعيد عند احمد ومسلم وابي داوود قال سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (انكم قد دنوتم من عدوكم والفطر اقوى لكم) فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من افطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال (انكم مصبحو عدوكم والفطر اقوى لكم فأفطروا) فكانت عزمة فأفطرنا: الحديث ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في السفر، وروى الجماعة كلهم عن عائشة ان حمزة بن عمرو الاسلمي قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام فقال (إن شئت فصم وان شئت فأفطر) وفي مسلم انه أجابه بقوله (هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) فدلت هذه الرواية انه سأله عن صيام رمضان لان الرخصة انما تطلق في مقابل الواجب)، وروى مسلم والنسائي والترمذي من طريق الدراوردي عن جعفر (الصادق) عن أبيه محمد (الباقر) بن علي (زين العابدين) عن جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج الى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم (كراع بالضم والغميم بالفتح وهو واد امام عسفان) وصام الناس معه فقيل له ان الناس قد شق عليهم الصيام وان الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون اليه فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناسا صاموا فقال (أولئك العصاة) أي لانهم أبوا الاقتداء به صلّى الله عليه وآله وسلّم في قبول الرخصة والحال حال مشقة، وفي رواية أخرى تقدمت انه أمرهم أن يفطروا للاستعانة على لقاء عدوهم فالعصيان ظاهر، وروى أحمد والشيخان وأبو داوود والنسائي من حديث جابر قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال (ما هذا؟ فقالوا صائم) فقال (ليس من البر الصوم في السفر) وذكر الحافظ في شرحه من الفتح الخلاف في الافضل من الصيام والفطر في السفر وقال: الحاصل ان الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وان لم يتحقق المشقة يخير بين الصوم والفطر.
18. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ هذا هو القسم الثاني من المستثنى وهو من لا يستطيع الصوم إلا بمشقة شديدة، اي وعلى الذين يشق عليهم الصيام فعلا فدية طعام مسكين عن كل يوم يفطرون فيه من أوسط ما يطمعون منه أهليهم في العادة الغالمة لا أعلاه ولا أدناه، ويطعم بقدر كفايته أكلة واحدة أو بقدر شبع المعتدل الاكلة وكانوا يقدرونها بمد وهو بالضم ربع الصاع وقدروه بالحفنة وهي ملء الكفين من القمح أو التمر، وترتب الفدية على الافطار لأجل المشقة الشديدة يعرف بالقرينة كقوله ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ يعني اذا افطر، قال محمد عبده: الاطاقة أدنى درجات المكنة والقدرة على الشيء فلا تقول العرب أطاق الشيء إلا اذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمل به مشقة شديدة، فالمراد بالذين يطيقونه هنا الشيوخ الضعفاء والزمنى الذين لا يرجى برء امراضهم ونحوهم كالفعلة الذين جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقة كاستخراج الفحم الحجري من مناجمه ومنهم المجرمون الذين يحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة اذا كان الصيام يشق عليهم بالفعل وكانوا يملكون الفدية، وهو مشتق من طاقة الحبل أو الخيط أو الفتلة الواحدة من فتله التي يبرم بعضها على بعض وتسمى القوة، أو من الطوق وعليه قول الراغب: الطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان ان يفعله بمشقة وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء فقوله ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ اي ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه ولا تحملنا مالا قدرة لنا به.
19. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ ظاهره يقتضي ان المطيق له يلزمه فدية أفطر أو لم يفطر، لكن اجمعوا على انه لا يلزمه إلا مع شرط آخر، أي وهو الإفطار روى البخاري ان ابن عمر قال: هي منسوخة وان ابن عباس قال: ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا، ورواه أبو داوود مع زيادة والحبلى والمرضع اذا خافتا يعني على أولادهما أفطرتا وأطعمتا، وأخرجه البزار أيضا وزاد في آخره: وكان ابن عباس يقول لأم ولد له حبلى أنت بمنزلة الذي لا يطيقه فعليك الفداء ولا قضاء عليك، ولكن الشافعية يوجبون على الحبلى والمرضع الفدية والقضاء معا، وفي حديث أنس بن مالك الكعبي عند احمد واصحاب السنن ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (ان الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع الصوم) وروى الدارقطني والحاكم وصححاه عن ابن عباس أنّه قال رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم ولا قضاء عليه: وهذا ظاهر في معنى الآية وهو مذهب الشافعية في الشيوخ والعجائز ومن في حكمهم، قال محمد عبده: ذهب كثيرون الى أن الآية منسوخة إذ فهموا أن الاطاقة بمعنى الاستطاعة وقدر بعض المفسرين كالجلال حرف نفي فقال: وعلى الذين لا يطيقونه فدية ـ ليوافق مذهبه والآية موافقة له من غير حاجة الى جعل الاثبات نفيا كما قلنا آنفا، وقال بعضهم ان الهمزة في الاطاقة للسلب فمعناها الذين لا يطيقونه من غير تقدير حرف النفي، وهو قول منقول معقول، ويظهر بإرادة سلب الطاقة أي القوة به لا قبله، والقاعدة انه لا يحكم بالنسخ اذا أمكن حمل القول على الاحكام.
20. جملة القول ان المؤمنين على أقسام في الصيام:
أ. الأول: المقيم الصحيح القادر على الصيام بلا ضرر يلحقه ولا مشقة ترهقه والصوم واجب عليه حتما وتركه من الكبائر وذهب كثير من العلماء ان متعمده لا يقبل منه قضاء مثله ولا صيام الدهر كله.
ب. الثاني: المريض والمسافر ويباح لهما الافطار مع وجوب القضاء لان من شأن المرض والسفر التعرض للمشقة فاذا تعرضا للضرر بالفعل بأن علما أو ظنا ظنا قويا أن الصوم يضرهما وجب الافطار، وقد فصلنا مسألة الخلاف في الافضل للمسافر والمختار عندنا أن الصيام أفضل اذا كان أيسر ولم يترتب عليه محظور آخر كحمل رفاقة في السفر على خدمته أو عجزه عن القيام ببعض المندوبات وما لا بد منه للمسافر وان لم يقم به رفاقه، فان كان يعجزه عن عمل واجب وجب الفطر وهو ظاهر في حديث أبي سعيد المتقدم في مسألة القوة على القتال، والمريض كالمسافر في مسألة الافضل له وانه الايسر، ومن الامراض ما يكون الصيام علاجا له أو مساعدا على زواله كما علم مما ذكرناه من فوائده الصحية.
ج. الثالث: من يشق عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله كالهرم وضعف البنية الذي لا يرجى زواله والاشغال الشاقة الدائمة والمرض المزمن الذي لا يرجى برؤه وكذلك من يتكرر سبب مشقته كالحامل والمرضع وهؤلاء لهم أن يفطروا ويطعموا بدلا عن كل يوم مسكينا ما يشبع الرجل المعتدل كما تقدم آنفا.
21. ثم قال تعالى بعد بيان الواجب الحتم والرخص فيه ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ بأن زاد على تلك الايام المعدودات ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ لان فائدته وثوابه له والفاء في قوله فمن تطوع تدل على هذا لأنها تفريع على حصر الفرضية في الايام المعدودات ولا يصلح تفريعا على حكم الفدية لان من سقط عنه الفرض دائما مع الفدية عنه لا يعقل ان يندب للتطوع الذي هو الزيادة على الفرض، وجعل (الجلال) التطوع متعلقا بالكفارة بأن يزيد على إطعام المسكين واستبعده شيخنا وأقرب منه شموله لهما.
22. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أي والصيام خير لكم كما قرأها ابي بن كعب وإنما هي تفسير، اي خير عظيم لما فيه من رياضة الجسد والنفس وتربية الارادة وتغذية الايمان بالتقوى وتقويته بمراقبة الله تعالى، قال ابو أمامة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مرني بأمر آخذه عنك قال (عليك بالصوم فإنه لا مثل له) رواه النسائي بسند صحيح ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وجه الخيرية فيه لا إن كنتم تصومون تقليدا من غير فقه، ولا علم بسر الحكم وحكمة التشريع، وكونه لمصلحة المكلفين، لان الله غني عن العالمين، أو اتباعا لعادات الخلطاء والمعاشرين، هذا ما يظهر من الآية، وقد ذكر بعض المفسرون أن الخطاب فيها لاهل الرخص وأن الصيام في رمضان خير لهم من الترخص بالإفطار، وهذا غير مطرد ولا متفق عليه، وتنافيه أحاديث وردت ويبعده التفريع بالفاء كما قدمنا، وبينا ما هو الافضل منه ومن الفطر.
23. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ هذه الآية مستأنفة لبيان تلك الايام المعدودات التي كتبت علينا وانها ايام شهر رمضان، وأن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بهذه العبادة هي أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وأفيضت على البشر فيه هداية الرحمن، ببعثة محمد خاتم النبيين صلّى الله عليه وآله وسلّم، بالرسالة العامة للآثام، الدائمة الى آخر الزمان، فالمراد بإنزال القرآن فيه بدؤه وأوله.
24. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ أي أنزل حال كونه هدى كاملا للناس كافة ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾ اي وآيات بينات واضحات لا لبس في حقيتها، ولا خفاء في حكمها وأحكامها، من جنس الهدى الذي جاء به الرسل من قبل، ولكنه أبينه واكمله ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾ الذي يفرق للمهتدي به بين الحق والباطل، ويفصل بين الفضائل والرذائل، فحق أن يعبد الله تعالى فيه ما لا يعبد في غيره، تذكرا لإنعامه بهذه الهداية وشكرا عليها.
25. الحكمة في ذكر الايام مبهمة أولا وتعبينها بعد ذلك أن ذلك الابهام الذي يشعر بالقلة يخفف وقع التكليف بالصيام الشاق على النفوس وهو الاصل إذ ليس رمضان عاما في الارض كما سيأتي بيانه قريبا، ثم ان هذا التعبين والبيان جاء بعد ذكر حكمة الصيام وفائدته وذكر الرخض لمن يشق عليه، وذكر خيرية الصيام في نفسه واستحباب التطوع فيه، وكل ذلك مما يعدّ النفس لان تتلقى بالقبول والرضى جعل تلك الايام شهرا كاملا.
26. انظر كيف ابتدأ هنا بذكر شهر رمضان وإنزال القرآن فيه ووصف القرآن بما وصفه به حتى كأنه يحكي عنه لذاته بعد الانتهاء من حكم الصوم، ثم ثنى بالأمر بصومه فلم يفاجئ النفوس به مع ذلك التمهيد له حتى قدم العلة على المعلول، ولعل هذا من حكمة حذف خبر المبتدأ اذا قلنا ان كلمة ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ مبتدأ أو حذف المبتدأ اذا قلنا انها خبر لمحذوف، قال محمد عبده: ان حذف الخبر جار على ما نعهده من ايجاز القرآن بحذف ما لا يقع الاشتباه بحذفه، وان البيان بعد الابهام جاء على أسلوبه في ذكر الاشياء ثم ذكر علتها وحكمتها، وهي هنا انزال القرآن الذي هدانا الله تعالى به وجعله آيات بينات من الهدى أي من الكتب المنزلة، والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل، فوصفه بأنه هدى في نفسه لجميع الناس، وأنه من جنس الكتب الالهية، ولكنه الجنس العالي على جميع الاجناس، فإنه آيات بينات من ذلك الهدى السماوي، وكتب لله كلها هدى، ولكنها ليست في بيانها كالقرآن، واضرب لهم مثلا كتاب دانيال النبي فان الله ما أنزله عليه إلا ليهتدي به من يقرأه عليهم، ولكنه لم يكن آيات بينات، بل هو كالالغاز والرموز لا يفهم إلا بعناء، وكذلك التوراة التي سماها الله تعالى نورا وهدى فيها غوامض ومشكلات وقع الاشتباه فيها، فلم يكن ضياء الحق والهداية متبلجا وساطعا من سطورها سطوعه من القرآن، والذى نراه في هذه الاناجيل أن تلاميذ المسيح انفسهم ما كانوا يفهمون كل ما يخاطبهم به من المواعظ والاحكام والبشائر وهي الانجيل الحقيقي في اعتقادنا(3).، بل فيها ان المسيح قال لهم انه لم يقل لهم كل شيء، وان ثم أشياء كثيرة ينبغي أن تقال لهم أي لولا الموانع منها في عهده، وبشرهم بأنه سيأتي بعده الفارقليط روح الحق الذي يقول لهم كل شيء ـ يعني محمدا خاتم النبيين عليهما الصلاة والسّلام ـ ولكن لم ينقل الينا أن الصحابة عمي عليهم شيء من آيات القرآن فلم يفهموها، ولا أن علماء السلف حاروا في شيء منها، فالقرآن يمتاز على سائر الكتب السماوية بأنه آيات بينات من الهدى الذي توصف به كلها، وبينات من الامر الالهي الفارق بين الحق والباطل.
27. بيد أن المقلدين من المسلمين لم يرضوا كافة بأن يمتاز القرآن بالبيان الذي ليس بعده بيان والهدى لجميع الناس كما وصف نفسه، فحاول بعضهم تغميضه وسلم لهم مقلدتهم أنه غامض لا يفهمه إلا أفراد من الناس أوتوا علما جما، وفاقوا سائر البشر بعقولهم وأفهامهم، كما فاقوهم بعلومهم ومعارفهم، ثم زعموا أن هؤلاء الافراد كانوا في بعض القرون الاولى وهم المجتهدون، وانهم قد انقرضوا ولم يأت بعدهم ولن يأني من يسهل عليه أن يفهم القرآن ولو احكامه فقط، وتجد هذا القول المناقض للقرآن والناقض له مسلما بين جماهير المسلمين المقلدين، حتى الذين يدعون أنهم علماء الدين، ومن نبذه اهتداء بالقرآن، ربما نبزوه بلقب الكفر والطغيان، فأي الفريقين أحق بصدق الايمان،؟
28. أما وسر الحق لولا أن المسلمين لبسوا على أنفسهم من القرآن ما يلبسون، وحكموا فيه آراء من يقلدون، لكان نور بيانه مشرقا عليهم وعلى سائر الناس، كالشمس ليس دونها سحاب، ولكنهم أبوا إلا ان يتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، ويضعوا كتبا في الدين يزعمون ان بيانها اجلى، والاهتداء بها أولى، لأنها بزعمهم أبين حكما، واقرب الى الاذهان فهما.
29. فرض الله تعالى علينا صيام هذا الشهر بخصوصه تذكيرا بنعمته علينا بإنزال القرآن فيه لنصومه شكرا له عليها، ومن الشكر أن تكون هدايتنا بالقرآن في مثل وقت نزوله أكمل، ومنها أن يكون الصيام موصلا إلى حقيقة التقوى، فاذا لم ننتفع بالصيام في أخلاقنا وأعمالنا، ولم نهتد بالقرآن في عامة أحوالنا، فأين الانتفاع بالنعمة وأين الشكر عليها؟ كان جبريل يدارس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم القرآن في رمضان، ولذلك كان السلف يتدارسونه فيه ويقومون ليله به لزيادة الاهتداء والاعتبار، فماذا كان من اقتداء الخلف بهم؟ كان أن بعض الوجهاء والاغنياء يستحضرون في رمضان من القراء من كان حسن الصوت يتغنى لهم بالقرآن في حجرات الخدم وهم في الغرفات مع أمثالهم وأقتالهم لا هون لا عبون، ومن عساه يصغى منهم احيانا الى القارئ فإنما يريد التلذذ بسماع صوته الحسن وتوقيعه الغنائي، فقد جعلوا القرآن إما مهجورا وإما لذة نفسية فصدق عليهم قوله ﴿اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا﴾
30. أما معنى إنزال القرآن في رمضان مع أن المعروف باليقين أن القرآن نزل منجما متفرقا في مدة البعثة كلها فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان، وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر أي الشرف، والليلة المباركة كما في آيات أخرى، وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على ان لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كله، ويطلق على بعضه، وقد ظن الذين تصدوا للتفسير منذ عصر الرواية أن الآية مشكلة، ورووا في حل الاشكال أن القرآن نزل في ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سموات ثم نزل على النبي منجما بالتدريج، وظاهر قولهم هذا انه لم ينزل على النبي في رمضان منه شيء خلافا لظاهر الآيات، ولا تظهر المنة علينا ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم على قولهم هذا لأن وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السموات أو اللوح المحفوظ من حيث انه لم يكن هداية لنا، ولا تظهر لنا فائدة في هذا الانزال ولا في الاخبار به، وقد زادوا على هذا روايات في كون جميع الكتب السماوية أنزلت في رمضان، كما قالوا ان الامم السابقة كلفت صيام رمضان، قال محمد عبده: ولم يصح من هذه الاقوال والروايات شيء وإنما هي حواش أضافوها لتعظيم رمضان، ولا حاجة لنا بها إذ يكفينا أن الله تعالى أنزل فيه هدايتنا وجعله من شعائر ديننا ومواسم عبادتنا، ولم يقل تعالى انه انزل القرآن جملة واحدة في رمضان، ولا انه أنزله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، بل قال بعد إنزاله ﴿هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ فهو محفوظ في لوح بعد نزوله قطعا ـ وأما اللوح المحفوظ الذي ذكروا انه فوق السموات السبع وان مساحته كذا، وانه كتب فيه كل ما علم الله تعالى فلا ذكر له في القرآن، وهو من عالم الغيب فالإيمان به إيمان بالغيب يجب أن يوقف فيه عند النصوص الثابتة بلا زيادة ولا نقص ولا تفصيل، وليس عندنا في هذا المقام نص يجب الايمان به.
31. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ أي فمن حضر منكم دخول الشهر أو حلوله بأن لم يكن مسافرا فليصمه وإنما يكون ذلك في أكثر البلاد التي تتألف السنة منها من اثني عشر شهرا، وشهوده فيها يكون برؤية هلاله، فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره له أن يصوم، واذا لم يره أحد في الليلة الثلاثين من شعبان وجب صيام يومها وكان أول رمضان ما بعده، والاحاديث في هذا ثابتة في الصحاح والسنن، وجرى عليها العمل من الصدر الاول الى اليوم، وقال بعض المفسرين: ان المراد بالشهر هنا الهلال، وكانت العرب تعبر عن الهلال بالشهر، ويرده أنهم لا يقولون: شهد الهلال، وإنما يقولون رآه، ومعنى شهد حضر، وقال بعضهم ان المعنى: فمن كان حاضرا منكم حلول الشهر فليصمه، قال محمد عبده: وإنما عبر بهذه العبارة ولم يقل (فصوموه) لمثل الحكمة التي لم يحدد القرآن مواقيت الصلاة لأجلها، وذلك ان القرآن خطاب الله العام لجميع البشر وهو يعلم أن من المواقع ما لا شهور فيها ولا أيام معتدلة بل السنة كلها قد تكون فيها يوما وليلة تقريبا كالجهات القطبية، فالمدة التي يكون فيها القطب الشمالي في ليل وهي نصف السنة يكون القطب الجنوبي في نهار وبالعكس، ويقصر الليل والنهار ويطولان على نسبة القرب والبعد عن القطبين ويستويان في خط الاستواء وهو وسط الارض، أرأيت هل يكلف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين وما يقرب منهما أن يصلي في يومه (وهو سنة أو مقدار عدة أشهر) خمس صلوات إحداها حين يطلع الفجر و الثانية بعد زوال الشمس الخ ويكلفه أن يصوم شهر رمضان بالتعيين ولا رمضان له ولا شهور؟ كلا ان من الآيات الكبر على كون هذا القرآن من عند الله المحيط علمه بكل شيء لا من تأليف البشر ما نراه فيه من الاكتفاء بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمان من جاء به ولا مكانه، ولو كان من عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لكان كل ما فيه مناسبا لحال زمانه وبلاده وما يليها من البلاد التي يعرفها، ولم تكن العرب تعرف أن في الارض بلادا نهارها كعدة أنهر أو أشهر من أنهرنا وأشهرنا ولياليها كذلك، فمنزل القرآن وهو علام الغيوب وخالق الارض والافلاك خاطب الناس كافة بما يمكن أن يمتثلوه، فأطلق الامر بالصلاة والرسول بين أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة التي هي القسم الاعظم من الارض، حتى إذا وصل الاسلام الى أهل البلاد التي أشرنا اليها يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم والقياس على ما بينه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أمر الله المطلق ـ وكذلك الصيام ما أوجب رمضان إلا على من شهد الشهر وحضره، والذين ليس لهم شهر مثله يسهل عليهم أن يقدروا له قدره، وقد ذكر الفقهاء مسألة التقدير بعد ما عرفوا بعض البلاد التي يطول ليلها ويقصر نهارها والبلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها، واختلفوا في التقدير على أي البلاد يكون؟ فقيل على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة وقيل على أقرب بلاد معتدلة اليهم وكل منهما جائز فإنه اجتهادي لا نص فيه.
32. ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أعيد ذكر الرخصة لئلا يتوهم ـ بعد تعظيم أمر الصوم في نفسه وأنه خير ويندب التطوع به وبعد تحديده بشهر رمضان الذي له من الفضل والشرف مالهـ أن صوم هذا الشهر حتم لا تتناوله الرخصة أو تتناوله ولكن لا تحمد فيه، ولعمري ان تأكيد الصوم بمثل ما أكده الله تعالى به يقتضي تأكيد امر الرخصة ايضا، ولولا ذلك ما اتاها متق لله في صيامه، بل روى المحدثون ان بعض الصحابة عليهم الرضوان كانوا على تأكيد امر الرخصة في القرآن يتحامون الفطر في السفر أولا حتى ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمرهم به في بعض الاسفار فلم يمتثلوا حتى أفطر هو بالفعل وسمى الممتنع عن الفطر عاصيا كما تقدم.
33. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ هذا تعليل لما قبله أي يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام، وسائر ما يشرعه لكم من الاحكام، أن يكون دينكم يسرا تاما لا عسر فيه، قال محمد عبده: إن في هذا التعبير ضربا من التحريض والترغيب في إتيان الرحصة، ولا غرو فالله يحب ان يؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه، وقد اختلف العلماء في الأفضل للمريض والمسافر على اقوال ثالثها التخيير.. والآية تشعر بأن الافضل ان يصوم إذا لم يلحقه مشقة أو عسر لانتفاء علة الرخصة وإلا كان الافضل ان يفطر لوجود علتها، ويتأكد بوجود مصلحة أخرى في الفطر كالقوة على الجهاد وتقدم بسطه، ذلك بأن الله لا يريد إعنات الناس بأحكامه وإنما يريد اليسر بهم وخيرهم ومنفعتهم، وهذا اصل في الدين يرجع اليه غيره ومنه اخذوا قاعدة (المشقة تجلب التيسير) وورد في هذا أحاديث كثيرة من أشهرها (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) متفق عليه من حديث أنس.
34. المراد بالإرادة هنا حكمة التشريع لا ارادة التكوين، زرت بيت المقدس في عهد طلبي للعلم بطرابلس في المحرم سنة 1311 فاجتمعت في مدينة الخليل عليه السّلام بمفتيها الرجل الصالح من آل التميمي فسألني ممتحنا: يقول الله تعالى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ وما يريده الله تعالى لا يجوز تخلفه عقلا، ولكننا نرى العسر واقعا مشاهدا فكيف هذا؟ قلت ان الآية في تعليل الرخصة في الصيام للمريض والمسافر لا في التكوين والتقدير كالعسر في المال والرزق، فأعجبه الجواب ودعا لي بالفتح، ولم أكن حضرت شيئا من تفسير القرآن في ذلك العهد.
35. ثم قال: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ قرأ الجمهور لتكملوا بالتخفيف من الاكمال وأبو بكر عن عاصم بالتشديد من التكميل، واللام للتعليل وهي معطوفة على التعليل المستفاد من قوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ كأنه قال رخص لكم في حالي المرض والسفر لأنه يريد بكم اليسر وان تكملوا العدة فمن لم يكملها اداء لعذر المرض أو السفر أكملها قضاء بعده، وقيل: إنها لتقوية الفعل كما في قوله ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾ اي يريد الله بكم اليسر وان تكملوا العدة، وهو يجري في كلام البلغاء كثيرا ورجحه محمد عبده ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ اليه من الاحكام النافعة لكم بأن تذكروا عظمته وكبرياءه وحكمته في اصلاح عباده وانه يربيهم بما يشاء من الاحكام، ويؤد بهم بما يختار من التكاليف، ويتفضل عليهم عند ضعفهم بالرخص اللائقة بحالهم.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ له هذه النعم كلها، بالقيام بها على وجهها، واعطاء كل من العزيمة والرخصة حقها، فتكونوا من الكاملين.
36. ذهب جمهور المفسرين إلى أن في الكلام ثلاثة تعليلات مرتبة بأسلوب النشر على اللف بتقدير فعل محذوف عامل في جملة الاحكام الماضية، أي شرع لكم ما ذكر من صيام أيام معدودات هي شهر رمضان لمن شهده سالما صحيحا لتكملوا العدة ـ والتعبير بالعدة دون عدة الشهر يشعر بما قاله محمد عبده من أن الاصل في التكليف العام للصوم هو الايام المعدودات وكونها رمضان بعينه خاص بمن شهده ممن لم تتناوله الرخصة وهذا من دقة القرآن الغريبة وبلاغته التي لا يخطر مثلها على قلب بشر، وشرع لكم القضاء على من أفطر في مرض يرجى برؤه أو سفر ـ لتكبروه وتعظموا شأنه على ما هداكم اليه من الجمع بين الرخصة بالفطر والعزيمة بالقضاء ـ وشرع لكم الفدية في حال المشقة المستمرة بالصوم وأراد بكم اليسر دون العسر لعلكم تشكرون هذه النعمة وقد صورنا ترتيب التعليل الذي ذكروه، بما نراه أوضح مما صوروه به.
37. الاظهر أن يقال ان إكمال العدة تعليل لكون الصيام المشروع أياما معدودات لا بد من استيفائها اداء في حال العزيمة وقضاء في حال الرخصة، وارادة اليسر دون العسر تعليل للرخص الثلاث للسفر والمرض والمشقة التي تقتضي الفدية، والتكبير تعليل لا كمال العدة بصيام الشهر كله، ومظهره الاكبر في عيد الفطر إذ شرع فيه التكبير القولي عامة ليله والى ما بعد صلاته، وبذلك كله نكون من شاكرين له على هذه النعم كلها وعلى غيرها.
__________
(1) تفسير المنار: 2/144.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
(3) لا نرى صحة هذا، بل نرى أن ما صارت إليه هذه الكتب ناتج عن التحريف، وأن هداية الله وبيانه وفرقانه في كل الكتب حتى لا يكون عدم ذلك للناس حجة.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. فرض الله علينا الصوم كما فرضه على من قبلنا، لأنه من أعظم الذرائع لتهذيب النفوس، وأقوى العبادات في كبح جماع الشهوات، ومن ثم كان مشروعا في جميع الملل حتى الوثنية، فهو معروف لدى قدماء المصريين، ومنهم انتقل إلى اليونان والرومان، ولا يزال الهنود الوثنيون يصومون إلى الآن، وفي التوراة مدحه ومدح الصائمين، وليس فيها ما يدل على أنه فرض، وثبت أن موسى صام أربعين يوما كما أنه ليس في الإنجيل نص على الفريضة، بل فيها مدحه وعدّه عبادة، وأشهر صيام النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى والحواريون، وقد وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام تختلف فيها المذاهب والطوائف.
2. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي فرض عليكم الصيام كما فرض على المؤمنين من أهل الملل قبلكم من لدن آدم عليه السلام، وفي هذا تأكيد له وترغيب فيه، وتطييب لأنفس المخاطبين فإنه عبادة شاقة، والأمور الشاقة إذا عمّت كثيرا من الناس سهل تحملها ورغب كل أحد في عملها.
3. ثم بين فائدة الصوم وحكمته فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي إنه فرضه عليكم ليعدّكم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة الميسورة امتثالا لأمره واحتسابا للأجر عنده، فتتربي بذلك العزيمة والإرادة على ضبط النفس وترك الشهوات المحرّمة والصبر عنها، وقد جاء في الحديث: (الصيام نصف الصبر)، وبهذا نعلم أنه ما كتب علينا الصوم إلا لمنفعتنا، لا كما يعتقد الوثنيون من أن القصد منه تسكين غضب الآلهة إذا عملوا ما يغضبهم، أو استمالتهم في بعض الشئون والأغراض، لأن الآلهة لا ترضى إلا بتعذيب النفس وإماتة حظوظ الجسد، وشاع هذا الاعتقاد بين أهل الكتاب فجاء الإسلام ومحا كل هذا.
4. إعداد الصوم لتقوى الله يظهر من وجوه كثيرة:
أ. أعظمها شأنا أنه يعوّد الإنسان الخشية من ربه في السرّ والعلن، إذ أن الصائم لا رقيب عليه إلا ربه، فإذا ترك الشهوات التي تعرّض له من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة، وزوجة جميلة، امتثالا لأمر ربه، وخضوعا لإرشاد دينه مدة الصيام شهرا كاملا، ولولا ذلك لما صبر عليها وهو في أشدّ الشوق إليها، لا جرم أنه بتكراره ذلك يتعوّد الحياء من ربه، والمراقبة له في أمره ونهيه، وفي ذلك تكميل له وضبط للنفس عن شهواتها، وشدة مراقبتها لبارئها، ومن كملت لديه هذه الخلّة لا يقدم على غشّ الناس ومخادعتهم، ولا على أكل أموالهم بالباطل، ولا على هدم ركن من أركان الدين كالزكاة، ولا على اقتراف المنكرات، واجتراح السيئات، وإذا ألمّ بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة الصحيحة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾، ولما للصوم من جليل الأثر في تهذيب النفس جاء في الحديث: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) أي من صغائر ذنوبه وكبائرها إذا تاب منها قبل الصوم، وجاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به)
ب. أنه يكسر حدّة الشهوة، ويجعل النفس مصرّفة لشهواتها بحسب الشرع، كما جاء في الحديث: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، والوجاء: رضّ الأنثيين، وهو كالخصاء مضعف للشهوة الزوجية.
ج. أنه يعوّد الشفقة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، فهو عندما بجوع يتذكر من لا يجد قوتا من أولئك البائسين، فيرقّ قلبه لهم ويشفق عليهم، وفي ذلك تكافل للأمة وشعور بالأخوة الدينية.
د. أن فيه المساواة بين الأغنياء والفقراء، والملوك والسوقة، في أداء فريضة دينية واحدة.
هـ. تعويد الأمة النظام في المعيشة، فهم يفطرون في وقت واحد، لا يتقدم واحد على آخر.
و. أنه يفنى المواد الراسبة في البدن، ولا سيما في أجسام المترفين أولى النّهم قليلي العمل، ويجفف الرطوبات الضارة، ويطهر الأمعاء من السموم التي تحدثها البطنة، ويذيب الشحم الذي هو شديد الخطر على القلب، وقد أثر عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (صوموا تصحّوا)، وقال بعض علماء أوربا: إن صيام شهر واحد في السنة يذهب الفضلات الميتة في البدن مدة سنة، ومن يصم على هذا الوجه يكن راضيا مرضيّا مطمئنّا لا يجد في نفسه اضطرابا ولا قلقا من مزعجات الحوادث، ولا عظيم المصائب والكوارث، نعم إن وجد شيء من هذا كان جثمانيّا لا روحانيّا.
5. أين هذا من الصوم الذي عليه أكثر المسلمين اليوم من إثارته للسخط والغضب لأدنى سبب حتى صاروا يعتقدون أنه أثر طبيعي للصوم، وهو وهم استحوذ على النفوس حتى صار كأنه حقيقة واقعة، وهذا الأثر في نفوسهم مناف للتقوى التي شرع الصيام لأجلها، ومخالف لما جاء من الآثار من نحو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الصيام جنّة) أي ستر ووقاية من المعاصي والآثام، ويرى الأوزاعي أن الغيبة تفطر الصائم، وقال ابن حزم يبطله كل معصية من متعمّد لها ذاكر لصومه، وقال الغزالي: من يعصى الله وهو صائم كمن يبنى قصرا، ويهدم مصرا، وأين هذا مما نرى عليه الناس من الاستعداد لمآكل رمضان وشرابه، حتى لينفقون فيه ما يكاد يساوى نفقة السنة كلها، فكأنّ رمضان موسم أكل، وكأنّ الإمساك عن الطعام في النهار لأجل الاستكثار منه في الليل.
6. ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ أي أياما معيّنات بالعدد وهى أيام رمضان، فالله لم يفرض علينا صوم الدهر كله ولا أكثره تخفيفا ورحمة بالمكلفين.
7. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أي فمن كان على إحدى الحالين فالواجب عليه ـ إذا أفطر ـ القضاء بقدر عدد الأيام التي لم يصمها لأن كلتيهما عرضة لاحتمال المشقة بالصوم، وأكثر الأئمة على اشتراط أن يكون المرض شديدا يصعب معه الصوم بدليل قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، ويرى جماعة منهم ابن سيرين وعطاء والبخاري أن أيّ مرض هو رخصة في الإفطار فربّ مرض لا يشقّ معه الصوم يضرّ فيه الصوم المريض، ويكون سببا في زيادة مرضه وطول مدته، وضبط المشقة عسر، ومعرفة الضرر أعسر، والسفر الذي يباح فيه الفطر هو الذي يباح فيه قصر الصلاة، روى أحمد ومسلم وأبو داوود عن أنس قال كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين ـ يريد أنه يقصر الصلاة ـ وهذه المسافة وإن قطعت الآن في دقائق معدودات مبيحة للفطر، إذ العبرة بقطع مثل هذه المسافة لا بالزمن الذي تقطع فيه، ومن صام رمضان وهو مريض أو مسافر فقد أدى الفريضة، ومن أفطر وجب عليه القضاء، وبذلك كان عمل الصحابة، فقد ورد في الصحيح أنهم كانوا يسافرون مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منهم المفطر ومنهم الصائم لا يعيب أحد على الآخر، وأنه كان يأمرهم بالإفطار عند توقع المشقة فيفطرون جميعا، روى أحمد ومسلم عن أبي سعيد قال سافرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنكم قد دنوتم من عدوّكم والفطر أقوى لكم) فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: (إنكم مصبّحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطرنا) فكانت عزمة فأفطرنا، وروى عن عائشة أن حمزة الأسلمي قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال له: (إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) وفي رواية مسلم أنه أجابه بقوله: (هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه)، وأكثر الأئمة كمالك وأبي حنيفة والشافعي على أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشقّ، ويرى أحمد والأوزاعي أن الفطر أفضل عملا بالرخصة.
8. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ والذين يطيقون هم الشيوخ الضعفاء والزّمنى الذين لا يرجى برء أمراضهم، والعمال الذين جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقة كاستخراج الفحم من المناجم، والمجرمون الذين يحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا كان الصيام يشق عليهم، والحبلى والمرضع إذا خافتا على ولديهما، فكل هؤلاء يفطرون وعليهم الفدية، وهى طعام مسكين من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة واحدة بقدر شبع المعتدل الأكل، عن كل يوم يفطرونه.
9. خلاصة ما تقدم أن المؤمنين في صيامهم أقسام ثلاثة:
أ. المقيم الصحيح القادر على الصيام بلا ضرر ولا مشقة، والصوم حتم واجب عليه، وتركه من الكبائر.
ب. المريض والمسافر ويباح لهما الإفطار مع وجوب القضاء، لما في المرض والسفر من التعرض للمشقة، فإذا علما أو ظنا ظنّا قويّا أن الصوم يضرهما وجب الإفطار.
ج. من يشقّ عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله كهرم وضعف بنية ومرض مزمن لا يرجى برؤه، وأشغال شاقة دائمة، وحمل وإرضاع، وهؤلاء لهم أن يفطروا ويطعموا مسكينا عوضا من كل يوم بقدر ما يشبع الرجل المعتدل الأكل.
10. ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ أي فمن زاد في الفدية فذلك خير له، لأن ثوابه عائد إليه ومنفعته له، وهذا التطوع شامل لأصناف ثلاثة:
أ. أن يزيد في الإطعام على مسكين واحد، فيطعم بدل كل يوم مسكينين أو أكثر.
ب. أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.
ج. أن يصوم مع الفدية.
11. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ أي وصومكم أيها المرضى والمسافرون والذين يطيقونه، خير لكم من الفدية، لما فيه من رياضة الجسد والنفس وتفدية الايمان بالتقوى ومراقبة الله، روى أن أبا أمامة قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: مرني بأمر آخذه عنك قال (عليك بالصوم فإنه لا مثل له)
12. ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وجه الخيرية فيه وكونه لمصلحة المكلفين، لأن الله غنى عن العالمين.
13. ثم بين الأيام المعدودات التي كتبت علينا فقال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ أي هذه الأيام هي شهر رمضان الذي بدئ فيه بإنزال القرآن، ثم نزل منجّما في ثلاث وعشرين سنة، لهداية الناس إلى الصراط السوىّ والنهج المستقيم، مع وضوح آياته وإرشادها إلى الحق، وجعلها فارقة بين الحق والباطل، والفضائل والرذائل، ومن التذكر لهدايته أن يعبد في هذا الشهر ما لا يعبد في غيره، ليكون ذلك كفاء فيضه الإلهي بالإحسان، وتظاهر نعمه على عباده، فهو من شعائر ديننا، ومواسم عبادتنا.
14. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ أي فمن شهد منكم دخول الشهر بأن لم يكن مسافرا فليصمه، وشهوده برؤية هلاله، فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره أن يصومه، والأحاديث في هذا ثابتة في الصحاح والسنن، وجرى عليها العمل من الصدر الأول إلى اليوم، ومن لم يشهدوا الشهر كسكان البلاد القطبية ـ التي يكون فيها الليل نصف سنة في القطب الشمالي، بينما يكون نهارا في القطب الجنوبي والعكس بالعكس ـ فعليهم أن يقدروا مدة تساوى مدة شهر رمضان، والتقدير على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة، وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم.
15. ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أعيد ذكر رخصة الإفطار مرة أخرى، لئلا يظن أن صوم هذا الشهر محتم لا تتناوله رخصة، أو تتناوله ولكنها غير محمودة، ولا سيما بعد تعظيم أمر الصوم فيه، لما له من المناقب والمزايا التي سبق ذكرها، حتى روى أن بعض الصحابة رضى الله عنهم مع علمهم بالرخصة في القرآن كانوا يتحامون الفطر في السفر، حتى إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأمرهم به في بعض الأسفار فلا يمتثلون حتى يفطر هو.
16. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ أي يريد الله في هذه الرخصة في الصيام وفي كل ما شرعه لكم من الأحكام، أن يجعل دينكم يسرا لا عسر فيه، وفي هذا إيماء إلى أن الأفضل الصيام إذا لم يلحق الصائم مشقة أو عسر، لانتفاء علة الرخصة حينئذ، وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة، منها حديث أنس: (يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا)
17. ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ أي رخص لكم في الإفطار في حالي المرض والسفر، لأنه يريد بكم اليسر، وأن تكملوا العدة، فمن لم يكملها أداء لعذر المرض أو السفر أكملها قضاء بعده، وبذا تحصّلون خيراته، ولا يفوتكم شيء من بركاته.
18. ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ إليه من الأحكام التي فيها سعادتكم في الدنيا والآخرة، وذلك بذكر عظمته وحكمته في إصلاح حال عباده، بتربيتهم بما يشاء من الأحكام، ويتفضل عليهم عند ضعفهم بالرخص التي تليق بحالهم.
19. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ له نعمه كلها، فتعطوا كلا من العزيمة والرخصة حقها، فيكمل إيمانكم ويرضى عنكم ربكم.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/68.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليها الجهاد في سبيل الله، لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية، وللشهادة على الناس، فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة؛ ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثارا لما عند الله من الرضى والمتاع، وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات؛ والذي تهتف بسالكيه آلاف المغريات!
2. ذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان، ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات ـ بصفة خاصة ـ بما يظهر للعين من فوائد حسية، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره على الأرض، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة.. مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض والتوجيهات؛ وذلك ارتكانا إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان جملة في كل ما يفرض عليه وما يوجه إليه، ولكن في غير تعليق لحكمة التكليف الإلهي بهذا الذي يكشف عنه العلم البشري، فمجال هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري، أو كل ما يروض به هذا الكون بطبيعة الحال.
3. إن الله ـ سبحانه ـ يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وتراض عليه، ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة؛ ثم يقرر لهم ـ بعد ندائهم ذلك النداء ـ أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
4. وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم.. إنها التقوي.. فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثارا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوي عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفا وضيئا يتجهون إليه عن طريق الصيام.. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
5. ثم يثني الله تعالى بتقرير أن الصوم أيام معدودات، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر، ومع هذا فقد أعفي من أدائه المرضى حتى يصحوا، والمسافرون حتى يقيموا، تحقيقا وتيسيرا: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.. وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد، فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر، على أن يقضي المريض حين يصح والمسافر حين يقيم، وهذا هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر، فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم إنما هي المرض والسفر إطلاقا، لإرادة اليسر بالناس لا العسر، ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر؛ فقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر؛ وقد تكون هناك مشقات أخرى لا تظهر للحظتها، أو لا تظهر للتقدير البشري.. وما دام الله لم يكشف عن علة الحكم فنحن لا نتأولها؛ ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها، فوراءها قطعا حكمة، وليس من الضروري أن نكون نحن ندركها.
6. يبقى أن القول بهذا يخشى أن يحمل المترخصين على شدة الترخص، وأن تهمل العبادات المفروضة لأدنى سبب، مما جعل الفقهاء يتشددون ويشترطون، ولكن هذا ـ في اعتقادي ـ لا يبرر التقييد فيما أطلقه النص، فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى، وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوي، والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق، وهذا الدين دين الله لا دين الناس، والله أعلم بتكامل هذا الدين، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد؛ وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها، بل لا بد أن يكون الأمر كذلك، ومن ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم، وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام؛ ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوي في أرواحهم، وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع، وسد للذرائع، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف، إذ هي حساب بين العبد والرب، لا تتعلق به مصالح العباد تعلقا مباشرا كأحكام المعاملات التي يراعى فيها الظاهر، والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب، وإذا وجدت التقوي لم يتفلت متفلت، ولم يستخدم الرخصة إلا حيث يرتضيها قلبه، ويراها هي الأولى، ويحس أن طاعة الله في أن يأخذ بها في الحالة التي يواجهها، أما تشديد الأحكام جملة في العبادات أو الميل إلى التضييق من إطلاق الرخص التي أطلقتها النصوص، فقد ينشئ حرجا لبعض المتحرجين، في الوقت الذي لا يجدي كثيرا في تقويم المتفلتين.. و الأولى على كل حال أن نأخذ الأمور بالصورة التي أرادها الله في هذا الدين، فهو أحكم منا وأعلم بما وراء رخصه وعزائمه من مصالح قريبة وبعيدة.. وهذا هو جماع القول في هذا المجال.
7. بقي أن نثبت هنا بعض ما روي من السنة في حالات متعددة من حالات السفر، في بعضها كان التوجيه إلى الفطر وفي بعضها لم يقع نهي عن الصيام.. وهي بمجموعها تساعد على تصور ما كان عليه السلف الصالح من إدراك للأمر، قبل أن تأخذ الأحكام شكل التقعيد الفقهي على أيدي الفقهاء المتأخرين، وصورة سلوك أولئك السلف أملأ بالحيوية، وألصق بروح هذا الدين وطبيعته، من البحوث الفقهية؛ ومن شأن الحياة معها وفي جوها أن تنشئ في القلب مذاقا حيّا لهذه العقيدة وخصائصها:
أ. عن جابر قال خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ (كراع الغميم) فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة).. (أخرجه مسلم والترمذي)
ب. وعن أنس قال: كنا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فنزلنا منزلا في يوم حار، أكثرنا ظلا صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، فسقط الصوام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذهب المفطرون اليوم بالأجر).. (أخرجه الشيخان والنسائي)
ج. وعن جابر قال كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في سفر، فرأى رجلا قد اجتمع عليه الناس، وقد ظلل عليه، فقال: ما له؟ فقالوا: رجل صائم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ليس من البر الصوم في السفر).. (أخرجه مالك والشيخان وأبو داوود والنسائي)
د. وعن عمرو بن أمية الضمري قال قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من سفر، فقال: انتظر الغداء يا أبا أمية، قلت: يا رسول الله إني صائم، قال إذا أخبرك عن المسافر، إن الله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة)، (أخرجه النسائي)
هـ. وعن رجل من بني عبد الله بن كعب بن مالك اسمه أنس بن مالك، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إن الله تعالى وضع شطر الصلاة عن المسافر وأرخص له في الإفطار وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما)، (أخرجه أصحاب السنن)
و. وعن عائشة قالت: سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الصوم في السفر، (وكان كثير الصيام) فقال: (إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)، (أخرجه مالك والشيخان وأبو داوود والترمذي والنسائي) وفي رواية أخرى وكان جلدا على الصوم.
ز. وعن أنس قال كنا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا الصائم يعيب على المفطر، ولا المفطر يعيب على الصائم).. (أخرجه مالك والشيخان وأبو داوود)
ح. وعن أبي الدرداء قال خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر؛ وما فينا صائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وابن رواحة رضي الله عنه.. (أخرجه الشيخان وأبو داوود)
ط. وعن محمد بن كعب قال أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا، وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب سفره، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال نعم، ثم ركب.. (أخرجه الترمذي)
ي. وعن عبيد بن جبير قال كنت مع أبي بصرة الغفاري ـ صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ رضي الله عنه في سفينة من الفسطاط في رمضان، فدفع فقرّب غداؤه، فقال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت؟ قال أترغب عن سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ فأكل وأكلت.. (أخرجه أبو داوود) 11 ـ وعن منصور الكلبي: أن دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط، وذلك ثلاثة أميال، في رمضان، فأفطر وأفطر معه ناس كثير، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أن أراه، إن قوما رغبوا عن هدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، اللهم اقبضني إليك.. (أخرجه أبو داوود)..
8. هذه الأحاديث في جملتها تشير إلى تقبل رخصة الإفطار في السفر في سماحة ويسر، وترجح الأخذ بها، ولا تشترط وقوع المشقة للأخذ بها كما يشير إلى ذلك الحديثان الأخيران بوجه خاص، وإذا كان الحديث الثامن منها يشير إلى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده ظل مرة صائما مع المشقة هو وعبد الله بن رواحة، فقد كانت له صلّى الله عليه وآله وسلّم خصوصيات في العبادة يعفى منها أصحابه، كنهيه لهم عن مواصلة الصوم وهو كان يواصل أحيانا، أي يصل اليوم باليوم بلا فطر، فلما قالوا له في هذا، قال: (إني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني).. (أخرجه الشيخان) وثابت من الحديث الأول أنه أفطر وقال عن الذين لم يفطروا: أولئك العصاة، أولئك العصاة، وهذا الحديث متأخر ـ في سنة الفتح ـ فهو أحدث من الأحاديث الأخرى، وأكثر دلالة على الاتجاه المختار.
9. الصورة التي تنشأ في الحس من مجموع هذه الحالات.. أنه كانت هناك مراعاة لحالات واقعية، تقتضي توجيها معينا ـ كما هو الشأن في الأحاديث التي تروى في الموضوع العام الواحد، ونجد فيها توجيهات متنوعة ـ فالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يربي وكان يواجه حالات حية، ولم يكن يواجهها بقوالب جامدة! ولكن الانطباع الأخير في الحس في أمر الصوم في السفر هو استحباب الفطر، دون تقيد بحصول المشقة بالفعل.. أما المرض فلم أجد فيه شيئا إلا أقوال الفقهاء، والظاهر أنه مطلق في كل ما يثبت له وصف المرض، بلا تحديد في نوعه وقدره ولا خوف شدته، على وجوب القضاء يوما بيوم في المرض والسفر، من غير موالاة في أيام القضاء على الرأي الأرجح.
10. استطردت هذا الاستطراد لا لأخوض في خلافات فقهية؛ ولكن لتقرير قاعدة في النظر إلى الشعائر التعبدية، وارتباطها الوثيق بإنشاء حالة شعورية هي الغاية المقدمة منها، وهذه الحالة هي التي تحكم سلوك المتعبد؛ وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره، وحسن أدائه للعبادة وحسن سلوكه في الحياة.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن نأخذ هذا الدين ـ كما أراده الله ـ بتكاليفه كلها، طاعة وتقوى؛ وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه، متكاملا متناسقا، في طمأنينة إلى الله، ويقين بحكمته، وشعور بتقواه.
11. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ في أول الأمر كان تكليف الصوم شاقا على المسلمين ـ وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة قبيل فرض الجهاد ـ فجعل الله فيه رخصة لمن يستطيع الصوم بجهد ـ وهو مدلول يطيقونه ـ فالإطاقة الاحتمال بأقصى جهد ـ جعل الله هذه الرخصة، وهي الفطر مع إطعام مسكين.. ثم حببهم في التطوع بإطعام المساكين إطلاقا، إما تطوعا بغير الفدية، وإما بالإكثار عن حد الفدية، كأن يطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر بكل يوم من أيام الفطر في رمضان: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾.. ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة ـ في غير سفر ولا مرض ـ: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.. لما في الصوم من خير في هذه الحالة، يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة، وتقوية الاحتمال، وإيثار عبادة الله على الراحة، وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية..
12. على أية حال فقد كان هذا التوجيه تمهيدا لرفع هذه الرخصة عن الصحيح المقيم وإيجاب الصيام إطلاقا، كما جاء فيما بعد، وقد بقيت للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم، ولا ترجى له حالة يكون فيها قادرا على القضاء.. فأخرج مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي.. وقال ابن عباس: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا.. وعن ابن أبي ليلى قال دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل، فقال: قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر، فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بالآية الآتية: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾
13. وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم.. إنها صوم رمضان: الشهر الذي أنزل فيه القرآن ـ إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان ـ والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها هذه النشأة، وبدلها من خوفها أمنا، ومكن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة، ولم تكن من قبل شيئا، وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء، فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صومه.
14. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم ـ فيما عدا الشيخ والشيخة كما أسلفنا.
15. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.. أي من حضر منكم الشهر غير مسافر، أو من رأى منكم هلال الشهر، والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى كالذي يشهده في إيجاب الصوم عليه عدة أيام رمضان.
16. ولما كان هذا نصا عاما فقد عاد ليستثني منه من كان مريضا أو على سفر: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
17. وتحبيب ثالث في أداء الفريضة، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.. وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها، فهي ميسرة لا عسر فيها، وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد، سماحة تؤدى معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء، مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين.
18. جعل الله تعالى الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر، فلا يضيع عليه أجرها: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾
19. والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.. فهذه غاية من غايات الفريضة.. أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم، وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة، وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها، وهم شاعرون بالهدى ملموسا محسوسا، ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة، ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة، كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
20. وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقّا على الأبدان والنفوس، وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوي ورقابة الله وحساسية الضمير.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/168.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في آية البر لم يذكر الصوم فيما ذكر من شعائر البر، ولكن قد أشير إليه ضمنا في قوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ إذ كان الصوم مما يدخل في دائرة الصبر.. بل هو (الصبر) نفسه.
2. فى هذه الآية بيان لفريضة الصوم ووقتها وأحكامها، كما ذكر، في الآيات التي قبلها من أعمال البر: القصاص في القتلى، والوصية عند الموت، وهما أمران يستندان إلى الصبر، وكما سيذكر بعد ذلك الجهاد في سبيل، وهو أمر لا يقوم إلا على الصبر.
3. فى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ بيان لمن أبيح لهم الخروج من هذا الحكم العام الذي دخل فيه المسلمون جميعا، وهو وجوب الصوم.. يقال: طاق الشيء يطوقه طوقا وطاقة، وأطاقه إطاقة إذا قوى عليه، وطوّقه تطويقا ألبسه الطوق، يقول الله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، ومعنى هذا أن الذي يطيق شيئا إنما يعطيه طاقته، أي كل قوته، وهذا لا يكون إلا مع الأمر الشاق، الذي لا يقدر عليه إلا بجهد ومشقّة.
4. ﴿الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ هم الذين يرهقهم الصوم، ويبلغ بهم المشقة والجهد، كالمريض مرضا ملازما، وكمن دخل مرحلة الشيخوخة، وكبعض الحوامل اللائي يعانين من حملهن ما يلزمهن نظاما خاصّا في التغذية.. وهكذا كلّ من خرج بناؤه الجسدي عن حد الاعتدال، فلا يستطيع الصوم، وإن استطاعه وجد المشقة والحرج، فلهؤلاء أن يفطروا، فقد رفع الله عنهم الحرج بقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، وبقوله سبحانه: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾
5. الفدية هي ما يفتدى به المفطر الذي أباحت له حاله الجسدية الإفطار، وهو ما يقدمه كفّارة عن إفطاره، كما بينه الله تعالى في قوله تعالى: ﴿طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ أي عن كل يوم.
6. قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ ترغيب في عمل البر والاستزادة منه، فإذا جعل الله سبحانه الفدية الواجبة هي طعام مسكين، فإنما ذلك رحمة بعباده ورفقا بالمعسرين منهم، وتمكينا للفقراء أن يلحقوا بالأغنياء، بتقديم هذا القربان إلى الله، وبالمشاركة في البر والمواساة، ثم إن باب التطوع متسع مع هذا لمن تسخو نفسه بالبذل، وتسمح يده بالعطاء: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾
7. فى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ما يضبط ميزان الاتجاه إلى الإفطار عند ذوى الأعذار، فلا يميل بهم إلى التفلّت من الصوم، مع الجهد المحتمل، ومع المشقة الممكنة، فالصوم تكليف، ولكل تكليف أعباؤه ومشقاته، وإلا لما كان ثواب وجزاء.. فترجيح جانب الصوم على جانب الإفطار مع الفدية ومع قيام العذر ـ من شانه ألا يجعل للأعذار الواهية مدخلا للترخص في هذه العبادة، والتحلل منها لأقل مشقة وأقل جهد.
8. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ اقتضت حكمة الله تعالى، إذ فرض على المسلمين الصوم أن جعل له خير وقت بالنسبة لهم، وهو شهر رمضان، ذلك الشهر الذي بدأ فيه نور القرآن، وافتتحت فيه طريق الرسالة الإسلامية بين السماء والأرض، تتنزل أنوار الهداية والرحمة، فكان اتصال المسلمين بالله في هذا الشهر، والتقرب بالصوم فيه، أنسب وقت وأعدله، لإفاضة المشاعر الكريمة، وإيقاظ الأحاسيس السامية في الإنسان، ليخلص وجهه لله، وليصفّى روحه من دخان المادة وغباره؟
9. فى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ إشارة إلى معنيين أولهما مشاهدة الشهر ورؤيته، واقعا أو حكما، وثانيهما الحضور، من غير مرض أو سفر.
10. قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ معطوف على مقدر محذوف بعد قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ أي أن الله يسّر لكم هذه الفريضة، وقرنها بما يدافع المشقة والحرج عنكم لتؤدوها ولتكملوا عدتها، ولتكبروا الله وتشكروه على أن هداكم ووفق لأداء هذه الفريضة، وتعرضكم لما أعدّ الله من ثواب عليها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/200.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردا فردا؛ إذ منها يتكون المجتمع، وفصلت الجملة عن سابقتها للانتقال إلى غرض آخر، وافتتحت بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لما في النداء من إظهار العناية بما سيقال بعده.
2. الصيام ـ ويقال الصوم ـ هو في اصطلاح الشرع: اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله.
3. الصيام اسم منقول من مصدر فعال وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة، وقياس المصدر الصوم، وقد ورد المصدران في القرآن، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلّا على ترك كل طعام وشراب، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء لم يكن صياما كما قال العرجي:
çفإن شئت حرّمت النساء سواكم...وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا برداé
وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقه على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة:
çخيل صيام وخيل غير صائمة...تحت العجاج وأخرى تعلك اللّجماé
وأطلق على ترك شرب حمار الوحش الماء، وقال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجترائها بالمرعى الرطب:
çحتى إذا سلخا جمادى ستّة...جزءا فطال صيامه وصيامهاé
والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والشرب بقصد القربة فقد عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره، وقول الفقهاء: إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك، وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي، لا يصح، لأنه مخالف لأقوال أهل اللغة كما في (الأساس) وغيره، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول عيسى: ﴿فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ [مريم: 26] فليس إطلاقا للصوم على ترك الكلام ولكن المراد أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل.
4. التعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني، أي كتب عليكم جنس الصيام المعروف، وقد كان العرب يعرفون الصوم، فقد جاء في (الصحيحين) عن عائشة قالت: (كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية) وفي بعض الروايات قولها: (وكان رسول الله يصومه) وعن ابن عباس: (لما هاجر رسول الله إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال ما هذا، فقالوا: هذا يوم نجّى الله فيه موسى، فنحن نصومه فقال رسول الله: نحن أحق بموسى منكم فصام وأمر بصومه)، فمعنى سؤاله هو السؤال عن مقصد اليهود من صومه لا تعرف أصل صومه، وفي حديث عائشة (فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء لم يصمه فوجب صوم يوم عاشوراء بالسنة ثم نسخ ذلك بالقرآن.
5. فالمأمور به صوم معروف زيدت في كيفيته المعتبرة شرعا قيود تحديد أحواله وأوقاته بقوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ إلى قوله ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187]، وقوله: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ [البقرة: 185] الآية، ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 185] وبهذا يتبين أن في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ إجمالا وقع تفصيله في الآيات بعده.
6. حصل في صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها، ولم يكن صيامنا مماثلا لصيامهم تمام المماثلة، فقوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات، والتشبيه يكتفى فيه ببعض وجوه المشابهة وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة، ولكن فيهم أغراضا ثلاثة تضمنها التشبيه:
أ. أحدها: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطّراد صلاحها ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كيلا يتميز بها من كان قبلهم، إن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات كما ورد في الحديث: (أنّ ناسا من أصحاب رسول الله قالوا يا رسول الله ذهب أهل الدّثور بالأجور يصلّون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم) الحديث، ويحبون التفضيل على أهل الكتاب وقطع تفاخر أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة قال تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ [الأنعام: 156، 157]، فلا شك أنهم يغتبطون أمر الصوم وقد كان صومهم الذي صاموه وهو يوم عاشوراء إنما اقتدوا فيه باليهود، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أنف، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهمم من المسلمين إذا ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26]
ب. الثاني أن في التشبيه بالسابقين تهوينا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام، وقد أكّد هذا المعنى الضّمني قوله بعده: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾
ج. الثالث إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة، وقال أبو بكر بن العربي في (العارضة) قوله: (كان من قول مالك في كيفية صيامنا أنه كان مثل صيام من قبلنا وذلك معنى قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وفيه بحث سنتعرض له عند تفسير قوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 187]، فهذه الآية شرعت وجوب صيام رمضان، لأن فعل ﴿كُتِبَ﴾ يدل على الوجوب، وابتداء نزول سورة البقرة كان في أول الهجرة كما تقدم فيكون صوم عاشوراء تقدم عاما ثم فرض رمضان في العام الذي يليه وفي (الصحيح) أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صام تسع رمضانات فلا شك أنه صام أول رمضان في العام الثاني من الهجرة ويكون صوم عاشوراء قد فرض عاما فقط وهو أول العام الثاني من الهجرة.
7. المراد بالذين من قبلكم من كان قيل المسلمين من أهل الشرائع:
أ. وهم أهل الكتاب أعني اليهود؛ لأنهم الذين يعرفهم المخاطبون ويعرفون ظاهر شئونهم وكانوا على اختلاط بهم في المدينة وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم وهو الشهر المسمى عندهم (تسري) يبتدئ الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر، وهو يوم كفارة الخطايا، ويسمونه (كبّور) ثم إن أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى وهي الأيام الأول من الأشهر الرابع و الخامس والسابع والعاشر من سنتهم تذكارا لوقائع بيت المقدس وصوم يوم (بوريم) تذكارا لنجاتهم من غصب ملك الأعاجم (أحشويروش) في واقعة (استير)، وعندهم صوم التطوع، وفي الحديث: (أحب الصيام إلى الله صيام داوود كان يصوم يوما ويفطر يوما)
ب. أما النصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم اليهود وفي (صحيح مسلم) عن ابن عباس: (قالوا يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى)، ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين يوما اقتداء بالمسيح؛ إذ صام أربعين يوما قبل بعثته، ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها، إلّا أنهم يتوسعون في صفة الصوم، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة.
8. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع، فهو في قوة المفعول لأجله لكتب، و(لعل) إما مستعارة لمعنى كي استعارة تبعية، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله؛ في إرادته من تشريع الصوم التقوى بحال المترجي من غيره فعلا ما، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي، لأن المعاصي قسمان:
أ. قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير.
ب. وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها، لأنه يعدّل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الرّوحاني، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية، وفي الحديث الصحيح (الصّوم جنّة)، أي وقاية ولما ترك ذكر متعلّق جنّة تعيّن حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات.
9. ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ ظرف للصيام مثل قولك: الخروج يوم الجمعة، ولا يضر وقوع الفصل بين ﴿الصِّيَامِ﴾ وبين ﴿أَيَّامًا﴾ وهو قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ إلى ﴿تَتَّقُونَ﴾ لأن الفصل لم يكن بأجنبي عند التحقيق، إذ الحال والمفعول لأجله المستفاد من (لعلّ) كل ذلك من تمام عامل المفعول فيه وهو قوله صيام، ومن تمام العامل في ذلك العامل وهو ﴿كُتِبَ﴾ فإن عامل العامل في الشيء عامل في ذلك الشيء ولجواز الفصل بالأجنبي إذا كان المعمول ظرفا، لاتساعهم في الظروف وهذا مختار الزجاج والزمخشري والرضي، ومرجع هذه المسألة إلى تجنب تشتيت الكلام باختلال نظامه المعروف، تجنبا للتعقيد المخل بالفصاحة.
10. الغالب على أحوال الأمم في جاهليتها وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة، وكل ذلك يوفر القوى الجسمانية والدموية في الأجساد، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية، وتطغيان على القوة العاقلة، فجاءت الشرائع بشرع الصيام، لأنه يفي بتهذيب تلك القوى، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها، فتكون نتيجته تعديلها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرى.
11. الصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو ترك بعض المأكل: أصل قديم من أصول التقوي لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان، بناء على أن للإنسان قوتين: إحداهما روحانية منبثة في قرارتها من الحواس الباطنية، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعة تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه وكان نقصانه يقتّر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان، بحيث يصير لا حظّ له في الحيوانية إلّا حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية النفس وإعدادها للعوالم الأخروية، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حكمة الإشراق، وفي كيفيته تختلف الشرائع اختلافا مناسبا للأحوال المختصة هي بها بحيث لا يفيت المقصد من الحياتين، ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفيّة التي جاء بها الإسلام.
12. قيل في (هياكل النور): (النفوس الناطقة من جوهر الملكوت إنما شغلها عن عالمها القوى البدنية ومشاغلتها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحيانا إلى عالم القدس وتتصل بأبيها المقدس وتتلقّى منه المعارف)، فمن الصوم ترك البراهمة أكل لحوم الحيوان والاقتصار على النبات أو الألبان، وكان حكماء اليونان يرتاضون على إقلال الطعام بالتدريج حتى يعتادوا تركه أياما متوالية، واصطلحوا على أن التدريج في إقلال الطعام تدريجا لا يخشى منه انخرام صحة البدن أن يزن الحكيم شبعه من الطعام بأعواد من شجر التين رطبة ثم لا يجددها فيزن بها كل يوم طعامه لا يزيد على زنتها وهكذا يستمر حتى تبلغ من اليبس إلى حد لا يبس بعده فتكون هي زنة طعام كل يوم، وفي (حكمة الإشراق) للسهروردي (وقبل الشروع في قراءة هذا الكتاب يرتاض أربعين يوما تاركا للحوم الحيوانات مقللا للطعام منقطعا إلى التأمل لنور الله)
13. إذ قد كان من المتعذر على الهيكل البشري بما هو مستودع حياة حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته، فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها فكان من اللّازم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان، لذلك كان الصوم أهم مقدمات هذا الغرض، لأن فيه خصلتين عظيمتين؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها، وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذرا كما علمت، حاول أساطين الحكمة النفسانية الإقلال منه، فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء، ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأديان وهو أبلغ إلى القصد وأظهر في ملكة الصبر، وبذلك يحصل للإنسان دربة على ترك شهواته، فيتأهل للتخلق بالكمال فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف عن هواه وشهواته:
çإذا المرء لم يترك طعاما يحبّه...ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلقى له الدهر سبّة...إذا ذكرت أمثالها تملأ الفماé
14. سؤال وإشكال: إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياض النفس على ترك الشهوات وإثارة الشعور بما يلاقيه أهل الخصاصة من ألم الجوع، واستشعار المساواة بين أهل الجدة والرفاهية وأهل الشظف في أصول الملذات بني الفريقين من الطعام والشراب واللهو، فلما ذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام ولما ذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة، ولم تكل ذلك إلى المسلم يتخذ لإراضة نفسه ما يراه لائقا به في تحصيل المقاصد المرادة؟ والجواب: شأن التعليم الصالح أن يضبط للمتعلم قواعد وأساليب تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يزاولها فإن معلم الرياضة البدنية يضبط للتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصابا وركوعا وقرفصاء، بعض ذلك يثمر قوة عضلاته وبعضها يثمر اعتدال الدورة الدموية وبعضها يثمر وظائف شرايينه، وهي كيفيات حددها أهل تلك المعرفة وأدنوا بها حصول الثمرة المطلوبة، ولو وكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم وهذا يدخل تحت قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]
15. المراد بالأيام من فقوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ شهر رمضان عند جمهور المفسرين، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضا؛ تهوينا لأمره على المكلفين، والمعدودات كناية عن القلة؛ لأن الشيء القليل يعد عدا؛ ولذلك يقولون: الكثير لا يعد، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر، قال أبو حيان عند قوله تعالى الآتي بعده: (﴿مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 185] صفة الجمع الذي لا يعقل تارة تعامل معاملة الواحدة المؤنثة، نحو قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ فمعدودات جمع لمعدودة، وأنت لا تقول يوم معدودة وكلا الاستعمالين فصيح، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقا، وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه أن يكون مؤنثا مفردا، لأن الجمع قد أول بالجماعة والجماعة كلمة مفردة وهذا هو الغالب، غير أنهم إذا أرادوا التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ليكون في معنى الجماعات وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ولأجل هذا قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80] لأنهم يقللونها غرورا أو تغريرا، وقال هنا ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾ لأنها ثلاثون يوما، وقال في الآية الآتية: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197] وهذا مثل قوله في جمع جمل ﴿جِمَالَاتٌ﴾ [المرسلات: 33] على أحد التفسيرين وهو أكثر من جمال، وعن المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة تقول: الجذوع انكسرت والقليل منه يجيء بصيغة الجمع تقول: الأجذاع انكسرن) وهو غير ظاهر.
16. وقيل المراد بالأيام غير رمضان بل هي أيام وجب صومها على المسلمين عندما فرض الصيام بقوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ ثم نسخ صومها بصوم رمضان وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض الثالث عشر و الرابع عشر و الخامس عشر، وإليه ذهب معاذ وقتادة وعطاء ولم يثبت من الصوم المشروع للمسلمين قبل رمضان إلّا صوم يوم عاشوراء كما في (الصحيح) وهو مفروض بالسنة، وإنما ذكر أن صوم عاشوراء والأيام البيض كان فرضا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يثبت رواية، فلا يصح كونها المراد من الآية لا لفظا ولا أثرا، على أنه قد نسخ ذلك كله بصوم رمضان كما دل عليه حديث السائل الذي قال: (لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أفلح إن صدق)
17. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ تعقيب لحكم العزيمة بحكم الرخصة، فالفاء لتعقيب الأخبار لا للتفريع، وتقديمه هنا قبل ذكر بقية تقدير الصوم تعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال.
18. المريض من قام به المرض وهو انحراف المزاج عن حد الاعتدال الطبيعي بحيث تثور في الجسد حمى أو وجع أو فشل، وقد اختلف الفقهاء في تحديد المرض الموجب للفطر، فأما المرض الغالب الذي لا يستطيع المريض معه الصوم بحال بحيث يخشى الهلاك أو مقاربته فلا خلاف بينهم في أنه مبيح للفطر، بل يوجب الفطر، وأما المرض الذي دون ذلك فقد اختلفوا في مقداره فذهب محققو الفقهاء إلى أنه المرض الذي تحصل به مع الصيام مشقة زائدة على مشقة الصوم للصحيح من الجوع والعطش المعتادين، بحيث يسبب له أوجاعا أو ضعفا منهكا أو تعاوده به أمراض ساكنة أو يزيد في انحرافه إلى حد المرض أو يخاف تمادي المرض بسببه، وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفاوت بينهم في التعبير، وأعدل العبارات ما نقل عن مالك؛ لأن الله أطلق المرض ولم يقيده، وقد علمنا أنه ما أباح للمريض الفطر إلّا لأن لذلك المرض تأثيرا في الصائم، ويكشف ضابط ذلك قول القرافي في الفرق الرابع عشر إذ قال: (إن المشاق قسمان: قسم ضعيف لا تنفك عنه تلك العبادة كالوضوء والغسل في زمن البرد وكالصوم، وكالمخاطرة بالنفس في الجهاد، وقسم هو ما تنفك عنه العبادة وهذا أنواع: نوع لا تأثير له في العبادة كوجع إصبع، فإن الصوم لا يزيد وجع الأصبع وهذا لا التفات إليه، ونوع له تأثير شديد مع العبادة كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع وهذا يوجب سقوط تلك العبادة، ونوع يقرب من هذا فيوجب ما يوجبه)
19. ذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري إلى أن المرض وهو الوجع والاعتلال يسوغ الفطر ولو لم يكن الصوم مؤثرا فيه شدة أو زيادة؛ لأن الله تعالى جعل المرض سبب الفطر كما جعل السفر سبب الفطر من غير أن تدعو إلى الفطر ضرورة كما في السفر، يريدون أن العلة هي مظنة المشقة الزائدة غالبا، قيل: دخل بعضهم على ابن سيرين في نهار رمضان وهو يأكل فلما فرغ قال: إنه وجعتني إصبعي هذه فأفطرت، وعن البخاري قال: اعتللت بنيسابور علة خفيفة في رمضان فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله قلت: نعم أخبرنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ قال من أي مرض كان كما قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾
20. وقيل: إذا لم يقدر المريض على الصلاة قائما أفطر، وإنما هذه حالة خاصة تصلح مثالا ولا تكون شرطا، وعزي إلى الحسن والنخعي ولا يخفى ضعفه؛ إذ أين القيام في الصلاة من الإفطار في الصيام، وفي هذا الخلاف مجال للنظر في تحديد مدى الانحراف والمرض المسوغين إفطار الصائم، فعلى الفقيه الإحاطة بكل ذلك ونقربه من المشقة الحاصلة للمسافر وللمرأة الحائض.
21. ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ أي أو كان بحالة السفر وأصل (على) الدلالة على الاستعلاء ثم استعملت مجازا في التمكن كما تقدم في قوله تعالى: ﴿عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: 5]، ثم شاع في كلام العرب أن يقولوا فلان على سفر أي مسافر ليكون نصا في التلبس، لأن اسم الفاعل يحتمل الاستقبال فلا يقولون على سفر للعازم عليه وأما قول الشاعر:
çماذا على البدر المحجّب لو سفر...إن المعذّب في هواه على سفرé
أراد أنه على وشك الممات فخطأ من أخطاء المولدين في العربية، فنبه الله تعالى بهذا اللفظ المستعمل في التلبس بالفعل، على أن المسافر لا يفطر حتى يأخذ في السير في السفر دون مجرد النية.
22. والمسألة مختلف فيها فعن أنس بن مالك أنه أراد السفر في رمضان فرحّلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب وقال: هذه السنة، رواه الدارقطني، وهو قول الحسن البصري، وقال جماعة: إذا أصبح مقيما ثم سافر بعد ذلك فلا يفطر يومه ذلك وهو قول الزهري، ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور، فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة، وبالغ بعض المالكية فقال: عليه الكفارة وهو قول ابن كنانة والمخزومي، ومن العجب اختيار ابن العربي إياه، وقال أبو عمر بن عبد البر: ليس هذا بشيء لأن الله أباح له الفطر بنص الكتاب، ولقد أجاد أبو عمر، وقال أحمد وإسحاق والشّعبي: يفطر إذا سافر بعد الصبح ورووه عن ابن عمر وهو الصحيح الذي يشهد له حديث ابن عباس في (صحيحي البخاري ومسلم) (خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه فأفطر حتى قدم مكة)، قال القرطبي: وهذا نص في الباب فسقط ما يخالفه.
23. إنما قال تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ ولم يقل: فصيام أيام أخر، تنصيصا على وجوب صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر؛ إذ العدد لا يكون إلّا على مقدار مماثل، فمن للتبعيض إن اعتبر أيام أعم من أيام العدة أي من أيام الدهر أو السنة، أو تكون من تمييز عدة أي عدة هي أيام مثل قوله تعالى: ﴿بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ﴾ [آل عمران: 125]، ووصف الأيام بأخر وهو جمع الأخرى اعتبارا بتأنيث الجمع؛ إذ كل جمع مؤنث، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى آنفا: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ قال أبو حيّان: واختير في الوصف صيغة الجمع دون أن يقال أخرى لئلا يظن أنه وصف لعدة، وفيه نظر؛ لأن هذا الظن لا يوقع في لبس؛ لأن عدة الأيام هي أيام فلا يعتني بدفع مثل هذا الظن، فالظاهر أن العدول عن أخرى لمراعاة صيغة الجمع في الموصوف مع طلب خفة اللفظ.
24. لفظ ﴿آخَرَ﴾ ممنوع من الصرف في كلام العرب، وعلل جمهور النحويين منعه من الصرف على أصولهم بأن فيه الوصفية والعدل، أما الوصفية ظاهرة وأما العدل فقالوا: لما كان جمع آخر ومفرده بصيغة اسم التفضيل وكان غير معرّف باللام كان حقه أن يلزم الإفراد والتذكير جريا على سنن أصله وهو اسم التفضيل إذا جرد من التعريف باللام ومن الإضافة إلى المعرفة أنه يلزم الإفراد والتذكير فلما نطق به العرب مطابقا لموصوفه في التثنية والجمع علمنا أنهم عدلوا به عن أصله (والعدول عن الأصل يوجب الثقل على اللسان؛ لأنه غير معتاد الاستعمال) فخففوه لمنعه من الصرف وكأنهم لم يفعلوا ذلك في تثنيته وجمعه بالألف والنون لقلة وقوعهما، وفيه ما فيه.
25. لم تبين الآية صفة قضاء صوم رمضان، فأطلقت ﴿عدة من أيام أخر﴾، فلم تبين أتكون متتابعة أم يجوز تفريقها؟ ولا وجوب المبادرة بها أو جواز تأخيرها، ولا وجوب الكفارة على الفطر متعمدا في بعض أيام القضاء، ويتجاذب النظر في هذه الثلاثة دليل التمسك بالإطلاق لعدم وجود ما يقيده كما يتمسك بالعام إذا لم يظهر المخصص، ودليل أن الأصل في قضاء العبادة أن يكون على صفة العبادة المقضية.
26. أما حكم تتابع أيام القضاء، فروى الدار قطني بسند صحيح قالت عائشة نزلت ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ متتابعات فسقطت متتابعات، تريد نسخت وهو قول الأئمة الأربعة وبه قال من الصحابة أبو هريرة، وأبو عبيدة، ومعاذ بن جبل، وابن عباس، وتلك رخصة من الله، ولأجل التنبيه عليها أطلق قوله تعالى: ﴿مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ ولم يقيد بالتتابع كما قال في كفارة الظهار وفي كفارة قتل الخطأ، فلذلك ألغى الجمهور إعمال قاعدة جريان قضاء العبادة على صفة المقضي ولم يقيدوا مطلق آية قضاء الصوم بما قيّدت به آية كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ، وفي (الموطأ) عن ابن عمر أنه يقول: يصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو سفر، قال الباجي في (المنتقى): يحتمل أن يريد به الوجوب وأن يريد الاستحباب.
27. أما المبادرة بالقضاء، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يقتضيها، وقوله هنا: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ مراد به الأمر بالقضاء، وأصل الأمر لا يقتضي الفور، ومضت السنة على أن قضاء رمضان لا يجب فيه الفور بل هو موسّع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه، وفي (الصحيح) عن عائشة قالت: يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلّا في شعبان، وهذا واضح الدلالة على عدم وجوب الفور، وبذلك قال جمهور العلماء وشذ داوود الظاهري فقال: يشرع في قضاء رمضان ثاني يوم من شوال المعاقب له.
28. من أفطر متعمدا في يوم من أيام قضاء رمضان فالجمهور على أنه لا كفارة عليه؛ لأن الكفارة شرعت حفظا لحرمة شهر رمضان وليس لأيام القضاء حرمة وقال قتادة: تجب عليه الكفارة بناء على أن قضاء العبادة يساوي أصله.
29. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ عطف على قوله تعالى: ﴿عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ والمعطوف بعض المعطوف عليه فهو في المعنى كبدل البعض أي وكتب على الذين يطيقونه فدية؛ فإن الذين يطيقونه بعض المخاطبين بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، والمطيق هو الذي أطاق الفعل أي كان في طوقه أن يفعله، والطاقة أقرب درجات القدرة إلى مرتبة العجز، ولذلك يقولون فيما فوق الطاقة: هذا ما لا يطاق، وفسرها الفراء بالجهد بفتح الجيم وهو المشقة، وفي بعض روايات (صحيح البخاري) عن ابن عباس قرأ: (وعلى الذين يطوّقونه فلا يطيقونه)، وهي تفسير فيما أحسب، وقد صدر منه نظائر من هذه القراءة، وقيل الطاقة القدرة مطلقا.
30. على تفسير الإطاقة بالجهد فالآية مراد منها الرخصة على من تشتد به مشقة الصوم في الإفطار والفدية، وقد سمّوا من هؤلاء الشيخ الهرم والمرأة المرضع والحامل فهؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم يفطرونه وهذا قول ابن عباس وأنس بن مالك والحسن البصري وإبراهيم النخعي وهو مذهب مالك والشافعي، ثم من استطاع منهم القضاء قضى ومن لم يستطعه لم يقض مثل الهرم، ووافق أبو حنيفة في الفطر؛ إلّا أنّه لم ير الفدية إلّا على الهرم لأنه لا يقضي بخلاف الحامل والمرضع، ومرجع الاختلاف إلى أن قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ هل هي لأجل الفطر أم لأجل سقوط القضاء؟ والآية تحتملهما إلّا أنها في الأول أظهر، ويؤيد ذلك فعل السلف، فقد كان أنس بن مالك حين هرم وبلغ عشرا بعد المائة يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا خبزا ولحما.
31. على تفسير الطاقة بالقدرة فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع قالوا في حمل الآية عليه: إنها حينئذ تضمنت حكما كان فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فرض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185] ونقل ذلك عن ابن عباس وفي البخاري عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع نسختها آية ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ [البقرة: 185] ثم أخرج عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر.
32. نلحق بالهرم والمرضع والحامل كلّ من تلحقه مشقة أو توقّع ضر مثلهم وذلك يختلف باختلاف الأمزجة واختلاف أزمان الصوم من اعتدال أو شدة برد أو حر، وباختلاف أعمال الصائم التي يعملها لاكتسابه من الصنائع كالصائغ والحدّاد والحمامي وخدمة الأرض وسير البريد وحمل الأمتعة وتعبيد الطرقات والظّئر.
33. فسرت الفدية بالإطعام إما بإضافة المبيّن إلى بيانه كما قرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وأبو جعفر: (فدية طعام مساكين)، بإضافة فدية إلى طعام، وقرأه الباقون بتنوين (فدية) وإبدال (طعام) من (فدية)، وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (مساكين) بصيغة الجمع جمع مسكين، وقرأه الباقون بصيغة المفرد، والإجماع على أن الواجب إطعام مسكين، فقراءة الجمع مبنية على اعتبار جمع الذين يطيقونه من مقابلة الجمع بالجمع مثل ركب الناس دوابهم، وقراءة الإفراد اعتبار بالواجب على آحاد المفطرين.
34. الإطعام هو ما يشبع عادة من الطعام المتغذى به في البلد، وقدره فقهاء المدينة مدّا بمد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من برّ أو شعير أو تمر.
35. ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ تفريع على قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾، والتطوع: السعي في أن يكون طائعا غير مكره أي طاع طوعا من تلقاء نفسه، والخير مصدر خار إذا حسن وشرف وهو منصوب لتضمين ﴿تَطَوَّعَ﴾ معنى أتى، أو يكون ﴿خَيْرًا﴾ صفة لمصدر محذوف أي تطوعا خيرا، ولا شك أن الخير هنا متطوع به فهو الزيادة من الأمر الذي الكلام بصدده وهو الإطعام لا محالة، وذلك إطعام غير واجب فيحتمل أن يكون المراد: فمن زاد على إطعام مسكين واحد فهو خير، وهذا قول ابن عباس، أو أن يكون: من أراد إطعام مع الصيام، قاله ابن شهاب، وعن مجاهد: من زاد في الإطعام على المدّ وهو بعيد؛ إذ ليس المدّ مصرحا به في الآية، وقد أطعم أنس بن مالك خبزا ولحما عن كل يوم أفطره حين شاخ، و﴿خَيْرُ﴾ الثاني في قوله تعالى: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ يجوز أن يكون مصدرا ك الأول ويكون المراد به خيرا آخر أي خير الآخرة، ويجوز أن يكون خير الثاني تفضيلا أي فالتطوع بالزيادة أفضل من تركها وحذف المفضل عليه لظهوره.
36. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الظاهر رجوعه لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ فإن كان قوله ذلك نازلا في إباحة الفطر للقادر فقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا﴾ ترغيب في الصوم وتأنيس به، وإن كان نازلا في إباحته لصاحب المشقة كالهرم فكذلك، ويحتمل أن يرجع إلى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا﴾ وما بعده، فيكون تفضيلا للصوم على الفطر إلّا أن هذا في السفر مختلف فيه بين الأئمة، ومذهب مالك أن الصوم أفضل من الفطر وأما في المرض ففيه تفصيل بحسب شدة المرض.
37. ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ تذييل أي تعلمون فوائد الصوم على رجوعه لقوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ إن كان المراد بهم القادرين أي إن كنتم تعلمون فوائد الصوم دنيا وثوابه أخرى، أو إن كنتم تعلمون ثوابه على الاحتمالات الأخر، وجيء في الشرط بكلمة (إن) لأن علمهم بالأمرين من شأنه ألّا يكون محققا؛ لخفاء الفائدتين.
38. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات، فقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان، والجملة مستأنفة بيانيا، لأن قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 184] يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد شهرا بالنصب على البدلية من ﴿أَيَّامًا﴾: بدل تفصيل.
39. حذف المسند إليه جار على طريقة الاستعمال في المسند إليه إذا تقدم من الكلام ما فيه تفصيل وتبيين لأحوال المسند إليه فهم يحذفون ضميره، وإذا جوّزت أن يكون هذا الكلام نسخا لصدر الآية لم يصح أن يكون التقدير هي شهر رمضان فيتعين أن يكون شهر رمضان مبتدأ خبرهم قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، واقتران الخبر بالفاء حينئذ مراعاة لوصف المبتدأ بالموصول الذي هو شبيه بالشرط ومثله كثير في القرآن وفي كلام العرب، أو على زيادة الفاء في الخبر كقوله: (وقائلة خولان فانكح فتاتهم)، أنشده سيبويه، وكلا هذين الوجهين ضعيف.
40. الشهر جزء من اثني عشر جزءا من تقسيم السنة قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [التوبة: 36] والشهر يبتدئ من ظهور الهلال إلى المحاق ثم ظهور الهلال مرة أخرى، وهو مشتق من الشهرة لأن الهلال يظهر لهم فيشهرونه ليراه الناس فيثبت الشهر عندهم.
41. رمضان علم وليس منقولا؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفعلان من رمض بكسر الميم إذا احترق؛ لأن الفعلان، يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا، وقيل هو منقول عن المصدر، ورمضان علم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم؛ لأن نهاية العام عندهم هي انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم، ألا ترى أن لبيدا جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهرا سادسا إذ قال:
çحتّى إذا سلخا جمادى ستّة...جزءا فطال صيامه وصيامهاé
42. رمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة لأن رمضان أول أشهر الحرارة بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران: الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر، الثاني ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرّطب والتمر وشهراه شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني على أن الأول و الثاني وصف لشهر، ألا ترى أن العرب يقولون (الرطب شهري ربيع)، الثالث الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال حاتم:
çفي ليلة من جمادى ذات أندية...لا يبصر الكلب من ظلمائها الطّنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة...حتّى يلفّ على خيشومه الذّنباé
الرابع الربيع الثاني: و الثاني وصف للربيع ـ وهذا هو وقت ظهور النّور والكمأة وشهراه رجب وشعبان، وهو فصل الدّر والمطر قال النابغة يذكر غزوات النعمان ابن الحارث:
çوكانت لهم ربعيّة يحذرونها...إذا خضخضت ماء السماء القبائلé
وسمّوه الثاني لأنه يجيء بعد الربيع الأول في حساب السنة، قال النابغة:
çفإن يهلك أبو قابوس يهلك...ربيع الثّان والبلد الحرامé
وفي رواية وراوي (ربيع الناس)، وسموا كلا منهما ربيعا لأنه وقت خصب، الفصل الخامس، الصيف وهو مبدأ الحر وشهراه رمضان وشوال، لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب، السادس القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة، وبعض القبائل تقسم السنة إلى أربعة، كل فصل له ثلاثة أشهر؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني: على أن الأول و الثاني وصفان لشهر لا لربيع ـ وجمادى الأولى وجمادى الثانية.
43. لما كانت أشهر العرب قمرية وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي تجيء بها الفصول تنقص أحد عشر يوما وكسرا، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر جعلوا للأشهر كبسا بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء.
44. أسماء الشهور كلّها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ثم وصفه بالأول و الثاني؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول، فالأول والثاني صفتان لشهر، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحده مثل شجر الأراك ومدينة بغداد، وبهذا يشعر كلام سيبويه والمحققين فمن قال إنه لا يقال رمضان إلّا بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدر، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علما فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في أبي هريرة فقد تكلف شططا وخالف ما روي من قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا) بنصب رمضان وإنما انجر إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في (أدب الكاتب)
45. إنما أضيف لفظ الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن الإيجاز المطلوب لهم يقتضي عدم ذكره إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم، وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم؛ لأنه لو قال رمضان لكان ظاهرا لا نصا، لا سيما مع تقدم قوله ﴿أَيَّامًا﴾ [البقرة: 184] فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان، فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفا لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه، ولما كان ذلك حلوله مكررا في كل عام كان وجوب الصوم مكررا في كل سنة إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ولأن ما أجري على الشهر من الصفات يحقق أن المراد منه جميع الأزمنة المسماة به طول الدهر.
46. ظاهر قوله تعالى: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ أن المخاطبين يعلمون أن نزول القرآن وقع في شهر رمضان، لأن الغالب في صلة الموصول أن يكون السامع عالما باختصاصها بمن أجرى عليه الموصول، ولأن مثل هذا الحدث الديني من شأنه ألا يخفى عليهم، فيكون الكلام تذكيرا بهذا الفضل العظيم، ويجوز أيضا أن يكون إعلاما بهذا الفضل وأجري الكلام على طريقة الوصف بالموصول للتنبيه على أن الموصوف مختص بمضمون هذه الصلة بحيث تجعل طريقا لمعرفته، ولا نسلم لزوم علم المخاطب باتصاف ذي الصلة بمضمونها في التعريف بالموصولية، بل ذلك غرض أغلبي كما يشهد به تتبع كلامهم، وليس المقصود الإخبار عن شهر رمضان بأنه أنزل فيه القرآن، لأن تركيب الكلام لا يسمح باعتباره خبرا لأن لفظ ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ خبر وليس هو مبتدأ.
47. المراد بإنزال القرآن ابتداء إنزاله على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن فيه ابتداء النزول من عام واحد وأربعين من الفيل، فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه؛ لأن ذلك القدر المنزل مقدّر إلحاق تكملته به كما جاء في كثير من الآيات مثل قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: 92] وذلك قبل إكمال نزوله فيشمل كل ما يلحق به من بعد، وقد تقدم عند قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ ومعنى ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ﴾ أنزل في مثله؛ لأن الشهر الذي أنزل فيه القرآن قد انقضى قبل نزول آية الصوم بعدة سنين، فإن صيام رمضان فرض من السنة الثانية للهجرة فبين فرض الصيام والشهر الذي أنزل فيه القرآن حقيقة عدة سنين فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله أي في نظيره من عام آخر.
48. جعل الله للمواقيت المحدودة اعتبارا يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد، وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدار كما قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: 5]، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلا مستمرا تنويها بكونها تذكرة لأمر عظيم، ولعل هذا هو الذي جعل الله لأجله سنة الهدي في الحج، لأن في مثل ذلك الوقت ابتلى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عزم إبراهيم وطاعته ربه ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويجيء من هذا إكرام ذرية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمّة.
49. هذا يدل على أن مراد الله تعالى من الأمة صوم ثلاثين يوما متتابعة مضبوطة المبدأ والنهاية متحدة لجميع المسلمين، ولما كان ذلك هو المراد وقّت بشهر معيّن وجعل قمريا لسهولة ضبط بدئه ونهايته برؤية الهلال والتقدير، واختير شهر رمضان من بين الأشهر لأنه قد شرف بنزول القرآن فيه، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة الملكية واقعا فيه، والأغلب على ظني أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء قبل أن ينزل عليه الوحي إلهاما من الله تعالى وتلقينا لبقية من الملة الحنيفية فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر، روى ابن إسحاق أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (جاورت بحراء شهر رمضان)، وقال ابن سعد: جاءه الوحي وهو في غار حراء يوم الاثنين لسبع عشرة حلت من رمضان.
50. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ حالان من (القرآن) إشارة بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان، والمراد بالهدى الأول: ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة، وبالبينات من الهدى: ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير من الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية، والفرقان مصدر فرق وقد شاع في الفرق بين الحق والباطل أي إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام، فالمراد بالهدى الأول: ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني، فلا تكرار.
51. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ تفريع على قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ الذي هو بيان لقوله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183] كما تقدم فهو رجوع إلى التبيين بعد الفصل بما عقب به قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ من استيناس وتنويه بفضل الصيام وما يرجى من عوده على نفوس الصائمين بالتقوى وما حف الله به فرضه على الأمة من تيسير عند حصول مشقة من الصيام.
52. ضمير ﴿مِنْكُمْ﴾ عائد إلى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مثل الضمائر التي قبله، أي كل من حضر الشهر فليصمه.
53. ﴿شَهِدَ﴾ يجوز أن يكون بمعنى حضر كما يقال: إن فلانا شهد بدرا وشهد أحدا وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أي حضرها فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل ﴿شَهِدَ﴾ أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافرا، وهو المناسب لقوله بعده: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾، أي فمن حضر في الشهر فليصمه كله ويفهم أن من حضر بعضه يصوم أيام حضوره، ويجوز أن يكون ﴿شَهِدَ﴾ بمعنى علم كقوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18] فيكون انتصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف أي علم بحلول الشهر.
54. ليس شهد بمعنى رأى؛ لأنه لا يقال: شهد بمعنى رأى، وإنما يقال شاهد، ولا الشهر هنا بمعنى هلاله بناء على أن الشهر يطلق على الهلال كما حكوه عن الزجاج وأنشد في (الأساس) قول ذي الرمة:
çفأصبح أجلى الطّرف ما يستزيده...يرى الشهر قبل الناس وهو نحيلé
أي يرى هلال الشهر؛ لأن الهلال لا يصح أن يتعدى إليه فعل ﴿شَهِدَ﴾ بمعنى حضر ومن يفهم الآية على ذلك فقد أخطأ خطأ بينا وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم وهذا باطل، ولهذا فليس في الآية تصريح على طريق ثبوت الشهر وإنما بينته السنة بحديث (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غمّ عليكم فاقدروا له)، وفي معنى الاقدار له محامل ليست من تفسير الآية.
55. ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ﴾ قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ أنه لما كان صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ الآية وصار الصوم واجبا على التعيين خيف أن يظنّ الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضا حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحا ببقاء تلك الرخصة، ونسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحضر والصحة لا غير، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا﴾ لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقا بالسامعين، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ إذا كان شهد بمعنى تحقق وعلم، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾
56. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ استئناف بياني كالعلة لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا﴾ بيّن به حكمة الرخصة أي شرع لكم القضاء لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ نفي لضد اليسر، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملة قصر نحو أن يقول: ما يريد بكم إلّا اليسر، لكنه عدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداء هو جملة الإثبات لتكون تعليلا للرخصة، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيدا لها.
57. يجوز أن يكون قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ تعليلا لجميع ما تقدم من قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183] إلى هنا فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم.
58. ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ عطف على جملة: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾؛ إذ هي في موقع العلة كما علمت؛ فإن مجموع هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
59. اللام في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا﴾ تسمى شبه الزائدة وهي اللام التي يكثر وقوعها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر أي مادة أمر اللذين مفعولهما أن المصدرية مع فعلها، فحق ذلك المفعول أن يتعدى إليه فعل الإرادة وفعل مادة الأمر بنفسه دون حرف الجر ولكن كثر في الكلام تعديته باللام نحو قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [الصف: 8] قال في (الكشاف): أصله يريدون أن يطفئوا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: 12] والفعل الذي بعد اللام منصوب بأن ظاهرة أو مقدرة، والمعنى: يريد الله أن تكملوا العدة وأن تكبروا الله، وإكمال العدة يحصل بقضاء الأيام التي أفطرها من وجب عليه الصوم ليأتي بعدة أيام شهر رمضان كاملة، فإن في تلك العدة حكمة تجب المحافظة عليها، فبالقضاء حصلت حكمة التشريع وبرخصة الإفطار لصاحب العذر حصلت رحمة التخفيف.
60. ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ عطف على قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾، وهذا يتضمن تعليلا وهو في معنى علة غير متضمنة لحكمة ولكنها متضمنة لمقصد إرادة الله تعالى وهو أن يكبروه، والتكبير تفعيل مراد به النسبة والتوصيف أي أن تنسبوا الله إلى الكبر والنسبة هنا نسبة بالقول اللساني، والكبر هنا كبر معنوي لا جسمي فهو العظمة والجلال والتنزيه عن النقائص كلها، أي لتصفوا الله بالعظمة، وذلك بأن تقولوا: الله أكبر، فالتفعيل هنا مأخوذ من فعّل المنحوت من قول يقوله، مثل قولهم: بسمل وحمدل وهلّل وقد تقدم عند الكلام على البسملة، أي لتقولوا: الله أكبر، وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الواقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة، ومن كل عظيم في الاعتقاد كالآلهة الباطلة.
61. إثبات الأعظمية لله في كلمة (الله أكبر) كناية عن وحدانيته بالإلهية، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئا من النقص، ولذلك شرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله، وشرع التكبير عند نحر البدن في الحج لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد.
62. في لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأكل والتلطيخ بالدماء، فكان لقول المسلم: الله أكبر، إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام.
63. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ تعليل آخر وهو أعم من مضمون جملة ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ فإن التكبير تعظيم يتضمن شكرا والشكر أعم، لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله تعالى ويكون بفعل القرب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر، ومن مظاهر الشكر لبس أحسن الثياب يوم الفطر.
64. دلت الآية على الأمر بالتكبير؛ إذ جعلته مما يريده الله، وهو غير مفصّل في لفظ التكبير، ومجمل في وقت التكبير؛ وعدده، وقد بينت السنة القولية والفعلية ذلك على اختلاف بين الفقهاء في الأحوال:
أ. فأما لفظ التكبير فظاهر الآية أنه كل قول فيه لفظ الله أكبر، والمشهور في السنة أنه يكرر الله أكبر ثلاثا، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي، وقال مالك والشافعي: إذا شاء المرء زاد على التكبير تهليلا وتحميدا فهو حسن ولا يترك الله أكبر، فإذا أراد الزيادة على التكبير كبر مرتين ثم قال لا إله إلّا الله والله أكبر ولله الحمد وهو قول ابن عمر وابن عباس، وقال أحمد: هو واسع، وقال أبو حنيفة: لا يجزئ غير ثلاث تكبيرات.
ب. وأما وقته: فتكبير الفطر يبتدئ من وقت خروج المصلي من بيته إلى محل الصلاة، وكذلك الإمام ومن خرج معه، فإذا بلغ محل الصلاة قطع التكبير.. فأما في الأضحى فيزاد على ما يذكر في الفطر التكبير عقب الصلوات المفروضة من صلاة الظهر من يوم الأضحى إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه، ويأتي تفصيله في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 203]
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/153.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر الله تعالى في آية البر، أن من البر إتيان المال مع حبه، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأشار إلى الجهاد، ولم يذكر الصوم والحج، وقد ذكر هنا الصوم، وسيذكر من بعد الحج في محكم آياته، وبذلك تجتمع الأركان الخمسة التي هي عماد الإسلام، وهى الإيمان بالله وشهادة أن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
2. بين الله تعالى صوم رمضان في هذه الآيات الكريمات التي تلوناها ونتكلم في معناها الآن، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ كتب بمعنى فرض لأنه قرره الله تعالى، وكتبه حتى صار مكتوبا على المؤمنين، وقد أكد سبحانه الفرضية بقوله تعالى عليكم، وبأنه شريعة النبيين أجمعين؛ ولذا قال تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وأنه سبيل لتقوى النفس، ولذا قال (لعلكم) وذكر أنه أياما معدودات معروفة القدر، مبينة الابتداء والانتهاء، وقد بينها سبحانه وتعالى في قوله تعالت كلماته: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾
3. الصوم في اللغة الإمساك، وذلك كقول مريم فيما حكى القرآن: ﴿فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ [مريم]، والصوم في المعنى الديني القرآني الظاهر هو الإمساك عن الطعام والشراب، وعن النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس كما قال تعالى فيما سيأتي ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة] بهذا النص الكريم يحد الصيام من طلوع الفجر، حتى يدخل الليل وذلك بغروب الشمس.
4. كتب الصوم على الذين آمنوا فهو فرض مؤكد، وقد قال: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ من أهل الديانات السماوية كديانة موسى عليه السلام، وديانة عيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والتشبيه كما قال معاذ بن جبل من فقهاء الصحابة: التشبيه واقع على أصل الصوم، لا على صفته وعدد أيامه، وهذا يكفى في التشبيه فهو يثبت أن الصوم شريعة في الشرائع السماوية كلها، وهذا يدل على كمال فرضيته، وأنه لا يختص بالمسلمين وحدهم بل يعم الديانات السماوية كلها.
5. بين الله تعالى حكمة شرعيته الأزلية الباقية بقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي رجاء منكم لأن تصلوا إلى درجة المتقين، فتتقوا المعاصي وسيطرة الأهواء والشهوات على نفوسكم؛ وذلك لأن الصوم يربى النفس على الضبط، والاستيلاء على أهوائها وشهواتها وحيث قويت الإرادة قوى سلطانها على الالتواء وعلى الشهوات؛ ولذلك كان من آدابه المكملة له أن يمتنع عن المحظورات كلها فلا يسب ولا يقول الزور، ولا يعمل به، ولا يجترح المنهيات بلسانه، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الصوم جنة)، وإن الصوم بهذه المعاني الجليلة المهذبة للنفس الضابطة للإرادة كان من أعظم العبادات عند الله تعالى؛ ولذا روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ربه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به)، وكان الصوم من بين العبادات مختصا بأنه لله تعالى وحده؛ لأنه تجرد روحي، وانخلاع من الأهواء والشهوات وعلو بالنفس الإنسانية عن العالم المادي وشهواته وهو سر بين العبد وربه.
6. وحدّ الله سبحانه وتعالى مقدار الصوم بأنه أيام معدودات ليست كثيرة، ولا مرهقة، ولكنها في مؤداها جليلة وهذه الأيام المعدودات التي لا تتجاوز الحسبة هي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان.
7. الصيام في هذه الأيام المعدودات فرض، رخّص فيه لذوى الأعذار أن يفطروا ويؤدوا بدل الأيام ولذا قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ﴾
8. العدة العدد من الأيام، وقال أحمد: إن هذه العدة تبتدئ من وقت قدرته على الصوم بعد رمضان، وأوجب الشافعي أن تكون في السنة التي يكون فيها رمضان، وقال أبو حنيفة: إن القضاء واجب على التراخي وهو يقدر، ويحسن أن يكون عند القدرة.
9. المرض الذي يبيح الإفطار قسمان: أحدهما: المرض الذي لا يسع المريض فيه أن يصوم قط، وهذا بالاتفاق يسوغ الإفطار والقضاء، والقسم الثاني: مرض يمكن معه الإفطار والصوم، ولكن الصوم يكون بمشقة زائدة عن المعتاد من المشقات التي يجيز الشارع احتمالها، وقالوا إنه الصوم الذي يزيد المرض شدة، أو يطيل مدته، أو يخبر طبيب مسلم عادل بأن الصوم يضره لوجود هذا المرض.
10. السفر الذي يجيز الإفطار اختلف فيه الفقهاء باختلاف أنظارهم في السفر الذي يوجد مشقة توجد الرخصة، فقيل سفر يوم وليلة: وقال أبو حنيفة ثلاثة أيام، بالسير المعتاد للإبل بحيث يسير نصف النهار، ويستريح النصف الآخر وإن السفر بدابة على هذا المعنى مشقة ـ ولقد قال ابن عباس: لولا الأثر لقلت العذاب قطعة من السفر، والأثر الذي يشير إليه حبر الأمة هو قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (السفر قطعة من العذاب) ولا شك أن الانتقال في الصحراء ينطبق عليه ذلك الوصف.
11. سؤال وإشكال: أيكون الأفضل في المرض والسفر الفطر، أم الصوم؟ والجواب: أجاب عن ذلك بعض العلماء بأنه إذا لم يجد مشقة شديدة في المرض يكون خيرا أن يصوم، ولا يكون معاندا لرخصة الله تعالى، ولكن يكون محتاطا في معنى المرض الذي يسوغ الرخصة، وإلا فالرخصة أفضل، وكذلك في حال السفر، إذا كان يرى أنه يستطيع الصوم من غير إجهاد، فالأفضل الصوم، ويكون ذلك ليس معاندة للرخصة.
12. السفر المجرد في هذه الأيام لا مشقة فيه؛ ولذا أرى أن الأفضل الصوم، من غير أن نقرر وجوبه حتى لا نكون معاندين لرخص الله؛ فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه.
13. السفر أقسام ثلاثة:
أ. الأول: سفر للجهاد في سبيل الله، وهذا لا يحسن فيه الصوم، وإلا خالف السنة وعارض الرخصة؛ لأن الله تعالى اختبر المؤمنين في غزوتين كانتا في رمضان وهما غزوة بدر الكبرى، وفتح مكة، كانت الأولى في السابع عشر من رمضان، و الثانية في الثالث عشر، وقد أفطر فيهما النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو ومن معه من المجاهدين.
ب. الثاني: السفر في مباح كالتجارة، والانتقال من بلد إلى بلد للإقامة ويترك الأمر فيه إلى حال المسافر على النحو الذي ذكرناه، إن وجد المشقة شديدة أفطر وإلا صام وينطبق عليه رأينا في السفر في السكة الحديدية.
ج. الثالث: السفر للمعصية، وكثيرون من الفقهاء لا يرون أن الرخصة تشمله لأنه عاص بسفره، والرخصة نعمة، والمعصية لا تبرر النعمة.
14. هناك عذر يبرر الإفطار من غير قضاء، ولكن تكون فدية هي طعام مسكين يوما، وقد قال الله تعالى فيه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ والإطاقة كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة... فقوله تعالى: ﴿وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة] معناه ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا، والمعنى على ذلك لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ أي يتكلفون مشقة هي أقصى الطاقة لا يستطيعون المداومة عليها، وهم الشيوخ الفانون الذين تقدمت سنهم، وقد قال ابن مسعود في تفسير ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ أي يصلون إلى أقصى المشقة، ولا أمل لهم، في قضاء وقال ابن عباس: إن قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ﴾ نزلت في الشيخ والشيخة إذا كانا لا يصومان إلا بمشقة، وقد أفطر أنس خادم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما طال عمره، فأفطر سنتين في آخر حياته، وكانت الجفان تقام لإطعام المساكين ثلاثين جفنة لثلاثين مسكينا على عدد أيام الصوم.
15. قال تعالى بعد ذلك: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ﴾ الفاء هنا للإفصاح، أي إذا كان قد كتب عليكم الصوم ويسر الله تعالى عليكم بالرخص التي رخص بها فمن تطوع خيرا، أي فمن قصد الطاعة، وتكلفها قاصدا الخير فهو خير يدخره له يوم القيامة، فالتطوع هنا ليس النافلة كما قال الفقهاء فإن ذلك اصطلاح فقهى لا تخضع له عبارات القرآن في دلالاتها، بل تخضع للغة، والآثار النبوية فقط، والتطوع هنا هو المبالغة في الطاعة قاصدا أو طالبا خيرا، فهو خير له.
16. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ تحريض على القيام بالواجب المفروض الذي كتب عليكم وعلى الذين من قبلكم ولا شك أن أداء الواجب خير عظيم، ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم، وما الواجب عليكم، وقد ذكر سبحانه التعليق ب (إن) حثّا على طلب علم الغاية من فرضية الصيام وهو تربية نفوسكم على الصبر، ولقد ورد أن الصوم نصف الصبر، والصبر صفة المؤمنين، كما أشرنا من قبل.
17. بعد أن بين سبحانه وتعالى فرضية الصوم أياما معدودات ذكر الله تعالى تلك الأيام وعينها بشهر رمضان، فقال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، أي هذه الأيام هي شهر رمضان الذي كان أول نزول القرآن فيه، فقد أنزله تعالى في ليلة القدر وهى في العشر الأواخر منه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾
18. اختصاص شهر رمضان بالصوم؛ لأنه نزل فيه القرآن فيه تذكير بمبدإ الوحى، واحتفال بأكبر خير نزل في الأرض وهو بعث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه نور الأرض وإشراقها، والاحتفال به احتفال بنعمة الهداية، ونعمة الخروج من الظلمات إلى النور، ونعمة إرسال نبيّ الرحمة، فقد قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
19. وصف الله تعالى القرآن بأنه هدى للناس، فقال: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ أي حال كونه هاديا للناس؛ لأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، وهو معجزة الله تعالى الكبرى وهو بهذا هداية وتوجيه إلى مقام الرسالة المحمدية، وهو مع ذلك فيه آياته البينات؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾ أي أن آياته بينات واضحة من الهدى وهو الشريعة التي جاء بها، والفرقان أي الأمر الفارق بين الحق والباطل، والظلم والعدل والشورى والاستبداد، والإصلاح والإفساد، وعمران الأرض وخرابها.
20. هذا شهر رمضان شهر البركات، ولقد بينه سبحانه وتعالى، والابتداء يرمز إلى الانتهاء فقال تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
21. قال الله تعالى في ابتدائه: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ﴾، ويريد سبحانه بالشهر هنا هلال رمضان، وشهده أي حضره ورآه، وعبر عن الهلال بالشهر؛ لأن العرب كانت ترى الهلال ويراد الشهر عرفا عندهم، وهذا في الأصل مجاز، والمجاز إذا اشتهر صار عرفا وإطلاق الشهر وإرادة الهلال من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب، وذلك من علاقات المجاز المرسل؛ لأن الهلال أمارة ابتداء الشهر فكان جاريا مجرى السبب، ولأن الاعتبار بالرؤية، والرؤية لا تكون إلا لمحسوس والشهر عدد من الأيام يعد بالحساب، وذلك معنى نعيش فيه ولا نراه، والهلال هو الذي يرى فكان التعبير بالشهر عنه تعبير بالمدلول على الدال الذي يرى ويعلن الابتداء.
22. ذكر هنا بعض المباحث المرتبطة بثبوت الشهر والرؤية والحساب ونحوها، ليس لها صلة مباشرة بالتفسير التحليلي، نقلناها إلى محلها من السلسلة.
23. شرعية صيام رمضان مع الرخص التي تسوغ الإفطار هو من تيسير أداء الفريضة؛ ذلك أن من شأن هذه الشريعة أنها إذا كلفت تكليفا فيه مشقة فتحت باب الترخيص ليسهل الأداء وليداوم عليه ويستمر من غير تململ، ولا تحمل المكلفين على أقصى المشقات، ولذا قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، وهذا النص الكريم فيه إشارة إلى تعليل هذه الرخص، وفيه إشارة إلى الوصف العام لشرع الله تعالى، الذي دعا إليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: (يسروا ولا تعسروا) وما خير النبيّ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن معصية، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج]
24. لمقام التعليل في قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، عطف عليه تعليل آخر، وهو قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ أي لتتموا عدة الشهر في يسر من غير إعنات، وهنا فعل محذوف تقديره، شرع لكم ذاك التيسير لكيلا يكون حرج وضيق في صومكم، ولتكلموا العدة أي لتستطيعوا أداء العدد كاملا غير منقوص بالأداء لمن لا عذر له، وبالأداء مع القضاء من أيام أخر لمن كان ذا رخصة تجيز الفطر وتوجب القضاء، فتكون عدة الشهر قد كملت، أداء وقضاء أو أداء فقط لمن له عذر.
25. ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾، ولتتجهوا إلى الله مكبرين ضارعين إليه جل جلاله على هدايته لكم بأن وفقكم للإيمان بدل الكفر، وبأن مكنكم من أداء الواجب كاملا، وقالوا إن ذلك إيذان بالعيد، وهو تكبير الله إذ إن التكبير يكون للفرح بالعيد، وللصائم فرحتان يوم فطره ويوم لقاء ربه وفرحته يوم فطره هي فرحته بأداء الواجب وسروره بالطاعة وفرحته يوم لقاء ربه هي فرحته بالنعيم المقيم، وبالرضوان من الله تعالى وهو لدى الأبرار أكبر من النعيم كما قال تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾
26. هذه النعم نعمة الإيمان، ونعمة التيسير، ونعمة أداء الواجب كاملا ونعمة الفرحة به يوم الفطر، وتكبيره سبحانه وتعالى يقتضى الشكر، ولذا قال تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ولعل للرجاء وهو من الناس، ومن ترتيب الأمور، لا من الله تعالى أي لترجوا شكرا لله تعالى على هذه النعم المتوالية، والله غفور رحيم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/550.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. الصوم من أهم العبادات، وهو واجب بضرورة الدين، تماما كوجوب الصلاة والزكاة، وفي الحديث (بني الإسلام على خمس: شهادة ان لا إله الا الله، واقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت لمن استطاع اليه سبيلا)، وأفتى الفقهاء ان من أنكر وجوب الصوم فهو مرتد يجب قتله، ومن آمن بوجوبه، ولكن تركه تهاونا واستخفافا عزّر بما يراه الحاكم الشرعي، فان عاد عزر ثانية، فان عاد قتل، وقيل: بل يقتل في الرابعة.
2. الصوم عبادة قديمة افترضها الله سبحانه على من سبق من الأمم بصورة مختلفة عن صومنا نحن المسلمين كمّا وكيفا وزمنا، فالتشبيه هنا تشبيه الفريضة بالفريضة بصرف النظر عن الصفة وعدد الأيام، ووقتها.. فان تشبيه شيء بشيء لا يقتضي التسوية بينهما من كل وجه.
3. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، قال كثير من المفسرين: ان هذه الجملة تشير الى الحكمة من وجوب الصوم، وهي أن يتمرن الصائم على ضبط النفس، وترك الشهوات المحرمة، والصبر عنها، فقد جاء في الحديث: (الصيام نصف الصبر)، وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (لكل شيء زكاة، وزكاة البدن الصيام)، وقال: (فرض الله الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق).. وبديهة ان كل أوامر الله ونواهيه هي ابتلاء لإخلاص الخلق، ولكن الصوم أشق التكاليف، لأن فيه مغالبة النفس، وجهادها، وضبطها عما تميل اليه من الطعام والشراب وشهوة الجنس.
4. ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، هي ايام رمضان، لأن الله لم يكتب علينا غيرها، ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، ذكر الله في هذه الآية ثلاث مسوغات للإفطار في رمضان: المرض، والسفر، والشيخوخة.
5. المرض المسوغ للإفطار هو أن يكون الإنسان مريضا بالفعل، وإذا صام ازداد مرضه، بحيث تشتد آلامه، أو تزيد أيامه، أو كان صحيحا، ولكن يخشى إذا هو صام أن يحدث له الصوم مرضا جديدا، أما مجرد الضعف والهزال فلا يسوغ الإفطار ما دام محتملا، والجسم سالما، وإذا أصر المريض على الصوم مع تحقق الضرر واقعا فسد صومه، وعليه القضاء، تماما كما لو أفطر بلا عذر.
6. ثبت عن طريق السنة والشيعة ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال ليس من البر الصيام في السفر، وفي تفسير المنار انه اشتهر عن الرسول الأعظم قوله: (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر)، وممن ذكر هذا الحديث ابن ماجة والطبري، وقال الرازي: ذهب قوم من علماء الصحابة الى انه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا، ثم يصوما عدة من ايام أخر، وهو قول ابن عباس وابن عمر، واختيار داوود بن علي الأصفهاني، وعلى هذا يكون الإفطار في السفر عزيمة، لا رخصة، أي لا يجوز للمسافر أن يصوم بحال، لعدم الأمر بالصوم، وأقوى الأدلة كلها على ذلك ان الله سبحانه قد أوجب القضاء بنفس السفر والمرض، حيث قال ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، ولم يقل فأفطر فعدة من ايام أخر، وتقدير أفطر خلاف الظاهر، والكلام لا يوجبه، لأنه يستقيم من غير تقدير.
7. المسوغ الثالث للإفطار، وهو الشيخوخة فقد أشار اليه سبحانه بقوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، فقد نزل هذا الحكم في خصوص المسن الضعيف الهرم رجلا كان أو امرأة، والطاقة اسم لمن كان قادرا على الشيء مع الشدة والمشقة، وهذا هو المخير بين الصوم، والإفطار مع الفدية، وهي اطعام مسكين، وفي ذلك روايات صحيحة عن أهل البيت عليه السلام.
8. ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾، أي من زاد في الإطعام على مسكين واحد، أو اطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب فهو خير.. وله الخيار في أن يدعو المسكين المحتاج، فيطعمه، حتى يشبع، أو يعطيه من الدقيق والحبوب التي يأكل منها أكثر من 800 غرام بقليل، ويجوز أن يعطيه الثمن دراهم على شريطة أن يقول له: اجعله ثمن وجبة لك من الطعام.
9. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾، أي ان الشيخ والشيخة الضعيفين الهرمين، وان كانا مخيرين بين الإفطار والصيام إلا ان تجشمهما الصيام أفضل عند الله من الفطر مع الفدية.
10. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، قال صاحب مجمع البيان: لما خص الله الصوم بشهر رمضان بيّن ان الحكمة في ذلك ان القرآن نزل فيه، وعليه مدار الدين والايمان.. ثم نقل صاحب المجمع عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بطريق السنة والشيعة ان صحف ابراهيم عليه السلام نزلت لثلاث مضين من شهر رمضان، وتوراة موسى عليه السلام لست مضين منه، وإنجيل عيسى عليه السلام لثلاث عشرة خلت من رمضان، وزبور داوود لثمان عشرة ليلة مضت من رمضان، والقرآن نزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لأربع وعشرين منه.
11. سؤال وإشكال: قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ يدل بظاهره ان القرآن نزل بكامله في شهر رمضان، مع العلم بأنه نزل على دفعات في مدة البعثة كلها، وهي ثلاث وعشرون سنة؟ والجواب: ان المراد منه ان انزاله ابتدأ في شهر رمضان، لا انه انزل كاملا فيه، وسميت الليلة التي أنزل فيها ليلة القدر، أي الشرف، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، هذا، الى أن لفظة القرآن تطلق على ما بين الدفتين، وعلى بعضه، أما قول من قال ان الله أنزل القرآن من اللوح المحفوظ الموجود فوق السموات السبع الى سماء الدنيا جملة واحدة في ليلة القدر، ثم أنزله على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتفريق، أما هذا القول فلا دليل عليه.
12. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، الفرقان هو الذي يفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، وتكلمنا في تفسير الآية 2 عن معنى الهدى، وان القرآن لم يكن كتاب فلسفة، أو تاريخ، أو علوم طبيعية، وإنما هو بصائر وهدى ورحمة.. وقوله تعالى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾، يدل على ما في القرآن من مواعظ وحكم ووعد ووعيد يفهمه جميع الناس، ولا يختص علمه بالمجتهدين والمتخصصين.
13. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، أي حضر في بلده، ولم يسافر في شهر رمضان فعليه أن يصوم أيامه، ولا يجوز أن يفطر من غير عذر، ويدل على ان المراد من شهد حضر قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.. وأعاد ذكر المرض والسفر للتأكيد بأن شهر رمضان يجوز فيه الإفطار في حالات معينة ردا على المتزمتين الذين يظنون ان الإفطار لا يجوز بحال..
14. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، ظاهر السياق ان هذه الجملة تعليل لجواز الإفطار حال المرض والسفر والشيخوخة، ولكنها في الحقيقة تعليل لجميع الأحكام، فقد جاء في الحديث: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا).. ومن قال ان الإفطار في السفر عزيمة، لا رخصة فسر قوله تعالى ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ بأن الله يريد منكم الإفطار في السفر والمرض، ولا يريد منكم الصيام، ومن قال ان الإفطار رخصة، لا عزيمة فسره بأن الله سبحانه يريد أن تكونوا في سعة من أمركم، وتختاروا ما هو الأيسر لكم، فان كان الإفطار أيسر فهو أفضل، وان كان الصيام أيسر، كمن يسهل عليه الصيام في رمضان، ويشق عليه القضاء فالصيام أفضل، وليس من شك ان الاعتبار ورعاية ظاهر اللفظ يرجحان هذا المعنى على المعنى الأول.. ولولا الروايات الصحيحة عن أهل البيت عن جدهم صلّى الله عليه وآله وسلّم لجزمنا بأن الإفطار في السفر رخصة، لا عزيمة.
15. ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾، هذا تعليل للقضاء الذي أوجبه الله تعالى بقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ أي عليكم أن تقضوا الصوم بعدد الأيام التي أفطرتم فيها من رمضان بسبب المرض والسفر لتتم عدة أيام الشهر كاملة، وتارة تكون 30 يوما، وتارة 29 يوما.
16. ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، أي ان الله سبحانه بيّن لنا أحكام دينه لنعظمه ونشكره، قال صاحب مجمع البيان: (المراد بقوله لتكبروا الله التكبيرات عقيب صلاة المغرب ليلة العيد، وصلاة العشاء، وصلاة الصبح، وصلاة العيد على مذهبنا)، يشير بالتكبيرات الى هذه الصيغة التي يرددها المصلون جماعة بعد صلاة العيد، وهي الله أكبر الله أكبر لا إله الا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/282.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. سياق الآيات الثلاث يدل:
أ. أولا: على أنها جميعا نازلة معا فإن قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ في أول الآية الثانية ظرف متعلق بقوله تعالى: ﴿الصِّيَامِ﴾ في الآية الأولى، وقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ في الآية الثالثة إما خبر لمبتدإ محذوف وهو الضمير الراجع إلى قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ والتقدير هي شهر رمضان أو مبتدأ لخبر محذوف، والتقدير شهر رمضان هو الذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ في الآية الأولى وعلى أي تقدير هو بيان وإيضاح للأيام المعدودات التي كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعا كلام واحد مسوق لغرض واحد وهو بيان فرض صوم شهر رمضان.
ب. ثانيا: على أن شطرا من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث بمنزلة التوطئة والتمهيد بالنسبة إلى شطر آخر، أعني: أن الآيتين الأوليين سرد الكلام فيهما ليكون كالمقدمة التي تساق لتسكين طيش النفوس والحصول على اطمئنانها واستقرارها عن القلق والاضطراب، إذا كان غرض المتكلم بيان ما لا يؤمن فيه التخلف والتأبي عن القبول، لكون ما يأتي من الحكم أو الخبر ثقيلا شاقا بطبعه على المخاطب.
2. لذلك ترى الآيتين الأوليين تألف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها عن هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق وملاءمة، بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش والاضطراب، ويحصل به تطيب النفس، وتنكسر به سورة الجماح والاستكبار، بالإشارة إلى أنواع من التخفيف والتسهيل، روعيت في تشريع هذا الحكم مع ما فيه من الخير العاجل والآجل:
أ. ولذلك لما ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ أردفه بقوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا من تشريعه في حقكم وكتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حق الأمم السابقة عليكم ولستم أنتم متفردين فيه.
ب. على أن في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون وتطلبونه بإيمانكم وهو التقوى التي هي خير زاد لمن آمن بالله واليوم الآخر، وأنتم المؤمنون وهو قوله تعالى، ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
ج. على أن هذا العمل الذي فيه رجاء التقوى لكم ولمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم ولا أكثرها بل إنما هو في أيام قلائل معينة معدودة، وهو قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ فإن في تنكير، أياما، دلالة على التحقير، وفي التوصيف بالعدد إشعار بهوان الأمر كما في قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾
د. على أنا راعينا جانب من يشق عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام، فعليه أن يبدله من فدية لا تشقه ولا يستثقلها، وهو طعام مسكين وهو قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ إلى قوله، ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾
هـ. وإذا كان هذا العمل مشتملا على خيركم ومراعى فيه ما أمكن من التخفيف والتسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع والرغبة من غير كره وتثاقل وتثبط، فإن من تطوع خيرا فهو خير له من أن يأتي به عن كره وهو قوله تعالى، ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى توطئة وتمهيد لقوله تعالى في الآية الثالثة: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾
3. على هذا، فقوله تعالى في الآية الأولى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ إخبار عن تحقق الكتابة وليس بإنشاء للحكم كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ الآية، وقوله تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، فإن بين القصاص في القتلى والوصية للوالدين والأقربين وبين الصيام فرقا، وهو أن القصاص في القتلى أمر يوافق حس الانتقام الثائر في نفوس أولياء المقتولين ويلائم الشح الغريزي الذي في الطباع أن ترى القاتل حيا سالما يعيش ولا يعبأ بما جنى من القتل، وكذلك حس الشفقة والرأفة بالرحم يدعو النفوس إلى الترحم على الوالدين والأقربين، وخاصة عند الموت والفراق الدائم، فهذان أعني القصاص، والوصية حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع، موافقان لما تقتضيها فلا يحتاج الإنباء عنها بإنشائها إلى تمهيد مقدمة وتوطئة بيان بخلاف حكم الصيام، فإنه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها ومعظم ما تميل إليها وهو الأكل والشرب والجماع، ولذلك فهو ثقيل على الطبع، كريه عند النفس، يحتاج في توجيه حكمه إلى المخاطبين، وهم عامة الناس من المكلفين إلى تمهيد وتوطئة تطيب بها نفوسهم وتحن بسببها إلى قبوله وأخذه طباعهم، ولهذا السبب كان قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾، وقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ إنشاء للحكم من غير حاجة إلى تمهيد مقدمة بخلاف قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ فإنه إخبار عن الحكم وتمهيد لإنشائه بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ﴾ بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع.
4. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم وهو الإيمان، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربهم به من الحكم وإن كان على خلاف مشتهياتهم وعاداتهم، وقد صدرت آية القصاص بذلك أيضا لما سمعت أن النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص وإن كان سائر الطوائف من المليين وغيرهم يرون القصاص.
5. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ الكتابة معروفة المعنى، ويكنى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم كقوله: (﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾، وقوله تعالى: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾، وقوله تعالى: (﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾، والصيام والصوم في اللغة مصدران بمعنى الكف عن الفعل: كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة والكلام والمشي وغير ذلك، وربما يقال: إنه الكف عما تشتهيه النفس وتتوق إليه خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن أمور مخصوصة، من طلوع الفجر إلى المغرب بالنية، والمراد بالذين من قبلكم الأمم الماضية ممن سبق ظهور الإسلام من أمم الأنبياء كأمة موسى وعيسى وغيرهم، فإن هذا المعنى هو المعهود من إطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما أطلقت، وليس قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ في مقام الإطلاق من حيث الأشخاص ولا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع أمم الأنبياء كان مكتوبا عليهم الصوم من غير استثناء ولا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيات والأوصاف، فالتنظير في الآية إنما هو من حيث أصل الصوم والكف لا من حيث خصوصياته.
6. المراد بالذين من قبلكم، الأمم السابقة من المليين في الجملة، ولم يعين القرآن من هم، غير أن ظاهر قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ أن هؤلاء من أهل الملة وقد فرض عليهم ذلك، ولا يوجد في التوراة والإنجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على وجوب الصوم وفرضه، بل الكتابان إنما يمدحانه ويعظمان أمره، لكنهم يصومون أياما معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة: كالصوم عن اللحم والصوم عن اللبن والصوم عن الأكل والشرب، وفي القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام وكذا صوم مريم عن الكلام، بل الصوم عبادة مأثورة عن غير المليين كما ينقل عن مصر القديم ويونان القديم والرومانيين، والوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم، بل كونه عبادة قربية مما يهتدي إليه الإنسان بفطرته كما سيجيء، وربما يقال: إن المراد بالذين من قبلكم اليهود والنصارى أو السابقين من الأنبياء استنادا إلى روايات لا تخلو عن ضعف.
7. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ كان أهل الأوثان يصومون لإرضاء آلهتهم أو لإطفاء نائرة غضبها إذا أجرموا جرما أو عصوا معصية، وإذا أرادوا إنجاح حاجة وهذا يجعل الصيام معاملة ومبادلة يعطي بها حاجة الرب ليقضي حاجة العبد أو يستحصل رضاه ليستحصل رضا العبد، وأن الله سبحانه أمنع جانبا من أن يتصور في حقه فقر أو حاجة أو تأثر أو أذى، وبالجملة هو سبحانه بريء من كل نقص، فما تعطيه العبادات من الأثر الجميل، أي عبادة كانت وأي أثر كان، إنما يرجع إلى العبد دون الرب تعالى وتقدس، كما أن المعاصي أيضا كذلك، قال تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾، هذا هو الذي يشير إليه القرآن الكريم في تعليمه بإرجاع آثار الطاعات والمعاصي إلى الإنسان الذي لا شأن له إلا الفقر والحاجة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾، ويشير إليه في خصوص الصيام بقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
8. كون التقوى مرجو الحصول بالصيام مما لا ريب فيه فإن كل إنسان يشعر بفطرته أن من أراد الاتصال بعالم الطهارة والرفعة، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والروحانية فأول ما يلزمه أن يتنزه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماح في شهوات البدن ويتقدس عن الإخلاد إلى الأرض، وبالجملة أن يتقي ما يبعده الاشتغال به عن الرب تبارك وتعالى فهذه تقوى إنما تحصل بالصوم والكف عن الشهوات، وأقرب من ذلك وأمس لحال عموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة أن يتقي ما يعم به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتى يحصل له التدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها، وتتربى على ذلك إرادته في الكف عن المعاصي والتقرب إلى الله سبحانه، فإن من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أسمع وأطوع.
9. ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ منصوب على الظرفية بتقدير (في)، ومتعلق بقوله تعالى: ﴿الصِّيَامِ﴾ وقد مر أن تنكير أيام واتصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة والمشقة تشجيعا للمكلف، وقد مر أن قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، بيان للأيام فالمراد بالأيام المعدودات شهر رمضان.
10. ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالأيام المعدودات ثلاث أيام من كل شهر وصوم يوم عاشوراء، وقال بعضهم: والثلاث الأيام هي الأيام البيض من كل شهر وصوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون يصومونها، ثم نزل قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، فنسخ ذلك واستقر الفرض على صوم شهر رمضان، واستندوا في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السنة والجماعة لا تخلو في نفسها عن اختلاف وتعارض، والذي يظهر به بطلان هذا القول:
أ. أولا: أن الصيام كما قيل: عبادة عامة شاملة، ولو كان الأمر كما يقولون لضبطه التاريخ ولم يختلف في ثبوته ثم في نسخه أحد وليس كذلك، على أن لحوق يوم عاشوراء بالأيام الثلاث من كل شهر في وجوب الصوم أو استحبابه ككونه عيدا من الأعياد الإسلامية مما ابتدعه بنو أمية لعنهم الله حيث أبادوا فيه ذرية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم ونهب أموالهم في وقعة الطف، ثم تبركوا باليوم فاتخذوه عيدا وشرعوا صومه تبركا به ووضعوا له فضائل وبركات، ودسوا أحاديث تدل على أنه كان عيدا إسلاميا، بل من الأعياد العامة التي كانت تعرفه عرب الجاهلية واليهود والنصارى منذ بعث موسى وعيسى، وكل ذلك لم يكن، وليس اليوم ذا شأن ملي حتى يصير عيدا مليا قوميا مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس، ولا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفر حتى يصير يوما إسلاميا كيوم المبعث ويوم مولد النبي، ولا هو ذو جهة دينية حتى يصير عيدا دينيا كمثل عيد الفطر وعيد الأضحى فما باله عزيزا بلا سبب؟
ب. ثانيا: أن الآية الثالثة من الآيات أعني قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾، تأبى بسياقها أن تكون نازلة وحدها وناسخا لما قبلها فإن ظاهر السياق أن قوله ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ خبر لمبتدإ محذوف أو مبتدأ لخبر محذوف كما مر ذكره فيكون بيانا للأيام المعدودات ويكون جميع الآيات الثلاث كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد وهو فرض صيام شهر رمضان، وأما جعل قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ مبتدأ خبره قوله تعالى: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ فإنه وإن أوجب استقلال الآية وصلاحيتها لأن تنزل وحدها غير أنها لا تصلح حينئذ لأن تكون ناسخة لما قبلها لعدم المنافاة بينها وبين سابقتها، مع أن النسخ مشروط بالتنافي والتباين.
11. أضعف من هذا القول قول آخرين ـ على ما يظهر منهم ـ: أن الآية الثانية أعني قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ ناسخة للآية الأولى أعني قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وذلك أن الصوم كان مكتوبا على النصارى ثم زادوا فيه ونقصوا بعد عيسى عليه السلام حتى استقر على خمسين يوما، ثم شرعه الله في حق المسلمين بالآية الأولى فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والناس يصومونها في صدر الإسلام حتى نزل قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، فنسخ الحكم واستقر الحكم على غيره، وهذا القول أوهن من سابقه وأظهر بطلانا، ويرد عليه جميع ما يرد على سابقه من الإشكال، وكون الآية الثانية من متممات الآية الأولى أظهر وأجلى، وما استند إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن وسياق الآية.
12. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ الفاء للتفريع، والجملة متفرعة على قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ وقوله تعالى: ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾ أي إن الصيام مكتوب مفروض، والعدد مأخوذ في الفرض، وكما لا يرفع اليد عن أصل الفرض كذلك لا يرفع اليد عن العدد، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن الأيام المعدودات التي هي أيام شهر رمضان كعارض المرض والسفر، فإنه لا يرفع اليد عن الصيام عدة من أيام أخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلف من الصيام عددا، وهذا هو الذي أشار تعالى إليه في الآية الثالثة بقوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾، فقوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ كما يفيد معنى التحقير كما مر يفيد كون العدد ركنا مأخوذا في الفرض والحكم.
13. السفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأن المسافر ينكشف لسفره عن داره التي يأوي إليها ويكن فيها، وكان قوله تعالى: ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ ولم يقل: مسافرا للإشارة إلى اعتبار فعليه التلبس حالا دون الماضي والمستقبل، وقد قال قوم ـ وهم المعظم من علماء أهل السنة والجماعة ـ: إن المدلول عليه بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ هو الرخصة دون العزيمة فالمريض والمسافر مخيران بين الصيام والإفطار، وقد عرفت أن ظاهر قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ هو عزيمة الإفطار دون الرخصة، وهو المروي عن أئمة أهل البيت، وهو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير، فهم محجوجون، بقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
14. قدروا لذلك في الآية تقديرا فقالوا: إن التقدير فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، ويرد عليه:
أ. أولا: أن التقدير كما صرحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بقرينة ولا قرينة من نفس الكلام عليه.
ب. وثانيا: أن الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدل على الرخصة فإن المقام كما ذكروه مقام التشريع، وقولنا: فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر غاية ما يدل عليه أن الإفطار لا يقع معصية بل جائزا بالجواز بالمعنى الأعم من الوجوب والاستحباب والإباحة، وأما كونه جائزا بمعنى عدم كونه إلزاميا فلا دليل عليه من الكلام البتة، بل الدليل على خلافه، فإن بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرع الحكيم وهو ظاهر.
15. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ الإطاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل، ولازمه وقوع الفعل بجهد ومشقة، والفدية هي البدل وهي هنا بدل مالي وهو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكينا جائعا من أوسط ما يطعم الإنسان، وحكم الفدية أيضا فرض كحكم القضاء في المريض والمسافر لمكان قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ﴾ الظاهر في الوجوب التعييني دون الرخصة والتخيير.
16. ذكر بعضهم: أن الجملة ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ تفيد الرخصة ثم فسخت فهو سبحانه وتعالى خير المطيقين للصوم من الناس كلهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويكفروا عن كل يوم بطعام مسكين، لأن الناس كانوا يومئذ غير متعوذين بالصوم ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وقد ذكر بعض هؤلاء: أنه نسخ حكم غير العاجزين، وأما مثل الشيخ الهرم والحامل والمرضع فبقي على حاله، من جواز الفدية، ولعمري إنه ليس إلا لعبا بالقرآن وجعلا لآياته عضين.
17. إذا تأملت الآيات الثلاث وجدتها كلاما موضوعا على غرض واحد ذا سياق واحد متسق الجمل رائق البيان، ثم إذا نزلت هذا الكلام على وحدته واتساقه على ما يراه هذا القائل وجدته مختل السياق، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضا، وينقض آخره أوله، فتارة يقول ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ وأخرى يقول: يجوز على القادرين منكم الإفطار والفدية، وأخرى يقول: يجب عليكم جميعا الصيام إذا شهدتم الشهر، فينسخ حكم الفدية عن القادرين ويبقى حكم غير القادرين على حاله، ولم يكن في الآية حكم غير القادرين، اللهم إلا أن يقال: إن قوله تعالى: ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ كان دالا على القدرة قبل النسخ فصار يدل بعد النسخ على عدم القدرة، وبالجملة يجب على هذا أن يكون قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ في وسط الآيات ناسخا لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ في أولها لمكان التنافي، ويبقى الكلام في وجهه تقييده بالإطاقة من غير سبب ظاهر، ثم قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ في آخر الآيات ناسخا لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ في وسطها، ويبقى الكلام في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين، مع كون الناسخ مطلقا شاملا للقادر والعاجز جميعا، وكون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الذي يراد بقاؤه وهذا من أفحش الفساد.. وإذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ لقوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾، ونسخ قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ لقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ وتأملت معنى الآيات شاهدت عجبا.
18. ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ التطوع تفعل من الطوع مقابل الكره وهو إتيان الفعل بالرضا والرغبة، ومعنى باب التفعل الأخذ والقبول فمعنى التطوع التلبس في إتيان الفعل بالرضا والرغبة من غير كره واستثقال سواء كان فعلا إلزاميا أو غير إلزامي، وأما اختصاص التطوع استعمالا بالمستحبات والمندوبات فمما حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية أن الفعل الذي يؤتى به بالطوع هو الندب، وأما الواجب ففيه شوب كره لمكان الإلزام الذي فيه.
19. بالجملة التطوع كما قيل: لا دلالة فيه مادة وهيئة على الندب، وعلى هذا فالفاء للتفريع والجملة متفرعة على المحصل من معنى الكلام السابق، والمعنى والله أعلم: الصوم مكتوب عليكم مرعيا فيه خيركم وصلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صف الأمم التي قبلكم، والتخفيف والتسهيل لكم فأتوا به طوعا لا كرها، فإن من أتى بالخير طوعا كان خيرا له من أن يأتي به كرها، ومن هنا يظهر: أن قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ من قبيل وضع السبب موضع المسبب أعني وضع كون التطوع بمطلق الخير خيرا مكان كون التطوع بالصوم خيرا نظير قوله تعالى: (﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أي فاصبر ولا تحزن فإنهم لا يكذبونك.
20. ربما يقال: إن الجملة ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ مرتبطة بالجملة التي تتلوها أعني قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ والمعنى أن من تطوع خيرا من فدية طعام مسكين بأن يؤدي ما يزيد على طعام مسكين واحد بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيرا له، ويرد عليه: عدم الدليل على اختصاص التطوع بالمستحبات كما عرفت مع خفاء النكتة في التفريع، فإنه لا يظهر لتفرع التطوع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول، مع أن قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ لا دلالة له على التطوع بالزيادة فإن التطوع بالخير غير التطوع بالزيادة.
21. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة متممة لسابقتها، والمعنى بحسب التقدير ـ كما مر ـ: تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم، فإن التطوع بالخير خير والصوم خير لكم، فالتطوع به خير على خير.
22. ربما: يقال إن الجملة ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة فإن ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة: من المريض والمسافر فيستحب عليهم اختيار الصوم على الإفطار والقضاء، ويرد عليه:
أ. عدم الدليل عليه أولا.
ب. واختلاف الجملتين أعني قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ بالغيبة والخطاب ثانيا.
ج. وأن الجملة الأولى مسوقة لبيان الترخيص والتخيير، بل ظاهر قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ تعين الصوم في أيام أخر كما مر ثالثا.
د. وأن الجملة الأولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق المعذور لم يذكر الصوم والإفطار حتى يكون قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ بيانا لأحد طرفي التخيير، بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان وصوم عدة من أيام أخر، وحينئذ لا سبيل إلى استفادة ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرد قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من غير قرينة ظاهرة رابعا.
هـ. وأن المقام ليس مقام بيان الحكم حتى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيا بل المقام ـ كما مر سابقا ـ مقام ملاك التشريع وأن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن كما في قوله تعالى: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وقوله تعالى ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، والآيات في ذلك كثيرة خامسا.
23. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى﴾ شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية بين شعبان وشوال ولم يذكر اسم شيء من الشهور في القرآن إلا شهر رمضان.
24. النزول هو الورود على المحل من العلو، والفرق بين الإنزال والتنزيل أن الإنزال دفعي والتنزيل تدريجي، والقرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم باعتبار كونه مقروا كما قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، ويطلق على مجموع الكتاب وعلى أبعاضه.
25. الآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان، وقد قال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾، وهو ظاهر في نزوله تدريجا في مجموع مدة الدعوة وهي ثلاث وعشرون سنة تقريبا، والمتواتر من التاريخ يدل على ذلك، ولذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين، وربما أجيب عنه: بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نجوما وعلى مكث في مدة ثلاث وعشرين سنة ـ مجموع مدة الدعوة ـ وهذا جواب مأخوذ من الروايات.. وقد أورد عليه: بأن تعقيب قوله تعالى: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ بقوله تعالى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية والفرقان في السماء مدة سنين، وأجيب: بأن كونه هاديا من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال، وفارقا إذا التبس حق بباطل لا ينافي بقاءه مدة على حال الشأنية من غير فعلية التأثير حتى يحل أجله ويحين حينه، ولهذا نظائر وأمثال في القوانين المدنية المنتظمة التي كلما حان حين مادة من موادها أجريت وخرجت من القوة إلى الفعل.
26. الحق أن حكم القوانين والدساتير غير حكم الخطابات التي لا يستقيم أن تتقدم على مقام التخاطب ولو زمانا يسيرا، وفي القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾، وقوله تعالى: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، على أن في القرآن ناسخا ومنسوخا، ولا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول.
27. وربما أجيب عن الإشكال: أن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أن أول ما نزل منه نزل فيه، ويرد عليه: أن المشهور عندهم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إنما بعث بالقرآن، وقد بعث اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين رمضان أكثر من ثلاثين يوما، وكيف يخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن، على أن أول سورة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ يشهد على أنها أول سورة نزلت، وأنها نزلت بمصاحبة البعثة، وكذا سورة المدثر تشهد أنها نزلت في أول الدعوة وكيف كان فمن المستبعد جدا أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان.
28. على أن قوله تعالى: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه ولا قرينة تدل عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، فإن ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله أو إنزال أول بعض من أبعاضه ولا قرينة في الكلام تدل على ذلك.
29. الذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وقوله تعالى: ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، واعتبار الدفعة إما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى: ﴿كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾، فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر هاهنا معطوف إلى أخذه مجموعا واحدا، ولذلك عبر عنه بالإنزال دون التنزيل، وكقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾، وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالإنزال دون التنزيل.. وهذا الاحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾، فإن هذا الإحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وقطعة قطعة، فالإحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء، ولا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرأ عليه بعد كونه محكما غير مفصل.
30. وأوضح منه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ـ إلى أن قال ـ ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾، فإن الآيات الشريفة وخاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أن التفصيل أمر طارئ على الكتاب فنفس الكتاب شيء والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر، وأنهم إنما كذبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشيء يؤول إليه هذا التفصيل وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة ويضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم ولات حين مناص وفيها إشعار بأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.
31. وأوضح منه قوله تعالى: ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾، فإنه ظاهر في أن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروءا عربيا، وإنما ألبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس وإلا فإنه ـ وهو في أم الكتاب ـ عند الله، علي لا يصعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل، وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنه أصل القرآن العربي المبين.
32. وفي هذا المساق أيضا قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله وأن التنزيل بعده، وأما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار وهو الذي عبر عنه في آيات الزخرف، بأم الكتاب، وفي سورة البروج، باللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾، وهذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود التغير عليه، ومن المعلوم أن القرآن المنزل تدريجا لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ وعن التدريج الذي هو نحو من التبدل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، وإنما هذا بمنزلة اللباس لذاك.
33. ثم إن هذا المعنى أعني: كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين ـ ونحن نسميه بحقيقة الكتاب ـ بمنزلة اللباس من المتلبس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحح لأن يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾، إلى غير ذلك وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ وقوله، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول الله ص دفعة كما أنزل القرآن المفصل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية، وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾: طهـ 114، وقوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾، فإن الآيات ظاهرة في أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان له علم بما سينزل عليه فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي.
34. بالجملة فإن المتدبر في الآيات القرآنية لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها على كون هذا القرآن المنزل على النبي تدريجا متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تناولها أيدي الأفكار المتلوثة بألواث الهوسات وقذارات المادة، وأن تلك الحقيقة أنزلت على النبي إنزالا فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه، وسيجيء بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل والتنزيل في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ فهذا ما يهدي إليه التدبر ويدل عليه الآيات.
35. نعم أرباب الحديث، والغالب من المتكلمين، والحسيون من باحثي هذا العصر لما أنكروا أصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطروا إلى حمل هذه الآيات ونظائرها كالدالة على كون القرآن هدى ورحمة ونورا وروحا ومواقع النجوم وكتابا مبينا، وفي لوح محفوظ، ونازلا من عند الله، وفي صحف مطهرة إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة والمجاز فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا.
36. لبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان، قال ما محصله(2). : إنه لا ريب أن بعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مقارنا لنزول أول ما نزل من القرآن وأمره صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتبليغ والإنذار، ولا ريب أن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾، ولا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وجملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها، وهي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا فصح أن يقال: ﴿أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ﴾ على أن القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكل، بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية أيضا كالتوراة والإنجيل والزبور باصطلاح القرآن، قال: وذلك: أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان، نزل والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرائيل فأوحى إليه قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، ولما تلقى الوحي خطر بباله أن يسأله: كيف يذكر اسم ربه فتراءى له وعلمه بقوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إلى آخر سورة الحمد، ثم علمه كيفية الصلاة ثم غاب عن نظره فصحا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يجد مما كان يشاهده أثرا إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنه رسول من الله إلى الناس، مأمور بهدايتهم ثم لما دخل البيت نام ليلته من شدة التعب، فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة وأوحى إليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ الآيات، قال: فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ومصادفة بعثته لليلة القدر: وأما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب فهذه الأخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت، قال: (وهناك روايات أخرى في تأييد هذه الأخبار تدل على أن معنى نزول القرآن في شهر رمضان: أنه نزل فيه قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور وأملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذه أوهام خرافية دست في الأخبار مردودة أولا بمخالفة الكتاب، وثانيا أن مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة وبالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الإنسان فيه) انتهى ملخصا.
37. لست أدري أي جملة من جمل كلامه ـ على فساده بتمام أجزائه ـ تقبل الإصلاح حتى تنطبق على الحق والحقية بوجه؟ فقد اتسع الخرق على الراتق، ففيه:
أ. أولا: أن هذا التقول العجيب الذي تقوله في البعثة ونزول القرآن أول ما نزل، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم نزل عليه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ وهو في الطريق، ثم نزلت عليه سورة الحمد، ثم علم الصلاة، ثم دخل البيت ونام تعبانا، ثم نزلت عليه سورة المدثر صبيحة الليلة، فأمر بالتبليغ، كل ذلك تقول لا دليل عليه لا آية محكمة ولا سنة قائمة، وإنما هي قصة تخيلية لا توافق الكتاب ولا النقل.
ب. ثانيا: أنه ذكر أن من المسلم أن البعثة ونزول القرآن والأمر بالتبليغ مقارنة زمانا، ثم فسر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيا غير رسول ليلة واحدة فقط، ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدثر، ولا يسعه، أن يستند في ذلك إلى كتاب ولا سنة، وليس من المسلم ذلك، أما السنة فلأن لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شيء من جوامع الحديث مطلقا إذ لا شيء من كتب الحديث مما ألفته العامة أو الخاصة إلا وتأليفه متأخر عن عصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قرنين فصاعدا فهذا في السنة، والتاريخ ـ على خلوه من هذه التفاصيل ـ حاله أسوأ والدس الذي رمي به الحديث متطرق إليه أيضا، وأما الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح وأجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره وتكذيب ما تقوله ظاهرة:
• فإن سورة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ وهي أول سورة نزلت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على ما ذكره أهل النقل، ويشهد به الآيات الخمس التي في صدرها ولم يذكر أحد أنها نزلت قطعات ولا أقل من احتمال نزولها دفعة ـ مشتملة على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلي بمرأى من القوم وأنه كان منهم من ينهاه عن الصلاة ويذكر أمره في نادي القوم (ولا ندري كيف كانت هذه الصلاة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يتقرب بها إلى ربه في بادئ أمره إلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة) قال تعالى فيها: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهى مصليا عن الصلاة، ويذكر أمره في النادي، ولا ينتهي عن فعاله، وقد كان هذا المصلي هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بدليل قوله تعالى بعد ذلك: ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ﴾، فقد دلت السورة على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن، وقد كان على الهدى وربما أمر بالتقوى، وهذا هو النبوة ولم يسم أمره ذلك إنذارا، فكان صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيا وكان يصلي ولما ينزل عليه قرآن ولا نزلت بعد عليه سورة الحمد ولما يؤمر بالتبليغ.
• وأما سورة الحمد فإنها نزلت بعد ذلك بزمان، ولو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول الله ص كما ذكره هذا الباحث لكان حق الكلام أن يقال: قل ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إلخ، أو يقال: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قل: ﴿الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إلخ ولكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ لخروج بقية الآيات عن الغرض كما هو الأليق ببلاغة القرآن الشريف، نعم وقع في سورة الحجر ـ وهي من السور المكية كما تدل عليه مضامين آياتها، قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾، والمراد بالسبع المثاني سورة الحمد، وقد قوبل بها القرآن العظيم وفيه تمام التجليل لشأنها والتعظيم لخطرها لكنها لم تعد قرآنا بل سبعا من آيات القرآن وجزءا منه بدليل قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾، ومع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدل على سبق نزولها نزول سورة الحجر والسورة مشتملة أيضا على قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ الآيات، ويدل ذلك على أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قد كف عن الإنذار مدة ثم أمر به ثانيا بقوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ﴾
• أما سورة المدثر وما تشتمل عليه من قوله تعالى: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾، فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فأنذر، حال قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ الآية، لاشتمال هذه السورة أيضا على قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ إلى آخر الآيات، وهي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ إلخ، وإن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق أن صدرها قد نزل في بدء الرسالة.
ج. ثالثا: أن قوله: إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة، ثم نزول الآيات نجوما على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبار مجعولة خرافية لمخالفتها الكتاب وعدم استقامة مضمونها، وأن المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة، وبالبيت المعمور كرة الأرض خطأ وفرية:
• أما أولا: فلأنه لا شيء من ظاهر الكتاب يخالف هذه الأخبار على ما عرفت.
• وأما ثانيا: فلأن الأخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت.
• وأما ثالثا: فلأن قوله: إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسير شنيع ـ وأنه أضحوكة ـ وليت شعري: ما هو الوجه المصحح على قوله لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحا محفوظا؟ أذلك لكون هذا العالم محفوظا عن التغير والتحول؟ فهو عالم الحركات، سيال الذات، متغير الصفات! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا؟ فالواقع خلافه! أو لكونه محفوظا عن اطلاع غير أهله عليه؟ كما يدل عليه: قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾، فإدراك المدركين فيه على السواء!.
38. وبعد اللتيا والتي: لم يأت هذا الباحث في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان بوجه محصل يقبله لفظ الآية، فإن حاصل توجيهه: أن معنى ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ كأنما أنزل فيه القرآن، ومعنى ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ﴾ كأنا أنزلناه في ليلة، وهذا شيء لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق، ولو جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال: إن معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مر بيانه سابقا.. وفي كلامه جهات أخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام.
39. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ الناس، وهم الطبقة الدانية من الإنسان الذين سطح فهمهم المتوسط أنزل السطوح، يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾، وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الأمور المعنوية بالبينة والبرهان، ولا فرق الحق من الباطل بالحجة إلا بمبين يبين لهم وهاد يهديهم، والقرآن هدى لهم ونعم الهدى، وأما الخاصة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل، المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهية والركون إلى فرقان الحق فالقرآن بينات وشواهد من الهدى والفرقان في حقهم فهو يهديهم إليه ويميز لهم الحق ويبين لهم كيف يميز، قال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبينات من الهدى، وهو التقابل بين العام والخاص فالهدى لبعض والبينات من الهدى لبعض آخر.
40. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم من جهته، وشهادة الشهر إنما هو ببلوغه والعلم به، ويكون بالبعض كما يكون بالكل، وأما كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الإنسان بالحضر مقابل السفر فلا دليل عليه إلا من طريق الملازمة في بعض الأوقات بحسب القرائن، ولا قرينة في الآية.
41. ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ إيراد هذه الجملة في الآية ثانيا ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أن الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم، وأن الحكم هو الذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار.
42. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ كأنه بيان لمجموع حكم الاستثناء: وهو الإفطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر، وصيام عدة من أيام أخر لمكان وجوب إكمال العدة، واللام في قوله: ﴿لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ للغاية، وهو عطف على قوله: يريد، لكونه مشتملا على معنى الغاية، والتقدير وإنما أمرناكم بالإفطار والقضاء لنخفف عنكم ولتكملوا العدة، ولعل إيراد قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ هو الموجب لإسقاط معنى قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ عن هذه الآية مع تفهم حكمه بنفي العسر وذكره في الآية السابقة.
43. ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية أنهما لبيان الغاية غاية أصل الصيام دون حكم الاستثناء فإن تقييد قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ بقوله تعالى: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ إلى آخره مشعر بنوع من العلية وارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فيعود معنى الغاية إلى أن التلبس بالصوم لإظهار كبريائه تعالى بما نزل عليهم القرآن وأعلن ربوبيته وعبوديتهم، وشكر له بما هداهم إلى الحق، وفرق لهم بكتابه بين الحق والباطل، ولما كان الصوم إنما يتصف بكونه شكرا لنعمه إذا كان مشتملا على حقيقة معنى الصوم وهو الإخلاص لله سبحانه في التنزه عن ألواث الطبيعة والكف عن أعظم مشتهيات النفس بخلاف اتصافه بالتكبير لله فإن صورة الصوم والكف سواء اشتمل على إخلاص النية أو لم يشتمل يدل على تكبيره تعالى وتعظيمه فرق بين التكبير والشكر فقرن الشكر بكلمة الترجي دون التكبير، فقال: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ كما قال في أول الآيات: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
44. أحاديث وآثار، وفوائدها، والموقف منها:
أ. في الحديث القدسي، قال الله تعالى: (الصوم لي وأنا أجزي به)، وقد رواه الفريقان على اختلاف يسير، والوجه في كون الصوم لله سبحانه أنه هو العبادة الوحيدة التي تألفت من النفي، وغيره كالصلاة والحج وغيرهما متألف من الإثبات أو لا يخلو من الإثبات، والفعل الوجودي لا يتمحض في إظهار عبودية العبد ولا ربوبية الرب سبحانه، لأنه لا يخلو عن شوب النقص المادي وآفة المحدودية وإثبات الإنية ويمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه كما في موارد الرياء والسمعة والسجدة لغيره بخلاف النفي الذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الإخلاد إلى الأرض والتنزه بالكف عن شهوات النفس فإن النفي لا نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمرا بين العبد والرب لا يطلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى، وقوله أنا أجزي به، إن كان بصيغة المعلوم كان دالا على أنه لا يوسط في إعطاء الأجر بينه وبين الصائم أحدا كما أن العبد يأتي بما ليس بينه وبين ربه في الاطلاع عليه أحد نظير ما ورد: أن الصدقة إنما يأخذها الله من غير توسيطه أحدا، قال تعالى: ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾، وإن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أن أجر الصائم القرب منه تعالى.
ب. في الفقيه، عن حفص قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام، يقول: (إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا) فقلت له: فقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، قال: (إنما فرض الله شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضل الله هذه الأمة وجعل صيامه فرضا على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعلى أمته) والرواية ضعيفة بإسماعيل بن محمد في سنده، وقد روي هذا المعنى مرسلا عن العالم عليه السلام وكان الروايتين واحدة، وعلى أي حال فهي من الآحاد وظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ الأنبياء خاصة ولو كان كذلك، والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريص والترغيب، كان التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع.
ج. في الكافي: عمن سأل الصادق عليه السلام عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شيء واحد؟ فقال: (القرآن جملة الكتاب، والفرقان الحكم الواجب العمل به)، وفي الجوامع، عنه عليه السلام: (الفرقان كل آية محكمة في الكتاب)، وفي تفسيري العياشي، والقمي، عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الفرقان هو كل أمر محكم في القرآن، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الأنبياء)، واللفظ يساعد على ذلك.
د. في بعض الأخبار أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا ينبغي أن يقال: جاء رمضان وذهب، بل شهر رمضان الحديث، وهو واحد غريب في بابه، وقد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضا من المفسرين، والأخبار الواردة في عد أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان، على أن لفظ رمضان من غير تصديره بلفظ شهر وكذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في الروايات المنقولة عن النبي وعن أئمة أهل البيت عليه السلام بحيث يستبعد جدا نسبة التجريد إلى الراوي.
هـ. في تفسير العياشي، عن الصباح بن نباتة قال قلت: لأبي عبد الله عليه السلام إن ابن أبي يعفور، أمرني أن أسألك عن مسائل فقال: وما هي؟ قلت: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن أسافر؟ قال: (إن الله يقول: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلا لحج أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه)، وهو استفادة لطيفة لحكم استحبابي بالأخذ بالإطلاق.
و. في الكافي، عن علي بن الحسين عليه السلام قال: فأما صوم السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك فقال: قوم يصوم، وقال آخرون: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأما نحن: فنقول: يفطر في الحالين جميعا فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإن الله عز وجل يقول: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، وفي تفسير العياشي، عن الباقر عليه السلام في قوله ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ قال عليه السلام: (ما أبينها لمن عقلها، قال من شهد رمضان فليصمه ومن سافر فيه فليفطر)، والأخبار عن أئمة أهل البيت في تعين الإفطار على المريض والمسافر كثيرة ومذهبهم ذلك، وقد عرفت دلالة الآية عليه.
ز. في تفسير العياشي، أيضا عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ قال: (الشيخ الكبير الذي لا يستطيع والمريض)، وفي تفسيره أيضا عن الباقر عليه السلام: في الآية، قال: (الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش)، وفي تفسيره أيضا عن الصادق عليه السلام قال: (المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير)، والروايات فيه كثيرة عنهم عليه السلام والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيام السنة غير أيام شهر رمضان ممن لا يقدر على عدة أيام أخر فإن المريض في قوله تعالى، ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ لا يشمله وهو ظاهر، والعطاش مرض العطش.
ح. في تفسيره أيضا عن سعيد عن الصادق عليه السلام قال: إن (في الفطر تكبيرا) قلت: ما التكبير إلا في يوم النحر، قال: (فيه تكبير ولكنه مسنون في المغرب والعشاء والفجر والظهر والعصر وركعتي العيد)، وفي الكافي، عن سعيد النقاش قال قال أبو عبد الله عليه السلام لي: (في ليلة الفطر تكبيرة ولكنه مسنون)، قال قلت: وأين هو؟ قال: (في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلاة الفجر وفي صلاة العيد ثم يقطع)، قال قلت: كيف أقول! قال: (تقول الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، وهو قول الله ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ يعني الصلاة ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ والتكبير أن تقول: الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، ولله الحمد)، قال وفي رواية (التكبير الآخر أربع مرات)، اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين وعدمه يمكن أن يحمل على مراتب الاستحباب، وقوله عليه السلام: يعني الصلاة لعله يريد: أن المعنى ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ أي عدة أيام الصوم بصلاة العيد ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ مع الصلوات ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ وهو غير مناف لما ذكرناه من ظاهر معنى قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ فإنه استفادة حكم استحبابي من مورد الوجوب نظير ما مر في قوله تعالى ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الأولى منه هذا، واختلاف آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الأخيرة يؤيد ما قيل: إن قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ بتضمين التكبير معنى الحمد ولذلك عدي بعلى.
ط. في تفسير العياشي، عن ابن أبي عمير عن الصادق عليه السلام قال قلت له، جعلت فداك ما يتحدث به عندنا أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صام تسعة وعشرين أكثر مما صام ثلاثين أحق هذا؟ قال: (ما خلق الله من هذا حرفا فما صام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا ثلاثين لأن الله يقول: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ينقصه)، قوله: فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مقام الاستفهام الإنكاري، والرواية تدل على ما قدمناه: أن ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان.
ي. في محاسن البرقي، عن بعض أصحابنا رفعه: في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ قال: (التكبير التعظيم، والهداية الولاية)، قوله: (والهداية الولاية) من باب الجري وبيان المصداق، ويمكن أن يكون من قبيل ما يسمى تأويلا كما ورد في بعض الروايات أن اليسر هو الولاية، والعسر الخلاف وولاية أعداء الله.
ك. في الكافي، عن حفص بن الغياث عن أبي عبد الله، قال سألته عن قول الله عز وجل: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ وإنما أنزل في عشرين بين أوله وآخره، فقال أبو عبد الله: (نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة)، ثم قال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان وأنزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان وأنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان) ما رواه عليه السلام عن النبي رواه السيوطي في الدر المنثور، بعدة طرق عن وائلة بن الأسقع عن النبي.
ل. في الكافي، والفقيه، عن يعقوب قال سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عن ليلة القدر فقال أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل سنة؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: (لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن)، وفي الدر المنثور، عن ابن عباس، قال: (شهر رمضان والليلة المباركة وليلة القدر فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثم نزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رسلا رسلا)، وروي هذا المعنى عن غيره أيضا كسعيد بن جبير ويظهر من كلامه أنه إنما استفاد ذلك من الآيات القرآنية كقوله تعالى: ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ وفي قوله تعالى: ﴿وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا﴾، وجميع ذلك ظاهر إلا ما ذكره في مواقع وأنه السماء الأولى وموطن القرآن فإن فيه خفاء، والآيات من سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك، وقد ورد من طرق أهل البيت أن البيت المعمور في السماء، وسيجيء الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى، ومما يجب أن يعلم أن الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه، والكلام على الإشارة والرمز شائع فيه، ولا سيما في أمثال هذه الحقائق: من اللوح والقلم والحجب والسماء والبيت المعمور والبحر المسجور فمما يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 2/5.
(2) ساق هذا الكلام هنا لينقده.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ فرِضَ، والصيام: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى الليل بنية ذلك، وقوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ﴾ تشبيه في أنه كتب، وذلك ترغيب فيه أو تسهيل له، والذين من قبلنا يحتمل أنهم النصارى وحدهم، أو هم وغيرهم وهو الأقرب.
2. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فهو من أسباب التقوي؛ لأنه تمرين للنفس على ترك ما تشتهي وتعويد لها، والخير كله يسهل بمصيره عادة وفي كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام: (عوّد نفسك السماح، فإن الخير عادة)
3. ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ قال في (الكشاف): (وانتصاب أياماً بالصيام كقولك: نويت الخروج يوم الجمعة)، وقوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ تقليل لمدة الصيام، وفيه فوائد:
أ. الأولى: أن الصوم للأيام لا لليالي.
ب. الثانية: أن يوم الصوم لا يتبعض، بل يصام كله، وما وقع في الحساب من تبعيض يوم الثلاثين يجعل بعضه من شهر رمضان وبعضه من شوال لا حكم له فيُصام اليوم كله، ولا التفات إلى الحساب.
ج. الثالثة: أن الواجب أيام، من حيث هي أيام، وعلى هذا فهو واجبات متعددة، ولا ينافي ذلك إسناد الوجوب إلى الشهر في الآية الثانية، ومن فوائد ذلك: وجوب اليوم واليومين على من له عذر كالهمّ الذي يعجز عن صيام الشهر ويستطيع اليوم الواحد أو اليومين مثلاً، فيصوم ما يستطيع بلا ضرر عليه، ويفطر ما يخاف منه الضرر.
4. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ تجزيه، وهذا يدل على أنها معينة بالشهر مع تعيينها بالعدد، ويدل على أنه يجزيه عن ما أفطر من هذه الأيام عددها من أيام أخر، وظاهره صحة الصيام مع المرض والسفر إن صام، لأن ذكر ما يجزي لم يرفع إيجابها، وإنما صار ذلك واجباً مخيراً في حق المريض والمسافر.
5. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ مع المرض والسفر إذا أفطروا ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ وفي قراءة نافع: ﴿طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾ وطعام المسكين لليوم الواحد، فوجبت عليهم الفدية؛ لأنهم أفطروا وهم يطيقون الصيام لعدم شدة المرض أو صعوبة السفر.
6. ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ في إطعام المساكين، وهذا ترغيب في الزيادة من الإطعام على الواجب ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ لما في الإنفاق من الفضل، والفائدة لنصرة الإسلام بإطعام من حول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم لغيرهم.
7. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من الإطعام؛ لأن الصيام أداء واجب والإطعام تبع للرخصة ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إن كنتم تعلمون، علمتم أنه خير لكم.
8. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ الراجح: أن ﴿شَهْرٍ﴾ مبتدأ، وخبره ﴿الَّذِي﴾ وأن هذا تمهيد لتعيينه للصوم لفضله على غيره من الشهور، ولشكر نعمة إنزال القرآن فيه بصومه، ومعنى إنزال القرآن فيه في الليلة المباركة ليلة القدر أن ابتداءه وأوله كان في شهر رمضان في ليلة القدر، ولعل الوجه في هذا أن المنزل هو القرآن، وما لحق من بعد ذلك زيادة فيه كأنه شيء واحد ينمو، كما تقول: ولد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عام الفيل، وهو حين ولد أصغر منه حين كبر بكثير، أو أن القرآن اسم جنس يصدق على السورة، والسورتين، والأكثر والكل، قال ﴿وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾ [يونس:61]
9. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ لعله بمعنى هدى للناس يعلمون به صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ويتبع ذلك اهتداؤهم بما في القرآن وما جاء به الرسول، وإيمانهم بما يدل عليه القرآن والسنة.
10. ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾ بمعنى أنه آيات بينات ودلائل واضحات من الهدى من بيان الصراط المستقيم ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾ بين الحق والباطل، فهذه نعمة عظيمة وفضيلة شهر رمضان على غيره من الشهور.
11. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (من شهد) من حضر، يقال: فلان شاهد، بمعنى: حاضر في البلد، والمعنى: من كان في بلده في هذا الشهر فليصمه.
12. ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ تجزيه، وظاهرها: أن المريض إذا صام أجزاه، وإذا أفطر وقضى أجزاه، وأما المسافر فلم يتناوله هذا الأمر، وقد احتج به من يقول: لا يجزيه صيامه في السفر؛ لأنه لم يشرع له إلاَّ القضاء، ولا نسلم هذا لأنه وإن لم تدل هذه الآية على شرعيته له فقد دلت عليها الأولى، وعدم الدلالة هنا ليست دلالة على عدم شرعيته له.
13. سؤال وإشكال: إن التقدير فعليه عدة من أيام أخر، وهذا يدل على أنه لا يجزيه الصيام في شهر رمضان؟ والجواب: إن المفهوم من الآية هو الترخيص لمشقة الصيام في السفر والمرض وتقدير: فعليه عدة لا يفيده، إنما يفيد التكليف بعدة من أيام أخر، وإذا فسرنا العدة بعدة أيام السفر والمرض كان ذلك إضافة تكليف إلى تكليف؛ لأنه لا يفيد الترخيص في الإفطار ولا إيجابه، فظهر: أن تقديركم لا يفيد المقصود، أما تقديرنا يجزيه فيفيده وهو صالح في سائر المواضع المماثلة لهذا من القرآن مثلاً في كفارة اليمين، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، أي يجزيه، وفي (كفارة الظهار) كذلك، وفي (الحج): ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾ أي تجزيه عن ترك الحلق، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ أي يجزون، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ أي تجزي عن الكتاب، فالتقدير المطرد الذي يرشد إليه السياق هو الظاهر، وخلافه دعوى بلا دليل من حيث تضمُّنِه الزيادة على ما يرشد إليه السياق ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ ولذلك رخص للمريض والمسافر؛ لأنه يريد التسهيل والتخفيف، ولا يريد التشديد.
14. ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ فجمع لكم بين النعمتين: التيسير بتأخير الصوم عن حالة المرض والسفر، وإبدال ما فات، لئلا يفوتكم ثواب إكمال العدة، وفائدة الصوم، وليتم الابتلاء بالعدة كلها ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ شكراً ﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ لأنه هداكم للدين المؤدي إلى السعادة الدائمة بهذا القرآن الذي أنزله في هذا الشهر المبارك وتتلونه فيه وتصومون وتصلون وتدعون وتقربون فيه بأنواع القرب العديدة.
15. ﴿وَ﴾ شرع لكم طريق السعادة والكرامة والسلامة ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ هذه النعمة العظمى، وقد قدمت في تفسير (سورة الفاتحة) الاستدلال بها على أن نعمة الهدى أعظم النعم.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/252.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا تشريع عبادي جديد أراد الله لعباده أن يتعبدوا له فيه، من أجل أن يحققوا لأنفسهم البناء الروحي والعملي من خلال ذلك، كما هو الحال في العبادات الأخرى التي لم يجعلها الله استغراقا في ذاته أو غيبوبة في قدسه، ليبتعدوا بذلك عن حياتهم، بل جعلها انطلاقه في وعي الإنسان لعلاقته بربه، من حيث هي عبودية ومسئولية وانفتاح، لتؤكد له إنسانيته الصافية النقية البعيدة عن كل خبث وزيف ورياء، وعن كل ضعف وحقد وانحراف، والقريبة من المعاني الروحية التي تنبي للإنسان حياته على الصورة التي يحبها الله ويرضاها، فهي تلتقي بالحياة من خلال التقائه بالله.
2. في هذا الإطار، اعتبرت العبادات الإسلامية من ركائز الإسلام، باعتبار علاقتها ببناء الشخصية الإسلامية للإنسان في ما يفكر ويعمل ويمارس من علاقات عامه وخاصه، وفي ما يخطط له من غايات، وما يستخدم من وسائل، وذلك من خلال تعدد وتنوع أساليبها وتنوعها، وفي ما تثيره من مشاعر، وما تحركه من نوازع وأفكار.
3. قد نلاحظ في روعة التشريع العبادي في الإسلام، أنه حرّك العبادة في إطار العطاء فاعتبر العطاء عبادة، وأطلقها في الحياة فقرر أن العمل في سبيل طلب الحلال عبادة، وأثارها في خط الدفاع عن الإنسان وقيمه الكبيرة في الحياة، فالجهاد في سبيل الله عبادة يتعبّد فيها الإنسان لربّه، وأفسح المجال للنية الخالصة في داخل الإنسان، لتعطي كل عمل يقصد به الإنسان وجه ربّه في كل شأن من شؤون الحياة الذاتية والعامة، صفة العبادة التي تقربه إلى الله.
4. كان الصوم إحدى العبادات التي بني عليها الإسلام حسب ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السّلام، فقد فرضه الله على المؤمنين في الإسلام، كما فرضه على المؤمنين قبلهم في الشرائع السابقة، فقد ورد في قاموس الكتاب المقدس: (الصوم بشكل عام وفي جميع الأوقات كان متداولا في أوقات الأحزان والنوائب بين جميع الطوائف والملل والمذاهب)، ويظهر من التوراة أن موسى عليه السّلام صام أربعين يوما، فقد جاء فيها: (أقمت في الجبل أربعين ليلة لا آكل خبزا ولا أشرب ماء)، وكان اليهود يصومون لدى التوبة والتضرّع إلى الله، واليهود كانوا يصومون غالبا حينما تتاح لهم الفرصة للإعراب عن عجزهم وتواضعهم أمام الله، ليعترفوا بذنوبهم عن طريق الصوم والتوبة، وليحصلوا على رضى القدس الإلهي، والصوم الأعظم مع الكفارة كان على ما يبدو خاصا بيوم من أيام السنة بين طائفة من اليهود، طبعا كانت هناك أيام أخرى مؤقتة للصوم بمناسبة ذكرى تخريب أورشليم وغيرها.. والسيد المسيح عليه السّلام صام أيضا أربعين يوما، كما يظهر من الإنجيل (ثم صعد يسوع إلى البرية.. فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا) ويبدو من نصوص (إنجيل لوقا) أن حواريي السيد المسيح صاموا أيضا، وجاء في قاموس الكتاب المقدس (من هنا كانت حياة الحواريين والمؤمنين مملوءة بالابتعاد عن اللذات وبالأتعاب وبالصوم)
5. قد لا نجد تفصيلات وافية عن طبيعة هذا الصوم المفروض على السابقين في شرائهم، ولكننا نجد في القرآن الكريم حديثا عن صوم الصمت في ما حدثنا الله به من قصة زكريا قال: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [آل عمران: 41] وفي ما حدثنا به من قصة مريم عليها السّلام: ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ [مريم: 26]، وقد نجد لدى بعض المنتسبين إلى الديانات السابقة من اليهود والنصارى نوعا من الصوم الذي يمتنعون فيه عن بعض المأكولات كاللحوم ونحوها في بعض أيام السنة، وقد يخيّل لبعض الناس أن تشبيه الصوم المكتوب علينا بما كتب على الذين من قبلنا يوحي بوحدة الصوم عندنا وعندهم، ولكن ذلك غير ثابت، لأن التشبيه يكفي فيه أن يكون واردا لبيان أصل التشريع من دون دخول في تفاصيله.
6. هذا ما نستوحيه من الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ إذ لا بد لكم من القيام به فرضا واجبا، كعبادة شرعية تتقربون بها إلى الله، وتحققون فيها الكثير من المنافع الروحية والأخلاقية والجسدية، ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، فلستم أوّل الأمم التي يفرض عليها هذا النوع من الإمساك العملي، لأن القضية ليست حالة خاصة في ظرف خاص يتصل بكم بشكل خاص، بل هي حالة عامة في الإنسان كله من حيث علاقة الترك المخصوص لبعض الأشياء في توازن حياته، كما هي علاقة الفعل الخاص في الجوانب الأخرى منها، وربما اختلف الصوم في طبيعته ومفرداته بين أمة وأخرى، ولكن المبدأ واحد.
7. ختمت الآية بيان الصوم، بقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ للإيحاء بأن التقوي هي غاية للصوم أو نتيجة له، نظرا لما يثيره في داخل الإنسان من الرقابة الذاتية الداخلية التي تمنعه من ممارسة كثير من الأشياء المعتادة له من شهواته ومطاعمه ومشاربه، انطلاقا من وعيه التام للإشراف الإلهي عليه في كل صغيرة وكبيرة، وهذا ما تعبر عنه مفردة (التقوي) بما تمثله من الانضباط أمام ما يريده الله منه وما لا يريده، وذلك بأن لا يفقده الله حيث يريده ولا يجده حيث ينهاه، وبذلك يكون هذا الصوم الصغير مقدمة للصوم الكبير، وذلك يتوافق مع ما ورد به الحديث الشريف: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظّه من قيامه السهر)، فيمن لا يمنعه صومه من الممارسات المحرمة الأخرى في شهر رمضان وفي غيره.
8. ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ هناك قولان في المقصود بهذه الأيام:
أ. أحدهما: إنها غير شهر رمضان، وكانت ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ، عن معاذ وعطا وعن ابن عباس وروي ثلاثة أيام من كلّ شهر وصوم عاشوراء، عن قتادة، ثم قيل: إنه كان تطوعا، وقيل: بل كان واجبا، واتفق هؤلاء على أن ذلك منسوخ بصوم شهر رمضان.
ب. والآخر: إن المعني بالمعدودات هو شهر رمضان، عن ابن عباس والحسن واختاره الجبائي وأبو مسلم، وعليه أكثر المفسرين، قالوا: أوجب سبحانه الصوم أولا فأجمله، ولم يبين أنها يوم أو يومان أم أكثر، ثم بيّن أنها أيام معلومات وأبهم، ثم بيّنه بقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، قال القاضي: وهذا أولى، لأنه إذا أمكن حمله على معنى من غير إثبات نسخ كان أولى، ولأن ما قالوه زيادة لا دليل عليه)
9. ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾:
أ. فليس على المريض صيام في شهر رمضان، والظاهر ـ من مناسبة الحكم والموضوع ـ أن المراد به المرض الذي يضر به الصوم، لأن ذلك ما يعتبر عسرا على المكلف، فلا يشمل الصوم الذي ينفع المريض أو الذي لا يترك أي أثر ضار على صحته، وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة المتعددة في هذا الشأن.
ب. أما السفر، فقد حدّدت كميته بما ورد في السنة الشريفة التي اختلفت الروايات بشأنها، مما أوجب اختلاف المذاهب فيها بين السنة والشيعة، مما تعرضت له كتب الفقه.
10. ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ الإطاقة ـ كما ذكره بعضهم ـ صرف تمام الطاقة في الفعل، ولازمه وقوع الفعل بجهد ومشقة والفدية هي البدل المالي عن الصوم، والظاهر من الآية ـ بمقتضى السياق ـ هو حالة الذين يستطيعون الصوم بجهد ومشقة وهم الشيوخ الذين يجدهم الصوم، فإن مثل هؤلاء لا يكلفون بالصوم ولا يكلفون بالقضاء، بل يمكنهم الاكتفاء بدفع الفدية، وقد ورد ذلك في تفسير العياشي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال: (الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش)، وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه الفقرة تدلّ على الرخصة، على أساس تخيير الله للقادرين بين الصوم وبين الإفطار ودفع الفدية، ثم نسخت بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، ولكن ذلك مردود بدراسة الآيات التي تدل على وحدة الفرض والسياق، ولا يحتاج ذلك إلا إلى ذوق سليم وحس مرهف.
11. ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ ربما كان المقصود منه التطوع بالزيادة على الفدية، بأن يعطي الزيادة على ما وجب عليه، كما ورد في بعض الأحاديث أن الأفضل مدان من الطعام، وفسرها صاحب الميزان بإيتاء الصوم عن رضى ورغبة، لأن كلمة التطوع تعني الاختيار في مقابل الإلزام لتدلّ على الاستحباب، بل تدلّ على الطوع في مقابل الكره؛ وذلك بأن يأتي الإنسان به عن رغبة ورضى وقناعة، ولكن هذا خلاف الظاهر لظهور كلمة التطوع في الفعل الذي يأتي به الإنسان من دون إلزام باعتبار أن الإلزام يوحي بالضغط والكره، بينما الاستحباب لا يوحي إلا بالتوسعة والتخفيف، وأما ما ذكره من أن استعمال الكلمة في الفعل المستحب اصطلاح جديد فهو غير دقيق، لأن القضية ليست قضية استعمال الكلمة في المعنى، بل استيحاء المعنى من معنى الكلمة في ما يفهم من مدلوله الواجب والمستحب.
12. ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الظاهر منها ـ بقرينة السياق ـ هو أنها خطاب للذين يجهدهم القضاء، فتباح لهم الفدية لإعلامهم بأن الفدية، وإن كانت جائزة، إلا أن الصوم خير لهم إن كانوا يعلمون لما فيه من النتائج الروحية والعملية وهناك احتمال بأن الفقرة واردة في الحديث عن الصوم، بأنه خير للناس في ذاته بحسب فلسفة الصوم في تشريعه من حيث المنافع الكثيرة العائدة إلى الناس، وقد جرى أسلوب القرآن على الإتيان بهذه الفقرة بعد كل تشريع، لما ورد في قوله سبحانه بعد ذكر وجوب صلاة الجمعة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: 9] وقوله تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 16]، وبهذا يبطل قول من قال إن الصوم كان في بداية التشريع واجبا تخييريا، وكان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية، ثم نسخ ذلك بعد أن تعوّد المسلمون على الصوم فأصبح واجبا عينيا، وهو خلاف الظاهر.
13. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ في هذا التأكيد القرآني على نزول القرآن في شهر رمضان، في هذه الآية وفي تحديد ليلة القدر في سورتي الدخان والقدر، إيحاء بأن عظمة هذا الشهر مستمدة من مناسبة نزول القرآن فيه.
14. اختلف الحديث في تحليل نزول القرآن في هذا الشهر، فهناك من ذكر أن المراد به أول نزوله، وهناك من ذكر أنه النزول إلى اللوح المحفوظ من البيت المعمور، وهناك من حاول أن يجعل من مفهوم الكتاب معنى غامضا لا نستطيع إدراكه، فهو الذي نزل على قلب النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم دفعة واحدة، ثم نزل عليه تدريجيا، وقد كان السبب في هذا الاختلاف، ظهور هذه الآية وغيرها في نزوله دفعة، بينما الآية الكريمة تنص على أنه نزل تدريجا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: 32] والآية الأخرى ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء: 106]، كما أنّ هناك وجها آخر لهذا الاختلاف، وهو أن النزول والبعثة كانا في موعد واحد، مع أن المعروف أن البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب وأن أول ما أنزل: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1] فكيف يمكن التوفيق بين الآية وبين ذلك!؟
15. الواقع أن الظاهر من القرآن الكريم هو أن إنزاله كان في شهر رمضان، ولا نجد هناك فرقا بين الآيات التي تتحدث عن إنزال القرآن في ليلة القدر أو في شهر رمضان، وبين الآيات التي تتحدث عن إنزاله على مكث أو تدريجيا، ولا نستطيع أن نحمل القرآن على معنى غامض خفي في علم الله، وذلك لا من جهة أننا نريد أن نفسر القرآن تفسيرا حسيا ماديا كما يفعل الحسيون، بل من جهة أنه لا دليل على ذلك في ما حاول بعض المفسرين أن يقيم الدليل عليه، مما لا مجال للخوض في النقاش فيه، لأننا لا نجد فيه كبير فائدة.
16. على ضوء ذلك، فإن هذا الظهور القرآني البيّن يجعلنا لا نثق بالروايات التي توقّت البعثة في رجب أو تعيّن أوّل الآيات النازلة في سورة اقرأ، ولذلك فإن من الممكن أن يكون المراد من الإنزال هو أوّل الإنزال، كما أن كلمة القرآن تطلق على القليل والكثير بما يشمل السورة والآية والمجموع، والظاهر أن هذا المقدار كاف في الجانب التفسيري من القضية، لأن الباقي يدخل في باب التخمين والتأويل من غير فائدة تذكر.
17. ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ هذه هي قيمة القرآن وأهميته في حياة الناس، فهو كتاب هدى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السّلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وهو كتاب البينات التي توضح للناس حقائق الأشياء ودقائقها بما يزيل كل شبهة، ويفرق بين الحق والباطل، وقد بينا في بداية هذا التفسير أن معنى كون القرآن هدى، هو اشتماله على أسس الهدى لمن أراد أن يهتدي بها، فلا مجال للإشكال بأن هناك من لا يهتدي بالقرآن، لأن الهدى هنا بمعنى الشأنية لا بمعنى الفعلية، فراجع.
18. ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، هذا تأكيد على الحكم الذي استفدناه من الآية السابقة، ولكن بشكل أوضح، فإن المراد من الشهود الحضور في مقابل السفر، أما المريض والمسافر، فيجب عليهما الصوم في أيام أخر في غير شهر رمضان، ولا يجب عليهما في هذا الشهر، ولا يشرع لهما وقد تقدم الحديث عن موضوع الرخصة والعزيمة في صوم المسافر.
19. ذكر البعض أن المراد بشهود الشهر رؤية الهلال، لتكون الآية دالة على أن الصوم مشروط بالرؤية، كما جاء في الحديث الشريف عن النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، ولكن لا دليل في الآية على ذلك بل ربما كان ذكر السفر في مقابل ذلك دليلا على أن المراد به الحضور في البلد، وقد جاء في رواية زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه السّلام أنّه قال لما سئل عن هذه ما أبينها لمن عقلها قال (من شهد رمضان فليصمه، ومن سافر فيه فليفطر)، وقد روي أيضا ـ كما في مجمع البيان ـ عن علي وابن عباس ومجاهد وجماعة من المفسرين أنهم قالوا: (من شهد الشهر بأن دخل عليه الشهر وهو حاضر، فعليه أن يصوم الشهر كله)، وهذا دليل على أن المراد به الحضور في البلد.
20. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ هذا بيان للحكمة في تشريع القضاء على المسافر والمريض، وأن الله أراد من خلال ذلك بناء أمر الإنسان في ما يفعله وفي ما يتركه على أساس التيسير، لأن الله قد أرسل نبيّه بالشريعة السهلة السمحة، وقد حاول البعض أن يستفيدوا من هذه الفقرة من الآية أن الإفطار في السفر رخصة لا عزيمة، ولكن لا دليل لهم في ذلك لأنه يمكن أن يكون اليسر في إسقاط الصوم عنهم، وإن كان ذلك إلزاميا.
21. ربما يستفاد من هذه الآية قاعدة فقهية حاكمة على أدلّة الأحكام العامة وهي قاعدة (اليسر) أو (لا حرج)، فهي دالة على أن الله يريد ـ في كل تشريعاته ـ أن ييسر للناس حياتهم في ما يفعلون وفي ما يتركون، مما يوحي بأن كل حكم يوقع الناس في العسر فهو غير مجعول في الشريعة، حتى لو كان الدليل الدال عليه يدلّ على ذلك بإطلاقه وعمومه، وهذا هو الأساس في فتاوى الفقهاء في انتقال الإنسان من حالة في الصلاة إلى حالة أخرى حيث يرفع الإلزام عن الحالة المستلزمة للمشقة والعسر كالقيام بالنسبة إلى الجلوس، والوضوء بالنسبة إلى التيمم ونحو ذلك.
22. ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ في صيام الأيام التي فاتت المكلّف في شهر رمضان، ليكمل له بذلك الصيام الذي فرضه عليه.
23. ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ فسّره المفسرون بالتكبيرات التي يكبّرها المصلون في صلاة العيد، ولعل الظاهر أنها تعليل للتشريع العبادي في الصوم الذي يوحي بالتذلل، والخضوع، والانقياد، والوعي الروحي للربوبية الشاملة والألوهية العظيمة في موقع العظمة والكبرياء، وعلى هدايته لدينه الذي به يعرف ربه في توحيده، وقدرته، وكل مواقع العظمة عنده، ليحسّ الإنسان بأن الله هو كل شيء في وجوده وفي حركته، ولا شيء لأيّ مخلوق إلا من خلاله، فهو الذي يمنحهم القوة والعظمة والغنى والسعة في حياتهم، ولا يملكون، في ذواتهم، نفعا ولا ضرا.. وهذا ما يجعل المؤمن واعيا لمقام ربه، ومنفتحا على مسئوليته في توحيده في العبادة والطاعة، فيكبّر الله على ذلك كله، في روحه وعقله وشعوره ولسانه وعمله.
24. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ على ما رزقكم الله من الفرصة في طاعته وفي القيام بما يصلح أمر دينكم ودنياكم، فإن ذلك من النعم التي تستحق الشكر، وأي نعمة أفضل من النعمة التي تهيّئ للإنسان سعادة الدارين.
__________
(1) من وحي القرآن: 4/19.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في سياق طرح مجموعة من الأحكام الإسلامية، تناولت هذه الآيات أحكام واحدة من أهم العبادات، وهي عبادة الصوم، وبلهجة مفعمة بالتأكيد قالت الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، ثم تذكر الآية مباشرة فلسفة هذه العبادة التربوية، في عبارة قليلة الألفاظ، عميقة المحتوى، وتقول: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، نعم، الصوم ـ كما سيأتي شرح ذلك ـ عامل فعّال لتربية روح التقوي في جميع المجالات والأبعاد.
2. لما كانت هذه العبادة مقرونة بمعاناة وصبر على ترك اللذائذ المادية، وخاصة في فصل الصيف، فإن الآية طرحت موضوع الصوم بأساليب متنوعة لتهيّئ روح الإنسان لقبول هذا الحكم:
أ. تبتدئ الآية أولا بأسلوب خطابي وتقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهو نداء يفتح شغاف القلب، ويرفع معنويات الإنسان، ويشحذ همته، وفيه لذة قال عنها الإمام الصادق عليه السّلام: (لذّة ما في النّداء ـ أي ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ـ أزال تعب العبادة والعناء)
ب. ثمّ تبيّن الآية أن الصوم فريضة كتبت أيضا على الأمم السابقة.
ج. ثم تبيّن الآية فلسفة الصوم وما يعود به على الإنسان من منافع، لتكون هذه العبادة محبوبة ملتصقة بالنفس.
3. الآية التالية تتجه أيضا إلى التخفيف من تعب الصوم وتقول:
أ. ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ فالفريضة لا تحتل إلّا مساحة صغيرة من أيّام السنة.
ب. ثم تقول ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾، فالمريض والمسافر معفوان من الصوم، وعليهما أن يقضيا صومهما في أيّام أخرى.
ج. ثم تصدر الآية عفوا عن الطّاعنين في السنّ، وعن المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم، وترفع عنهم فريضة الصوم ليدفعوا بدلها كفارة، فتقول: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، أي من تطوع للإطعام أكثر من ذلك فهو خير له.
د. وأخيرا تبين الآية حقيقة هي: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
4. استدلّ بعض بهذه الآية على أن الصوم كان في بداية التشريع واجبا تخييريا، وكان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية، ثم نسخ هذا الحكم بعد أن تعوّد المسلمون على الصوم وأصبح واجبا عينيّا، ولكن ظاهر الآية يدلّ على تأكيد آخر على فلسفة الصوم، وعلى أن هذه العبادة ـ كسائر العبادات ـ لا تزيد الله عظمة أو جلالا، بل تعود كل فوائدها على النّاس، الشاهد على ذلك ما جاء في القرآن من تعبير مشابه لذلك، كقوله سبحانه بعد ذكر وجوب صلاة الجمعة: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، بهذا تبين أن عبارة ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ موجهة إلى كل الصائمين لا إلى مجموعة خاصة.
5. آخر آية تتحدث عن زمان الصوم وبعض أحكامه ومعطياته تقول: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ هو الشهر الذي فرض فيه الصيام، وهو ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، أي معيار معرفة الحق والباطل، ثم تؤكد ثانية حكم المسافر والمريض وتقول: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
6. تكرار حكم المسافر والمريض في هذه الآية والآية السابقة، قد يكون سبب كراهية بعض المسلمين أن لا يصوموا أيام شهر رمضان حتى ولو كانوا مرضى أو مسافرين، والقرآن بهذا التكرار يفهم المسلمين أن الصوم في حالة السلام والحضر حكم إلهي، والإفطار في حال السفر والمرض حكم إلهي أيضا لا تجوز مخالفته.
7. في آخر الآية إشارة أخرى إلى فلسفة تشريع الصوم، تقول: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، فالصوم ـ وإن كان على الظاهر نوعا من التضييق والتحديد ـ مؤدّاه راحة الإنسان ونفعه على الصعيدين المادي والمعنوي، ولعل هذه العبارة إشارة إلى أن الأوامر الإلهية ليست كأوامر الحاكم الظالم، ففي الصوم رخص حيثما كان فيه مشقة على الصائم، لذلك رفع تكليف الصوم ـ على أهميته ـ عن المريض والمسافر والضعيف.
8. ثم تقول الآية: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ أي يلزم على كل إنسان سليم أن يصوم شهرا، فذلك ضروري لتربية جسمه ونفسه، لذلك وجب على المريض والمسافر أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ليكمل العدّة، وحتى الحائض ـ التي أعفيت من قضاء الصلاة ـ غير معفوّة عن قضاء الصوم.
9. العبارة الأخيرة من الآية تقول: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لتكبروه على ما وفّر لكم من سبل الهداية، ولتشكروه على ما أنعم عليكم.
10. الشكر في الآية مسبوق بكلمة (لعلّ)، لكن التكبير مؤكد بشكل قاطع غير مسبوق بترجّ، وقد يعود الاختلاف في التعبير إلى أن عبادة (الصوم) هي على كل حال تكبير لله وتعظيم له سبحانه، أما الشكر ـ وهو إنفاق النعم في مواضعها والاستفادة من الآثار العملية للصوم ـ فله شروط أهمها الإخلاص التام، وفهم حقيقة الصوم، والاطلاع على أبعاده وأعماقه.
11. للصوم أبعاد متعددة وآثار غزيرة مادية ومعنوية في وجود الإنسان، وأهمها البعد الأخلاقي، التّربوي:
أ. من فوائد الصوم الهامة (تلطيف) روح الإنسان، و(تقوية) إرادته، و(تعديل) غرائزه.
ب. على الصائم أن يكف عن الطعام والشراب على الرغم من جوعه وعطشه، وهكذا عليه أن يكف عن ممارسة العمل الجنسي، ليثبت عمليا أنه ليس بالحيوان الأسير بين المعلف والمضجع، وأنه يستطيع أن يسيطر على نفسه الجامحة وعلى أهوائه وشهواته.
ج. الأثر الروحي والمعنوي للصوم يشكل أعظم جانب من فلسفة هذه العبادة، فمثل الإنسان الذي يعيش إلى جوار أنواع الأطعمة والأشربة، لا يكاد يحس بجوع أو عطش حتى يمدّ يده إلى ما لذّ وطاب كمثل شجرة تعيش إلى جوار نهر وفير المياه، ما إن ينقطع عنها الماء يوما حتى تذبل وتصفرّ، أما الأشجار التي تنبت بين الصخور وفي الصحاري المقفرة، وتتعرض منذ أوائل إنباتها إلى الرياح العاتية، وحرارة الشمس المحرقة حينا، وبرودة الجوّ القارصة حينا آخر، وتواجه دائما أنواع التحديات، فإنها أشجار قوية صلبة مقاومة، والصوم له مثل هذا الأثر في نفس الإنسان، فبهذه القيود المؤقتة يمنحه القدرة وقوة الإرادة وعزيمة الكفاح، كما يبعث في نفسه النور والصفاء بعد أن يسيطر على غرائزه الجامحة، بعبارة موجزة: الصوم يرفع الإنسان من عالم البهيمية إلى عالم الملائكة.
12. عبارة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ تشير إلى هذه الحقائق، وهكذا الحديث المعروف: (الصّوم جنّة من النّار) يشير إلى هذه الحقائق، وعن علي عليه السّلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل عن طريق مجابهة الشيطان، قال (الصّوم يسوّد وجهه، والصّدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والمواظبة على العمل الصّالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه)، وفي نهج البلاغة عرض لفلسفة العبادات، وفيه يقول أمير المؤمنين علي عليه السّلام: (والصّيام ابتلاء لإخلاص الخلق)، وروي عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (إنّ للجنّة بابا يدّعى الرّيّان، لا يدخل فيها إلّا الصّائمون)، يقول المرحوم الصدوق في (معاني الأخبار) معلقا على هذا الحديث: إنما سمي هذا الباب بالريّان لأن مشقة الصائم إنما تكون في الأغلب من العطش، وعند ما يدخل الصائمون من هذا الباب يرتوون حتى لا يظمؤوا بعده أبدا.
13. الأثر الاجتماعي للصوم لا يخفى على أحد، فالصوم درس المساواة بين أفراد المجتمع، الموسرون يحسّون بما يعانيه الفقراء المعسرون، وعن طريق الاقتصاد في استهلاك المواد الغذائية يستطيعون أن يهبوا لمساعدتهم، قد يمكن تحسيس الأغنياء بما يعانيه الفقراء عن طريق الكلام والخطابة، لكن المسألة حين تتخذ طابعا حسّيّا عينيّا لها التأثير الأقوى والأبلغ، الصوم يمنح هذه المسألة الهامة الاجتماعية لونا حسيا، لذلك
14. يقول الإمام الصادق عليه السّلام في جواب عن سؤال بشأن علّة الصوم: (إنّما فرض الله الصّيام ليستوي به الغنيّ والفقير، وذلك إنّ الغنيّ لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، وإنّ الغنيّ كلّما أراد شيئا قدر عليه فأراد الله تعالى أن يسوّي بين خلقه، وأن يذيق الغنيّ مسّ الجوع والألم، ليرقّ على الضّعيف ويرحم الجائع)، ترى، لو أن الدول الغنية في العالم صامت عدّة أيّام في السنة وذاقت مرارة الجوع، فهل يبقى في العالم كل هذه الشعوب الجائعة!؟
15. أهمية (الإمساك) في علاج أنواع الأمراض ثابتة في الطب القديم والحديث، البحوث الطبية لا تخلو عادة من الحديث عن هذه المسألة، لأن العامل في كثير من الأمراض الإسراف في تناول الأطعمة المختلفة، المواد الغذائية الزائدة تتراكم في الجسم على شكل مواد دهنية، وتدخل هي والمواد السكرية في الدم، وهذه المواد الزائدة وسط صالح لتكاثر أنواع الميكروبات والأمراض، وفي هذه الحالة يكون الإمساك أفضل طريق لمكافحة هذه الأمراض، وللقضاء على هذه المزابل المتراكمة في الجسم، والصوم يحرق الفضلات والقمامات المتراكمة في الجسم، وهو في الواقع عملية تطهير شاملة للبدن، إضافة إلى أنه استراحة مناسبة لجهاز الهضم وتنظيف له، وهذه الاستراحة ضرورية لهذا الجهاز الحساس للغاية، والمنهمك في العمل طوال أيام السنة.
16. بديهي أن الصائم ينبغي أن لا يكثر من الطعام عند (الإفطار) و(السّحور) حسب تعاليم الإسلام، كي تتحقق الآثار الصحية لهذه العبادة، وإلّا فقد تكون النتيجة معكوسة.
17. العالم الروسي (الكسي سوفورين) يقول في كتابه: (الصوم سبيل ناجح في علاج أمراض فقر الدم، وضعف الأمعاء، والالتهابات البسيطة والمزمنة، والدمامل الداخلية والخارجية، والسل، والاسكليروز، والروماتيزم، والنقرس والاستسقاء، وعرق النساء، والخراز (تناثر الجلد)، وأمراض العين، ومرض السكر، وأمراض الكلية، والكبد والأمراض الأخرى.
18. العلاج عن طريق الإمساك لا يقتصر على الأمراض المذكورة، بل يشمل الأمراض المرتبطة بأصول جسم الإنسان وخلاياه مثل السرطان والسفليس، والسل والطاعون أيضا)
19. عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (صوموا تصحّوا)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضا: (المعدة بيت كلّ داء والحميّة رأس كلّ دواء)
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/518.
78. السؤال والقرب والإجابة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈78⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنه بلغه: لما أنزلت: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم﴾ [غافر: ٦٠] قالوا: لو نعلم أي ساعة ندعو؟ فنزلت: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿يَرْشُدُونَ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ٣/٢٢٣ ـ: ٢٢٤.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) أنّه قال: قال يهود أهل المدينة: يا محمد، كيف يسمع ربنا دعاءنا [وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام؟]، وأن غلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية(1)..
__________
(1) تفسير الثعلبي: ٢/٧٤.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، يعني: يهتدون(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣١٥.
المسيب:
روي عن عبد الله بن شبيب قال: صليت إلى جنب سعيد بن المسيب (ت 93 هـ) المغرب، فرفعت صوتي بالدعاء، فانتهرني، وقال: ظننت أن الله ليس بقريب منك!؟(1)..
__________
(1) ابن أبي شيبة: ١٠/٣٧٧.
أنس:
روي عن أنس بن مالك (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ ليدعوني، ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ أنهم إذا دعوني استجبت لهم(1)..
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٣١٥.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ فليطيعوا لي، الاستجابة: الطاعة(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٢٢٦.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ذكر لنا: أنه لما أنزل الله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم﴾ قال رجال: كيف ندعو، يا نبي الله؟ فأنزل الله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ الآية(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٢٢٥.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: (﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ معناه فليجيبوني،(1)..
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 95.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ ليس من عبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه إياه، وإن لم يكن له رزقا في الدنيا ذخره له إلى يوم القيامة، أو دفع عنه به مكروها(1)..
__________
(1) ابن جرير: ٣/٢٢٤.
ابن عبيد:
روي عن عبد الله بن عبيد (ت 131 هـ) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم﴾ قالوا: كيف لنا به أن نلقاه حتى ندعوه؟ فأنزل الله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ الآية، قالوا: صدق ربنا، وهو بكل مكان(1)..
__________
(1) الدرّ المنثور: عبد بن حميد: وابن المنذر.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قيل له: أشغل نفسي بالدعاء لإخواني ولأهل الولاية، فما ترى في ذلك؟ قال: (إن الله تبارك وتعالى يستجيب دعاء غائب لغائب، ومن دعا للمؤمنين والمؤمنات ولأهل مودتنا، رد الله عليه من آدم إلى أن تقوم الساعة، لكل مؤمن حسنة)، ثم قال: (إن الله فرض الصلوات في أفضل الساعات، فعليكم بالدعاء في أدبار الصلوات)(1).
2. روي عن عثمان بن عيسى، عمن حدثه عن الإمام الصادق، قال قلت له: آيتان في كتاب الله عز وجل أطلبهما فلا أجدهما، قال: (وما هما؟) قلت: قول الله عز وجل: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم﴾ فندعوه ولا نرى إجابة! قال (أفترى الله عز وجل أخلف وعده؟) قلت: لا، قال (فمم ذلك؟) فقلت: لا أدري، قال (لكني أخبرك: من أطاع الله عز وجل فيما أمره ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه)، قلت: وما جهة الدعاء؟ قال (تبدأ فتحمد الله، وتذكر نعمه عندك، ثم تشكره، ثم تصلي على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم تذكر ذنوبك فتقر بها، ثم تستعيذ منها، فهذا جهة الدعاء)، ثم قال (وما الآية الاخرى؟)، قلت: قول الله عز وجل: ﴿وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ فإني أنفق ولا أرى خلفا! قال (افترى الله عز وجل أخلف وعده؟ قلت: لا، قال (مم ذلك؟) قلت: لا أدري، قال (لو أن أحدكم اكتسب المال من حله، وأنفقه في ذلك، لم ينفق درهما إلا اخلف عليه)(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ يعلمون أني أقدر على أن أعطيهم ما يسألون(3)..
__________
(1) تفسير القمّي: 1/67.
(2) الكافي: 2/352.
(3) تفسير العيّاشي: 1/83.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، أي: فأعلمهم أني قريب منهم في الاستجابة(1)..
2. روي أنّه قال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ بالطاعة، ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ يعني: وليصدقوا بي؛ فإني قريب، سريع الإجابة، أجيبهم(1)..
__________
(1) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/١٦٢.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: قال المسلمون: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾: ليطيعوني، والاستجابة هي الطاعة، ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ ليعلموا أني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان(1)..
__________
(1) الدرّ المنثور: ابن المنذر.
الكاظم:
روي عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: قلت للإمام الكاظم (ت 183 هـ): جعلت فداك، إني قد سألت الله حاجة منذ كذا وكذا سنة، وقد دخل قلبي من إبطائها شيء، فقال: (يا أحمد، إياك والشيطان أن يكون له عليك سبيل حتى يقنطك، إن أبا جعفر كان يقول: إن المؤمن يسأل الله عز وجل حاجة، فيؤخر عنه تعجيل إجابتها، حبا لصوته واستماع نحيبه)، ثم قال: (والله، ما أخر الله عز وجل عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدنيا، خير لهم مما عجل لهم فيها، وأي شيء الدنيا! إن الإمام الباقر كان يقول: ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه، في الرخاء نحوا من دعائه في الشدة، ليس إذا أعطي فتر، فلا تمل الدعاء، فإنه من الله عز وجل بمكان، وعليك بالصبر، وطلب الحلال، وصلة الرحم، وإياك ومكاشفة الناس، فإنا أهل بيت نصل من قطعنا، ونحسن إلى من أساء إلينا، فنرى ـ والله ـ في ذلك العاقبة الحسنة، إن صاحب النعمة في الدنيا إذا سأل فاعطي طلب غير الذي سأل، وصغرت النعمة في عينه، فلا يشبع من شيء، وإن كثرت النعم كان المسلم من ذلك على خطر للحقوق التي تجب عليه، وما يخاف من الفتنة فيها، أخبرني عنك لو أني قلت لك قولا أ كنت تثق به مني؟)، فقلت: جعلت فداك، إذا لم أثق بقولك فبمن أثق وأنت حجة الله على خلقه؟ قال (فكن بالله أوثق، فإنك على موعد من الله عز وجل، أليس الله عز وجل يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ وقال: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ وقال: ﴿وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا﴾ فكن بالله عز وجل أوثق منك بغيره، ولا تجعلوا في أنفسكم إلا خيرا، فإنه يغفر لكم)(1).
__________
(1) الكافي: 2/354.
المرتضى:
سئل الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) عن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، وقيل له: كيف يعرف العبد إجابة الدعوة إذا دعاه، وطلب منه فلم يرى قضاء حاجته؟، فقال: (إن الله عز وجل كما ذكر من قضاء حوائج خلقه وإجابة دعائهم إذا دعوه، وطلابهم عند مسألتهم، وأوان فاقتهم؛ ألا تسمع كيف يقول: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾؟ ثم أخبرهم ـ عز وجل ـ من الذين إذا دعوه أجابهم، فقال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، فأخبرهم تبارك وتعالى: أنهم إذا استجابوا له وآمنوا به أجاب دعاهم وسمع طلبتهم، فإذا لم يكونا كذلك فليس هم ممن يجاب له دعوة، ولا تقضى له حاجة، وكلما نالهم من نعمة هو: إملاء.. والاستجابة لله سبحانه فهي: طاعته، والعمل بما أمر به، والانقياد إلى ما افترضه، والتصديق بأمره ونهيه، والمعرفة بتوحيده وعدله؛ بذلك يصح للعبد الإيمان به، ويتوجب الإجابة لدعوته، فإذا كان العبد كذلك عرف إجابة الدعوة فيما سأل.. وقد يسأل العبد الله أمرا ويطلبه منه، ويكون الخيرة له في غيره؛ فيكون بتجنيبه إياه نعمة عليه، وإحسانا إليه، فإذا تعقب العبد الأمر فيما دعا الله فيه، وأنصف نفسه بتبيين الله له الخيرة والرشد، حتى تتضح له الخيرة في الإجابة فيما طلب؛ لأن الله سبحانه يقول: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾؛ فإنما يطلب العبد من الله عز وجل الطلبة التي يرجو فيها لنفسه صلاحا أو فرجا، ويعلم الله عز وجل أن له في ذلك الشر والغم، ولا يعرفه هو؛ فيكون قد استجيب له في صلاح نفسه، وما تقر به عينه، وصرف عنه ما لو أعطيه لكان له في الحزن والغم، والأذى والهم.. ومن الصالحين من يسأل في السبب الذي يعلم الله عز وجل أن له فيه صلاحا، فيجاب فيه كبيرا؛ رأينا ذلك غير قليل، وقلت: قد وعد الله سبحانه الداعي، فقال: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، فأخبرهم أنه يجيبهم إذا استجابوا له، وآمنوا به، ولقد أولاهم سبحانه، وأعطاهم أفضل حوائجهم، وأكثر مرادهم، وما يقل فيه ومعه جميع مطالبهم، من صحة الجوارح، وعافية الأبدان؛ فهذه أكبر النعم عليهم، وأجزل العطايا لهم، ولو أن عبدا دعا الله سبحانه أن يرزقه واديا من تبر، فرزقه إياه، ثم ابتلاه بضربان عينه، أو عرق من عروقه ـ لسأل الله أن يعافيه من ذلك، ويفتدي الألم بذلك الوادي ومثله أضعافا لو كان له؛ فأي نعمة أو إجابة أعظم أمرا من العافية والصحة؟ وأي عطاء أجزل من عطاء لا يتمنى به غيره؟ فأما ما كان يطلب به غيره فهو سهل عند صاحبه، قريب عند مالكه، وكثير من الخلق يسأل الله السبب، ويستخيره فيه، فإذا دفعه عنه بخيرة له في دفعه ـ اغتم لذلك وغضب؛ لقلة معرفته، وقد ترون في بعض مسائل موسى التي سأل ربه عز وجل أنّه قال يا رب أي عبادك أشر عندك؟ قال (يا موسى الذي يتهمني) قال يا رب، ومن يتهمك؟ قال (الذي يستخيرني، فإذا خرت له غضب)، فكثير ـ رحمك الله ـ من رأيناه: يدعو إلى الله سبحانه بالسلامة في دنيه ودنياه، والخلق كلهم على ذلك يسألون الله السلامة والعافية، ثم يسألونه من بعد ذلك الحوائج، فتكون فيما يسألون مما لا يعرفون أشياء هي لهم عند نفوسهم موافقة، وقد علم الله عز وجل فيها لهم البلاء والغم والأحزان لو وقعوا فيها، فيدفعها عنهم؛ لمسألتهم الأولى السلامة والعافية، ولإجابته إياهم في ذلك، فيعدون ذلك نقمة، وإنما هي نعمة وخيرة، ولو كشف لهم عن قبيح ما ينزل بهم فيما سألوا ـ لأكثروا الدعاء إلى الله سبحانه في الصرف عنهم.. وليس ينبغي لأحد أن يتهم الله عز وجل في الدعوة، وأن ينتظر عند دعائه ومسألته، إذ لم ير ما دعا فيه، فيرجع إلى نفسه، فإن كان لله مطيعا، فليوقن بأنها خيرة أو سلامة لدينه ودنياه، علم الله منها ما لم يعلم، فصرفها عنه؛ لضرها له، وإن كان عاصيا، فليعلم أنه ليس له عند الله منزلة، فيستجاب له دعوة؛ لأن قول الله سبحانه الحق، وما وعد فهو الصدق، عز وتعالى علوا كبيرا)(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/85.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ هو على الإضمار كأنه قال وإذا سألك عبادي (أين أنا عن إجابتهم)، فقل لهم: إني قريب الإحسان، والبر، والكرامة لمن أطاعنى.. ويحتمل: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ قرب العلم والإجابة، لا قرب المكان والذات كقرب بعضهم من بعض في المكان؛ لأنه كان ولا مكان، ويكون على ما كان، وكذلك قوله: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7]، وكقوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: 85]، كل ذلك يرجع إلى قرب العلم والإحاطة وارتفاع الجهات، لا قرب الذات على ما ذكرنا.
2. إن كانت القصة على ما قاله بعض أهل التفسير: بأن اليهود قالوا: كيف يسمع ربك دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام، وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام!؟ فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ هذا لما لم يعرفوا الصانع؛ ألا تراهم جعلوا له الولد، وجعلوا له شركاء، فخرج سؤالهم، إن كان، مخرج سؤال المتعنت، لا سؤال المسترشد.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾:
أ. قيل: أي أقبل توحيد الموحد، وكذلك قال ابن عباس في قوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 6]، أي وحدونة أغفر لكم.
ب. وقيل: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ على حقيقة الإجابة.
4. قوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ يحتمل وجوها:
أ. يحتمل: أي إلى ما دعوتهم.
ب. يحتمل: على ما ذكرنا في قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ﴾ لكم، إذا استجبتم لي بالطاعة والائتمار.
ج. ويحتمل: ﴿أُجِيبُ﴾ لكم، إذا أخلصتم الدعاء لي.
د. ويحتمل: على ابتداء الأمر بالتوحيد، كأنه قال وحدوني، ألا ترى أنّه قال ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ إذا فعلوا ذلك.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 2/49.
الديلمي:
قال الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ): ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ المعنى قريب بالعلم لأنه تعالى لا يوصف بمكان ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى](1)..
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/97.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ اختلف أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية، على أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنها نزلت في سائل سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا محمد أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزلت هذه الآية، وهو قول الحسن البصري.
ب. الثاني: أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أي ساعة يدعون الله فيها، وهذا قول عطاء والسدي.
ج. الثالث: أنها نزلت جوابا لقوم قالوا: كيف ندعو؟، وهذا قول قتادة.
د. الرابع: أنها نزلت في قوم حين نزل قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ قالوا: إلى أين ندعوه؟، وهذا قول مجاهد.
2. في قوله تعالى: ﴿قَرِيبٍ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: قريب الإجابة.
ب. الثاني: قريب من سماع الدعاء.
في قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: معناه أسمع دعوة الداعي إذا دعاني، فعبر عن السماع بالإجابة، لأن السماع مقدمة الإجابة.
ب. الثاني: أنه أراد إجابة الداعي إلى ما سأل.
3. لا يخلو سؤال الداعي أن يكون موافقا للمصلحة أو مخالفا لها:
أ. فإن كان مخالفا للمصلحة لم تجز الإجابة إليه.
ب. وإن كان موافقا للمصلحة، فلا يخلو حال الداعي من أحد أمرين، إما أن يكون مستكملا شروط الطلب أو مقصرا فيها:
• فإن استكملها جازت إجابته، وفي وجوبها قولان:
● أحدهما: أنها واجبة لأنها تجري مجرى ثواب الأعمال، لأن الدعاء عبادة ثوابها الإجابة.
● الثاني: أنها غير واجبة لأنها رغبة وطلب، فصارت الإجابة إليها تفضلا.
• وإن كان مقصرا في شروط الطلب لم تجب إجابته، وفي جوازها قولان:
● أحدهما: لا تجوز، وهو قول من أوجبها مع استكمال شروطها.
● الثاني: تجوز، وهو قول من لم يوجبها مع استكمال شروطها.
4. في قوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ أربعة تأويلات:
أ. أحدها: أن الاستجابة بمعنى الإجابة، يقال استجبت له بمعنى أجبته، وهذا قول أبي عبيدة، وأنشد قول كعب بن سعد الغنوي:
çوداع دعا: يا من يجيب إلى الندا...فلم يستجبه عند ذلك مجيبé
أي فلم يجبه.
ب. الثاني: أن الاستجابة طلب الموافقة للإجابة، وهذا قول ثعلب.
ج. الثالث: أن معناه فليستجيبوا إليّ بالطاعة.
د. الرابع: فليستجيبوا لي، يعني فليدعوني.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/243.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. روي عن الحسن: أنّ سائلا سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أقريب ربّنا فتناجيه أم بعيد فتناديه، فنزلت الآية، قال قتادة: نزلت جواباً لقوم سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كيف تدعو.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ﴾:
أ. قيل: معناه: إن اقتضت المصلحة إجابته، وحسن ذلك، ولم تكن فيه مفسدة أو دنيوي، هذا في دعائه، وهو المعتمد.
ب. وفي الناس من قال إن الله وعد بإجابة الدعاء عند مسألة المؤمنين دون الكفار، والفاسقين.
3. سؤال وإشكال: إذا كان ما تقتضيه الحكمة لا بد أن يفعل به، فلا معنى للدعاء! والجواب: عنه جوابان:
أ. أحدهما: أن ذلك عبادة كسائر العبادات، ومثله قوله تعالى: ﴿رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾
ب. الثاني: انه لا يمتنع أن تقتضي المصلحة إجابته إذا دعا، ومتى لم يدع لم تقتض الحكمة إجابته.
4. سؤال وإشكال: هل يجوز أن تكون الاجابة غير ثواب؟ والجواب: فيه خلاف، قال أبو علي: لا يكون إلا ثواباً، لأن من أجابه الله، يستحق المدح في دين المسلمين، فلا يجوز أن يجيب كافراً، ولا فاسقاً، وكان أبو بكر بن الأخشاد يخبر ذلك في العقل على وجه الاستصلاح له، وهذا الوجه أقرب الى الصواب.
5. الدعاء: طلب الطالب للفعل من غيره، ويكون الدعاء لله على وجهين:
أ. أحدهما: طلب في مخرج اللفظ، والمعنى على التعظيم والمدح، والتوحيد: كقولك: يا الله لا إله إلا أنت، وقولك: ربّنا لك الحمد.
ب. الثاني: الطلب لأجل الغفران أو عاجل الانعام كقولك: اللهم اغفر لي وارحمني، وارزقني، وما أشبه ذلك.
6. في قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ قولان:
أ. أحدهما: إني قريب الاجابة: سريع الاجابة، فجاز ذلك لمشاكلة معنى قريب لسريع.
ب. الثاني: قريبـ، لأنه يسمع دعاءهم كما يسمعه القريب المسافة منهم، فجاز لفظة قريب، فحسن البيان بها، فأما قريب المسافة، فلا يجوز عليه تعالى، لأنه من صفات المحدثات.
7. ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ فالإجابة من الجواب، وهو القطع، يقال: جاب البلاد يجوب جوباً إذا قطع، ومنه قوله تعالى: ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ أي قطعوه، وأجاب الله دعاءه إجابة، وأجاب فلان عن السؤال جواباً، وأجاب الظلام إذا قطعه، واستجاب له استجابة، وجاوبه مجاوبة، وتجاوب تجاوباً، وانجاب السحاب: إذا انقشع، وأصل الباب القطع، فإجابة السائل: القطع بما سأل، لأن سؤاله على الوقف أيكون أم لا يكون، وقال أبو عبيدة: استجاب، وأجاب بمعنى واحد، وأنشد لكعب بن سعد الغنوي:
çوداع دعا يا من يجيب الى الندى...فلم يستجبه عند ذاك مجيبé
أي لم يجبه، وقال المبرد: هذا لا يجوز، لأن في الاستجابة معنى الإذعان، وليس ذلك في الإجابة.
8. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ هذه لام الأمر، لا بد منها للغائب، وأما للحاضر، فيجوز فيه إثباتها وإسقاطها، كقولك قم ولتقم، والأصل فيها أن تكون مكسورة، ويجوز فيها السكون إذا اتصلت بحرف واحد كالفاء فأما ثم، فالوجه معها الكسر، لأنها منفصلة وإنما جاز فيها السكون دون لام كي لأنه لما كان عملها التسكين جاز فيها، لإيذانه بعملها.
9. ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ في لعلّ جوابان:
أ. أحدهما: ليرشدوا، فتكون دالة على العوض في الاجابة، من الله تعالى للعبد.
ب. الثاني: على الرجاء والطمع، لأن يرشدوا، ويكون متعلقاً بفعل العباد.
10. الرشد: نقيض الغيّ، يقال: رشد يرشد رشداً، ورشد يرشد رشاداً، وأرشده إرشاداً واسترشد استرشاداً، وهو لرشدة خلاف لزنية، وأصل الباب إصابة الخير، فمنه الإرشاد: الدلالة على وجه الاصابة للخبر.
11. روى عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ أي وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوا.
__________
(1) تفسير الطوسي: 2/129.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أجاب واستجاب بمعنى، وأصله من الجَوْب، وهو القطع، ومنه: ﴿جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾، فكأن السائل متوقف فإذا أجيب قطَع بما أجيب.
ب. الرشد نقيض الغي، والرشد إصابة الخير، ومنه: ﴿رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي أن سائلاً سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أقريب وبنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزلت الآية، عن الضحاك.
ب. وقيل: سأل بعضهم: أين ربنا؟ فنزلت الآية، عن الحسن.
ج. وقيل: نزلت جوابًا لقوم سألوا: كيف ندعوه؟، عن قتادة.
د. وقيل: إن اليهود قالوا: يا محمد، كيف يسمع ربك دعاءنا؟ فنزلت الآية، عن ابن عباس.
3. ثم عقب الله تعالى ذكر الصوم بما يلزم من الدعاء، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ يحتمل عن المكان، ويحتمل كيف ندعوه، ويحتمل عن كيف التوصل إلى رحمته على حسب ما روي في سبب النزول، وعلى حسب اختلافهم في السؤال اختلفوا في الجواب:
أ. فمنهم من قال: الجواب في قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾
ب. ومنهم من قال: الجواب في قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ﴾
4. الأقرب أن يكون السؤال عن صفته لا عن فعله لقوله تعالى: ﴿عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ فيه إضمار:
أ. قيل: أي فقل: إني قريب يدل بذلك أنه لا مكان له؛ إذ لو كان له مكان لم يكن قريبًا من كل من يناجيه.
ب. وقيل: قريب الإجابة، أي سريعها.
ج. وقيل: قريب السماع يسمع دعاءهم كسماع القريب.
د. وقيل: قريب بالعلم والقدرة.
5. ﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ﴾ يعني: أجيب دعاء من دعاني، وهذا وإن كان دعوة الداعي ظاهره على القطع، وللدعاء شروط حتى يجاب:
أ. فمنهما: معرفة الداعي بربه ليصح أن يوجه الدعاء إليه.
ب. ومنها: أن يعرف حسن ما يدعو، وما لا يحسن.
ج. وثالثها: أن يعرف الوجه الذي يحسن عليه الطلب، والدعاء إليه، فإذا دعا بشرائط الدعاء، وعلم تعالى أن إجابته مصلحة أجاب، وإن كانت المصلحة في التأخير أخر الإجابة، ولا يجوز أن تقف مصالح العباد على اختيارهم وسؤالهم.
6. سؤال وإشكال: إن كان لا يجوز أن تقف مصالح العباد على اختيارهم وسؤالهم فما معنى الدعاء؟ والجواب: أنه يكون تعبدًا، ولأنه يجوز أن تكون المصلحة في فعله عند مسألتهم، ولولا سؤالهم لم يكن فعله مصلحة.
7. ثم بَيَّنَ تعالى كيف ينبغي أن تكون صفة الداعي حتى يستجاب له، فقال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا﴾ يعني فلينقادوا لي فيما أمرتهم به ونهيتهم عنه؛ لأن استجبته واستجبت له بمعنى أجبته: ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ أي ليصدقوا بجميع ما أنزلته: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ أي لكي يرشدوا، وليس هو على الشك، وقيل: افعلوا ذلك متعرضين للرشد.
8. تدل الآيات الكريمة على:
أ. نفي المكان؛ إذ لو كان في جهة لم يكن قريبًا من كل داع فيبطل قول المشبهة.
ب. أن الدعاء إذا وقع بشرائطه فإنه يجيبه.
ج. أنه يجيب دعاء المؤمنين دون الفاسقين؛ لأنه كالمدح لهم، ولأن قولهم: فلان مستجاب الدعوة كالمدح له، عن أبي علي، وجوز أبو بكر الإخشيد إجابة دعاء الكافر لطفًا له.
د. وجوب الانقطاع إليه في منافع الدين والدنيا؛ لأنه لم يفصل.
هـ. وجوب التصديق والثقة بوعده، فلذلك قال: ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ عقيب إجابة الدعاء.
و. أنه تعالى لا يُعرف ضرورةً؛ إذ لو كانوا مضطرين لم يكن للسؤال معنى.
ز. أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كما يُبَيِّنُ الشرائع يُبَيِّنُ التوحيد، وكما أنه يُسأل عن أحدهما يسأل عن الآخر.
ح. أنه أراد من جميع المكلفين الرُّشْدَ بقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في الإرادة.
ط. أن الدعاء عبادة إذا وقع بشرائطه، وقد روي عن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له: ما بالنا ندعو الله فلا يجاب لنا؟ فقال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله فلم تشكروه، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه، ولم تخالفوه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات ولم تعتبروا بهم، وتركتم عيوبكم، واشتغلتم بعيوب الناس.
9. قرئ ﴿الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ بإثبات الياء فيهما في الوصل أبو عمرو وقالون عن نافع، وقرأ الباقون بحذفها، فالأول على الأصل، والثاني للتخفيف، ودلالة الكسرة عليه.
10. اللام في قوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا﴾ لام الأمر، ولا بد منها في الغائب، فأما في الحاضر فيجوز حذفها وإثباتها نحو: ﴿ قم، ولتقم﴾، وأصلها الكسر، ويجوز فيها السكون إذا اتصلت بحرف واحد.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/770.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أجاب واستجاب بمعنى، قال الشاعر: وداع دعا: يامن يجيب لي الندا!...فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي: لم يجبه، وقال المبرد: بينهما فرق، وهو أن في الاستجابة معنى الاذعان، وليس ذلك في الإجابة، وأصله من الجوب: وهو القطع، يقال: جاب البلاد يجوبها جوبا: إذا قطعها، واجتاب الظلام بمعناه، والجابة والإجابة بمعنى،والصحيح أن الجابة والطاعة والطاقة، ونحوها أسماء بمعنى المصادر، وأجاب عن السؤال جوابا، وانجاب السحاب: إذا انقشع، وأصل الباب: القطع، فإجابة السائل: القطع بما سأل، لأن سؤاله على الوقف أيكون أم لا يكون.
ب. الرشد: نقيض الغي، رشد يرشد رشدا، ورشد يرشد رشدا، ورجل رشيد، وولد فلان لرشدة: خلاف لزنية، وأصل الباب: إصابة الخير، ومنه الإرشاد: وهو الدلالة على وجه الإصابة للخير.
2. اختلف في سبب نزول الآية الكريمة:
أ. روي عن الحسن أن سائلا سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت الآية.
ب. وقال قتادة: نزلت جوابا لقوم سألوا النبي كيف ندعو.
3. لما ذكر سبحانه الصوم، عقبه بذكر الدعاء ومكانه منه، وإجابته إياه، فقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾:
أ. الأقرب أن يكون السؤال عن صفته سبحانه، لا عن فعله، لقوله سبحانه: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ وفيه حذف أي: فقل إني قريب، فدل بهذا على أنه سبحانه لامكان له، إذ لو كان له مكان، لم يكن قريبا من كل من يناجيه.
ب. وقيل: معناه إني سريع الإجابة إلى دعاء الداعي، لأن السريع والقريب متقاربان.
ج. وقيل: معناه إني أسمع دعاء الداعي كما يسمعه القريب المسافة منهم، فجاءت لفظة ﴿قَرِيبٍ﴾ بحسن البيان بها.
5. قرب المسافة لا يجوز عليه سبحانه، لأن ذلك إنما يتصور فيمن كان متمكنا في مكان، وذلك من صفات المحدثات.
6. ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ مفهوم المعنى.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ :
أ. قال أبو عبيدة: معناه فليجيبوني فيما دعوتهم إليه.
ب. وقال المبرد والسراج: معناه فليذعنوا للحق بطلب موافقة ما أمرتهم به، ونهيتهم عنه.
ج. وقال مجاهد: معناه فليستجيبوا لي بالطاعة.
د. وقيل: معناه فليدعوني، وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ( أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام )
﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ أي: وليصدقوا بجميع ما أنزلته، وروي عن أبي عبد الله أنه قال: وليؤمنوا بي أي: وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه، ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ أي: لعلهم يصيبون الحق، ويهتدون إليه.
8. سؤال وإشكال: نحن نرى كثيرا من الناس يدعون الله فلا يجيبهم، فما معنى قوله ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، والجواب: إنه ليس أحد يدعو الله على ما توجبه الحكمة، إلا أجابه الله، فإن الداعي إذا دعاه يجب أن يسأل ما فيه صلاح له في دينه، ولا يكون فيه مفسدة له، ولا لغيره، ويشترط ذلك بلسانه، أو ينويه بقلبه، فالله سبحانه يجيبه إذا اقتضت المصلحة إجابته، أو يؤخر الإجابة إن كانت المصلحة في التأخير.
9. سؤال وإشكال: إن ما تقتضيه الحكمة لا بد أن يفعله فما معنى الدعاء وإجابته؟ والجواب:
أ. إن الدعاء عبادة في نفسها يعبد الله سبحانه بها، لما في ذلك من إظهار الخضوع والانقياد إليه سبحانه.
ب. وأيضا فإنه لا يمتنع أن يكون وقوع ما سأله إنما صار مصلحة بعد الدعاء، ولا يكون مصلحة قبل الدعاء، ففي الدعاء هذه الفائدة.
10. يؤيد ذلك ما روي:
أ. عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ( ما من مسلم دعا الله سبحانه بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم، إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل دعوته، وإما أن يؤخر له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله، قالوا: يا رسول الله إذا نكثر؟ قال: الله أكثر )، وفي رواية أنس بن مالك: ( الله أكثر وأطيب ) ثلاث مرات.
ب. وروي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: ( إن العبد ليدعو الله وهو يحبه، فيقول: يا جبرائيل! لا تقض لعبدي هذا حاجته وأخرها، فإني أحب أن لا أزال أسمع صوته، وإن العبد ليدعو الله وهو يبغضه، فيقول: يا جبرائيل! إقض لعبدي هذا حاجته باخلاصه وعجلها، فإني أكره أن أسمع صوته )
ج. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ربما أخرت عن العبد إجابة الدعاء، ليكون أعظم لأجر السائل، وأجزل لإعطاء الآمل.
د. وقيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو الله سبحانه، فلا يستجيب لنا؟ فقال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه، وأكلتم نعمة الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه، ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس!!
11. مسائل نحوية:
أ. ﴿إِذَا﴾ ظرف زمان للفعل الذي يدل عليه قوله: ﴿فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني﴾ تقديره: فأخبره يا محمد أني بهذه الصفة، ولا يجوز أن يعمل فيه قريب أو أجيب، لأن معمول إن لا يجوز أن يعمل فيما قبل إن لما بين في موضعه.
ب. قوله ﴿أُجِيبُ﴾ في موضع رفع بأنه خبر إن أيضا، فهو خبر بعد خبر.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 2/500.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ خمسة أقوال:
أ. أحدها: أنّ أعرابيا جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: أقريب ربّنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية، رواه الصّلت بن حكيم عن أبيه عن جدّه.
ب. الثاني: أنّ يهود المدينة قالوا: يا محمّد! كيف يسمع ربّنا دعاءنا، وأنت تزعم أنّ بيننا وبين السّماء مسيرة خمسمائة عام!؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ج. الثالث: أنّهم قالوا: يا رسول الله! لو نعلم أيّة ساعة أحبّ إلى الله أن ندعو فيها دعونا، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء.
د. الرابع: أنّ أصحاب النبيّ قالوا له: أين الله؟ فنزلت هذه الآية، قاله الحسن.
هـ. الخامس: أنه لمّا حرّم في الصّوم الأول على المسلمين بعد النّوم الأكل والجماع؛ أكل رجل منهم بعد أن نام، ووطئ رجل بعد أن نام، فسألوا: كيف التّوبة ممّا عملوا؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل، ومعنى الكلام: إذا سألوك عنّي؛ فأعلمهم أنّي قريب.
2. في معنى ﴿أُجِيبُ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أسمع، قاله الفرّاء، وابن القاسم.
ب. الثاني: أنه من الإجابة.
3. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾، أي: فليجيبوني، قال الشّاعر: (فلم يستجبه عند ذاك مجيب) أراد: فلم يجبه، وهذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة، والزجّاج.
4. ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، قال أبو العالية: يعني: يهتدون.
5. سؤال وإشكال: هذه الآية تدلّ على أنّ الله تعالى يجيب أدعية الدّاعين، وترى كثيرا من الدّاعين لا يستجاب لهم! والجواب:
أ. أن أبا سعيد روى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قال: (ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم؛ إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إمّا أن يعجّل دعوته، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة، وإمّا أن يدفع عنه من السّوء مثلها)
ب. وجواب آخر: وهو أنّ الدعاء تفتقر إجابته إلى شروط أصلها الطّاعة لله، ومنها أكل الحلال، فإن أكل الحرام يمنع إجابة الدّعاء، ومنها حضور القلب، ففي بعض الحديث: (لا يقبل الله دعاء من قلب غافل لاه)
ج. وجواب آخر: وهو أنّ الدّاعي قد يعتقد المصلحة في إجابته إلى ما سأل، وقد لا تكون المصلحة في ذلك، فيجاب إلى مقصوده الأصلي، وهو: طلب المصلحة، وقد تكون المصلحة في التأخير أو في المنع.
__________
(1) زاد المسير: 1/146.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. علاقة الآية الكريمة بما قبلها تحتمل وجوها:
أ. لما قال الله تعالى بعد إيجاب فرض الصوم وبيان أحكامه: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185] فأمر العبد بعد التكبير الذي هو الذكر وبالشكر، بين أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره فيسمع نداءه، ويجيب دعاءه، ولا يخيب رجاءه.
ب. أنه أمر بالتكبير أولا ثم رغبه في الدعاء ثانيا، تنبيها على أن الدعاء لا بد وأن يكون مسبوقا بالثناء الجميل، ألا ترى أن الخليل عليه السلام لما أراد الدعاء قدم عليه الثناء، فقال أولا: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 78] إلى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: 82] وكل هذا ثناء منه على الله تعالى، ثم شرع بعده في الدعاء فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [الشعراء: 83] فكذا هاهنا أمر بالتكبير أولا ثم شرع بعده في الدعاء ثانيا.
ج. الثالث: إن الله تعالى لما فرض عليهم الصيام كما فرض على الذين من قبلهم، وكان ذلك على أنهم إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم، فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا الله في ذلك التكليف، ثم ندموا وسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن توبتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية مخبرا لهم بقبول توبتهم، ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم.
2. ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها:
أ. أحدها: ما روي عن كعب أنّه قال قال موسى عليه السلام: يا رب أقريب أنت فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟ فقال: يا موسى أنا جليس من ذكرني، قال يا رب فإنا نكون على حالة نجلك أن نذكرك عليها من جنابة وغائط، قال يا موسى اذكرني على كل حال، فلما كان الأمر على هذه الصفة رغب الله تعالى عباده في ذكره وفي الرجوع إليه في جميع الأحوال، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ب. ثانيها: أن أعرابيا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ج. ثالثها: أنه عليه السلام كان في غزوة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء، فقال عليه السلام: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا)
د. رابعها: ما روي عن قتادة وغيره أن سببه أن الصحابة قالوا: كيف ندعو ربنا يا نبي الله؟ فأنزل هذه الآية.
هـ. خامسها: قال عطاء وغيره: إنهم سألوه في أي ساعة ندعو الله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
و. سادسها: ما ذكره ابن عباس، وهو أن يهود أهل المدينة قالوا: يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا؟ فنزلت هذه الآية.
ز. سابعها: قال الحسن: سأل أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: أين ربنا؟ فأنزل الله هذه الآية.
ح. ثامنها: ما ذكرنا أن قوله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183] لما اقتضى تحريم الأكل بعد النوم، ثم إنهم أكلوا ثم ندموا وتابوا وسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه تعالى هل يقبل توبتنا؟ فأنزل الله هذه الآية.
3. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ يدل على أنهم سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الله تعالى، فذلك السؤال إما أنه كان سؤالا عن ذات الله تعالى، أو عن صفاته، أو عن أفعاله:
أ. أما السؤال عن الذات فهو أن يكون السائل ممن يجوز التشبيه، فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات.
ب. وأما السؤال عن الصفات فهو أن يكون السائل سأل عن أنه تعالى هل يسمع دعاءنا فيكون السؤال واقعا على كونه تعالى سميعا.
ج. أو يكون المقصود من السؤال أنه تعالى كيف أذن في الدعاء، وهل أذن في الدعاء، وهل أذن في أن ندعوه بجميع الأسماء، أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة، وهل أذن لنا أن ندعوه كيف شئنا، أو ما أذن بأن ندعوه على وجه معين، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾ [الإسراء: 110]
4. أما السؤال عن الأفعال، فهو أن يكون السائل سأل الله تعالى أنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا، وهل يفعل ما نسأله عنه فقوله سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ يحتمل كل هذه الوجوه.
5. حمله على السؤال عن الذات أولى لوجهين:
أ. الأول: أن ظاهر قوله تعالى: ﴿عَنِّي﴾ يدل على أن السؤال وقع عن ذاته لا عن فعله.
ب. الثاني: أن السؤال متى كان مبهما والجواب مفصلا، دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعين، فلما قال في الجواب: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات، ولقائل أيضا أن يقول بل السؤال كان على الفعل، وهو أنه تعالى هل يجيب دعاءهم، وهل يحصل مقصود، بدليل أنه لما قال: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ قال: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾
6. ليس المراد من قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ القريب بالجهة والمكان، بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ، ويدل على أن هذا القريب ليس قربا بحسب المكان وجوه:
أ. الأول: أنه لو كان في المكان مشارا إليه بالحس لكان منقسما، إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد، ولو كان منقسما لكانت ماهيته مفتقرة في تحققها إلى تحقق كل واحد من أجزائها المفروضة وجزء الشيء غيره، فلو كان في مكان لكان مفتقرا إلى غيره، والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته ومحدث ومفتقر إلى الخالق، وذلك في حق الخالق القديم محال، فثبت أنه تعالى يمتنع أن يكون في المكان فلا يكون قربه بالمكان.
ب. الثاني: أنه لو كان في المكان لكان إما أن يكون غير متناه عن جميع الجهات، أو غير متناه عن جهة دون جهة، أو كان متناهيا من كل الجوانب:
• الأول: محال لأن البراهين القاطعة دلت على أن فرض بعد غير متناه محال.
• الثاني: محال أيضا لهذا الوجه، ولأنه لو كان أحد الجانبين متناهيا والآخر غير متناه لكانت حقيقة هذا الجانب المتناهي مخالفة في الماهية لحقيقة ذلك الجانب الذي هو غير متناه، فيلزم منه كونه تعالى مركبا من أجزاء مختلفة الطبائع والخصم لا يقول بذلك.
• الثالث: وهو أن يكون متناهيا من كل الجوانب، فذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا، فبطل القول بأنه تعالى في الجهة.
ج. الثالث: وهو أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قربا بالجهة، وذلك لأنه تعالى لو كان في المكان لما كان قريبا من الكل، بل كان يكون قريبا من حملة العرش وبعيدا من غيرهم، ولكان إذا كان قريبا من زيد الذي هو بالمشرق كان بعيدا من عمرو الذي هو بالمغرب، فلما دلت الآية على كونه تعالى قريبا من الكل علمنا أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قربا بحسب الجهة، ولما بطل أن يكون المراد منه القرب بالجهة ثبت أن المراد منه القرب بمعنى أنه تعالى يسمع دعاءهم ويرى تضرعهم، أو المراد من هذا القرب: العلم والحفظ وعلى هذا الوجه قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: 4] وقال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16] وقال: ﴿ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَرابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: 7] والمسلمون يقولون إنه تعالى بكل مكان ويريدون به التدبير والحفظ والحراسة.
7. لا يبعد أن يقال إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلا بالتشبيه، فقد كان في مشركي العرب وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته:
أ. فإذا سألوه صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: أين ربنا؟ صح أن يكون الجواب: فإني قريب.
ب. وكذلك إن سألوه صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: هل يسمع ربنا دعاءنا؟ صح أن يقول في جوابه: فإني قريب فإن القريب من المتكلم يسمع كلامه.
ج. وإن سألوه كيف ندعوه برفع الصوت أو بإخفائه؟ صح أن يجب أن بقوله: فإني قريب.
د. وإن سألوه هل يعطينا مطلوبنا بالدعاء؟ صلح هذا الجواب أيضا.
هـ. وإن سألوه إنا إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا؟ صلح أن يجيب بقوله: فإني قريب أي فأنا القريب بالنظر لهم والتجاوز عنهم وقبول التوبة منهم.
فثبت أن هذا الجواب مطابق للسؤال على جميع التقديرات.
8. الآية تدل على أنه إنما يعرف بحدوث تلك الأشياء على وفق غرض الداعي، فدل على أنه لولا مدبر لهذا العالم يسمع دعاءه ولم يخيب رجاءه وإلا لما حصل ذلك المقصود في ذلك الوقت.
9. في قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ سر عقلي:
أ. وذلك لأن اتصاف ماهيات الممكنات بوجوداتها إنما كان بإيجاد الصانع، فكان إيجاد الصانع كالمتوسط بين ماهيات الممكنات، وبين وجوداتها فكان الصانع أقرب إلى ماهية كل ممكن من وجود تلك الماهية إليها.
ب. بل هاهنا كلام أعلى من ذلك وهو أن الصانع هو الذي لأجله صارت ماهيات الممكنات موجودة، فهو أيضا لأجله كان الجوهر جوهرا والسواد سوادا والعقل عقلا والنفس نفسا، فكما أن بتأثيره وتكوينه صارت الماهيات موجودة، فكذلك بتأثيره وتكوينه صارت كل ماهية تلك الماهية، فعلى قياس ما سبق كان الصانع أقرب إلى كل ماهية من تلك الماهية إلى نفسها.
10. سؤال وإشكال: تكوين الماهية ممتنع لأنه لا يعقل جعل السواد سوادا، والجواب: كذلك أيضا لا يمكن جعل الوجود وجودا لأنه ماهية، ولا يمكن جعل الموصوفية دالة للماهية فإذن الماهية ليست بالفاعل، والوجود ماهية أيضا فلا يكون بالفاعل، وموصوفية الماهية بالوجود هو أيضا ماهية فلا تكون بالفاعل، فإذن لم يقع شيء ألبتة بالفاعل، وذلك باطل ظاهر البطلان، فإذن وجب الحكم بأن الكل بالفاعل، وعند ذلك يظهر الكلام الذي قررناه.
11. ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ قال أبو سليمان الخطابي: الدعاء مصدر من قولك: دعوت الشيء أدعوه دعاء ثم أقاموا المصدر مقام الاسم تقول: سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتا وقد يوضع المصدر موضع الاسم كقولهم: رجل عدل، وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه المعونة.
12. كل الأسئلة الواردة في القرآن الكريم جاءت أجوبتها على ثلاثة أنواع، فالأغلب فيها أنه تعالى لما حكى السؤال قال لمحمد: ﴿قُلْ﴾ وفي صورة واحدة جاء الجواب بقوله: ﴿فَقُلْ﴾ مع فاء التعقيب، والسبب فيه أن قوله تعالى: ﴿يسألونك عَنِ الْجِبالِ﴾ سؤال عن قدمها وحدوثها وهذه مسألة أصولية فلا جرم قال الله تعالى: ﴿فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾ [طه: 105] كأنه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تؤخر الجواب، فإن الشك فيه كفر، ثم تقدير الجواب أن النسف ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل فيكون ممكنا في الكل وجواز عدمه يدل على امتناع قدمه، أما سائر المسائل فهي فروعية فلا جرم لم يذكر فيها فاء التعقيب، أما الصورة الثالثة وهي في هذه الآية قال ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ ولم يقل فقل إني قريب فتدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه:
أ. الأول: كأنه سبحانه وتعالى يقول عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك.
ب. الثاني: أن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ يدل على أن العبد له وقوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ يدل على أن الرب للعبد.
ج. ثالثها: لم يقل: فالعبد مني قريب، بل قال أنا منه قريب، وفيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء، فلا يمكنه القرب من الرب أما الحق سبحانه فهو القادر من أن يقرب بفضله وبرحمته من العبد، والقرب من الحق إلى العبد لا من العبد إلا الحق فلهذا قال ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾
د. الرابع: أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولا بغير الله فإنه لا يكون داعيا له فإذا فني عن الكل صار مستغرقا في معرفة الأحد الحق، فامتنع من أن يبقى في هذا المقام ملاحظا لحقه وطالبا لنصيبه، فلما ارتفعت الوسائط بالكلية، فلا جرم حصل القرب فإنه ما دام يبقى العبد ملتفتا إلى غرض نفسه لم يكن قريبا من الله تعالى، لأن ذلك الغرض يحجبه عن الله، فثبت أن الدعاء يفيد القرب من الله، فكان الدعاء أفضل العبادات.
13. قال الجمهور الأعظم من العقلاء: إن الدعاء أهم مقامات العبودية، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل، أما الدلائل النقلية فكثيرة:
أ. الأول: أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية:
• أما الأصولية: فقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ [الإسراء: 85]، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ﴾ [طه: 105]، و﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ [النازعات: 42]
• وأما الفروعية فمنها في البقرة على التوالي ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 219]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 217]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [البقرة: 219]، ﴿يسألونك عَنِ الْيَتامى﴾ [البقرة: 220]، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ﴾ [البقرة: 222]، وقال أيضا: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ [الأنفال: 1]، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾ [الكهف: 83]، ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ﴾ [يونس: 53]، ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ [النساء: 176]
ب. الثاني: في فضل الدعاء: قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]
ج. الثالث: أنه تعالى لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه إذا لم يسأل يغضب فقال: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا ينبغي أن يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت ولكن يجزم فيقول: اللهم اغفر لي)، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الدعاء مخ العبادة) وعن النعمان بن بشير أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (الدعاء هو العبادة)، وقرأ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، فقوله: (الدعاء هو العبادة) معناه أنه معظم العبادة وأفضل العبادة، كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الحج عرفة) أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم.
د. الرابع: قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف: 55] وقال: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ [الفرقان: 77] والآيات كثيرة في هذا الباب فمن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن.
14. قال بعض الجهال: الدعاء شيء عديم الفائدة، واحتجوا عليه من وجوه:
أ. أحدها: أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب الوقوع، فلا حاجة إلى الدعاء، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا حاجة أيضا إلى الدعاء.
ب. ثانيها: أن حدوث الحوادث في هذا العالم لا بد من انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم الواجب لذاته، وإلا لزم إما التسلسل، وإما الدور وإما وقوع الحادث من غير مؤثر، وكل ذلك محال وإذا ثبت وجوب انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم، فكل ما اقتضى ذلك المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديما أزليا كان واجب الوقوع، وكل ما لم يقتض المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديما أزليا كان ممتنع الوقوع، ولما ثبتت هذه الأمور في الأزل لم يكن للدعاء ألبتة أثر، وربما عبروا عن هذا الكلام بأن قالوا: الأقدار سابقة والأقضية متقدمة والدعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص شيئا منها، فأي فائدة في الدعاء، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم قدر الله المقادير قبل أن يخلق الخلق بكذا وكذا عاما، وروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (جف القلم بما هو كائن)، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (أربع قد فرغ منها: العمر والرزق والخلق والخلق)
ج. ثالثها: أنه سبحانه علام الغيوب: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19] فأي حاجة بالداعي إلى الدعاء؟ ولهذا السبب قالوا إن جبريل عليه السلام بلغ بسبب هذا الكلام إلى أعلى درجات الإخلاص والعبودية ولولا أن ترك الدعاء أفضل لما كان كذلك.
د. رابعها: أن المطلوب بالدعاء إن كان من مصالح العبد فالجواد المطلق لا يهمله وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه.
هـ. خامسها: ثبت بشواهد العقل والأحاديث الصحيحة أن أجل مقامات الصديقين وأعلاها الرضا بقضاء الله تعالى والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالالتماس وترجيح لمراد النفس على مراد الله تعالى وطلبه لحصة البشر.
و. سادسها: أن الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى الكريم الرحيم سوء أدب.
ز. سابعها: روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال رواية عن الله سبحانه وتعالى: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)
قالوا فثبت بهذه الوجوه أن الأولى ترك الدعاء.
15. الجواب عن هذه الشبه:
أ. عن الشبهة الأولى: أنها متناقضة، لأن إقدام الإنسان على الدعاء إن كان معلوم الوقوع فلا فائدة في اشتغالكم بإبطال الدعاء، وإن كان معلوم العدم لم يكن إلى إنكاركم حاجة، ثم نقول: كيفية علم الله تعالى وكيفية قضائه وقدره غائبة عن العقول، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقا بين الرجاء وبين الخوف اللذين بهما تتم العبودية، وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله بالكل وجريان قضائه وقدره في الكل، ولهذا الإشكال سألت الصحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: أرأيت أعمالنا هذه أشيء قد فرغ منه أم أمر يستأنفه؟ فقال: بل شيء قد فرغ منه، فقالوا: ففيم العمل إذن؟ قال (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فانظر إلى لطائف هذا الحديث فإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم علقهم بين الأمرين فربهم سابق القدر المفروغ منه ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبد، فلم يعطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر، ولم يترك أحد الأمرين للآخر، وأخبر أن فائدة العمل هو المقدر المفروغ منه، فقال: (كل ميسر لما خلق له)، يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوده، إلا أنك تحب أن تعلم هاهنا فرق ما بين الميسر والمسخر فتأهب لمعرفته فإنه بمنزلة مسألة القضاء والقدر، وكذا القول في باب الكسب والرزق، فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا ينقصه الترك.
ب. عن الشبهة الثانية: أنه ليس المقصود من الدعاء الإعلام، بل إظهار العبودية والذلة والانكسار والرجوع إلى الله بالكلية.
ج. عن الشبهة الثالثة: أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء وعن الرابعة: أنه إذا كان مقصوده من الدعاء إظهار الذلة والمسكنة ثم بعد رضى بما قدره الله وقضاء، فذلك أعظم المقامات.
د. وهذا هو الجواب عن بقية الشبه في هذا الباب.
16. سؤال وإشكال: في الآية سؤال مشكل مشهور، وهو أنه تعالى قال ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60] وقال في هذه الآية: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، وكذلك ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: 62] ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب، والجواب: أن هذه الآية وإن كانت مطلقة إلا أنه قد وردت آية أخرى مقيدة، وهو قوله تعالى: ﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾ [الأنعام: 41] ولا شك أن المطلق محمول على المقيد، ثم تقرير المعنى فيه وجوه:
أ. أحدها: أن الداعي لا بد وأن يجد من دعائه عوضا، إما إسعافا بطلبته التي لأجلها دعا وذلك إذا وافق القضاء، فإذا لم يساعده القضاء فإنه يعطي سكينة في نفسه، وانشراحا في صدره، وصبرا يسهل معه احتمال البلاء الحاضر، وعلى كل حال فلا يعدم فائدة، وهو نوع من الاستجابة.
ب. ثانيها: ما روى القفال في تفسيره عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (دعوة المسلم لا ترد إلا لإحدى ثلاثة: ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، إما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا)، وهذا الخبر تمام البيان في الكشف عن هذا السؤال، لأنه تعالى قال ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ولم يقل: أستجب لكم في الحال، فإذا استجاب له ولو في الآخرة كان الوعد صدقا.
ج. ثالثها: أن قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ يقتضي أن يكون الداعي عارفا بربه وإلا لم يكن داعيا له، بل لشيء متخيل لا وجود له ألبتة، فثبت أن الشرط الداعي أن يكون عارفا بربه ومن صفات الرب سبحانه أن لا يفعل إلا ما وافق قضاءه وقدره وعلمه وحكمته فإذا علم أن صفة الرب هكذا استحال منه أن يقول بقلبه وبعقله: يا رب افعل الفعل الفلاني لا محالة، بل لا بد وأن يقول: افعل هذا الفعل إن كان موافقا لقضائك وقدرك وحكمتك، وعند هذا يصير الدعاء الذي دلت الآية على ترتيب الإجابة عليه مشروطا بهذه الشرائط وعلى هذا التقدير زال السؤال.
د. الرابع: أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوها كثيرة:
• أحدها: أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله كقول العبد: يا الله الذي لا إله إلا أنت، وهذا إنما سمي دعاء لإنك عرفت الله تعالى ثم وحدته وأثنيت عليه، فهذا يسمى دعاء بهذا التأويل ولما سمي هذا المعنى دعاء سمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ ومثله كثير وقال ابن الأنباري: ﴿أُجِيبُ﴾ هاهنا بمعنى أسمع لأن بين السماع وبين الإجابة نوع ملازمة، فلهذا السبب يقام كل واحد منهما مقام الآخر، فقولنا سمع الله لمن حمده أي أجاب الله فكذا هاهنا قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ أي أسمع تلك الدعوة، فإذا حملنا قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ على هذا الوجه زال الإشكال.
• ثانيها: أن يكون المراد من الدعاء التوبة عن الذنوب، وذلك لأن التائب يدعو الله تعالى عند التوبة، وإجابة الدعاء بهذا التفسير عبارة عن قبول التوبة، وعلى هذا الوجه أيضا لا إشكال،.
• ثالثها: أن يكون المراد من الدعاء العبادة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الدعاء هو العبادة)، ومما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60] فظهر أن الدعاء هاهنا هو العبادة، وإذا ثبت هذا فإجابة الله تعالى للدعاء بهذا التفسير عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كما قال ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [الشورى: 26] وعلى هذا الوجه الإشكال زائل.
• رابعها: أن يفسر الدعاء بطلب العبد من ربه حوائجه فالسؤال المذكور إن كان متوجها على هذا التفسير لم يكن متوجها على التفسيرات الثلاثة المتقدمة، فثبت أن الإشكال زائل.
17. قال المعتزلة، ومن وافقهم: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ مختص بالمؤمنين ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: 82]، وذلك لأن وصفنا الإنسان بأن الله تعالى قد أجاب دعوته، صفة مدح وتعظيم، ألا ترى أنا إذا أردنا المبالغة في تعظيم حال إنسان في الدين قلنا إنه مستجاب الدعوة وإذا كان هذا من أعظم المناصب في الدين، والفاسق واجب الإهانة في الدين، ثبت أن هذا الوصف لا يثبت إلا لمن لا يتلوث إيمانه بالفسق، بل الفاسق قد يفعل الله ما يطلبه إلا أن ذلك لا يسمى إجابة الدعوة.
18. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾، وجه النظم أن يقال:
أ. إنه تعالى قال أنا أجيب دعاءك مع أني غني عنك مطلقا، فكن أنت أيضا مجيبا لدعائي مع أنك محتاج إلى من كل الوجوه، فما أعظم هذا الكرم.
ب. وفيه دقيقة أخرى وهي أنه تعالى لم يقل للعبد: أجب دعائي حتى أجيب دعاءك، لأنه لو قال ذلك لصار لدعائي، وهذا تنبيه على أن إجابة الله عبده فضل منه ابتداء، وأنه غير معلل بطاعة العبد، وأن إجابة الرب في هذا الباب إلى العبد متقدمة على اشتغال العبد بطاعة الرب، وهذا يدل على فساد ما نقلناه عن المعتزلة.
19. اختلف في معنى أجاب واستجاب:
أ. قال الواحدي: أجاب واستجاب بمعنى واحد: قال كعب الغنوي:
çوداع دعا يا من يجيب إلى الندا...فلم يستجبه عند ذاك مجيبé
ب. وقال أهل المعنى: الإجابة من العبد لله الطاعة، وإجابة الله لعبده إعطاؤه إياه مطلوبه، لأن إجابة كل شيء على وفق ما يليق به.
20. سؤال وإشكال: إجابة العبد لله إن كانت إجابة بالقلب واللسان، فذاك هو الإيمان، وعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ تكرارا محضا، وإن كانت إجابة العبد لله عبارة عن الطاعات كان الإيمان مقدما على الطاعات، وكان حق النظم أن يقول: فليؤمنوا بي وليستجيبوا لي، فلم جاء على العكس منه؟ والجواب: أن الاستجابة عبارة عن الانقياد والاستسلام، والإيمان عبارة عن صفة القلب، وهذا يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات.
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ معنى الآية أنهم إذا استجابوا لي وآمنوا بي: اهتدوا لمصالح دينهم ودنياهم، لأن الرشيد هو من كان كذلك.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 5/261.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ﴾ المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك، واختلف في سبب نزولها:
أ. فقال مقاتل: إن عمر واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى، وجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره بذلك ورجع مغنما، وكان ذلك قبل نزول الرخصة، فنزلت هذه الآية: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾
ب. وقيل: لما وجب عليهم في الابتداء ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم، فنزلت هذه الآية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم.
ج. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود: كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية.
د. وقال الحسن: سببها أن قوما قالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت.
هـ. وقال عطاء وقتادة: لما نزلت: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60] قال قوم: في أي ساعة ندعوه؟ فنزلت.
2. ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ أي بالإجابة، وقيل بالعلم، وقيل: قريب من أوليائي بالإفضال والانعام.
3. ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول، دليله ما رواه أبو داوود عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (الدعاء هو العبادة ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾) فسمي الدعاء عبادة، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60] أي دعائي، فأمر تعالى بالدعاء وحض عليه وسماه عبادة، ووعد بأن يستجيب لهم، روى ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا، قال ادعني أستجب لك، وقال لهذه الامة ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الامة ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامة شهداء على الناس)، وكان خالد الربعي يقول: عجبت لهذه الامة في ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60] أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط، قال له قائل: مثل ماذا؟ قال مثل قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة: 25] فها هنا شرط، وقوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ﴾ [يونس: 2] فليس فيه شرط العمل، ومثل قوله تعالى: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [غافر: 14] فها هنا شرط، وقوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ليس فيه شرط، وكانت الأمم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك.
4. سؤال وإشكال: ما للداعي قد يدعو فلا يجاب؟ والجواب:
أ. أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين ﴿أُجِيبُ﴾ ﴿أَسْتَجِبْ﴾ لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل، ولا بكل مطلوب على التفصيل، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55] وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين فكيف يستجيب له، وأنواع الاعتداء كثيرة، وقال بعض العلماء: أجيب إن شئت، كما قال ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾ [الانعام: 41] فيكون هذا من باب المطلق والمقيد، وقد دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ثلاث فأعطي اثنتين ومنع واحدة.
ب. وقيل: إنما مقصود هذا الاخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ﴾ [الأحقاف: 5] الآية، وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله، فالإجابة كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة، لان أجيب وأستجب خبر لا ينسخ فيصير المخبر كذابا، يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة)، وأوحى الله تعالى إلى داوود: أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني، وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم.
ج. وقال قوم: إن الله يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له في الآخرة، لما رواه أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها (، قالوا: إذن نكثر؟ قال: (لله أكثر)، قال أبو عمر: وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول الله تعالى ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60] فهذا كله من الإجابة، وقال ابن عباس: كل عبد دعا أستجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له.
د. وحديث أبي سعيد الخدري وإن كان إذنا بالإجابة في إحدى ثلاث فقد دلك على صحة ما تقدم من اجتناب الاعتداء المانع من الإجابة حيث قال فيه: (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) وزاد مسلم: (ما لم يستعجل)، رواه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل ـ قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: (يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)، وروى البخاري ومسلم وأبو داوود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي)، قال علماؤنا: يحتمل قوله (يستجاب لأحدكم) الاخبار عن وجوب] وقوع الإجابة، والاخبار عن جواز وقوعها، فإذا كان بمعنى الاخبار عن الوجوب والوقوع فإن الإجابة تكون بمعنى الثلاثة الأشياء المتقدمة، فإذا قال قد دعوت فلم يستجب لي، بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها، وإن كان بمعنى جواز الإجابة فإن الإجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي: قد دعوت فلم يستجب لي، لان ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط.
هـ. ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأني يستجاب لذلك) وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته.
5. إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به:
أ. فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام، وألا يمل من الدعاء.
ب. ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا، كما قال: (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم:
• قال سهل بن عبد الله التستري: شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم واكل الحلال.
• وقال ابن عطاء: إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح، فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
• وقيل: شرائطه أربع: أولها حفظ القلب عند الوحدة، وحفظ اللسان مع الخلق، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحل، وحفظ البطن من الحرام.
• وقد قيل: إن من شرط الدعاء أن يكون سليما من اللحن، كما أنشد بعضهم:
çينادي ربه باللحن ليث...كذاك إذا دعاه لا يجيبé
• وقيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس.
• وقال علي رضي الله عنه لنوف البكالي: يا نوف، إن الله أوحى إلى داوود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأيد نقية، فإني لا أستجيب لاحد منهم، ما دام لاحد من خلقي مظلمة، يا نوف، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا، فإن داوود قام في ساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا، أو صاحب عرطبة، وهي الطنبور، أو صاحب كوبة، وهي الطبل.
• قال علماؤنا: ولا يقل الداعي: اللهم أعطني إن شئت، اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء، وأيضا فإن في قوله: (إن شئت) نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته، كقول القائل: إن شئت أن تعطيني كذا فافعل، لا يستعمل هذا إلا مع الغني عنه، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله، روى الأئمة واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له)، وفي الموطأ: (اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت)، قال علماؤنا: قوله (فليعزم المسألة) دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في، الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة، ولا يقنط من رحمة الله، لأنه يدعو كريما.
• قال سفيان ابن عيينة: لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن الله قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس، قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال: فإنك من المنظرين.
6. للدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، وذلك كالسحر ووقت الفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر والصف في سبيل الله، كل هذا جاءت به الآثار، وروى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له: يا شهر، ألا تجد القشعريرة؟ قلت نعم، قالت: فادع الله فإن الدعاء مستجاب عند ذلك، وقال جابر بن عبد الله: دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرفت السرور في وجهه، قال جابر: ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة.
7. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ قال أبو رجاء الخراساني: فليدعوا لي، وقال ابن عطية: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو باب استفعل أي طلب الشيء إلا ما شذ، مثل استغنى الله، وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا إلي فيما دعوتهم إليه من الايمان، أي الطاعة والعمل، ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر: (فلم يستجبه عند ذاك مجيب)، أي لم يجبه، والسين زائدة واللام لام الامر، وكذا ﴿وَلْيُؤْمِنُوا﴾ وجزمت لام الامر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط، وقيل: لأنها لا تقع إلا على الفعل، والرشاد خلاف الغي، وقد رشد يرشد رشدا، ورشد (بالكسر) يرشد رشدا، لغة فيه، وأرشده الله، والمراشد: مقاصد الطرق، والطريق الأرشد: نحو الأقصد، وتقول: هو لرشدة، خلاف قولك: لزنية، وام راشد: كنية للفأرة: وبنو رشدان: بطن من العرب، عن الجوهري، وقال الهروي: الرشد والرشد والرشاد: الهدى والاستقامة، ومنه قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾
__________
(1) تفسير القرطبي: 2/309.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ يحتمل أن السؤال عن: القرب والبعد، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ ويحتمل أن السؤال عن: إجابة الدعاء، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ ويحتمل أن السؤال عما هو أعمّ من ذلك، وهذا هو الظاهر مع قطع النظر عن السبب.
2. ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ قيل: بالإجابة، وقيل: بالعلم؛ وقيل: بالإنعام، وقال في الكشاف: إنه تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه، وسرعة إنجاحه حاجة من سأله؛ بمن قرب مكانه، فإذا دعي أسرعت تلبيته، ومعنى الإجابة: هو معنى ما في قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ وقيل: معناه: أقبل عبادة من عبدني بالدعاء، لما ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم من أن الدعاء هو العبادة، كما أخرجه أبو داوود وغيره من حديث النعمان بن بشير، والظاهر أن الإجابة هي باقية على معناها اللغوي؛ وكون الدعاء من العبادة لا يستلزم أن الإجابة هي القبول للدّعاء، أي: جعله عبادة متقبلة؛ فالإجابة أمر آخر غير قبول هذه العبادة، والمراد: أنه سبحانه يجيب بما شاء وكيف شاء، فقد يحصل المطلوب قريبا، وقد يحصل بعيدا، وقد يدفع عن الداعي من البلاء ما لا يعلمه بسبب دعائه، وهذا مقيد بعدم اعتداء الداعي في دعائه، كما في قوله سبحانه: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ومن الاعتداء: أن يطلب ما لا يستحقه ولا يصلح له، كمن يطلب منزلة في الجنة مساوية لمنزلة الأنبياء أو فوقها.
3. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ أي: كما أجبتهم إذا دعوني؛ فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات، وقيل: معناه: أنهم يطلبون إجابة الله سبحانه لدعائهم باستجابتهم له، أي: القيام بما أمرهم به، والترك لما نهاهم عنه، والرشد: خلاف الغيّ، رشد يرشد رشدا، ورشدا، قال الهروي: الرشد والرشد والرّشاد، الهدى والاستقامة، قال ومنه هذه الآية.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/213.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ قال الراغب: هذه الآية من تمام الآية الأولى، لأنه لما حث على تكبيره وشكره على ما قيّضه لهم من تمام الصوم، بيّن أنّ الذي يذكرونه ويشكرونه قريب منهم، ومجيب لهم إذا دعوه، ثم تمم ما بقي من أحكام الصوم، قال الرازيّ: إنّ السؤال متى كان مبهما، والجواب مفصّلا، دلّ الجواب على أنّ المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعيّن، فلما قال في الجواب ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ علمنا أنّ السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات، أي كما صرّحت به الرواية السابقة.
2. في ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام(2).، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر، كما روى أبو داوود الطيالسيّ في (مسنده) عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة، فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا، وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو قال قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ للصائم عند فطرة دعوة ما تردّ، وكان عبد الله يقول إذا أفطر: اللهمّ أنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء أن تغفر لي، وروى أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجة: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين.
3. القريب من أسمائه تعالى الحسنى، ومعناه القريب من عبده بسماعه دعاءه، ورؤيته تضرّعه، وعلمه به، كما قال ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، وقال ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد: 4]، وقال ﴿ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَرابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: 7]
4. الدعاء: الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير، والابتهال إليه بالسؤال، ويطلق على العبادة والاستغاثة.
5. ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ قال ابن القيّم في (زاد المعاد) في هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم في سجوده ما نصه: وأمر ـ يعني النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بالدعاء في السجود، وقال: إنه ضمن أن يستجاب لكم، وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود؟ أو أمر بأنّ الداعي إذا دعا في محلّ فليكن في السجود؟ وفرق بين الأمرين، وأحسن ما يحمل عليه الحديث، أنّ الدعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة، والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يكثر في سجوده من النوعين، والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين، والاستجابة ـ أيضا ـ نوعان: استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله، واستجابة دعاء المثني بالثواب، وبكلّ واحد من النوعين فسرّ قوله تعالى ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، والصحيح أنّه يعمّ النوعين.
6. قال الراغب: بيّن تعالى ـ في هذه الآية ـ إفضاله على عباده، وضمن أنهم إذا دعوه أجابهم، وعليه نبّه بقوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]
7. سؤال وإشكال: قد ضمن في الآيتين أنّ من دعاه أجابه، وكم رأينا من داع له لم يجبه! والجواب: إنّه ضمن الإجابة لعباده، ولم يرد بالعباد من ذكرهم بقوله: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 93]؛ وإنّما عنى به الموصوفين بقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: 42]، وقوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ [الفرقان: 63] الآيات؛ وللدعاء المجاب شرائط وهي: أن يدعو بأحسن الأسماء، كما قال تعالى ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، ويخلص النيّة، ويظهر الافتقار، ولا يدعو بإثم، ولا بما يستعين به على معاداته، وأن يعلم أنّ نعمته فيما يمنعه من دنياه كنعمته فيما خوّله وأعطاه، ومعلوم أنّ من هذا حاله فمجاب الدعوة، قال ابن القيّم: وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف عنه أثره، إمّا لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان، وإمّا لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا، فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا، وإمّا لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والسهو اللهو وغلبتها عليه، كما في صحيح الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه)، فهذا دواء نافع مزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته، وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أيها الناس! إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيبا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء: يا ربّ يا ربّ! ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فإنّي يستجاب لذلك)، وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب (الزهد) لأبيه: أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجا، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى نبيّهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة وترفعون إليّ أكفّا قد سفكتم بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن حين اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا مني إلّا بعدا.
8. الدعاء من أنفع الأدوية(3).، وهو عدوّ البلاء، يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، كما روى الحاكم في (صحيحه) من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين، ونور السموات والأرض! وله مع البلاء ثلاث مقامات: أحدها، أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه، الثاني، أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفا، الثالث، أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه، وقد روى الحاكم في (صحيحه) من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإنّ البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة، وفيه أيضا، من حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم، عباد الله، بالدعاء، وفيه أيضا: من حديث ثوبان عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يردّ القدر إلّا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلّا البرّ، وإنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
9. من أنفع الأدوية الإلحاح في الدعاء(3).، وقد روى ابن ماجة في (سننه) من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من لم يسأل الله يغضب عليه، وفي (صحيح الحاكم) من حديث أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا تعجزوا في الدعاء فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد، وذكر الأوزاعي عن الزهريّ عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ الله يحبّ الملحّين في الدعاء، وفي كتاب (الزهد) للإمام أحمد عن قتادة قال قال مورّق: ما وجدت للمؤمن مثلا إلا رجل في البحر على خشبة، فهو يدعو: يا ربّ! لعلّ الله عزّ وجلّ أن ينجيه.
10. من الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه(3). أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذرا أو غرس غرسا، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله، وفي البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي، وفي صحيح مسلم عنه: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل! قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذاك ويدع الدعاء، وفي (مسند أحمد) من حديث أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل، قالوا: يا رسول الله! كيف يستعجل؟ قال يقول: قد دعوت لربي فلم يستجب لي.
11. إذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب(3).، وصادف وقتا من أوقات الإجابة الستة وهي: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم، وصادف خشوعا في القلب، وانكسارا بين يدي الرب، وذلّا وتضرّعا ورقّة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله تعالى وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنّى بالصلاة على محمد عبده صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم قدّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، ثم دخل على الله وألحّ عليه في المسألة وتملّقه ودعاه رغبة ورهبة، وتوسّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدّم بين يدي دعائه صدقة ـ فإن هذا الدعاء لا يكاد يردّ أبدا، ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم:
أ. فمنها ما في السنن وفي (صحيح ابن حبان) من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي ـ لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا، فقال: لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب، وفي لفظ: لقد سألت الله باسمه الأعظم.
ب. وفي السنن و(صحيح ابن حبان) أيضا من حديث أنس بن مالك أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جالسا ورجل يصلي ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنّان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم! فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، وأخرج الحديثين أحمد في (مسنده)
ج. وفي (جامع الترمذي) من حديث أسماء بنت يزيد: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 163] وفاتحة آل عمران ﴿الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.
د. وفي (مسند أحمد) و(صحيح الحاكم) من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك وربيعة بن عامر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام، يعني: تعلّقوا بها والزموها وداوموا عليها.
هـ. وفي (جامع الترمذيّ) من حديث أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال: سبحان الله العظيم، وإذا اجتهد في الدعاء قال يا حي يا قيوم.
و. وفيه أيضا من حديث أنس بن مالك قال كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كربه أمر قال يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث.
ز. وفي (صحيح الحاكم) من حديث أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن: البقرة وآل عمران وطه، قال القاسم: فالتمستها فإذا هي آية الحيّ القيوم.
ح. وفي (جامع الترمذيّ) و(صحيح الحاكم) من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم، في شيء قط، إلّا استجاب الله له، قال الترمذيّ: حديث صحيح.. وفي (صحيح الحاكم) أيضا من حديث سعد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم أمر مهمّ فدعا به يفرج الله عنه: دعاء ذي النون.. وفي (صحيحه) أيضا عنه أنه سمع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يقول: هل أدلكم على اسم الله الأعظم؟ دعاء يونس، فقال رجل: يا رسول الله! هل كان ليونس خاصة؟ فقال: ألا تسمع قوله ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88]، فأيّما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك، أعطي أجر شهيد، وإن برأ، برأ مغفورا له.
ط. وفي (الصحيحين) من حديث ابن عباس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول عند الكرب: لا إله إلّا الله العظيم الحليم، لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات وربّ الأرض رب العرش الكريم.
ي. وفي (مسند الإمام أحمد) من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال علّمني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا نزل بي كرب أن أقول: لا إله إلّا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله ربّ العرش العظيم، والحمد لله ربّ العالمين.
ك. وفي (مسنده) أيضا، من حديث عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أصاب أحدا قطّ همّ ولا حزن فقال: اللهمّ! إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك اللهمّ بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همّي،! إلّا أذهب الله همّه وحزنه وأبدله مكانه فرحا، فقيل: يا رسول الله! ألا نتعلّمها؟ قال بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها.
ل. وقال ابن مسعود: ما كرب نبيّ من الأنبياء إلّا استغاث بالتسبيح.
12. كثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم(3).، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته، أو صادف الدعاء وقت إجابة، ونحو ذلك، فأجيبت دعوته، فيظنّ الظانّ أنّ السرّ في لفظ ذلك الدعاء فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي، وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعا في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي فانتفع به، فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرّده كاف في حصول المطلوب كان غالطا، وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس، ومن هذا، قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب، فيظنّ الجاهل أنّ السرّ للقبر، ولم يعلم أنّ السرّ للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله كان أفضل وأحبّ إلى الله.
13. الأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح(3).، والسلاح بضاربه لا بحدّه فقط! فمتى كان السلاح سلاحا تاما لا آفة به، والساعد ساعد قويّ، والمانع مفقود، حصلت به النكاية في العدوّ، ومتى تخلّف واحد من هذه الثلاثة، تخلّف التأثير، فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثمّ مانع من الإجابة ـ لم يحصل التأثير.
14. سؤال وإشكال: المدعو به إن كان قد قدّر لم يكن بدّ من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قد قدّر لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله، والجواب(3).:
أ. ظنت طائفة صحة هذا السؤال.. فتركت الدعاء وقالت: لا فائدة فيه! وهؤلاء ـ مع فرط جهلهم وضلالهم ـ يتناقضون، فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب، فيقال لأحدهم إن كان الشبع والريّ قد قدّر لك فلا بد من وقوعهما، أكلت أو لم تأكل، وإن لم يقدرا لم يقعا، أكلت أو لم تأكل، وإن كان الولد قدّر لك، فلا بدّ منه، وطأت الزوجة والأمة أو لم تطأهما، وإن لم يقدّر لم يكن، فلا حاجة إلى التزويج والتسرّي، وهلمّ جرّا.. فهل يقال: هذا عاقل أو آدميّ؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا.
ب. وتكايس بعضهم، وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبّد المحض، يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما، ولا فرق ـ عند هذا الكيّس ـ بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب، وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت، ولا فرق.
ج. وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء: بل الدعاء علامة مجرّدة نصبها الله سبحانه أمارة على قضاء الحاجة، فمتى وفّق العبد للدعاء كان ذلك علامة له، وأمارة على أنّ حاجته قد قضيت، وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردا في زمن الشتاء، فإنّ ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر، قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لا أنّها أسباب له، وهكذا ـ عندهم ـ الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل، ليس شيء من ذلك سببا البتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلّا بمجرد الاقتران العاديّ لا التأثير السببيّ، وخالفوا، بذلك، الحسّ والعقل والشرع وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء.
د. والصواب أنّ هاهنا قسما ثالثا غير ما ذكره السائل، وهو: إنّ هذا المقدور قدّر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرّدا عن سببه ولكن قدّر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قدر الشبع والريّ بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدّر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال، وهذا القسم هو الحقّ، وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له، وحينئذ، فالدعاء، من أقوى الأسباب، فإذا قدّر وقوع المدعوّ به بالدعاء، لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال؛ وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب!
15. دلّ العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم(3). ـ على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها ـ على أنّ التقرب إلى ربّ العالمين، وطلب مرضاته، والبرّ والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكلّ خير؛ وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكلّ شرّ، فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمة الله بمثل طاعته والتقرّب إليه والإحسان إلى خلقه! وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وحصول السرور في الدنيا والآخرة ـ في كتابه ـ على الأعمال، ترتب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلّة، والمسبب على السبب، وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع:
أ. فتارة يرتب الحكم الخبريّ الكونيّ والأمر الشرعيّ على الوصف المناسب له، كقوله تعالى ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [الأعراف: 166]، وقوله ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الزخرف: 55]، وقوله ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا﴾ [المائدة: 38]، وقوله ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ ـ إلى قوله ـ ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35]، وهذا كثير جدا.
ب. وتارة ترتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء: كقوله تعالى ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 29]، وقوله: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ [الجن: 16]، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: 11] ونظائره..
ج. وتارة يأتي بـ (لام التعليل): كقوله تعالى: ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، وقوله تعالى: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143]
د. وتارة يأتي بأداة (كي) التي للتعليل، كقوله ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7]...
هـ. وتارة يأتي بـ (باء السببية) كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [آل عمران: 182]، وقوله تعالى: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 43]، و﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 39]، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الإسراء: 98]
و. وتارة يأتي بـ (المفعول لأجله) ظاهرا أو محذوفا، كقوله تعالى: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ [البقرة: 282]، وكقوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]، وقوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا﴾ [الأنعام: 156]، أي كراهة أن تقولوا.
ز. وتارة بـ (فاء السببية)، كقوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ﴾ [الشمس: 14]، وقوله تعالى: ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً﴾ [الحاقة: 10]، وقوله ﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ﴾ [المؤمنون: 48]، ونظائره.
ح. وتارة يأتي بأداة (لمّا) الدالة على الجزاء، كقوله ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الزخرف: 55]، ونظائره.
ط. وتارة يأتي بـ (إنّ) وما عملت فيه، كقوله ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [الأنبياء: 90]، وقوله في ضدّ هؤلاء ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنبياء: 77]
ي. وتارة يأتي بأداة (لولا) الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها، كقوله ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 113 ـ 114]
ك. وتارة يأتي بـ (لو) الدالة على الشرط، كقوله ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [النساء: 66]
16. القرآن ـ من أوله إلى آخره ـ صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب(3).، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال، ومن تفقّه في هذه المسألة، وتأملها حقّ التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتكل على القدر جهلا منه وعجزا وتفريطا وإضاعة؛ فيكون توكلّه عجزا، وعجزه توكّلا، بل الفقيه ـ كلّ الفقيه ـ الذي يردّ القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، لا يمكن للإنسان أن يعيش إلّا بذلك، فإنّ الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر، والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر، وهكذا من وفّقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فهذا وزن القدر المخوف في الدنيا وما يضادّه، فربّ الدارين واحد، وحكمته واحدة لا يناقض بعضها بعضا، ولا يبطل بعضها بعضا، فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حقّ رعايتها.
17. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ أي: إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ أمر بالثبات على ما هم عليه ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ أي: راجين إصابة الرشد وهو الحقّ، قال الراغب: أوثر ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا﴾ على (فليجيبوا) للطيفة وهي: أن حقيقة الاستجابة طلب الإجابة وإن كان قد يستعمل في معنى الإجابة، فبين أن العباد متى تحروا إجابته بقدر وسعهم فإنه يرضى عنهم.
18. سؤال وإشكال: كيف جمع بين الاستجابة والإيمان، وأحدهما يغني عن الآخر، فإنه لا يكون مستجيبا لله من لا يكون مؤمنا؟ والجواب: استجابته ارتسام أوامره ونواهيه التي تتولاه الجوارح، والإيمان هو الذي تقتضيه القلوب، وأيضا فإنّ الإيمان المعنيّ هاهنا هو الإيمان المذكور في قوله ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ﴾ [الأنفال: 2] الآية.
__________
(1) تفسير القاسمي: 2/29.
(2) الكلام هنا لابن كثير.
(3) الكلام هنا لابن القيم.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قالت جماعة من العرب، أو أعرابيٌّ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أقريب ربُّنا فنناجيه ـ أي: ندعوه سرًّا ـ أم بعيد فنناديه؟ ـ أي: نجهر، فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ﴾
2. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ﴾ بعلمي بهم، ونفعي لهم، وإجابة دعائهم، وبأحوالهم، والله قريب سأل العباد عنه أم لم يسألوا، ولكن المعنى: وإذا سألك عبادي عنِّي فقل لهم عنِّي إنِّي قريب، سألوه عن القرب والبعد الحسِّييْن؛ لأنَّهم حديثو عهد بالإسلام، ولا سيما إذا قلنا: إنَّ السائل أعرابيٌّ، فإنَّ البدويَّ كثير الجهل، وأجابهم بأنَّه قريب قربًا معنويًّا، ويحتمل أنَّهم مشركون سألوه عن القرب والبعد حسًّا فأجابهم بالقرب المعنويِّ، ولا يبعده قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ لأنَّه يحبِّب الإسلام إلى المشركين بهذا وبما هو أعظم، فليس كما قيل: إنَّ قوله: ﴿عِبَادِي﴾، وقولهم فنناجيه يبعد كون السائلين مشركين.
وقيل: سألوه عن القرب والبعد المعنوييْن وهم مسلمون، ورجَّحه بعض، وهما قربُ الإجابة وبُعدُها، وإذا قلنا: السائل واحد فالجمع لكون الحكم يعمُّ السائل وغيره، والسؤال لا يختصُّ به، وربَّما سأل غيره؛ ولذا قال: (إِذَا) مع انَّه قد وقع السؤال من واحد أو جماعة، ويجوز أن تكون (إِذَا) لتنزيل حال النزول منزلة ما تقدَّم عن السؤال.
3. ﴿اُجِيبُ﴾ بإعطاء المطلوب ﴿دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي﴾ تفسير للقرب المذكور في الآية خصوصًا، وإن أريد به عموم أنَّه عالم فهذا تقرير له، وعلى الوجهين هو وعد بالإجابة، ولا يشكل تخلُّفها لحكمة، فقد تتخلَّف مطلقًا، وقد تتخلَّف إلى بدل، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : (ما من مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليسَ فيها إثم ولا قطيعةُ رحمٍ إلَّا أعطاهُ الله تبارك وتعالى إِحدَى ثلاثٍ: إمَّا أن يُعجِّل دعوتَه، وإمَّا أن يدَّخر له، وإمَّا أن يكفَّ عنه مِن السوءِ مثلَها).
4. ﴿فَلْيَسْتِجِيبُواْ لِي﴾ بالطاعة كما أجيب دعاءهم، أو ليطلبوا إجابتي، ﴿وَلْيُومِنُواْ بِيَ﴾ إن كانوا مشركين، وليدوموا على الإيمان إن كانوا موحِّدين، وقيل: الاستجابة بعمل الجوارح كما فسَّرته، والإيمان بالقلب، ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ يهتدون إلى مصالحهم الدينيَّة والدنيويَّة.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/323.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما في سبب نزول هذه الآية أن اعرابيا جاء الى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت عنه فأنزل الله الآية، وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال سأل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أين ربنا؟ فنزلت، ورووا في سببه غير ذلك مما هو أضعف سندا، وأقل ناصرا وعددا، وقال محمد عبده: عند ذكر السبب الاول هذا السؤال ليس ببعيد من العرب أو الاعراب الذين اعتادوا أن يتخذوا وسائل بينهم وبين إلههم يقربونهم إلى الله خالق السموات والارض، وهؤلاء الوسائل والوسائط إما أشخاص وإما أمثلة أشخاص كالتماثيل والاصنام، ولم يهتدوا بأنفسهم إلى التجرد لمعرفة ذلك الاله الواحد العظيم بأنه لا يتقيد بشيء حتى هداهم اليه القرآن بايآته البينات، فكانوا أهل التوحيد الخالص، ولكن الآية جاءت بين آيات الصيام فهي ليست بأجنبية منها، وإنما هي متصلة بما قبلها من الاحكام، فقد طالبنا في الآية السابقة بإكمال عدة الصيام وبتكبير الله تعالى، وذكر أن ذلك يعدنا لشكره تعالى، والتكبير والشكر يكونان بالقول نحو: الحمد لله والله أكبر ـ كما يكونان بالعمل، وما كان بالقول يأتي فيه السؤال: هل يكون برفع الصوت والمناداة، أم بالمخافتة والمناجاة؟ فجاءت هذه الآية جوابا عن هذا السؤال الذي يتوقع إن لم يقع، فهي في محلها سواء صح ما رووه في سببها أم لا.
2. يروى في نزولها سبب آخر وهو ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع المسلمين يدعون الله تعالى بصوت رفيع في غزوة خيبر فقال لهم: (أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا)، وعلى كل حال تفيدنا الآية حكما شرعيا وهو انه لا ينبغي رفع الصوت في عبادة من العبادات إلا بالمقدار الذي حدده الشرع في الصلاة الجهرية وهو أن يسمع من بالقرب منه، ومن بالغ في رفع صوته ربما بطلت صلاته، ومن تعمد المبالغة في الصياح في دعائه أو الصلاة على نبيه كان إلى عبادة الشيطان، أقرب منه إلى عبادة الرحمن.
3. ليس في هذه الروايات ذكر الآية ولكن الحديث في المقام فانهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير المأمور به في الآية السابقة فدلت الآية على ما صرح به الحديث من النهي فكان الحديث تفسيرا لها بل هو عمل بها وذكره ابن العادل في تفسيره من أسباب نزولها، وقال البيضاوي في وجه الاتصال: واعلم انه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على انه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، مجيب لدعائهم، مجاز على أعمالهم، تأكيدا له وحثا عليه.
4. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ هذا التفات عن خطاب المؤمنين كافة باحكام الصيام، الى خطاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بان يذكرهم ويعلمهم ما يراعونه في هذه العبادة وغيرها من الطاعة والاخلاص والتوجه اليه وحده بالدعاء، الذي يعدهم للهدى والرشاد، وجعلت بأسلوب الفتوى على تقدير السؤال لتنبيه الاذهان، والمراد أن يؤمنوا بأن الله تعالى قريب منهم ليس بينه وبينهم حجاب ولا ولي ولا شفيع يبلغه دعاءهم وعبادتهم، أو يشاركه في إجابتهم أو اثابتهم، ليتوجهوا اليه وحده حنفاء مخلصين له الدين.
5. نحن نعلم أن الاحكام العملية إنما تشرع لتقوية الايمان وإصلاح النفس، ولذلك كان من سنة القرآن الحكيم أن يبين مع كل حكم حكمة تشريعه وفائدته في تقوية الايمان، ويمزج الكلام فيه بما يذكر بعظمة الله تعالى، ويعين على مراقبته والتوجه اليه ويثبت الايمان به كهذه الآية ويا ليت فقهاءنا اقتدوا بهدي القرآن فلم يجعلوا كتب الاحكام جافة مقصورة على ذكر الاعمال البدنية، كأن الدين دين مادي جسماني لا غرض للقلوب والارواح فيه.
6. معنى قرب الله تعالى:
أ. قالوا: انه القرب بالعلم بمعنى أن علمه محيط بكل شيء فهو يسمع اقوال العباد ويرى أعمالهم، وعبارة البيضاوي: (وهو تمثيل لكمال علمه تعالى بافعال العباد وأقوالهم واطلاعه على احوالهم بحال من قرب مكانه منهم)، وإنما جعلوا الكلام تمثيلا لان القرب والبعد الحقيقي انما يكونان باعتبار المكان وهو منزه عن الانحصار في المكان.
ب. وقال محمد عبده: (يصح أن يكون من قرب الوجود فان الذي لا يتحيز ولا يتحدد تكون نسب الامكنة وما فيها اليه واحدة، فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء إذ منه كل شيء إيجادا وإمدادا واليه المصير)، وهذا الذي قاله من الحقائق العالية وعليه السادة الصوفية فقد قال احد العلماء في قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ﴾ اي إذا بلغت روحه الحلقوم: انه القرب بالعلم، وكان احد كبار الصوفية حاضرا فقال: (لو كان هذا هو المراد لقال تعالى في تتمة الآية ولكن لا تعلمون، ولكنه لم ينف العلم عنهم وإنما قال ﴿وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ وليس من شأن العلم ان يبصر فينفى هنا إبصاره، وإنما ذلك شأن الذات)، وهو مذكور بنصه في كتاب اليواقيت والجواهر للشعراني.
7. على كل حال لازم القرب مقصود وهو عدم الحاجة إلى رفع الصوت ولا إلى الواسطة بينه وبين عباده في الدعاء وطلب الحاجات كما كان عليه المشركون في التوسل بالشفعاء والوسطاء إلى الله تعالى كأنه قال: فأخبرهم بأنني قريب منهم وانني ﴿أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾
8. هذا ما كتبته من التعليق على كلمة محمد عبده في قرب الوجود وطبع أولا واطلع هو عليه، ثم استشكله بعض اخواننا السلفيين بانه مخالف لمذهب السلف فانهم يتأولون أو يفسرون القرب بالعلم كالمتكلمين، ويقولون ان الله تعالى فوق عباده بائن من خلقه، مستو على عرشه، وعبارة الاستاذ على اجمالها اقرب الى مذهب السلف من تأويل المتكلمين ومن وافقهم من السلفيين فان البائن من كل شيء الذي لا يتحيز ولا يتحدد هو الذي تكون نسبة جميع الامكنة ومن فيها اليه واحدة وهي البينونة المطلقة التي يقتضيها العلو المطلق فوق كل شيء والاحاطة بكل شيء، وقرب الصفات لا يعقل بدون قرب الذات، اذ لا انفصال بينهما ولا انفكاك، والتحقيق ان مذهب السلف إمرار النصوص في الصفات على ظاهرها من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، والله تعالى قد اسند القرب في هذه الآية وآيتي سورة الواقعة وسورة ق الى ذاته فنأخذ هذا الاسناد على ظاهره مع اثبات تنزيهه عن مماثلة خلقه واثبات صفات الكمال له التي يفهم بها المراد من هذا القرب في كل سياق بحسبه، والجامع فيه ما ذكره الاستاذ من الايجاد للعباد والامداد لهم في أثناء وجودهم ومصيرهم اليه بعد انتهاء آجالهم، فالقرب في سورة ق يناسب الايجاد والامداد بالعلم والحفظ على قولهم ان قوله ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ﴾ متعلق بقوله ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ والقرب في سورة الواقعة يناسب المصير اليه تعالى كما يعلم مما بعده، وقربه في الآية التي نفسرها يناسب الامداد بسمع الدعاء واجابته وهي من متعلقات القدرة والرحمة، والغرض منه تقرير توحيد العبادة كما قررناه آنفا وقد بينه بيانا مستأنفا بقوله: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ منهم بنفسي من غير واسطة ﴿إِذَا دَعَانِ﴾ وتوجه إلي وحدى في طلب حاجته، أي يجب ان يدعى وحده بدون واسطة لأنه هو الذي خلق الانسان ويعلم ما توسوس به نفسه بدون واسطة، وهو الذي يجيب دعوته وحده بدون واسطة تعينه أو تساعده أو تنوب عنه في الاجابة وقضاء الحاجة أو تؤثر في إرادته.
9. فسروا الدعوة بطلب الحاجات وقالوا: ان ظاهر الآية ان الاجابة وصف لازم لله تعالى وأنه يجيب كل داع، وليس الامر كذلك كما هو ثابت بالمشاهدة، وأجابوا بأن المراد ان من شأنه الاجابة فهو يجيب إن شاء كما قال في آية أخرى ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ﴾ فهو على حد قولك فلان يعطي الكثير فاطلب منه، أي ان من شأنه ذلك ولا يلزم منه أن يعطي كل طالب عين ما طلبه، وأجاب بعضهم بأن الاجابة أعم من إعطاء السؤال، وقد ورد في الحديث الصحيح ان الاجابة تكون بإحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها، ولا حاجة إلى التأويل إذ لا محل للاشكال فان الآية سيقت لبيان أن الله تعالى قريب من عباده المتوجهين اليه فلا حاجة بهم الى الصياح بتكبيره ودعائه، ولا إلى أن يتخذوا وسطاء بينهم وبينه في التوجه اليه وسؤال رحمته وفضله، بل يجب أن يصمدوا اليه وحده فإنه هو الذي يجيب دعاءهم وحده، أما كيفية اجابته إياهم فليس من موضوع الآية.
10. لا شك ان العارف بالله تعالى والعالم بشرعه وبسننه في خلقه لا يقصد بدعائه ربه إلا هدايته الى الطرق والاسباب التي جرت سننه تعالى بأن تحصل الرغائب بها، وتوفيقه ومعونته فيها، فهو إذا سأل الله تعالى أن يزيد في علمه أو في رزقه فلا يقصد أن يكون العلم وحيا يوحى ولا أن تمطر له السماء ذهبا وفضة، وكذلك اذا سأل الله شفاء مرضه أو مريضه الذي أعياه علاجه فإنه لا يريد بذلك أن يخرق الله العادات، أو يجعله مؤيدا بالمعجزات والآيات، وإنما يريد المؤمن العارف بالدعاء ما ذكرنا من توفيق الله إياه الى العلاج، أو العمل الذي يكون سبب الشفاء، سواء كان ذلك بإرشاد مرشد أو بالهام إلهي، فكم لله من عناية بالمتوجهين اليه الداعين له بعد ما اجتهدوا في الأخذ بالأسباب فلم يفلحوا، ومن عنايته الهداية الى سبب جديد، وإلهام النفس العمل المفيد، وتقوية المزاج على المرض، ولا دليل في الآية على ان كل دعاء يجاب بل هي نفسها دليل على انه لا يجيب الدعاء إلا الله، فيجب أن لا يدعى سواه: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾
11. انظر كيف لم يقل انه يجيب دعوة الداعي حتى قيدها بقوله ﴿اذا دعاني﴾ قال محمد عبده ما مثاله: ان الداعي شخص يطلب شيئا وهو يصدق على أكثر الناس الذين يطلبون كل يوم أشياء كثيرة وليس كل واحد منهم متحققا بدعاء الله تعالى وحده كما يحب أن يدعى، فهو يقول أجيب دعوة الداعي اذا خصني بالدعاء والتجأ إليّ التجاء حقيقيا بحيث ذهب عن نفسه إليّ، وشعر قلبه بأنه لا ملجأ له إلا إليّ، ومثل هذا لا يطمع في غير مطمع، ولا يطلب مالا يصح أن يطلب، وإنما يمتثل أمر الله تعالى باتخاذ جميع الوسائل من طرقها الصحيحة المعروفة، وهي لا تتحقق إلا بالعلم والعزيمة والعمل، فان تم للعبد ما يريد بذلك فقد أعطاه الله تعالى من خزائنه التي يفيض منها على جميع متبعي سننه في الخلق، وإن بذل جهده ولم يظفر بسؤله فما عليه إلا أن يلجأ الى مسبب الاسباب وهادي القلوب الى ما غاب عنها وخفي عليها، ويطلب المعونة والتوفيق ممن بيده ملكوت كل شيء، وقد قال بعض السلف: ان مثل هذا يجاب لا محالة، وقالت الصوفية: الدعاء المجاب هو الدعاء بلسان الاستعداد، وقد استعاذ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من الطمع في غير مطمع فمن يترك السعي والكسب ويقول: يا رب ألف جنيه: فهو غير داع، وإنما هو جاهل، ومثل ذلك المريض لا يراعي الحمية ولا يتخذ الدواء، ويقول رب اشفني وعافني، كأنه يقول اللهم أبطل سننك التي قلت انها لا تبدل ولا تحول لأجلي وكم استجاب الله لنا من دعاء، وكشف عنا من بلاء، ورزقنا من حيث لا نحتسب ولا نتخذ الاسباب، ولكن بتسخيره هو للأسباب.
12. سؤال وإشكال: اذا كان الرزق مقدرا فعلام السؤال؟ والجواب(2).: اذا كانت إجابتي أو عدمها مقدرا فلم السؤال؟ هذا لا يقال وإنما ينبغي أن يقال ما الحكمة في طلب الدعاء منا في هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث كحديث (الدعاء مخ العبادة) والله تعالى يعلم ما في أنفسنا وما تنطوي عليه سرائرنا؟ قالت الصوفية: ان المراد بالدعاء فزع القلب الى الله وشعوره بالحاجة الى معونته والتجاؤه اليه، وبحتجون بما روي في قصة ابراهيم صلّى الله عليه وآله وسلّم من أن جبريل سأله قبل أن يلقى في النار ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا، قال فادع الله، قال حسبي من سؤالي علمه بحالي.
13. ظاهر الآيات والاحاديث يدل على أن الدعاء مطلوب بالقول، مع التوجه الى الله بالقلب، ومنه الادعية المأثورة في الكتاب والسنة وذلك أن الدعاء باللسان هو أثر الشعور بالحاجة الى الله تعالى وفزع القلب اليه، فان لم يكن أثره فهو مذكر به وهو أعظم مظاهر الايمان، ولذلك سماه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مخ العبادة فهو يطلب لذلك وإجابة الله الدعاء تقبله ممن أخلص له وفزع اليه بروحه ورضاه عنه سواء أوصل اليه ما طلبه في ظاهر الامر أم لم يصل، والحديث رواه الترمذي من حديث أنس وسنده ضعيف ومتنه صحيح فهو بمعنى حديث (الدعاء هو العبادة) بصيغة الحصر.
14. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ قالوا: استجاب له واستجابة وأجابه إلى الشيء واحد وهو أن يفعل ما دعاه اليه ويؤتيه ما طلبه منه، وقال الراغب الاستجابة: (قيل هي الاجابة، وحقيقتها التحري للجواب والتهيؤ له لكن عبر به عن الاجابة لقلة انفكاكها منها)، وأورد الشواهد عليه من الآيات ومنها هذه الآية، وقد ذكرت في تفسير ﴿اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ﴾ ان الاقرب الى الفهم قلب ما قاله الراغب وعكسه وهو ان الاستجابة هي الاجابة بعناية واستعداد فتكون زيادة السين والتاء للمبالغة وهو يقرب مما قالوه في معانيهما من التكلف والتحري والطلب أو هو بعينه، إلا انه لا يعبر به فيما يسند الى الله تعالى كقوله ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ والمعنى: واذ كنت قريبا منهم مجيبا لدعوة من دعاني منهم فليستجيبوا هم لي بتحري ما أمرتهم من الايمان والاعمال النافعة لهم كالصيام وغيره مما أدعوهم اليه كما أجيب دعوتهم بقبول عبادتهم، وتولي اعانتهم، فالآية تفيد أن المنفرد بإجابة الدعاء هو الذي يطاع طاعة العبادة، فاذا دعانا غيره الى عبادة اخترعها باجتهاده لا دليل عليها فيما أوحاه الله الى نبيه لا نجيبه اليها كما أننا لا ندعو غيره تعالى.
15. قال المفسرون في الأمر بالإيمان هنا انه أمر بالمداومة عليه لان الخطاب للمؤمنين، وذهب محمد عبده الى أن الخطاب عام وأن حظ من استجاب لله وللرسول منه أن يحاسب نفسه ويطالبها بأن تكون اعماله الظاهرة التي عد بها مسلما صادرة عن الايمان اليقيني والاحتساب والاخلاص لله تعالى ففي ذكر الايمان بعد الاستجابة اشارة الى أن من الناس من يستجيب الى الاعمال ويقوم بها وهو خلو من روح الايمان ﴿قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ أي بالجمع بين الايمان والاذعان للأمر والنهي، والرشد والرشاد، ضد الغي والفساد، فعلمنا ان الاعمال اذا لم تكن صادرة بروح الايمان لا يرجى ان يكون صاحبها راشدا مهديا، فمن يصوم اتباعا للعادة وموافقة للمعاشرين فان الصيام لا يعده للتقوى ولا للرشاد، وربما زاده فسادا في الأخلاق وضراوة بالشهوات لذلك يذكرنا تعالى في اثناء سرد الاحكام بأن الايمان هو المقصود الاول في اصلاح النفوس وإنما نفع الاعمال في صدورها عنه وتمكينها إياه.
__________
(1) تفسير المنار: 2/167.
(2) الكلام هنا لمحمد عبده.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما طالب الله عباده في الآية السابقة بصوم الشهر وإكمال العدّة، وحثهم على التكبير ليعدّوا أنفسهم للشكر، عقب بهذه الآية للدلالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، فيجيب دعوة الداعين ويجازيهم بأعمالهم، وفي هذا حثّ لهم على الدعاء، وقد روى أن سبب نزول الآية أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع المسلمين يدعون الله بصوت رفيع في غزوة خيبر فقال لهم: (أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم)
2. يستفاد من هذه الآية أنه لا ينبغي رفع الصوت في العبادات إلا بالمقدار الذي حدده الشرع في الصلاة الجهرية، وهو أن يسمعه من بالقرب منه، فمن تعمد المبالغة في الصياح حين الدعاء، كان مخالفا لأمر ربه وأمر نبيه.
3. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ قرب الله من عباده إحاطة علمه بكل شيء، فهو يسمع أقوالهم ويرى أعمالهم، أي ذكّر أيها الرسول عبادي بما يجب أن يراعوه في هذه العبادة وغيرها من الطاعة والإخلاص والتوجه إلىّ وحدي بالدعاء، وأخبرهم بأني قريب منهم ليس بيني وبينهم حجاب، ولا ولىّ ولا شفيع يبلغني دعاءهم وعبادتهم، أو يشاركني في إجابتهم وإثابتهم، وأجيب دعوة من يدعوني بلا وساطة أحد إذا هو توجه إلىّ وحدي في طلب حاجته، لأنني أنا الذي خلقته وأعلم ما توسوس به نفسه والعارف بالشريعة وبسنن الله في خلقه، لا يقصد بدعائه إلا هدايته إلى الأسباب التي توصله إلى تحصيل رغباته ونيل مقاصده، فهو إذا سأل الله أن يزيد في رزقه، فهو لا يقصد أن تمطر له السماء ذهبا وفضة، وإذا سأله شفاء مريضه الذي أعياه علاجه، فإنه لا يريد أن يخرق العادات، بل يريد توفيقه إلى العلاج الذي يكون سبب الشفاء، ومن ترك السعي والكسب وطلب أن يؤتي مالا فهو غير داع بل جاهل، وكذا المريض الذي لا يراعى الحمية ولا يتخذ الدواء ويطلب الشفاء والعافية، لأن مثل هذين يطلبان إبطال السنن التي سنها الله في الخليقة.
4. الدعاء المطلوب هو الدعاء بالقول مع التوجه إلى الله بالقلب، وذلك أثر الشعور بالحاجة إليه، والمذكّر بعظمته وجلاله، ومن ثم سماه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مخّ العبادة.
5. إجابة الدعاء: تقبّله ممن أخلص له وفزع إليه، سواء وصل إليه ما طلبه في ظاهر الأمر أم لم يصل، ونحو الآية قوله في سورة ق: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ وعلى هذا فلا داعى لرفع الصوت في الدعاء، ولا إلى الوساطة بينهم وبينه في طلب الحاجات كما كان يفعله المشركون من التوسل بالشفعاء والوسطاء.
6. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ الاستجابة الإجابة بعناية واستعداد، أي وإذ كنت قريبا منهم مجيبا دعوة من دعاني، فليستجيبوا لي بالقيام بعمل ما أمرتهم به من الإيمان والعبادات النافعة لهم كالصيام والصلاة والزكاة وغيرها مما أدعوهم إليه، كما أجيب دعوتهم بقبول عبادتهم.
7. ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ الرشد والرشاد ضد الغىّ والفساد: أي إن الأعمال إذا صدرت بروح الإيمان يرجى أن يكون صاحبها راشدا مهتديا، أما إذا صدرت اتباعا للعادة وموافقة المعاشرين فلا تعدّ للرشاد والتقوى، بل ربما زادت فاعلها ضراوة في الشهوات، وفسادا في الأخلاق، كما يشاهد ذلك لدى الصائمين الذين يصومون تقليدا لآبائهم وعشيرتهم لا بإخلاص لربهم وابتغاء لمثوبته.
__________
(1) تفسير المراغي: 2/76.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قبل أن يمضي السياق في بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة، نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم، والجزاء المعجل على الاستجابة لله.
2. نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء تصوره ألفاظ رفافة شفافة تكاد تنير: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.. فإني قريب.. أجيب دعوة الداع إذا دعان.. أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس؟
3. في كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة: إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه.. لم يقل: فقل لهم: إني قريب.. إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال.. قريب.. ولم يقل أسمع الدعاء.. إنما عجل بإجابة الدعاء: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾
4. إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش منها المؤمن في جناب رضيّ، وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين.
5. وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الوحية.. يوجه الله عباده إلى الاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾.. فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك.. وهي الرشد والهدى والصلاح، فالله غني عن العالمين.
6. الرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد، فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد؛ وما عداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد، ولا ينتهي إلى رشاد، واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون، وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه، فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم.
7. أخرج أبو داوود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن ميمون ـ بإسناده ـ عن سلمان الفارسي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبين)، وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ـ بإسناده ـ عن ابن ثوبان: ورواه عبد الله بن أحمد ـ بإسناده ـ عن عبادة بن الصامت: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عزّ وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)، وفي الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي!)، وفي صحيح مسلم: عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل) قيل: يا رسول الله وما الاستعجال، قال (يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)
8. الصائم أقرب الدعاة استجابة، كما روى الإمام أبو داوود الطيالسي في مسنده ـ بإسناده ـ عن عبد الله بن عمر ـ ـ قال (سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة).. فكان عبد الله بن عمر إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا، وروى ابن ماجه في سننه ـ بإسناده ـ عن عبد الله بن عمر كذلك قال قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد) وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)، ومن ثم جاء ذكر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصيام.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/173.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. جاءت هذه الآية بين الآيات الشارحة للصوم وأحكامه لتلفت الصائمين إلى ما هم عليه في تلك الحال من صفاء روحي يدنيهم من الله ويجعلهم أكثر استعدادا للاتصال به.
2. الله سبحانه وتعالى دائما أبدا أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، ولكن الإنسان هو الذي تختلف أحواله، مع الله، فيدنو أو يبعد، ويتصل أو ينقطع حسب إيمانه به، وطاعته له، ورجاءه فيه.. والإنسان في شهر الصوم مهيأ للقرب من الله، مستيقظ المشاعر والأحاسيس لمناجاته.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن:1/203.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ الجملة معطوفة على الجمل السابقة المتعاطفة أي ﴿لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا﴾.. ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185]، ثم التفت إلى خطاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحده لأنه في مقام تبليغ فقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾، أي العباد الذين كان الحديث معهم، ومقتضى الظاهر أن يقال ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ وتدعون فأستجيب لكم إلّا أنه عدل عنه ليحصل في خلال ذلك تعظيم شأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنه يسأله المسلمون عن أمر الله تعالى، والإشارة إلى جواب من عسى أن يكونوا سألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن كيفية الدعاء هل يكون جهرا أو سرا، وليكون نظم الآية مؤذنا بأن الله تعالى بعد أن أمرهم بما يجب له عليهم أكرمهم فقال: وإذا سألوا عن حقهم عليّ فإني قريب منهم أجيب دعوتهم، وجعل هذا الخير مرتبا على تقدير سؤالهم إشارة إلى أنهم يهجس هذا في نفوسهم بعد أن يسمعوا الأمر بالإكمال والتكبير والشكر أن يقولوا: هل لنا جزاء على ذلك؟ وأنهم قد يحجمون عن سؤال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك أدبا مع الله تعالى فلذلك قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ﴾ الصريح بأن هذا سيقع في المستقبل.
2. استعمال مثل هذا الشرط مع مادة السؤال لقصد الاهتمام بما سيذكر بعده استعمال معروف عند البلغاء قال علقمة:
çفإن تسألوني بالنّساء فإنّني...خبير بأدواء النساء طبيبé
والعلماء يفتتحون المسائل المهمة في كتبهم بكلمة (فإن قلت) وهو اصطلاح (الكشاف)، ويؤيد هذا تجريد الجواب من كلمة (قل) التي ذكرت في مواقع السؤال من القرآن نحو ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ﴾ [البقرة: 189]، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ [البقرة: 220]، مع ما في هذا النظم العجيب من زيادة إخراج الكلام في صورة الحكم الكلي إذ جاء بحكم عام في سياق الشرط فقال ﴿سَأَلَكَ عِبَادِي﴾ وقال: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ ولو قيل (وليدعوني فأستجيب لهم) لكان حكما جزئيا خاصا بهم، فقد ظهر وجه اتصال الآية بالآيات قبلها ومناسبتها لهن وارتباطها بهن من غير أن يكون هنالك اعتراض جملة.. وقيل إنها جملة معترضة اقترنت بالواو بين أحكام الصيام للدلالة على أن الله تعالى مجازيهم على أعمالهم وأنه خبير بأحوالهم، قيل إنه ذكر الدعاء هنا بعد ذكر الشكر للدلالة على أن الدعاء يجب أن يسبقه الثناء.
3. العباد الذين أضيفوا إلى ضمير الجلالة هم المؤمنون لأن الآيات كلها في بيان أحكام الصوم ولوازمه وجزائه وهو من شعار المسلمين، وكذلك اصطلاح القرآن غالبا في ذكر العباد مضافا لضمير الجلالة، وأما قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ﴾ [الفرقان: 17] بمعنى المشركين فاقتضاه أنه في مقام تنديمهم على استعبادهم للأصنام.
4. إنما قال تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ ولم يقل: فقل لهم إني قريب إيجازا لظهوره من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾، وتنبيها على أن السؤال مفروض غير واقع منهم بالفعل، وفيه لطيفة قرآنية وهي إيهام أن الله تعالى تولّى جوابهم عن سؤالهم بنفسه إذ حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تنبيها على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء.
5. احتيج للتأكيد بإنّ، لأن الخبر غريب وهو أن يكون تعالى قريبا مع كونهم لا يرونه، و﴿أُجِيبُ﴾ خبر ثان لإنّ وهو المقصود من الإخبار الذي قبله تمهيدا له لتسهيل قبوله.
6. حذفت ياء المتكلم من قوله (دعان) في قراءة نافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي؛ لأن حذفها في الوقف لغة جمهور العرب عدا أهل الحجاز، ولا تحذف عندهم في الوصل لأن الأصل عدمه ولأن الرسم يبنى على حال الوقف، وأثبت الياء ابن كثير وهشام ويعقوب في الوصل والوقف، وقرأ ابن ذكوان وعاصم بحذف الياء في الوصل والوقف وهي لغة هذيل، وقد تقدم أن الكلمة لو وقعت فاصلة لكان الحذف متفقا عليه في قوله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة: 40] في هذه السورة.
7. في هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجوّ الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان.
8. الآية دلت على أن إجابة دعاء الداعي تفضل من الله على عباده غير أن ذلك لا يقتضي التزام إجابة الدعوة من كل أحد وفي كل زمان، لأن الخبر لا يقتضي العموم، ولا يقال: إنه وقع في حيز الشرط فيفيد التلازم، لأن الشرط هنا ربط الجواب بالسؤال وليس ربط للدعاء بالإجابة، لأنه لم يقل: إن دعوني أجبتهم.
9. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ تفريع على ﴿أُجِيبُ﴾ أي إذا كنت أجيب دعوة الداعي فليجيبوا أوامري، واستجاب وأجاب بمعنى واحد، وأصل أجاب واستجاب أنه الإقبال على المنادي بالقدوم، أو قول يدل على الاستعداد للحضور نحو (لبيك)، ثم أطلق مجازا مشهورا على تحقيق ما يطلبه الطالب، لأنه لما كان بتحقيقه يقطع مسألته فكأنّه أجاب نداءه، فيجوز أن يكون المراد بالاستجابة امتثال أمر الله فيكون ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ عطفا مغايرا والمقصود من الأمر الأول الفعل ومن الأمر الثاني الدوام، ويجوز أن يراد بالاستجابة ما يشمل استجابة دعوة الإيمان، فذكر ﴿وَلْيُؤْمِنُوا﴾ عطف خاص على عام للاهتمام به.
10. ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ الرشد إصابة الحق وفعله كنصر وفرح وضرب، والأشهر الأول.
__________
(1) التحرير والتنوير: 2/176.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن شهر رمضان شهر التجرد الروحي، والاتجاه إلى الله تعالى، فقد كتب الله تعالى علينا صيامه، وسن صلّى الله عليه وآله وسلّم قيامه، وسن صلّى الله عليه وآله وسلّم الاعتكاف في المساجد، وإن المؤمن إذا تجرد ذلك التجرد كان الله تعالى ملء قلبه وناجى ربه سرا وعلانية، وذكره خفية وجهرة، ودعا ربه ضارعا إليه، وقد وعده الله تعالى بإجابة دعائه، وأنه قريب منه وأنه مستجيب له لأنه استجاب له؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ وإن العبد إذا أحس بعظمة الله تعالى، وامتلأ قلبه بخشيته أحس بأنه عونه، وأنه سنده، وإن أولئك الذين يشكرون لله تعالى نعمته في شرعه الرخص بجوار العزائم يتجهون إلى الله تعالى، وكأنهم يسألون قربه ليصل دعاؤهم فقامت حالهم مقام سؤالهم، أو هم سألوا فعلا؛ ولذا قال سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾
2. جعل سبحانه الشرطية تتعدى بإذا ـ الدالة على تحقق السؤال وقد كان بحالهم الخاشعة الضارعة الطالبة، وقال سبحانه عن السائلين بحال نفوسهم: (عبادي أي الذين يشعرون بحق العبودية ويرتضونها طيبة نفوسهم راضية خائفة قلوبهم فإذا سألوك فإني قريب منهم قرب نفوسهم بإحساسهم بمقام العبودية وأنا قريب منهم بالربوبية.
3. ثم قال سبحانه عن نتيجة هذا القرب: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ أي أن هذا القرب ليس قرب مكان ولكن قرب إجابة ورضا ورحمة وكأنه سبحانه وتعالى يقول: ادعوني أستجب لكم كما قال في آية أخرى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر]، وهذا يدل على أن الدعاء عبادة إذ قال عن الذين لا يدعون: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ فالدعاء عبادة وروى عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال (الدعاء مخ العبادة)، روى عن أبى هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال (من لم يدع الله تعالى غضب عليه)
4. الدعاء على هذا عبادة واستغاثة واتجاه إلى الله تعالى كما جاء في المعنى اللغوي فقد جاء في القاموس وشرحه: الدعاء الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير، والابتهال إليه بالعبادة والاستعانة، وبالثناء عليه تعالت ذاته العلية عن الشبيه والمثيل.
5. إذا كان ذلك شأن الدعاء ومقامه، فقد قرب الله الداعين إليه وقال تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ الفاء للإفصاح عن شرط مقدر مضمونه إذا كنت قريبا منهم أجيب دعوتهم إذا دعوني وأقبل عبادتهم ـ إذ كان دعاؤهم عبادة واستغاثة وثناء عليه سبحانه ـ إذا كنت كذلك بالنسبة لهم فليستجيبوا لي فيما أدعوهم إليه من إقامة للعدل ودفع للظلم، وإصلاح في الأرض، ومنع للفساد، وإصلاح ذات بينهم، ومن إفراده بالعبادة والالتجاء إليه، والاستجابة الإجابة بعد معالجة النفس وحملها على الإجابة أو المبالغة في الإجابة بالطاعة والإحسان فيها وأن يعبد الله كانه يراه فإن لم يكن يراه فليشعر أنه في رقابة الله تعالى.
6. ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ أي حق الإيمان بأن يؤمنوا بأن الله واحد أحد لا شريك له، وأن يؤمنوا بقدرته التي أبدعت وخلقت كل شيء فقدرته تقديرا، وأنه المستعان في الشدائد والملجأ في المكاره، وليستنوا بسنته في كل أحوالهم، ولقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال]
7. ثم بين سبحانه وتعالى أن طاعة الله تعالى في كل ما يأمر به، وينهى عنه، والإيمان به حق الإيمان هو سبيل الرشاد في هذه الدنيا، وإدراك حقيقتها وفهمها والإصلاح فيها، ولذلك قال تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ أي يرجون بالإيمان الصادق والالتجاء إليه سبحانه وحده أن يرشدوا بأن يسيروا في طريق الرشاد الذي لا عوج فيه فيصلحون ويصلح الناس بهم، ويسلكون جميعا طريق الهداية والله يهدى من يشاء.
8. كانت آية الدعاء وقرب الله تعالى لمن يدعوه واستجابته له، كان هذا إشارة إلى صفاء النفس الذي يكون للصائم إذا قام بحق الصيام، وقرب من الله تعالى، ولقد كان ابن عمر ـ وغيره من الصحابة المقربين ـ كثير الدعاء في رمضان، وسماه بعض العباد شهر الاستجابة.
__________
(1) زهرة التفاسير: 2/562.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. قيل: ان أعرابيا جاء الى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقال له: أقريب ربنا فنناجيه، أو بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية جوابا عن سؤال الاعرابي.. وسواء أصح هذا القول، أم لم يصح فإنه يتناسب مع الموضوع.
2. الدعاء من أفضل العبادات، وقد جاء الأمر به، والحث عليه في الكتاب والسنة، لأنه اظهار للعبودية، والافتقار اليه سبحانه.
3. سؤال وإشكال: ظاهر قوله تعالى: ﴿إِذَا دَعَانِ﴾ بعد قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ تحصيل حاصل، لأنه أشبه بقول القائل: انظر الى القاعد إذا كان قاعدا، واصغ الى المتكلم إذا كان متكلما؟ والجواب: المراد بإذا دعان الدعاء الصادر عن قلب مخلص صادق في دعائه، لا مجرد الدعاء باللسان، فهو أشبه بقول من قال أكرم العالم إذا كان عالما، يريد العالم حقا وواقعا، لا من يتسم بسمات العالم فقط.
4. سؤال وإشكال: الظاهر من قوله تعالى: ﴿أجيب دعوة الداعي﴾ وقوله: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ان الله يستجيب لكل من دعاه، مع العلم بأن الإنسان يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب؟ والجواب: أجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة شتى أنهاها بعضهم الى ست، واتفقوا جميعا على ان المؤمن المطيع لله تستجاب دعوته دون سواه، ويبطل هذا القول ان الله استجاب دعوة إبليس.. قال: ﴿أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾، ومهما يكن، فان الجواب عن هذا السؤال يستدعي التفصيل على الوجه التالي:
أ. أن يطلب العبد من ربه ما يتنافى مع العادات وسنن الطبيعة، كطلب الرزق من غير السعي، والعلم من غير تعلم، وما الى ذاك من إيجاد المسببات بلا أسبابها، ودخول البيوت من حيطانها، لا من أبوابها.. وليس هذا من الدعاء في شيء، أو هو من دعاء الجاهل بالله وحكمته وسننه، فان لله سنة في خلقه، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾
ب. أن يطلب في دعائه التوفيق والهداية الى احكام الدين، وعمل الخير، وفعل الواجبات، وترك المعاصي والمحرمات: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، واجتناب الشرور والآفات: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾، وان يهيئ له الله أسباب النجاح في الرزق والعلم والصحة: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾، على أن يعمل الداعي جاهدا مخلصا متوكلا على الله وحده.. وهذا هو مسؤول الأنبياء والصالحين، والمقصود من دعائهم.
ج. ينبغي قبل كل شيء أن نتنبه، ولا نذهل عن هذه الحقيقة التي نراها ونشاهدها بالعيان، وهي ان الله سبحانه يعطي من سأله، ومن لم يسأله تحننا منه وكرما، وانه يهب الملك لمن يشاء، ويمنع الملك عمن يشاء، ويذل من يشاء، ويعز من يشاء من غير دعاء.. وعليه فليس معنى قوله تعالى: ﴿أجيب دعوة الداعي إذا دعان﴾ أنه لا يعطي إلا من دعاه، ولا معنى قوله: ﴿ان رحمة الله قريب من المحسنين﴾، أن رحمة الله هذه بعيدة عن المسيئين.. كلا.. ان رحمته وسعت كل شيء، وما كان عطاء ربك محظورا.
5. تجمل الاشارة الى أنه قد جاء في بعض الروايات دعاء لوجع البطن، وآخر لوجع الظهر، وثالث للعين والضرس، وما اليه.. وهذه الروايات اما موضوعة، لأنها تخالف الواقع، ولا تغني شيئا، واما أن يكون القصد منها السعي في العلاج مع التوكل على الله.. قيل: ان عليا أمير المؤمنين عليه السلام مر بأعرابي، وإلى جنبه ناقة جرباء، فقال له الإمام: ألا تداويها؟ قال بلى، يا أمير المؤمنين، اني أداويها، قال الإمام: وبماذا؟ قال الاعرابي: بالدعاء، قال الإمام: ضع مع الدعاء شيئا من القطران.
6. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ قال الرازي في تفسيره: يقول الله سبحانه لعبده: أنا أجيب دعاءك، مع اني غني عنك مطلقا، فكن أنت أيضا مجيبا دعائي، مع انك محتاج إلي من كل الوجوه، فما أعظم هذا الكرم!
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/287.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرق أسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة على كمال العناية بالأمر، ثم قوله تعالى: ﴿عِبَادِي﴾ ولم يقل: الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ ولم يقل فقل إنه قريب، ثم التأكيد بإن، ثم الإتيان بالصفة دون الفعل الدال على القرب ليدل على ثبوت القرب ودوامه، ثم الدلالة على تجدد الإجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليهما، ثم تقييده الجواب أعني قوله: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ بقوله تعالى: ﴿إِذَا دَعَانِ﴾ وهذا القيد لا يزيد على قوله تعالى: ﴿دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ المقيد به شيئا بل هو عينه، وفيه دلالة على أن ﴿دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كرر فيها ـ على إيجازها ـ ضمير المتكلم سبع مرات، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف.
2. الدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي، والسؤال جلب فائدة أو در من المسئول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره، ثم إن العبودية كما مر سابقا هي المملوكية ولا كل مملوكية بل مملوكية الإنسان فالعبد هو من الإنسان أو كل ذي عقل وشعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى.
3. ملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجد مع الدعوى والحقيقة مع المجاز فإنه تعالى يملك عباده ملكا طلقا محيطا بهم لا يستقلون دونه في أنفسهم ولا ما يتبع أنفسهم من الصفات والأفعال وسائر ما ينسب إليهم من الأزواج و الأولاد والمال والجاه وغيرها، فكل ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الأنحاء كما في قولنا: نفسه، وبدنه، وسمعه، وبصره، وفعله، وأثره، وهي أقسام الملك بالطبع والحقيقة وقولنا: زوجه وماله وجاهه وحقه، ـ وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار ـ إنما يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون أيا ما كان وتمليكه فالله عز اسمه، هو الذي أضاف نفوسهم وأعيانهم إليهم ولو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس، وهو الذي جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وهو الذي خلق كل شيء وقدره تقديرا، فهو سبحانه الحائل بين الشيء ونفسه، وهو الحائل بين الشيء وبين كل ما يقارنه: من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حق فهو أقرب إلى خلقه من كل شيء مفروض فهو سبحانه قريب على الإطلاق كما قال تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ الواقعة ـ 85، وقال تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾: ق ـ 16، (وقال تعالى ﴿أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾: الأنفال ـ 24، والقلب هو النفس المدركة.
4. بالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكا حقيقيا وكونهم عبادا له هو الموجب لكونه تعالى قريبا منهم على الإطلاق وأقرب إليهم من كل شيء عند القياس وهذا الملك الموجب لجواز كل تصرف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي أن لله سبحانه أن يجيب أي دعاء دعا به أحد من خلقه ويرفع بالإعطاء والتصرف حاجته التي سأله فيها فإن الملك عام، والسلطان والإحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود: إن الله لما خلق الأشياء وقدر التقادير تم الأمر، وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لأن الأمر مفروغ عنه، ولا كما يقوله جماعة من هذه الأمة: أن لا صنع لله في أفعال عباده وهم القدرية الذين سماهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مجوس هذه الأمة فيما رواه الفريقان من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: القدرية مجوس هذه الأمة، بل الملك لله سبحانه على الإطلاق ولا يملك شيء شيئا إلا بتمليك منه سبحانه وإذن فما شاءه وملكه وأذن في وقوعه، يقع، وما لم يشأ ولم يملك ولم يأذن فيه لا يقع وإن بذل في طريق وقوعه كل جهد وعناية، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾
5. تبين أن قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ كما يشتمل على الحكم أعني إجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عبادا لله تعالى هو الموجب لقربه منهم، وقربه منهم هو الموجب لإجابته المطلقة لدعائهم وإطلاق الإجابة يستلزم إطلاق الدعاء فكل دعاء دعي به فإنه مجيبه.
6. إلا أن هاهنا أمرا وهو أنه تعالى قيد قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ بقوله ﴿إِذَا دَعَانِ﴾ وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيد بشيء يدل على اشتراط الحقيقة دون التجوز والشبه، فإن قولنا: أصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو أكرم العالم إذا كان عالما يدل على لزوم اتصافه بما يقتضيه حقيقة فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الذي يجب الإصغاء إلى قوله والعالم إذا تحقق بعلمه وعمل بما علم كان هو الذي يجب إكرامه، فقوله تعالى ﴿إِذَا دَعَانِ﴾ يدل على أن وعد الإجابة المطلقة، إنما هو إذا كان الداعي داعيا بحسب الحقيقة مريدا بحسب العلم الفطري والغريزي مواطئا لسانه قلبه، فإن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير صدقا أو كذبا جدا أو هزلا حقيقة أو مجازا، ولذلك ترى أنه تعالى عد ما لا عمل للسان فيه سؤالا، قال تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم لسانا فطريا وجوديا، وقال تعالى: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح.
7. السؤال الفطري من الله سبحانه لا يتخطى الإجابة، فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الإجابة فقد فقد أحد أمرين وهما اللذان ذكرهما بقوله تعالى: ﴿دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾:
أ. فإما أن يكون لم يتحقق هناك دعاء، وإنما التبس الأمر على الداعي التباسا كان يدعو الإنسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الأمر مثل أن يدعو ويسأل شفاء المريض لا إحياء الميت، ولو كان استمكنه ودعا بحياته كما كان يسأله الأنبياء لأعيدت حياته ولكنه على يأس من ذلك، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه.
ب. وإما أن السؤال متحقق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلق بالأسباب العادية أو بأمور وهمية توهمها كافية في أمره أو مؤثرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإن الله الذي يجيب الدعوات هو الذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الأسباب والأوهام، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم.
8. هذا ملخص القول في الدعاء على ما تفيده الآية، وبه يظهر معاني سائر الآيات النازلة في هذا الباب كقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾، فالآيات دالة على أن للإنسان دعاء غريزيا وسؤالا فطريا يسأل به ربه، غير أنه إذا كان في رخاء ورفاه تعلقت نفسه بالأسباب فأشركها لربه، فالتبس عليه الأمر وزعم أنه لا يدعو ربه ولا يسأل عنه، مع أنه لا يسأل غيره فإنه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى، ولما وقع الشدة وطارت الأسباب عن تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبين له أن لا منجح لحاجته ولا مجيب لمسألته إلا الله، فعاد إلى توحيده الفطري ونسي كل سبب من الأسباب، ووجه وجهه نحو الرب الكريم فكشف شدته وقضى حاجته وأظله بالرخاء، ثم إذا تلبس به ثانيا عاد إلى ما كان عليه أولا من الشرك والنسيان، وكقوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالإجابة وتزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها: ﴿عَنْ عِبَادَتِي﴾ أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث إنها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار إنما هو على ترك العبادة رأسا لا على ترك بعض أقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك.
9. بذلك يظهر معنى آيات أخر من هذا الباب كقوله تعالى: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ إلى قوله، ﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، وهي تشتمل على أركان الدعاء وآداب الداعي، وعمدتها الإخلاص في دعائه تعالى وهو مواطاة القلب اللسان والانقطاع عن كل سبب دون الله والتعلق به تعالى، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرع والإصرار والذكر وصالح العمل والإيمان وأدب الحضور وغير ذلك مما تشتمل عليه الروايات.
10. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ تفريع على ما يدل عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: إن الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه وبين دعائهم شيء، وهو ذو عناية بهم وبما يسألونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه، وصفته هذه الصفة، فليستجيبوا له في هذه الدعوة، وليقبلوا إليه، وليؤمنوا به في هذا النعت، وليوقنوا بأنه قريب مجيب لعلهم يرشدون في دعائه.
11. أحاديث وآثار، وفوائدها، والموقف منها:
أ. عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الفريقان: (الدعاء سلاح المؤمن)، وفي عدة الداعي، في الحديث القدسي: (يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك)، وفي المكارم، عنه عليه السلام: (الدعاء أفضل من قراءة القرآن ـ لأن الله عز وجل قال (﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾)، وروي ذلك عن الباقر والصادق عليه السلام.
ب. في عدة الداعي، في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عن آبائه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه: وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل آمل أمل غيري بالإياس ولأكسونه ثوب المذلة في الناس ولأبعدنه من فرجي وفضلي، أيأمل عبدي في الشدائد غيري، والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني) الحديث، وفي عدة الداعي، أيضا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه وإن دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السماوات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن استغفرني غفرت له)، ما اشتمل عليه الحديثان هو الإخلاص في الدعاء وليس إبطالا لسببية الأسباب الوجودية التي جعلها الله تعالى وسائل متوسطة بين الأشياء وبين حوائجها الوجودية لا عللا فياضة مستقلة دون الله سبحانه، وللإنسان شعور باطني بذلك فإنه يشعر بفطرته أن لحاجته سببا معطيا لا يتخلف عنه فعله، ويشعر أيضا أن كل ما يتوجه إليه من الأسباب الظاهرية يمكن أن يتخلف عنه أثره فهو يشعر بأن المبدأ الذي يبتدئ عنه كل أمر، والركن الذي يعتمد عليه ويركن إليه كل حاجة في تحققها ووجودها غير هذه الأسباب ولازم ذلك أن لا يركن الركون التام إلى شيء من هذه الأسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقي ويعتصم بذلك السبب الظاهري، والإنسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجه والتفات فإذا سأل أو طلب شيئا من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك أنه سأل ربه واتصل حاجته، التي شعر بها بشعوره الباطني من طريق الأسباب إلى ربه فاستفاض منه، وإذا طلب ذلك من سبب من الأسباب فليس ذلك من شعور فطري باطني وإنما هو أمر صوره له تخيله لعلل أوجبت هذا التخيل من غير شعور باطني بالحاجة، وهذا من الموارد التي يخالف فيها الباطن الظاهر، ونظير ذلك: أن الإنسان كثيرا ما يحب شيئا ويهتم به حتى إذا وقع وجده ضارا بما هو أنفع منه وأهم وأحب فترك الأول وأخذ ب الثاني، وربما هرب من شيء حتى إذا صادفه وجده أنفع وخيرا مما كان يتحفظ به فأخذ الأول وترك الثاني، فالصبي المريض إذا عرض عليه الدواء المر امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحة، فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصحة فيسأل الدواء وإن كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه، فللإنسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطري والشعور الباطني وله نظام آخر بحسب تخيله والنظام الفطري لا يقع فيه خطاء ولا في سيره خبط، وأما النظام التخيلي فكثيرا ما يقع فيه الخطاء والسهو، فربما سأل الإنسان أو طلب بحسب الصورة الخيالية شيئا، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئا آخر أو خلافه، فعلى هذا ينبغي أن يقرر معنى الأحاديث، وهو اللائح من قول علي عليه السلام: (العطية على قدر النية) الحديث.
ج. في عدة الداعي، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)، وفي الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، فلا يظن بي إلا خيرا)، وذلك أن الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم السؤال في الحقيقة كما مر، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.
د. في العدة، أيضا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (أفزعوا إلى الله في حوائجكم، والجئوا إليه في ملماتكم، وتضرعوا إليه وادعوه، فإن الدعاء مخ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب فإما أن يعجله له في الدنيا أو يؤجل له في الآخرة، وإما أن يكفر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم)
هـ. في نهج البلاغة، في وصية له عليه السلام لابنه الحسين عليه السلام: (ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، وربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الأمل، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفي عنك وباله، والمال لا يبقى لك ولا تبقى له)، قوله: (فإن العطية على قدر النية) يريد عليه السلام به: أن الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإن اللفظ ربما لا يطابق المعنى المطلوب كل المطابقة كما مر بيانه فهي أحسن جملة وأجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسألة والإجابة، وقد بين عليه السلام بها عدة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الاستجابة عن الدعوة ظاهرا كالإبطاء في الإجابة، وتبديل المسئول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شيء آخر أصلح منه بحال السائل، فإن السائل ربما يسأل النعمة الهنيئة ولو أوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة فتبطئ إجابتها لأن السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الإجابة على بطء، وكذلك المؤمن المهتم بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك ويزعم أن فيه سعادته وإنما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لا دنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا.
و. في عدة الداعي، عن الباقر عليه السلام: (ما بسط عبد يده إلى الله عز وجل إلا استحيى الله أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه)، وفي خبر آخر: (على وجهه وصدره)، وقد روي في الدر المنثور، ما يقرب من هذا المعنى عن عدة من الصحابة كسلمان، وجابر، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن أبي مغيث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ثماني روايات، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لإنكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معللا بأنه من التجسم إذ رفع اليدين إلى السماء إيماء إلى أنه تعالى فيها ـ تعالى عن ذلك وتقدس ـ، وهو قول فاسد، فإن حقيقة جميع العبادات البدنية هي تنزيل المعنى القلبي والتوجه الباطني إلى موطن الصورة، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادة في قالب التجسم، كما هو ظاهر في الصلاة والصوم والحج وغير ذلك وأجزائها وشرائطها، ولولا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنية، ومنها الدعاء، وهو تمثيل التوجه القلبي والمسألة الباطنية بمثل السؤال الذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغني المتعزز العالي حيث يرفع يديه بالبسط، ويسأل حاجته بالذلة والضراعة، وقد روى الشيخ في المجالس والأخبار مسندا عن محمد وزيد ابني علي بن الحسين عن أبيهما عن جدهما الحسين عليه السلام عن النبي، وفي عدة الداعي، مرسلا: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين.
ز. في البحار، عن علي عليه السلام: أنه سمع رجلا يقول اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، قال عليه السلام: (أراك تتعوذ من مالك وولدك، يقول الله تعالى: (﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ ـ ولكن قل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن)، وهذا باب آخر في تشخيص معنى اللفظ وله نظائر في الروايات، وفيها: أن الحق في معنى كل لفظ هو الذي ورد منه في كلامه، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسير معنى الجزء والكثير وغير ذلك.
ح. في عدة الداعي، عن الصادق عليه السلام: (أن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه)، وفي العدة، أيضا عن علي عليه السلام: (لا يقبل الله دعاء قلب لاه)، وفي هذا المعنى روايات أخر، والسر فيه عدم تحقق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللهو.
ط. في دعوات الراوندي: (في التوراة يقول الله عز وجل للعبد: إنك متى ظلمت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل أنه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة)، وذلك أن من سأل شيئا لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا بكل ما يماثله من جميع الجهات، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لأجل ظلمه فهو راض بالانتقام من الظالم، وإذا كان هو نفسه ظالما لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه ولن يرضى أبدا عوقب بما يريده على غيره، وإن لم يرض بذلك لم يتحقق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾
ي. في عدة الداعي قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي ذر: (يا أبا ذر ألا أعلمك كلمات ينفعك الله عز وجل بهن؟ قلت بلى يا رسول الله، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه)، قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة): يعني ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتى يستجيب دعاءك في الشدة ولا ينساك، وذلك أن من نسي ربه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء، ثم إذا دعا ربه في الشدة كان معنى عمله أنه يذعن بالربوبية في حال الشدة وعلى تقديرها، وليس تعالى على هذه الصفة بل هو رب في كل حال وعلى جميع التقادير، فهو لم يدع ربه، وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر، ففي مكارم الأخلاق، عن الصادق عليه السلام: قال عليه السلام: (من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل البلاء، وقيل: صوت معروف، ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء وقالت الملائكة: إن ذا الصوت لا نعرفه) الحديث، وهو المستفاد من إطلاق قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ التوبة ـ 67، ولا ينافي هذا ما ورد أن الدعاء لا يرد مع الانقطاع، فإن مطلق الشدة غير الانقطاع التام.
ك. قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)، إرشاد إلى التعلق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة فإن هذه الأسباب العادية التي بين أيدينا إنما سببيتها محدودة على ما قدر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير بل ليس لها إلا الطريقية والوساطة في الإيصال، والأمر بيد الله تعالى، فإذن الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة وباب الكبرياء ولا يركن إلى سبب بعد سبب، إن كان أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها وهذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الأسباب إلا بالله الذي أفاض عليها السببية لا أنها هداية إلى إلغاء الأسباب والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه، كيف والداعي يريد ما يسأله بالقلب، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكل ذلك أسباب؟
ل. واعتبر ذلك بالإنسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنية فيعطي ما يعطي بيده ويرى ما يرى ببصره ويسمع ما يسمع بأذنه فمن يسأل ربه بإلغاء الأسباب كان كمن سأل الإنسان أن يناوله شيئا من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير أذن، ومن ركن إلى سبب من دون الله سبحانه وتعالى كان كمن تعلق قلبه بيد الإنسان في إعطائه أو بعينه في نظرها أو بأذنه في سمعها وهو غافل معرض عن الإنسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفل، وليس ذلك تقييدا للقدرة الإلهية غير المتناهية ولا سلبا للاختيار الواجبي، كما أن الانحصار الذي ذكرناه في الإنسان لا يوجب سلب القدرة والاختيار عنه، لكون التحديد راجعا بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل، إذ من الضروري أن الإنسان قادر على المناولة والرؤية والسمع لكن المناولة لا يكون إلا باليد، والرؤية والسمع هما اللذان يكونان بالعين والأذن لا مطلقا، كذلك الواجب تعالى قادر على الإطلاق غير أن خصوصية الفعل يتوقف على توسط الأسباب فزيد مثلا وهو فعل لله هو الإنسان الذي ولده فلان وفلانة في زمان كذا ومكان كذا وعند وجود شرائط كذا وارتفاع موانع كذا، لو تخلف واحد من هذه العلل والشرائط لم يكن هو هو، فهو في إيجاده يتوقف على تحقق جميعها، والمتوقف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك.
م. قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة)، تفريع على قوله: (وإذا سألت فاسأل الله)، من قبيل تعقيب المعلول بالعلة فهو بيان علة قوله: وإذا سألت، وسببه، والمعنى أن الحوادث مكتوبة مقدرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الأسباب فيها حقيقة، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى، وأما هو تعالى: فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيته نافذة وكل يوم هو في شأن، ولذلك عقب الجملة بقوله: ولو أن الخلق كلهم جهدوا إلخ.
ن. من أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضا: (أن الدعاء من القدر)، وفيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء: أن الحاجة المدعو لها إما أن تكون مقضية مقدرة أو لا، وهي على الأول واجبة وعلى الثاني ممتنعة، وعلى أي حال لا معنى لتأثير الدعاء، والجواب: أن فرض تقدير وجود الشيء لا يوجب استغناءه عن أسباب وجوده، والدعاء من أسباب وجود الشيء فمع الدعاء يتحقق سبب من أسباب الوجود فيتحقق المسبب عن سببه، وهذا هو المراد بقولهم: إن الدعاء من القدر، وفي هذا المعنى روايات أخر، ففي البحار، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: لا يرد القضاء إلا الدعاء، وعن الصادق عليه السلام: الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراما، وعن أبي الحسن موسى عليه السلام: عليكم بالدعاء فإن الدعاء والطلب إلى الله عز وجل يرد البلاء، وقد قدر وقضى فلم يبق إلا إمضاؤهـ فإذا دعي الله واسأل صرف البلاء صرفا، وعن الصادق عليه السلام: أن الدعاء يرد القضاء المبرم وقد أبرم إبراما فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه، وفيها إشارة إلى الإصرار وهو من محققات الدعاء، فإن كثرة الإتيان بالقصد يوجب صفاءه.
س. عن إسماعيل بن همام عن أبي الحسن عليه السلام: (دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية)، وفيها إشارة إلى إخفاء الدعاء وإسراره فإنه أحفظ لإخلاص الطلب.
ع. في المكارم، عن الصادق عليه السلام: (لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلى على محمد وآل محمد)، وعن الصادق عليه السلام أيضا: (من قدم أربعين من المؤمنين ثم دعا استجيب له)، وعن الصادق عليه السلام أيضا: وقد قال له رجل من أصحابه إني لأجد آيتين في كتاب الله أطلبهما فلا أجدهما قال فقال: وما هما قلت: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ فندعوه فلا نرى إجابة، قال أفترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال فمه؟ قلت: لا أدري ـ قال: لكني أخبرك من أطاع الله فيما أمر به ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه، قلت: وما جهة الدعاء؟ قال: (تبدأ فتحمد الله وتمجده وتذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلي على محمد وآله ثم تذكر ذنوبك فتقر بها، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء)، ثم قال وما الآية الأخرى؟ قلت: ﴿وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شيء فَهُوَيُخْلِفُهُ﴾ ـ وأراني أنفق ولا أرى خلفا، قال أفترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال فمه؟ قلت: لا أدري، قال: (لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وأنفق في حقه لم ينفق درهما إلا أخلف الله عليه)، والوجه في هذه الأحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنها تقرب العبد من حقيقة الدعاء والمسألة.
ف. في الدر المنثور، عن ابن عمر، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إن الله إذا أراد أن يستجيب لعبد أذن له في الدعاء)، وعن ابن عمر أيضا عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من فتح له منكم باب الدعاء ـ فتحت له أبواب الرحمة)، وفي رواية: (من فتح له في الدعاء منكم فتحت له أبواب الجنة)، وهذا المعنى مروي من طرق أئمة أهل البيت أيضا: (من أعطي الدعاء أعطي الإجابة)، ومعناه واضح مما مر.
ص. في الدر المنثور، أيضا عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال)، وذلك أن الجهل بمقام الحق وسلطان الربوبية والركون إلى الأسباب يوجب الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب وقصر المعلولات على عللها المعهودة وأسبابها العادية حتى أن الإنسان ربما زال عن الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب لكن يبقى الإذعان بتعين الطرق ووساطة الأسباب المتوسطة فإنا نرى أن الحركة والسير يوجب الاقتراب من المقصد، ثم إذا زال منا الاعتقاد بحقيقة تأثير السير في الاقتراب اعتقدنا بأن السير واسطة والله سبحانه وتعالى هو المؤثر هناك لكن يبقى الاعتقاد بتعين الوساطة وأنه لولا السير لم يكن قرب ولا اقتراب، وبالجملة أن المسببات لا تتخلف عن أسبابها وإن لم يكن للأسباب إلا الوساطة دون التأثير، وهذا هو الذي لا يصدقه العلم بمقام الله سبحانه فإنه لا يلائم السلطنة التامة الإلهية، وهذا التوهم هو الذي أوجب أن نعتقد استحالة تخلف المسببات عن أسبابها العادية كالثقل والانجذاب عن الجسم، والقرب عن الحركة، والشبع عن الأكل، والري عن الشرب، وهكذا، وقد مر في البحث عن الإعجاز أن ناموس العلية والمعلولية، وبعبارة أخرى توسط الأسباب بين الله سبحانه وبين مسبباتها حق لا مناص عنه لكنه لا يوجب قصر الحوادث على أسبابها العادية بل البحث العقلي النظري، والكتاب والسنة تثبت أصل التوسط وتبطل الانحصار، نعم المحالات العقلية لا مطمع فيها، إذا عرفت هذا علمت: أن العلم بالله يوجب الإذعان بأن ما ليس بمحال ذاتي من كل ما تحيله العادة فإن الدعاء مستجاب فيه كما أن العمدة من معجزات الأنبياء راجعة إلى استجابة الدعوة.
ق. في تفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ ـ (يعلمون أني أقدر أن أعطيهم ما يسألوني)، وفي المجمع، قال وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: (﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ أي وليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، أي لعلهم يصيبون الحق، أي يهتدون إليه)
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 2/31.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ لينالوا مني حاجاتهم، وصرف مهماتهم، وبأي وسيلة يتوسلون إلى ذلك، ولما كان تهيئة الوسيلة إليه راجعة إلى كرمه كان السؤال عنها سؤالاً عنه؛ لأنها لا تكون إلاَّ منه وكونها منه راجع إلى كرمه ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ ليس بعيداً كما يتصور الجاهلون، ويظنون أن الوسائط أقرب منه، بل هو قريب من عبده فيمكنه طلب حاجته منه بأيسر ما يكون.
2. ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ أي حين دعاني، وذلك يدل على سرعة الإجابة، وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه الحسن عليه السلام: (واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذِن لك في الدعاء وتكفَّل لك بالإجابة، وأمرَك أن تسأله ليعطيَك، وتسترحمَه ليرحمَك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عنك، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه)، إلى قوله عليه السلام: (فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضَيتَ إليه بحاجتك وأبثثته ذات نفسك، وشكوتَ إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائِه غيرُه، من زيادة الأعمار، وصحة الأبدان، وسعة الأرزاق، ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته واستمطرت شآبيب رحمته) انتهى المراد نقلته لأنه كالتفسير للآية، ولما فيه من التنبيه على كرم الله وعمومه لعباده، وأنه غير مقصور على من يتوسل بهم الناس، وأن استبعاد الإجابة مخالف لما دل عليه بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ حيث عمّهم كلهم، ولم يخص أهل الفضل منهم ليدعوه كلهم الفاضل والمفضول والمتقي والمذنب حتى يكونوا كلهم عابدين له بالدعاء متعرضين لفضله لا لفضل الوسائط، شاكرين له متى أجابهم، لا لمن يتوسلون به مستدلين بذلك على عموم كرمه لعباده، وسعة رحمته لهم في هذه الدنيا.
3. ذكر هنا بعض مبحثا مرتبطا بالتوسل نقلناه إلى محله من السلسلة.
4. سؤال وإشكال: دل قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ على سرعة الإجابة، فما معنى ذلك؟ والجواب: أنه يعجل له حيث الحكمة في التعجيل، فأما إذا اقتضت خلافه؛ وتأجيله أو تبديله فالإجابة لعلها الحكم به له، أي بالمؤجل أو البدل أو يصرف عنه بدلاً من المطلوب ما صرْفه أهم، وقد لا يعطى مطلوبه؛ لأنه ضر عليه كما قال تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء:11]، وفي كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام في (وصيته لابنه الحسن): (فلا يقنطنّك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النيّة، وربما أخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلربّ أمر قد طلبته؛ فيه هلاك دينك لو أوتيته) انتهى المراد، وسياق الآية يفهم منه هذا الاستثناء؛ لأن إجابة الدعاء الذي تكون إجابته أضر على صاحبه إلاَّ أنه لا يعلم، ليست مراده في الآية؛ لأن المقصود الدلالة على رحمة الله بعباده وإنعامه عليهم بقوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾
5. سرعة الإجابة فيما أجّل تكون بأن يكتب له ذلك وتكون كالموعود به من حين طلبه، كما روي في دعاء المريض رواه في (مجموع الإمام زيد بن علي) عن أبيه، عن جده، عن علي، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفيه في أثناء الحديث: (فإذا قال يا رب، قال: لبيك عبدي، لا تدعوني بشيء إلاَّ أستجبت لك على إحدى ثلاث خصال: إما أن أعجل لك ما تسألني، وإما أن أدّخر لك) الحديث، فالحاصل: أن الإجابة أن يكون ما هو بمنزلة الوعد له بما طلب أو بما هو خير له، وهذا إذا لم يطلب خلاف القضاء المحتوم أو خلاف الحكمة.
6. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ فاستجابتهم لدعوة الله وإيمانهم به توسل إلى رشادهم، وشكرٌ لربهم على نعمة الحث على الدعاء والوعد بالإجابة، أو نعمة الإجابة.
7. الرشد: الاهتداء للخير، ويستعمل بمعنى الخير نفسه، كما في قول الله تعالى: ﴿أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن:10] وهو في الأول أظهر، وفي المقابلة في الآية بين إجابة الله لعباده واستجابتهم له إرشاد إلى الشكر، ودلالة على كرم الله ورحمته؛ لأنه يستجيب لهم وهو غني عنهم وأكثرهم لا يستجيبون له وهو منعم عليهم وهم محتاجون إليه، وقد تخللت هذه الآية آيات صيام شهر رمضان، فوضعها هنا يشير إلى اغتنام الدعاء في الشهر الكريم كما قال في (الحج): ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/256.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. ربّما كانت الأجواء التي عاشت فيها الآيات المتقدمة، من تقوى الله التي ينطلق فيها الإنسان مع الصوم، ومن شكر الله على ما أنعم به على الإنسان من نعمة الطاعة والرعاية والتيسير.. ربما كانت هذه الأجواء تحمل الكثير من الإيحاءات الحميمة التي تفتح قلب الإنسان على الله في محاولة للتقرّب إليه، كوسيلة من وسائل الحصول على لطفه ومحبته ورضاه في كثير مما يهم الإنسان من شؤون حياته في تطلعاتها وأحلامها وآلامها، وهذا مما يجعل القضية تلح على وجدان الإنسان، في سؤال عميق عن طبيعة العلاقة التي تشد الخالق إلى مخلوقاته، فكانت هذه الآية تقريرا لروعة الألوهية التي انطلقت عظمتها وقوتها في رحمتها للعباد، فهي قريبة الى كل آمالهم وآلامهم ومطامحهم ونوازعهم في شتى مجالات حياتهم، تستمع إليهم في دعواتهم، وتلبيهم في نداءاتهم، وتستجيب لهم في مناجاتهم من دون وسيط أو شفيع، بل هي الكلمات التي تنطلق من القلب لترتفع إلى السماء حيث المحبة والرحمة والعفو والمغفرة.
2. إنها دعوة الله إلى عبده أن يستجيب له، فيدعوه لأن في ذلك خلاصا له من كل سوء أو شدة، وتحررا عن كل عبودية لغير الله عندما يشعر أن الله هو وليّ حاجته، فمنه الفرج لكل شدة، وبه الخلاص من كل سوء، وهو ـ لا غيره ـ مالك الدنيا والاخرة، ووليّ الحياة والموت، وبيده مقاليد الأمور، وذلك هو سبيله الى الشعور بالأمن والطمأنينة والاستقرار، حين يشعر بأن حاجاته الصعبة هي في دائرة رحمة القادر على قضائها والعالم بما يصلحه أو يفسده منها.. وهي في الوقت نفسه دعوة إلى الإيمان به، لأنه الحقيقة الواضحة التي لا يحتاج الإنسان في وعيها، وفي الإيمان بها، إلى مزيد من الفكر والتأمل والمعاناة، بل يلتقي بها في كل شيء يعيش معه، وفي كل ظاهرة من ظواهر الوجود، وفي الحالين معا، في الدعاء عندما ينطلق، وفي الإيمان عندما يتحرك الرشد ـ كل الرشد ـ في واقع الحياة وفي حركتها الصاعدة أبدا إلى الله.
3. الدعاء ـ بعد ذلك كله ـ عبادة تهزّ أعماق الإنسان بالشعور بوجود الله وحضوره في كل ملتقى للإنسان في ما يهمه من أمور الحياة، وفي ما يثيره من شؤون الاخرة، وهي عبادة لا تفرض عليه كلماتها وأجواؤها من خارج ذاته، من خلال تعليمات مفروضة، بل هي مشاعره وأفكاره وحاجاته وآلامه وآماله وكلماته المنطلقة من ذاته في أسلوب عفوي محبب في جو حميم يفقد معه الشعور بالفواصل التي تفصله عن الله بما تمثله علاقة العبد بالسيد، أو علاقة المخلوق بخالقه، بل هو الجو الذي يحس فيه بالانفتاح والامتداد في أجواء المطلق، وتلك هي السعادة، كل السعادة، والروحية الفياضة بالنور والعطر والحياة، إنها عبادة الإنسان التي تتحرك معها حياته كلها بين يدي الله، في شعور بالمحبة الذاتية الخالصة التي لا يعرف روعتها إلا المخلصون من عباد الله، وقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (الدعاء مخ العبادة)، وعنه أيضا: (الدعاء هو العبادة)
4. ربما تثار أمام الدعاء عدة ملاحظات:
أ. أولها: ما أثاره اليهود حين قالوا: إن الله لما خلق الأشياء وقدّر التقادير تمّ الأمر، وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتّمه من القضاء، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لأن الأمر مفروغ عنه، وقد عبّروا عن هذه الفكرة في الدعاء بأسلوب الاستدلال، فقالوا ـ في ما نقل عنهم ـ (إن الحاجة المدعوّ لها إما أن تكون مقضيّة مقدّرة أولا، وهي على الأول واجبة، وإن لم تكن كذلك فهي ممتنعة، وعلى أي حال لا معنى لتأثير الدعاء)، والجواب عن ذلك أن التقدير الإلهي للأشياء لا يعني تحقق الشيء بشكل مطلق من دون سبب أو علّة، بل يعني أن الله قدّر لها الوجود بأسبابها المادية والمعنوية، فلا منافاة بين تقدير وجودها وتوقفها على حصول الأسباب، وقد يكون الدعاء سببا معنويا للوجود بالإضافة إلى الأسباب المادية الأخرى التي يرتبط بها ارتباطا عفويا؛ فإذا لم يصدر الدعاء من العبد لم يوجد شيئا ـ حسب التقدير الإلهي ـ لأن سببه المعنوي لم يوجد، وهذا ما قد تشير إليه الأحاديث المتضافرة عن أهل البيت عليهم السّلام: (من القدر الدعاء)، لأن الله جعل له دورا في مسألة التقدير:
• وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، في رواية ميسر بن عبد العزيز عنه، كما ورد في الكافي، (قال: قال لي: يا ميسر: ادع ولا تقل إن الأمر قد فرغ منه، إن عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أن عبدا سدّ فاه ولم يسأل لم يعط شيئا، فسل تعط، يا ميسر إنه ليس من باب يقرع إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه)
• وقد جاء في بعض الأحاديث عن الدعاء أنه يرد القضاء وقد أبرم إبراما، كما جاء في رواية بسطام الزيّات عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال: (إن الدعاء يرد القضاء وقد نزل من السماء وقد أبرم إبراما)
• وروى أبو همام إسماعيل بن همام عن الرضا عليه السّلام قال قال علي بن الحسين عليه السّلام: (إن الدعاء والبلاء ليترافقان إلى يوم القيامة، إن الدعاء يرد البلاء وقد أبرم إبراما) وربما يفسّر هذا الحديث وما قبله بأن الأسباب المادية التي تفرض وجود البلاء وتهيّئ الظروف لحركة القضاء، قد تكون متوفرة في الواقع الذي يحيط بالإنسان في دائرة الظروف الموضوعية المتصلة بعلاقة المسبب بالسبب، فيأتي الدعاء ليعطل ذلك في درجة الفعلية بعد أن تكون الشأنية الذاتية مقتضية له، لتكون المسألة أن الله جعلها أسبابا لولا الدعاء، حيث يأخذ الدعاء دور المانع عن تأثير المقتضي في المقتضى.
• وقد يشير إلى ذلك الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام الذي رواه إسحاق بن عمار قال قال أبو عبد الله عليه السلام: (إن الله ليدفع بالدعاء الأمر الذي علمه أن يدعى له فيستجيب، ولولا ما وفق العبد من ذلك الدعاء لأصابه منه ما يجثه الأرض)
• ويؤكد ذلك الحديث المروي عن أبي ولاد قال قال أبو الحسن موسى الكاظم عليه السلام: (عليكم بالدعاء فإن الدعاء لله والطلب إلى الله يرد البلاء، وقد قدّر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه، فإذا دعي الله ـ عز وجل ـ واسأل، صرف البلاء صرفه)
ب. ثاني هذه الملاحظات: (إن الدعاء وسيلة من وسائل التحذير الذاتي، الذي يدفع الإنسان إلى الكسل والتواكل والابتعاد عن الأخذ بالأسباب الطبيعة في الأشياء، وعن الانفتاح على حركة الحياة من أجل تنميتها وتقويتها وتطويرها، ويبتعد بالإنسان عن عالم الحس إلى عالم الغيب، ليكون غيبيا في وعيه للحياة بالإضافة إلى كونه غيبيا في ما وراءها)، ونجيب عن ذلك بأن دراسة الأحاديث الواردة في الحث على الدعاء توحي بأنه ليس بديلا عن الأخذ بالأسباب الطبيعية المقدورة للإنسان في الوصول إلى أهدافه وحاجاته، لأن مورده هو الحالات التي لا يملك فيها الوسائل الطبيعية لتحقيق غاياته، وهذا ما جاءت به الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام:
• فقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق مما رواه الوليد بن صبيح عنه، كما في الكافي، قال: (صحبته بين مكة والمدينة، فجاءه سائل فأمر أن يعطى، ثم جاء آخر فأمر أن يعطى، ثم جاء آخر فأمر أن يعطى، ثم جاء الرابع فقال أبو عبد الله عليه السّلام: يشبعك الله، ثم التفت إلينا فقال: أما إن عندنا ما نعطيه ولكن أخشى أن نكون أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة: رجل أعطاه الله مالا فأنفقه في غير حقه، ثم قال اللهم ارزقني فلا يستجاب له، ورجل يدعو على امرأته أن يريحه منها، وقد جعل الله عز وجل أمرها إليه، ورجل يدعو على جاره، وقد جعل الله له السبيل إلى أن يتحوّل عن جواره ويبيع داره)
• وفي رواية أخرى عنه مما رواه عنه جعفر بن إبراهيم قال: (أربعة لا تستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب، ورجل كان له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك، ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد، ألم آمرك بالإصلاح، ثم قال ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67] ورجل كان له مال فأدان بغير بينة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة)
• وجاء عن النبي صلّى الله عليه وآله قوله: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلطن الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)
فإننا نلاحظ في الحديثين الأولين تأكيدا على عدم استجابة الدعاء ممن يملك الوصول إلى غايته وتحقيق مراده بالوسائل الموجودة عنده، ولكنه يهملها ويلجأ إلى الدعاء، الأمر الذي يدل على أن الدعاء يمثل الوسيلة التي يلجأ إليها الإنسان حيث لا وسيلة لديه، لأن الله لا يريد للإنسان أن يجعل من إيمانه بربه سبيلا للابتعاد عن سنن الله في الحياة، التي جعلها أساسا للعلاقة بين الأسباب والمسببات في الواقع الإنساني في شؤونه وحاجاته وأوضاعه الاختيارية.. وهذا ما يمثله معنى التوكل في توكل الإنسان على الله، بعد استنفاد كافة الوسائل التي تحقق له غرضه، فلا يسقط أمام حالة العجز بل يترك أمره إلى الله الرحمن الرحيم القادر على كل شيء والذي يحب عباده المتوكلين عليه، كما أن الحديث الثالث يؤكد أن التخلص من الأشرار يفرض القيام بمواجهتهم بالوسائل الموجودة ثم الدعاء، لا إهمال الواقع الفاسد ثم الدعاء، ومع هذه الملاحظة، فكيف يمكن أن يدّعى أحد أن الدعاء يجعل الإنسان غيبيا في حياته العملية، حتى في موارد قدرته على الارتباط بعالم الحسّ، ويعزله عن حركة النشاط الطبيعي في الواقع الذي يتحمل مسئوليته؟
ج. ثالث هذه الملاحظات: (إن الدعاء يتنافى مع رضى الإنسان بقضاء الله وقدره، لأنه لا يصبر على الواقع الذي يعيش في داخله مما قدّره الله له)، وهذه شبهة لا معنى لها، لأن الدعاء ـ كما ذكرنا ـ جزء من الوسائل التي أراد الله للإنسان أن يأخذها في استكمال نظام الحياة التي جعل الله فيها لكل شيء قدرا في عناصره المادية والمعنوية، وكما أن الله لا يريد للإنسان أن يصبر على البلاء الذي يقدر على دفعه عن نفسه بالوسائل المادية، فإنه لا يريد له أن يبتعد عن الرجوع إليه بالأخذ بالوسائل الروحية، ومنها الدعاء في دفعه، مما يعني أنه يحقق إرادة الله في ذلك لأنه جعل قضاءه وقدره مربوطين بمسألة الدعاء سلبا أو إيجابا، وهذا هو الرد على من قال ـ في الاعتراض على الدعاء ـ: بأنه تدخل في شؤون الله، والله يفعل ما يريد مما ينسجم مع مصالحنا، فلما ذا نطلب منه ونتضرع إليه!؟ إذ إن الله يريد الأشياء بأسبابها ويحرك مصالحنا في اتجاه هذه الأسباب المادية والروحية، ونحن نطلب منه لأنه أراد منا ذلك.
5. ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ في قلق المعرفة وحيرة الفكر، انطلاقا من عالم الغيب الذي لا يملكون السبيل إليه بطريقة حسية، ومن علوّ الألوهية وسموّها وارتفاعها في آفاق العظمة التي لا يدركون كنهها وحقيقتها، ولا يعرفون الوسيلة التي ينطلق فيها الإنسان إلى ربه، والعلاقة التي تربطه به في حاجاته التي يتطلبها، وفي مشاعره التي يحس بها، وفي تطلعاته التي يهفو إليها، ولا يدرون كيف يتحدثون معه، ويصلون إليه، وهو البعيد عنهم بعد السماء عن الأرض في الغموض الكثيف الذي يلف السماء في مفهومها الطبيعي في أفكارهم، الأمر الذي يخيل إليهم أنه لا مجال لأية صلة بينهم وبينه، لأنها تنطلق من مواقع القرب المكاني الذي لا دور له هنا، والمعنوي الذي لا مجال له بين العبد في حقارة موقعه وبين الرب الذي هو في العلو الأعلى الذي ليس فوقه شيء، لكن الله، الذي يعلم عمق أسرار عباده، ودقّة أحاسيسهم، وضبابية الغيب في تصوراتهم، وقلق المعرفة في دائرة الحيرة في علامات الاستفهام الكامنة في ذواتهم، أراد أن يستبق السؤال ـ في حال صدوره منهم ـ بالجواب عن السؤال المتحرك في وجدانهم الخفي، وهذا هو الفرق بين أسلوب السؤال هنا، وأسلوب السؤال في الأسئلة التي يقدمها الناس إلى النبي صلّى الله عليه وآله، مما حدثنا الله عنه بعنوان ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ لأن هذا السؤال كان في الأعماق، وفي همسات النفس، وهواجس الفكر بحيث يمثل علامة استفهام جنينية، فهو الحالة الشأنية في السؤال، بينما ما ورد في القرآن من أسئلة الناس كان يمثل الفعلية التي تبحث عن معرفة كل ما يدور في الذهن، مما يجهله الناس ويتطلبون معرفته.
6. ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ لأني لست وجودا محصورا في المكان لتكون المسافات هي التي تفصلني عنهم، بل هو الوجود الكلي في القدرة والإحاطة والشمول، فلا يغيب عنه شيء، فهو العالي في علوّه في الوقت الذي هو الداني في دنوّه، فلا شيء أقرب إلى عباده منه، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 24]، إنه الحاضر الذي لا يملك أحد معنى حضوره في وجود الإنسان لأنه سرّ وجوده، ولهذا كان قربه إليه من خلال ارتباط ذاته به، فهو الذي يمنحها الوجود في كل آن من جهة فقره المطلق إليه.
7. إذا كانت المسألة بهذا المستوى من معنى قرب الله إلى عبده، فإن على عباده أن يتعاملوا معه من موقع هذا القرب، ليتحدثوا معه حديث القريب إلى القريب، سرّا وجهرا، في همسة الروح، وتمتمة الشفاه، وانفتاح القلب.. ليجدوا فيه المعنى الروحي للقرب من عمق رحمته، ليتحسسوا وجوده في وجودهم، فلا يشعروا بالانفصال عنه، وليعيشوا لهفة الفقر في غناه، وصرخة الحرمان إلى عطائه لتكون حاجاتهم بين يديه، فهو الذي يسمع من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين، ويسمع الأنين والشكوى، ويعلم السرّ وأخفى، ويسمع ووساوس الصدور.
8. هكذا خاطب الله كل واحد منهم بالأمل الحي، الأخضر، المنفتح على النتائج الإيجابية لكل طلباتهم، باعتبار أنهم عباده الذين خلقهم، وأفاض عليهم من نعمه، وتكفل بتدبيرهم في حياتهم كلها، وقرّبهم إليه، ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ من كل عمق الإخلاص في قلبه، وصدق المسألة في لسانه، وحقيقة الإحساس بالفقر والحاجة في روحه، وخفقة الإحساس في شعوره، ورقة الدموع في عينيه، ورعشة الخشوع في كيانه.. إنه الدعاء الذي ينبع من وجود الذات في إنسانيتها المؤمنة بخالقها، المنفتحة عليه، المستغيثة به، المستجيرة بقدرته، الراجعة إليه في كل أمورها، من دون وسيط بل، هو العبد بين يدي ربه.
9. إذا عاش الإنسان هذا الروح الإلهي في الدعاء، كانت الإجابة قريبة منه لطفا به ورحمة له، وقد يؤخّر الله الإجابة لمصلحته، لأن المسألة التي أرادها لم تتوفر عناصر وجودها في هذا الوقت من خلال الظروف الخاصة أو العامة، أو لم تكن له المصلحة في الإجابة الآن، وقد لا تتحقق الإجابة أصلا لأن مضمون الدعاء لم يكن مرضيا عند الله لاشتماله على طلب حرام، أو ترك واجب، أو مضرة إنسان لا يستحق إيقاع الضرر به، أو لتعلقه ببعض الأمور التي لا تتناسب مع حركة النظام الكوني أو الاجتماعي العام، ونحو ذلك.. فإن مسألة الإجابة ليست مطلقة من خلال رغبة الإنسان ومزاجه، بل من خلال مصلحته، لأن الآية واردة ـ على الظاهر ـ في التدليل على استجابة الله لدعاء الداعي من حيث المبدأ، في مقابل عدم الاستجابة له مطلقا، كما قد يحدث في بعض الناس الذين لا يستجيبون للطلبات المقدمة إليهم تكبرا وترفعا وتجبرا على الطالبين، لتبين بأن الله يستجيب للداعين دعاءهم من موقع قربه إليهم، وإلى ما يصلح أمرهم ويحقق لهم غاياتهم، مع عدم وجود مانع ذاتي في متعلق الدعاء للإنسان أو لغيره من الناس أو للحياة من حوله.
10. ورد أن من شروط استجابة الدعاء الإقبال على الله بقلبه، بحيث ينفتح على الله بوعي الكلمة والموقف بين يديه:
أ. فلا يستجيب دعاء اللاهي الغافل الذي يتحوّل الدعاء عنده إلى كلمات لا عمق لها في القلب، فقد جاء في حديث الإمام جعفر الصادق عليه السّلام عن سليمان بن عمرو قال سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: (إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الإجابة)
ب. وجاء في بعض الأحاديث أن صاحب اللسان البذيء، والقلب العاتي الجبار، والنية غير الصادقة، لا يستجاب دعاؤه، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال: كان في بني إسرائيل رجل، فدعا الله أن يرزقه غلاما ثلاث سنين، فلما رأى أن الله لا يجيبه قال يا رب أبعيد أنا منك فلا تسمعني، أم قريب أنت مني فلا تجيبني!؟ قال فأتاه آت في منامه فقال: إنك تدعو الله ـ عز وجل ـ منذ ثلاث سنين بلسان بذيء، وقلب عات غير تقي، ونية غير صادقة، فأقلع عن بذائك، وليتق الله قلبك، ولتحسن نيتك، فقال: ففعل الرجل ذلك، ثم دعا الله فولد له غلام، ولعل لبذاءة اللسان أي ألفاظه، وقسوة القلب في أحاسيسه، دور في إبعاد الإنسان عن الله، بحيث لا يعيش روحية الدعاء في موقفه البعيد عن خط التقوى.
ج. وفي وصية الإمام علي عليه السّلام لولده الحسن عليه السّلام، كما في نهج البلاغة قال: (ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته، فلا يقنطنّك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، وربما أخرت عنك الإجابة، ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء الأمل، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه، وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك في ما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له)، ففي هذه الفقرات من الوصية أن الله ينظر إلى قلب الداعي في حجم القضايا التي يحملها ويتطلع إليها في أعماقه، مما قد لا يعبر اللفظ عنه، لأن اللفظ قد لا يدلّ على الافاق الواسعة التي ينفتح عليها القلب، الأمر الذي يؤكد أن الدعاء في القلب قبل أن يكون في اللسان، وبمقدار النية قبل أن تكون بمقدار المعنى المدلول عليه باللفظ، فتكون الاستجابة على قدر النية، وفي هذه الوصية أن الاستجابة قد لا تكون في دائرة المطلوب لأنها لا تحقق مصلحة للداعي، أو قد تسبب مفسدة له، ولكن الله لا يهمل للداعي تطلعاته للخير من خلال ما اعتقده خيرا في دعائه، بل يختار له في مبدأ الاستجابة ما هو الأفضل والأوسع والأغنى في الدنيا أو في الاخرة، وهذا هو سر الرحمة الإلهية في رعاية الله لعبده الذي يمنحه الخير من خلال دعائه وتضرعه إليه، حتى لو كان الدعاء في اتجاه آخر، لأن المسألة هي أن يستجيب له في انفتاح الخير على حياته لا في مفردات الدعاء بذاتها.
11. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ في كل نداءاتي ودعواتي وأوامري ونواهيّ.. التي أردت لهم من خلالها الصلاح في دنياهم وأخراهم، لتكون حياتهم متوازنة منفتحة على الخير في كل أوضاعهم، ولتنطلق آخرتهم في خط الاستقامة المنفتح على الله.
12. ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ وبربوبيتي الشاملة، وبتوحيدي في الألوهية والعبادة والطاعة، لأن ذلك هو الذي يؤكد الصلة بين العبد وربه، ليعيش الحضور الإلهي في عقله وروحه وحياته، وليدرك معنى القرب الذي يوحي به الله إليه، ليكون قريبا إلى ربه بالاستجابة له والإيمان به كما أن ربه قريب إليه، وفي كلا الحالين تعود المنفعة له.
13. ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ لأنهم إذا استجابوا لله انطلقوا في خط الوعي للحياة في كل قضاياها العامة والخاصة، ولإنسانيتهم في كل خصائصها الداخلية والخارجية، وتحركوا نحو الأهداف من موقع الرشد العملي الذي يضع الأمور في مواضعها.. وإذا آمنوا به الإيمان العميق الشامل الذي ينطلق من سكينة العقل وطمأنينة الروح، فإنه يقف على أرض صلبة ثابتة بعيدة عن الاهتزاز، ويسير إلى الحياة من خلال انطلاق الوجود من مبدأ الإله الواحد الذي ينطلق الخير منه، ويقف الحق عنده، وتنطلق الرحمة منه، مما يعني الانطلاق في خط الرشد الفكري الذي ينفتح على الله الذي هو الحق، ليكون الفكر كله حقا لا مجال للباطل معه.
14. إذا كان اعتبار الرشد هدفا من الاستجابة لله والإيمان به، فإن من الممكن أن نستوحي من ذلك أن الله ـ سبحانه ـ يوجه عباده إلى السير على خط الإيمان بالله، الذي يجعل العقل يشرق بالنور الإلهي، ليتأسس التوحيد على قاعدة للفكر تبتعد به عن كل الآلهة المزعومين، ممن يؤلّهون أنفسهم، أو يؤلّههم الناس من دون الله، ليستقيم لهم أن يوحدوا الخط العملي في خط الاستقامة، وإلى الاستجابة لله في خطوط الإسلام الفكرية والعملية، حيث يتحول الإنسان من خلال تأثير ذلك في الشخصية إلى إنسان رشيد في عقله وفي حركته وعلاقته بالآخرين، بحيث يحرّك طاقاته في المواقع التي تمنح الحياة العامة ما تحتاجه منها، فلا يضيع منها شيء في الفراغ أو في ما لا ينفع الحياة والناس، سواء كانت الطاقات طاقات الإنسان في داخل ذاته، أو في الزمن الذي جعله الله مسئولية الإنسان في الانتفاع به في كل مفرداته الصغيرة والكبيرة، لأنه يمثل عمره في مراحله المتعددة، أو في القوى المادية التي يملكها الإنسان مما رزقه الله إياه وأعده له وسخّره لخدمة حياته، فلا يريد الله لها أن تضيع في متاهات اللهو والعبث الذي لا يؤدي إلى أية نتيجة في الحياة.
15. إن الرشد يمثل الحركة الإنسانية السائرة في النور، لتصل بالطاقة إلى أهدافها التي خلقت لها في النتائج الكبرى التي تتحقق من خلالها في الحياة والإنسان، ليكون السفه عبارة عن إهدار تلك الطاقة وتضييعها وإطلاقها في صحراء الفراغ.
__________
(1) من وحي القرآن: 4/33.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1).:
1. سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الله سبحانه، أهو قريب ليناجيه بصوت خفي أم بعيد ليدعوه بصوت مرتفع؟ فنزلت الآية.
2. بعد أن ذكرت الآيات السابقة مجموعة هامّة من الأحكام الإسلامية، تناولت هذه الآية موضوع الدعاء باعتباره أحد وسائل الارتباط بين العباد والمعبود سبحانه، ومجيء هذه الآية في سياق الحديث عن الصوم، يعطيه مفهوما جديدا، إذ أن الدعاء والتقرب إلى الله روح كل عبادة.
3. هذه الآية تخاطب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وتقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، إنه أقرب ممّا تتصورون، أقرب منكم إليكم، بل ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾
4. ثم تقول الآية: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، إذن ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، ويلفت النظر في الآية، أن الله سبحانه أشار إلى ذاته المقدسة سبع مرات، وأشار إلى عباده سبعا! مجسدا بذلك غاية لطفه وقربه وارتباطه بعباده.
5. روى عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السّلام قال (الدّعاء يردّ القضاء بعد ما أبرم إبراما فأكثر من الدّعاء فإنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلّ حاجة ولا ينال ما عند الله عزّ وجلّ إلّا بالدّعاء وإنّه ليس باب يكثر قرعه إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه)، نعم، إنه قريب منّا، وكيف يبتعد وهو سبحانه ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾
6. أولئك الجاهلون بحقيقة الدعاء وآثاره التربويّة والنفسية، يطلقون أنواع التشكيك بشأن الدعاء:
أ. يقولون: الدعاء عامل مخدّر، لأنه يصرف النّاس عن الفعّالية والنشاط وعن تطوير الحياة، ويدفعهم بدلا من ذلك إلى التوسّل بعوامل غيبية.
ب. ويقولون: إن الدعاء تدخّل في شؤون الله، والله يفعل ما يريد، وفعله منسجم مع مصالحنا، فما الداعي إلى الطلب منه والتضرّع إليه!؟
ج. ويقولون أيضا: إنّ الدعاء يتعارض مع حالة الإنسان الراضي بقضاء الله المستسلم لإرادته سبحانه!
7. هؤلاء يطلقون هذا التشكيك لجهلهم بالآثار التربوية والنفسية والاجتماعية للدعاء، فالإنسان بحاجة أحيانا إلى الملجأ الذي يلوذ به في الشدائد، والدعاء يضيء نور الأمل في نفس الإنسان، من يبتعد عن الدعاء يواجه صدمات عنيفة نفسية واجتماعية، وعلى حد تعبير أحد علماء النفس المعروفين: (ابتعاد الامّة عن الدعاء يعني سقوط تلك الامّة! المجتمع الذي قمع في نفسه روح الحاجة إلى الدعاء سوف لا يبقى مصونا عادة من الفساد والزوال، ومن نافلة القول أنه من العبث الاكتفاء بالدعاء لدى الصباح وقضاء بقية اليوم كالوحش الكاسر، لا بدّ من مواصلة الدعاء، ومن اليقظة المستمرة، كي لا يزول أثره العميق من نفس الإنسان)، وأولئك الذين يصفون الدعاء بأنه تخديري لم يفهموا معنى الدعاء، لأن الدعاء لا يعني ترك العلل والوسائل الطبيعية واللجوء بدلها إلى الدعاء، بل المقصود أن نبذل نهاية جهدنا للاستفادة من كل الوسائل الموجودة، بعد ذلك إن انسدت أمامنا الطرق، وأعيتنا الوسيلة، نلجأ إلى الدعاء، وبهذا اللجوء إلى الله يحيى في أنفسنا روح الأمل والحركة، ونستمد من عون المبدأ الكبير سبحانه.
8. الدعاء إذن لا يحل محل العوامل الطبيعية، (الدعاء ـ إضافة إلى قدرته في بث الطمأنينة في النفس ـ يؤدي إلى نوع من النشاط الدماغي في الإنسان، وإلى نوع من الانشراح والانبساط الباطني وأحيانا إلى تصعيد روح البطولة والشجاعة فيه، الدعاء يتجلى بخصائص مشخصة فريدة.. صفاء النظرة، وقوة الشخصية، والانشراح والسرور، والثقة بالنفس، والاستعداد للهداية، واستقبال الحوادث بصدر رحب، كل هذه مظاهر لكنز عظيم دفين في نفوسنا، وانطلاقا من هذه القوّة يستطيع حتى الأفراد المتخلفون أن يستثمروا طاقاتهم العقلية والأخلاقية بشكل أفضل، وأكثر، لكن الأفراد الذين يفهمون الدعاء حق فهمه قليلون جدا ـ مع الأسف ـ في عالمنا اليوم)
9. ممّا تقدم نفهم الرد على من يقول أن الدعاء يخالف روح الرضا والتسليم، لأن الدعاء ـ كما ذكرنا ـ نوع من كسب القابلية على تحصيل سهم أكبر من فيض الله اللامتناهي، بعبارة أخرى: الإنسان ينال بالدعاء لياقة أكبر للحصول على فيض الباري تعالى، وواضح أن السعي للتكامل ولكسب مزيد من اللياقة هو عين التسليم أمام قوانين الخليقة، لا عكس ذلك.
10. أضف إلى ذلك، الدعاء نوع من العبادة والخضوع والطاعة، والإنسان ـ عن طريق الدعاء ـ يزداد ارتباطا بالله تعالى، وكما أن كلّ العبادات ذات أثر تربوي كذلك الدّعاء له مثل هذا الأثر، والقائلون أن الدعاء تدخّل في أمر الله وأن الله يفعل ما يشاء، لا يفهمون أن المواهب الإلهية تغدق على الإنسان حسب استعداده وكفاءته ولياقته، وكلّما ازداد استعداده ازداد ما يناله من مواهب، لذلك يقول الإمام الصادق عليه السّلام: (إنّ عند الله عزّ وجلّ منزلة لا تنال إلّا بمسألة)، ويقول أحد العلماء: (حينما ندعو فإننا نربط أنفسنا بقوة لا متناهية تربط جميع الكائنات مع بعضها)، ويقول: (إنّ أحدث العلوم الإنسانية ـ أعني علم النفس ـ يعلّمنا نفس تعاليم الأنبياء، لماذا؟ لأن أطباء النفسانيين أدركوا أن الدعاء والصلاة والإيمان القوي بالدين يزيل عوامل القلق والاضطراب والخوف والهيجان الباعثة على أكثر أمراضنا)
11. علمنا أنّ الدعاء إنّما يكون فيما خرج عن دائرة قدرتنا، بعبارة أخرى الدعاء المستجاب هو ما صدر لدى الاضطرار وبعد بذل كل الجهود والطاقات ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، يتضح من ذلك أن مفهوم الدعاء طلب تهيئة الأسباب والعوامل الخارجة عن دائرة قدرة الإنسان، وهذا الطلب يتجه به الإنسان إلى من قدرته لا متناهية ومن يهون عليه كل أمر.
12. هذا الطلب طبعا يجب أن لا يصدر من لسان الإنسان فقط، بل من جميع وجوده، واللسان ترجمان جميع ذرات وجود الإنسان وأعضائه وجوارحه، يرتبط القلب والروح بالله عن طريق الدعاء ارتباطا وثيقا، ويكتسبان القدرة عن طريق اتصالهما المعنوي بالمبدأ الكبير، كما تتصل القطرة من الماء بالبحر الواسع العظيم.
13. جدير بالذكر أن هناك نوعا آخر من الدعاء يردّده المؤمن حتى فيما اقتدر عليه من الأمور، ليعبّر به عن عدم استقلال قدرته عن قدرة الباري تعالى، وليؤكد أن العلل والعوامل الطبيعية إنما هي منه سبحانه، وتحت إمرته، فإن بحثنا عن الدواء لشفاء دائنا، فإنّما نبحث عنه لأنّه سبحانه أودع في الدواء خاصية الشفاء (هذا نوع آخر من الدعاء أشارت إليه الروايات الإسلامية أيضا)، بعبارة موجزة: الدعاء نوع من التوعية وإيقاظ القلب والعقل، وارتباط داخلي بمبدإ كل لطف وإحسان، لذلك نرى أمير المؤمنين عليا عليه السّلام يقول: (لا يقبل الله عزّ وجلّ دعاء قلب لاه)، وعن الإمام الصادق عليه السّلام: (إنّ الله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه)
14. دراسة شروط استجابة الدعاء توضّح لنا كثيرا من الحقائق الغامضة في مسألة الدعاء، وتبين لنا آثاره البناءة، والروايات الإسلامية تذكر شروطا لاستجابة الدعاء منها:
أ. ينبغي لمن يدعو أن يسعى أولا لتطهير قلبه وروحه، وأن يتوب من الذنب، وأن يقتدي بحياة قادة البشرية الإلهيين، عن الإمام الصادق عليه السّلام: (إيّاكم أن يسأل أحدكم ربّه شيئا من حوائج الدّنيا والاخرة حتّى يبدأ بالثّناء على الله، والمدحة له والصّلاة على النّبّي وآله، والاعتراف بالذّنب، ثمّ المسألة)
ب. أن يسعى الداعي إلى تطهير أمواله من كل غصب وظلم، وأن لا يكون طعامه من حرام، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (من أحبّ أن يستجاب دعاؤه فليطب مطعمه ومكسبه)
ج. أن لا يفترق الدعاء عن الجهاد المستمرّ ضدّ كل ألوان الفساد، لأنّ الله لا يستجيب ممن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليسلّطنّ الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)، ترك هذه الفريضة الإلهية (فريضة المراقبة الاجتماعية) يؤدي إلى خلوّ الساحة الاجتماعية من الصالحين، وتركها للمفسدين، وعند ذاك لا أثر للدعاء، لأن هذا الوضع الفاسد نتيجة حتمية لأعمال الإنسان نفسه.
د. العمل بالمواثيق الإلهية، الإيمان والعمل الصالح والأمانة والصلاح من شروط استجابة الدعاء، فمن لم يف بعهده أمام بارئه لا ينبغي أن يتوقع من الله استجابة دعائه، جاء رجل إلى أمير المؤمنين علي عليه السّلام، وشكا له عدم استجابة دعائه، فقال الإمام: (إنّ قلوبكم خانت بثمان خصال: أوّلها: إنّكم عرفتم الله فلم تؤدّوا حقّه كما أوجب عليكم، فما أغنت عنكم معرفتكم شيئا.. والثانية: إنّكم آمنتم برسوله ثمّ خالفتم سنّته، وأمتّم شريعته فأين ثمرة إيمانكم!؟.. والثّالثة: إنّكم قرأتم كتابه المنزل عليكم فلم تعملوا به، وقلتم سمعنا وأطعنا ثمّ خالفتم!.. والرّابعة: إنّكم قلتم تخافون من النّار، وأنتم في كلّ وقت تقدمون إليها بمعاصيكم فأين خوفكم!؟.. و الخامسة: إنّكم قلتم ترغبون في الجنّة، وأنتم في كلّ وقت تفعلون ما يباعدكم منها فأين رغبتكم فيها؟.. والسّادسة: إنّكم أكلتم نعمة المولى فلم تشكروا عليها!.. والسّابعة: إنّ الله أمركم بعداوة الشّيطان، وقال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾، فعاديتموه بلا قول، وواليتموه بلا مخالفة.. والثّامنة: إنّكم جعلتم عيوب النّاس نصب أعينكم وعيوبكم وراء ظهوركم تلومون من أنتم أحقّ باللوم منه فأيّ دعاء يستجاب لكم مع هذا، وقد سددتم أبوابه وطرقه؟ فاتّقوا الله وأصلحوا أعمالكم وأخلصوا سرائركم وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فيستجيب الله لكم دعاءكم)، هذا الحديث يقول بصراحة: إن وعد الله باستجابة الدعاء وعد مشروط لا مطلق، مشروط بتنفيذ المواثيق الإلهية، وإن عمل الإنسان بهذه المواثيق الثمانية المذكورة فله أن يتوقع استجابة الدعاء، وإلّا فلا.. العمل بالأمور الثمانية المذكورة باعتبارها شروطا لاستجابة الدعاء كاف لتربية الإنسان ولاستثمار طاقاته على طريق مثمر بنّاء.
هـ. من الشروط الأخرى لاستجابة الدعاء العمل والسعي، عن علي عليه السّلام: (الدّاعي بلا عمل كالرّامي بلا وتر)، الوتر بحركته يدفع السهم نحو الهدف، وهكذا دور العمل في الدعاء.
15. من مجموع شروط الدعاء المذكورة نفهم أن الدعاء لا يغنينا عن التوسل بالعوامل الطبيعية، بل أكثر من ذلك يدفعنا إلى توفير شروط استجابة الدعاء في أنفسنا، ويحدث بذلك تغييرا كبيرا في حياة الإنسان وتجديدا لمسيرته، وإصلاحا لنواقصه.. أليس من الجهل أن يصف شخص الدعاء بهذا المنظار الإسلامي أنه مخدّر!؟
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/529.