...
5. مثال المنافقين
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈5⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 17 ـ 20]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أما شياطينهم: فهم رؤوسهم في الكفر(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَيَمُدُّهُمْ﴾ يملي لهم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يتمادون في كفرهم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى(4).
5. روي أنّه قال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ الآية: إن أناسا دخلوا في الإسلام مقدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة، ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة، فأوقد نارا، فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق، كان في ظلمة الشرك، فأسلم فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر؛ فهم صم بكم، فهم الخرس، فهم لا يرجعون إلى الإسلام، وأما النور فالإيمان بما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانت الظلمة نفاقهم(5).
6. روي أنّه قال: ﴿بِكُمُ﴾ هم الخرس(6).
7. روي أنّه قال: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ إلى الإسلام(7).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٠٧.
(2) ابن جرير: ١/٣١٨.
(3) ابن جرير: ١/٣٢٣.
(4) ابن جرير: ١/٣٢٥.
(5) ابن جرير: ١/٣٣٧.
(6) ابن جرير: ١/٣٤٨.
(7) ابن جرير: ١/٣٤٩.
الخراساني:
روي عن عطاء الخراساني (ت 60 هـ) أنّه قال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ هذا مثل المنافق، يبصر أحيانا، ثم يدركه عمى القلب(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٥٠.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: نزلت هذه الآية ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال عبد الله بن أبي: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذهب، فأخذ بيد أبي بكر، فقال: مرحبا بالصديق، سيد بني تيم، وشيخ الإسلام، وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم أخذ بيد عمر، فقال: مرحبا بسيد عدي بن كعب الفاروق، القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم أخذ بيد علي، وقال: مرحبا بابن عم رسول الله، وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيرا، فرجع المسلمون إلى النبي، وأخبروه بذلك، فنزلت هذه الآية(1).
2. روي أنّه قال: كان عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة، وكان إذا لقي سعدا قال نعم الدين دين محمد، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه من أهل الكفر قال شدوا أيديكم بدين آبائكم، فأنزل الله هذه الآية(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ الآية: كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بعضهم قالوا: إنا على دينكم، وَإِذَا خَلَوْا إلى أصحابهم ـ وهم شياطينهم ـ قالوا: إنا معكم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، أي: إِنَّمَا نَحْنُ مستهزئون بالقوم، ونلعب بهم(4).
5. روي أنّه قال: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ يسخر بهم للنقمة منهم(5).
6. روي أنّه قال: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ في الآخرة، يفتح لهم بابا في جهنم من الجنة، ثم يقال لهم: تعالوا، فيقبلون يسبحون في النار، والمؤمنون على الأرائك ـ وهي السرر في الحجال ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم، فضحك المؤمنون منهم، فذلك قول الله: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ في الآخرة، ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب، فذلك قوله: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين: ٣٤](6).
7. روي أنّه قال: أن الله تعالى إذا قسم النور يوم القيامة للجواز على الصراط أعطى المنافقين مع المؤمنين نورا، حتى إذا ساروا على الصراط طفئ نورهم، قال فذلك قوله: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾، حيث يعطيهم ما لا يتم، ولا ينتفعون به(7).
8. روي أنّه قال: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ في كفرهم(8).
9. روي أنّه قال: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يترددون(8).
10. روي أنّه قال: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ يتمادون(9).
11. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ الكفر بالإيمان(10).
12. روي أنّه قال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ الآية: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه، ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ يقول: في عذاب(11).
13. روي أنّه قال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدى، ثم نزع منهم، فعتوا بعد ذلك(12).
14. روي أنّه قال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ الآية: ضرب الله مثلا للمنافقين، يبصرون الحق، ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق(10).
15. روي أنّه قال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ عن الخير(10).
16. روي أنّه قال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه، ولا يعقلونه(13).
17. روي أنّه قال: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ إلى الهدى، ولا إلى خير، ولا يصيبون نجاة، ما كانوا على ما هم عليه(10).
18. روي أنّه قال: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ كمطر، ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ إلى آخر الآية: هو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله، وعمل مراءاة للناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره، فهو في ظلمة ما أقام على ذلك، وأما الظلمات فالضلالة، وأما البرق فالإيمان، وهم أهل الكتاب، ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ﴾ فهو رجل يأخذ بطرف الحق، لا يستطيع أن يجاوزه(14).
19. روي أنّه قال: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ الآية: أي: هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر، على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم؛ على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت(15).
20. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ منزل ذلك بهم من النقمة(15).
21. روي أنّه قال: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ يلتمع أبصارهم ولما يخطف، وكل شيء في القرآن: كاد، وأكاد، وكادوا، فإنه لا يكون أبدا(16).
22. روي أنّه قال: هم اليهود، لما نصر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ببدر طمعوا، وقالوا: هذا ـ والله ـ النبي الذي بشرنا به موسى، لا ترد له راية، فلما نكب بأحد ارتدوا وشكوا(17).
23. روي أنّه قال: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين، ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزا اطمأنوا، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، يقول: ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾، كقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ [الحج: ١١] إلى آخر الآية(18).
24. روي أنّه قال: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ أي: لشدة ضوء الحق، ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ أي: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر ﴿قَامُوا﴾ متحيرين، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ أي: لما تركوا من الحق بعد معرفته(15).
25. روي أنّه قال: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ الآية، قال كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق وبرق، فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا؛ قاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا، فنأتي محمدا، فنضع أيدينا في يده، فأصبحا، فأتياه، فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء فيقتلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه، فإذا كثرت أموالهم وأولادهم وأصابوا غنيمة وفتحا مشوا فيه، وقالوا: إن دين محمد حينئذ صدق، واستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء بهما البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا، فكانوا إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمد، فارتدوا كفارا، كما كان ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما(19).
26. روي أنّه قال: ﴿وَرَعْدٌ﴾ : تخويف(18).
27. روي أنه قال: إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه(20). روي أنه قال: الرعد: ملك من الملائكة، اسمه الرعد، وهو الذي تسمعون صوته(21).
28. روي أنه قال: الرعد: ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير(21).
29. روي أنه قال: الرعد: اسم ملك، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره السحاب اضطرب السحاب واحتك، فتخرج الصواعق من بينه(22).
30. روي أنه قال: الرعد الملك، والبرق الماء(23).
__________
(1) الواحدي في أسباب النزول: ص٢٢.
(2) الثعلبي: ١/١٥٥.
(3) ابن جرير: ١/٣٠٦.
(4) سيرة ابن هشام: ١/٥٣١.
(5) ابن جرير: ١/٣١٧.
(6) البيهقي في الأسماء والصفات: ١٠١٨.
(7) الواحدي في الوسيط: ١/٩١.
(8) ابن جرير: ١/٣٢١.
(9) ابن جرير: ١/٣٢٣.
(10) سيرة ابن هشام: ١/٥٣٢.
(11) ابن جرير: ١/٣٣٧.
(12) ابن جرير: ١/٣٣٨.
(13) ابن جرير: ١/٣٤٨.
(14) ابن جرير: ١/٣٥٢.
(15) سيرة ابن هشام: ١/٥٣٣.
(16) ابن جرير: ١/٣٧٩.
(17) تفسير الثعلبي: ١/١٦٦.
(18) ابن جرير: ١/٣٦٩.
(19) ابن جرير: ١/٣٦٨.
(20) البخاري في الأدب المفرد.
(21) ابن جرير: ١/٣٥٧.
(22) ابن جرير: ١/٣٥٨.
(23) الخرائطي: ص٣٣٠.
الطائفي:
روي عن محمد بن مسلم الطائفي (ت 79 هـ) أنه قال: بلغنا: أن البرق ملك له أربعة أوجه: وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مصع بذنبه فذلك البرق(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٦٥.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، يعني: يترددون، يقول: زادهم ضلالة إلى ضلالتهم، وعمى إلى عماهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ﴾، يعني: في ضلالتهم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص ـ بلا إله الا الله ـ أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة(2).
4. روي أنّه قال: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ فمثله كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة، لها مطر ورعد وبرق، على جادة، كلما أبرقت أبصروا الجادة، فمضوا فيها، فإذا ذهب البرق تحيروا، فكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، وكلما شك تحير ووقع في الظلمة، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ ذكر أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٤٨.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٥٠.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٥٩.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنه قال: نزلت ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ الآية في اليهود، وانتظارهم خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإيمانهم به، واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به، وذلك بأن قريظة والنضير وبني قينقاع قدموا من الشام إلى يثرب، حتى انقطعت النبوة من بني إسرائيل، وأفضت إلى العرب، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنبوة، وأن أمته خير الأمم، وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له: عبد الله بن هيبان ـ قبل أن يوحى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كل سنة، فيعظهم على طاعة الله تعالى، وإقامة التوراة، والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم رسولا إذا خرج: فلا تفرقوا عنه، وانصروه، وقد كنت أطمع أن أدركه، ثم مات قبل خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقبلوا منه، ثم لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كفروا به، فضرب الله لهم هذا المثل(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/١٦٠.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿بكُمُ﴾ يعني: خرسا عن الكلام بالإيمان، فلا يستطيعون الكلام، ﴿صُمٌّ﴾ يعني: صم الآذان.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات فهي ضلالتهم وكفرهم(1).
2. روي أنّه قال: لما أضاءت النار أرسل الله عليها ريحا عاصفا، فأطفأها، فكذلك اليهود كلما أوقدوا نارا لحرب محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أطفأها الله(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٣٩.
(2) تفسير الثعلبي: ١/١٦١.
الشعبي:
روي عن الشعبي (ت 103 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: قال كتب ابن عباس إلى أبي الجلد جيلان بن فروة يسأله عن البرق ـ وكان عالما يقرأ الكتب ـ، فكتب إليه: البرق من تلألئ الماء(1).
2. روي أنه قال: قال كتب ابن عباس إلى أبي الجلد جيلان بن فروة يسأله عن الصواعق، فكتب إليه: أن الصواعق: مخاريق يزجر بها السحاب(2).
__________
(1) ابن أبي الدنيا في كتاب المطر ـ موسوعة الإمام ابن أبي الدنيا: ٨/٤٤١.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٥٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أصحابهم من المنافقين والمشركين(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، يعني: يترددون، يقول: زادهم الله ضلالة إلى ضلالتهم، وعمى إلى عماهم(1).
3. روي أنّه قال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة، وإضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل(2).
4. روي أن رجلا سأله عن الرعد، فقال: [ملك يسبح بحمده(3).
5. روي أنّه قال: ﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾، قال ملائكة تمصع بأجنحتها، فذلك البرق، زعموا أنها تدعى: الحيات(4).
6. روي أنه قال: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ جامعهم في جهنم(5).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص١٩٦.
(2) ابن جرير: ١/٣٤٠.
(3) الدرّ المنثور: عَبد بن حُمَيد.
(4) الدرّ المنثور: ابن المنذر.
(5) تفسير مجاهد: ص١٩٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ اختاروا الضلالة على الهدى(1).
2. روي أنّه قال: يعني مثلهم كمثل رجل يمشي في ليلة مظلمة، في يده شعلة من نار، فهو يبصر بها موضع قدميه، فبينما هو كذلك إذ أطفئت ناره؛ فلم يبصر كيف يمشي، وإن المنافق تكلم بقول: لا إله إلا الله؛ فناكح بها المسلمين، فلما كان عند الموت سلبه الله إياها، قال يحيى: لأنه لم يكن لها حقيقة في قلبه(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله؛ عمل السوء، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول: لا إله إلا هو(2).
__________
(1) ذكره يحيى بن سلام ـ كما في تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٢٤.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٥٢.
باذام:
روي عن أبي صالح باذام (ت 111 هـ) أنّه قال: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾، قال يقال لأهل النار وهم في النار: اخرجوا، وتفتح لهم أبواب النار، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم، فذلك قوله: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾، ويضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم، فذلك قوله: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ [المطففين: ٣٤ ـ ٣٥](1).
__________
(1) ابن أبي الدنيا في كتاب صفة النار ـ موسوعة الإمام ابن أبي الدنيا: ٦/٤٥٦.
حديث:
شهر بن حوشب (ت 112 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال: قال ابن عمرو لرجل: سل كعبا عن البرق، فقال كعب: البرق: تصفيق الملك البرد ـ وحكى حماد بيده ـ، لو ظهر لأهل الأرض لصعقوا(1).
2. روي أنّه قال: إن الرعد ملك يزجر السحاب كما يحث الراعي الإبل، فإذا شذت سحابة ضمها، فإذا اشتد غضبه طار من فيه النار، فهي الصواعق(2).
__________
(1) ابن أبي الدنيا في كتاب المطر ـ موسوعة الإمام ابن أبي الدنيا: ٨/٤٤٢.
(2) ابن جرير: ١/٣٥٧.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ إلى إخوانهم من المشركين، ورؤوسهم وقادتهم في الشر ﴿قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ قد ـ والله ـ رأيتموهم، خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة(2).
3. روي أنّه قال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ هذا مثل ضربه الله للمنافق، إن المنافق تكلم بـ (لا إله إلا الله)، فناكح بها المسلمين، ووارث بها المسلمين، وعاد بها المسلمين، فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله، فسلبها المنافق عند الموت، فترك في ظلمات وعمى، يتسكع فيها كما كان أعمى في الدنيا عن حق الله وطاعته(3).
4. روي أنّه قال: ﴿صُمٌّ﴾ عن الحق؛ فلا يسمعونه، ﴿بِكُمُ﴾ عن الحق؛ فلا ينطقون به، ﴿عَمِيَ﴾ عن الحق؛ فلا يبصرونه(4).
5. روي أنّه قال: ﴿صُمٌّ﴾ عن الحق؛ فلا يسمعونه، ﴿بِكُمُ﴾ عن الحق؛ فلا ينطقون به، ﴿عَمِيَ﴾ عن الحق؛ فلا يبصرونه(4).
6. روي أنّه قال: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ عن ضلالتهم، ولا يتوبون، ولا يتذكرون(5).
7. روي أنّه قال: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ هذا مثل ضربه الله للمنافق لجبنه، لا يسمع صوتا إلا ظن أنه قد أتي، ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه ميت، أجبن قوم، وأخذله للحق، وقال الله في آية أخرى: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [المنافقون: ٤](6).
8. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ أجبن قوم، لا يسمعون شيئا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت، ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾(7).
9. روي أنّه قال: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ حذرا من الموت(7).
10. روي أنّه قال: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ الآية: البرق هو الإسلام، والظلمة هو البلاء والفتنة، فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة من عيش قالوا: إنا معكم ومنكم، وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء تحقحق عند الشدة، فلا يصبر لبلائها، ولم يحتسب أجرها، ولم يرج عاقبتها، إنما هو صاحب دنيا، لها يغضب، ولها يرضى، وهو كما نعته الله(6).
11. روي أنّه قال: (ثم ضرب لهم مثلا آخر، فقال: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ هذا المنافق إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية؛ قال لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير، ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم، وأصابهم البلاء؛ قاموا متحيرين(7).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٠٧.
(2) ابن جرير: ١/٣٣٠.
(3) ابن جرير: ١/٣٣٩.
(4) ابن جرير: ١/٣٤٨.
(5) ابن جرير: ١/٣٤٩.
(6) ابن جرير: ١/٣٧١.
(7) عبد الرزاق: ١/٤٠.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ وهو كلّ غاو، ومترد من الجّن والإنس، والدوابّ.. واحدهم: شيطان)(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أي يجهلهم)(1).
3. روي أنّه قال: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي يمهلهم.. والطّغيان: الضّلالة.. يَعْمَهُونَ: أي يتردّدون(1).
4. روي أنّه قال: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ : أي يتردّدون(1).
5. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أي استحبوا الضّلالة على الهدى.. ويقال آمنوا ثمّ كفروا)(1).
6. روي أنّه قال: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ فالصيّب: المطر.. وجمعه صيائب)(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 79.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى(1).
2. روي أنّه قال: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ﴾ هم الخرس، ﴿عَمِيَ﴾ عن الحق(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٥٠.
(2) أخرج ابن أبي حاتم الشطر الأول: ١/٥٣.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ضرب مثل أهل النفاق، فقال: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾، إنما ضوء النار ونورها ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، كذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ مثلهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة، ولها مطر ورعد وبرق على جادة، فلما أبرقت أبصروا الجادة، فمضوا فيها، وإذا ذهب البرق تحيروا، وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك تحير ووقع في الظلمة، فكذلك قوله: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾، ثم قال في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ يبعثهم الله من بعد الموت، فيبعث أولياءه وأعداءه، فينبئهم بأعمالهم، فذلك قوله: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٤٠.
(2) ابن جرير: ١/٣٧٢.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٥٧.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في رسالة طويلة، الى أصحابه: فإن ذلك اللسان، فيما يكره الله وفيما نهى عنه مرداة للعبد، عند الله، ومقت من الله، وصم وعمي وبكم يورثه الله إياه يوم القيامة فتصيروا كما قال الله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾، يعني: لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون)(1).
__________
(1) الكافي: 8/406.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾، وذلك أن اليهود وجدوا نعت محمد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في التوراة قبل أن يبعث، فآمنوا به، وظنوا أنه من ولد إسحاق عليه السلام، فلما بعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من العرب من ولد إسماعيل عليه السلام كفروا به حسدا، واشتروا الضلالة بالهدى، يقول: باعوا الهدى الذي كانوا فيه من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يبعث؛ بالضلالة التي دخلوا فيها بعد ما بعث؛ من تكذيبهم بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فبئس التجارة، فذلك قوله سبحانه: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ من الضلالة(1).
2. روي أنّه قال: ثم ضرب الله للمنافقين مثلا، فقال عز وجل: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾، طفئت ناره، يقول الله تعالى: مثل المنافق إذا تكلم بالإيمان كان له نور بمنزلة المستوقد نارا يمشي بضوئها ما دامت ناره تتقد، فإذا ترك الإيمان كان في ظلمة كظلمة من طفئت ناره؛ فقام لا يهتدي ولا يبصر، فذلك قوله سبحانه: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، يعني: بإيمانهم، نظيرها في سورة النور: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾، يعني به: الإيمان، وقال سبحانه في الأنعام: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾، يعني: يهتدي به الذين تكلموا به(1).
3. روي أنّه قال: ﴿صُمٌّ﴾ لا يسمعون، يعني: لا يعقلون، ﴿بِكُمُ﴾ خرس لا يتكلمون بالهدى، ﴿عَمِيَ﴾ فهم لا يبصرون الهدى حين ذهب الله بنورهم، يعني: بإيمانهم(2).
4. روي أنّه قال: مثل المطر مثل القرآن، كما أن المطر حياة الناس فكذلك القرآن حياة لمن آمن به، ومثل الظلمات يعني: الكافر بالقرآن، يعني: الضلالة التي هم فيها، ومثل الرعد ما خوفوا به من الوعيد في القرآن، ومثل البرق الذي في المطر مثل الإيمان، وهو النور الذي في القرآن، ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾ يقول: مثل المنافق إذا سمع القرآن فصم أذنيه كراهية للقرآن كمثل الذي جعل إصبعيه في أذنيه من شدة الصواعق(2).
5. روي أنّه قال: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾، يعني: مخافة الموت: كما كره الموت من الصاعقة فكذلك يكره الكافر القرآن، فالموت خير له من الكفر بالله عز وجل، والقرآن(2).
6. روي أنّه قال: ثم قال سبحانه: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ﴾ الذي في المطر ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾، يعني: يذهب بأبصارهم من شدة نوره، يقول سبحانه: مثل الإيمان إذا تكلم به المنافق مثل نور البرق الذي يكاد أن يذهب بأبصارهم، ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ﴾ البرق ﴿مَشَوْا فِيهِ﴾، يقول: كلما تكلموا بالإيمان مضوا فيه، يقول: ويضيء لهم نورا يهتدون به، ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ﴾ البرق، أي: ذهب ضوؤه ﴿قَامُوا﴾ في ظلمة، لا يبصرون الهدى، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ فلا يسمعون ﴿وَأَبْصَارُهُمْ﴾ فلا يرون أبدا؛ عقوبة لهم(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٩١.
(2) تفسير مقاتل: ١/٩٢.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ إذا أصاب المؤمنين رخاء قالوا: إنا نحن معكم، إِنَّمَا نَحْنُ إخوانكم، وَإِذَا خَلَوْا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين(1).
2. روي أنّه قال: أنّه قال: ليس في الأرض شيء يسمعه المنافق إلا ظن أنه يراد به، وأنه الموت؛ كراهية له، والمنافق أكره خلق الله للموت، كما إذا كانوا بالبراري في المطر فروا من الصواعق(2).
3. روي أنّه قال: قال الصواعق: ملك يضرب السحاب بالمطارق، فيصيب منه من يشاء(3).
4. روي أنّه قال: ﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾ [الرعد: ١٢]، قال شعيب الجبائي في كتاب الله: الملائكة حملة العرش، أسماؤهم في كتاب الله الحيات، لكل ملك وجه إنسان وأسد ونسر، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق، قال أمية بن أبي الصلت:
رجل وثور تحت رجل يمينه... والنسر للأخرى وليث مرصد
(4).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٠٨.
(2) ابن جرير: ١/٣٧٣.
(3) ابن جرير: ١/٣٦٦.
(4) الدرّ المنثور: أبي الشيخ.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: كلكم تاجر، فلينظر امرؤ ما تجارته؟ قال الله: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾، وقال: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف: ١٠](1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/١٥٩.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ طغيانهم: كفرهم وضلالتهم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ إلى آخر الآية: هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا، فذهب الله بنورهم، فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾، فقرأ حتى بلغ: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذا أيضا مثل ضربه الله للمنافقين، كانوا قد استناروا بالإسلام، كما استنار هذا بنور هذا البرق(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٢٢.
(2) ابن جرير: ١/٣٤١.
(3) ابن جرير: ٢/٣٧١.
الرسّي:
قال الإمام القاسم الرسّي (ت 246 هـ): ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ الصيب: المطر الذي فيه الظلمات والرعد والبرق، والذين يجعلون أصابعهم منه في آذانهم خوفا من الهلكة على أنفسهم(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/25.
الهادي إلى الحق:
ذكر الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. سؤال وإشكال: هل يستطيعون سماع الهدى، وقد وصفهم الله جل ثناؤه بالصمم والعمى؟ والجواب:
أ. إن الله ـ جل وعلا ـ لم يخلقهم كذلك، ولم يجعلهم عميا، ولا عن سماع الخير والتقى صما، وأن الله تبارك وتعالى ضرب لهم هذا مثلا؛ فقال سبحانه: إن هؤلاء الذين آتاهم الهدى، وكشف لهم عن الحق الغطاء؛ فأنار لديهم، وثبت في صدورهم، وأيقنوا أنه من عند خالقهم، فكفروا بربهم، وخالفوا أمر نبيهم، وآثروا ظلمتهم على ما أضاء من الحق لهم، فتركهم الله وخذلهم.
ب. ومثلهم ـ إذ تركوا حظهم، وما أنار من الحق عندهم ـ بمن استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، فكان الذي شبهه بضوء النار هو: الهدى الذي أخرجه الله لهم، وامتن به عليهم، فتركوه ولم يتبعوه، ولم يستضيئوا بنوره، وناصبوه وعاندوه.
ج. لا يصح ما يقول بعضهم: إن الله سبحانه فعل ذلك بهم، وجعلهم عن استماع الحق صما وعميا، وعن قبول الصدق حاجزا، فجهل الفرق بين المثل والفعل؛ وكيف يجعلهم الله كذلك، ويخلقهم على ذلك، ثم يرسل إليهم نبيه يدعوهم إلى الهدى، ويخرجهم من الحيرة والعمى، وهم عن الخروج ممنوعون، وعن الدخول في الحق مصروفون!؟
د. الله سبحانه إذا أرسله يدعوهم إلى الخروج عما فيه أدخلهم، وعليه ـ جل وعز عن ذلك ـ جبلهم، فنسبوا في ذلك إلى الله الاستهزاء، واللعب والاعماء، والجهالة والخطأ، والظلم لعباده، والفساد في بلاده، كذب القائلون على الله بذلك، وضلوا ضلالا بعيدا.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/24.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في التأويلات التي يحتملها المثل، وهي:
أ. قوله عزّ وجل: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ يحتمل أن يكون الإضافة إلى من ذكر من المنافقين بقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ الآية [البقرة: 8]، وقوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ الآية [البقرة: 14، 76]
ب. المنافقون قصدوا قصد المخادعة بأولياء الله والاستهزاء بهم؛ ففضحهم الله بذلك في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا فبما هتك سترهم، وأطلع على ذلك أولياءه؛ فعادت إليهم المخادعة، وعوقبوا بما أطلع على ضميرهم، وبما أرادوا ذلك الأمن، فأعقبهم الله خوفا دائما كما وصفهم الله ﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ﴾ الآية [النساء: 77]، وقال: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [المنافقون: 4]، وقال: ﴿رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [محمد: 20]، وقال: ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ الآية [الأحزاب: 19]، وقال: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ الآية [التوبة: 64]
ج. أو أن يكونوا طلبوا ـ بإظهار الموافقة في الدين ـ الشرف فيهم والعز، وكذلك عند الكفرة مما أظهروا أنهم يخادعون بذلك المؤمنين، ويستهزئون بهم؛ فعلموا أنهم كذلك يظهرون للمؤمنين حالهم معهم، فطردوا من بينهم فقال الله: ﴿مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ﴾ [المجادلة: 14]، وقال: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ الآية [النساء: 143]، فزال عنهم ما التمسوا من الشرف والعز، وأبدل لهم به الهوان والذل.
د. مثلهم في ذلك مثل مستوقد نار ليستضيء بضوئها، وينتفع بحرّها، فأذهب الله ضوءه حتى ذهب ما كان يأمل من الاستنارة بها والانتفاع، وأعقبه الله تعالى خوف الاحتراق لو دنا منها، وذهب عنه ما طلب بذلك ـ من شرف الوقود في الأيام الشاتية، أو ما يصلح بها ـ من الأغذية بذهاب البصر، ويكون ذلك:
• معنى قوله: ﴿ وهُوَخادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142]، و ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ إذ عوقبوا بالخوف بما قصدوا به الأمن، والذلّ بما طلبوا به العزّ، وكذلك مستوقد النار الذاهب نوره، والله أعلم.
• وعلى ذلك قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ أي اختاروا الضلالة لما رجعوا إلى شياطينهم بالهدى الذي قد أظهروه عند المؤمنين.
• فيكون تحقيق استهزاء الله بهم، ومخادعته إياهم فعل أوليائه بهم بما أخبروا من سرائرهم، وبما حطوا أقدارهم، وذلوا في أعينهم، فأضيف ذلك إلى الله؛ إذ به فعلوا، كما أضيفت مخادعتهم المؤمنين إليه؛ إذ عن دينه خادعوهم.
2. على هذا التأويل أمكن أن يخرج قول من زعم: أن الآية نزلت في الكافرين، أنهم كانوا يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما وجدوا نعته في التوراة والإنجيل، أنه ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [الأعراف: 157]، وقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ [الفتح: 29] إلى آخر السورة، وقال عزّ وجل: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ [البقرة: 146، الأنعام: 20]، وقوله: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: 89] كانوا كمستوقد النار، أي طالب الوقود ليستضيء به، فلما ظفر به أذهب الله نوره بعد معرفتهم بمنفعة نور النار، فلم ينتفع به، فكذلك لما كفروا عند بعث النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حسدا من أنفسهم وبغيا؛ إذ كان من غيرهم؛ أو خشية منهم على ملكهم ومأكلتهم بعد العلم منهم بعظم المنفعة فيه، ولا قوة إلا بالله.
3. أما في الآخرة أنهم قصدوا مخادعة المؤمنين، وموالاتهم في الظاهر، ومشاركتهم إياهم في المنافع نحو المغانم والتوارث والتناكح، وخالفوهم في الباطن.. فكذلك الله أشركهم في المنافع الظاهرة الحاضرة في الدنيا، وخالفهم بمنافع دينه في الباطن الغائب وهى الآخرة؛ أراهم المشاركة مع المؤمنين في الدنيا، وصرفها عنهم في الآخرة، فكما أروهم الموافقة في الظاهر مع المخالفة في الباطن، فكذلك مستوقد النار أظهر من نفسه الرغبة في ضوئها بالإيقاد، وقد أذهب الله ضوء بصره؛ فذهب عنه منفعته عند ظنه أنه يصل إليها، كالمنافقين في الآخرة، إذ ظنوا في الدنيا أنهم شركاؤهم في الآخرة لو كانت؛ ولذلك قالوا: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ [الحديد: 13]، وقوله: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ الآية [النساء: 141، الحديد: 14] فذلك وجه الاستهزاء بهم، والمخادعة أنه أشركهم في أحكام الدنيا وخالفهم في أحكام الآخرة.. وعلى ذلك اشتراء الضلالة بالهدى، على معنى اختيارهم ما فيه الهلاك على ما فيه نجاتهم.
4. وعلى ذلك يخرج تأويل من صرف إلى أهل الكتاب؛ لأنهم آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ إذ آمنوا بكتبهم وقد كان فيها نعته الشريف، فلما وصلوا إلى منافع الإيمان بالبعث إليهم، وشاهدوا كفروا به؛ فعوقبوا بحرمان منافع كتبهم، وإيمانهم عند معاينة الجزاء كما ردّوا إيمانهم به عند المشاهدة، والله أعلم.
5. وروى عن ابن عباس أنه ضم تأويل هذه الآية والتي تتلوها من قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: 19] إلى قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج: 11] وذلك ـ والله أعلم ـ أنهم قوم لا يعرفون الله حق المعرفة؛ فيعبدونه بحق الربوبية له قبلهم، ولا يؤمنون بالآخرة؛ فيكون عملهم للعواقب، ولا يعرفون غير الدنيا ومنافعها، فجعلوا دينهم وعبادتهم ثمنا لها:
أ. فإذا رأوا في دين الإسلام الغنائم والسلوة، رأوا تجارتهم مربحة فاطمأنوا بها، واجتهدوا بالسعي فيها.
ب. وإذا أصابتهم الشدة والبلايا رأوا تجارتهم مخسرة فصرفوا إلى غير ذلك الدين؛ فمثلهم مثل المستوقد نارا؛ إنه يجتهد في الإيقاد ما دام يطمع في نور النار، ومنافع حرها لمصالح الأطعمة، فإذا ذهب نور بصره أبغض النار بما يخشى من الاحتراق بالدنو منها، وبما يذهب من منافع خفية إن لم يكن كاستوقد، كالمنافق فيما استقبله المكروه في الإسلام تمنى أن لم يكن أسلم قط.
ج. وذلك قوله: ﴿وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ﴾ [الأحزاب: 20]، وقوله: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ [آل عمران: 154]، وقوله: ﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [التوبة: 50]، وقوله: ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا﴾ [النساء: 72]
د. وكذلك البرق الذي يضيء يمشى المرء في ضوئه، وكذلك المنافق، إذا رأى خيرا في الإسلام مشى إليه، وإذا أظلم عليه قام متحيرا حزينا؛ ألا يكون اختار السلوك، والله الموفق.
6. قال أبو بكر الأصمّ: مثل من يظهر الإيمان فيما يتزين بنوره في الناس، مثل مستوقد النار فيما يستضيء حول النار بنورها، ثم يذهب الله نوره في الآخرة كما أذهب هو في السر، وكذلك أذهب الله نور المستوقد؛ فيذهب به التزين بالنور حول النار.. قال وقيل: ذا لعن، كما يقال: أذهب الله نوره، أي الذي كان يظهره؛ فيبقى المنافق في ظلمات الآخرة، والمستوقد في ظلمات العمى والليل.
7. وقال جعل الدعاء إلى الإسلام كالصيّب، وما فيه من الجهاد كظلمة الليل، وما فيه من الغنيمة كالبرق، وجعل أصابعهم في الآذان من سماع ما في الإسلام من الشدائد نحو جعل ذلك من الصواعق ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ .. أي ما في الإسلام من الغنيمة يدعوهم إليه.. وإذا أظلم عليهم بالشدائد قاموا وصدوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولو شاء الله لذهب بما ذكر، أي أصمهم وأعماهم.
8. روى عن الضحاك عن ابن عباس: أن ضوء البرق والنار ليسا بدائمين)؛ فشبه به إيمان المنافق أنه عن سريع يزول.
9. وقال القتبى: كان المنافق في ظلمة الكفر فاهتدى بما أعطى من النور، كمستوقد النار بنوره في ظلمة الليل.. وكذلك السالك في ظلمة الليل، فلما ذهب نوره ـ أو سكن لمعان البرق ـ رجع إلى ما فيه من الظلمة.
10. الأصل في هذا الباب: أن الله تعالى خلق هذه الدار لمحنة أهلها، وجعل لهم دارا يجزيهم فيها، مما لولا هي لكان يكون خلق هذه الدار بما فيها عبثا؛ إذ يكون خلق الخلق للفناء بلا عواقب لهم، وذلك عبث في العقول؛ لأن كل شارع ـ فيما لا عاقبة له ـ عابث، وفيما لا يريد معنى يكون في العقل هازل؛ ولذلك قال ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]، فإذا كان كذلك صارت هذه الدار دليل الأخرى؛ فعلى ذلك ضرب للأخرى مثلا بالمعروف من هذه؛ إذ بهذه عرفت تلك؛ ولهذا خلق الله الممتحنين بحيث يألمون ويتلذذون؛ ليعرفوا قدر الآلام التي بها أوعدوا، واللذات التي فيها رغبوا.
11. على ذلك ضرب الله مثل من عمى عن الآخرة، وصم عن سماع ما يرغب فيها، أو عمى عن أمر الله ونهيه، أو ألحق بالأعمى، والأصم، والميت ونحو ذلك؛ لذهاب منافع البصر والسمع والحياة؛ إذ هي مخلوقة ليعرف بها ما غاب عنها بالتأمل والتدبر، فإذا غفل عن ذلك سمى بالذي ذكرنا، وبينا أنه لولا الآخرة ودار الجزاء، لم يكن لخلق شيء من ذلك حكمة نعقلها نحن.
12. على ذلك ضرب المثل لذهاب نور القلب ـ الذي به يبصر العواقب وينتفع بها ـ بذهاب نور البصر، في زوال منافع الدنيا مما يتصل بنوره، وكذلك أمر السمع وغيره.
13. فكان على ذلك أمكن إخراج المثلين جميعا على الكفرة والمنافقين:
أ. أما المنافق فإذا ذهب نور حقيقته عنه ـ وهو نور البصر ـ لم ينتفع بنور النار على قيام النار بنورها لكل ذي بصر، وكذلك سائر منافع النار؛ فمثله إذا ذهب عنه نور بصر القلب وحياته لم ينتفع بنور الآخرة وجزائها.
ب. وكذلك الذي ذهب عنه ضوء البرق يبقى متحيرا؛ إذ به يبصر الطريق كمن يذهب عنه بصر القلب؛ إذ به يبصر عواقب الأشياء.
ج. بل الذي قصد السلوك بالبروق، والاستضاءة بنور النار، إذا ذهب كان أعظم حسرة وأشد خوفا من النار، وشدة المطر، وخبث الطريق من الذي لم يعرف ـ في الابتداء ـ نفع النار أو البرق، ويكره المطر على شدة رغبته فيه، والنار بما ذهب منه.
د. وكذلك المنافق في الآخرة إن لم يكن منه ما أظهر إذ به يرد إلى درك الأسفل، ولا قوة إلا بالله.
هـ. وكذلك الكافر لم يبصر ـ بما أعطاه من البصر ـ عواقب البصر الظاهر، ولا يسمع ـ بما أنعم عليه من السمع ـ عواقب السمع؛ إذ حق ذلك أن يؤدى ذلك ما أدركه إلى العقل ليعتبر به أنه لم يخلق شيء من ذلك بالاستحقاق، ولا يحتمل عقله الإحاطة بكنه ما فيه من الحكمة، فيعلم عظم نعمة الله وخروج مثله عن العبث، فيقوم بأداء شكره؛ وبذلك يصير به إلى الجزاء في العواقب، ولا قوة إلا بالله.
قوله عزّ وجل: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. أحدهما: صم؛ لأنه ختم على آذانهم، وعلى سمعهم، وعلى قلوبهم؛ فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يعقلون.
ب. ويحتمل: أنهم صم بكم عمى؛ لما لم ينتفعوا بأسماعهم، وأبصارهم، وقلوبهم.
14. ما ذكر الله تعالى من (الظلمات) يخرج على وجوه ثلاثة:
أ. أحدها: ظلمات كفرهم بقلوبهم؛ إذ أظهروا الإيمان أولا.
ب. الثاني: المتشابه في القرآن، وهو الذي تعلق به كثير من المشركين حتى نزول قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ الآية [آل عمران: 7].
ج. الثالث: ما في الإسلام من الشدائد، والإفزاع من الجهاد، والحدود وغير ذلك.
15. يمكن صرف الأول، والآخر إلى الفريقين: الكافر، والمنافق، وصرف تأويل المتشابه إلى الكافر، على أن لكلّ من ذلك حظّا، ويدل آخر الآية ـ وهو قوله: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ ـ على أن المثل لهم، إلا أن المنافق شريكهم في الكفر.
16. جائز أن يكون المثل المضروب بالآية إنما هو للقوم الذين شهدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنهم كانوا قبل بعثه صنفين:
أ. صنف ينتحل الكتاب الذي هو عندهم مما جاء به الرسل، لكن أئمتهم] ذلك، وأبدعوا غير الذي جاءت به الرسل من الدين والأحكام، بيّن ذلك قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ الآية [آل عمران: 105]، وقوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ [المائدة: 15]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ الآية [الأنعام: 159]، منهم من أبدع الكتاب ونسب إليهم؛ كقوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ﴾ الآية [آل عمران: 78]، وتبين ما ظهر من التفرق فيهم، ومن القول في أنبيائهم، وفى الله سبحانه، ومعلوم أن دين الرسل واحد غير مختلف، وبما كان من الفترة اندرست الكتب، وذهبت الرسوم؛ فصاروا في ظلمة الضلالة، وحيرة الزيغ، وتاهوا في سبيل الشيطان، وانقطع من بين أظهرهم الأئمة الذين يوثق بهم في الدين، بما ليس لأحد برهان يشهد له بالتمسك بسبيل الأنبياء، والاعتصام بكتبهم؛ إذ كلهم يدعى ذلك ـ وقد ظهر فيهم القول المختلف والمتناقض الذي لا تحتمله الحكمة، ولا يصبر عليه العقل.
ب. وصنف: لا ينتحل الكتاب، ولا يؤمن بنبي من الأنبياء، بل يعبدون الأوثان والنيران والأحجار، وما يهوون مما لا يملك الضرر ولا النفع، ليس لهم شرع، بل هم حيارى، لا يعرفون معبودا، ولا يبصرون طريقا، وليس فيهم من إذا فزعوا إليه دلهم على المحجة، وأطلعهم على الحق، بل هم في الضلال تائهون، وفى الظلمات متحيرون.
17. أحوج الفريقين جميعا ما حل بهم من الحيرة والتّيه، إلى من يشفيهم من داء الضلالة بنور الهدى، ومن ظلمة الاختلاف بضياء الائتلاف، ويخرجهم من سبيل الشيطان إلى سبيل الله، ويدلّهم على معرفة المعبود الحق لئلا يتخذوا من دونه أربابا، فبعث إليهم ـ عند شدة حاجتهم ـ رسولا، وأكرمهم بما أراهم من الآيات التي يعلمهم بها أنه أنعم بها عليهم؛ ليستنقذهم من الضلالة إن هم أطاعوه، وشكروا نعمة الله، فكانوا كقوم بلوا بظلمات الليل والسحاب، فتحيروا فيها بما حالت الظلمة بينهم وبين حاجاتهم، وتعذر عليهم الوجه في وضع أقدامهم، فتاهوا، فدفعهم التّيه إلى استيقاد النار؛ ليبلغوا حوائجهم، ويأمنوا العطب في وضع الأقدام، وكقوم بلوا في شدة الجوع والعطش لضيق الزمان وجدبه، فاستغاثوا بمن يملك كشف ذلك عنهم فأغاثهم بالمطر.. ثم منهم:
أ. من عرف نعمة من أنعم عليهم بالوقود وأغاثهم بالمطر، فتلقوا نعمته بالشكر فنجوا بذلك فما خشوا من الهلاك، ووصلوا إلى حوائجهم بالنار والمطر.. وذلك مثل من اتبع محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم وعرف نعم الله فشكره.
ب. ومنهم من تلقى نور النار بالكفران والجهل بالمنعم به عليه، ونسى ما كان عليه، وهو قوله: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ﴾ [الزمر: 8، 49] آيات فيها ذكر ما بينت، وقوله: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ﴾ الآية [الإسراء: 67]، فأذهب الله نوره فلا ينتفع بنور النار، ولا وصل إلى حاجته التي بها يقضى.. وذلك مثل الذين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنهم لم ينتفعوا به، ولا قضوا حاجاتهم، بل زادهم ذلك ظلمة وحيرة، كمستوقد النار إذا ذهب بصره.
ج. وكذلك قوم بلوا بالسلوك في الطريق عند شدة الظلمة، ولم يتلقوا النعمة بالشكر من الوجه الذي جعل لهم لوضع أقدامهم بنور البرق فأذهب الله نوره، وسكن لمعان البرق؛ فعاد الغياث له هلاكا، والمطر ـ الذي وجهه ـ عليه بلاء، فمثله من كابر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، واعترض على الاستماع إليه، ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/387.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله عز وجل: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ : يعني بالصيب: المطر الغزير، قال الشاعر:
وصيب هاطلة سماؤه... يبرق حيناً ويثج ماؤه
وراعد تمده ظلماؤه
2. معنى قوله: ﴿بِكُمُ﴾ أي خرس لا ينطقون بخير، والأبكم: هو الأخرس الذي لا ينطق ولا يتكلم، قال الشاعر:
أصبح صوت عامر خفيا... أبكم لا يكلم المطيا
وكان حداءً قراقريَّاً
3. معنى قوله عز وجل فيما ضرب من المثل: ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ : أي وقفوا قياماً ولم يسيروا.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 271.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ المراد به أوقد فدخلت السين زائدة ويجوز أن يكون المراد به استوقد من غيره والنار مشتقة من النور، ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ يقال: ضاءت في نفسها وأضاءت ما حولها، قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
2. قوله تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ فيه وجهان:
أ. أحدهما: نور المستوقد لأنه في معنى الجمع.
ب. الثاني: بنور المنافقين لأن المثل مضروب فيهم وذهاب نورهم يكون في الآخرة وذلك سمة لهم يعرفون بها.
3. قوله تعالى: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ أي لم يأتهم بعد نفاقهم وجحودهم بضياء يبصرون به، ويجوز أنه لم يخرجهم منه كما يقال تركهم في الدار إذا لم يخرجهم منها، وكان ما حصلوا فيه من الظلمة بعد الضياء أسوأ حالاً لأن من طفيت عنه النار حتى صار في ظلمة فهو أقل بصراً ممن لم يزل في الظلمة.
4. هذا مثل ضربه الله تعالى للمنافقين وفيما كانوا فيه من الضياء بالإسلام وحصلوا فيه من الظلمة بالنفاق.
5. ﴿صُمٌّ﴾ وهو جمع أصم وأبكم وأعمى، وأصل الصمم الانسداد يقال: قناة صماء إذا كانت غير مجوفة، وصممت القارورة إذا سددت رأسها فالأصم من انسدت خروق مسامعه.
6. البكم فيه أربعة أقاويل:
أ. أحدها أنه آفة في اللسان لا يتمكن معها أن يعتمد به على مواضع الحروف.
ب. الثاني: وهو أن يولد أخرس.
ج. الثالث: أنه المسلوب الفؤاد.
د. الرابع: هو من جمع بين سلب الفؤاد وآفة في اللسان.
7. معنى قوله صم عن استماع الحق بكم عن التكلم وإن لم تكن لهم هذه الآفات كما قال الشاعر:
أصم عما ساءه سميع.
8. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ الصيب هو المطر، وقد قيل هو السحاب وهو من صاب يصوب كما قال الشاعر:
كأنهم صابت عليهم سحابة... صواعقها لطيرهن دبيب
فلا تعدلن بيني وبين معمر... سقيت غوادي المزن حين تصوب
9. ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ يكاد: يقارب، ويخطف: يسلب بسرعة، ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾
10. هذا مثل ضربه الله للمنافقين وفيه تأويلان أحدهما: كلما أضاء لهم الحق تبعوه وإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه، والثاني: كلما أصابوا في الإسلام خيراً اتبعوه وإن لم يصيبوا رفضوه وقعدوا عن الجهاد، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ والمراد بالسمع الأسماع وإن كان اللفظ للواحد كما قال كلوا في نصف بطنكم تعيشوا فإن زمانكم زمن خميص؛ أراد بطونكم.
11. قيل إن الرعد هو اختناق الريح تحت السماء، والثاني: أنه صوت اصطكاك أجزاء الهواء، والثالث: أنه صوت ملك يسوق السحاب كسوق الراعي للغنم.
12. قيل إن البرق: هو ضرب ذلك الملك للسحاب بمخراق من النور، هذا رويناه عن أمير المؤمنين علي.. والثاني: أنه ما ينقدح من اصطكاك أجرام الهواء من النار.
13. قيل إن الصواعق هي جمع صاعقة وهو الشديد من صوت الرعد تقع معه قطعة من النار لتحرق ما أتت عليه.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/29.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ فيه وجهان:
أ. أحدهما: أنه أراد كمثل الذي أوقد، فدخلت السين زائدة في الكلام، وهو قول الأخفش.
ب. الثاني: أنه أراد استوقد من غيره نارا للضياء، والنار مشتقة من النور.
2. قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ يقال ضاءت في نفسها، وأضاءت ما حولها، قال أبو الطمحان:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم... دجى اللّيل حتّى نظّم الجزع ثاقبه
3. قوله تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ فيه وجهان:
أ. أحدهما: نور المستوقد، لأنه في معنى الجمع، وهذا قول الأخفش.
ب. الثاني: بنور المنافقين، لأن المثل مضروب فيهم، وهو قول الجمهور.
4. في ذهاب نورهم وجهان:
أ. أحدهما: وهو قول الأصم ذهب الله بنورهم في الآخرة، حتى صار ذلك سمة لهم يعرفون بها.
ب. الثاني: أنه عنى النور الذي أظهروه للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من قلوبهم بالإسلام.
5. في قوله: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: معناه لم يأتهم بضياء يبصرون به.
ب. الثاني: أنه لم يخرجهم منه، كما يقال تركته في الدار، إذا لم تخرجه منها، وكأنّ ما حصلوا فيه من الظلمة بعد الضياء أسوأ حالا، لأن من طفئت عنه النار حتى صار في ظلمة، فهو أقل بصرا ممن لم يزل في الظلمة، وهذا مثل ضربه الله تعالى للمنافقين.
6. فيما كانوا فيه من الضياء، وجعلوا فيه من الظلمة قولان:
أ. أحدهما: أن ضياءهم دخولهم في الإسلام بعد كفرهم، والظلمة خروجهم منه بنفاقهم.
ب. الثاني: أن الضياء يعود للمنافقين بالدخول في جملة المسلمين، والظلمة زواله عنهم في الآخرة، وهذا قول ابن عباس وقتادة.
7. قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ وهذا جمع: أصم، وأبكم، وأعمى، وأصل الصّمم الانسداد، يقال قناة صماء، إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة، إذا سددتها، فالأصم: من انسدّت خروق مسامعه.
8. البكم، فيه أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أنه آفة في اللسان، لا يتمكن معها من أن يعتمد على مواضع الحروف.
ب. الثاني: أنه الذي يولد أخرس.
ج. الثالث: أنه المسلوب الفؤاد، الذي لا يعي شيئا ولا يفهمه.
د. الرابع: أنه الذي يجمع بين الخرس وذهاب الفؤاد.
9. معنى الكلام، أنهم صمّ عن استماع الحق، بكم عن التكلم به، عمي عن الإبصار له، روى ذلك قتادة، ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ يعني إلى الإسلام.
10. ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ وهذا مثل ضربه الله تعالى للمنافقين، وفيه تأويلان:
أ. أحدهما: معناه كلما أضاء لهم الحق اتبعوه، وإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه.
ب. الثاني: معناه كلما غنموا وأصابوا من الإسلام خيرا، اتبعوا المسلمين، وإذا أظلم عليهم فلم يصيبوا خيرا، قعدوا عن الجهاد.
قوله عزّ وجل: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ المراد الجمع وإن كان بلفظ الواحد، كما قال الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا... فإنّ زمانكم زمن خميص
11. في تشبيه المثل في هذه الآية وجوه:
أ. أحدها: أنه مثل للقرآن، شبّه المطر المنزّل من السماء بالقرآن، وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء، وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر، وما فيه من البرق بما في القرآن من البيان، وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد الآجل، والدعاء إلى الجهاد في العاجل، وهذا المعنى عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنه مثل، لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم، وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحهم ومواريثهم، وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل.
ج. الثالث: أنه ضرب الصيّب مثلا بظاهر إيمان المنافق، ومثل ما فيه من الظلمات بصلابته، وما فيه من البرق بنور إيمانه، وما فيه من الصواعق بهلاك نفاقه.
12. اختلف في معنى (أو) واستعمالاتها:
أ. أن (أو) قد تستعمل بمعنى الواو كما تستعمل للشك بحسب ما يدل عليه سياق الكلام، قال توبة بن الحمير:
وقد زعمت ليلى باني فاجر... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
ومعلوم أن توبة لم يقل ذلك على وجه الشك، وإنما وضعها موضع الواو، وقال جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدرا... كما أتى ربه موسى على قدر
ومثله كثير.
ب. قال الزجّاج: معنى (أو) في الآية التخيير، كأنه قال إنكم مخيرون بان تمثلوا المنافقين تارة بموقد النار، وتارة بمن حصل في المطر، يقال: جالس الحسن أو ابن سيرين. أي: انت مخير في مجالسة من شئت منهما.
13. في الصيّب تأويلان:
أ. أحدهما: أنه المطر، وهو قول ابن عباس وابن مسعود.
ب. الثاني: أنه السحاب، قال علقمة بن عبدة:
كأنهّم صابت عليهم سحابة... صواعقها لطيرهنّ دبيب
فلا تعدلي بيني وبين مغمّر... سقيت غوادي المزن حين تصوب
14. في الرعد ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أنه ملك ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه، فسمّي الصوت رعدا باسم ذلك الملك، وبه قال الخليل:
ب. الثاني: أنه ريح تختنق تحت السحاب فتصوّب ذلك الصوت، وهو قول ابن عباس.
ج. الثالث: أنه صوت اصطكاك الأجرام.
15. في البرق ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أنه ضرب الملك الذي هو الرعد للسحاب بمخراق من حديد، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ب. الثاني: أنه ضربه بسوط من نور، وهذا قول ابن عباس.
ج. الثالث: أنه ما ينقدح من اصطكاك الأجرام.
16. الصواعق جمع صاعقة، وهو الشديد من صوت الرعد تقع معه قطعة نار، تحرق ما أتت عليه.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/77.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. قوله تعالى: ﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ معناه: أوقد ناراً كما يقال استجاب بمعنى أجاب قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب الى الندى... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
يريد: فلم يجبه الوَقود: الحطب، والوُقود: مصدر وقدت النار وقودا، والاستيقاد: طلب الوقود: والإيقاد: إيقاد النار، والتوقد، والتوهج، والإيقاد: التهاب النار.
ب. أصل النار النور. نار الشيء إذا ظهر نوره، وأنار: اظهر نوره، واستنار: طلب اظهار نوره، والمنار: العلامات، والنار: السمت، وضاءت النار: ظهر ضوؤها وكل ما وضح فقد أضاء، وأضاء القمر الدار: كقوله: أضاءت ما حوله. قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم... دجى الليل حتى نظّم الدر ثاقبه
ج. الظلمات: جمع الظلمة، وأصلها انتقاص الحق من قوله: ولم تظلم منه شيئاً أي لم تنقص، واظلم الجواد احتمل انتقاص الحق لكرمه، ومن أشبه أباه فما ظلم أي ما انتقص حق الشبه، وظلمت الناقة: إذا نحرت من غير علة.. والظلم: ماء الأسنان من اللون لا من الريق، والظلم: الثلج.
د. أصل الصم: السد، فمنه الصم: سد الأذن بما لا يقع معه سمع وقناة صماء: كبيرة الجوف صلبة، لسد جوفها بامتلائها، وفلان أصم، لسد خروق مسامعه عن ادراك الصوت، وحجر أصم، أي صلب، وفتنة صماء: أي شديدة، والتصميم: المضي في الأمر، والصمام: ما يشد به رأس القارورة، لسده رأسها، والفعل: أصمها، والصميم: العظم الذي هو قوام العضو، لسد الخلل به.
هـ. أصل البكم: الخرس، وقيل هو الذي يولد أخرس وبكم عن الكلام: إذا امتنع منه جهلا أو تعمداً كالخرس والأبكم: الذي لا يفصح، لأنه كالخرس.
و. أصل العمى: ذهاب الإدراك بالعين والعمى في القلب كالعمى في العين بآفة تمنع من الفهم وأعماه: إذا أوجد في عينيه عمىً، وعمّى الكتاب تعمية، وتعامى عن الأمر تعامياً وتعمى الأمر: تطمس كأن به عمى وما أعماه: من عمى القلب، ولا يقال ذلك من الجارحة، والعماية: الغواية، والعماء: السحاب الكثيف المطبق.
ز. الرجوع: مصدر رجع يرجع رجوعا، ورجعه رجعا، والارتجاع: اجتلاب الرجوع، والاسترجاع: طلب الرجوع، وتراجع: تحامل، وترجع: تعمد للرجوع ورجّع: كثر في الرجوع، ورجع الجواب: رده، والمرجوعة: جواب الرسالة، والرجع: المطر، ومنه قوله: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ والرجع: نبت الربيع والرجوع عن الشيء بخلاف الرجوع اليه.
ح. الموت: ضد الحياة، والاماتة: فعل بعده الموت، والميتة: ما لم تدرك ذكاته، والميتة: الموت في حال مخصوص من ذلك ميتة سوء، والموتان: وقوع الموت في المواشي، وموّتت المواشي: إذا كثر فيها الموت، وموتان الأرض: التي لم تزرع.
ط. الحذر: طلب السلامة من المضرة، وحذّره تحذيرا، وحاذره محاذرة والحذيرة: المكان الغليظ، لأنه يتحذر منه.
ي. معنى (يكاد): يقارب، وفيه مبالغة في القرب، وحذفت منه أن، لأنها للاستقبال. قال الفرزدق:
يكاد يمسكه عرفان راحته... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
ك. (يخطف) فيه لغتان يقال: خطف يخطف، وخطِف يخطف، والأول أفصح، وعليه القراء، وروي عن الحسن (يخطف) ـ بكسر الخاء وكسر الطاء ـ ويروى (يخطف) بكسر الياء والخاء والطاء، والخطف: السلب، ومنه الحديث، أنه نهى عن الخطفة: يعني النهبة، ومنه قيل الخطاف: والذي يخرج به الدلو من البئر (خطاف)، لاختطافه واستلابه. قال نابغة بني ذبيان:
خطاطيف حجن في حبال متينة... تمد بها أيد اليك نوازع
ل. الصواعق جمع صاعقة: وهو الشديد من صوت الرعد، فتقع منه قطعة نار تحرق ما وقعت فيه، والصاعقة: صيحة العذاب، والصاعاق: الصوت الشديد للثور والحمار صعق صعاقا، والصعق: الموت من صوت الصاعقة، والصعق: الغشي من صوت الصاعقة. صعق فهو صعق، ومنه قوله: ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ وروي شهر ابن حوشب: ان الملك إذا اشتد غضبه، طارت النار من فيه، فهي الصواعق، وقيل: إن الصواعق نار تنقدح من اصطكاك الاجرام، وقريش وغيرهم من الفصحاء يقولون: صاعقة وصواعق، والقوم يصعقون، وتميم وبعض ربيعة يقولون: صواقع، والقوم يصقعون.
م. الصيب على فيعل من صاب يصوب، وأصله صَيوِبْ، لكن استقبلتها ياء ساكنة فقلبت الواو ياء وأدغمتا، كما قيل: سيد من ساد يسود، وجيد من جاد يجود، قياساً مطرداً، والصيب المطر، وكل نازل من علو الى أسفل يقال فيه صاب يصوب. قال الشاعر:
كأنهم صابت عليهم سحابة... صواعقها لطيرهن دبيب
وقال عبيد بن الأبرص:
حيّ عفاها صيب رعده... داني النواحي مغدق وابل
2. من الأقوال في قوله تعالى: ﴿فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ :
أ. قال ابن عباس: إنهم يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر، أطفأوه بكفرهم به، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق.
ب. وروي عنه أيضاً أنه قال: هذا مثل ضربه الله تعالى للمنافقين، أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويولدونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا، سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه، وتركهم في عذاب، وهو أحسن الوجوه.
ج. قال أبو مسلم: معناه أنه لا نور لهم في الآخرة، وإن ما أظهروه في الدنيا، يضمحل سريعاً كاضمحلال هذه اللمعة، وحال من يقع في الظلمة بعد الضياء أشقى في الحيرة، فكذلك حال المنافقين في حيرتهم بعد اهتدائهم، ويزيد استضرارهم على استضرار من طفئت ناره بسوء العاقبة.
د. روي عن ابن مسعود وغيره أن ذلك في قوم كانوا أظهروا الإسلام، ثم أظهروا النفاق، فكان النور الايمان، والظلمة نفاقهم.
هـ. وقيل فيها وجوه تقارب ما قلناه.
3. في الموضع الذي جعله مثلا لأفعالهم جائز حسن وله نظائر كقوله: ﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾، والمعنى: كدور أعين الذي يغشى عليه من الموت.. وكقوله ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ ومعناه إلا كبعث نفس واحدة.. لأن التمثيل وقع للفعل بالفعل وأما في تمثيل الأجسام لجماعة من الرجال في تمام الخلق والطول بالواحد من الخيل، فغير جائز، ولا في نظائره.. والفرق بينهما، أن معنى الآية، أن مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا من الإقرار بالله، وبمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبما جاء به قولا ـ وهم به مكذبون اعتقاداً ـ كمثل استضاءة الموقد، ثم اسقط ذكر الاستضاءة، وأضاف المثل اليهم كما قال الشاعر وهو نابغة جعدة:
وكيف تواصل من أصبحت... خلالته كأبي مرحب
أي كخلالة أبي مرحب، واسقط لدلالة الكلام عليه، وأما إذا أراد تشبيه الجماعة من بني آدم وأعيان ذوي الصور والأجسام بشيء فالصواب أن يشبه الجماعة بالجماعة، والواحد بالواحد، لأن عين كل واحد منهم غير اعيان الأخر كما قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾، وقال: ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾، وأراد جنس النخل ومثل قوله: ما أفعالكم إلا كفعل الكلب ثم يحذف الفعل فيقال: ما أفعالكم إلا كالكلب.
4. قيل: إن (الذي) بمعنى الذين كقوله: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ وقال الشاعر:
وان الذي حانت بفلج دماؤهم... هم القوم كل القوم يا ام خالد
وانما جاز ذلك، لأن الذين منهم يحتمل الوجوه المختلفة وضعف هذا الوجه من حيث ان في الآية الثانية وفي البيت دلالة على انه أريد به الجمع، وليس ذلك في الآية التي نحن فيها.. وقيل فيه وجه ثالث وهو أن التقدير: مثلهم كمثل اتباع الذي استوقد ناراً وكما قال ﴿ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ﴾ وإنما أراد أهلها.
5. المعنى: إنهم صم عن الحق لا يعرفونه، لأنهم كانوا يسمعون بآذانهم، وبكم عن الحق لا ينطقون مع ان ألسنتهم صحيحة، عمي لا يعرفون الحق وأعينهم صحيحة، كما قال: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾
6. ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ يحتمل:
أ. ما روي عن ابن عباس، أنه على الذم والاستبطاء.
ب. ما روي عن ابن مسعود، انهم لا يرجعون الى الإسلام.
ج. قال قوم: إنهم لا يرجعون عن شراء الضلالة بالهدى، وهو أليق بما تقدم وهذا يدل على أن قوله: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وطبع الله عليها، ليس هو على وجه الحيلولة بينهم وبين الايمان، لأنه وصفهم بالصم والبكم، والعمى مع صحة حواسهم.
7. انما أخبر الله تعالى بذلك عن إلفهم الكفر واستثقالهم للحق والايمان كأنهم ما سمعوه ولا رأوه فلذلك قال: ﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ ﴿وَأَضَلَّهُمُ﴾ ﴿ وأصمهم ﴾ ﴿وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ ﴿ وجعل على قلوبهم أكنة ﴾ ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾، وكان ذلك إخباراً عما أحدثوه عند امتحان الله إياهم وأمره لهم بالطاعة والايمان لأنه ما فعل بهم ما منعهم من الايمان، وقد يقول الرجل: حب المال قد أعمى فلاناً وأصمه ولا يريد بذلك نفي حاسته لكنه إذا شغله عن الحقوق والقيام بما يجب عليه قيل: أصمه وأعماه وكما قيل في المثل: حبك للشيء يعمي ويصم ـ ويريدون به ما قلناه وقال مسكين الدارمي:
أعمى إذا ما جارتي خرجت... حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما... سمعي وما بي غيره وقر
وقال آخر: أصم عما ساءه سميع. فجمع الوصفين.
8. إنما جاز ﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ بعد وصف حالهم في الآخرة كما في قوله: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ لأمرين:
أ. أحدهما ـ ان المعتمد من الكلام على ضرب المثل لهم في الدنيا في الانتفاع بإظهار الايمان.
ب. الثاني ـ إنه اعتراض بين مثلين بما يحقق حالهم فيهما على سائر أمرهما، وقيل إن معناه: التقديم والتأخير.
9. ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ : يعني إذا كثرت أموالهم، وأصابوا غنيمة وفتحاً، مشوا فيه، وقالوا دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم صحيح.. ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ : يعني إذا أهلكت أموالهم، وولد البنات، وأصابهم البلاء، قالوا: هذا من أجل دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وارتدوا كما قام ذانك المنافقان إذا أظلم البرق عليهما.
10. هذا مثل آخر، ضربه الله بالرعد والبرق لما هم فيه من الحيرة والالتباس، يقول: لا يرجعون الى الحق إلا خلسا كما يلمع البرق، ثم يعودون الى ضلالهم وأصلهم الذي هم عليه ثابتون واليه يرجعون، والكفر كظلمة الليل والمطر الذي يعرض في خلالهما البرق لمعاً، وهم في أثناء ذلك يحذرون الوعيد والعذاب العاجل إن أظهروا الكفر كما يحذرون الصواعق من الرعد، فيضعون أصابعهم في آذانهم ارتياعا وانزعاجا في الحال ثم يعودون الى الحيرة والضلال.
11. جعل الله تعالى ضوء البرق، وشدة شعاع نوره، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، واليوم الآخر، ثم قال: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ : يعني كلما أضاء البرق لهم، وجعل البرق مثلا لإيمانهم، وإضاءة الايمان أن يروا فيه ما يعجبهم في عاجل دنياهم، من إصابة الغنائم، والنصرة على الأعداء، فلذلك أضاء لهم، لأنهم إنما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الإقرار ابتغاء ذلك، ومدافعة عن أنفسهم وأموالهم، كما قال ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾
12. ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ﴾ يعني ضوء البرق على السائرين في الصيب الذي ضربه مثلا للمنافقين، وظلام المنافقين: أن يروا في الإسلام ما لا يعجبهم في دنياهم، من ابتلاء الله المؤمنين بالضراء، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء من إخفاقهم في مغزاهم، أو إدالة عدوهم، أو إدبار دنياهم عنهم، أقاموا على نفاقهم، وثبتوا على ضلالهم، كما ثبت السائر في الصيب الذي ضربه مثلا. ﴿ إِذا أَظْلَمَ ﴾ وخفت ضوء البرق، فحار في طريقه، فلم يعرف منهجه.
13. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾، انما خص الله تعالى ذكر السمع والبصر، انه لو شاء، لذهب بهما دون سائر أعضائهم، لما جرى من ذكرهما في الآيتين من قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾، وفي قوله: ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ فلما جرى ذكرهما على وجه المثل، عقب بذكر ذلك بانه لو شاء، أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم، وكفرهم، كما توعد في قوله: ﴿مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾
14. وقوله: (بسمعهم) مصدر يدل على الجمع وقيل: إنه واحد موضوع للجمع، فكأنه أراد (بأسماعهم) قال الشاعر:
كلوا في نصف بطنكم تعفوا... فان زمانكم زمن خميص
أراد البطون ويقال: ذهبت به وأذهبته وحكي أذهب به، وهو ضعيف ذكره الزجّاج والمعنى: ولو شاء الله لأظهر على كفرهم فدمر عليهم وأهلكهم لأنه (على كل شيء قدير): أي قادر وفيه مبالغة.
15. هذا مثل ضربه الله للمنافقين، كان المعنى: أو كأصحاب صيب، فجعل كفر الإسلام لهم مثلا فيما ينالهم فيه من الشدائد، والخوف، وما يستضيئون به من البرق مثلا لما يستضيئون به من الإسلام، وما ينالهم من الخوف في البرق بمنزلة ما يخافونه من القتل بدلالة قوله: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ وقال ابن عباس: الصيب القطر، وقال عطا: هو المطر، وبه قال ابن مسعود، وجماعة من الصحابة، وبه قال قتادة، وقال مجاهد: الصيب: الربيع، أو كمثل مطر مظلم ودقه يجري من السماء، تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة.
16. في تأويل الآية، وتشبيه المثل أقاويل:
أ. روي عن ابن عباس: أنه مثل للقرآن. شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن وما فيه الظلمات بما في القرآن من الابتلاء، وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر، وما فيه من البرق بما فيه من البيان، وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلا، والدعاء الى الجهاد عاجلا.
ب. وقيل: إنه مثل للدنيا وما فيها من الشدة والرخاء، والبلاء كالصيب الذي يجمع نفعاً وضراً، فان المنافق يدفع عاجل الضر، ويطلب آجل النفع.
ج. الثالث ـ انه مثل القيمة لما يخافونه من وعيد الآخرة، لشكهم في دينهم وما فيه من البرق بما فيه من إظهار الإسلام، من حقن دمائهم، ومناكحتهم، ومواريثهم، وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل.
د. الرابع ـ أنه ضرب الصيب مثلا بضرب إيمان المنافق، ومثل ما في الظلمات بضلالته، وما فيه من البرق بنور إيمانه، وما فيه من الصواعق بهلاك نفاقه.. والوجه الأخير أشبه بالظاهر، وأليق بما تقدم.
17. اختلف في الرعد:
أ. قال قوم: هو ملك موكل بالسحاب يسبح، روي ذلك عن مجاهد وابن عباس، وأبي صالح، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام.
ب. قال قوم: هو ريح يختنق تحت السماء، رواه ابو خالد عن ابن عباس.
ج. قال قوم: هو اصطكاك اجرام السحاب.
18. من قال: انه ملك قدر فيه صوته، كأنه قال فيه ظلمات وصوت رعد، لأنه روي انه يزعق به، كما يزعق الراعي بغنمه.
19. الصيب إذا كان مطراً، والرعد إذا كان صوت ملك، كان يجب أن يكون الصوت في المطر، لأنه قال: فيه) والهاء راجعة اليه، والمعلوم خلافه، لأن الصوت في السحاب والمطر في الجو الى أن ينزل، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: لا يمتنع أن يحل الصوت المطر حين انفصاله من السحاب، ولا مانع يمنع منه، ويحتمل أن يكون المراد بفي (مع)، كأنه قال معه ظلمات ورعد، وقد بينا جوازه فيما مضى.
20. البرق، روي عن علي عليه السلام أنه قال مخاريق الملائكة من حديد، تضرب بها السحاب، فتنقدح منها النار.. وروي عن ابن عباس: انه سوط من نور، يزجر به الملك السحاب، وقال قوم: إنه ما رواه ابو خالد عن ابن عباس، وقال مجاهد: هو مصع ملك، والمصاع: المجالدة بالسيوف وبغيرها، قال أعشى بني ثعلبة، يصف جواري لعبن بحليهن:
إذا هن نازلن أقرانهن... وكان المصاع بما في الجون
يقال منه: ماصعه مصاعا، والمعاني متقاربة، لأن قول علي عليه السلام: إنه مخاريق، وقول ابن عباس: إنه سياط يتقاربان، وما قال مجاهد: إنه مصاع قريب، لأنه لا يمتنع انه أراد مصاع الملك بذلك، وإزجاره به.
21. قوله تعالى: ﴿مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما ـ إنه عالم بهم ـ وإن كان عالماً بغيرهم ـ وإنما خصهم لما فيه من التهديد.
ب. الثاني ـ إنه المقتدر عليهم ـ وان كان مقتدراً على غيرهم ـ، لأنه تقدم ذكرهم، ولما فيه من الوعيد، والمحيط: القادر. قال الشاعر:
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا... بما قدروا مالوا جميعاً الى السلم
أي قدرنا عليهم.
22. الاحاطة بمعنى كون الشيء حول الشيء، مما يحيط به فلا يجوز على الله تعالى، لأنه من صفات الأجسام، والذي يجوز، الاحاطة بمعنى الاقدار والملك، كما يقال: أحاط ملكك بمال عظيم: يعنون أنه يملك ما لا عظيما، ويقال: حاطه يحوطه حوطا: إذا حفظه من سوء يلحقه، ومنه الحائط، لأنه يحيط بما فيه، وأحاط به: جعل عليه كالحائط الدائر، والاحتياط: الاجتهاد في حفظ الشيء.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/79.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المَثَل والمثيل، والشبه والشبيه، وهو المثال؛ لأنه يشبه الصورة، ويقال: هذا أَمْثَلُ، أي أشبه، والأمثال من أعظم البيان؛ ولذلك قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ والاستيقاد: طلب الوقود، ونظيره الاشتعال والإضرام، ونقيضه الإطفاء، يقال: أوقد النار إيقادًا، والوقود: الحطب، وأما استوقد فقيل: معناه أوقد، كما يقال: استجاب وأجاب، وقيل: طلب الوقود، وقيل: استوقد: استدفأ بالنار للضياء.
ب. النار: جوهر مضيء حار محرق، وأصله من النور، يقال: نار وأنار واستنار بمعنى أضاء، ومنه فَرَضَ عُمَرُ فَرِيضَةَ الجَدِّ فَأنارَها، أي أوضحها وأضاءها، ونظيره السعير والجحيم، وفيه منافع للاستيضاء، والاصطلاء، والإنضاج، والتحليل، والزجر بها.
ج. الضياء: الإشراق، ونقيضه الظلام، ضاءت النار وأضاءت لغتان، وقيل: الضياء والظلام لونان على حالهما، والصحيح أنهما من جنس السواد والبياض، وقيل: تحرق باعتمادات فيها، عن جماعة، وقيل: بل هو فعل اللَّه اخْتِرَاعًا للعادة، وما يظهر عند الإيقاد قيل فعل اللَّه ابتداء، وقيل: كان كامنًا فظهر.
د. الذهاب مصدر ذهب يذهب إذا انطلق ذهابًا، وأذهبه إذهابًا، وذهب به فهو لازم يتعدى بالألف، والباء تقوم مقام الألف في أنه يعديه، ويُذْهِبُ الأبصار، وَيذْهَبُ بالأبصار بِمَعْنىً.
هـ. الترك للشيء والكف عنه هو والإمساك نظائر، والترك: نقيض الأخذ، وحد الترك: ضد الفعل في محل القدرة عليه، والترك لا يكون إلا فعلاً عند أبي علي، وقد لا يكون فعلاً عند أبي هاشم، ومعناه أنه لا يفعل، وبهذا المعنى يطلق عليه تعالى.
و. الظلام: ضد الضياء، وأصله الانتقاص، سمي به لأن نوره لا يزال ينتقص حتى يذهب.
ز. الإبصار والرؤية والمعاينة والمشاهدة نظائر، والإبصار: إدراك الشيء بحاسة العين، يقال: أبصر بعينه، وأبصر بقلبه مشبه به.
ح. الصَّمَمُ والوَقْرُ: الثقل في الأذن، والأصم: نقيض السميع، وأصل الصمم الصلابة، يقال: قناة صماء إذا كانت مكتنزة الجوف، وسُمِّيَ الحجارة صَمّاء لأجل ذلك، وسمي الأصم به؛ لأنه انسدت خروق مسامعه.
ط. الأبكم الذي وُلدَ أخرس، والبَكَم: الاعتقال في اللسان، وهي آفة تمنع من الكلام.
ي. الأعمى الذي ذهب بصره عَمِيَ عَمًى.
ك. الرجوع عن الشيء: الانقلاب عنه، يقال: رجع عنه، ورجع إليه، وهو من الأضداد، والرِّجعة: مراجعة الرجل أهله بعد الطلاق.
ل. الصيب: السحاب، والصيب: المطر، من قولهمْ: صَابَ يصوب صوبًا إذا انحدر، قال الشاعر:
فَلَسْتَ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لَمَلْأَكٍ.. تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
وقال أبو ذؤيب:
بِقَرَارِ قِيعان سَقَاها صَيبٌ.. وَاهٍ فَأَثْجَمَ بُرْهَةً لاَ يُقْلِعُ وأصله صَيْوِبٌ
أبدلت الواو ياء لمكان الكسرة، ثم أدغمت في الياء.
م. السماء: معروفة، وسماء البيت سقفه، وسماوة الهلال تشخصه، ويقال: أصابهم سماء أي مطر، وقيل: إنه اسم جنس، وقيل: واحده سماوة، وأصله من سما يسمو، فقلبت الواو همزة، لأن الألف لا يخلو من همزة، والمدة كالحركة.
ن. الظلمات: جمع ظلمة، والرعد: الصوت الشديد، يسمع من السحاب، يقال: رعدت السماء.
س. البرق: اللمع المنقدح من السحاب، والبارقة: السحاب ذات البرق، وكل شيء تلألأ فهو بارق، ومنه قيل للسيوف: بوارق.
ع. الجعل والتكوين والتصوير نظائر، ويستعمل الجعل على أربعة أوجه:
• أولها: يقال: جعلت الطين خزفا، أي: قلبته؟
• الثاني: جعلته امرأته، أي: ظنًا وتوهمًا.
• الثالث: جعلت كلامي شعرًا، أي: من هذا الجنس.
• الرابع: جعل: صنع.
ف. الأصابع: جمع أصبع، ويؤنث؛ لأن ما في البدن من الأزواج يؤنث كالعين والأذن، والأفراد تُذَكَّرُ، كالأنف والفم والرأس، وواحدها أَصْبَعُ، وإِصْبَع، وأُصْبَع، وكل ما يمكن أن يطلق من الأبنية قد تكلموا به إلا ما ليس في الكلام مثله، كَأُصْبع بضم الألف، وكسر الباء.
ص. الأذن: الحاسة التي يسمع بها، ومنه الأذان بمعنى، الإعلام؛ لأنه يسمع بالأذن.
ق. الصاعقة: الوقع الشديد من صوت الرعد، يسقط معه نار تحرق، وجمعه صواعق، والصاعقة: صيحة العذاب.
ر. الحذر: طلب السلامة، يقال: حَذِرَ حَذَرًا.
ش. الإحاطة بالشيء: الإحداق به، ومنه الحائط، ومنه أحاط بالشيء إذا بلغ علمه أقصاه.
ت. كاد: قارب، يقولون: كاد يفعل، ويقارب أن يفعل، يأتون ب (أن) مع (يقارب)، ولا يأتون به مع (يكاد) مبالغة في التقريب إذا كانت (أن) للاستقبال، ومعنى يكاد: يقرب أن يفعل، قال الشاعر:
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانُ رَاحَتِهِ.. رُكْنُ الحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
ومنه: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾
ث. الخطف: الأخذ في استلاب، خَطَفَ بفتح الطاء في الماضي يَخْطِفُ بكسرها في المستقبل، وبكسر الطاء في الماضي، وبفتحها في المستقبل لغتان، والثاني: أفصح، والخطف: الاختلاس السريع.
خ. قام ووقف: نظيران.
ذ. المشيئة والإرادة واحد، وهما عَرَضانِ يتعاقبان على الحي، ومحلهما من العباد القلب، وإرادة القديم وكراهته لا في محل.
ض. الشيء ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وجمعه أشياء، وهو أول الأسماء وأعمها وأبهمها.
ظ. قدير وقادر بِمَعْنًى إلا أن في (قدير) مبالغة كعليم وعالم.
2. اختلف في عموم هذه الآيات وخصوصها:
أ. قيل: نزلت في المنافقين، عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي ومقاتل.
ب. وقيل: نزلت في اليهود، آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل البعث، وهاجروا من الشام إلى أرض العرب توقعًا له، واستفتحوا به، فلما بعث كفروا به، وهم: قريظة والنضير وبنو قينقاع، عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب وعطاء.
3. لما تقدم ذكر المنافقين، وأنهم نافقوا ليسلموا من القتل ضرب اللَّه تعالى لهم مثلا فقال: ﴿مَثَلُهُمْ﴾ قيل: شَبَهُهُمْ، أي شبه المنافقين لما أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وقيل: شبه اليهود في إيمانهم بمحمد قبل البعث، ثم كفرهم به بِمُسْتَوْقِدٍ نارًا، ثم طفئت ناره، عن سعيد بن جبير وعطاء، ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ يعني أوقدها وأشعلها ﴿أَضَاءَتْ﴾ أنارت ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ طفئت النار، و ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾
4. شبههم وهم جماعة بالذي استوقد، وهو واحد لوجوه:
أ. الأول: ﴿الَّذِي﴾ في معنى الجمع، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ ثم قال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ قال الشاعر:
وَإِنَّ الَّذِي حَاَنت بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْ... هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمَ يَا أُمَّ خَالِدِ
ثم اختلف هَؤُلَاءِ على ثلاثة أوجه:
• قيل: النون محذوفة، وأصله الَّذِينَ، قال الشاعر:
أَبَنِي كُلَيْبٍ إِنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا... قَتَلاَ المُلوكَ وَفَكَّكَا الأغلآلاَ
فحذف النون من ﴿ اللذان ﴾
• وقيل ﴿الَّذِي﴾ اسم مبهم يصلح للواحد والجمع كـ ﴿مِنَ﴾، قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ وقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ فأخرج مرة على اللفظ، ومرة على المعنى؛ لإبهامه، كذلك ﴿الَّذِي﴾، قالوا: ولا حاجة إلى الحذف.
• وقيل: يقال للواحد: اللذ، وللاثنين اللذان، وفي الجمع الَّذِينَ، والذي جمع الجمع، قال الشاعر:
قَدْ كُنْتَ فِي الأمْرِ الَّذي قَدْ كِيدَا... كَاللذْ تَزَبَّى زُبْيَةً فَاصطِيدَا
وفي التثنية: أبني كليب إِنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا.. وفي الجمع: وَإِنَّ الَّذِي حَانت بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ.
ب. الثاني: أن يكون ﴿الَّذِي﴾ على التوحيد، فيصح ذلك في التقدير؛ وذلك لأن الشبه في الحقيقة هو استضاءة المنافقين بالإيمان كاستضاءة المستوقد بالنار، وإذا قدر على هذا الوجه يستوي فيه الواحد والجمع؛ لأن التقابل يقع لحال هَؤُلَاءِ بحال أولئك؛ لهذا يقال: يحسن لو شبهت الجماعة بالجماعة، أو شبهت الجماعة بالواحد، كما يقال، ما هم إلا كالبهيمة.. وقيل: أراد تشبيه كل واحد من هَؤُلَاءِ بواحد من أولئك، كما يقال: هَؤُلَاءِ الأَسدُ، يعني كل واحد منهم كالأسد، وهذا يقرب من الذي تقدمه.
ج. الثالث: أراد بالمستوقد الجنس؛ إذ ليس المراد تعريف واحد بعينه؛ لإيهام ﴿الَّذِي﴾، وعلى هذا يكون جواب ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ محذوفًا، كأنه قال: طفئت، فالضمير في قوله: ﴿بِنُورِهِمْ﴾ يعود إلى المنافقين.
د. الرابع: أراد مثلهم كمثل أَتْباع الذي استوقد نارًا، فحذف المضاف، وأقام المضاف اليه مقامه، قال الشاعر:
وَكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ... خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
القائل هو النابغة بن جعدة، والخُلَّةُ والخلالة الصداقة التي ليس فيها خلل، وأبو مرحب كناية عن الظل، يريد أنها تزول كما يزول الظل لا تبقى له مودة، أي كخلالة أبي مرحب.
5. قيل: افتتح الآية بالجمع ثم وحد المستوقد، ثم ختم بالجمع؛ لأن الرفقة جماعة، والمستوقد يكون واحدًا، ومنفعة النار تحصل لجماعتهم، وبالإطفاء تذهب منافعها لهم وضررها عليهم، فهذا وجه جائز.
6. وجه تشبيه حال المنافقين بالمستوقد نارًا لوجوه:
أ. قيل: أن حال المنافقين كحال مسافر ضَلَّ الطريق، وحير في الظلمة فاستوقد نارًا، فلما أضاءت وأبصروا انطفأت نارهم فبقوا في ظلمات متراكمة؛ لأن أبلغ ما يكون من الظلمة إذا خُرِجَ من النور إليها، كذلك المنافقون في ظلم الكفر والشك، وخافوا القتل والسبي، فأظهروا كلمة الإيمان غير معتقدين طلبًا للسلامة، فلما ظنوا أنهم خدعوا رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين أطلع اللَّه رسوله على نفاقهم، فأمر بتغليظ القول فيهم، وبهجرانهم، وترك الصلاة عليهم، وبين أنهم في الدرك الأسفل من النار، فخمد نورهم، وبطل سعيهم، وصاروا في ضلالتهم متحيرين.
ب. وقيل: لما أظهروا الإيمان شاركوا المؤمنين في الغنيمة والأحكام وأَمِنوا فلما ماتوا وقعوا في العذاب، ولم ينتفعوا بإيمانهم، كما لم ينتفع هذا المستوقد وأتباعه بنارهم، عن ابن عباس وقتادة وجماعة.
ج. وقيل: أضاءت النار إقبالهم إلى المسلمين، وذهاب نورهم في إقبالهم إلى المشركين، عن مجاهد.
د. وقيل: أراد أنه لا نور لهم، وأنّ ما أظهروه من الإيمان إذا لم يكن عن نية وعقيدة يبطل، فيصيرون بلا نور يوم القيامة، بمنزلة هذا المستوقد، عن أبي مسلم.
هـ. وقيل: أراد أن شكهم أكبر لمخالطتهم بالمسلمين، وعذابهم أشد لنفاقهم، كما أن ظلمة المستوقد نارًا وطفئت أشد، وحيرته أكثر.
و. وقيل: إيمان اليهود بمحمد قبل البعث، ثم كفرهم به بعده كمستوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله طفئت، عن سعيد بن جبير.
7. ثم عاد إلى ذكر المنافقين، فقال تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ :
أ. قيل: صم عن استماع الحق، بكم عن التكلم به، عمي عن الإبصار له، والمراد التشبيه، لا أن صفتهم كذلك؛ إذ لو كانوا كذلك لما ذُمُّوا به، قال الشاعر: أَصَمُّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ.. وإنما أطلق الوصف للمبالغة في الذم.
ب. وقيل: أراد: هُمْ كصُم وكبُكْم، فحذف أداة التشبيه مبالغة، كقولهم: فلان أسد، قال الشاعر:
بَدَتْ قَمَرًا وَمَالَتْ خُوطَ بَانٍ... وَفَاحَتْ عَنْبَرًا وَرَنَتْ غَزَالاَ
ج. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، كأنه قيل: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾، ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ .. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾؛ لأن ﴿صُمٌّ﴾ وصفهم في الدنيا، فيتصل بقوله: ﴿ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَه بِالْهُدَى ﴾، وقيل: هذا لا وجه له؛ لأن الكلام يصح من دونه، فكأنه قيل: هم في ظلمات في الآخرة، وفي الدنيا ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ قيل: إنه ذم لهم واستبطاء، عن ابن عباس.
د. وقيل: لا يرجعون إلى الإسلام، عن ابن مسعود والأصم وأبي مسلم، فهو خَبَرٌ، وقيل: لا يرجعون إلى ما فيه صلاحهم، عن أبي علي، وقيل: لا يرجعون عن العمى والجهل.
8. ثم عطف تعالى مثلاً آخر لهم على المثل الأول، فقال تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ :
أ. قيل: كسحاب ذي مطر.
ب. وقيل: كمطر، عن الأخفش.
9. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي منزل من السماء ﴿فِيهِ﴾ يعني: في الصيب ﴿ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ﴾، اختلف فيه:
أ. قيل: هو صوت ملك يزجر السحاب.
ب. وقيل: الرعد هو الملك، ثم سمي ذلك الصوت باسم ذلك الملك، عن علي وابن عباس ومجاهد.
ج. وقيل: الرعد صوت ريح تَخْتَفِقُ تحت السحاب، عن أبي الجلد.
د. وقيل: هو اصطكاك أجرام السحاب.
10. ﴿وَبَرْقٌ﴾، اختلف فيه:
أ. قيل: الرعد ملك، والبرق ضربه بمخراق من حديد، عن علي.
ب. وقيل: بسوط من نور، عن ابن عباس، وقيل: عن تحريك أجنحة الملائكة الَّذِينَ وكلوا بالسحاب.
ج. وقيل: هو ما ينقدح من اصطكاك الأجرام.
11. ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾، اختلف فيه:
أ. قيل: أي مخافة الموت.
ب. وقيل: هذا صفة المنافقين بالهلع، وضعف القلب، عن قتادة وابن جريج.
ج. وقيل: حذر الموت لأنهم آمنوا ظاهرًا من خوف المسلمين، ونافقوا مخافة الدائرة، فهم يحذرون الموت من كل وجه، عن الحسن.
12. ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾، اختلف فيه:
أ. قيل: أي قادر عليهم، لا يستطيعون الخروج عن قدرته، عن أبي علي.
ب. وقيل: أَحاط علمه بهم فيعلم سرائرهم، ويطلع رسوله والمؤمنين على سرائرهم، عن الأصم، وحقيقة الإحاطة لا تجوز على اللَّه تعالى؛ لأنه من صفات الأجسام، فلا بد من حمله على العلم والقدرة، والمراد أنه لا يفوته أحد.
13. وجه تشبيه المنافقين بالصيب على ما ذكر تعالى قيل فيه وجوه:
أ. أولها: أن المطر المنزل مشبه بالقرآن المنزل، وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء، وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر، وما فيه من البرق بما في القرآن من البيان الذي ينتفع به المنافق بإظهار الإيمان، وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعد والوعيد في الآجل، والدعاء إلى القتال في العاجل، عن ابن عباس.
ب. ثانيها: أن الصيب الغيث، وفيه الحياة مشبهة بالإسلام؛ لأن به الحياة، وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر، وما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل، وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن الدماء وإجراء الأحكام، ومن الإرث والنكاح والدفن، وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل، ومعنى هذا مروي عن الحسن، وتقديره: مَثَلُ إسلام المنافقين كمثل صيب هذا وصفه، وقيل: مَثَلُ تصديقهم بالقرآن كصيب هذا وصفه.
ج. ثالثها: مثل هَؤُلَاءِ المنافقين كمثل قوم أصابهم صيب، وحصلوا في ظلمات ورعد وبرق حتى جعلوا أصابعهم في آذانهم مخافة أن تنالهم الصاعقة، فتهلكهم فيجعلون أصابعهم في آذنهم كيلا يسمعوا منها شيئًا، كذلك هذا الجاهل ينفر عن سماع القرآن والحق، وإذا سمع شيئًا من ذلك يخاف أن يظهر عليه شيء فيقتل.. وقيل: الظلمات: الفتنة، والنور: الإيمان، أي كلما رأوا بلاءً وفتنة فارقوا الإسلام.
د. ورابعها: أن فيه سبعة أوجه من التشبيه:
• أولها: أن الرعد والبرق والظلمات والمطر يحير المسافر، كذلك نفاق هَؤُلَاءِ نهايةٌ في الحيرة.
• ثانيها: أن المطر، وإن كان ينفع فمع هذه المخاوف يتغير حاله، كذلك إيمانهم لما فارقوا الإخلاص تغير حاله في النفع.
• ثالثها: أن المسافر يرجو خلاصًا بجعل أصبعه في أذنه كذلك المنافق يرجو بإظهار الإيمان نفعًا.
• رابعها: أنه يجعل أصبعه في أذنه حذر الموت كذلك المنافق إذا دعي إلى الجهاد يؤخر خوفًا من الموت والقتل.
• خامسها: بأنهم وإن جعلوا أصابعهم في آذانهم لا يتخلصون من الموت كذلك هذا المنافق بالحذر لا يتخلص من النار بما يأتي في الظاهر.
• سادسها: أن المطر لا ينفع مع هذه الصواعق كذلك ظاهر الإيمان لا ينفع مع إبطان الكفر.
• سابعها: أن المنافق يتصور القتل في كل وقت، لو ظهر عليه فهو يخافه، ويعتريه نهاية من الحسرة، كهذا المسافر الذي هذه حاله.
هـ. ووجه خامس حسن: أنهم في إعراضهم من القرآن وَتَصامُمِهِمْ من استماعه بمنزلة من يسمع الصاعقة فيخاف الهلاك بها، ونظيره: ﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ وهذا هو الإيجاز الحسن، والاختصار الدال، عن أبي مسلم.
و. ووجه سادس: أن حال هَؤُلَاءِ المنافقين في تحيرهم وجهلهم وأنهم لا يهتدون إلى خير كحال هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هم في ظلمة الصيب والليل إذا أصابهم البرق مشوا فيه، وإذا ذهب البرق تحيروا، إلا أنه أشد تحيرًا ممن لم يزل في ظلمة فيطلبون طريقًا يسيرون فيها عند ذهاب البرق وغلبة الظلمة والتحير، فحال هَؤُلَاءِ المنافقين في تحيرهم كحال من بقي في الظلمة بعد البرق، عن أبي علي.
14. ثم بَيَّنَ تمامَ مثلِ المنافقين فقال تعالى: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ :
أ. قيل: يعني تكاد الدلائل والآيات تخطف قلوب هَؤُلَاءِ لما فيها من الإزعاج إلى النظر والدعاء إلى الحق كما يكاد البرق يخطف أبصار أولئك.
ب. وقيل: يكاد البرق يخطف أبصارهم لشدة ضوئه، فينتفعون به كما ينتفع هَؤُلَاءِ بإظهار الإيمان.
15. ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾، اختلف فيه:
أ. قيل: إذا دعوا إلى غنيمة وخير أسرعوا، وإذا وردت محنة أو شدة على المسلمين تحيروا لكفرهم، ووقفوا كما وقف أولئك في الظلمات متحيرين عن الأصم.
ب. وقيل: إذا انفتحت عليهم أمور الدنيا ساعدوا، وإذا امتحنوا بالمصائب توقفوا عن قتادة.
ج. وقيل: إذا آمنوا صار الإيمان لهم نورًا، وإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والعقاب.
د. وقيل: هم اليهود لما نُصر المسلمون ببدر قالوا: هو الذي بشر به موسى فلما نكبوا بأحد وقفوا وشكوا.
16. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ يعني: أنهم على خطر من ذهاب سمعهم وأبصارهم، كذلك المنافقون على أعظم الخطر، فيجب أن يبادروا إلى طاعته قبل أن يعاقبهم بنقمته.
17. ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، اختلف فيه:
أ. قيل: أي قادر على كل شيء من مقدور هو لا يفوته.
ب. وقيل: هو عام، وهو قادر على الأشياء على ثلاثة أوجه: على المعدومات، في مقدوره على أنه يوجده، وعلى الموجودات بأن يفنيه، وعلى مقدور غيره، بأن يقدر عليه ويمنع منه، عن أبي بكر أحمد بن علي.
ج. وقيل: هو خاص في مقدوراته، وأخرج على العموم للمبالغة بأنه قادر، عن أبي علي، ولا يجوز أن يكون قادرًا على مقدور غيره؛ لأن مقدورًا بين قادرين لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الشيء موجودًا معدومًا.
18. تدل الآية الكريمة على:
أ. بيان أحوال المنافقين، واغترارهم بعاجل الانتفاع وما عليهم من العقاب في الآخرة، والتحذير من مثل حالهم.
ب. أنه يضرب الأمثال للبيان والاعتبار.
ج. أن غير المخلص وإن أظهر قولاً فذا غير منتفع به، كمن طفئت ناره، فتكون حسرته أعظم.
د. أن من لم يسمع الحق فهو بمنزلة الأصم؛ لعدم انتفاعه بسمعه، وكذلك العين واللسان، إذا لم يستعمله في الحق فوجوده وعدمه بمنزلة واحدة، فتدل على أنه تعالى إنما هيأ هذه الآيات لتستعمل في الحق.
هـ. أن الواجب الاستماع إلى الحق ومعرفته واتباع الأدلة، وفيه تحذير من تركه مع سلامة الحواس وإزاحة العلة.
و. أن المراد بقوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ التشبيه، وأراد تصاممهم؛ لأنه أثبت لهم هذه الأعضاء، بقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ .
ز. وعيد هَؤُلَاءِ بأنهم لا يفوتونه، ولا ينبغي أن يغتروا بطول المهلة.
ح. أن المنافق على خطر عظيم، وأن التحرز عن مثلهم واجب.
19. مسائل نحوية:
أ. جواب قوله: ﴿أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ محذوف، وتقديره طفئت، وإنما جاز الحذف للإيجاز، ودلالة الكلام عليه؛ لأن قوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ يدل عليه، قال أبو ذؤيب:
عَصَانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهِ... مُطِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا
يعني: أَرُشْدٌ أم غَيّ، فحذف للإيجاز.
ب. (ما) في قوله: ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ صلة، وتقديره: فلما أضاء تحوله، و(حوله) نصب على الظرف.
ج. اختلف في ﴿أَوْ﴾ :
• قيل: معناه الواو، وهو واو العطف، تقديره: ﴿ مثله كمثل الذي استوقد نارا ﴾، ﴿ وَكَصَيِّب ﴾، قال توبة:
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّيَ فَاجِرٌ... لِنِفْسِي تُقَاهَاَ أوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا
يعني: وعليها.
وقال جرير:
نَال الخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
أي: وكانت، عن الفراء والكوفيين.
• والبصريون ينكرون ذلك، ويقولون: ﴿أَوْ﴾ على أربعة أوجه:
ـ أولها: الشك، كقولهم: أتاك رجل أو امرأة.
ـ الثاني: تخيير، كقولهم: كل السمك أو اشرب اللبن.
ـ الثالث: الإباحة، كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين.
ـ الرابع: لأحد الشيئين على الإيهام، كقوله ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ ويقولون: رأيت زيدًا أو عمرًا، يريد أن يوهم على السامع أيهما لقي، وأصله الدلالة على أحد الشيئين، كأنه قيل: إن شبهتهم بالمستوقد فهو شبههم، وإن شبهتهم بالصيب فهو شبههم، وإن شبهتهم بهما فهو مثلهم، ولو كان ﴿أَوْ﴾ بمعنى الواو لكان لا يشبه إلا بهما، والاثنان يخرجان على الإيهام الذي ذكرناه.
د. الصيب قيل: وزنه فَيْعِل، بكسر العين عن البصريين، ولا يوجد مثاله إلا في المعتل كسَيِّد وهيِّن، ولَيِّن، وأصله صَيْوِب، قلبت الواو ياء، وأدغمت، وقيل: وزنه فَعْيِل، وأصله صَيْيِب، فاستثقلت الكسرة على الياء فسكنت، وأدغمت إحداهما في الأخرى، وحُرِّكَتْ إلى الكسر عن الكوفيين.
هـ. نصب ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ لأنه مفعول له، كقولك: جئت مَخَافَةَ شرِّه. وقيل: نصب على المصدر، وقيل: على التفسير، عن الفراء. وقيل: بنزع حرف الصفة، يعني: من حذر الموت.
و. ﴿كُلَّمَا﴾ أصله ﴿كُلِّ﴾، وهي ظرف زمان ضمت إليها ﴿مَا﴾ الجزاء فصار أداة للتكرار، وهي منصوبة بالظرف، ومعناها متى.
ز. ﴿اللَّهُ﴾ نصب بـ ﴿إِنَّ﴾، وخبره في قوله: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/263.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. المثل والمثل، والشبه والشبه، نظائر.. وحقيقة المثل ما جعل كالعلم على معنى سائر يشبه فيه الثاني بالأول، ومثاله قول كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا، وما مواعيده إلا الأباطيل فمواعيد عرقوب: علم في كل ما لا يصح من المواعيد، ومنه التمثال لأنه يشبه الصورة.
ب. استوقد: بمعنى أوقد، مثل استجاب بمعنى أجاب.. وقيل: استوقد أي طلب الوقود، والوقود بفتح الواو: الحطب.
ج. والنار: جوهر مضيء حار محرق، وأصله من النور، يقال: نار وأنار واستنار بمعنى.. والمنارات: العلامات.
د. وأضاء يكون لازما ومتعديا، يقال أضاء الشيء بنفسه وأضاء غيره، والذي في الآية متعد.
هـ. والترك للشيء، والكف عنه، والإمساك، نظائر.
و. الظلمات: جمع ظلمة، وأصلها انتقاص الحق من قوله: (ولا تظلم منه شيئا) أي: لم تنقص، ومنه (ومن أشبه أباه فما ظلم) أي: ما انتقص حق الشبه.
ز. الإبصار: إدراك الشيء بحاسة البصر، يقال: أبصر بعينه والإبصار بالقلب مشبه به.
ح. الأصم: هو الذي ولد كذلك، وكذلك الأبكم: هو الذي ولد أخرس.. وأصل الصم: السد.. والصمم: سد الأذن بما لا يقع منه سمع.. وقناة صماء: صلبة مكتنزة الجوف لسد جوفها بامتلائها.. وحجر أصم: صلب.. وفتنة صماء: شديدة.. والصمام: ما يسد به رأس القارورة.
ط. وأصل البكم: الاعتقال في اللسان، وهو آفة تمنع من الكلام.
ي. أصل العمى: ذهاب الإدراك بالعين.. والعمى في القلب مثل العمى في العين: آفة تمنع من الفهم، ويقال: ما أعماه، من عمى القلب، ولا يقال ذلك في العين، وإنما يقال: ما أشد عماه، وما جرى مجراه.. والعماية: الغواية.. والعماء: السحاب الكثيف المطبق.
ك. الرجوع: قد يكون عن الشيء، أو إلى الشيء.. فالرجوع عن الشيء: هو الانصراف عنه بعد الذهاب إليه.. والرجوع إلى الشيء: هو الانصراف إليه بعد الذهاب عنه.
ل. الصيب: المطر أصلة صيوب فيعل من الصواب، لكن اجتمعت الواو والياء وأولاهما ساكنة، فصارتا ياء مشددة، ومثله سيد وجيد.
م. السماء: المعروف وكل ما علاك وأظلك فهو سماء.. وسماء البيت: سقفه.. وأصابهم سماء أي: مطر.. وأصله سماو من سموت، فقلبت الواو همزة لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة.
ن. جعل: يكون على وجوه:
• أحدها: أن يتعدى إلى مفعولين، نحو: جعلت الطين خزفا أي: صيرت.
• ثانيها: أن يأتي بمعنى صنع يتعدى إلى مفعول واحد نحو قوله ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾
• ثالثها: أن يأتي بمعنى التسمية كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ أي: سموا له.
• رابعها: أن يأتي بمعنى أفعال المقاربة، نحو: جعل زيد يفعل كذا.
س. الصواعق: جمع صاعقة، وهي الوقع الشديد من السحاب يسقط معه نار تحرق.. والصاعقة: صيحة العذاب.
ع. الحذر: طلب السلامة مما يخاف.
ف. الخطف: أخذ في استلاب، يقال: خطف يخطف، وخطف يخطف، لغتان، والثاني أفصح، وعليه القراءة، ومنه الخطاف، ويقال للذي يخرج به الدلو من البئر خطاف لاختطافه قال النابغة:
خطاطيف حجن في حبال متينة... تمد بها أيد إليك نوازع
ص. الشيء: ما يصح أن يعلم ويخبر عنه.. قال سيبويه: هو أول الأسماء وأعمها وأبهمها، لأنه يقع على المعدوم والموجود.. وقيل: إنه لا يقع إلا على الموجود، والصحيح الأول، وهو مذهب المحققين من المتكلمين، ويؤيده قوله تعالى في هذه الآية: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فإن كل شيء سواه محدث، وكل محدث فله حالتان: حالة عدم، وحالة وجود.. وإذا وجد خرج عن أن يكون مقدورا للقادر، لأن من المعلوم ضرورة أن الموجود لا يصح أن يوجد، فعلمنا أنه إنما يقدر عليه في حال عدمه، ليخرجه من العدم إلى الوجود، وعلى هذه المسألة يدور أكثر مسائل التوحيد.
2. ﴿مَثَلُهُمْ﴾ أي: مثل هؤلاء المنافقين لما أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ أي: أوقد نارا، أو كمثل الذي طلب الضياء بإيقاد النار في ليلة مظلمة، فاستضاء بها واستدفأ، ورأى ما حوله فاتقى ما يحذر ويخاف، وأمن، فبينا هو كذلك إذ أطفئت ناره، فبقي مظلما خائفا متحيرا، كذلك المنافقون: لما أظهروا كلمة الإيمان، واستناروا بنورها، واعتزوا بعزها، فناكحوا المسلمين ووارثوهم، وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، وبقوا في العذاب، وذلك معنى قوله ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ وهذا هو المروي، عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي.
3. كان يجب في حق النظم أن يكون اللفظ: فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره، ليشاكل جواب لما معنى هذه القضية، ولكن لما كان إطفاء هذه النار مثلا لإذهاب نورهم، أقيم إذهاب النور مقام الاطفاء، وحذف جواب لما إيجازا واختصارا، لدلالة الكلام عليه، كما قال أبو ذؤيب:
دعاني إليها القلب إني لأمره... مطيع، فما أدري أرشد طلابها
وتقديره: أرشد أم غي طلابها، فحذف للإيجاز.
4. اختلف في معنى إذهاب الله نورهم:
أ. قيل: هو أن الله تعالى يسلبهم ما أعطوا من النور مع المؤمنين في الآخرة، وذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ .
ب. وقيل: في معنى إذهاب نور المنافقين وجه آخر: وهو اطلاع الله المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الاسلام بما أظهر الله من كفرهم.
5. قال سعيد بن جبير، ومحمد بن كعب، وعطا: الآية نزلت في اليهود، وانتظارهم خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإيمانهم به، واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به، وذلك أن قريظة والنضير وبني قينقاع، قدموا من الشام إلى يثرب حين انقطعت النبوة من بني إسرائيل، وأفضت إلى العرب، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، بالنبوة وأن أمته خير الأمم، وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له عبد الله بن هيبان، قبل أن يوحى إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كل سنة، فيحضهم على طاعة الله عز وجل، وإقامة التوراة والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويقول: إذا خرج فلا تفرقوا عليه وانصروه، وقد كنت أطمع أن أدركه، ثم مات قبل خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقبلوا منه، ثم لما خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كفروا به، فضرب الله لهم هذا المثل.
6. ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ معناه: لم يفعل الله لهم النور، إذ الترك: هو الكف عن الفعل بالفعل.. وهذا إنما يصح فيمن حله فعله، والله سبحانه منزه عن أن يحله فعله، فمعناه: إنه لم يفعل لهم النور حتى صاروا في ظلمة أشد مما كان قبل الإيقاد، وقوله: ﴿لَا يُبْصِرُونَ ﴾ أي: لا يبصرون الطريق.
7. قال قتادة ﴿صُمٌّ﴾ لا يسمعون الحق ﴿بِكُمُ﴾ لا ينطقون به ﴿عَمِيَ﴾ لا يبصرونه ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ عن ضلالتهم، ولا يتوبون:
أ. وإنما شبههم الله بالصم، لأنهم لم يحسنوا الإصغاء إلى أدلة الله تعالى، فكأنهم صم.
ب. وإذا لم يقروا بالله وبرسوله فكأنهم بكم.
ج. وإذا لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض فكأنهم عمي.
د. لما لم تصل إليهم منفعة هذه الأعضاء فكأنهم ليس لهم هذه الأعضاء.
8. هذا يدل على أن معنى الختم والطبع ليس على وجه الحيلولة بينهم وبين الإيمان، لأنه جعل الفهم بالكفر، واستثقالهم للحق، بمنزلة الصمم والبكم والعمي، مع صحة حواسهم.. وكذلك قوله: طبع الله على قلوبهم وأضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم وأزاغ الله قلوبهم، فإن جميع ذلك إخبار عما أحدثوه عند امتحان الله إياهم، وأمره لهم بالطاعة والإيمان، لا إنه فعل بهم ما منعهم به عن الإيمان، وهذا كما قيل في المثل: (حبك الشيء يعمي ويصم) قال مسكين الدارمي:
أعمى إذا ما جارتي خرجت... حتى يواري جارتي الخدر
وتصم عما كان بينهما... أذني، وما في سمعها وقر
وفي التنزيل: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾
9. قوله تعالى: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ يحتمل أمرين:
أ. أحدهما: إنه على الذم والاستبطاء، عن ابن عباس.
ب. الثاني: إنهم لا يرجعون إلى الاسلام، عن ابن مسعود.
10. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ مثل هؤلاء المنافقين في جهلهم وشدة تحيرهم ﴿كَصَيِّبٍ﴾ أي: كأصحاب مطر ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي: منزل من السماء ﴿فِيهِ﴾ أي: في هذا المطر أو في السماء، لأن المراد بالسماء: السحاب، فهو مذكر ﴿ظُلُمَاتٍ﴾ لأن السحاب يغشي الشمس بالنهار، والنجوم بالليل، فيظلم الجو.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَرَعْدٌ﴾ :
أ. قيل: إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب.
ب. وقيل: الرعد هو ملك موكل بالسحاب يسبح، روي ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام، وقيل: هو ريح تختنق تحت السماء، رواه أبو الجلد، عن ابن عباس.
ج. وقيل: هو صوت اصطكاك اجرام السحاب.
ومن قال إنه ملك قدر فيه صوت، كأنه قال فيه ظلمات، وصوت رعد، لأنه روي أنه يزعق الراعي بغنمه.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَبَرْقٌ﴾ :
أ. قيل: إنه مخاريق الملائكة من حديد، تضرب به السحاب، فتنقدح عنه النار، عن علي عليه السلام.
ب. وقيل: إنه سوط من نور يزجر به الملك السحاب، عن ابن عباس.
ج. وقيل: هو مصع ملك عن مجاهد، والمصاع: المجالدة بالسيوف وغيرها.
قال الأعشى: إذا هن نازلن أقرانهن... كان المصاع بما في الجؤن
د. وقيل: إنه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام.
13. في تأويل الآية، وتشبيه المثل، أقوال:
أ. أحدها: إنه شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن، وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء، وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر، وما فيه من البرق بما فيه من البيان، وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلا، والدعاء إلى الجهاد عاجلا، عن ابن عباس.
ب. ثانيها: إنه مثل للدنيا، شبه ما فيها من الشدة والرخاء بالصيب الذي يجمع نفعا وضررا، وإن المنافق يدفع عاجل الضرر، ولا يطلب آجل النفع.
ج. ثالثها: إنه مثل للإسلام لأن فيه الحياة كما في الغيث الحياة، وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر، وما فيه من الرعد بما في الاسلام من فرض الجهاد، وخوف القتل وبما يخافونه من وعيد الآخرة، لشكهم في دينهم، وما فيه من البرق بما في إظهار الاسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم، وما فيه من الصواعق بما في الاسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل.. ويقوي ذلك ما روي عن الحسن أنه قال: مثل إسلام المنافق كصيب هذا وصفه.
د. رابعها: ما روي عن ابن مسعود، وجماعة من الصحابة: إن رجلين من المنافقين، من أهل المدينة، هربا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأصابهما المطر الذي ذكره الله تعالى فيه رعد شديد، وصواعق، وبرق، وكلما أضاء لهما الصواعق، جعلا أصابعهما في آذانهما، مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا، فأقاما فجعلا يقولان: يا ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا، فنضع أيدينا في يديه، فأصبحا فأتياه فأسلما، وحسن إسلامهما.. فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقي المدينة، وأنهم إذا حضروا النبي، جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزل فيهم شيء، كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وكلما أضاء لهم مشوا فيه: يعني إذا كثرت أموالهم وأصابوا غنيمة، أو فتحا، مشوا فيه، وقالوا: دين محمد صحيح، وإذا أظلم عليهم قاموا: يعني إذا هلكت أموالهم، وأصابهم البلاء، قالوا: هذا من أجل دين محمد، فارتدوا، كما قام ذانك الرجلان إذا أظلم البرق عليهما.
14. قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. أحدها: إنه عالم بهم، فيعلم سرائرهم، ويطلع نبيه على ضمائرهم، عن الأصم.
ب. ثانيها: إنه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته، قال الشاعر:
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا... بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم
أي: قدرنا عليهم.
ج. ثالثها: ما روي عن مجاهد: إنه جامعهم يوم القيامة، يقال أحاط بكذا إذا لم يشذ منه شيء، ومنه: ﴿أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ أي: لم يشذ عن علمه شيء.
د. رابعها: إنه مهلكهم، يقال: أحيط بفلان فهو محاط به: إذ دنا هلاكه، قال سبحانه: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ أي: أصابه ما أهلكه، وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ معناه: أن تهلكوا جميعا.
15. ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ المراد يكاد ما في القرآن من الحجج النيرة، يخطف قلوبهم من شدة ازعاجها إلى النظر في أمور دينهم، كما أن البرق يكاد يخطف أبصار أولئك.
16. ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ :
أ. لاهتدائهم إلى الطريق بضوء البرق، كذلك المنافقون كلما دعوا إلى خير وغنيمة، أسرعوا، وإذا وردت شدة على المسلمين تحيروا لكفرهم، ووفقوا كما وقف أولئك في الظلمات متحيرين.
ب. وقيل: إذا آمنوا صار الإيمان لهم نورا، فإذا ماتوا عادوا إلى ظلمة العقاب.
ج. وقيل: هم اليهود لما نصر المسلمون ببدر قالوا: هذا الذي بشر به موسى، فلما نكبوا بالحد وقفوا وشكوا.
17. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ إنما خص السمع والبصر بالذكر، لما جرى من ذكرهما في الآيتين، فقال: ولو شاء الله أذهبهما من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم وهذا وعيد لهم بالعقاب كما قال في الآية الأولى: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾
18. قوله: ﴿بِسَمْعِهِمْ﴾ مصدر يدل على الجمع أو واحد موضوع للجمع، كقول الشاعر: كلوا في بعض بطنكم تعيشوا، فإن زمانكم زمن خميص أي: بطونكم.
ولو شاء الله لأظهر على كفرهم فأهلكهم، ودمر عليهم، لأنه على كل شيء قدير، وهو مبالغة القادر.
19. اختلف في قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾:
أ. قيل: هو عام فهو قادر على الأشياء كلها على ثلاثة أوجه: على المعدومات: بأن يوجدها، وعلى الموجودات: بأن يفنيها، وعلى مقدور غيره: بأن يقدر عليه ويمنع منه.
ب. وقيل: هو خاص في مقدوراته دون مقدور غيره، فإن مقدورا واحدا بين قادرين لا يمكن أن يكون، لأنه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد موجودا معدوما.. ولفظة كل قد يستعمل على غير عموم، نحو قوله تعالى ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾
20. مسائل نحوية:
أ. ﴿مَثَلُهُمْ﴾ : مبتدأ.. ﴿كَمَثَلِ الَّذِي﴾ : خبره، والكاف زائدة، تقديره: مثلهم مثل الذي استوقد نارا، ونحوه قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ﴾ أي: ليس مثله شيء.. ﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ وما اتصل به من صلة الذي، والعائد إلى الذي المضمر الذي في ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ ولما: يدل على وقوع الشيء لوقوع غيره، وهو بمعنى الظرف.. والعامل فيه جوابه، وتقديره فلما أضاءت ما حوله طفئت أي: طفئت حين أضاءت.
ب. الذي قد يوضع موضع الجمع كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ ثم قال ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ قال الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم... هم القوم كل القوم يا أم خالد
ج. سؤال وإشكال: كيف الله شبه المنافقين أو اليهود، وهم جماعة، بالذي استوقد نارا وهو واحد؟ والجواب: على وجوه:
• أحدها: إن ﴿الَّذِي﴾ في معنى الجمع، كما قيل في الآية الأخرى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾
• ثانيها: أن يقال النون محذوفة من الذي كما جاء في قول الأخطل:
أبني كليب إن عمي اللذا... قتلا الملوك، وفككا الأغلالا
• ثالثها: أن يكون الكلام على حذف، كأنه قال: مثلهم كمثل أتباع الذي استوقد نارا، ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه كما قال الجعدي:
وكيف تواصل من أصبحت... خلالته كأبي مرحب
يريد كخلالة أبي مرحب.
• رابعها: أن يقال: أراد بالمستوقد الجنس لما في ﴿الَّذِي﴾ من الإبهام، إذ ليس يراد به تعريف واحد بعينه.. وعلى هذا يكون جواب (لما أضاءت ما حوله) محذوفا، كأنه قال طفئت، والضمير في قوله ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ يعود إلى المنافقين.
• خامسها: أن يقال هذا تشبيه الحال بالحال فتقديره حال هؤلاء المنافقين في جهلهم، كحال المستوقد نارا، وتشبيه الحال بالحال جائز، كما يقال بلادة هؤلاء كبلادة الحمار، ولو قلت هؤلاء كالحمار لم يجز.
د. ﴿مَا﴾ في قوله ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ : اسم موصول منصوب بوقوع الإضاءة عليه.. و ﴿حَوْلَهُ﴾ : نصب على الظرف، وهو صلة ﴿مَا﴾، يقال: هم حوله، وحوليه، وحواله، وحواليه.
هـ. قوله ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ أي: أذهب الله نورهم.. والفعل الذي لا يتعدى، يتعدى إلى المفعول بحرف الجر، وبهمزة النقل.
و. الباء في قوله ﴿بِنُورِهِمْ﴾ : يتعلق بـ ﴿ذَهَبَ﴾، و ﴿فِي ظُلُمَاتٍ﴾ يتعلق ب (تركهم)
ز. وقوله ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾ : في موضع نصب على الحال، والعامل فيه (تركهم) أي: تركهم غير مبصرين.
ح. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ : رفع على خبر مبتدأ محذوف أي: هؤلاء الذين قصتهم هذه صم بكم عمي.
ط. ﴿أَوْ﴾ : ههنا للإباحة.. إذا قيل لك: جالس الفقهاء أو المحدثين، فكلا الفريقين أهل أن يجالس، فإن جالست أحدهما فأنت مطيع، وإن جالست الآخر فأنت مطيع، وإن جالستهما فأنت مطيع، فكذلك ههنا إن مثلت المنافقين بالمستوقد كنت مصيبا، وإن مثلتهم بأصحاب الصيب فأنت مصيب، وإن مثلتهم بكلا الفريقين فأنت مصيب.. وتقديره أو كأصحاب صيب، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، لأن هذا عطف على قوله ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ والصيب: ليس بعاقل، فلا يعطف على العاقل.
ي. ﴿يَجْعَلُونَ﴾ : في موضع الحال من أصحاب الصيب.. وقوله ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ : جملة في موضع الجر بأنها صفة صيب.. والضمير المتصل بفي عائد إلى صيب، أو إلى السماء.
ك. ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ : منصوب بأنه مفعول له لأن المعنى يفعلون ذلك لحذر الموت.. قال الزجاج: وإنما نصبه الفعل لأنه في تأويل مصدره، لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم يدل على حذرهم الموت.. قال الشيخ أبو علي: المفعول له لا يكون إلا مصدرا، لأنه يدل على أنه فعل لأجل ذلك الحدث، والحدث مصدر لكنه ليس مصدرا عن هذا الفعل، بل عن فعل آخر.
ل. كاد من أفعال المقاربة، ولا يتم بالفاعل، ويحتاج إلى خبر، وخبره الفعل المضارع فقوله ﴿يَكَادُ﴾ فعل، و ﴿الْبَرْقَ﴾ مرفوع بأنه اسم ﴿يَكَادُ﴾، وفاعله.. ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ : في موضع نصب بأنه خبر ﴿يَكَادُ﴾
م. ﴿كُلَّمَا﴾ : أصله كل، وضم إليه ما الجزاء، وهو منصوب بالظرف، والعامل فيه ﴿أَضَاءَ﴾ ومعناه: متى ما أضاء لهم مشوا فيه.
ن. ﴿أَضَاءَ﴾ : في موضع جزم بالشرط.. و ﴿مَشَوْا﴾ : في موضع الجزاء.. ﴿وَلَوْ﴾ حرف معناه: امتناع الشيء لامتناع غيره، وإذا وقع الفعل بعده وهو منفي كان مثبتا في المعنى، وإذا وقع مثبتا كان منفيا في المعنى فقوله ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ قد انتفى فيه ذهاب السمع والابصار بسب انتفاء المشيئة.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/141.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن السين زائدة، وأنشدوا:
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أراد: فلم يجبه، وهذا قول الجمهور، منهم الأخفش وابن قتيبة.
ب. الثاني: أن السين داخلة للطلب، أراد: كمن طلب من غيره نارا.
2. في ﴿أَضَاءَتْ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه من الفعل المتعدّي، قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وقال آخر:
أضاءت لنا النار وجها أغر... ملتبسا بالفؤاد التباسا
ب. الثاني: أنه من الفعل اللازم. قال أبو عبيد: يقال: أضاءت النّار، وأضاءها غيرها، وقال الزّجّاج: يقال: ضاء القمر، وأضاء.
3. في (ما) قولان:
أ. أحدهما: أنها زائدة، تقديره: أضاءت حوله.
ب. الثاني: أنها بمعنى الذي.
4. حول الشّيء: ما دار من جوانبه، والهاء: عائدة على المستوقد.
5. اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين:
أ. أحدهما: أنه ضرب لكلمة الإسلام التي يلفظون بها، ونورها صيانة النفس وحقن الدّماء، فإذا ماتوا سلبهم الله ذلك العزّ، كما سلب صاحب النّار ضوءه، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس.
ب. الثاني: أنه ضرب لإقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول، فذهاب نورهم: إقبالهم على الكافرين والضلال، وهذا قول مجاهد.
6. في المراد ب (الظلمات) ها هنا أربعة أقوال:
أ. أحدها: العذاب، قاله ابن عباس.
ب. الثاني: ظلمة الكفر، قاله مجاهد.
ج. الثالث: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت، قاله قتادة.
د. الرابع: أنها نفاقهم، قاله السّدّيّ.
7. في ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم:
أ. إحداهنّ: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم؛ كان نور إيمانهم كالمستعار.
ب. الثانية: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب، وهو له كغذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة الاعتقاد ليدوم.
ج. الثالثة: أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشدّ على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء، فشبّه حالهم بذلك.
8. إنما ضرب المثل للفعل، لا لأعيان الرجال، وهو مثل للنفاق، وإنما قال: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين، فجمع لذلك.
9. معنى الذي: الجمع، وحّد أولا للفظه، وجمع بعد لمعناه.
10. الصّمم: انسداد منافذ السمع، وهو أشد من الطّرش، وفي البكم ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه الخرس، قاله مقاتل، وأبو عبيد، وابن فارس.
ب. الثاني: أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق، وقيل: إن الخرس يحدث عنه.
ج. الثالث: أنه عيب في الفؤاد يمنعه أن يعي شيئا فيفهمه، فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق.
11. قوله تعالى: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾، فيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: لا يرجعون عن ضلالتهم، قاله قتادة ومقاتل.
ب. الثاني: لا يرجعون إلى الإسلام، قاله السّدّيّ.
ج. الثالث: لا يرجعون عن الصّمم والبكم والعمى.
12. إنما أضاف الرجوع إليهم، لأنهم انصرفوا باختيارهم، لغلبة أهوائهم عن تصفّح الهدى بآلات التّصفّح، ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة، ولكنهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به؛ كانوا كالصّم البكم، والعرب تسمّي المعرض عن الشيء: أعمى، والملتفت عن سماعه: أصمّ، قال مساكين الدّارميّ:
ما ضرّ لي جارا أجاوره... ألّا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت... حتى يواري جارتي الخدر
وتصمّ عما بينهم أذني... حتى يكون كأنّه وقر
13. التفسير لمعنى الكلام: أو كأصحاب صيّب، فأضمر الأصحاب، لأن في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾، دليلا عليه.
14. قوله تعالى: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾، يكاد بمعنى: يقارب، وهي كلمة إذا أثبتت انتفى الفعل، وإذا نفيت ثبت الفعل، واسأل بعض المتأخرين فقيل له:
أنحويّ هذا العصر ما هي كلمة... جرت بلساني جرهم وثمود
إذا نفيت والله يشهد أثبتت... وإن أثبتت قامت مقام جحود
ويشهد للإثبات عند النفي قوله تعالى: ﴿لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾، وقوله: ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾، ومثله: ﴿وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾، ويشهد للنفي عند الإثبات قوله تعالى: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ﴾ و ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ﴾ و ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ﴾، وقال ابن قتيبة: كاد: بمعنى همّ ولم يفعل، وقد جاءت بمعنى فعل، قال ذو الرّمّة:
ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت... لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق
أي: لو تعرّضت له لبرق، أي: دهش وتحيّر، وقد قال ذو الرّمّة في المنفيّة ما يدل على أنها تستعمل على خلاف الأصل، وهو قوله:
إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح
أراد: لم يبرح.
15. معنى (يخطف): يستلب، وأصل الاختطاف: الاستلاب، ويقال لما يخرج به الدّلو: خطّاف، لأنه يختطف ما علق به. قال النّابغة:
خطاطيف حجن في حبال متينة... تمدّ بها أيد إليك نوازع
والحجن: المتعقّفة، وجمل خيطف: سريع المرّ، وتلك السرعة الخطفي.
16. اختلف العلماء ما الذي يشبه الرعد مما يتعلق بأحوال المنافقين على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه التخويف الذي في القرآن، قاله ابن عبّاس.
ب. الثاني: أنه ما يخافون أن يصيبهم من المصائب إذا علم النبيّ والمؤمنون بنفاقهم، قاله مجاهد والسّدّيّ.
ج. الثالث: أنه ما يخافونه من الدعاء إلى الجهاد، وقتال من يبطنون مودّته.
17. اختلفوا: ما الذي يشبه البرق من أحوالهم على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه ما يتبيّن لهم من مواعظ القرآن وحكمه.
ب. الثاني: أنه ما يضيء لهم من نور إسلامهم الذي يظهرونه.
ج. الثالث: أنه مثل لما ينالونه بإظهار الإسلام من حقن دمائهم، فإنه بالإضافة إلى ما ذخر لهم في الأجل كالبرق.
18. اختلفوا في معنى قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾، على قولين:
أ. أحدهما: أنهم كانوا يفرّون من سماع القرآن لئلا يأمرهم بالجهاد مخافة الموت، قاله الحسن والسّدّيّ.
ب. الثاني: أنه مثل لإعراضهم عن القرآن كراهية له، قاله مقاتل.
19. اختلفوا في معنى: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ على أربعة أقوال:
أ. أحدها: أن معناه: كلما أتاهم القرآن بما يحبون تابعوه، قاله ابن عبّاس والسّدّيّ.
ب. الثاني: أن إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته، قاله قتادة.
ج. الثالث: أن تكلّمهم بالإسلام، ومشيهم فيه: اهتداؤهم به، فإذا تركوا ذلك وقفوا في ضلالة، قاله مقاتل.
د. الرابع: أن إضاءته لهم: تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان، ومشيهم فيه: إقامتهم على المسالمة بإظهار ما يظهرونه. ذكره شيخنا.
20. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ﴾، من قال إضاءته: إتيانه إياهم بما يحبون، قال إظلامه: إتيانه إياهم بما يكرهون، وعلى هذا سائر الأقوال التي ذكرناها بالعكس.. ومعنى ﴿قَامُوا﴾ : وقفوا.
21. اختلفوا في ﴿أَوْ﴾ على أقوال:
أ. أحدها: أنه داخل ها هنا للتخيير، تقول العرب: جالس الفقهاء أو النّحويين، ومعناه: أنت مخيّر في مجالسة أي الفريقين شئت، فكأنه خيّرنا بين أن نضرب لهم المثل الأوّل أو الثاني.
ب. الثاني: أنه داخل للإبهام فيما قد علم الله تحصيله، فأبهم عليهم ما لا يطلبون تفصيله، فكأنه قال مثلهم كأحد هذين، ومثله قوله تعالى: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾، والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله. قال لبيد:
تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما... وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر
أي: هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين، وقد فنيا، فسبيلي أن أفنى كما فنيا.
ج. الثالث: أنه بمعنى: بل، وأنشد الفرّاء:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضّحى... وصورتها أو أنت في العين أملح
د. الرابع: أنه للتفصيل، ومعناه: بعضهم يشبّه بالذي استوقد نارا، وبعضهم بأصحاب الصّيّب، ومثله قوله تعالى: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، معناه: قال بعضهم، وهم اليهود: كونوا هودا، وقال النصارى: كونوا نصارى، وكذلك قوله: ﴿فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾، معناه: جاء بعضهم بأسنا بياتا، وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة.
هـ. الخامس: أنه بمعنى الواو، ومثله قوله تعالى: ﴿أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ﴾ .
قال جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدرا... كما أتى ربّه موسى على قدر
و. السادس: أنه للشّك في حقّ المخاطبين، إذ الشك مرتفع عن الحق عزّ وجلّ، ومثله قوله تعالى: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، يريد: الإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون.
22. اختلف في حقيقة (الرّعد) على ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه صوت ملك يزجر السحاب، وقد روي هذا المعنى مرفوعا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال ابن عباس ومجاهد، وفي رواية عن مجاهد: أنه صوت ملك يسبّح، وقال عكرمة: هو ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الإبل.
ب. الثاني: أنه ريح تختنق بين السماء والأرض، وقد روي عن أبي الجلد أنه قال الرعد: الريح.
ج. الثالث: أنه اصطكاك أجرام السحاب.
23. من الأقوال في حقيقة البرق:
أ. أحدها: أنه مخاريق يسوق بها الملك السحاب، روي هذا المعنى مرفوعا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو قول عليّ بن أبي طالب، وفي رواية عن عليّ قال هو ضربه بمخراق من حديد، وعن ابن عباس: أنه ضربه بسوط من نور. قال ابن الأنباريّ: المخاريق: ثياب تلفّ، ويضرب بها بعض الصبيان بعضا، فشبّه السّوط الذي يضرب به السحاب بذلك المخراق. قال عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا فينا وفيهم... مخاريق بأيدي لاعبينا
قال مجاهد: البرق: مصع ملك، والمصع: الضّرب والتّحريك.
ب. الثاني: أن البرق: الماء، قاله أبو الجلد، وحكى ابن فارس أن البرق: تلألؤ الماء.
ج. الثالث: أنه نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب لسيرة، وضرب بعضه لبعض.
24. الصواعق: جمع صاعقة، وهي صوت شديد من صوت الرعد يقع معه قطعة من نار تحرق ما تصيبه، واختلف فيها:
أ. روي عن شهر بن حوشب: أن الملك الذي يسوق السحاب، إذا اشتدّ غضبه، طار من فيه النار، فهي الصواعق.
ب. وقال غيره: هي نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب.
ج. قال ابن قتيبة: وإنما سمّيت صاعقة، لأنها إذا أصابت قتلت، يقال: صعقتهم، أي: قتلتهم.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. أنه لا يفوته أحد منهم، فهو جامعهم يوم القيامة، ومثله قوله تعالى: ﴿أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾، قاله مجاهد.
ب. أن الإحاطة الإهلاك، مثل قوله تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ .
ج. أنه لا يخفى عليه ما يفعلون.
__________
(1) زاد المسير: 1/34.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. المقصود من ضرب الأمثال أنها تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل، وذلك في نهاية الإيضاح.. ألا ترى أن الترغيب إذا وقع في الإيمان مجرداً عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مثل بالنور، وإذا زهد في الكفر بمجرد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول كما يتأكد إذا مثل بالظلمة، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الإخبار بضعفه مجرداً، ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ [العنكبوت: 43، الحشر: 21] ومن سور الإنجيل سورة الأمثال.
2. المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل وهو النظير، ويقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه، ثم قيل للقول الثائر الممثل مضر به بمورده: مثل، وشرطه أن يكون قولًا فيه غرابة من بعض الوجوه.
3. اختلف في كيفية التشبيه، فذكر فيه وجوه:
أ. أحدها: أن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله عليه السلام إلى المدينة ثم إنهم نافقوا، والتشبيه هاهنا في نهاية الصحة لأنهم بإيمانهم أولًا اكتسبوا نوراً ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور ووقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين لأن المتحير في طريقه لأجل الظلمة لا يخسر إلا القليل من الدنيا، وأما المتحير في الدين فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبد الآبدين، قاله السدي.
ب. ثانيها: أنهم كانوا منافقين أبداً من أول أمرهم، وهو أنهم لما أظهروا الإسلام فقد ظفروا بحقن دمائهم وسلامة أموالهم عن الغنيمة وأولادهم عن السبي وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين، وعد ذلك نوراً من أنوار الإيمان، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليلًا قدرت شبههم بمستوقد النار الذي انتقع بضوئها قليلًا ثم سلب ذلك فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءته في أعقاب النور، فكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة، ذكره الحسن.
ج. ثالثها: ليس وجه التشبيه أن للمنافق نوراً، بل وجه التشبيه بهذا المستوقد أنه لما زال النور عنه تحير، والتحير فيمن كان في نور ثم زال عنه أشد من تحير سالك الطريق في ظلمة مستمرة، لكنه تعالى ذكر النور في مستوقد النار لكي يصح أن يوصف بهذه الظلمة الشديدة، لا أن وجه التشبيه مجمع النور والظلمة.
د. رابعها: أن الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق، ومن قال بهذا قال إن المثل إنما عطف على قوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ فالنار مثل لقولهم: آمنا) وذهابه مثل لقولهم للكفار: إنا معكم) فإن قيل: وكيف صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان مثلًا بالنور وهو حين تكلم بها أضمر خلافها؟ قلنا: إنه لو ضم إلى القول اعتقاداً له وعملًا به لأتم النور لنفسه، ولكنه لما لم يفعل لم يتم نوره، وإنما سمى مجرد ذلك القول نوراً لأنه قول حق في نفسه.
هـ. خامسها: يجوز أن يكون استيقاد النار عبارة عن إظهار المنافق كلمة الإيمان وإنما سماه نوراً لأنه يتزين به ظاهره فيهم ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم، ثم إن الله تعالى يذهب ذلك النور بهتك ستر المنافق بتعريف نبيه والمؤمنين حقيقة أمره فيظهر له اسم النافق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان فبقي في ظلمات لا يبصر، إذ النور الذي كان له قبل قد كشف الله أمره فزال.
و. سادسها: أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات.
ز. سابعها: يجوز أن يكون المستوقد هاهنا مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار، فإن الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ [المائدة: 64]
ح. ثامنها: قال سعيد بن جبير: نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلما خرج كفروا به فكان انتظارهم لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كإيقاد النار، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور.
4. تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة في كتاب الله تعالى كثير، والوجه فيه أن النور قد بلغ النهاية في كونه هادياً إلى المحجة وإلى طريق المنفعة وإزالة الحيرة، وهذا حال الإيمان في باب الدين، فشبه ما هو النهاية في إزالة الحيرة ووجدان المنفعة في باب الدين بما هو الغاية في باب الدنيا.
5. كذلك القول في تشبيه الكفر بالظلمة، لأن الضال عن الطريق المحتاج إلى سلوكه لا يرد عليه من أسباب الحرمان والتحير أعظم من الظلمة، ولا شيء كذلك في باب الدين أعظم من الكفر، فشبه تعالى أحدهما بالآخر.
6. استعير المثل للقصة أو للصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل قصتهم العجيبة كقصة الذي استوقد ناراً، وكذا قوله: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ [الرعد: 35] أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [النحل: 60] أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ﴿مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح: 29] أي وصفهم وشأنهم المتعجب منه ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا: فلان مثله في الخير والشر، فاشتقوا منه صفة للعجيب الشأن.. وهذا جواب من ذكر أن قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ يقتضى تشبيه مثلهم بمثل المستوقد، فما مثل المنافقين ومثل المستوقد حتى شبه أحدهما بالآخر؟
7. وقود النار هو سطوعها وارتفاع لهبها، وأما النار فهو جوهر لطيف مضيء، حار محرق، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر، لأن فيها حركة واضطراباً، والنور مشتق منها وهو ضوؤها، والمنار العلامة، والمنارة هي الشيء الذي يؤذن عليه، ويقال أيضاً للشيء الذي يوضع السراج عليه، ومنه النورة لأنها تطهر البدن والإضاءة فرط الإنارة، ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ [يونس: 5] و(أضاء) يرد لازماً ومتعدياً. تقول: أضاء القمر الظلمة، وأضاء القمر بمعنى استضاء قال الشاعر: ـ
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
8. ما حول الشيء هو الذي يتصل به، تقول دار حوله وحواليه، والحول السنة لأنها تحول، وحال عن العهد أي تغير، وحال لونه أي تغير لونه، والحوالة انقلاب الحق من شخص إلى شخص، والمحاولة طلب الفعل بعد أن لم يكن طالباً له، والحول انقلاب العين، والحول الانقلاب، قال الله تعالى: ﴿لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ [الكهف: 108]
9. الظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير، والظلمة في أصل اللغة عبارة عن النقصان قال الله تعالى: ﴿آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: 33] أي لم تنقص وفي المثل: من أشبه أباه فما ظلم، أي فما نقص حق الشبه، والظلم الثلج لأنه ينتقص سريعاً، والظلم ماء السن وطراوته وبياضه تشبيهاً له بالثلج.
10. أضاءت: متعدية وغير متعدية، يقال: أضاءت النار بنفسها وأضاءت غيرها، وكذلك أظلم الشيء بنفسه وأظلم غيره أي صيره مظلماً، وهاهنا الأقرب أنها متعدية، ويحتمل أن تكون غير متعدية مستندة إلى ما حوله، والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء.
11. لم يقل ذهب الله بضوئهم لقوله: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ﴾، لأن ذكر النور أبلغ، فالضوء فيه دلالة على الزيادة، فلو قيل: ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب الكمال وبقاء ما يسمى نوراً والغرض إزالة النور عنهم بالكلية. ألا ترى كيف ذكر عقيبه: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ والظلمة عبارة عن عدم النور، وكيف جمعها، وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله: ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾
12. قال: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ ولم يقل أذهب الله نورهم للفرق بين أذهب وذهب به، فمعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً، ويقال ذهب به إذا استصحبه، ومعنى به معه، وذهب السلطان بماله أخذه قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ [يوسف: 15] ﴿إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ﴾ [المؤمنون: 91] والمعنى أخذ الله نورهم وأمسكه ﴿وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ﴾ [فاطر: 2] فهو أبلغ من الإذهاب.
13. ترك إذا علق بواحد فهو بمعنى طرح وإذا علق بشيئين كان بمعنى صير، فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه قوله: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ أصله هم في ظلمات ثم دخل ترك فنصبت الجزئين.
14. حذف أحد المفعولين من لا يبصرون، لأنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأن الفعل غير متعد أصلًا.
ج. سؤال وإشكال: كيف الله شبه المنافقين أو اليهود، وهم جماعة، بالذي استوقد نارا وهو واحد؟ والجواب: على وجوه:
أ. أحدها: أنه يجوز في اللغة وضع (الذي) موضع (الذين) كقوله: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة: 69]، وإنما جاز ذلك لأن (الذي) لكونه وصلة إلى وصف كل معرفة مجملة وكثرة وقوعه في كلامهم، ولكونه مستطالًا بصلته فهو حقيق بالتخفيف، ولذلك أعلوه بالحذف فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا فيه على اللام وحدها في أسماء الفاعلين والمفعولين.
ب. ثانيها: أن يكون المراد جنس المستوقدين أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً.
ج. ثالثها: وهو الأقوى: أن المنافقين وذواتهم لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد، ومثله قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾ [الجمعة: 5] وقوله: ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [محمد: 20]
د. رابعها: المعنى ومثل كل واحد منهم كقوله: ﴿يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾ [غافر: 67] أي يخرج كل واحد منكم.
15. لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون وينطقون ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة، فلم يبق إلا تشبيه حالهم لشدة تمسكهم بالعناد وإعراضهم عما يطرق سمعهم من القرآن وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصم في الحقيقة فلا يسمع، وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب، فلذلك جعله بمنزلة الأبكم، وإذا لم ينتفع بالأدلة ولم يبصر طريق الرشد فهو بمنزلة الأعمى.
16. قوله: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ فيه وجوه:
أ. أحدها: أنهم لا يرجعون عما تقدم ذكره وهو التمسك بالنفاق الذي لأجل تمسكهم به وصفهم الله تعالى بهذا الصفات، فصار ذلك دلالة على أنهم يستمرون على نفاقهم أبداً.
ب. ثانيها: أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، وعن الضلالة بعد أن اشتروها.
ج. ثالثها: أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا خامدين في مكانهم لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وكيف يرجعون إلى حيث ابتدؤوا منه.
17. هذا هو المثل الثاني للمنافقين وكيفية المشابهة من وجوه:
أ. أحدها: أنه إذا حصل السحاب الذي فيه الظلمات والرعد والبرق واجتمع مع ظلمة السحاب ظلمة الليل وظلمة المطر عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم، فإذا أضاء لهم مشوا فيه، وإذا ذهب بقوا في ظلمة عظيمة فوقفوا متحيرين لأن من أصحابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذهب عنه تشتد حيرته، وتعظم الظلمة في عينه، وتكون له مزية على من لم يزل في الظلمة، فشبه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدين بهؤلاء الذين وصفهم، إذ كانوا لا يرون طريقاً ولا يهتدون.
ب. ثانيها: أن المطر وإن كان نافعاً إلا أنه لما وجد في هذه الصورة مع هذه الأحوال الضارة صار النفع به زائلًا، فكذا إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن: فإذا فقد منه الإخلاص وحصل معه النفاق صار ضررًا في الدين.
ج. ثالثها: أن من نزل به هذه الأمور مع الصواعق ظن المخلص منها أن يجعل أصابعه في أذنيه وذلك لا ينجيه مما يريده تعالى به من هلاك وموت، فلما تقرر ذلك في العادات شبه تعالى حال المنافقين في ظنهم ان إظهارهم للمؤمنين ما أظهروه ينفعهم، مع أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك بما ذكر.
د. رابعها: أن عادة المنافقين كانت هي التأخر عن الجهاد فراراً من الموت والقتل، فشبه الله حالهم في ذلك بحال من نزلت هذه الأمور به وأراد دفعها يجعل إصبعيه في أذنيه.
هـ. خامسها: أن هؤلاء الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم وإن تخلصوا عن الموت في تلك الساعة فإن الموت والهلاك من ورائهم لا مخلص لهم منه فكذلك حال المنافقين في أن الذي يخوضون فيه لا يخلصهم من عذاب النار.
و. سادسها: أن من هذا حاله فقد بلغ النهاية في الحيرة لاجتماع أنواع الظلمات وحصول أنواع المخافة، وحصل في المنافقين نهاية الحيرة في باب الدين ونهاية الخوف في الدنيا لأن المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل، فلا يكاد الوجل والخوف يزول عن قلبه مع النفاق.
ز. سابعها: المراد من الصيب هو الإيمان والقرآن، والظلمات والرعد والبرق هو الأشياء الشاقة على المنافقين، وهي التكاليف الشاقة من الصلاة والصوم وترك الرياسات والجهاد مع الآباء والأمهات، وترك الأديان القديمة، والانقياد لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع شدة استنكافهم عن الانقياد له فكما أن الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المطر الصيب الذي هو أشد الأشياء نفعاً بسبب هذه الأمور المقارنة، فكذا المنافقون يحترزون عن الإيمان والقرآن بسبب هذه الأمور المقارنة، والمراد من قوله: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ أنه متى حصل لهم شيء من المنافع، وهي عصمة أموالهم ودمائهم وحصول الغنائم لهم فإنهم يرغبون في الدين: ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ أي متى لم يجدوا شيئاً من تلك المنافع فحينئذ يكرهون الإيمان ولا يرغبون فيه.
18. التمثيل الثاني للمنافقين أغلظ، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأغاليظ، ولذلك تراهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ.
19. لعلماء البيان في المشبّه بالصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق قولان:
أ. أحدهما: أن هذا تشبيه مفرق ومعناه أن يكون المثل مركباً من أمور والممثل يكون أيضاً مركباً من أمور ويكون كل واحد من المثل شبيهاً بكل واحد من الممثل، فههنا:
• شبه دين الإسلام بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر.
• وما يتعلق به من شبهات الكفار بالظلمات.
• وما فيه من الوعد والوعيد بالبرق والرعد.
• وما يصيب الكفرة من الفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق.
• والمعنى أو كمثل ذوي صيب، والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة.
ب. الثاني: أنه تشبيه مركب، وهو الذي يشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور، وإن لم تكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملة الأخرى، وهاهنا المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدنيا والدين بحيرة من انطفت ناره بعد إيقادها، وبحيرة من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق.. فإن قيل الذي كنت تقدره في التشبيه المفرق من حذف المضاف وهو قولك: أو كمثل ذوي صيب هل يقدر مثله في المركب، قلنا لولا طلب الراجع في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ ما يرجع إليه لما كان بنا حاجة إلى تقديره.
20. قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ [البقرة: 20] استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول كيف يصنعون في حالتي ظهور البرق وخفائه، والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم، وفي ضوء البرق فأعماهم، وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم مسلكاً أخذوه، فالمفعول محذوف، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره.
21. قال مع الإضاءة كلما، ومع الإظلام إذا: لأنهم حراص على إمكان المشيء، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها وليس كذلك التوقف، والأقرب في أظلم أن يكون غير متعد وهو الظاهر، ومعنى قاموا وقفوا وثبتوا في مكانهم، ومنه قامت السوق، وقام الماء جمد، ومفعول شاء محذوف لأن الجواب يدل عليه والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما.
22. المشهور أن (لو) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ومنهم من أنكر ذلك وزعم أنها لا تفيد إلا الربط واحتج عليه بالآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: 23] فلو أفادت كلمة لو انتفاء الشيء لا انتفاء غيره للزم التناقض لأن قوله: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ يقتضي أنه ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم
23. قوله: ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ يفيد أنه تعالى ما أسمعهم وأنهم ما تولوا ولكن عدم التولي خير فلزم أن يكون قد علم فيهم خيراً، وما علم فيهم خيراً وأما الخبر فقوله عليه السلام: نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه)، فعلى مقتضى قولهم يلزم أنه خاف الله وعصاه وذلك متناقض، فقد علمنا أن كلمة (لو) لا تفيد إلا الربط.
24. الصيب: هو المطر الذي يصوب، أي ينزل من صاب يصوب إذا نزل ومنه صوب رأسه إذا خفضه وقيل إنه من صاب يصوب إذا قصد، ولا يقال صيب إلا للمطر الجود، كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: اللهم اجعله صيباً هنيئاً)، أي مطراً جوداً وأيضاً يقال للسحاب صيب قال الشماخ: وأسحم دان صادق الوعد صيب.. وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل، كما تنكرت النار في التمثيل الأول.
25. فائدة ذكره أن الصيب من السماء من وجهين:
أ. الأول: لو قال أو كصيب فيه ظلمات، احتمل أن يكون ذلك الصيب نازلًا من بعض جوانب السماء دون بعض، أما لما قال من السماء دل على أنه عام مطبق آخذ بآفاق السماء فكما حصل في لفظ الصيب مبالغات من جهة التركيب والتنكير أيد ذلك بأن جعله مطبقاً.
ب. الثاني: من الناس من قال المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأرض إلى الهواء فتنعقد هناك من شدة برد الهواء ثم تنزل مرة أخرى، فذاك هو المطر(2)..
26. ذكر مجموعة إشكالات مفرقة مختصرة، وأجاب عنها باختصار، وهي:
أ. الصيب هو المطر والسحاب فأيهما أريد فما ظلماته؟ الجواب: أما ظلمات السحاب إذا كان أسحم مطبقاً فظلمته سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل، وأما ظلمة المطر فظلمته تكاثفه وانسجامه بتتابع القطر وظلمته إظلال الغمامة مع ظلمة الليل.
ب. كيف يكون المطر مكاناً للرعد والبرق وإنما مكانهما السحاب؟ الجواب: لما كان التعليق بين السحاب والمطر شديداً جاز إجراء أحدهما مجرى الآخر في الأحكام.
ج. هلا قيل رعود وبروق كما قيل ظلمات؟ الجواب: الفرق أنه حصلت أنواع مختلفة من الظلمات على الاجتماع فاحتيج إلى صيغة الجمع، أما الرعد فإنه نوع واحد، وكذا البرق ولا يمكن اجتماع أنواع الرعد والبرق في السحاب الواحد فلا جرم لم يذكر فيه لفظ الجمع.
د. لم جاءت هذه الأشياء منكرات؟ الجواب: لأن المراد أنواع منها، كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف.
هـ. إلى ماذا يرجع الضمير في (يجعلون)؟ الجواب: إلى أصحاب الصيب وهو وإن كان محذوفاً في اللفظ لكنه باقٍ في المعنى ولا محل لقوله يجعلون لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلًا قال فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون أصابعهم في آذانهم ثم قال فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقال: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: 20]
و. رؤوس الأصابع هي التي تجعل في الآذان فهلا قيل أناملهم؟ الجواب: المذكور وإن كان هو الأصبع لكن المراد بعضه كما في قوله: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: 38] المراد بعضهما. السؤال الثالث عشر: ما الصاعقة؟ الجواب: إنها قصف رعد ينقض منها شعلة من نار وهي نار لطيفة قوية لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع قوتها سريعة الخمود.
27. اختلف في ﴿أَوْ﴾ على وجوه:
أ. أحدها: لأن (أو) في أصلها تساوي شيئين فصاعداً في الشك، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوي في غير الشك. كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين تريد أنهما سيان في استصواب أن تجالس أيهما شئت، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: 24] أي أن الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما، فكذا قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ معناه أن كيفية المنافقين شبيهة بكيفيتي هاتين القصتين، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك.
ب. ثانيها: إنما ذكر تعالى ذلك لأن المنافقين قسمان بعضهم يشبهون أصحاب النار، وبعضهم يشبهون أصحاب المطر، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: 135] وقوله: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ [الأعراف: 4]
ج. ثالثها: أو بمعنى بل قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: 147]
د. رابعها: أو بمعنى الواو كأنه قال وكصيب من السماء نظيره قوله تعالى: ﴿أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النور: 61] وقال الشاعر:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وهذه الوجوه مطردة في قوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: 74]
28. الرعد هو الصوت الذي يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتقض وترتعد إذا أخذتها الريح فصوت عند ذلك من الارتعاد والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع.
29. قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ مجاز، والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة، وفيه ثلاثة أقوال:
أ. أنه عالم بهم قال تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12]
ب. قدرته مستولية عليهم ﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج: 20]
ج. يهلكهم من قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ [يوسف: 66]
30. منهم من استدلّ به على أن المعدوم شيء، واستدل لذلك بأنه تعالى أثبت القدرة على الشيء، والموجود لا قدرة عليه لاستحالة إيجاد الموجود، فالذي عليه القدرة معدوم وهو شيء فالمعدوم شيء، والجواب: لو صح هذا الكلام لزم أن ما لا يقدر الله عليه لا يكون شيئاً، فالموجود لما لم يقدر الله عليه وجب أن لا يكون شيئاً.
31. احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء، قال لأنها تدل على أن كل شيء مقدور لله، والله تعالى ليس بمقدور له، فوجب أن لا يكون شيئاً، واحتج أيضاً على ذلك بقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] قال لو كان هو تعالى شيئاً لكان تعالى مثل نفسه فكان يكذب قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فوجب أن لا يكون شيئاً حتى لا تتناقض هذه الآية، وهذا الخلاف في الاسم، لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم، والرد عليه بوجهين:
أ. الأول: قوله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ﴾ [الأنعام: 19]
ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88] والمستثنى داخل في المستثنى منه فيجب أن يكون شيئاً.
32. هذه الآية تدل على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى خلافاً لأبي علي وأبي هاشم، وجه الاستدلال أن مقدور العبد شيء، وكل شيء مقدور لله تعالى بهذه الآية فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدوراً لله تعالى.
33. هذه الآية تدل على أن المحدث حال حدوثه مقدور لله خلافاً للمعتزلة، فإنهم يقولون: الاستطاعة قبل الفعل محال، فالشيء إنما يكون مقدوراً قبل حدوثه، وبيان استدلال الأصحاب أن المحدث حال وجوده شيء، وكل شيء مقدور، وهذا الدليل يقتضي كون الباقي مقدوراً ترك العمل به فبقي معمولًا به في محل النزاع، لأنه حال البقاء مقدوره، على معنى أنه تعالى قادر على إعدامه، أما حال الحدوث، فيستحيل أن يقدر الله على إعدامه لاستحالة أن يصير معدوماً في أول زمان وجوده، فلم يبق إلا أن يكون قادراً على إيجاده.
34. تخصيص العام جائز في الجملة، وأيضاً تخصيص العام جائز بدليل العقل، لأن قوله: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 284] يقتضي أن يكون قادراً على نفسه، ثم خص بدليل العقل، فإن قيل إذا كان اللفظ موضوعاً للكل، ثم تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذباً، وذلك يوجب الطعن في القرآن، قلنا: لفظ الكل كما أنه يستعمل في المجموع. فقد يستعمل مجازاً في الأكثر، وإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/309.
(2) زاد هنا قوله: إن الله سبحانه وتعالى أبطل ذلك المذهب هاهنا بأن بين أن ذلك الصيب نزل من السماء، كذا قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48] وقوله: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ [النور: 43]، وهو غير صحيح، والقرآن لم يرد على ما ذكره هؤلاء.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. استوقد بمعنى أوقد، مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش، ومنه قول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي يجبه.
2. اختلف النحاة في جواب لما، وفي عود الضمير من (نورهم):
أ. قيل: جواب لما محذوف وهو طفئت، والضمير في (نورهم) على هذا للمنافقين، والاخبار بهذا عن حال تكون في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ﴾ ) [الحديد: 13]
ب. وقيل: جوابه (ذهب)، والضمير في (نورهم) عائد على (الذي)، وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده.
3. المعنى المراد بالآية ضرب مثل للمنافقين، وذلك أن ما يظهرونه من الايمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح والتوارث والغنائم والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بمثابة من أوقد نارا في ليلة مظلمة فاستضاء بها وراي ما ينبغي أن يتقيه وأمن منه، فإذا طفئت عنه أو ذهبت وصل إليه الأذى وبقي متحيرا، فكذلك المنافقون لما آمنوا اغتروا بكلمة الإسلام، ثم يصيرون بعد الموت إلى العذاب الأليم كما أخبر التنزيل: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: 145] ويذهب نورهم، ولهذا يقولون: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ [الحديد: 13].. وقيل: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار، وانصرافهم عن مودتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها، وقيل غير هذا.
4. النار مؤنثة وهي من النور وهو أيضا الإشراق، وهي من الواو، لأنك تقول في التصغير: نويرة، وفي الجمع نور وأنوار ونيران، انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها.
5. ضاءت وأضاءت لغتان، يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا وأضاء يضئ، يكون لازما ومتعديا، وقرا محمد بن السميقع: ضاءت بغير ألف، والعامة بالألف، قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
ج. سؤال وإشكال: كيف الله شبه المنافقين أو اليهود، وهم جماعة، بالذي استوقد نارا وهو واحد؟ والجواب: على وجوه:
أ. قوله ﴿الَّذِي﴾ يقع للواحد والجمع. قال ابن الشجري هبة الله بن علي: ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ الواحد، كما قال:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم... هم القوم كل القوم يا أم خالد
وقيل في قول الله تعالى ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر: 33]: إنه بهذه اللغة، وكذلك قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي﴾ قيل: المعنى كمثل الذين استوقدوا، ولذلك قال ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع، فأما قوله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة: 69] فإن الذي هاهنا وصف لمصدر محذوف تقديره وخضتم كالخوض الذي خاضوا.
ب. قيل: إنما وحد ﴿الَّذِي﴾ و ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ لان المستوقد كان واحدا من جماعة تولى الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوء رجع عليهم جميعا فقال ﴿بِنُورِهِمْ﴾
6. ﴿صُمٌّ﴾ أي هم صم، فهو خبر ابتداء مضمر، وفي قراءة عبد الله ابن مسعود وحفصة: صما بكما عميا، فيجوز النصب على الذم، كما قال تعالى: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ [الأحزاب: 61]، وكما قال ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد: 4]، وكما قال الشاعر:
سقوني الخمر ثم تكنفوني... عداة الله من كذب وزور
فنصب (عداة الله) على الذم. فالوقف على ﴿يُبْصِرُونَ﴾ على هذا المذهب صواب حسن، ويجوز أن ينصب صما بـ ﴿ تَرَكَهُمْ ﴾، كأنه قال وتركهم صما بكما عميا، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على ﴿يُبْصِرُونَ﴾، والصمم في كلام العرب: الانسداد، يقال: قناة صماء إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة إذا سددتها. فالأصم: من انسدت خروق مسامعه.
7. الأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل: الأخرس والأبكم واحد، ويقال: رجل أبكم وبكيم، أي أخرس بين الخرس والبكم، قال:
فليت لساني كان نصفين منهما... بكيم ونصف عند مجرى الكواكب
8. العمى: ذهاب البصر، وقد عمي فهو أعمى، وقوم عمي، وأعماه الله، وتعامى الرجل: أرى ذلك من نفسه، وعمي عليه الامر إذا التبس، ومنه قوله تعالى: ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ﴾ ) [القصص: 66]
9. ليس الغرض نفي الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة ما، تقول: فلان أصم عن الخنا، ولقد أحسن الشاعر حيث قال: أصم عما ساءه سميع.. وقال آخر:
وعوراء الكلام صممت عنها... ولو أني أشاء بها سميع
وقال الدارمي:
أعمى إذا ما جارتي خرجت... حتى يواري جارتي الجدر
وقال بعضهم في وصاته لرجل يكثر الدخول على الملوك:
أدخل إذا ما دخلت أعمى... وأخرج إذا ما خرجت أخرس
10. ﴿صُمٌّ﴾ عن استماع الحق، ﴿بِكُمُ﴾ عن التكلم به، ﴿عَمِيَ﴾ عن الأبصار له، هذا المعنى هو المراد في وصف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولاة آخر الزمان في حديث جبريل: وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها)
11. قوله تعالى: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ أي إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم، يقال: رجع بنفسه رجوعا، ورجعه غيره، وهذيل تقول: أرجعه غيره، وقوله تعالى: ﴿يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ﴾ ) [سبأ: 31] أي يتلاومون فيما بينهم، حسب ما بينه التنزيل في سورة (سبأ)
12. ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك عندهم كفر والكفر موت.
13. ﴿يَكَادُ﴾ معناه يقارب، يقال: كاد يفعل كذا إذا قارب ولم يفعل، ويجوز في غير القرآن: يكاد أن يفعل، كما قال رؤبة: قد كاد من طول البلى أن يمصحا.. والأجود أن تكون بغير (أن)، لأنها لمقاربة الحال، و(أن) تصرف الكلام إلى الاستقبال، وهذا متناف، قال الله عز وجل: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ [النور: 43]، ومن كلام العرب: كاد النعام يطير، وكاد العروس يكون أميرا، لقربهما من تلك الحال، وكاد فعل متصرف على فعل يفعل، وقد جاء خبره بالاسم وهو قليل، قال: وما كدت آئبا)، ويجري مجرى كاد كرب وجعل وقارب وطفق، في كون خبرها بغير (أن)، قال الله عز وجل: ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: 22] لأنها كلها بمعنى الحال والمقاربة، والحال لا يكون معها (أن)
14. ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ الخطف: الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافا لسرعته، فمن جعل القرآن مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم، ومن جعله مثلا للبيان الذي في القرآن فالمعنى أنهم جاءهم من البيان ما بهرهم.. و ﴿أَبْصَارُهُمْ﴾ جمع بصر، وهي حاسة الرؤية، والمعنى: تكاد حجج القرآن وبراهينه الساطعة تبهرهم.. ومن جعل البرق مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم.
15. ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ .. ﴿كُلَّمَا﴾ منصوب لأنه ظرف، وإذا كان ﴿كُلَّمَا﴾ بمعنى (إذا) فهي موصولة والعامل فيه ﴿مَشَوْا﴾ وهو جوابه، ولا يعمل فيه ﴿أَضَاءَ﴾، لأنه في صلة ما.. والمعنى أنهم كلما سمعوا القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه ﴿قَامُوا﴾ أي ثبتوا على نفاقهم.
16. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ .. ﴿لَوْ﴾ حرف تمن وفية معنى الجزاء، وجوابه اللام، والمعنى:
أ. قيل: لو شاء الله لاطلع المؤمنين عليهم فذهب منهم عز الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم، وخص السمع والبصر لتقدم ذكرهما في الآية أولا، أو لأنهما أشرف ما في الإنسان..
ب. قيل: المعنى كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت النعم قالوا: دين محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة وأصابتهم شدة سخطوا وثبتوا في نفاقهم، عن ابن مسعود وقتادة، قال النحاس: وهذا قول حسن، ويدل على صحته: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ ) [الحج: 11]
ج. قال علماء الصوفية: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم تصح له أحوال الإرادة بدءا، فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوي إلى أحوال الأكابر، كأن تضيء عليه أحوال الإرادة لو صححها بملازمة آدابها، فلما مزجها بالدعاوي أذهب الله عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها.
د. روي عن ابن عباس أن المراد اليهود، لما نصر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له راية، فلما نكب بأحد ارتدوا وشكوا، وهذا ضعيف، والآية في المنافقين، وهذا أصح عن ابن عباس، والمعنى يتناول الجميع.
17. اختلف في وجه التشبيه:
أ. قيل: شبه الله تعالى في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق: فالظلمات مثل لما يعتقدونه من الكفر، والرعد والبرق مثل لما يخوفون به.
ب. وقيل: مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الاشكال عليهم، والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم هو البرق، والصواعق، مثل لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل.
ج. وقيل: الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما.
18. اختلف في حقيقة الرعد:
أ. قيل: أنه ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله، وذكر أن هذا التفسير هو تفسير أكثر العلماء.
ب. وقيل: أنه اسم الصوت المسموع، وقاله علي، وهو المعلوم في لغة العرب، وقد قال لبيد في جاهليته:
فجعني الرعد والصواعق بال... فارس يوم الكريهة النجد
ج. روي عن ابن عباس أنه قال الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت.
19. اختلف العلماء في البرق:
أ. روي عن علي وابن مسعود وابن عباس: البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب، وهو الظاهر من حديث الترمذي.
ب. عن ابن عباس أيضا هو سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب.
ج. عنه أيضا البرق ملك يتراءى.
د. قالت الفلاسفة: الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق ما ينقدح من اصطكاكها(2)..
20. يقال: أصل الرعد من الحركة، ومنه الرعديد للجبان، وارتعد: اضطرب، ومنه الحديث: فجئ بهما ترعد فرائصهما) الحديث. أخرجه أبو داوود.. والبرق أصله من البريق والضوء، ومنه البراق: دابة ركبها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسرى به وركبها الأنبياء عليهم السلام قبله، ورعدت السماء من الرعد، وبرقت من البرق، ورعدت المرأة وبرقت: تحسنت وتزينت، ورعد الرجل وبرق: تهدد وأوعد، قال ابن أحمر:
يا جل ما بعدت عليك بلادنا... وطلابنا فأبرق بأرضك وأرعد
وأرعد القوم وأبرقوا: أصابهم رعد وبرق، وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو: أرعدت السماء وأبرقت، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدد وأوعد، وأنكره الأصمعي، واحتج عليه بقول الكميت:
أبرق وأرعد يا يزي... د فما وعيدك لي بضائر
21. قوله تعالى: ﴿مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾ أي من أجل الصواعق، والصواعق جمع صاعقة، قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إذا اشتد غضب الرعد الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق، وكذا قال الخليل، قال هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه، وقال أبو زيد: الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد.. والصاعقة أيضا صيحة العذاب، قال الله عز وجل: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ﴾ [فصلت: 17] ويقال: صعق الرجل صعقة وتصعاقا، أي غشي عليه، وفي قوله تعالى: ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: 143] فأصعقه غيره. قال ابن مقبل:
ترى النعرات الزرق تحت لبانه... أحاد ومثنى أصعقتها صواهله
وقوله تعالى: ﴿فَصَعِقَ﴾ ﴾ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الزمر: 68] أي مات.
22. قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ ابتداء وخبر، أي لا يفوتونه، يقال: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، قال الشاعر:
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا... بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم
ومنه قول تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ [الكهف: 42]، وأصله محيط، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت.
23. الله سبحانه محيط بجميع المخلوقات، أي هي في قبضته وتحت قهره، كما قال ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ) [الزمر: 67]، وقيل: ﴿مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ أي عالم بهم. دليله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ ) [الطلاق: 12]، وقيل: مهلكهم وجامعهم. دليله قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ ) [يوسف: 66] أي إلا أن تهلكوا جميعا، وخص الكافرين بالذكر لتقدم ذكرهم في الآية.
24. قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ عموم، ومعناه عند المتكلمين فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه، وأجمعت الامة على تسمية الله تعالى بالقدير، فهو سبحانه قدير قادر مقتدر، والقدير أبلغ في الوصف من القادر، قاله الزجاجي، وقال الهروي: والقدير والقادر بمعنى واحد، يقال: قدرت على الشيء أقدر قدرا وقدرا ومقدرة ومقدرة وقدرانا، أي قدرة، والاقتدار على الشيء: القدرة عليه.
25. الله عز وجل قادر مقتدر قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم، فيجب على كل مكلف أن يعلم:
أ. أن الله تعالى قادر، له قدرة بها فعل ويفعل ما يشاء على وفق علمه واختياره.
ب. ويجب عليه أيضا أن يعلم أن للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة، وأنه غير مستبد بقدرته.
26. إنما خص هنا تعالى صفته التي هي القدرة بالذكر دون غيرها، لأنه تقدم ذكر فعل مضمنة الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/212.
(2) وعلق علبه بأنه مردود لا يصح به نقل.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النّفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت، فإنه يعود إلى الظلمة ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده.
2. إنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت، ومنه قولهم: (للباطل صولة ثم يضمحل)
3. قال ابن جرير: إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، وقال ابن كثير: إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾
4. صحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال ﴿رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾
5. المراد بالصيب: المطر، واشتقاقه من صاب يصوب: إذا نزل. قال علقمة:
فلا تعدلي بيني وبين مغمّر... سقتك روايا المزن حيث تصوب
وأصله صيوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد.
6. السماء في الأصل: كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت سماء، والسماء أيضا: المطر سمي بها لنزوله منها، وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلا منها أنه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب، وإطلاق السماء على المطر واقع كثير في كلام العرب، فمنه قول حسان:
ديار من بني الحسحاس قفر... تعفّيها الرّوامس والسّماء
وقال آخر: إذا نزل السماء بأرض قوم
7. قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ جملة مستأنفة لا محل لها كأنّ قائلا قال فكيف حالهم عند ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم في آذانهم، وإطلاق الأصبع على بعضها مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية لأن الذي يجعل في الأذن إنما هو رأس الأصبع لا كلها.
8. المنافقون أصناف، فمنهم من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ومنهم من قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت في الصحيحين وغيرهما: ثلاث من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه واحدة منهنّ كان فيه خصلة من النّفاق حتى يدعها: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وورد بلفظ أربع وزاد (وإذا خاصم فجر)، وورد بلفظ (وإذا عاهد غدر)، وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين المثلين لصنف واحد من المنافقين.
9. اختلف في سبب عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك:
أ. قيل: لقصد التخيير بين المثلين: أي مثلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل للشك فقد توسع فيها حتى صارت لمجرّد التساوي من غير شك.
ب. وقيل إنها بمعنى الواو، قاله الفراء وغيره، وأنشد:
وقد زعمت ليلى بأنّي فاجر... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقال آخر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا... كما أتى ربّه موسى على قدر
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/54.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿مَثَلُهُمْ﴾ صفتهم الشبيهة في الغرابة عقلاً وشرعًا بما يضـرب مثلاً لغرابته ﴿كَمَثَلِ﴾ كصفـة ﴿الذِي﴾ الرجل الذي، ولا بأس بتشبيـه الجماعة بالمفرد، والمراد الجنس، فضمير المفرد بعده لِلَفظِهِ، وضمير الجمع لمعنى الجنس، ويجوز أن يقدَّر: (الفريق الذي)، والكلام في الضمائر كذلك.
2. ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ ليلاً ﴿نَارًا﴾ بالغ في إيقادها، وعالجه في ظلمته، وهذا لبقائه على الأصل أولى من تفسيره بـ (أوقد)، ويجوز أن تكون النار تمثيلاً بنار لا يرضى الله إيقادها كنار الفتنة للإسلام، أو حقيقةً أوقدها الغواة للشرِّ فيليق بالحكيم إطفاؤها.
3. ﴿فَلَمَّآ أَضَآءَتْ﴾ أنارت إنارة عظيمة ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ في جهاته من الأرض، وتمكَّن مِمَّا أوقدها لأجله من الإبصار والاستدفاء، والأمن مِمَّا يخاف والطبخِ للأكل ونحو ذلك من المنافع ﴿ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ﴾ أذهب الله نورهم بإطفائه فلا نور فضلاً عن الإضاءة، والنور منشأ الضياء، ووردَا جميعًا في شأن سيِّدنا محمَّد وسيِّدنا موسى صلَّى الله وسلَّم عليهما؛ وقيل: الضياء أقوى من النور لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ [يونس: 5]؛ وقيل: مترادفان، وقيل: الضياء ما للشيء مِن ذاته، والنور من غيره.
4. ﴿وَتَرَكَهُمْ﴾ صيَّرهم ﴿فِي ظُلُمَاتٍ﴾ ظلمة واحدة كأنَّها ظلمات لشدَّتها، أو ظلمات متراكبة من الليل، أو ظلمة الليل وظلمة الغمام وظلمة انطفاء النار، وذلك من حال المستوقدين يُشبهُه من حال هؤلاء المنافقين مضرَّة الكفر ومضرَّة النفاق وظلمة يوم القيامة ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُومِنِينَ وَالْمُومِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾ [الحديد: 12] ومضرَّة العقاب.
5. ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾ ما حولهم من الطريق فضلا عن أن يستدفئوا، أو يطبخوا، أو يحصل لهم الأمن من مضارِّ الحفير والسبع والحيَّة ونحو ذلك، وهذا منهم يشبه حال المنافقين إذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب بعد أمنهم في الدنيا على أنفسهم وأموالهم وأولادهم بكلمة الشهادة في ألسنتهم.
6. ﴿صُمٌّ﴾ أولئك المُشتَرو الضلالةِ صمٌّ، أوْ هُم صمٌّ ﴿بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ شُبِّهوا في عدم قبول الحقِّ بمن لا يسمع ولا يتكلَّم ولا يبصر، فهم لا يعرفون الحقَّ كأنَّهم لم يسمعوه، ولا يتكلَّمون به ولا يبصرون طريق الهدى ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ إلى الحقِّ كما أنَّ الأصمَّ لا يسمع، والأخرس لا يتكلَّم، والأعمى لا يبصر، ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾.
7. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ وكمثل أهل صيِّب، أو: بل كمثل أهل صيِّب، أو يتنوَّع من ينظر إليهم في شأنهم بعقله إلى من يشبِّههم بالمستوقد المذكور، وإلى من يشبِّههم بأهل الصيِّب، أو يشكُّ الناظر في شأنهم أنَّهم كالمستوقد أو كالصيِّب، أو يباح للعاقل أن يشبِّههم بمن شاء منهما، أو يخيَّر أن يَقصُر التشبيه على أحدهما، والصيِّب: المطر المنحدر من السماء، والصوب الانحدار، والأصل: (صَيْوِبٌ) على الخلاف في باب (سيِّد) قلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء، وهو وزن في مُعلِّ العين، وشذَّ في الصحيح كـ (صيقل)، وقيل: هو بوزن (طويل) فقلب، وشهر أنَّ لفظ (صيِّب) اسم، وقيل: وصف بمعنى نازل، وزعم بعض أنَّه بمعنى مُنْزَل، وبعض أنَّه اسم بمعنى السحاب.
8. ﴿مِنَ السَّمَآءِ﴾ السحاب، أو من جهة السماء وجهتها السحاب، وذكر ذلك مع أنَّه لا يكون الصيِّب إلَّا من السحاب وجهةِ السماء تلويحًا إلى أنَّه من جميع آفاقها، ﴿فِيهِ﴾ في الصيِّب كما يتبادر، أو في السماء أي السحاب وهو أولى؛ لأنَّ الرعد ـ ملكًا كان أو صوته أو صوت ماء ـ هو في السحاب لا في المطر، ولو كان البرق يصل الأرض لأنَّه أوَّلاً يجيء من السحاب.
9. ﴿ظُلُمَات﴾ متراكماتٌ، ظلمة السحاب ففيه ظلمة ولو في أجزائه، وظلمة المطر وظلمة الليل المدلول عليه بقوله: ﴿كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ﴾، يجوز كون (فيه) نعتًا لـ (صيِّبٍ)، أو حالاً و(ظلمات) فاعله.
10. ﴿وَرَعْدٌ﴾ الرعد: ملَك سمِّيَ صوته باسمه، أو يقدَّر مضاف، أي: صوت رعد، أو اسم موضوع لصوت مَلَك السحاب، أو هو صوت تضارب الماء، وذلك الصوت مطلقًا صاعقة كما يأتي قريبًا، والمراد: أصوات، بدليل جمع الصواعق.
11. ﴿وَبَرْقٌ﴾ قيل: ملك على هيئة النور، أو نور سوطه الذي يزجر به السحاب، لا كما قيل: إنَّه سوط من نار يزجر به السحاب، وأُفرِدَا لأنَّهما مصدران الآنَ، أو في الأصل، وزعم بعضٌ أنَّهما أفرِدا لأنَّ الرعد يسوق السحاب فلو كثر لتفرَّق السحابُ ولم يكن مطبقًا فتزول شدَّة الظلمة، ولو كثر البرق لم تطبق الظلمة، وبعض أنَّه لم يجمع النور في القرآن فلم يجمع البرق.
12. ﴿يَجْعَلُونَ﴾ يجعل الناس الذين حضرهم الصيِّب، دلَّ عليهم أنَّ المقام لذكر ظلمات الصيِّب، والجعل لكونه أدلَّ على الإحاطة أبلغ من الإدخال.
13. ﴿أَصَابِعَهُمْ﴾ أطراف أصابِعِهم على المجاز بالحذف، أو سمَّاها باسم الأصابع لأنَّها بعضها، والمجاز لغويٌّ، ونكتته التهويل بصورة جعل الأصابع إلى أصولها؛ أو لا مجاز؛ لأنَّ واضع طرف إصبعه على شيء يصدق عليه أنَّه وضع إصبعه عليه بلا قرينة ولا علاقة، كما أنَّ قولك: مسسته بيدي حقيقة، ولو كان اللمس ببعضها، وكما في قوله: ﴿فِي ءَاذَانِهِمْ﴾ فإنَّه حقيقة مع أنَّ الجعل ليس في كلِّ الأذن، وأطلق الأصابع مع أنَّ المعهود السبَّابة لدهشهم، حتَّى إنَّهم يدخلون أيَّ إصبع اتَّفقت؛ ويجوز أن يكون المجاز عقليًّا بإسناد الجعل للأصابع مع أنَّه للأنامل.
14. ﴿مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾ المعهودة بالمعنى في قوله: ﴿وَرَعدٌ﴾ لا باللفظ كقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُنثَى﴾ [آل عمران: 36] فإنَّ قولها: ﴿مَا فِي بَطْنِي﴾ [آل عمران: 35] أرادت به الذَّكَر، والمراد بها شدَّة الصوت، والأكثر في الصاعقة صوت مع نار، أو نار بلا صوت، لا تمرُّ على شيء إلَّا أحرقته، وذلك من الجوِّ، وقد يكون معها حجر أو حديد، ويجوز حمل الآية على الصوت مع النار على أنَّهم توهَّموا أنَّ عدم سماع ذلك الصوت منجٍ لهم من أن تصيبهم نار، فيكون الكلام تمثيلاً بقوم شأنهم ذلك التوهُّمُ، فجعلوا أصابعهم في آذانهم لئلَّا يسمعوا، ولا يصحُّ ما قيل: إنَّ المشهور أنَّ الصاعقة الرعد الشديد معه قطعة نار، بل هي قطعة النار سواء مع صوت أو دونه، وهو في الأصل صفة من الصعق بمعنى الصراخ، وتاؤه للتأنيث صفة لمؤنَّث، أو للمبالغة كراوية لكثير رواية الشعر، وليس قولهم: للنقل من الوصفيَّة إلى الاسميَّة خارجًا عن ذلك؛ لأنَّ حاصله أنَّه كان وصفًا مؤنَّثًا بالتاء ثمَّ صار اسمًا؛ وقيل: مصدر كالعافية والعاقبة.
15. ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ لأجل حذر الموت بالسمع، وهو تعليل للعلَّة الأولى: التي هي قوله: ﴿مِنَ الصَّواعِقِ﴾ مع معلّله، وإنَّما الممنوع ترادف علل على معلول مجرَّد بلا تبعيَّة، أو يقدَّر: حاذرين من الموت، أو: ذي حذر من الموت، أو: يحذرونها حذر الموت.
16. وحاصل الشبه بالصيِّب المذكور أنَّ القرآن شبيه بالمطر إذ هو سبب لحياة الدنيا، والقرآن سبب لحياة القلوب، وأنَّ الكفر شبيه بالظلمات في مطلق الإهلاك وعدم الاهتداء، وفي مطلق الحيرة، والوعيدُ عليه شبيه بالرعد في الإرهاب، والحججُ شبيهة بالبرق في الظهور والحسن، وسدُّ آذانهم عن سماع القرآن شبيه بسدِّها عن الصواعق، وتركُ دينهم شبيه بالموت عندهم، وذلك تشبيه مفردات بمفردات، وإن شئت فتشبيه مجموع بمجموع تمثيليٍّ.
17. ﴿واللهُ مُحِيطُ بِالْكَافِرِينَ﴾ بأجسامهم واعتقادهم وأقوالهم وأفعالهم، ولا يخفى عنه ما يعاقبهم عليه، أو قلْ: وعقاب الله محيط بالكافرين؛ شبَّه قدرته بإحاطة المحيط بالشيء تشبيهَ الكامل بالناقص على الاستعارة الأصليَّة، واشتقَّ منه (محيط) على التبعيَّة، أو الاستعارة تمثيليَّة، أو الإحاطة الإهلاك، ومن معناه: ﴿بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَاتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ [البقرة: 81]؛ أو عالِمٌ عِلْمَ مجازاةٍ، ومن معناه: ﴿لِيَعْلَمَ أَن قَدَ اَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبـِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ﴾ [الجنِّ: 28].
18. ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ﴾ المعهود في الآية قبلُ ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ أبصار أهل الصيِّب، يقرب أن يأخذها بسرعة، وإسناد الخطف إلى البرق مجاز للسببيَّة، ونفي (كاد) نفيٌ، وإثباتها إثباتٌ كسائر الأفعال، وغير هذا تخليط، وإذا قلت: كاد يقوم، فمعناه: قرب، وإذا قلت: لم يكد يقوم مع أنَّه قام فمعناه: لم يقرب للقيام ثمَّ قرب وقام.
19. ﴿كُلَّمَآ أَضَآءَ﴾ ظهر البرق، أو أظهر البرقُ الطريقَ ﴿لَهُم مَّشَوْا فِيهِ﴾ يمشون في ضوئه كلَّ إضاءة، أي كلَّ وقت إضاءة، أو في الطريق المدلول عليه بالمشي، كما قدَّر بعض: كلَّما أضاء لهم مَمْشًى مشوا فيه، وذلك أنَّ المشي في مطرح البرق لا في البرق، والهاء للبرق، و(كُلَّ) ظرفٌ لإضافته إلى المصدر المنسبك بـ (مَا) المصدريَّة المستعمل ظرفًا كجئت طلوعَ الشمس؛ ويجوز أن يكون لازمًا بمعنى: وقعوا، كما فسَّرتُه أوَّلاً: كلَّما لمع مشوا في مطرح ضوئه.
20. ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ﴾ الطريق المدلول عليه، أو أظلم البرق أي زال، أو الجوُّ ﴿عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ أمسكوا عن المشي ﴿وَلَوْ شَآءَ اللهُ﴾ أي لو شاء إذهاب سمعهم وأبصارهم ﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ أي سمع المنافقين، الإضافة للحقيقة أو الاستغراق، وكأنَّه قيل: بأسماعهم كما قال: ﴿وَأَبصَارِهِمْ﴾ عيون المنافقين الظاهرة كما ذهب ببصائر قلوبهم الباطنة فلا تقبل الحقَّ، ويجوز عود الهاءين لأصحاب الصيِّب؛ لأنَّ بصائرهم ولو كانت لا تعمى بالظلمات لكن المراد التقوىة للصيِّب وشأنه، المشبَّه بهما حال المنافقين فإنَّ تقويتهما تقوية لحالهم في الهول فيكون شبَّههم بالمستوقد ثمَّ الصيِّب الموصوف بما ذكر، وبأنَّه لولا أنَّ الله حفظ سمع أهله وأبصارهم لذهبت بالبرق والرعد.
21. ومشيهم في البرق تشبيه لميلهم إلى بلاغة القرآن وصدقه ووعده بالخير، وإمساكهم عن المشي عند ذهاب البرق تشبيه لوقوفهم عمَّا يكرهون من تسفيه دينهم ورفض آلهتهم، والمشيئة والإرادة بمعنًى، ولا يصحُّ ما قيل: إنَّ أصل المشيئة الإيجاد واستعمل بمعنى الإرادة، والباء للتعدية، أي: أذهب أسماعهم، وقيل: ذهبت بكذا، وذهبت معه، وإذا لم يذهب فللتعدية، أو مجاز في المعيَّة.
22. ﴿إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي على كلِّ شيء ممكن، وَأَمَّا المستحيل في حقِّه كاتِّخاذ الصاحبة والولد، فلا تقل: هو قادر عليه؛ لأنَّ الاتِّصاف بالقدرة عليه اتِّصاف بجوازه، ولا غير قادر عليه؛ لأنَّ هذه صيغة عجزٍ تعالى عنها، ولأنَّه فرع عن تقرُّره هكذا في الجملة وهو غير متقرِّر تعالى عنه، أو المعنى: كلُّ شيء شاءه، أي لا يردُّه رادٌّ عمَّا أراد وقوعه، مع ذلك هو قادر على إيقاع ما لم يسبق قضاؤه بوقوعه من الممكنات إجماعًا، وما لم يكن ولا يكون لا يسمَّى شيئًا، ونسبه بعضٌ لأصحابنا (2)، وقيل: شيءٌ، وهو الصحيح عندي، وَأَمَّا المستحيل فلا يسمَّى شيئًا، والآية ونحوها من الآي والحديث تدلُّ على جوازه في كلِّ معدوم ممكن، ويطلق على المحال بمعنى ملاحظته، ولا يقال: قادر عليه ولا غير قادر، ومعنى ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: 9]: لم تكن شيئًا موجودًا بل شيئًا معدومًا.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/48.
(2) يقصد الإباضية
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لضرب العرب الأمثال، واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيّات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيّل في صورة المحقّق، والمتوهّم في معرض المتيقّن، والغائب كأنّه مشاهد ـ وفيه تبكيت للخصم الألدّ، وقمع لسورة الجامح الأبيّ(2)..
2. لهذا أكثر الله ـ في كتابه المبين، وفي سائر كتبه ـ أمثاله، وفشت في كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكلام الأنبياء والحكماء، قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43].
3. المثل في أصل كلامهم بمعنى: المثل وهو النظير. يقال: مثل، ومثل، ومثيل ـ كشبه وشبه وشبيه ـ ثم قيل للقول السائر الممثّل مضربه بمورده: مثل.
4. لم يضربوا مثلا، ولا رأوه أهلا للتسيير ولا جديرا بالتداول والقبول، إلّا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه، ومن ثمّ حوفظ عليه، وحمي من التغيير، فإنه ـ لو غير ـ لربّما انتفى الدلالة على تلك الغرابة.
5. قيل: إن المحافظة على المثل إنّما هي بسبب كونه استعارة، فوجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه به، فإن وقع تغيير، لم يكن مثلا، بل مأخوذا منه، وإشارة إليه ـ كما في قولك: بالصيف ضيعت اللبن بالتذكير.
6. قد استعير المثل للحال، أو القصّة، أو الصّفة ـ إذا كان لها شأن، وفيها غرابة ـ كأنه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا.. وكذلك قوله ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ [الرعد: 35] أي ـ فيما قصصنا عليك من العجائب ـ قصة الجنّة العجيبة الشأن، ثمّ أخذ في بيان عجائبها ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [النحل: 60] أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.. ﴿مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح: 29] أي: صفتهم وشأنهم المتعجّب منه.
7. لما في المثل من معنى الغرابة قالوا: فلان مثلة في الخير والشر، فاشتقّوا منه صفة للعجيب الشأن.
8. ﴿مَثَلُهُمْ﴾ أي: مثالهم في نفاقهم، وحالهم فيه ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ أي أوقد ﴿نَارًا﴾ في ظلمة ـ والتنكير للتعظيم ـ ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ﴾ أي: أنارت النار ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ فأبصر، واستدفأ، وأمن مما يخافه ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ أي: أطفأ الله نارهم ـ التي هي مدار نورهم ـ فبقوا في ظلمة وخوف ـ وجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي كقوله ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة: 69]. ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ ما حولهم ـ متحيّرين عن الطريق، خائفين ـ فكذلك هؤلاء استضاؤوا قليلا بالانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم، حيث أمنوا على أنفسهم وما يتبعها. ثم وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ـ ظلمة النفاق ـ التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله، وظلمة العقاب السرمد، ومحصوله: أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدّة حياتهم القليلة، ثم قطعه الله تعالى بالموت.
9. نقل ـ عن كثير من السلف ـ تفسير آخر، وهو: تمثيل إيمانهم أوّلا، ثم كفرهم ثانيا، فيكون إذهاب النور في الدنيا، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ [المنافقون: 3] الآية، فلمّا آمنوا أضاء الإيمان في قلوبهم ـ كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا نارا ـ ثمّ لمّا كفروا، ذهب الله بنورهم: انتزعه ـ كما ذهب بضوء هذه النار ـ وعلى هذا فالتمثيل مرتبط بما قبله. فإنهم ـ لمّا وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى ـ مثّل هداهم ـ الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ـ والضلالة ـ التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم ـ بذهاب الله بنورهم، وتركه إيّاهم في الظلمات.
10. الصمم: آفة مانعة من السماع، سمّى به فقدان حاسّة السمع، لما أنّ سببه اكتناز باطن الصّماخ، وانسداد منافذه، بحيث لا يكاد يدخله هواء يحصل الصوت بتموّجه، والبكم: الخرس، والعمى: عدم البصر عمّا من شأنه أن يبصر.
11. وصفوا بذلك ـ مع سلامة حواسّهم المذكورة ـ لما أنّهم سدّوا عن الإصاخة إلى الحقّ مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، وأن ينظروا ويتبصّروا بعيونهم، فجعلوا كأنما أصيب بآفة مشاعرهم ـ كقوله ـ:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وكقوله:
أصمّ عن الشيء الذي لا أريده... وأسمع خلق الله حين أريد
12. ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ أي ـ بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة ـ لا يعودون إلى الهدى ـ بعد أن باعوه. أو عن الضلالة ـ بعد أن اشتروها.
13. الآية الكريمة تتمّة للتمثيل بأنّ ما أصابهم، ليس مجرّد انطفاء نارهم، وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة ـ مع بقاء حاسة البصر بحالها ـ بل اختلّت مشاعرهم جميعا، واتصفوا بتلك الصفات فبقوا جامدين في مكانهم لا يرجعون، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخّرون؟ وكيف يرجعون إلى ما ابتدؤوا منه.
14. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ تمثيل لحالهم إثر تمثيل، ليعمّ البيان منها كلّ دقيق وجليل، ويوفي حقّها من التفظيع والتهويل، فإنه تفنّنهم في فنون الكفر والضلال حقيق بأن يضرب في شأنه الأمثال، وكما يجب على البليغ ـ في مظانّ الإجمال والإيجاز ـ أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه ـ في موارد التفصيل والإشباع ـ أن يفصّل ويشبع.
15. الصيب: السحاب ذو الصوب، والصوب المطر، والمراد بالسماء: السحاب، كما قال تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾ [الواقعة: 69]، وهي في الأصل: كل ما علاك من سقف ونحوه.
16. ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ التنوين في الكلّ للتفخيم والتهويل ـ كأنّه قيل: فيه ظلمات داجية، ورعد قاصف، وبرق خاطف ـ ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾ الصاعقة: الصوت الشديد من الرعدة يسقط معها قطعة نار تنقدح من السحاب ـ إذا اصطكّت أجرامه ـ لا تأتي على شيء إلا أحرقته ﴿حَذَرَ﴾ ـ أي خوف ـ ﴿الْمَوْتَ﴾ ـ من سماعها ـ ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ علما وقدرة فلا يفوتونه.
17. الجملة اعتراضية منبّهة على أنّ ما صنعوا ـ من سدّ الآذان بالأصابع ـ لا يغني عنهم شيئا، فإنّ القدر لا يدافعه الحذر، والحيل لا تردّ بأس الله عزّ وجلّ، وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير ـ الراجع إلى أصحاب الصيّب ـ الإيذان بأنّ ما دهمهم ـ من الأمور الهائلة المحكيّة ـ بسبب كفرهم، فيظهر استحقاقهم شدّة الأمر عليهم، على طريقة قوله تعالى: ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا﴾ [آل عمران: 117] فإن الإهلاك الناشئ عن السخط أشد.
18. ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ استئناف آخر وقع جوابا عن سؤال مقدّر ـ كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد يخطف أبصارهم، أي: يأخذها بسرعة ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ أي: في ضوئه ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ أي: وقفوا، وثبتوا في مكانهم ـ ومنه: قامت السوق، إذا ركدت وكسدت، وقام الماء، جمد ـ وهذا تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين: بشدّته على أصحاب الصيّب، وما هم فيه من غاية التحيّر والجهل ـ بما يأتون وما يذرون ـ إذا صادفوا من البرق خفقة ـ مع خوف أن يخطف أبصارهم ـ انتهزوا تلك الخفقة فرصة، فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي، وفتر لمعانه، بقوا واقفين متقيدين عن الحركة ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ أي: لزاد في قصيف الرعد فأصمّهم، أو في ضوء البرق فأعماهم.
19. مفعول (شاء) محذوف، لأنّ الجواب يدلّ عليه، والمعنى: ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، ولقد تكاثر هذا الحذف في (شاء) و(أراد). لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب ـ كنحو قوله: فلو شئت أن أبكي دما لبكيته، وقوله تعالى: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا﴾ [الأنبياء: 17]
20. محصول التمثيلين ـ غبّ وصف أربابهما بوقوعهم في ضلالتهم التي استبدلوها بالهدى ـ هو أنه شبّه، في الأول، حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وفي الثاني: شبّه حالهم بحال من أخذتهم السماء في ليلة تكاثف ظلماتها ـ بتراكم السحب، وانتساج قطراتها، وتواتر فيها الرعود الهائلة، والبروف المخيفة، والصواعق المختلفة المهلكة، وهم في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت.
21. التمثيلان جميعا من جملة التمثيلات المركبة، وهو الذي تقتضيه جزالة المعاني ـ لأنه يحصل في النفس من تشبيه الهيئات المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها، فإنك إذا تصورت حال من طفئت ناره بعد إيقادها.. وحال من أخذتهم السماء.. حصل في نفسك هيئة عجيبة توصلك إلى معرفة حال المنافقين، على وجه يتقاصر عنه تشبيه المنافق ـ في التمثيل الأول ـ بالمستوقد نارا، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانتفاء النار وتشبيه دين الإسلام ـ في الثاني ـ بالصيّب، وما يتعلق به ـ من شبه الكفار ـ بالظلمات، وما فيه ـ من الوعد والوعيد ـ بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة ـ من الإفزاع والبلايا والفتن ـ من جهة أهل الإسلام بالصواعق، وأيضا في تشبيه المفردات، وطيّ ذكر المشبهات تكلّف ظاهر، وأيضا في لفظ (المثل) نوع إنباء عن التركيب، إذ المتبادر منه القصة التي هي في غرابتها كالمثل السائر، وهي في الهيئة المركبة دون كل واحد من مفرداتها، وأيضا في التمثيل المركب اشتمال على التشبيه في المفردات إجمالا، مع أمر زائد: هو تشبيه الهيئة بالهيئة، وإيذانه بأن اجتماع تلك المفردات مستتبع لهيئة عجيبة حقيقة بأن تكون مثلا في الغرابة.
22. نقل عن ابن القيّم ما ذكره عن بعض المعاني والأسرار المرتبطة بالمثل، ومنها:
أ. شبّه، سبحانه، أعداءه المنافقين، بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم، وينتفعوا بها، فلمّا أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق ـ بعد أن كانوا حيارى تائهين ـ فهم كقوم سفر ضلّوا عن الطريق، فأوقدوا النار لتضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم ـ فأبصروا وعرفوا ـ طفئت تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث ـ فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: مما يسمعه بإذنه، ويراه بعينه، ويعقل بقلبه، وهؤلاء قد سدّت عليهم أبواب الهدى: فلا تسمع قلوبهم شيئا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها، وقيل: لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له، ولا بصر، ولا عقل، والقولان متلازمان.
ب. قال في صفتهم ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ لأنهم قد رأوا في ضوء النار، وأبصروا الهدى، فلمّا طفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا.
ج. قال: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ ولم يقل: ذهب نورهم، وفيه سرّ بديع: وهو انقطاع سر تلك المعيّة الخاصة ـ التي هي للمؤمنين ـ من الله تعالى، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 19]، ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153]، و ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]. فذهاب الله بذلك النور: انقطاع المعيّة ـ التي خصّ بها أولياءه ـ فقطعها بينه وبين المنافقين، فلم يبق عندهم ـ بعد ذهاب نورهم ـ، ولا معهم، فليس لهم نصيب من قوله ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40]، ولا من ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62].
د. في قوله تعالى: ﴿أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ جعل الله تعالى ضوءها خارجا عنه، منفصلا، ولو اتصل ضوؤها به، ولابسه، لم يذهب، ولكنه كان ضوء مجاورة لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية، فرجع الضوء إلى معدنه، وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كلّ منهما إلى أصله اللائق به: حجة من الله قائمة، وحكمة بالغة، تعرّف بها إلى أولي الألباب من عباده.
هـ. قال تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ ولم يقل بنارهم، ليطابق أول الآية، فإن النار فيها إشراق وإحراق: فذهب ما فيها من الإشراق ـ وهو النور ـ وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق ـ وهو النارية ـ
و. قال ﴿بِنُورِهِمْ﴾ ولم يقل: بضوئهم ـ مع قوله ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ :
• لأن الضوء هي زيادة في النور، فلو قيل: ذهب الله بضوئهم، لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل، فلما كان النور أصل الضوء، كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته.
• وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم.
• وأيضا فإن الله تعالى سمّى كتابه (نورا)، ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (نورا)، ودينه (نورا)، وهداه (نورا)، ومن أسمائه (النور)، والصلاة (نور)، فذهابه سبحانه بهم: ذهاب بهذا كله.
ز. هذا المثل يطابق ما تقدمه من قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: 16]، حيث طابق هذه التجارة الخاسرة التي تضمّنت هول الضلالة والرضاء بها، وبدّل الهدى في مقابلتها، وهول الظلمات ـ التي هي الضلالة والرضاء بها ـ بدلا عن النور ـ الذي هو الهدى والنور ـ فبدّلوا الهدى والنور، وتعوّضوا عنه بالظلمة والضلالة.. فيا لها من تجارة ما أخسرها، وصفقة ما أشدّ غبنها.
ح. قال تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ فوحّده ثم قال ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ فجمعها، لأن الحقّ واحد: هو صراط الله المستقيم ـ الذي لا صراط يوصل إليه سواه ـ وهو عبادته وحده لا شريك له، بما شرعه على لسان رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا بالأهواء، والبدع، وطرق الخارجين عن ما بعث الله به رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من الهدى ودين الحق ـ بخلاف طرق الباطل فإنها متعدّدة متشعّبة، ولهذا:
• يفرد، سبحانه، الحق، ويجمع الباطل، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ [البقرة: 257] وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 153]، فجمع سبل الباطل، ووحّد سبيل الحق.
• ولا يناقض هذا قوله ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ [المائدة: 16] فإنّ تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد وصراطه المستقيم، إنّ طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد، وسبيل واحد، وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلّا منها، وقد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه خط خطا مستقيما، وقال: هذا سبيل الله)، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه) ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
ط. قد قيل: إنّ هذا مثل للمنافقين، وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام، ويكون بمنزلة قول الله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ [المائدة: 64]، ويكون قوله تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ مطابقا لقوله تعالى: ﴿أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ ويكون تخييبهم، وإبطال ما راموه، هو: تركهم في ظلمات الحيرة، لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه، ولا يبصرون سبيلا، بل هم ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾، هذا التقدير ـ وإن كان حقا ـ ففي كونه مراد بالآية نظر، فإنّ السياق إنما قصد لغيره، ويأباه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا، ويأباه قوله تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ وموقد نار الحرب لا نور له، ويأباه قوله تعالى: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة، إلى ظلمة الشك والكفر.
ي. ثم ضرب الله، سبحانه، لهم مثلا آخر مائيا، فقال تعالى: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾، فشبه نصيبهم ـ مما بعث الله تعالى به رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من النور والحياة بنصيب المستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها، وذهب نوره، وبقي في الظلمات حائرا، تائها، لا يهتدي سبيلا، ولا يعرف طريقا، وبنصيب أصحاب الصيّب ـ وهو المطر الذي يصوّب (أي ينزل) من علوّ إلى أسفل ـ فشبّه الهدى ـ الذي هدى به عباده ـ بالصيّب، لأن القلوب تحيى به حياة الأرض بالمطر، ونصيب المنافقين من هذا الهدى، بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيّب إلّا ظلمات ورعد وبرق، ولا نصيب له ـ فيما وراء ذلك ـ مما هو المقصود بالصيّب ـ من حياة البلاد، والعباد، والشجر، والدوابّ، وأن تلك الظلمات التي فيه، وذلك الرعد، والبرق، مقصود لغيره، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيّب.
ك. الجاهل ـ لفرط جهله ـ يقتصر على الإحساس بما في الصيّب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد، وتعطيل المسافر عن سفره، وصانع عن صنعته ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيّب من الحياة والنفع العام، وهكذا شأن كلّ قاصر النظر، ضعيف العقل، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كلّ محبوب، وهذه حال أكثر الخلق، إلّا من صحت بصيرته ـ فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب، والمشاقّ، والتعرّض لإتلاف المنهجة، والجراحات الشديدة، وملامة اللوّام، ومعاداة من يخاف معاداته ـ لم يقدم عليه، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون، وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام، فلم يعلم ـ من سفره ذلك ـ إلا مشقّة السفر، ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة الشدائد، وفراق المألوفات، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر هذا السفر، ومآله، وعاقبته ـ فإنه لا يخرج إليه، ولا يعزم عليه، وحال هؤلاء، حال الضعيف البصيرة والإيمان، الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد، والزواجر والنواهي، والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات ـ والفطام على الصبيّ أصعب شيء، وأشقّه ـ والناس كلهم صبيان العقول، إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء، وأدرك الحقّ علما، وعملا، ومعرفة، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيّب، وما فيه ـ من الرعد والبرق والصواعق ـ ويعلم أنّه حياة الوجود.
23. إنّما بولغ في ذكر فريق المنافقين، وذمّهم، وتعييرهم، وتقبيح صورة حالهم، وتهديدهم، وإيعادهم، وتهجين سيرهم وعاداتهم: لإمكان قبولهم للهداية، وزوال مرضهم العارض. عسى التقريع يكسر أعواد شكائمهم، والتوبيخ يقلع أصول رذائلهم، فتتزكّى بواطنهم، وتتنوّر قلوبهم، فيسلكوا طريق الحقّ.
24. لعلّ موادعة المؤمنين، وملاطفتهم إيّاهم، ومجالستهم معهم ـ تستميل طباعهم، فتهيج فيهم محبّة ما، وشوقا تلين به قلوبهم إلى ذكر لله، وتنقاد به نفوسهم لأمر الله، فيتوبوا ويصلحوا، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 145 ـ 146]
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/258.
(2) نقله عن الزمخشريّ في الكشاف.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. المثل بفتحتين والمثل بالكسر والمثيل كالشبه والشبه والشبيه وزنا ومعنى في الجملة، وهو من مثل الشيء مثولا إذا انتصب بارزا فهو ماثل، ومثل الشيء ـ بالتحريك ـ صفته التي توضحه وتكشف عن حقيقته أو ما يراد بيانه من نعوته وأحواله.
2. يكون المثل حقيقة ومجازا، وأبلغه: تمثيل المعاني المعقولة بالصور الحسية وعكسه ومنه الأمثال المضروبة وتسمى الأمثال السائرة، ومنه ما يسميه البيانيون الاستعارة التمثيلية، وهو خاص بالمجاز.
3. التمثيل أمثل أساليب البلاغة وأشدها تأثيرا في النفس وإقناعا للعقل، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ وما رأيت أحدا من علماء البلاغة وفاه حقه من البيان المقنع إلا إمامهم الشيخ عبد القاهر الجرجاني في كتابه (أسرار البلاغة)
4. هذا مثل من مثلين ضربهما الله في هذه الآيات للصنف الثالث من الناس الذين قرع القرآن أبواب قلوبهم، وكان من عناية الله تعالى في بيان حاله أن قفّى على ذلك التفصيل في شر فرقه وأطوارهم بضرب المثل الذي يقصد به تجلى المعنى في أتم مجاليه، وتأثر النفوس بما أودع فيه، ناهيك بما في التنقل في الأساليب من توجيه الذهن إلى سابق القول ودعوة الفكر إلى مراجعة ما مضى منه، ولولا أن بلاء هذا الصنف عظيم، وداءه دفين، وعلاجه متعسر ـ لأنه متولد من الدواء الذي كان يجب أن تكون فيه الصحة ونعمة العافية ـ لما كان من البلاغة ولا من الحكمة، أن يعنى بشأنه كل هذه العناية، كما قلنا في تزييف رأى من ذهب إلى أن الكلام في تلك الشرذمة من المنافقين في عصر التنزيل.
5. ضرب الله تعالى لهذا الصنف في مجموعه مثلين، ينبئان بانقسامه إلى فريقين، خلافا لما في أكثر التفاسير في أن المثلين لفريق واحد، وأن معناهما وموضوعهما واحد.
6. الفريق الأول المقصود بالمثل هو من آتاهم الله دينا وهداية عمل بها سلفهم فجنوا ثمرها، وصلح حالهم بها، أيام كانوا مستقيمين على الطريقة، آخذين بإرشاد الوحى، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرا وباطنا، ولم ينظروا في حقائق ما جاءهم؛ بل ظنوا أن ما كان عند سلفهم من نعمة وسعادة إنما كان أمرا خصوا به، أو خيرا سيق إليهم، لظاهر قول أو عمل امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ذلك العمل لم يخالط سرائرهم، ولم تصلح به ضمائرهم، فأخذوا بتقاليد وعادات لم تدع في نفوسهم مجالا لغيرها، ولذلك لم يتفكروا قط في كونهم أحرى بالتمتع بتلك السعادة والسيادة من سلفهم، لأن حفظ الموجود، أيسر من إيجاد المفقود، بل لم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اقتدى من قبلهم بما فيه من شموس العرفان، ونجوم الفرقان، لزعمهم أن فهمه لا يرتقى إليه إلا أفراد من رؤساء الدين، يؤخذ بأقوالهم ما وجدوا، وبكتبهم إذا فقدوا، فمثل هذا الفريق من الصنف المخذول في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية، وحرمانه من الاهتداء بها بالمرة، وانطماس الآثار دونها عنده مثل من استوقد نارا.
7. الوجه في التمثيل لهذا الفريق: أن من يدعى الايمان بكتاب نزل من عند ربه قد طلب بذلك الإيمان أن توقد له نار يهتدى بها في الشبهات، ويستضيء بها في ظلمات الريب والمشكلات، ويبصر على ضوئها ما قد يهجم عليه من مفترسة الأهواء والشهوات، فلما أضاءت ما حوله بما أودعته من الهدى والرشاد، وكاد بالنظر فيها يمشى على هداية وسداد ـ هجمت عليه من نفسه ظلمة التقليد الخبيث، وعصب عينيه شيطان الغرور، فذهب عنه ذلك النور، وأطبق عليه جو الضلالة بل طفئ فيه نور الفطرة، وتعطلت قوى الشعور بما بين يديه، فهم بمنزلة الأعمى الأصم الذي لا يبصر ولا يسمع.
8. الفريق الثاني المقصود بالمثل، وقد ضرب الله له المثل في قوله ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾، وهو الذي بقى له بصيص من النور، فله نظرات ترمى إلى ما بين يديه من الهداية أحيانا، ولمعاني التنزيل لمعان يسطع على نفسه الفينة بعد الفينة، ويأتلق في نظره الحين بعد الحين، عندما تحركه الفطرة، أو تدفعه الحوادث للنظر فيما بين يديه، ولكنه من التقاليد والبدع في ظلمات حوالك، ومن الخبط فيها على حال لا تخلوا من المهالك، وهو في تخبطه يسمع قوارع الانذار الإلهي ويبرق في عينيه نور الهداية، فاذا أضاء له ذلك البرق السماوي سار، وإذا انصرف عنه بشبه الضلالات الغرارة قام وتحير لا يدرى أين يذهب، ثم إنه ليعرض عن سماع نذر الكتاب ودعاة الحق، كمن يضع إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع إرشاد المرشد ولا نصح الناصح، يخاف من تلك القوارع أن تقتله، ومن صواعق النذر أن تهلكه.
9. استوقد النار طلب وقودها بفعله أو فعل غيره، وقالوا: إنه بمعنى أوقدها، ويرجع إلى الأول بأنه طلب بإضرامها وايرائها أن تقد.. يقال: وقدت النار تقد وتوقدت واتقدت واستوقدت ـ لازم ـ
10. معني الجملة في منافقي اليهود قد تقدم آنفا بالإجمال، وسيجيء تفصيله، وأما منافقو العرب ـ الذين قال تعالى فيهم من سورتهم: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا﴾ فيقال فيهم: مثلهم وصفتهم في إسلامهم أولا وكفرهم آخرا كمثل فريق من الناس أوقد نارا لينتفع بها في ليلة حالكة الظلام، ويبصر ما حوله مما عساه يضره ليتقيه، أو ينفعه ليجتنيه.
11. ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ يقال ضاءت النار والشمس وأضاءت ـ لازم ـ ويقال ضاء المكان وأضاءته النار أي أظهرته بضوئها. قال العباس في النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
وأنت لما ظهرت أشرقت الأر... ض وضاءت بنورك الأفق
والمعنى المتبادر: فلما أضاءت النار ما حوله من الأمكنة والأشياء وتمكن من الانتفاع بها والاستضاءة بنورها ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾
12. ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ بإطفاء نارهم بنحو مطر شديد نزل عليها، أو عاصف من الريح حرفها وبددها، وهذا بالنسبة إلى المثل، وأما بالنسبة إلى المضروب فيهم المثل من العرب، فالنور نور الاسلام الذي أضاء قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَعَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ وذهابه في الدنيا ما عرض لهم من الشك أو الجزم بالكفر حتى لم يعودوا يدركون منافعه وفضائله، وأما ذهابه بعدها فأوله الموت، فإن المنافق يرى بالموت أو قبيل خروج روحه منزلته بعدها، وبعده ظلمة القبر أي حياة البرزخ، وبعدها موقف الحساب والجزاء: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الخ الآية التالية، وفى هاتين الآيتين أصدق بيان للمراد من ذهاب الله بنورهم، وكونه ليس إجبارا لهم على الكفر، ولا عبارة عن سلبهم التمكن من الإيمان، وإنما هو تعبير عن سنة الله تعالى في عاقبة فتنتهم لأنفسهم.
13. العرب تستعمل لفظ (الذى) في الجمع كلفظي (ما) و(من) ومنه قوله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ وإن شاع في (الذى) الافراد لأن له جمعا.
14. روعي في قوله ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ لفظه، وفى قوله ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ معناه، والفصيح فيه مراعاة اللفظ أولا، ومراعاة المعنى آخرا، والتفنن في إرجاع الضمائر متفرعة ضرب من استعمال البلغاء، يقرر المعني في الذهن ويهبه فضل تمكن وتأكيد، بما يحدث فيه من الروية والتوجه إلى الإحاطة بمعاني المختلفات.
15. هذا المثل مضروب لفريق لا ترجى هدايته، لأنه سد على نفسه جميع أبواب الهداية فلا يثق بعقله ولا بحواسه ولا بوجدانه إذا خالفت تقاليده.
16. عدم الابصار بذهاب النور غير كاف لتمثيل هذا اليأس والحرمان، لجواز أن يلوح بارق، أو يذر شارق، أو يصيح طارق، فتكون الهداية، وتنكشف الغواية، ولذلك عقبه بقوله تعالى ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾، أي إنهم فقدوا منفعة السمع الذي يؤدى إلى النفس ما يلقيه المرشدون إليها من الحجج القاطعة، والدلائل الناصعة، فلا يصيخون إلى وعظ واعظ، ولا يصغون لتنبيه منبه، (فما أضيع البرهان عند المقلد) بل لا يسمعون وإن أصاخوا، ولا يفقهون إن سمعوا، فكأنهم صم لم يسمعوا ـ وفقدوا منفعة الاسترشاد بالقول وطلب الحكمة من معاهدها، فلا يسألون بيانا، ولا يطلبون برهانا، وفقدوا خير منافع الأبصار، وهو نظر الاستفادة والاعتيار، فلا يرون ما يحل بهم من الفتن فينزجروا، ولا يبصرون ما تتقلب به أحوال الأمم فيعتبروا.
17. ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ عن ضلالتهم، ولا يخرجون من ظلماتهم، لأن من وقع في أرض فلاة في ليلة مظلمة وفقد فيها جميع حواسه لا يمكنه أن يسمع صوتا يهتدى به، ولا أن يصيح هو لينقذه من يسمعه، ولا أن يرى بارقا يؤمه ويقصده، فهو لا يرجع من تيهه، بل يظل يعمه في الظلمات، حتى يفترسه سبع ضار، أو يصل إلى شفا جرف هار، فينهار به في شر قرار ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾
18. من الإشارات واللطائف المرتبطة ما ذكره نقلا عن محمد عبده في تطبيق المثل على اليهود وأمثالهم من هذه الأمة: استوقدوا بفطرتهم السليمة نار الهداية الآلهية بتصديقهم، فلما أضاءت لهم بروقها، ووضح لهم طريقها، فاجأتهم التقاليد الموروثة، وباغتتهم العادات المألوفة، وشغلهم ما يتوهمونه فيها من المنافع والفوائد، وما يتوقعونه في الاعراض عنها من المصارع وللفاسد، عن الاستعانة بذلك الضوء على سلوك ذلك الصراط المستقيم، والتفرقة بين نهاره المشرق وظلمات ليلها البهيم، بل استبدلوا هذا للديجور، بذلك الضياء والنور، وهذا هو معنى ذهاب نورهم، وإنما قال ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ ولم يقل ذهب نورهم، أو أذهب الله نورهم للإشعار بأن الله تعالى كان معهم بمعونته وتوفيقه عندما استوقدوا النار فأضاءت، وذلك أنهم كانوا قائمين على سبيل فطرته التي فطر الناس عليها، معتقدين صحة شريعته التي دعا الناس إليها، وبأنه تخلى عنهم عندما نكبوا عن تلك السبيل، وعافوا ذلك المورد السلسبيل.
19. لا شك أن المستوقد المسترشد تكون له حالة مع الله تعالى مرضية في التوجه إليه وقصد اتباع هداه، والاستضاءة بنوره الذي وهبه إياه، فاذا أعرض عنه وكله الله إلى نفسه، وذهب بتوره، وإذا ذهب النور لا يبقى إلا الظلمة، وما كان هؤلاء في ظلمة واحدة، ولكنها ظلمات بعضها فوق بعض، متعددة بتعدد أنواع التقاليد التي فتنوا بها، وبتعدد أنواع الهداية التي أعرضوا عنها، ولذلك قال ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ شيئا.
20. حذف مفعول يبصرون إيذانا بالعموم، أي لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية ولا يرون طريقا من طرقها، لأنه صرف عنايته عنهم بتركهم سنته، وإهمالهم هدايته، ووكلهم إلى أنفسهم، ويا ويل من وكله الله إلى نفسه، وحرمه توفيقه.
21. هذا هو مثل الفريق الثاني من هذا الصنف من الناس، الذي كان أفراده ولا يزالون فتنة للبشر، ومرضا في الامم، وحجة على الدين، لأنهم بغرورهم بتقاليدهم التي اكتفوا بها من دينهم الموروث، يعبثون بعقولهم؛ ويلهون بخيالاتهم؛ ويجنون على مشاعرهم ومداركهم فيضعفونها، ويصارعون الفطرة الالهية فيصرعونها حتى يكون بعضهم كالجمادات ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ كما تقدم في المثل الأول؛ ويألف البعض الآخر الظلمة بطول التقليد، ويكون أفراده في نور البرهان كالخفا فيش في نور الشمس.
22. لكنهم أمثل من الفريق الذي ضرب له المثل الأول لأن فيهم بقية من الرجاء ورمقا من الحياة؛ يوجههم إلى الاقتباس من نور الهداية كلما أضاءت لهم بروقها، والمشي في الجادة كلما استبانوا طريقها، ولكن تحول دون ذلك ظلمات التقاليد العارضة، وتقف في السبيل عقبات البدع المعارضة، وقد يعدهم لاستماع قوارع الآيات التي تنذرهم بما حرفوا، وصوادع الحجج التي تبين لهم كيف انحرفوا، ولا يصدهم عنها إلا أنها نزعجهم إلى ترك ما صنفوا وألفوا، وهجر ما أحبوا وألفوا، وعدم المبالاة بسنة الآباء، وقلة الاحتفال بعظمة الرؤساء، فهم يتراوحون بين الخوف والرجاء، مذبذبين بين أهل الجحود وأهل اليقين ﴿لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾، ولا ينقطع منهم الأمل، حتى ينقطع بهم الأجل.
23. عندما يقرع أسماعهم من كتاب ربهم ما يبين فساد سيرتهم، والتواء طريقتهم، كقوله تعالى في النعي على أمثالهم، وحكاية ما لم يرضه من أقوالهم: ﴿ بل قالوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾، وقوله في بيان ندمهم على التقليد، عندما يحل بهم الوعيد: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ يأخذهم الزلزال، ويتولاهم الاضطراب والقلق، وتنشق لهم الظلمة عن فلق، ويلمع في نفوسهم نور الهداية الفطرية فيمشون فيه خطوات، ثم تحيط بهم الظلمات، وينقطع بهم الطريق كما ألمعنا آنفا.
24. أسباب غلبة الظلمات على النور هي موافقة ما عليه الجمهور؛ والاخلاد إلى الهوى؛ وتفضيل عرض هذا الأدنى وانتظار المغفرة ولو بما تأولوه في معنى الشفاعة؛ وتمنى الربح من غير بضاعة: ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ﴾ بلى هو عندهم مدروس بجدليات النحو والكلام؛ ولكنه دارس الصوى والاعلام؛ المنصوبة لهداية القلوب والاحلام ومقروء بالتجويد والانغام؛ ولكنه متروك الحكم والأحكام؛ يقرؤونه لكسب الحطام؛ لا لمعرفة الحلال والحرام، ولا يتلونه لإصلاح القلب واللسان؛ بتزكية النفس وتغذية الايمان؛ ويكتبونه لشفاء الأبدان من الأسقام، لا لشفاء ما في الصدور من الأوهام والآثام، ولو كان له أنصار يدعون إليه؛ وهداة يعتصمون به ويعولون عليه؛ لتبددت الظلمات أمام الانوار، ومحت آية الليل آية النهار.
25. تلك الارشادات الالهية بمنزلة المطر الذي ينزل من السماء؛ والزلزال والاضطراب الذي أشرنا إليه بمنزلة الرعد، واستبانة الصراط المستقيم الذي يلمع في أنفسهم من ذلك كالبرق، والعادات والتقاليد والشهوات والخوف من ذم الجماهير عند العمل بما يخالفهم كالظلمات التي تصد عن سلوك الطريق بل تعميه على طالبه وتحجبه عنه، ولذلك قال تعالى في تمثيل حال هذا الفريق: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾، أي قوم نزل بهم صيب.
26. وصف الله تعالى الصيب بأنه من السماء مع العلم بأن الصيب لا يكون إلا من السماء للإشعار بأنه أمر لا يملكون دفعه وليس ملاكه في أيديهم، ومن المعهود عند بلغاء العرب التعبير عما يلم بالناس مما لا دافع له بأنه نزل من السماء، ولا جرم أن تلك السوانح التي تسنح في الأفكار، والإلهامات الالهية، لأصحاب الفطرة الزكية، التي يكون من أثرها ما أشار إليه المثل، وتقدم التنبيه عليه، هي أمر وهبي واقع، ماله من دافع.
27. ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ : إذا لمع البرق بشدة مفاجئا من هو في ظلمة فإنه يؤثر في بصره تأثيرا يكاد يخطفه، والخطف هو الأخذ بسرعة، ولكنه يتبين به جزءا من الطريق فيمشى فيه خطوات ثم يعتكر عليه الظلام، وتستحوذ عليه المخاوف والاوهام، فيقف في مكانه، أو يعود البرق إلى لمعانه، ويحاكى هذا من حال الممثل بهم أنه عندما يدعوهم الداعي إلى أصل الدين، ويوضح لهم سبب ما هم فيه من البلاء المبين، ويتلو عليهم الآيات البينة، ويقيم لهم الحجج القيمة، على أنهم تنكبوا الصراط السوى، وأصيبوا بالداء الدوىّ، يظهر لهم الحق فيعزمون على اتباعه، وتسير أفكارهم في نوره بعض خطوات، ولكن لا يعتمون أن تعود إليهم عتمة التقليد وظلمة الشهوات؛ وغبسة الأهواء والشبهات، فتقيد الفكر وإن لم تقف سيره، وإنما تعود به إلى الحيرة، ثم يتكرر النظر في تضاعيفها بطريق الالتفات والالمام.
28. الآية الكريمة تشير إلى أنهم على سوء الحال وخطر المآل، لم تنقطع منهم الآمال، كما انقطعت من أصحاب المثل الأول الذين وصفوا بالصم البكم العمى، ولذلك قال فيهم: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ حتى لا ينجع فيهم وعظ واعظ ولا تفيدهم هداية هاد، ولم يقل: إنه ذهب بنورهم كما ذهب بنور أولئك وسلبهم كل أنواع الهدى والرشاد، فوقع اليأس من رجوعهم إلى الحق.
29. قوله تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ رجوع إلى بيان حال من ضرب فيهم المثل. لا من تتمة المثل، وقد كنى عنهم بالضمير هنا لأن المثل قد تم، بعد ما ذكرهم في قوله ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ بالوصف الذي اقتضى التمثيل.. هذا أحد قولين للمفسرين، ومنهم من جعله تتمة للمثل نفسه، والمقصود من ضرب فيهم المثل، على أن كلا من المعنيين صحيح لا ينافى الآخر، وكلام بعضهم يمنع الجمع، فقد قال البغوي ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم الظاهرة، كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة.
30. بين الله تعالى أن القرآن هاد ومرشد إلى يوم القيامة، وأن معانيه عامة شاملة، فلا يعد ويوعد ويعظ ويرشد أشخاصا مخصوصين، وإنما نيط وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره بالعقائد والأخلاق والعادات والأعمال التي توجد في الأمم والشعوب، فلا يغترن أحد بقول بعض المفسرين: إن هذه الآيات نزلت في المنافقين الذين كانوا في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيتوهم أنها لا تتناوله وإن كانت منطبقة عليه، لأنه لم يتخذ القرآن إماما وهاديا، ولم يستعمل عقله ومشاعره فيما خلقت له، بل اكتفى عن ذلك بتقليد آبائه ومعاصريه، في كل ما هم فيه.
31. الرعد هو الصوت المعروف الذي يسمع في السحاب عند اجتماعه أحيانا، والبرق هو الضوء الذي يلمع في السحاب في الغالب وقد يلمع من الأفق حيث لا سحاب.
32. ما ذكره المفسّرون من أن الرعد ملك أو صوته، والبرق سوطه يسوق به السحاب، غير صحيح، وهو يوهم أن الملك جسم مادى لأن الصوت المسموع بالآذان من خصائص الأجسام، وكأن السحاب حمار بليد لا يسير إلا إذا زجر بالصراخ الشديد والضرب المتتابع.
33. ما ذكرناه هو الذي كان يفهمه العرب من اللفظين، وهو الذي يفهمه الناس اليوم، ولا يجوز صرف الألفاظ عن معانيها الحقيقية إلا بدليل صحيح، ولا سيما إذا صرفت عن معانى من عالم الشهادة الذي يعرفه الواضعون والمتكلمون، إلى معانى من عالم الغيب لا يعلمها إلا الله تعالى ومن أعلمهم الله تعالى إياها بالوحى، ولكن أكثر المفسرين ولعوا بحشو تفاسيرهم بالموضوعات التي نص المحدثون على كذبها، كما ولعوا بحشوها بالقصص والاسرائيليات التي تلقفوها من أفواه اليهود وألصقوها بالقرآن لتكون بيانا له وتفسيرا، وجعلوا ذلك ملحقا بالوحى، والحق الذي لا مرية فيه: أنه لا يجوز إلحاق شيء بالوحى غير ما تدل عليه ألفاظه وأساليبه، إلا ما ثبت بالوحى عن المعصوم الذي جاء به ثبوتا لا يخالطه الريب.
34. هذا ما قاله محمد عبده في الرعد والبرق ردا على الجلال فيما تبع فيه ما روى في التفسير المأثور عن بعض الصحابة والتابعين، ولا يصح منه شيء، وأمثله ما رواه الترمذي بسند ضعيف من سؤال اليهود للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد رأينا السيوطي لم يذكر من هذه الروايات شيئا في تفسير الآية من كتابه (الدر المنثور) المخصص لنقل المأثور، وكذلك ابن كثير، وكأن هذا عده من الاسرائيليات مع عدم صحة الرواية فيه، وفسرهما البغوي بمفهومهما اللغوي فقال في الرعد (هو الصوت الذي يسمع من السحاب) وفى البرق (هو النار التي تخرج منه) ثم قال قال على وابن عباس وأكثر المفسرين: الرعد اسم ملك يسوق السحاب، والبرق لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب، وقيل الصوت زجر السحاب وقيل تسبيح الملك، وقيل الرعد نطق الملك والبرق ضحكه.
35. هذه الأقوال كلها مما كان يذيعه مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه بين المسلمين، من الصحابة والتابعين، ولو صح في حديث مرفوع بسماع صحيح لا يحتمل أن يكون من الاسرائيليات لما وقع فيه مثل هذا الخلاف، ولأمكن حمله على أن المراد به الإشارة إلى أن هذه المظاهر الكونية تقع بفعل ملك موكل بالسحاب، ولكن لا حاجة إلى ذلك مع عدم صحة شيء في المسألة والملائكة من عالم الغيب، وهم لا يراهم الناس إلا إذا تمثلوا لنبي أو ولى على سبيل المعجزة أو الارهاص كتمثل الروح للسيدة مريم عليها السّلام ورؤية الصحابة لجبريل في حضرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بصورة رجل يسأل عن الإيمان والاسلام والاحسان والبرق من عالم الشهادة لا من عالم الغيب.
36. قول البغوي: وقيل الرعد: انخراق الريح بين السحاب ـ يريد به قول فلاسفة اليونان الذي اغتر به بعض المسلمين)، قال البيضاوي: والرعد صوت يسمع من السحاب، والمشهور أن سببه اضطراب اجرام السحاب واصطكاكها إذا حدتها الريح من الارتعاد) هو قول باطل والسحاب بخار لا يحدث اضطرابه صوتا.
37. الصاعقة هي ما كان يعرفه العرب ويعرفه كل واحد وهو ما ينزل في أثناء المطر والبرق والرعد فيصعق ما ينزل به، بأن يهلك أو يلحقه ضرر.
38. ما تفسيرنا للبرق والرعد والصاعقة مع كونها معروفة لكل الناس إلا لأن المفسرين صرفو أفهامهم عن المعروف إلى غيره، كما حكى عن (ارسطو) حكيم قدماء اليونان أن تلاميذه سألوه عن تعريف الحركة، فقام ومشى، وما أنطقهم بالسؤال عنها على بداهتها إلا أنهم اعتادوا أن يسمعوا من الفلاسفة أقوالا في الأمور الجلية تجعلها غامضة خفية.
39. حقيقة البرق والرعد والصاعقة وأسباب حدوثها فليس من مباحث القرآن لأنه من علم الطبيعة ـ أي الخليقة ـ وحوادث الجو التي في استطاعة الناس معرفتها باجتهادهم ولا تتوقف على الوحى، وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاستدلال، وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين؛ والعلم بالكون ينمى ويضعف في الناس ويختلف باختلاف الزمان، فقد كان الناس يعتقدون في بعض الأزمنة أن الصواعق تحدث من أجسام مادية لما كان يشمونه في محل نزولها من رائحة الكبريت وغيره، ورجعوا عن هذا الاعتقاد في زمن آخر ملاحظين أن تلك الرائحة لا تكون دائما في محل الصاعقة.
40. ظهر في هذا الزمان أن في الكون سيّالا يسمونه الكهرباء، من آثاره ما ترون من التلغراف والتليفون والترامواي.. وهذه الأضواء الساطعة في البيوت والأسواق، من غير شموع ولا زيت ولا ذبال وإنما تكون باتصال سلكين دقيقين كالخيوط التي تخاط بها الثياب، أحدهما يحمل أو يوصل السيال الكهربائى الذي يسمونه الموجب، والآخر يوصل السيال المسمى بالسالب، وباتصال السلكين، يتولد النور من تلاقى السيالين، وبانقطاعهما أو الفصل بينهما ينفصل السيالان فينقطع الضوء من المصابيح والحركة من الآلات والكهربائية موجودة في كل شيء، والبرق في السحاب يتولد من اتصال نوعيها الموجب والسالب بقدرة الله تعالى، كما يتولد في الأرض بعمل الانسان، وقد استنزل بعض علماء الكهربائية قبس الصاعقة من السحاب إلى الأرض، والصاعقة من أثر الكهربائية، وهى تفريغ السحاب طائفة منها في مكان لجاذب في الأرض يجذبه، وكثيرا ما حصل الصعق لعمال التلغراف، لما بين السحاب والاسلاك من الجاذبية، ومعرفة الناس بالسبب الحقيقي للصواعق هداهم إلى حفظ الابنية الشاهقة منها باتخاذ القضيب المعروف الذي يسمى قضيب الصاعقة، فلا تنزل الصواعق على بناء رفع فوقه هذا القضيب، ولا مجال في تفسير القرآن للتطويل في أمثال هذه المسائل الطبيعية لأنها تطلب من فنونها الخاصة بها.
41. قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ يرشدنا في أثناء شرح المثل وتقريره إلى حال من ضرب فيهم المثل لئلا يذهلنا ما نتصوره من حال المشبه به عن حال المشبه المقصود بالذات، وهو أن التصامم والهروب من سماع آيات الحق والحذر من صواعق براهينه الساطعة أن تذهب بتقاليدهم التي يرون حياتهم الملية مرتبطة بها لا يفيدهم شيئا، لأن الله تعالى محيط بهم، ومطلع على سرائرهم، وعالم بما في ضمائرهم، وقادر على أخذهم أينما كانوا، وفى أي طريق سلكوا. فلا يهربون من برهان إلا ويفاجئهم برهان آخر، كالغريق يدفعه موج ويتلقاه موج حتى يقذف به إلى ساحل النجاة، أو يدفعه إلى هاوية العدم.
42. ولهذا قال ﴿مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ ولم يقل محيط بهم، فوضع الاسم المظهر موضع المضمر للإيذان بأنهم إنما كانوا كذلك بكفرهم، وأن ذلك يرد في أمثالهم.
43. والمراد بالإحاطة هنا إحاطة القدرة، فمن لم يمته بأخذ الصاعقة أماته بغيرها تنوعت الاسباب والموت واحد والمحيط بالشيء لا يمكن أن يفوته وينفلت من قبضته.
44. ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ معناها واضح لا يحتاج إلى تفسير، ولكن قال بعض المفسرين: إن قدير بمعني قادر ومثله كل صيغة مبالغة في أسمائه تعالى لأنه لا تفاوت فيها، وفيه أن المبالغة في الكلام، لأجل التأثير في الأفهام، فقوله ﴿عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ أبلغ من قوله ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ ولكل منهما موقع.
45. ههنا لما هدد المنافقين بأنه لو شاء أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، علله بأنه على كل شيء قدير، للأعلام بأن تعلق مشيئته يتصل به تعلق قدرته، فما شاء كان قطعا لأنه لا يعجزه شيء، وتأثير الأسباب في مسبباتها منوط بمشيئته تعالى.
__________
(1) تفسير المنار: 1/168.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. نهج القرآن الكريم نهج العرب في أساليبها، فضرب الأمثال التي تجلى المعاني أتم جلاء، وتحدث في النفوس من الأثر ما لا يقدر قدره ولا يسبر غوره، لما فيها من إبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجليّة، وإظهار ما ينكر في لباس ما يعرف ويشهر.
2. وعلى هذا السنن ضرب الله مثل المنافقين، فصوّر حالهم حينما أسلموا أوّلا ودخل نور الإيمان في قلوبهم، ثم داخلهم الشكّ فيه فكفروا به، إذ لم يدركوا فضائله ولم يفقهوا محاسنه، وصاروا لا يبصرون مسلكا من مسالك الهداية ولا يدركون وسيلة من وسائل النجاة، وقد أضاء ذلك النور قلوب من حولهم من المؤمنين المخلصين ـ بحال جماعة أوقدوا نارا لينتفعوا بها في جلب خير أو دفع ضر، فلما أضاءت ما حولهم من الأشياء والأماكن، جاءها عارض خفىّ أو أمر سماوي كمطر شديد، أو ريح عاصف جرفها وبدّدها فأصبحوا في ظلام دامس، لا يتسنى لهم الإبصار بحال.
3. ثم جعلهم مرّة أخرى كالصمّ البكم العمى الذين فقدوا هذه المشاعر والحواس، إذ هم حين لم ينتفعوا بآثارها فكأنهم فقدوها، فما فائدة السمع إلا الإصاخة إلى نصح الناصح وهدى الواعظ، وما منفعة اللسان إلا الاسترشاد بالقول، وطلب الدليل والبرهان، لتتجلى المعقولات، وتتضح المشكلات، وما مزية البصر إلا النظر والاعتبار، لزيادة الهدى والاستبصار، فمن لم يستعملها في شيء من ذلك فكأنه فقدها، وأنّى لمثله أن يخرج من ضلالة، أو يرجع إلى هدى؟
الخصوص والعموم:
مما ذكره المفسّرون حول الخصوص والعموم المرتبط بهذا المحلّ:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(2).:
4. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ وصفهم الله بهذه الصفات مع سلامة مشاعرهم، من قبل أنهم فقدوا منفعة السمع، فلا يصغون لعظة واعظ ولا إرشاد مرشد، بل هم لا يفقهون إن سمعوا فكأنهم صمّ لا يسمعون، كما فقدوا منفعة الاسترشاد وطلب الحكمة، فلا يطلبون برهانا على قضية، ولا بيانا عن مسألة تخفى عليهم، فكأنهم بكم لا يتكلمون وفقدوا منافع الإبصار من النظر والاعتبار، فلا يرون ما يحلّ بهم من الفتن فينزجروا، ولا يبصرون ما تتقلّب به أحوال الأمم فيعتبروا.
5. ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ أي فهم لا يعودون من الضلالة إلى الهدى الذي تركوه وأضاعوه، إذ من فقد حواسه لا يسمع صوتا يهتدى به، ولا يصيح لينقذ نفسه، ولا يرى بارقا من النور يتجه إليه ويقصده، ولا تزال هذه حاله، ظلمات بعضها فوق بعض حتى يتردّى في مهاوى الهلاك.
6. ضرب الله مثلا آخر يشرح به حال المنافقين ويبين فظاعة أعمالهم وسوء أفعالهم، زيادة في التنكيل بهم، وهتكا لأستارهم، إذ كانوا فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، فجعل حالهم وقد أتتهم تلك الإرشادات الإلهية النازلة من السماء فأصابهم القلق والاضطراب، واعترضتهم ظلمات الشبه والتقاليد والخوف من ذم الجماهير عند العمل بما يخالف آراءهم، ثم استبان لهم أثناء ذلك قبس من النور يلمع في أنفسهم حين يدعوهم الداعي، وتلوح لهم الآيات البينة، والحجج القيمة، فيعزمون على اتباع الحق، وتسير أفكارهم في نوره بعض الخطى، ولكن لا يلبثون أن تعود إليهم عتمة التقليد، وظلمة الشّبهات، فتقيّد الفكر وإن لم تقف سيره، بل تعود به إلى الحيرة.
7. حالهم كحال قوم في إحدى الفلوات نزل بهم بعد ظلام الليل صيّب من السماء، فيه رعود قاصفة، وبروق لامعة، وصواعق متساقطة، فتولاهم الدهش والرّعب، فهووا بأصابعهم إلى آذانهم كلما قصف هزيم الرعد ليسدّوا منافذ السمع، لما يحذرونه من الموت الزوام، ويخافونه من نزول الحمام، ولكن هل ينجى حذر من قدر؟ (تعددت الأسباب والموت واحد) بلى إن الله قدير أن يذهب الأسماع والأبصار التي كانت وسيلة الدهش والخوف، ولكن لحكمة غاب عنا سرها، ومصلحة لا نعرف كنهها، لم يشأ ذلك وهو الحكيم الخبير.
8. الرعد: هو الصوت الذي يسمع في السحاب أحيانا عند تجمعه، والبرق: هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالبا، وربما لمع في الأفق حيث لا سحاب، وأسباب هذه الظواهر اتحاد كهربيّة السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات
9. الصاعقة: نار عظيمة تنزل أحيانا أثناء المطر والبرق، وسببها تفريغ الكهربيّة التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/57.
(2) تفسير المراغي: 1/59.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. زيادة في الإيضاح، يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه الطائفة، ويكشف عن طبيعتها، وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحا: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ .
2. إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء، ولم يصموا آذانهم عن السماع، وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك، كما صنع الذين كفروا، ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه.
3. لقد استوقدوا النار، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها، عندئذ ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ الذي طلبوه ثم تركوه: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ جزاء إعراضهم عن النور.
4. هذا مثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة.. وهو مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب. فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء.. صيب من السماء هاطل غزير ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ .. ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ .. ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ .. أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون، وهم مفزعون: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾
5. إن الحركة التي تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل، إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة، التي تقف عندما يخيم الظلام.. إن هذه الحركة في المشهد لترسم ـ عن طريق التأثر الإيحائي ـ حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون.. بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين. بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة. بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام.. فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية؛ ويجسم صورة شعورية.. وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/46.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أكثر المفسرين على أن الكاف في (كمثلهم) زائدة، باعتبار أن كلمة (مثل) أداة للتشبيه، والكاف أداة للتشبيه، ولا تجتمع الأداتان على مشبّه به واحد، وعلى هذا تكون الصورة هكذا: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ أو (مثلهم كالذي استوقد نارا)، وبلاغة القرآن أعظم وأسمى من أن تخضع لمقاييس النحو وتخريج النحاة! فليس في كلمات الله ما يحتاج إلى علل النحاة، ومما حكاتهم، ليستقيم على علمهم، ولينضبط مع قواعدهم ـ وحسب القرآن أن يقول قولا، أو ينهج أسلوبا، فيكون قوله الحق، وأسلوبه الفصل، ولا عليه أن تضطرب قواعد النحو، وتتبلبل عقول النحاة! والأمر هنا ـ فيما يتعلق بالكاف في (كمثل) ـ يجرى على أسلوب القرآن كله، في إعجازه، واستيلائه على أعنّة البلاغة وأزمّتها.
2. قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ هو تشبيه حال بحال، وشأن بشأن.. بمعنى أن شأن هؤلاء المنافقين وحالهم، كشأن أو حال من استوقد نارا.. فهؤلاء المنافقون مثل، وذاك الذي استوقد نارا مثل.. وبين المثلين تشابه وتطابق، فصح أن يكون كل منهما طرفا في تشبيه واحد، وكاف التشبيه أداته.. فكأنه قيل: هذا المثل كهذا المثل!
3. عندما ننظر فيما بين المثلين من وجه شبه، نرى: في المشبه، وهم المنافقون.. كانوا في زمرة الكافرين، ثم إنهم أعلنوا إيمانهم، واتخذوا هذا الإيمان جنّة يتقون بها يد المؤمنين، إذا هي علت على الكافرين، وأنزلتهم على حكمهم، وذريعة يتوصلون بها إلى ما قد يفيء الله على المؤمنين من خير!.. فكان أن فضح الله نفاقهم، وجاءت آياته تنزع عنهم هذا الثوب الذي ستروا به هذا النفاق، فأصبحوا عراة لا يستطيعون أن يظهروا في الناس، إلا كما تظهر الحيات برؤوسها من وراء أجحارها! وفى المشبه به، وهو هذا الذي استوقد نارا.. هذا الإنسان، كان في ظلمة الليل، وفى لفح زمهريره القارس، فاستوقد نارا، كي يجد فيها الدفء والنور! ثم جاء هؤلاء المنافقون فيمن جاء إلى هذا الضوء، ليجدوا عنده الأمن، والدفء.
4. لكنّ هؤلاء المنافقين، وإن اختلطوا بالمجتمعين على هذا الضوء، وحسبوا ـ في ظاهر الأمر ـ على ما عليه القوم، فإن الله سبحانه حجز عنهم النور، وأخذ على أبصارهم، فلم يروا ما حولهم، ولم يعرفوا وجه الطريق الذي يسلكون، فركبتهم الحيرة، وقيدهم العمى والضلال..!
5. نقرأ الآية الكريمة: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾، فنجد لمحة من لمحات الإعجاز القرآني في هذا التخالف بين أجزاء الصورة في المشبه به، حيث كان الظاهر أن يقال: ذهب الله بنوره وترك في ظلمات لا يبصر)، لكن هذا يفسد المعنى، حيث يقضى بهذا الحكم على موقد النار، فيذهب بنوره الذي رفعه لهداية الناس، وحيث يقع هذا الحكم على غير المنافقين، من طالبي الهدى عنده.
6. الصورة التي رسمتها الآية الكريمة ـ على ما جاءت عليه ـ تأخذ المنافقين وحدهم بجرمهم، فتحرمهم الإفادة من هذا النور الذي يملأ الوجود من حولهم.. ثم لا تحرم المهتدين ما أفادوا من هدى.
7. الصيّب هو المطر، وقد شبّه به هدى السماء، الذي تلقاه الرسول من ربّه، ليحيى به موات القلوب، كما يحيى المطر جديب الأرض.
8. في القرآن وعد ووعيد، وتكاليف وأعباء، كالعبادات، والجهاد في سبيل الله، ومجاهدة النفس في اجتناب المحرمات.. ثم هو مع هذا رحمة وشفاء! وفى الغيث الذي ينزل من السماء ظلمات من السحب المتراكمة، ورعد وبرق.. ثم هو مع هذا نعمة وحياة! كذلك كانت آيات القرآن حين تتنزل، تنخلع لها قلوب المنافقين، وتنفطر منها أفئدتهم، لما يتوقعون فيها من صواعق تدمدم عليهم، وتفضح مكنون صدورهم، بما يبيتون ما لا يرضى من القول، وما لا يحمد من العمل.. فإذا تلقى الرسول وحيا من ربّه، وأعلنه في أصحابه، اصطكت به أسماع المنافقين، ووجفت قلوبهم هلعا وفزعا! هذا هو حظهم من كتاب الله، وذلك مبلغ ما ينالهم من هذا الخير العظيم.. اضطراب، وذعر، وهمّ مقيم.. حذر الخزي والفضيحة!
9. وذلك شأنهم تماما مع الغيث.. الناس، والحيوان، والنبات، وحتى الجماد.. يحيون بهذا الغيث، ويترقبون في شوق ولهف مواقيت نزوله، دون أن يتأدّى إليهم خوف أو قلق، مما يصحبه من ظلام ورعود! لأنهم يعلمون ما وراء هذه الرعود والبروق من رى وحياة! أما المنافقون، فشأنهم مع هذا الغيث كشأنهم مع كل خير.. يلتوون به، ويستقبلونه بنفوسهم المريضة، فلا يصيبهم منه إلا الشرّ، الذي يكمن في كل خير تستقبله النفوس المريضة، وفى كل نعمة تقع في يد السفهاء من الناس!.
10. الرعود والصواعق، هي التي يستقبلها أولئك المنافقون من كل ما تحمل هذه الظاهرة الطبيعية، من خير ورحمة!.
11. فريق آخر من المنافقين ما يزال أمرهم مرددا بين النفاق والكفر، هؤلاء ـ وإن ذهب الله بالنور الذي دخل عليهم من القرآن، حين خادعوا الله ورسوله ـ فإنهم لا يزالون على صلة بالإسلام والمسلمين، لم يتحولوا إلى الكفر تحولا صريحا، ولهذا فإن لمعات من ضوء الإسلام تطلع عليهم بين الحين والحين فتمسك بهم على طريق الإسلام وفى جماعة المسلمين، ثم تهجم عليهم ضلالاتهم، فتعمّى عليهم السبل، وتتقطع بينهم وبين الإسلام المسالك، فإذا هم في حيرة واضطراب.. وهكذا تتردّد أحوالهم بين الإيمان والكفر، إلى أن يموتوا على هذا النفاق.. ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾
12. في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ إشارة إلى دورة من دورات المنافقين، حيث انتهى بهم ترددهم بين الإيمان والكفر، إلى الكفر الغليظ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾، فالمنافقون هم كفار، وأكثر من كفار.. كفار ومنافقون معا.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/37.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. التمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم، وهو هنا من قبيل التشبيه لا من الاستعارة لأن فيه ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي لفظ مثل. فجملة: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ واقعة من الجمل الماضية موقع البيان والتقرير والفذلكة، فكان بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف، والحالة التي وقع تمثيلها سيجيء بيانها في آخر تفسير الآية.
2. أصل المثل بفتحتين هو النظير والمشابه، ويقال أيضا مثل بكسر الميم وسكون الثاء، ويقال: مثيل كما يقال: شبه وشبه وشبيه، وبدل وبدل، وبديل، ولا رابع لهذه الكلمات في مجيء فعل وفعل وفعيل بمعنى واحد.
3. اختص لفظ المثل (بفتحتين) بإطلاقه على:
أ. الحال الغريبة الشأن لأنها بحيث تمثل للناس وتوضح وتشبه سواء شبهت كما هنا، أم لم تشبه كما في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ﴾ [الرعد: 35]
ب. بإطلاقه على قول يصدر في حال غريبة فيحفظ ويشيع بين الناس لبلاغة وإبداع فيه، فلا يزال الناس يذكرون الحال التي قيل فيها ذلك القول تبعا لذكره وكم من حالة عجيبة حدثت ونسيت لأنها لم يصدر فيها من قول بليغ ما يجعلها مذكورة تبعا لذكره فيسمى مثلا وأمثال العرب باب من أبواب بلاغتهم وقد خصت بالتأليف ويعرفونه بأنه قول شبه مضربه بمورده وسأذكره قريبا.
4. لما شاع إطلاق لفظ المثل (بالتحريك) على الحالة العجيبة الشأن جعل البلغاء إذا أرادوا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة أعني وصفين منتزعين من متعدد أتوا في جانب المشبه والمشبه به معا، أو في جانب أحدهما بلفظ المثل، وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على المشبه به منهما، ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط، فلا يقولون مثل فلان كمثل الأسد، وقلما شبهوا حالا مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى: ﴿إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ﴾ [الرعد: 14]، بل يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالبا نحو الآية هنا، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد الجانبين كقوله: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [يونس: 24] الآية وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات فصار لفظ المثل في تشبيه الهيئة منسيا من أصل وضعه ومستعملا في معنى الحالة فلذلك لا يستغنون عن الإتيان بحرف التشبيه حتى مع وجود لفظ المثل فصارت الكاف في قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ﴾ دالة على التشبيه وليست زائدة.
5. استوقد بمعنى أوقد فالسين والتاء فيه للتأكيد كما هما في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [آل عمران: 195] وقولهم استبان الأمر وهذا كقول بعض بني بولان من طي في (الحماسة):
نستوقد النبل بالحضيض ونص... طاد نفوسا بنت على الكرم
أراد وقودا يقع عند الرمي بشدة، وكذلك في الآية لإيراد تمثيل حال المنافقين في إظهار الإيمان بحال طالب الوقود بل هو حال الموقد.
6. قوله: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ مفرع على ﴿اسْتَوْقَدَ﴾، و ﴿فَلَمَّا﴾ حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره فوقوع جوابها مقارن لوقوع شرطها، وذلك معنى قولهم حرف وجود لوجود أي حرف يدل على وجود الجواب لوجود شرطها أي أن يكون جوابها كالمعلول لوجود شرطها سواء كان من ترتب المعلول على العلة أو كان ترتب المسبب العرفي على السبب أم كان ترتب المقارن على مقارنه المهيأ والمقارن الحاصل على سبيل المصادفة، وكلها استعمالات واردة في كلام العرب وفي القرآن:
أ. مثال ترتب المعلول على العلة لما تعفنت أخلاطه حمّ، والمسبب على السبب، ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾ [هود: 77]، وقول عمرو بن معد يكرب:
لما رأيت نساءنا... يفحصن بالمعزاء شدا
نازلت كبشهم ولم... أر من نزال الكبش بدا
ب. مثال المقارن المهيأ قول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت... عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل
ج. مثال المقارن الحاصل اتفاقا ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو﴾ [العنكبوت: 31] وقوله: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ [يوسف: 69] فمن ظن أن لما تؤذن بالسببية اغترارا بقولهم وجود لوجود حملا للّام في عبارتهم على التعليل فقد ارتكب شططا ولم يجد من كلام الأئمة فرطا.
7. (أضاء) يجيء متعديا وهو الأصل لأن مجرده ضاء فتكون حينئذ همزته للتعدية كقول أبي الطمحان القيني:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم... دجى الليل حتى ثقب الجزع ثاقبه
ويجيء قاصرا بمعنى ضاء فهمزته للصيرورة أي صار ذا ضوء فيساوي ضاء كقول امرئ القيس يصف البرق:
يضىء سناه أو مصابيح راهب... أمال السليط بالذبال المفتل
والآية تحتملهما أي فلما أضاءت النار الجهات التي حوله وهو معنى ارتفاع شعاعها وسطوع لهبها، فيكون ما حوله موصولا مفعولا لأضاءت وهو المتبادر، وتحتمل أن تكون من أضاء القاصر أي أضاءت النار أي اشتعلت وكثر ضوؤها في نفسها، ويكون ما حوله على هذا ظرفا للنار أي حصل ضوء النار حولها غير بعيد عنها.
8. ﴿حَوْلَهُ﴾ ظرف للمكان القريب ولا يلزم أن يراد به الإحاطة فحوله هنا بمعنى لديه ومن توهم أن ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ يقتضي ذلك وقع في مشكلات لم يجد منها مخلصا إلا بعناء.
9. معنى ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ : أطفأ نارهم فعبر بالنور لأنه المقصود من الاستيقاد، وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفئ، والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما في قوله تعالى: ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ [البقرة: 15]
10. ﴿ذَهَبَ﴾ المعدى بالباء أبلغ من أذهب المعدى بالهمزة وهاته المبالغة في التعدية بالباء نشأت من أصل الوضع لأن أصل ذهب به أن يدل على أنهما ذهبا متلازمين فهو أشد في تحقيق ذهاب المصاحب كقوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ [يوسف: 15] وأذهبه جعله ذاهبا بأمره أو إرساله فلما كان الذي يريد إذهاب شخص إذهابا لا شك فيه يتولى حراسة ذلك بنفسه حتى يوقن بحصول امتثال أمره صار ذهب به مفيدا معنى أذهبه، ثم تنوسي ذلك بكثرة الاستعمال فقالوا ذهب به ونحوه ولو لم يصاحبه في ذهابه كقوله: ﴿يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ﴾ [البقرة: 258] وقوله: ﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾ [يوسف: 100]، ثم جعلت الهمزة لمجرد التعدية في الاستعمال فيقولون: ذهب القمار بمال فلان ولا يريدون أنه ذهب معه، ولكنهم تحفظوا ألا يستعملوا ذلك إلا في مقام تأكيد الإذهاب فبقيت المبالغة فيه، وضمير المفرد في قوله و ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ مراعاة للحال المشبهة.
11. اختيار لفظ النور في قوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب؛ لأن الذي يشبه النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها، وقد شاع التعبير عن الإسلام بالنور في القرآن فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه أنسب بالحال المشبهة، وعبّر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو بالمشبه أنسب في اصطلاح المتكلم.
12. ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ هذه الجملة تتضمن تقريرا لمضمون ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ لأن من ذهب نوره بقي في ظلمة لا يبصر، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية فإن قوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ يفيد أنهم لما استوقدوا نارا فانطفأت انعدمت الفائدة وخابت المساعي، ولكن قد يذهل السامع عما صاروا إليه عند هاته الحالة فيكون قوله بعد ذلك: ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ تذكيرا بذلك وتنبيها إليه، فإنهم لا يقصدون من البيان إلا شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع كما في قول طرفة:
نداماي بيض كالنجوم وقينة... تروح إلينا بين برد ومجسد
فإن قوله تروح إلينا لا يفيد أكثر من تصوير حالة القينة وتحسين منادمتها، وتفيد هذه الجملة أيضا أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد، على ما في قوله ﴿وَتَرَكَهُمْ﴾ من إفادة تحقيرهم، وما في جمع ﴿ظُلُمَاتٍ﴾ من إفادة شدة الظلمة وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمنا من جملة ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ وما يقتضيه جمع ﴿ظُلُمَاتٍ﴾ من تقدير تشبيهات ثلاثة لضلالات ثلاث من ضلالاتهم، وبهذا الاعتبار الزائد على تقرير مضمون الجملة قبلها عطفت على الجملة ولم تفصل.
13. حقيقة الترك مفارقة أحد شيئا كان مقارنا له في موضع وإبقاؤه في ذلك الموضع، وكثيرا ما يذكرون الحال التي ترك الفاعل المفعول عليها، وفي هذا الاستعمال يكثر أن يكون مجازا عن معنى صيّر أو جعل. قال النابغة:
فلا تتركنّي بالوعيد كأنني... إلى الناس مطليّ به القار أجرب
أي لا تصيرني بهذه المشابهة، وقول عنترة:
جادت عليه كل عين ثرة... فتركن كل قرارة كالدرهم
يريد صيرن، والأكثر أن يكنى به في هذا الاستعمال عن الزهادة في مفعوله كما في بيت النابغة، أو عن تحقيره كما في هذه الآية.. والفرق بين ما يعتبر فيه معنى صيّر حتى يكون منصوبه الثاني مفعولا، وما يعتبر المنصوب الثاني معه حالا، أنه إن كان القصد إلى الإخبار بالتخلية والتنحي عنه فالمنصوب الثاني حال وإن كان القصد أولا إلى ذلك المنصوب الثاني وهو محل الفائدة فالمنصوب الثاني مفعول وهو في معنى الخبر فلا يحتمل واحد منهما غير ذلك معنى وإن احتمله لفظا.
14. جمع ﴿ظُلُمَاتٍ﴾ لقصد بيان شدة الظلمة كقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: 63] وقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: الظلم ظلمات يوم القيامة)، فإن الكثرة لما كانت في العرف سبب القوة أطلقوها على مطلق القوة وإن لم يكن تعدد ولا كثرة مثل لفظ كثير عند قوله تعالى: ﴿وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ في سورة الفرقان، ومنه ذكر ضمير الجمع للتعظيم، للواحد، وضمير المتكلم ومعه غيره للتعظيم، وصيغة الجمع من ذلك القبيل، وقد قيل: لم يرد في القرآن ذكر الظلمة مفردا، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقا في فصيح الكلام وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ في سورة الأنعام [1] بخلاف قوله تعالى: ﴿فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾ [الزمر: 6] فإن التعدد مقصود بقرينة وصفه بثلاث، ولكن بلاغة القرآن وكلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه المفرد، ويتعين في هذه الآية أن جمع (ظلمات) أشير به إلى أحوال من أحوال المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي حالة الكفر، وحالة الكذب، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق.
15. هذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامه قبل الانتفاع به، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نورا وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكذب وما يتفرع عن النفاق من المذام، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عوّد بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم، وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة: لا يُبْصِرُونَ لتصوير حال من انطفأ نوره بعد أن استضاء به.
16. مفعول ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾ محذوف لقصد عموم نفي المبصرات فتنزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدّر له مفعول كأنه قيل لا إحساس بصر لهم، كقول البحتري:
شجو حساده وغيظ عداه... أن يرى مبصر ويسمع واع
17. أجمل وجه الشبه في تشبيه حال المنافقين اعتمادا على فطنة السامع لأنه يمخضه من مجموع ما تقدم من شرح حالهم ابتداء من قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: 8]
18. مما يتضمنه المثلان من الإشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة المشبه بها، فإن إظهارهم الإيمان بقولهم: ﴿ آمَنَّا بِاللهِ وقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11] وقولهم عند لقاء المؤمنين: ﴿آمَنَّا﴾ [البقرة: 14] أحوال ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاة والصدقة مع المسلمين ويصدر منهم طيّب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور الإيمان يخترق إلى نفوسهم، لكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبة حالة تضادها عند انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء بهم ووصفهم بالسفه، مثّل ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد نارا ثم ذهب عنه نورها.
19. من بدائع هذا التمثيل أنه مع ما فيه من تركيب الهيئة المشبه بها ومقابلتها للهيئة المركبة من حالهم هو قابل لتحليله بتشبيهات مفردة لكل جزء من هيئة أحوالهم بجزء مفرد من الهيئة المشبه بها فشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين، وشبه رجوعهم إلى كفرهم بذهاب نور النار، وشبه كفرهم بالظلمات، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم.
20. ﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ مفرد مراد به مشبه واحد لأن مستوقد النار واحد ولا معنى لاجتماع جماعة على استيقاد نار، لا يريبك كون الحالة المشبه حالة جماعة المنافقين، كأن تشبيه الهيئة بالهيئة إنما يتعلق بتصوير الهيئة المشبهة بها لا بكونها على وزن الهيئة المشبهة فإن المراد تشبيه حال المنافقين في ظهور أثر الإيمان ونوره مع تعقبه بالضلالة ودوامه، بحال من استوقد نارا.
21. جمع الضمير في قوله: ﴿بِنُورِهِمْ﴾ مع كونه بلصق الضمير المفرد في قوله: ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ مراعاة للحال المشبهة وهي حال المنافقين لا للحال المشبه بها؛ وهي حال المستوقد الواحد على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي وهو انطماس نور الإيمان منهم، فهو عائد إلى المنافقين لا إلى (الذي)، قريبا من رد العجز على الصدر فأشبه تجريد الاستعارة المفردة وهو من التفنين كقول طرفة:
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن... مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
وهذا رجوع بديع، وقريب منه الرجوع الواقع بطريق الاعتراض في قوله الآتي: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 19]
22. حسنه أن التمثيل جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به فالمتكلم بالخيار في مراعاة كليهما لأن الوصف لهما فيكون ذلك البعض نوعا واحدا في المشبه والشبه به، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه، وهذا يقتضي أن تكون جملة ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ جواب (لمّا) فيكون جمع ضمائر بنورهم وتركهم إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ مقتضى الظاهر أن يقول ذهب الله بنوره وتركه، ولذلك اختير هنا لفظ النور عوضا عن النار المبتدأ به، للتنبيه على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة ليدل على أن الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين، فهذا إيجاز بديع كأنه قيل فلما أضاءت ذهب الله بناره فكذلك ذهب الله بنورهم.
23. وهو أسلوب لا عهد للعرب بمثله فهو من أساليب الإعجاز، وقريب منه قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الزخرف: 22 ـ 24] فقوله: ﴿أُرْسِلْتُمْ﴾ حكاية لخطاب أقوام الرسل في جواب سؤال محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم قومه بقوله: ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ﴾ وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقا لما في الآية بعدها من قوله تعالى: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ إذ يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه.
24. جوز صاحب (الكشاف) أن يكون قوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ استئنافا ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله تعالى ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ ويكون جواب (لما) محذوفا دلت عليه الجملة المستأنفة وهو قريب مما ذكرته إلا أن الاعتبار مختلف.
25. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ أخبار لمبتدإ محذوف هو ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير ﴿مَثَلُهُمْ﴾ ولا يصح أن يكون عائدا على ﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ [البقرة: 17] لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخره لأن قوله: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لما تأتى منه الاستيقاد.
26. حذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفا بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عرف للسامع فيقولون: فلان أو فتى أو رجل أو نحو ذلك على تقدير هو فلان، ومنه قوله تعالى: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [النبأ: 36، 37] التقدير هو رب السماوات عدل عن جعل ﴿رَبَّ﴾ بدلا من ربك، وقول الحماسي:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي... أيادي لم تمنن وإن هي جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
وسمى السكاكي هذا الحذف (الحذف الذي اتبع فيه الاستعمال الوارد على تركه)
27. الإخبار عنهم بهذه الأخبار جاء على طريقة التشبيه البليغ شبهوا في انعدام آثار الإحساس منهم بالصم البكم العمي، أي كل واحد منهم اجتمعت له الصفات الثلاث، وذلك شأن الأخبار الواردة بصيغة الجمع بعد مبتدأ هو اسم دال على جمع، فالمعنى كل واحد منهم كالأصم الأبكم الأعمى، وليس المعنى على التوزيع فلا يفهم أن بعضهم كالأصم، وبعضهم كالأبكم، وبعضهم كالأعمى، وليس هو من الاستعارة عند محققي أهل البيان، قال صاحب (الكشاف): فإن قلت هل يسمى ما في الآية استعارة قلت مختلف فيه والمحققون على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون)، أي لأن الاستعارة تعتمد على لفظ المستعار منه أو المستعار له في جملة الاستعارة فمتى ذكرا معا فهو تشبيه.
28. الصم والبكم والعمى جمع أصم وأعمى وأبكم وهم من اتصف بالصمم والبكم والعمي، فالصمم انعدام إحساس السمع عمن من شأنه أن يكون سميعا، والبكم انعدام النطق عمن من شأنه النطق، والعمي انعدام البصر عمن من شأنه الإبصار.
29. قوله: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ تفريع على جملة: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ لأن من اعتراه هذه الصفات انعدم منه الفهم والإفهام وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب، والرجوع الانصراف من مكان حلول ثان إلى مكان حلول أول، وهو هنا مجاز في الإقلاع عن الكفر.
30. أعقبت تفاصيل صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة، بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة، وهذه طريقة تشبيه التمثيل، إلحاقا لتلك الأحوال المعقولة بالأشياء المحسوسة، لأن النفس إلى المحسوس أميل.. وإتماما للبيان بجمع المتفرقات في السمع، المطالة في اللفظ، في صورة واحدة لأن للإجمال بعد التفصيل وقعا من نفوس السامعين.. وتقريرا لجميع ما تقدم في الذهن بصورة تخالف ما صور سالفا لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها. قال في (الكشاف): ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كالمشاهد)، واستدلالا على ما يتضمنه مجموع تلك الصفات من سوء الحالة وخيبة السعي وفساد العاقبة، فمن فوائد التشبيه قصد تفظيع المشبه.. وتقريبا لما في أحوالهم في الدين من التضاد والتخالف بين ظاهر جميل وباطن قبيح بصفة حال عجيبة من أحوال العالم فإن من فائدة التشبيه إظهار إمكان المشبه، وتنظير غرائبه بمثلها في المشبه به، قال في (الكشاف): ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتابه المبين أمثاله وفشت في كلام رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وكلام الأنبياء والحكماء قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]
31. قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما في قوله: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ دل على تقدير قوم قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ وقوله: ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: 20]. الآية، لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يجيء فيه ما جاز في قوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: 17]
32. شبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان أهلها كانّين في مساكنهم كما علم ذلك من قوله: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ [البقرة: 20] فذلك الغيث نفع أهل الأرض ولم يصبهم ممّا اتصل به من الرعد والصواعق ضر ولم ينفع المارين بها وأضرّ بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق.
33. الصيب مستعار للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغيث وارد، وفي الحديث الصحيح: مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث أصاب أرضا فكان منها نقيّة)، وفي القرآن: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ [الحديد: 20].
34. لا تجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع التمثيل القرآني، ومنه أخذ أبو الطيب قوله:
فتى كالسحاب الجون يرجى ويتّقى... يرجّى الحيا منه وتخشى الصواعق
35. الظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر، والرعد لقوارع القرآن وزواجره، والبرق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل.
36. الصيب فيعل من صاب يصوب صوبا إذا نزل بشدة، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الاسمية فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل.
37. الظاهر أن قوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرئ القيس: كجلمود صخر حطّه السيل من عل.. إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير، وكقوله تعالى: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: 38]، وقوله: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 71] وقال تعالى: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [الأنفال: 32].
38. السماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم: 24] وتطلق على السحاب، وتطلق على المطر نفسه، ففي الحديث: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إثر سماء)، ولما كان تكوّن المطر من الطبقة الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن.
39. يمكن أن يكون قوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ تقييدا للصيب إما بمعنى من جميع أقطار الجو إذا قلنا إن التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في (الكشاف) على بعد فيه إذ لم يعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسم كلي ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل الأجزاء منزلة أفراد الجنس ولا يعرف له نظير في الاستعمال فالذي يظهر لي إن جعلنا قوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ قيدا للصيب أن المراد من السماء أعلى الارتفاع والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عاليا كان أدوم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريبا من الأرض غير مرتفع، وضمير (فيه) عائد إلى (صيب) والظرفية مجازية بمعنى معه، والظلمات مضى القول فيه آنفا.
40. المراد بالظلمات ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل وسحابة الليل أشد مطرا وبرقا وتسمى سارية.
41. الصيب تشبيه للقرآن، وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد بأنها تسر أقواما وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير أهل تلك الدار، فكذلك الآيات تسر المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة على أحوالهم.
42. الأظهر أن تكون جملة: ﴿يَجْعَلُونَ﴾ حالا اتضح بها المقصود من الهيئة المشبه بها لأنها كانت مجملة، وأما جملة: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ﴾ فيجوز كونها حالا من ضمير ﴿يَجْعَلُونَ﴾، لأن بها كمال إيضاح الهيئة المشبه بها ويجوز كونها استئنافا لبيان حال الفريق عند البرق نشأ عن بيان حالهم عند الرعد، وجملة: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ حال من (البرق) أو من ضمير (أبصارهم) لا غير، وفي هذا تشبيه لجزع المنافقين من آيات الوعيد بما يعتري القائم تحت السماء حين الرعد والبرق والظلمات فهو يخشى استكاك سمعه ويخشى الصواعق حذر الموت ويعشيه البرق حين يلمع بإضاءة شديدة ويعمي عليه الطريق بعد انقطاع لمعانه.
43. قوله: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ﴾ تمثيل لحال حيرة المنافقين بحال حيرة السائرين في الليل المظلم المرعد المبرق، وقوله: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ اعتراض للتذكير بأن المقصود التمثيل لحال المنافقين في كفرهم لا لمجرد التفنن في التمثيل، وقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ رجوع إلى وعيد المنافقين الذين هم المقصود من التمثيل فالضمائر التي في جملة ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ راجعة إلى أصل الكلام، وتوزيع الضمائر دل عليه السياق.
44. عبر الله تعالى عن زواجر القرآن بالصواعق وعن انحطاط قلوب المنافقين وهي البصائر عن قرار نور الإيمان فيها بخطف البرق للأبصار، وإلى نحو من هذا يشير كلام ابن عطية نقلا عن جمهور المفسرين وهو مجاز شائع، يقال فلان يرعد ويبرق، على أن بناءه هنا على المجاز السابق يزيده قبولا، وعبر عما يحصل للمنافقين من الشك في صحة اعتقادهم بمشي الساري في ظلمة إذا أضاء له البرق، وعن إقلاعهم عن ذلك الشك حين رجوعهم إلى كفرهم بوقوف الماشي عند انقطاع البرق على طريقة التمثيل، وخلل ذلك كله بتهديد لا يناسب إلا المشبهين وهو ما أفاده الاعتراض بقوله: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ وقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ فجاء بهذه الجمل الحالية والمستأنفة تنبيها على وجه الشبه وتقريرا لقوة مشابهة الزواجر وآيات الهدى والإيمان بالرعد والبرق في حصول أثري النفع والضر عنهما مع تفنن في البلاغة وطرائق الحقيقة والمجاز.
45. جعل في (الكشاف) الجمل الثلاث مستأنفا بعضها عن بعض بأن تكون الأولى استئنافا عن جملة: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: 19] والثانية وهي: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ﴾ مستأنفة عن جملة: ﴿يَجْعَلُونَ﴾ لأن الصواعق تستلزم البرق، والثالثة وهي: ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا﴾ مستأنفة عن قوله: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ﴾ والمعنى عليه ضعيف وهو في بعضها أضعف منه في بعض.
46. الجعل والأصابع مستعملان في حقيقتهما على قول بعض المفسرين لأن الجعل هو هنا بمعنى النوط، والظرفية لا تقتضي الإحاطة فجعل بعض الإصبع في الأذن هو جعل للإصبع فتمثل بعض علماء البيان بهذه الآية للمجاز الذي علاقته الجزئية تسامح ولذلك عبر عنه صاحب (الكشاف) بأن هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها كقوله: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: 6] ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: 38] ومنه قولك مسحت بالمنديل، ودخلت البلد، وقيل ذلك مجاز في الأصابع، وقيل مجاز في الجعل ولمن شاء أن يجعله مجازا في الظرفية فتكون تبعية لكلمة (في)
47. (من) في قوله: ﴿مِنَ الصَّوَاعِقِ﴾ للتعليل أي لأجل الصواعق إذ الصواعق هي علة جعل الأصابع في الآذان ولا ضير في كون الجعل لاتقائها حتى يقال يلزم تقدير مضاف نحو ترك واتقاء إذ لا داعي إليه، ونظير هذا قولهم سقاه من العيمة (بفتح العين وسكون الياء وهي شهوة اللبن) لأن العيمة سبب السقي والمقصود زوالها إذ المفعول لأجله هو الباعث وجوده على الفعل سواء كان مع ذلك غاية للفعل وهو الغالب أم لم يكن كما هنا.
48. قوله: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ مفعول لأجله وهو هنا علة وغاية معا.
49. من بديع هذا التمثيل أنه مع ما احتوى عليه من مجموع الهيئة المركبة المشبه بها حال المنافقين حين منازعة الجواذب لنفوسهم من جواذب الاهتداء وترقبها ما يفاض على نفوسهم من قبول دعوة النبي وإرشاده مع جواذب الإصرار على الكفر وذبهم عن أنفسهم أن يعلق بها ذلك الإرشاد حينما يخلون إلى شياطينهم، هو مع ذلك قابل لتفريق التشبيه في مفرداته إلى تشابيه مفردة بأن يشبه كل جزء من مجموع الهيئة المشبهة لجزء من مجموع هيئة قوم أصابهم صيب معه ظلمات ورعد وصواعق لا يطيقون سماع قصفها ويخشون الموت منها وبرق شديد يكاد يذهب بأبصارهم وهم في حيرة بين السير وتركه.
50. قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ يعني أن الرعد والبرق الواقعين في الهيئة المشبه بها هما رعد وبرق بلغا منتهى قوة جنسيهما بحيث لا يمنع قصيف الرعد من إتلاف أسماع سامعيه ولا يمنع وميض البرق من إتلاف أبصار ناظريه إلا مشيئة الله عدم وقوع ذلك لحكمة وفائدة ذكر هذا في الحالة المشبهة بها أن يسري نظيره في الحالة المشبهة وهي حالة المنافقين فهم على وشك انعدام الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم انعداما تاما من كثرة عنادهم وإعراضهم عن الحق إلا أن الله لم يشأ ذلك استدراجا لهم وإملاء ليزدادوا إثما أو تلوما لهم وإعذارا لعل منهم من يثوب إلى الهدى وقد صيغ هذا المعنى في هذا الأسلوب لما فيه من التوجيه بالتهديد لهم أن يذهب الله سمعهم وأبصارهم من نفاقهم إن لم يبتدروا الإقلاع عن النفاق وذلك يكون له وقع الرعب في قلوبهم كما وقع لعتبة بن ربيعة لما قرأ عليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: 13]
51. ليس المقصود من اجتلاب لو في هذا الشرط إفادة ما تقتضيه (لو) من الامتناع لأنه ليس المقصود الإعلام بقدرة الله على ذلك بل المقصود إفادة لازم الامتناع وهو أن توفر أسباب إذهاب البرق والرعد أبصارهم الواقعين في التمثيل متوفرة وهي كفران النعمة الحاصلة منهما إذ إنما رزقوهما للتبصر في الآيات الكونية وسماع الآيات الشرعية فلما أعرضوا عن الأمرين كانوا أحرياء بسلب النعمة إلا أن الله لم يشأ ذلك إمهالا لهم وإقامة للحجة عليهم فكانت لو مستعملة مجازا مرسلا في مجرد التعليق إظهارا لتوفر الأسباب لولا وجود المانع على حد قول أبي بن سلمى بن ربيعة من شعراء (الحماسة) يصف فرسه:
ولو طار ذو حافر قبلها... لطارت ولكنه لم يطر
أي توفر فيها سبب الطيران، فالمعنى لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بزيادة ما في البرق والرعد من القوة فيفيد بلوغ الرعد والبرق قرب غاية القوة، ويكون لقوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ موقع عجيب.
52. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ عطف على التمثيل السابق، وهو قوله: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين، بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه.
53. الرعد أصوات تنشأ في السحاب، والبرق لامع ناري مضيء يظهر في السحاب، والرعد والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب، فإذا تكاثفت سحابتان في الجو إحداهما كهرباؤها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكّتا جذبت الأقوى منهما الأضعف فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد وهو فرقعة هوائية من فعل الكهرباء، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين وذلك يسبب انقداح البرق.
54. ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ اعتراض راجع للمنافقين إذ قد حق عليهم التمثل واتضح منه حالهم فآن أن ينبه على وعيدهم وتهديدهم، وفي هذا رجوع إلى أصل الغرض كالرجوع في قوله تعالى ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ﴾ [البقرة: 17] إلا أنه هنا وقع بطريق الاعتراض.
55. الإحاطة استعارة للقدرة الكاملة شبهت القدرة التي لا يفوتها المقدور بإحاطة المحيط بالمحاط على طريقة التبعية أو التمثيلية وإن لم يذكر جميع ما يدل على جميع المركب الدال على الهيئة المشبهة بها وقد استعمل هذا الخبر في لازمه وهو أنه لا يفلتهم وأنه يجازيهم على سوء صنعهم.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/300.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ضرب سبحانه مثلا آخر لضلالهم، وقد بدت لهم معالم الهداية، وبزغ بين أيديهم نورها، فقال تعالت كلماته: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، والمثل: الحال الشبيهة والشأن.
2. استوقد النار، أوقدها بعد علاج وطلب للوقود، فاستوقد معناها أوقد، والفرق بينهما أن الأول يكون بطلب وجهد؛ لأن السين والتاء للطلب، وهى تفيد المعالجة في الإقادة، فلا يصل الإقادة إلا بجهد ومشقة.
3. المعنى السامي في الآية أن حال المنافقين في أنهم في وسط المؤمنين يناكحونهم، ويتوارثونهم، ويعاملونهم، ويوادونهم، ويدلون بالجوار بينهم وبينهم، ومعرفتهم للإيمان وأهله وذوقهم محبة بعض المؤمنين، وهذه الأحوال التي تكنفهم، ومن شأنها أن يعلموا بها الحق، وقد ربطتهم مودة الجار، كل هذا، حالهم فيه، كحال من يستوقد النار ويناله ضوؤها، وتخرج عليه بنورها، حتى إذا انتفع وأدرك الحياة وعلم مغزاها ومعناها، إذا كان كذلك خمدت النار بريح أو نحوها، فبعد الضوء اللامع، فذهب الله بنورهم فهم في ظلمات بعد ذهاب الضوء لا يبصرون.
4. يصح أن يكون هنا تشبيه إفرادي، وتشبيه تمثيلي:
أ. أما الإفرادي، فهو تشبيه الحال التي هم فيها من معاشرة أهل الإيمان ومخالطتهم، ومجاورتهم، وبذل المؤمنين المودة لهم من أهل وأقارب، وإقادة النار المضيئة التي ينتفع بضوئها، ثم تخمد فيذهب الضوء، وشبهت حال النفاق التي آل إليها أمرها، بالظلمات المتضافرة المتكاثفة؛ لأن النفاق ضلال متكاثف كلما أوغلوا فيه ازدادوا ضلالا، وأبعدوا فيه، حتى لا مرجع إلى النور من بعد، وشبه ما يحدثه النفاق في النفس من حيث إنه يسد الإدراك، فيصبح العقل لا يدرك والنفس لا تتكشف، بحال من لا يبصرون ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ هذا تشبيه إفرادي، إنه استعارة في أجزاء القول، لا في جملته.
ب. والاستعارة التمثيلية في جملة القول أنه شبه حال المنافقين في أن أسباب النور بين أيديهم، وتحيط بهم، ولكنهم لا ينتفعون بها ـ بحال قوم أو فوج من الناس استوقدوا نارا، وعالجوها حتى أضاءت فلما أضاءت، ما حولهم لم ينتفعوا بها فخمدت، فذهب الله تعالى بنورهم فهم في ظلمات متكاثفة بنفاقهم لا يبصرون.
5. الإضاءة النور الشديد، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ والمعنى أنهم صاروا في نور شديد موضح ثم خمد وأخمدوه هم في أنفسهم، فلم ينتفعوا به، فأشع النور ولم يتمكنوا من الانتفاع به.
6. جواب (لما) في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ فيه نظران:
أ. أحدهما: أن الجواب هو قوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ وذلك كلام صالح للجواب.
ب. الثاني: أن الجواب محذوف دل عليه ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ والمعنى، أن الجواب خمدت النار أو انطفأت وذهبت الإضاءة.
7. قوله تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ معناها أذهب الله تعالى نورهم الذي كانوا يسيرون فيه، ويمكن أن ينتفعوا به؛ ولذا أضيف النور الذي أذهبه إليهم، إذ هم الذين خصص ابتداء لهم.
8. عبر سبحانه وتعالى بقوله: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ لأن الباء للملابسة، ومعناها هنا ذهب الله تعالى عنهم آخذا نورهم الذي أوقدوا ناره، وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أذهبه وذهب به فقال: والفرق بين أذهبه، وذهب به أن معنى أذهبه أزاله أي جعله ذاهبا، ويقال: ذهب به إذا استصحبه ومضى معه، وذهب السلطان بماله أخذه فذهب به، والمعنى أخذ الله نورهم فأمسكه، وما يمسكه الله تعالى فلا مرسل له)، ومضمون هذا الكلام أن النور الذي أضاء لهم لا يذهبه الله تعالى، ولا يضيعه، بل يحفظه ويمسكه ليهتدي به غيرهم، وهنا ملاحظة لا حظها الزمخشري وهى التعبير عن نورهم بالإضاءة، وهى النور الشديد، وذلك بأنها إضاءة شديدة تعقبها ظلمة شديدة كقولهم: للباطل صولة ثم يضمحل، ولريح الضلالة عصفة، ثم تخفت) فهي إضاءة شديدة لهم، ثم ذهب الله بنورها لينتفع غيرهم، أما هم فلا ينتفعون ولا يهتدون.
9. إذا كان الله تعالى قد أخذ النور وذهب به ممسكا له غير مرسل إلا لمن يهتدى فقد تركهم بعد ذلك في ظلمات لا يبصرون، وعبر بالجمع، فقال ظلمات للإشارة إلى تكاثف الظلمات في النفاق، فإن المنافق في حال كذب مستمر، إذ إنه دائما يظهر غير ما يبطن، وذلك كذب، فحال المنافق كذب مستمر، وهم يدهنون في القول، وهم يمالئون الظلم، ولا ينتصرون للحق، ودأبهم الإفساد في الأرض والسعي بنميم بين الناس، وإرادة الأذى المستمر، وكراهيتهم للناس؛ ولذلك لما ذهب عنهم نور الحق، تركهم الله تعالى في ظلمات متكاثفة لا يبصرون حقا، ولا يدركونه، ونفى الله تعالى عنهم الإبصار بالفعل المضارع، لتجدد العمى عليهم، وعدم الإبصار بتكرار أفعالهم المظلمة الدائمة.
10. عدم الإبصار هو عدم الإدراك، فلهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل.. وأنه قد سدت كل مدارك إدراك الخير، قد اشتروا الضلالة بالهدى، وأنهم إن استوقدوا بسبب استغراق الفساد لنفوسهم تنطفئ نار الحق فيهم، ويصطحب النور، ويستمسك به لغير، فسدت عليهم أبواب الحق لا يسمعون إذا دعاهم، ولا تنطق به ألسنتهم إذا خوطبوا ولا يرون طريق الهدى، فيبصروه.
11. سؤال وإشكال: كيف الله شبه المنافقين أو اليهود، وهم جماعة، بالذي استوقد نارا وهو واحد؟ والجواب: على وجوه:
أ. أن الموصول العبرة فيه بالصلة لا بلفظه ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾
ب. أن الحقيقة أن الذي استوقد هو بعضهم أو فوج منهم، وإن كانت الإضاءة للجميع، والنفع بالضوء للجميع لا للذي استضاء وحده؛ ولذلك كان التعبير بالجمع في حال الانتفاع، إذ قال فلما أضاء لهم، وبعضهم قد استوقد النار والجميع يستفيد من النور، إذ هو يشيع ويعم، ولا يخص من استقاد النار.
ج. أن المشبه به في الآية ليس هو الذي استوقد، إنما المشبه به هو الحال التي كان فيها الاستيقاد أولا ثم خمود النيران، وسيرهم في ضلال، فعبر بالذي كما في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾، وكقوله تعالى: ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ فهو تشبيه حال بحال في كل هذه الأمثلة.
12. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ إذا كانت لهم آذان فهم لا يسمعون بها، وإذا كانت لهم أعين فهم لا يبصرون بها، وإذا كانت لهم ألسنة فهم لا ينطقون بها في حق قط.
13. هذه الآية الكريمة تشبيها لحالهم التي آلوا إليها فليست استعارة، ولكنها تشبيه صريح، إذ إن قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ﴾ خبر لمبتدإ محذوف تقديره: هم) أو: المنافقون، فهم كالصم لأنهم إذا استمعوا القول لا يتبعون أحسنه ويقولون سمعنا بل ينغضون رؤوسهم علوا واستكبارا، ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾، وإذا بصرتهم بالدلائل الواضحة، والبينات الناصعة، لا يستبصرون فلهم قلوب لا يفقهون بها، ولا ينطقون بحق استنطقتهم به، فهم كالبكم الذين لا ينطقون، وهم لا يبصرون وإن كانت لهم أعين.
14. ختم الله تعالى وصف حالهم بأنهم لا يرجعون، أي لا يرجعون إلى الهداية، بعد أن ساروا في الغواية، أي هم وقوف عند الشر الذي وصلوا؛ لأنه ليس وراءه شر، بل هو الضلال البعيد، وقد وصلوا إلى نهايته، فماذا بعد النفاق من ضلال، ولقد قال الزمخشري: إن وقوفهم في الحيرة هو الذي حكم عليهم بأنه يتركهم في طغيانهم يعمهون أي يتحيرون.
15. صور الله تعالى قوة الصواعق في قرعها الشديد للآذان بقوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾، وإن الإنسان عندما يقرع أذنه قارع شديد، لا يضع أصابعه كلها في أذنه، بل يضع فقط طرف إصبعه السبابة فلا يجعل في أذنه جملة أصابعه؛ ولذلك كان في الكلام مجاز لاستحالة الحقيقة، ويعدون ذلك من المجاز المرسل بإطلاق اسم الكل وإرادة الجزء.
16. إطلاق اسم الكل وإرادة الجزء كثير في الاستعمال العربي وفى القرآن الذي هو أبلغ الكلام، فقد قال تعالى: ﴿ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وامْسَحُوا برؤوسكم ﴾، ولا يراد الأيدي كلها، بل يراد بعضها، وقال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ﴾ ولا تقطع اليد كلها في حد السرقة.
17. يقرر الغزالي أن إصبع السبابة هي التي تسد الأذن بطرفها، ثم يقول: فإن قلت: إن الأصبع التي تسد بها الأذن إصبع خاصة فلم ذكر الاسم العام دون الخاص، قلت: لأن السبابة فعالة من السب، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن، ألا ترى أنهم قد استسبحوا بها فكنوا عنها بالمسبحة.
18. في الحلية: إن ذكر الأصابع مع إرادة بعضها فيه بيان عظم الهول في نفوسهم واشتداده على حواسهم حتى أصابتهم رعدة الخوف، وظنوا الظنون من هول ما يرون، وقوله تعالى: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ أي خوفا من الموت، فهي مفعول لأجله، والصواعق جمع صاعقة، وهى ما ينزل من السماء من نار، في الرعد والبرق.
19. تعليل جعل الأصابع أو أطراف بعضها في الآذان يمنع الموت عنهم، فيحذرونه بوضع الأصابع، ليس لمجرد وضع الأصابع، بل هو تعليل للحال التي هم عليها، والتي كان وضع الأصابع في الآذان أثرا من آثارها، أو مظهرا من مظاهرها. فهي ذعر دائم من ظلمات متكاثفة من سحاب داكن، وليل معتم، وأمطار منهمرة، ورعد وبرق وسحاب، حتى توهموا أن وضع الأصابع في الأذن فلا يسمعوا صوت الصواعق والرعد ـ قد يدفع الموت، فهم يفعلونه حذر الموت.
20. صور سبحانه وتعالى قوة البرق وأثرها في نفوسهم بقوله تعالى: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ والخطف معناه الأخذ السريع؛ ولذلك يطلق على الطائر إنه الخطاف لسرعة أخذه، وخطف من باب فرح، وهى اللغة الفصيحة السائغة في لغة العرب، وهناك لغة تجعلها من باب ضرب، فيقال خطف يخطف.
21. الآية الكريمة تصور شدة البرق من حيث إنه يكاد يخطف الأبصار ويذهبها لشدته، كما في قوله: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾، أي يكاد البرق يأخذ أبصارهم سريعا، فلا يبصرون، وكانت السرعة في أخذه، لأنه ومضات تجيء سريعة وتختفى سريعا، ولا تبقى طويلا.
22. ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ أي كلما كان البرق كان الضوء المنير، فعندئذ يمشون فيه مطمئنين غير مسرعين؛ لأن المشي إذا اشتد كان سعيا، وإذا اشتد السعي كان عدوا، فكلما أضاء ساروا فيه سير اطمئنان، وإذا أظلم أي إذا انطفأ فأظلم الجو، وصار ظلاما ـ قاموا ـ أي وقفوا ساكنين سكون الحيارى راكدين، فهو قيام الحائر الراكد الذي لا يدرى ما الله فاعل، وعبر في الإضاءة بكلما لأنها مكررة بتكرر البرق، ولأنها حركة تغدو وتروح، فإذا جاء البرق وذهب توقعوا عودته، أما الإظلام فلا يطلبونه، وهو حال سلبية لا تجدد فيها، لا يطلبون، وقاموا تتضمن السكون والبقاء على ما هم عليه متحيرين مضطربين.
23. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ لو شاء سبحانه وتعالى أن يذهب بسمعهم بالرعد والصواعق أو ببصرهم بالبرق الخاطف لذهب بها، أي لأخذها كما أعطاها، فقوله تعالى: ﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ معناه لاستردها، وأعادهم صما وعميا، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ .
24. يضرب الله تعالى الأمثال ليقرب المعاني السامية إلى العقول المدركة، ويكثر في كتابه الحكيم من الأمثال لتكون المعاني العالية التي تخفى على الأفهام ـ معروفة مألوفة لديهم؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾، وقد ضرب الله سبحانه مثلا للمنافقين بمن استوقد نارا، ولكن لم يستفيدوا، وذلك لأنهم في وسط علم النبوة، والإشراق المحمدي، والجوار لأهل الحق، ولكن استمروا في ظلمتهم.
25. ضرب الله تعالى مثلا آخر، يبين فيه سبحانه ما نزل لهم من نور، وما قرعهم الله تعالى به من قوارع، وما أصاب نفوسهم من نوازل، كان من شأنها أن تجذبهم إلى الإيمان، فلم يتجهوا إليه، ولم يخلعوا أنفسهم مما هم فيه من انحراف عن الحق، ومقام عن إدراكه.
26. لقد نصر الله تعالى المؤمنين، ونصرهم كان كالصواعق والرعد، وفيهم الهدى، فضرب مثلا بهذه الحال.
27. هذه الأخبار كلها ـ من نزول الصيّب المنهمر انهمارا، والظلمات المتكاثفة والرعد والبرق، وكون الأبصار يكاد سبحانه وتعالى يخطفها، أهى مجاز لأمور معنوية؟، أم هي حقائق وليست مجازا؟ ونقول إن هناك استعارة تمثيلية في جملة القول، ولا مانع أن تكون في كل جملة مجازا، ويتكون من هذه المجازات الصورة التمثيلية الكبرى، ويميل إلى ذلك أكثر المفسرين.
28. الحق هو أن المثل كله استعارة تمثيلية، أو تشبيه تمثيلي، فقد شبهت حالهم من أن القرآن ينزل في المؤمنين وهم جيرانهم ومعاشروهم، وفيه ماء الحياة الذى يحيى القلوب ويغذيهم، وأنالهم العبر والمثلات من تأييد الله تعالى، ونصره الدائم المستمر للمؤمنين، والخذلان الدائم لهم، وما يقرعهم من آيات بينات، وما يجيء إليهم من بلايا بسبب الخزايا التي تنزل بهم كالرعد الذي يقرع الأسماع والبينات تجيء إليهم نورا يسيرون فيه، ثم تظلم قلوبهم وينطفئ نور الحق بينهم.
29. شبهت حالهم والعلم البين بين أيديهم بحال قوم نزل عليهم غيث منهمر فيه ظلمات ورعد وبرق وصواعق، ومع ذلك لم ينتفعوا ولم يهتدوا.
30. الكلام الكريم، فيه تشبيه حال بحال، وما فيه من مثل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ وقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ إنما هو من ترشيح الاستعارة، والترشيح هو ذكر الأوصاف المختصة بالمشبه به، كما إذا قلت عن شجاع: إنه ليث، ثم قلت: له لبد، أظفاره لم تقلم، فإن ذلك تقوية للاستعارة بذكر أوصاف خاصة بالمشبه به.
31. الصيب هو الماء ينزل، وهو وزن فيعل من صاب يصوب بمعنى نزل، فأصلها صيوب اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ك (سيّد) و(ميّت)، وغير ذلك مما يشابهها من كلمات في التصريف، واللفظ في القرآن له فصاحة وبلاغة قائمة بذاتها، فصيب تدل على ماء نازل بقوة تقرع الرؤوس قرعا، وينبههم على الماء الذي جعل الله تعالى منه حياة كل شيء.
32. السماء ما أظلك، وذكر السماء يدل على أمرين:
أ. أحدهما ـ أنه نازل من السماء، وليس من العيون والينابيع، فإن ماءها لا ينزل، ولكن يخرج سلسبيلا.
ب. ثانيهما ـ للإشارة إلى أنه يجيء من عل، فينصب انصبابا.
33. وصف سبحانه الماء، وهو يمطر وابلا بأن فيه ظلمات، وهى جمع ظلمة، وقد تكاثفت هذه الظلمات فاجتمع فيها ظلمة الدّجنّة الحالكة، وظلمة السحب الداكنة، وظلمة الليل الدامس، وظلمة الانهمار الذي ينصب على الرؤوس انصبابا، وفيه رعد وبرق، وفيه صواعق تصك آذانهم صكا شديدا، وتفزعهم، حتى إنهم يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، خوفا من أن يموتوا.
34. هذا تصوير للنذر التي كانت تأتيهم مع ماء الحياة الذي يحييهم عساهم أن يهتدوا بالنذر إذ لم يهتدوا بالحق في ذاته، وقد كان نورا قد أشرق.
35. أو هنا عاطفة على قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ أي أن مثلهم كمستوقد النار، أو مثلهم كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، ويقول الزمخشري إن (أو) أصلها للشك، ثم صارت بالمجاز دالة على التسوية، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ أي أن الإثم والكفر سواء في أن طاعة أهلهما حرام تجر إلى الوبال وسوء العقبى والمآل.
36. التسوية هنا بين المثل في أن كليهما فيه عبرة واعتبار، وتصوير لحال المنافقين، فالأول يصورهم، ونور الحق بجوارهم، وهم يعيشون فيه بأجسامهم، وإن جافته قلوبهم، والثاني يصورهم، وماء الحياة ينزل عليهم مدرارا من السماء، ومن شأنه أن يحيى موات الأرض والنفوس، ولكنه لهم ظلمات، وفيه رعد مزعج وبرق يبرق ويبين، وصواعق تنزل قارعة للأجسام، عسى أن تقرع النفوس فتحولها من الضلال إلى الهدى، فهما مثلان متلاقيان غير متباينين، كل واحد منهما يصور جانبا من جوانب المنافقين، الأول يصور الحق كنور رأوه، ولم يهتدوا به، والثاني كماء الحياة ينزل عليهم وسط نذر وإرعاد وإبراق، فلم يرتدعوا به، فهم لم يهتدوا بنور هاد، ولم تردعهم النذر والآيات.
37. الرعد ـ على ما هو مقرر الآن ـ مظهر من مظاهر الكهرباء التي أودعها الله تعالى في الأجسام، فبعض السحاب يحتوى على كهرباء تسمى موجبة، وأخرى تحتوى على كهرباء تسمى في اصطلاحهم سالبة، وإذا اصطدم السحاب الموجب بالسحاب السالب حدث صوت شديد هو الرعد، وصحب الاصطدام نور هو البرق، وقد تنزل نار محرقة من جراء ذلك هي الصواعق.
38. الرواية التي تقرر أن ملكا هو الذي يكوّن الرعد والبرق، الخبر لم تروه الصحاح، ولم يروه إلا الترمذي ومن المقرر أن الأخبار إذا خالفت العلم الضروري القاطع أوّلت، أو كان ذلك دليلا على ضعفها لضعف متنها، فقد قال الغزالي: إذا خالفت النصوص ما قرره علماء الكون والطبيعة على أنه حقيقة مقررة تؤول النصوص إذا خالفتها، وإذا كانت حديث آحاد ردت نسبته إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
39. على ذلك فنحن نفسر القرآن الكريم في قضية الرعد والبرق والصواعق بما تقرر في العلم، ولا نحسب أن حديثا ثابت السند، ولو حديث آحاد خالف ذلك.
40. بيّن سبحانه من بعد ذلك أن الله تعالى محيط بهم، والإحاطة معناها هنا السلطان والاستيلاء والقوة، فيقال أحاط به السلطان أي أخذه، ولم ينج منه، وهى مجاز يراد به ألا يفوتوه.
41. قد تطلق الإحاطة ويراد بها الهلاك، كما قال تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ أي تهلكوا فمعنى ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾، والمعنى على ذلك: إنهم يحذرون الموت، ولا حذر منه، ولا ينجيهم الحذر، فإن الله تعالى محيط بهم، لا يفلتون، وذكر الكافرين هنا لأنهم كافرون أمقت النفاق، فذكر وصف الكافرين إرهاب لهم أشد إرهاب، وأنه جزاء ما يفعلون في الدنيا، ويستقبلون في الآخرة عذابا أليما عظيما.
42. ثم ذيّل سبحانه وتعالى الآيات الكريمات بكمال قدرته، فقال تعالت كلماته: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وذلك التذييل لتأكيد قدرة الله تعالى على إذهاب سمعهم وأبصارهم، وكل قواهم.
43. أكد سبحانه قدرته القاهرة فوق عباده بعدة مؤكدات: بالجملة الاسمية أولا، وب (إنّ) ثانيا، وبذكر لفظ الجلالة الذي يدل على أنه مالك الوجود، ومالك كل موجود، وعموم قدرته على الأشياء كلها ﴿إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/142.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ حالهم العجيب، كحال ﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ عمل لتحصيل نار، فحصلها ليرى بها في الظلمة ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ باشتعالها، وحصل منها النور المطلوب بتحصيلها ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ بأمر غالب لا يستطاع رده؛ لأن الله غالب على أمره، ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ لشدة الظلمات المتراكمة عليهم، إما أن يكون معناه: تركهم فلم يفعل لهم شيئاً، فلم يرجع لهم النور، ولم يدلهم على الطريق حال كونهم ﴿فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ وإما أن يكون المعنى: صيرهم في ظلمات لا يبصرون.
2. أفاد (صاحب الكشاف) أنه يقال: ذهب به: إذا استصحبه ومضى به معه، وذهب السلطان بماله: أخذه ـ ثم قال ـ: والمعنى: أخذ الله نورهم وأمسكه ﴿وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ﴾ [فاطر: 2] فهو أبلغ من أذهبه، وقال: إن معنى أذهبه: أزاله وجعله ذاهباً).. ونظير المعنى الأول قوله تعالى: ﴿وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: 110] وهو عندي أرجح من الثاني؛ لأن تصييرهم في الظلمات يستفاد من قوله تعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، أما تركهم بمعنى ترك الإنقاذ لهم من تلك الحالة فهو معنى جديد، وحاصل التفسيرين واحد، وهو إذهاب الله لنورهم وبقاؤهم في ظلمات لا يبصرون بترك الله لهم فيها أو تصييره، إلاَّ أن إفادة البقاء بتركهم أظهر من إفادة البقاء بتصييرهم.
3. الراجح في معناها: أن هؤلاء الذي نافقوا كانوا قد أسلموا، ولكنهم سارعوا إلى النفاق، فذهب عنهم نور الإسلام، وصاروا كما وصفهم تعالى، وقد قال تعالى في بعض المنافقين: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 66] وقال تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾ [التوبة: 74].
4. وهذا لا يخرجهم عن النفاق إذا كان سراً لا يظهرونه للمؤمنين، فكانوا بالإسلام قد حصّلوا الضوء القوي؛ لأنهم صاروا في صحبة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ومحل نزول القرآن، وصاروا بمحل يرون طريق الهدى واضحاً كما يرى الطريق بضوء النار الكبيرة التي تضيء ما حولهم، فلما نافقوا ذهب الله بنورهم؛ لأنه ذهب استعدادهم لقبول الهدى، وصاروا كأن على أبصارهم غشاوة، فكان حضورهم في بلد النبوءة كلا حضور؛ لا ينير لهم نور النبوة، فأشبهوا من انطفأت ناره التي كان بها يبصر، فذهب نورها كله وصار في ظلمات لا يبصر.
5. هذا المثل يبين سوء حالهم بعد أن كانوا قد حصلوا في مظنة السعادة، فكانوا يسعدون لولا سوء اختيارهم، وكانوا يهتدون لولا اختيارهم للضلال، أو أنهم كانوا قد أسلموا جادّين في إسلامهم، ثم تحوّلوا، وهذا المثل أيضاً يشير إلى شدة الظلمة عليهم؛ لأن الظلمة التي يفاجئها البصر بعد النور تكون شديدةً عليه، وهؤلاء كذلك يشتد عليهم الخذلان وظلمة القلوب كما قال تعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ الآية [آل عمران: 86] وكما قال تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾
6. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ الصيب: المطر؛ لأنه يصوب أي ينزل فيه ظلمات لكونه في الليل، وقد غطى سحابه النجوم فلا تنير لهم، فاشتدت الظلمة بالليل، وتراكم السحاب والمطر، فصارت ظلمات متعددة بتعدد أسبابها على هؤلاء المنافقين، فشأنهم حين يكونون في هذه الظلمة ـ والمطر ينزل عليهم ـ أن يكونوا في حيرة وقلق، ومع ذلك ما يزيد القلق، وهو الخوف من الصواعق الذي يكون بسبب الرعد والبرق.
7. ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ إما لشدة صوتها، وإما لباعث الخوف من الصواعق التي صوتها شديد مع شدة القلق والخوف والاشتغال بالمطر، لا يتذكرون أنّ جعل أصابعهم في آذانهم لا ينجيهم من أن تصيبهم الصواعق.
8. ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ حين يلمع بقوة مفاجئة للبصر ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ لشدة حرصهم على الفرار من المطر، وهي لحظات لا تفيدهم ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ﴾ البرق بذهابه عنهم أو أظلم مكانهم لذهاب البرق؛ لأن المكان حيث المطر والظلمة قد فهم من السياق ﴿قَامُوا﴾ وقفوا لحيرتهم مع شدة حرصهم على المشي.
9. ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ فلا يسمعون ولا يبصرون، وذلك أشد عليهم؛ لأن من بقي له السمع قد ينتفع بصوت يسمعه يعرف به الجهة التي يريد أن يتوجه إليها في الظلمة، والمبصر قد ينتفع بلمع البرق لحظة، أما من ذهب سمعه وبصره فحيرته أشد وقلقه أكثر.
10. ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو يفعل بهم ما شاء، فلو شاء لجعل هؤلاء المنافقين في حيرة وقلق وخوف أشد مما هم فيه.
11. هذا المثل يبين حالهم في نفاقهم وما صاروا فيه من الحيرة والقلق والخوف وعدم القدرة على التخلص من سوء الحال، فهم في خوف من أن يفتضحوا، ويظهر كفرهم فيقتلوا وخوف أن يغلب الكفار فيقتلوا مع المسلمين، وعناء في التستر بالنفاق والأعذار، وانظر حالهم في (سورة التوبة): ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا﴾، وقوله: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾، وقوله: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، وقوله: ﴿قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ﴾، وقوله: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾، وقوله: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾، فخوف من ناحية، وتقريع وتوبيخ من ناحية، واشتغال بتستر لا يجدي وخزي وذلة لا تخلص منها الاعتذارات، وكيف وهي تتنزل فيهم قوارع القرآن والوعيد الشديد، ويكشف القرآن بعض أسرارهم وما في قلوبهم، ويكفي في الدلالة على خوفهم وقلقهم، قوله تعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ [التوبة: 56 ـ 57] هم في حال سيئة مظلمة وقلوبهم مظلمة، ختم الله على قلوبهم.
12. هذا المثل يبين سوء حالهم في النفاق الذي هو أدل دليل على أنهم هم السفهاء حين اختاروا لأنفسهم تلك الحالة، كما أن المثل الأول يدل على سفاهتهم حيث عدلوا عن الهدى بعد أن أضاء لهم الطريق وأشرفوا عليه، وكان ذلك أسهل عليهم ممن لم يكن قد أسلم أصلاً.
13. هذان المثلان يدلان على أنهم هم السفهاء، كما أن اشتراءهم الضلالة بالهدى كان دليلاً على ذلك، ولو لم يكونوا قد أسلموا لوجود الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في بلدهم ونزول القرآن عليه وهو يتلوه على الناس، فالحق واضح والهدى سهل المنال.
14. ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ لا يفوتونه ولا ينجيهم منه جعل الأصابع في الآذان ولا غيره.
15. هذا تمثيل لإفادة هذا المعنى؛ لأن من أحيط به لا يتخلص من الهلاك، ويكون تحت قهر المحيط به، فكذلك المنافقون المذكورون ﴿مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ [يونس: 27] ولا ينقذهم منه احتيالهم وأيمانهم الفاجرة واعتذاراتهم الكاذبة.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/66.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. انتقلت السورة إلى تجسيد صورة المنافقين، وما يعانونه من حيرة وتمزق وخيبة آمال، من خلال عرض الصورة الحسية المماثلة لصورتهم الداخلية، ولكن في إطار حركة الطبيعة ضمن نماذجها الواقعية المتحركة في الحياة، وذلك بأسلوب ضرب المثل.
2. لعل السر في محاولة القرآن الكريم إبراز ملامحهم الداخلية من خلال الصورة الحسية المتمثلة في واقع الطبيعة الملموس، هو أن الله يريد إبعاد الناس عن هذا الاتجاه المنحرف في موقف الإنسان من قضايا الحق والباطل، الأمر الذي يفرض على الأسلوب أن يلتمس كل العناصر المنفّرة التي تشارك في حشد الصورة بأكبر قدر ممكن من الأجواء المظلمة القاسية المغرقة في الضياع.
3. ضرب المثل من الأساليب البلاغية الرائعة التي استخدمها القرآن، في أكثر من مجال، من أجل إعطاء فكرة واضحة حية عن القضايا المعنوية بمقارنتها بالأشياء الحسية، التي تتجسد فيها الصورة في هزّة حركية مثيرة للنظر والوجدان والشعور، تماما كوسائل الإيضاح التي تحاول تعميق الفكرة في النفس وتقريبها إلى الوجدان عبر إبراز عناصرها بالوسائل الحسية.
4. سبب ذلك هو أن تأثير الحس في النفس أشد عمقا وأكثر تأثيرا من الجوانب المعنوية، ولذا كانت هي الطريقة المفصلة لتربية الأطفال الذين لا يستطيعون إدراك الجوانب المعنوية، إلا بأسلوب التجسيد الحسي الذي يربط الطفل بمرئياته وملموساته، وقد تكون قيمتها في تقريب الفكرة التي يوحيها المثل إلى ذهن الإنسان وروحه، مما يجعل مقارنتها بالفكرة التي يراد عرضها للفكر أمرا عمليا مثيرا.
5. صور الله لنا حالة المنافقين في مثلين محسوسين من صورة الطبيعة: المثل الأول في قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ .
6. المنافقون ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ ليستعين بضوئها على معرفة الأوضاع المحيطة به، والطريق الذي يسير فيه، والغاية التي يسعى إليها، ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾، ورأى من خلالها ما يريد رؤيته، وحصل منها على ما يستفيده من الدفء والحرارة، واستراح لذلك، واطمأنّ به، وفكّر في قضاء ليلة سعيدة مشرقة، جاءته الريح العاصفة فأطفأت ناره و ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾، فانطلقوا يتخبطون على غير هدى، ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ ما حولهم، ومن حولهم، ولا يهتدون طريقهم.
7. هم تماما كما لو كنّا في صحراء مظلمة ليس فيها بصيص نور، لا قمر تشع أنواره الشفافة الوديعة في الأجواء الممتدة التي تنسكب على الرمال بوداعة وهدوء، ولا كواكب تلمع من بعيد، فتوشي حواشي الظلام بلمعات من النور الأبيض القادم من بعيد في خجل واستحياء، فتفتح أمام الخطى بعض مسالك الطريق.. ليس هناك إلا ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، ثم استطعنا فجأة أن نوقد بعض النار، وتصاعد اللهب الذي يكشف لنا الجو والموقع والطريق.. ثم جاءت ريح فأطفأت هذه النار، أو حاولت أن تعبث بها فأطفأتها في حركة عاصفة شديدة. فلنتصور الحالة النفسية التي سنكون عليها، والتي تتجسد فيها خيبة الأمل واليأس من الوصول إلى الهدف المنشود، فهل ثمة حالة أقسى من مثل هذه الحالة التي ينفتح لنا فيها النور بعد يأس، ثم يذهب فجأة وينطفئ بدون انتظار في أشد حالات الحاجة إليه؟
8. إنها، تماما، حالة المنافق الذي كان يعيش في ظلام دامس من الشك والحيرة والتمزق والضياع، ككل الناس الذين يعيشون الكفر والجحود والنكران، فيأتي النور الذي أرسله الله على رسوله ليدلهم على الطريق وليحدد لهم الهدف، ولينقذهم من الحيرة والتمزق والضياع، فيقودهم إلى حيث الطمأنينة والوضوح في الرؤية والاستقامة في التفكير، وكان بإمكانهم أن يلتقوا به على درب الإيمان ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ولكن العقدة المتأصلة التي تحولت إلى عقدة مرضية مستعصية حالت بينهم وبين الالتقاء بالنور والانطلاق مع الهدى، فعاشوا مع هذه العقدة التي زيّنت لهم أساليب التلاعب الشيطانية، وأوحت إليهم أن ذلك هو السبيل الذي يستطيعون من خلاله أن يحرزوا النتائج المضمونة من كلا الفريقين: فريق الكفر، وفريق الإيمان، بأسلوب اللف والدوران، فعادوا إلى الظلمة من جديد، بعد أن ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ بفعل إرادتهم المجنونة التي لا تعرف ما تريد وكيف تريد، الأمر الذي جعل اختيارهم يتحرك في مصلحة الظلام لا في مصلحة النور، فخذلهم الله وأوكلهم إلى أنفسهم ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾
9. ﴿صُمٌّ﴾ لم يركزوا أسماعهم لاستماع الحق، فكأنهم لا يسمعون، لأن وجود السمع كعدمه بالنسبة إليهم، من حيث النتيجة.. ﴿بِكُمُ﴾ لم يقرّوا بالله ورسوله ورسالاته، فكأنهم لا ينطقون، لأنهم لم يستفيدوا من لسانهم فيما يراد له من النطق بالحق. ﴿عَمِيَ﴾ لم ينظروا في ملكوت الله في السماوات والأرض، ليعرفوا سر عظمة الله من خلال ذلك، فكأنهم لا يبصرون لانعدام الفائدة المطلوبة من وجود البصر.. ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ إلى الحق لينطلقوا منه نحو سعادة الدنيا والآخرة، بل يبقون في متاهات الضلال التي تقودهم إلى الضياع.
10. هذه الآية تعطينا الفكرة الواضحة عن الأسباب التي دفعتهم إلى هذا الاتجاه المنحرف، ولتعرّفنا أنهم لم يستخدموا الوسائل التي خلقها الله لهم ليحصلوا على المعرفة الشاملة، بل حاولوا أن يجمّدوها، فقد خلق الله لهم السمع ليصغى من خلاله إلى الكلمات الحقة من الآيات البيّنات التي تثير في داخلهم التفكير والتأمل، وخلق لهم اللسان ليسألوا به عن كل الأمور التي يجهلونها أو يشكّون فيها ليصلوا إلى المعرفة الحقة، وخلق لهم البصر ليتطلعوا به إلى آياته الكونية التي أودع فيها كل الدلائل والأسرار التي تقودنا إلى الشعور بعظمته والإيمان بوحدانيته، لقد خلق لهم كل هذه الوسائل ليستخدموها كأدوات للمعرفة، ولكنهم أهملوها، فكانوا أشبه بالذين يفقدون هذه القوى، لأن قيمة الحواس الإنسانية لا تكمن في وجودها الجامد، بل في وجودها الحيّ المتحرك في كل اتجاه يمنح المعرفة وينمّي الحسّ بالحياة، ويضيء للقلب طريق التفكير، وبذلك يفقد العاملون الأمل في رجوعهم إلى الحقّ والصواب، لأن شرطه الإحساس بالمعرفة من خلال الشعور بالحاجة إلى استخدام وسائلها الطبيعية.
11. حاول بعض المفسرين اعتبار التشبيه في المثل خاضعا لمفردات الظواهر الموجودة في الصورة، وذلك بتشبيه الإسلام وما فيه من نور يهدي السائرين إلى الطريق الحق، بالبرق الذي يهدي الناس في دياجير الظلام، وبتشبيه الظلمات بشبهات الكفر والضلال التي توقع الإنسان حائرا في خطوات الطريق المظلم.. أمّا الرعد والصواعق، فقد شبه بهما الإنذار بالعذاب والهول الذي يوجهه القرآن للضالين والمنحرفين عن الصراط المستقيم، وهكذا يكون المثل من تشبيه مفردات صورة بمفردات صورة أخرى، فلا تكون الصورة هي مركز التشبيه هنا، وقد يكون مثل هذا القول واردا من خلال طبيعة التركيب اللفظي، لكن الجو العام للموقف، يوحي بانطلاق التشبيه في حركة الصورة بعيدا عن المفردات.
12. لأن القضية هي قضية الحالة الداخلية لشخصية المنافق الذي يعيش الازدواجية الداخلية في الفكر والشعور، التي تفرض عليه الجو القلق الحائر، حيث تتأرجح مشاعره بين لمعات الطهر ونزوات الخبث، وتضطرب أفكاره بين أفكار الخير وأفكار الشر، وتختلط في عينيه مواقع النور وكهوف الظلام، وتزدحم في سمعه صرخات العذاب وهدهدات النعيم.
13. تؤكد لنا هذه الصورة، أننا نعتبر ازدواجية المنافق في حياته العملية نابعة من ازدواجيته الداخلية في فكره وشعوره، ولعلّنا نلمس الروعة في التشبيه في هذا الإطار الذي تهتز فيه الصورة بالحركة وتموج بالحياة، لأنه يصبح أكثر انسجاما مع طبيعة الفكرة التي يوحي بها المثل المنطلق من تجسيد الصورة في الواقع كأسلوب من أساليب وضعها في الواجهة من وعي الإنسان وتفكيره.
14. قد نجد أن لكل واحد من هذين المثلين مهمة في إعطاء الفكرة عن شخصية المنافق تختلف عن الآخر، ففي المثل الأول تصوير لحالة المنافق وهو يواجه الدعوة التي تشير إلى الطريق المستقيم من خلال النور الذي يضيء الروح والقلب والفكر، فيبادر إلى الطريق الملتوي الغارق بالظلمة التي تعمي قلبه، وتغشي بصره، وتصمّ سمعه.. وفي المثل الثاني تصوير لحالته وهو يعيش حياته في أجواء النفاق واهتزازات المواقف بين الظلمة والنور والرعد والبرق، فتجعله في حيرة مدمرة تأكل قلبه وتمزق روحه؛ والله العالم بأسرار آياته.
15. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ مثل هؤلاء المنافقين في حيرتهم الذهنية وقلقهم النفسي، مثل الناس الذين يتحركون في أجواء الصيّب، وهو المطر الغزير الهاطل من السماء، ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ فهو يحتوي في حركته كلها الظلمات المتمثلة بالسحاب الأسود، والضباب الكثيف، والليل المدلهم، والرعد الذي يدوّي فيصمّ الأسماع، ويثير المخاوف، ويهزّ الأفق، والبرق الذي يظهر بين لحظة وأخرى بكل قوة فيثير الفزع من تأثيراته في العيون بقدر ما يثير من النور الساطع الذي يشق الظلام بسرعة، فيحرّك ذلك الجوّ المتنوع في مخاوفه الإحساس بالخطر، فتراهم ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ ليتفادوا ضغط الرعد على أسماعهم، وليتخفّفوا من خطر الصواعق القاصفة المحرقة، تماما كما لو كان الهروب من الإحساس بصوتها سبيلا للهروب من أخطارها، ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ الذي قد يأتيهم من خلالها ﴿وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ﴾، فلا عاصم من أمر الله، لأن الأجل يأتيهم من كل مكان، وبأكثر من سبب، فلا يحميهم منه شيء، ولا هناك من يستجيرون به.
16. ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ ويستلبها لشدة لمعانه، ولكنهم ولكنهم ينطلقون ليهتدوا به في الظلام الكثيف الدامس، ﴿كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾، وتحركوا، من خلاله، إلى غاياتهم، ﴿وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ ووقفوا في حيرتهم القاسية أمام الظلام الذي لا يبصرون فيه طريقهم، وهكذا يبقون في قلق روحي مدمّر بين النور الخاطف والظلمة الكثيفة، فلا ينفتحون على الدرب، ولا يستقرون في الظلام.. إنها حركة المنافق بين الضوء القادم من القرآن، والظلام المندفع من الكفر، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ فلا يسمعون شيئا، ﴿وَأَبْصَارُهُمْ﴾ فلا يبصرون شيئا، ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو القادر على أن يسلبهم كل شيء، ويدمّر عليهم كل أوضاعهم في جميع المجالات، ولكن الله يمهلهم، ويملي لهم، ويمدّ لهم الحبل، حتى يقيم عليهم الحجة، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/159.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآية مسبوقة بتسع آيات هاتكة أستار أهل النفاق، كاشفة خباياهم، سواء كانوا من اليهود أو من العرب الوثنيين، وجاءت بعدها هذه الآية لترسم صورة محسوسة للنفاق وأحوال المنافقين بما فيها من ضرب المثل، وقد تُلِّي هذا المثل بمثل آخر في آية ثالثة لهذه الآية.
2. ضرب الأمثال أسلوب معروف عند العرب وعند غيرهم، ولكتاب الله سبحانه الحظ الأوفر منه، كيف لا وهو أعلى قدحا وأسمى غاية من أي كلام، فلذلك كانت أمثال القرآن أعرق الأمثال في البلاغة، وأدقها في التصوير، وأدلها على المقاصد، وقد قال تعالى ﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يقلها إلا العالمون ﴾، وقال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
3. من فوائد الأمثال ترسيخ المعاني في الأذهان وتقريب الحقائق حتى تكون كالصور البارزة للعيان، ومع ذلك ففيها إيجاز للقول بعد الإطناب، وإجمال بعد التفصيل، فإن المعاني إذا تقدمت في عبارات متفرقة ربما تتشتت في الذهن، فإذا جُمعت في الأمثال كان ذلك أدعى لأن تعيها الأذهان وترتسم في الأدمغة.
4. بالإضافة إلى ذلك، فإن الوهم قد يكابر العقل في المعقولات، ولكنه أضعف من المكابرة في المحسوسات، فإذا أبرزت الحقائق المعنوية في معرض الصور المحسوسة كان ذلك أدعى لأن تتضاءل الأوهام وتتبدد الشبه، فتستسيغ العقول تلك الحقائق المجلوة بدون تردد، ولذلك كثر ضرب الأمثال في معرض التفخيم والتحقير والتكثير والتقليل، والتهويل والتهوين والترغيب والترهيب.
5. أصل المثل ـ بالتحريك ـ والمِثل ـ بكسر فسكون ـ والمَثِيل كالشبَه والشبْه والشبيه، دال على تشابه أمرين في وصف ومأخذه من مثل الشيء مثولا إذا انتصب، وإنما شاع المثل فيما إذا كانت المماثلة بين محسوس ومعقول أو بين محسوسين مركبين، ولفظة المثل موحية بالاستدلال على الممثل له بالممثل به، فإن نفس التمثيل دليل إمكان وجود المثل.
6. ما ذكرته من أن المثل إنما هو في المنافقين هو الذي يقتضيه السياق، وذهب قطب الأئمة ـ رحمه الله ـ إلى جواز أن يشمل معهم اليهود والمشركين، لأنهم طمسوا نور الفطرة بكفرهم، وذهب فريق من السلف إلى أن المثل في اليهود كما سيأتي، والأول هو الذي عليه الجمهور، وبه قال ترجمانا القرآن؛ ابن مسعود وابن عباس، وذهب الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده إلى أن هذا المثل والذي بعده ليس مضربهما واحد، وإنما كل واحد منهما لفريق من اليهود والمنافقين.
7. حاصل ما يقوله محمد عبده أن:
أ. المثل الأول في قوم استحكم في نفوسهم الهوى، واستولى على أفكارهم الباطل وأحاطت بهم الضلالة من كل جانب، فلا يسمعون للحق نداء، ولا يبصرون له ضياء، وليس في نفوسهم عزم على البحث عنه، أو الرجوع إليه إن انكشف لهم، لأنهم مخلدون إلى ما هم فيه من الضلال ومستمسكون بما ورثوه من آبائهم المحرفين وقادتهم الدجالين، وهم مغترون بذلك، فلا يرون أن شيئا أفضل مما هم عليه.
ب. المثل الثاني مضروب فيمن تردد بين الهدى والضلال، والرشد والغي، لا يستقرون على حال، وإنما ضلالهم أبلغ من هداهم، وعماهم أعمق من بصيرتهم، قد يبصرون للحق نورا فتنكشف لهم حقيقته إلا أنهم بسبب طغيان الهوى على نفوسهم لا يمكنهم الانفلات من قيود الباطل، والانطلاق من أغلال التقاليد.
8. ما ذكره محمد عبده من صفات أصحاب المثل الأول لا ينطبق على المنافقين، وإنما ينطبق على اليهود المتمسكين بيهوديتهم، المستعلين على الناس بغرورهم، فإنهم يرون أنهم أولى الناس بالهدى، وأن النبوة لا تخرج عنهم إلى غيرهم، بل أفرطوا في الغرور حتى ادعوا ـ زورا وبهتانا ـ أنهم أبناء الله وأحباؤه، ومن المعلوم أن أحبارهم حرفوا الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وجعلوا من تلك الضلالات التي لفقوها، والإفك الذي اصطنعوه دينا لهم ولأتباعهم، فلذلك لا يصغون لصوت ناصح ولا يقبلون عذل عاذل، وقد سلبوا هداية أنبيائهم، وانطفأت أنوار ما كان بأيديهم من الكتاب.
9. إذا ألقينا نظرة إلى سياق هذه الآيات لم نجدها إلا في المنافقين سواء كانوا من منافقي اليهود أو منافقي العرب، والمثلان مضروبان فيهم لا في غيرهم، ولا مانع من الانتقال من مثل إلى آخر مع كون الممثل له واحدا، فإن ذلك معروف عند العرب.
10. وجه ضرب هذا المثل في المنافقين أنهم استضاؤوا بشيء من نور الإسلام حال اجتماعهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالمؤمنين، وسماعهم ما يدور في مجالسهم من مواعظ وأمثال، ومشاركتهم في الأعمال الدينية الظاهرة، ولكن سرعان ما تنطفئ هذه الشعلة عندما يفارقونهم، فتتراكم في نفوسهم ظلمات العقيدة التي يبطنونها، وهذا هو المروي عن مجاهد؛ وقال عطاء الخرساني: هذا مثل المنافق يبصر أحيانا، ويعرف أحيانا، ثم يدركه عمى القلب، وعزا ذلك ابن أبي حاتم إلى عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس وروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
11. وما ذكروه من إبصارهم أحيانا عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الآية في قوم دخلوا في الإسلام عندما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فلما أضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصر حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره لا يدري ما يتقي من أذى فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فعرف الحلال والحرام، والخير والشر فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر؛ وروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مثله.
12. أنكر ابن جرير أن يكون هؤلاء أسلموا في وقت من الأوقات لقوله تعالى فيهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾، وتعقبه ابن كثير بأن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهو لا ينافي أن يكونوا آمنوا من قبل ثم سلبوا الإيمان وطبع على قلوبهم واستدل بقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾، ولابن جرير أن يتخلص بما ذكرته من قبل، وهو أن المنافقين أصناف منهم من آمن ثم ارتد، ومنهم من لم تخالط بشاشة الإيمان قلبه ولكنه ادعاه بلسانه.
13. المراد بذهاب الله بنورهم إطفاء النار التي هي مصدر النور، وإنما ذكر النور دون الضياء إما لأن ذهابه يستلزم ذهاب الضياء بناء على ما تقدم من أن الإضاءة فرط الإنارة، وهو يعني أن النور أعم من الضوء، ولا بقاء للأخص مع ذهاب الأعم، وإما لأن المراد تلاشي فائدة تلك المظاهر الإسلامية التي كان المنافقون يخدعون بها المؤمنين وقد شاع التعبير بالنور عن الإسلام في القرآن فصار اختيار لفظه أنسب.
14. إنما عبر بالذهاب بالنور دون إذهاب النور لما في ذلك من المبالغة، فإن أصل استعماله أن يكون مع استصحاب الفاعل للمفعول به، نحو قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ﴾، وهو آكد فيما يراد ذهابه من مجرد الإذهاب لوقوعه تحت رقابة الفاعل نفسه، بخلاف ما لو قيل أذهبه، إذ لا يلزم منه أن يكون ذهاب المفعول تحت إشراف الفاعل وحراسته ثم استعمل هذا اللفظ حال قصد المبالغة، ولو لم تكن مصاحبة، ولم تتصور الحراسة نحو قول القائل) ذهب بماله الديْن)
15. (الذي) يستعمل للمفرد غالبا لوجود صيغة جمع له وهي (الذين) وقد يستعمل للجمع تشبيها بمن وما، وحمل عليه قوله تعالى: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾، وهذا أولى أن يحمل عليه هنا من دعوى بعضهم أنه وصف لموصوف محذوف دال على الجمع تقديره كالفوج الذي استوقد، أو كالجمع الذي استوقد لأن الأصل عدم الحذف وفي مثل هذا الحال يجوز في الضمائر أن تفرد مراعاة للفظ، وأن تجمع مراعاة للمعنى، وكذا الصفات والأحوال ويجوز أن ينظر إلى اللفظ أولا ثم إلى المعنى ثانيا، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، وهذا من باب التفنن المحمود في البلاغة وعليه يحمل اختلاف الضمائر هنا فقد روعي لفظ (الذي) في ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ ومعناه في ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾
16. اختلف في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾، هل هي من ضمن التمثيل، أو هي خارجة عنه ويعود ما فيها من الوصف إلى المقصودين بالتمثيل وهم المنافقون:
أ. على الأول: وجه علاقتها بالمثل أن مستوقدي النار لافتقارهم إلى الضوء تشتد حسرتهم، وتتضاعف مصيبتهم إذا ما أتى عليها عاصف من الريح فأطفأها بعد إشراق ضوئها، وبُدُوِّ منفعتها، كيف وقد فاتهم ما يأملون مما هم في أمس الحاجة إليه من الانتفاع بها؛ مع ضياع جهدهم الجهيد في إيقادها فإذا ولي ذلك إلمام حادث فظيع ذهب بسمعهم ونطقهم، وإبصارهم كان ذلك أنكى لهم وأبلغ في حيرتهم، إذ لا أمل لهم يبقى في الاهتداء بصوت يسمع، ولا بشبح يرى، ولا بسؤال يجاب فلا مناص لهم عن الاستسلام للأمر الواقع حيث لا داعي ولا مجيب.. وهذا شأن الذين ضرب فيهم المثل، فهم بعد أن طفئت نار هدايتهم لم تعد لهم وسيلة إلى الخير بعد ما قطعوا جميع الوسائل باستحبابهم العمى على الهدى، فطبع الله على قلوبهم، وطمس حواسهم ومشاعرهم.
ب. وعلى الثاني: فإن في الآية عودا إلى المشبه بعد التشبيه بتجلية بعض صفاته لا عن طريق التمثيل، ويؤيد هذا الرأي الأخير أن ذكر الاستيقاد يدل على إبصار المستوقد، فإذا ما وصف بعد بالعمى وسائر العاهات المذكورة كان في هذا الوصف منافاة لما تقدم من قبل.
17. إنما وصفوا بما وصفوا به من الصم والبكم والعمي ـ مع اكتمال حواسهم ـ لأجل فقدانهم منافعها، فأسماعهم لا تصغي إلى الحق، وإن أصغت إليه لم تعقله لعدم تقبلها إياه، وألسنتهم لا تتحدث به ولا تدعوا إليه، وأبصارهم لا تتوصل إليه؛ لأنها معرضة عنه، فهم لا يختلفون عمن فقد هذه الحواس رأسا.
18. الصمم هو عدم السمع ممن من شأنه أن يسمع، ولفظه دال على السداد فإنهم يسمون السداد صماما لحيلولته دون دخول ما كان خارجه إلى داخله، ومن هذا الباب قولهم) صخرة صماء)، فإن تلاحم ذراتها مانع من وصول الهواء أو غيره إلى داخلها، وبما أن العروق السمعية إذا أصيبت انسدت فلا يصلها الأثير المتموج الناقل للأصوات سميت هذه الإصابة بالصمم.
19. البكم هو عدم النطق ممن مِن شأنه أن ينطق، وقيل عدم النطق والفهم، وفرق بينه وبين الخرس، بأن البكم ما كان بالطبع، والخرس ما كان بحدوث آفة، وقيل الخرس عدم النطق والبكم عدم النطق والسمع.
20. العمى هو عدم البصر ممن مِن شأنه الإبصار ولذلك لا توصف به الأشجار والأحجار فلا يقال شجرة عمياء ولا صخرة عمياء وهكذا فيما ماثلهما.
21. من عرف بما تقدم تعذر عليه الاهتداء واستحالت عليه النجاة، فإن الحواس والنطق وسائل لتسيير الإنسان نفسه وتبصيرها بخيرها وشرها، فإذا ما فقدها وهو في صحراء قاحلة بحيث لا يجد من يأخذ بيده، فإما أن يهلكه السغب والظمأ، وإما أن تفترسه السباع الكاسرة وليس له عن ذلك مناص.
22. وفصل الآية بقوله ﴿لَا يَرْجِعُونَ﴾ دون غيره نحو ﴿لَا يَهْتَدُونَ﴾ لأن من اهتدى بعد ضلاله، ورشد بعد غيه هو آئب إلى الفطرة التي نشز عنها.. وقد حمل بعض المفسرين هذا الوصف الشنيع في الآية على طائفة من المنافقين علم الله عدم ارعوائها، وهم الذين قال الله فيهم: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾، وحملها آخرون على جميعهم حال إخلادهم إلى النفاق وعدم تأثرهم بالوعظ.
23. قوله: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ﴾ يصح أن يكون استئنافا بيانيا لجواز التساؤل عن حالهم مع البرق بعد الإخبار عن حالهم مع الرعد، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في ﴿يَجْعَلُونَ﴾
24. الخطف الأخذ بسرعة، والتعبير بكلما في جانب الإضاءة وبإذاء في جانب الإظلام، ويفيد أنهم حريصون على المشي فلا يترددون ـ إذا ما أبصروا الطريق من لمعان البرق ـ في الإسراع فيه، و(أضاء) يصح أن يكون لازما وأن يكون متعديا، وكذلك (أظلم) غير أن اللزوم في هذا الأخير أكثر، وإنما يترجح التعدي هنا لمقارنته (أضاء) مع قرائن الحال الدالة على أنهم كانوا ينتفعون بإضاءة الطريق فيحرصون عليها، وعليه فيقدر المفعول ـ وهو الطريق أو المشي ـ في الموضعين، والمراد بقيامهم إمساكهم عن المشي.
25. ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ انتقال من تمثيل إلى آخر لتعرية أحوالهم وبيان أوصافهم، والانتقال من مثل إلى آخر مألوف في القرآن الكريم، وفي كلام بلغاء العرب منظومه ومنثوره، وهو لا يأتي إلا مع قصد التأكيد على الشيء لأجل مزيد العناية به، سواء كان لقصد تحبيبه إلى النفوس وتأليفها عليه، أو لقصد تكريهه إليها وتنفريها منه، ومن أمثلة ما ورد منه في القرآن قوله تعالى: ﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع السحاب، أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾
26. يجوز أن يكون العطف في مثل ذلك بأو وبغيرها كما علمت، وأصل أو لتساوي الأمرين في الشك، ثم استعملت في مطلق التسوية وهي هنا دالة على جواز التمثيل بما سبقها وما وليها.
27. لا إشكال في ورود مثلين، أو تعاقب عدة أمثال لحالة واحدة كما عرفت من الشواهد وهذا ينبئك أن المقصود بضرب هذا المثل هو نفس الفريق الذي ضرب له المثل السابق، وهو فريق المنافقين وهذا هو المأثور عن السلف، وعليه أكثر المفسرين، ومحمد عبده يرى أن تنوع المثلين لاختلاف المراد بكل منهما، وقد سبقه إلى مثل رأيه هذا ابن كثير في تفسيره، ورأيهما وإن اختلف في بعض الوجوه فهو متقارب وذلك أن ابن كثير يتفق مع محمد عبده على أن أصحاب المثل الأول أسوأ حالا من أصحاب المثل الثاني، فعنده أن الفريق الأول أعمق في النفاق وأنأى عن الحق، أما الفريق الثاني فهم منافقون يترددون بين الحق والباطل، والهدى والضلال، فتارة يلمع لهم نور الإيمان فيبصرون وتارة يخبوا فيبقون في ضلالهم يعمهون وحمل على مثل ذلك مثلي سورة النور في الذين كفروا فخص أولهما بأولي الجهل المركب، وثانيهما بأصحاب الجهل البسيط.
28. الذي يقتضيه السياق ويدل عليه اللفظ هو أن هذه الأوصاف شاملة لمنافقي هذه الأمة، بغض النظر عن كونهم من العنصر اليهودي، أو من العرب، وهذه العناية بشرح أوصافهم، وتجلية حالاتهم النفسية، وإماطة الستار عن طواياهم دليل على أنهم لم يكونوا محصورين في زمن الرسالة وأنهم لم يكونوا مصدر خطر على هذه الأمة ودينها في ذلك العصر فحسب، بل هم مصدر بلاء وعنت وشقاق في كل عصر، فإنهم بالتواء مسالكهم واختلاف مداخلهم ومخارجهم، وتعدد وجوههم، يعسر الحذر منهم، ويقل الانتباه لمكرهم.
29. اختلف في أفراد هذه الصورة التمثيلية، هل كان فرد منها واقع إزاء نظير له في الصورة الممثلة؛ بحيث يصح أن يستقل بالتشبيه، أو هي مندمجة بالتركيب، ولا داعي إلى الالتفات إلى ما بين كل فرد وآخر من التناسب؟
30. على القول الأول لا محيص عن البحث عما يقابل كل فرد من الهيئة المشبه بها من أفراد الهيئة المشبهة، وهو الذي عليه جمهور أهل التفسير من السلف والخلف، وقد سبق أن جماعة من الصحابة فمن بعدهم قالوا: إن المراد بالصيب القرآن، بجامع أن كلا منهما سبب للمنفعة والحياة، وهذا بعض ما قيل في المراد بهذه المفردات من التمثيل:
أ. الصيب هو القرآن وما فيه من الإشكال عليهم والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور، والحجج التي تبهر عقولهم هي البرق، وتخوفهم وروعهم وحذرهم هي جعل أصابعهم في آذانهم، وفضح نفاقهم واشتهار كفرهم، وما يكرهونه من تكاليف الشرع كالجهاد والزكاة هي الصواعق، وعزا ذلك ابن عطية إلى الجمهور، وحمل عليه ما روي عن ابن مسعود أن المنافقين في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فضرب الله المثل لهم.
ب. أن الصيب مثل الإسلام، والظلمات مثل لما في قلوبهم من النفاق، والبرق والرعد مثلان لما يخوّفون به.
ج. البرق مثل للإسلام، والظلمات مثل للفتنة والبلاء.
د. أن الصيب هو القرآن وهدى الإسلام، والظلمات ما يعتريهم من الوحشة عند سماعه؛ كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم، والرعد قوارع القرآن وزواجره والبرق ظهور أنوار هديه من خلال الزواجر.
هـ. أن الصيب هو القرآن، وأن الظلمات هي الكفر؛ بجامع أن كلا منهما مهلك، وسبب للحيرة، والرعد هو الوعيد، والبراهين الساطعة هي البرق، وإعراضهم عن القرآن هو سداد آذانهم عن الصواعق وتركهم دينهم هو الموت عندهم.
و. ثم أقوال أخرى كثير منها قريب مما ذكرنا، وبعضها بعيد عن مدلول الآية ليس على صحته من دليل.
31. القول الثاني، والذي ذهب إليه الزمخشري وعزاه إلى علماء البيان، وتابعه عليه السيد الجرجاني وأبو السعود وأبو حيان وحاصله أنه لا داعي إلى تكلف البحث عن وجه الشبه بين مفرد وآخر، لأن القصد من التمثيل تشبيه هيئة مركبة من عدة أفراد، تضامت حتى صارت شيئا واحدا بهيئة أخرى مثلها، والصورة المشبه بها إذا ما اندمجت أفرادها كانت ذات أثر نفسي بالغ، بخلاف ما إذا عزل بعضها عن بعض، فتشبيه المنافقين بالساري في ظلمات الليل، إذا انهمرت عليه السماء بودقها وأحاط به رعدها وبرقها وهو في صحراء لا يجد مأوى ولا واقيا، أدل على حيرتهم مما لو فك التشبيه فشبه كل فرد بآخر وكذلك تشبيههم في المثل الأول بمن طفئت ناره ـ بعد إيقادها وإضاءتها ما حوله ـ فتخبط في ظلمته، وهام في حيرته أبلغ في تصوير حالتهم النفسية وما يعتريهم من الاضطراب مما لو روعي في التمثيل التشابه بين كل فرد في الهيئة المشبهة ونظير له في الهيئة المشبه بها، وهذا يعني تناسي الأفراد رأسا في التشبيه المركب، ووصف الزمخشري هذا الرأي بأنه القول الفحل والمذهب الجزل، وبناء عليه لا داعي إلى تقدير مضاف قبل لفظة صيب، لولا ما يقتضيه من ضرورة وجود معاد للضمائر في قوله: ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ وما في الآية الثانية من الضمائر.
32. اختلف في قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ قيل: هو داخل في التمثيل وعليه فمعاد ضمائره إلى أصحاب الصيب وقيل: هو عائد إلى المنافقين الذين ضرب لهم المثل؛ وعلى الأول فالمراد؛ ولو شاء الله لذهب بسمعهم بقصيف الرعد، وأبصارهم بوميض البرق، وهو يدل على هول ما لقوا، فقد كان الرعد من قوة الصوت بحيث يذهب الأسماع؛ لولا أن الله لم يشأ ذلك، وهكذا كان لمعان البرق من الشدة بحيث يذهب بالأبصار، لولا مشيئة الله غير ذلك، وذهب بعضهم إلى أن ذهاب السمع والأبصار كناية عن الموت، لأن من مات فقد سمعه وبصره، وعلى الثاني فالمقصود أن الله عز وجل لو شاء لأتى على جميع وسائل الهداية عند المنافقين حتى لا يجدي فيهم وعظ واعظ، ولا يفيدهم إرشاد مرشد، غير أنه تعالى أبقى عليهم هذه الأسباب لتكون حجة على من أصر على كفره، وطريقا إلى رشد من عدل عن غيه.
33. بناء على الرأي الأول يعد هذا الوصف ساريا من الصورة المشبه بها إلى الصورة المشبهة، ويقصد بذلك ما أشرنا إليه من أن الله تعالى أمهل لأولئك المنافقين ليتوب من تاب منهم، وليزداد المصرون ضلالا وإثما، وهو يتضمن وعيدا لهم إن لم يبادروا بالإقلاع عن غيهم، والتخلص من النفاق الذي مردوا عليه، ويتأكد ذلك بقوله من بعد ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، فمن خلق السماوات والأرض وبيده ملكوت كل شيء، لا يعجزه إتلاف حواس من شاء من خلقه بما شاء من الأسباب، بل لا يعجزه القضاء على حياة من شاء متى شاء.
34. وهذا التذييل يتلاءم كل الملاءمة مع ما تقدم من تهديد أهل النفاق وكل ما سبق في وصف المنافقين من بداية قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا﴾ إلى خاتمة هذه الآية، ينطبق على المنافقين في كل عصر وكذا ما تجدونه هنا وفيما سبق من الوعيد يشمل منافقي جميع العصور فلا يغرن أحد نفسه بأن هذا الوعيد خاص بطائفة مخصوصة في عصر معين، فالنفاق هو النفاق في أي عصر كان، ولا أثر لاختلاف الأزمان في اختلاف وعيده نسأل الله تعالى العافية وحسن الخاتمة.
35. هام أكثر المفسرين في تفسير الرعد والبرق، وكانت أقوالهم تدور بين ما تلقوه من الأكاذيب الإسرائيلية والأوهام الإغريقية؛ فمنهم من قال إن الرعد ملك يزجر السحاب بصوته، ومنهم من قال هو ملك يُسبح، والصوت المسموع هو من تسبيحه، وذهب آخرون إلى أنه اسم لصوت الملك، وذهبوا إلى أن البرق مخراق من حديد يسوق به الملك السحاب، ومنهم من قال إنه سوط من نور إلى ما وراء ذلك من الأقوال العارية عن الدليل، وقد عزاها جماعة من المفسرين إلى جماعة من الصحابة والتابعين، وذكر بعضهم ـ كابن جرير ـ أسانيد إلى من رويت عنهم من الصحابة والتابعين، وهي أسانيد كلها معلولة، لم يثبت شيء منها، ولم يعز شيء من ذلك إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، اللهم إلا ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس، وهو حديث ضعيف اتفق على ضعفه أئمة الحديث، وإن تعجب فعجب لأولئك الذين ينصون على ضعف هذا الحديث، ثم يعولون عليه في تفسير الرعد والبرق في القرآن ويبطلون به سائر الأقوال.
36. الأدلة العلمية تدل على أن منشأ الرعد والبرق ما يكون من التماس بين السالب والموجب من الكهرباء التي هي في السحاب بجانب كهرباء الأثير، فإن الطاقة الكهربائية منبثة في كل هذه المخلوقات، فإذا حصل هذا التماس انقدح هذا النور اللامع ونتج عنه هذا الصوت الهادر، وإذا ما ازداد هذا التماس نزلت هذه الصواعق المهلكة والعياذ بالله، وعندما أدرك الناس هذه الحقيقة وانجلت عنها ستر الأوهام، أخذوا يتوقون وقع الصواعق بما يرفعونه على مبانيهم الشاهقة من عمد، يسمونها عمد الصاعقة، على أنه لو كان ما يروونه صحيحا، وثبتت نسبته إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كان في ذلك منافاة للحقيقة العلمية الثابتة، إذ غاية ما كانت تدل عليه هذه الروايات أن وراء هذه الظواهر الطبيعية ملائكة يسيرونها، ومع عدم صحة تلك الروايات، لا داعي إلى تكلف هذا التأويل هذا مع إيماننا الجازم بأن كل شيء مسخر بأمر الله.
37. لم يجمع الرعد والبرق كما جمعت الظلمات؛ إما لأن المراد بالرعد والبرق مصدر رَعَد وبَرَق، والأصل في المصادر أن لا تجمع وإما لأجل النظر إلى هذا الأصل، وإن كان المراد به هو عينهما وتنكير صيب ورعد وبرق لأجل النوعية، فكأنه قيل صيب غدق، ورعد قاصف، وبرق وامض.
38. معنى إحاطة الله:
أ. إحاطة الله يمكن أن تكون إحاطة علمية كما في قوله: ﴿أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾
ب. أو إحاطة قدرة كما في قوله: ﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾
ج. أو بمعنى الإهلاك كما في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾، فإن المقام قابل لكل معنى من هذه المعاني.
د. التعبير بالإحاطة من باب الاستعارة، إما على طريقة التمثيلية وإما على طريقة التبعية.
__________
(1) تفسير الخليلي: 2/305.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿مَثَلُهُمْ﴾ المنافقين ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ في ليلة مظلمة، كي يهتدي بها إلى طريق ويبلغ مقصده. ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ .. لقد ظنّ هؤلاء أنهم قادرون على أن يحققوا أهدافهم بما لديهم من إمكانات إنارة محدودة.. لكن نارهم سرعان ما انطفأت بسبب عوامل جوّيّة، أو بسبب نفاد الوقود، وظلّوا حائرين لا يهتدون سبيلا.
2. والمثال المذكور يصوّر بدقّة عمل المنافقين على ساحة الحياة الإنسانية، فهذه الحياة مملوءة بطرق الانحراف والضلال، وليس فيها سوى طريق مستقيم واحد للهداية، وهذا الطريق مليء بالمزالق والأعاصير، ولا يستطيع الفرد أن يهتدي من بين الطرق الملتوية إلى الصراط المستقيم، كما لا يستطيع أن يتجنب المزالق ويقاوم أمام الأعاصير، إلّا بنور العقل والإيمان، وبمصباح الوحي الوهّاج.
3. هل تستطيع الشعلة المحدودة المؤقتة التي يضيئها الإنسان، أن تهدي الكائن البشري في هذا الطريق الشائك الطويل!؟ هؤلاء الذين سلكوا طريق النفاق، ظنوا أنّهم قادرون بذلك أن يحافظوا على مكانتهم ومصالحهم لدى المؤمنين والكافرين، وأن ينضمّوا إلى الفئة الغالبة بعد نهاية المعركة. كانوا يخالون أن عملهم هذا ذكاء وحنكة، وأرادوا أن يستفيدوا من هذا الذكاء وهذه الحنكة، كضوء يشقّ لهم طريق الحياة ويوصلهم إلى مآربهم، لكن الله سبحانه ذهب بنورهم وفضحهم، إذ قال لرسوله: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾
4. القرآن الكريم يفضح المنافقين لدى الكافرين أيضا، ويبيّن كذبهم ونكولهم إذ يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، ويقول: ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾
5. جدير بالذكر أن القرآن استعمل عبارة ﴿اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ أي إنهم استفادوا للإنارة من (النار) ذات الدخان والرّماد والحريق، بينما يستنير المؤمنون بنور الإيمان الخالص وبضوئه الساطع.
6. باطن المنافقين ينطوي على النار، وإن تظاهروا بنور الإيمان، وإذا كان ثمة نور فهو ضعيف في قوته وقصير في مدته.
7. هذا النور الضعيف المؤقّت، إمّا أن يكون إشارة إلى الضمير والفطرة التوحيدية، أو إشارة إلى الإيمان الأوّلي لهؤلاء المنافقين حيث أسدلت عليه ستائر مظلمة على أثر التقليد الأعمى والتعصب المقيت واللجاج والعداء، فتحولت ساحة حياتهم لا إلى ظلمة، بل إلى (ظلمات) في التعبير القرآني.
8. هؤلاء سيفقدون في النهاية قدرة الرؤية الصحيحة، والاستماع الصحيح، والنطق الصحيح، وهذه نتيجة طبيعية ـ كما ذكرنا سابقا ـ للاستمرار على الانحراف والإصرار على الغيّ، حيث يؤدي إلى إضعاف آليات الإدراك لدى الإنسان فيرى الحقائق مقلوبة، فالخير في نظره شرّ، والملك شيطان، وهكذا.
9. على أي حال هذا التشبيه يوضّح واحدة من حقائق النفاق، وهي إن عمر النفاق والتذبذب لا يدوم طويلا، قد يستطيع المنافقون لمدة قصيرة أن يتمتعوا بمصونية الإسلام والإيمان، وبصداقة الكفار سرا. لكن هذه الحالة مثل شعلة ضعيفة معرضة لألوان العواصف، سرعان ما تنطفئ، ويظهر الوجه الحقيقي للمنافقين، ويظلون منفورين مطرودين حائرين، مثل إنسان يتخبّط في ظلام دامس.
10. لا بدّ من الإشارة إلى ما ورد في تفسير الآية الكريمة: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾، عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السّلام قال: أضاءت الأرض بنور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم كما تضيء الشّمس، فضرب الله مثل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم الشّمس ومثل الوصيّ القمر)، وهذا يعني أن نور الإيمان والوحي يغمر العالم كلّه، ولا يمتلك منه المنافقون شيئا، حتّى لو كان في النفاق نور، فإنّ مدياته قصيرة ودائرته صغيرة لا يضيء إلّا (ما حوله)
11. في المثال الثاني صوّر القرآن حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة خطرة، يهطل فيها مطر غزير، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف الأبصار، ويملأ الجوّ صوت مهيب مرعب يكاد يمزّق الآذان، وفي هذا المناخ القلق ضلّ مسافر طريقه، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ، لا يستطيع أن يحتمي من المطر الغزير، ولا من الرعد والبرق، ولا يهتدي إلى طريق لشدّة الظلام.
12. هؤلاء يحسّون كلّ لحظة بخطر، لأنهم يطوون صحراء لا جبال فيها ولا أشجار تحميهم من خطر الرعد والبرق والصواعق، ونحن نعلم أن خطر الصاعقة يتجه إلى كل ارتفاع على الأرض، لكن الأرض التي يسير عليها هؤلاء خالية من أي ارتفاع سوى مرتفع أجسامهم، ومن هنا فخطر الصاعقة يهددهم كل آن بتحويلهم إلى رماد!
13. نعم، هؤلاء حيارى مضطربون، لا يجدون طريقا يسلكونه، ولا دليلا يهتدون به، خطر صوت الرعد يهدّد أسماعهم، ونور البرق يكاد يذهب بأبصارهم ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .
14. المنافقون مثل هؤلاء المسافرين، يعيشون بين المؤمنين المتزايدين المتدفقين كالسيل الهادر وكالمطر الغزير، لكنهم لم يتخذوا لهم ملجأ آمنا يقيهم من شر صاعقة العقاب الإلهي.
15. نهوض المسلمين بواجبهم الجهادي المسلح بوجه أعداء الإسلام، يشكل صواعق وحمما تنزل على رؤوس المنافقين، وتسنح أحيانا لهؤلاء المنافقين فرصة للهداية واليقظة، لكن هذه الفرصة لا تلبث طويلا، إذ تمرّ كما يمرّ نور البرق، ويعود الظلام يطبق عليهم، ويعودون إلى ضلالهم وحيرتهم.
16. انتشار الإسلام بسرعة كالبرق الخاطف قد أذهلهم، وآيات القرآن التي تفضح أسرارهم صعقتهم، وفي كل لحظة يحتملون أن تنزل آية تكشف عن مكائدهم ونواياهم، وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ .
17. والمنافقون خائفون أيضا أن يأذن الله بمحاربتهم، وأن يحثّ القوة الإسلامية المتصاعدة على مجابهتهم، لأنهم كانوا يواجهون مثل هذه التهديدات القرآنية، كقوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ .
18. مثل هذه الآيات كانت تنزل كالرعد والبرق على المنافقين، وتتركهم في خوف وذعر وحيرة في المدينة، وتضعهم أمام خطر الإبادة أو الإخراج من المدينة كلّ حين.
19. هذه الآيات ـ وإن كانت تتحدث عن المنافقين في عصر نزول الوحي ـ تمتد لتشمل كلّ المنافقين في التاريخ، لأن خطّ النفاق يقف دوما بوجه الخط الثوري الصادق الصحيح، ونحن نرى بأعيننا اليوم مدى انطباق ما يقوله القرآن على منافقي عصرنا بدقّة. نرى حيرتهم وخوفه واضطرابهم، ونرى تعاستهم وبؤسهم وانفضاحهم تماما مثل تلك المجموعة المسافرة الهائمة في صحراء مقفرة وفي ليلة ظلماء موحشة.
20. بشأن الفرق بين المثالين ثمة تفسيران:
أ. الأوّل: إنّ قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي﴾ يصور حالة المنافقين الذين انخرطوا في صفوف المؤمنين عن اعتقاد حقيقي، ثم تزعزعوا واتّجهوا نحو النفاق. أما قوله: ﴿كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ فيمثل حالة المنافقين الذين كانوا منذ البداية في صف النفاق، ولم يؤمنوا بالله قط.
ب. الثّاني: أن المثال الأول يتحدث عن حالة الأفراد، ولذلك يقول: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ﴾ والثاني يجسّد وضع الأجواء المخيفة المرعبة الخطرة التي تحدق بهؤلاء المنافقين، ومن هنا جاء التشبيه بالجوّ المظلم الممطر المليء بالخوف والذعر والاضطراب.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/106.
6. العبادة والأنداد
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈5⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21 ـ 22]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ خلقكم، وخلق الذين من قبلكم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ فهي فراش يمشى عليها، وهي المهاد والقرار(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ بنى السماء على الأرض كهيئة القبة، وهي سقف على الأرض(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٨٥.
(2) ابن جرير: ١/٣٨٨.
(3) ابن جرير: ١/٣٨٩.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: نزل ذلك في الفريقين جميعا من الكفار والمنافقين، وإنما عنى تعالى بقوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾، أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَنْدَادًا﴾ أشباها(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء، في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله، وحياتك يا فلانة، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلان، فإن هذا كله به شرك(3).
4. روي أنّه قال: أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قول الله تعالى: ﴿أَنْدَادًا﴾، قال الأشباه، والأمثال، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول لبيد(4).:
أحمد الله فلا ند له... بيديه الخير ما شاء فعل
5. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا يشك فيه(1).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ١/٥٣٣.
(2) ابن جرير: ١/٣٩٢.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٦٢.
(4) الطستي ـ كما في الإتقان: ٢/٧٦.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿أَنْدَادًا﴾، أي: عدلا؛ شركا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٦٢.
السجاد:
روي عن الإمام السجاد (ت 94 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قال في قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ : جعلها ملائمة لطبائعكم، موافقة لأجسادكم، ولم يجعلها شديدة الحمي والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم، وأبنيتكم، وقبور موتاكم، ولكنه عز وجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به، وتتماسكون، وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم، وقبوركم، وكثير من منافعكم، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم(1).
2. روي أنه قال: ثم قال عز وجل: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ أي سقفا محفوظا، يدير فيها شمسها وقمرها، ونجومها لمنافعكم(1)..
3. روي أنه قال: ثم قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ يعني المطر، نزله من أعلى ليبلغ قلل جبالكم، وتلالكم، وهضابكم وأوهادكم، ثم فرقه رذاذا، ووابلا، وهطلا لتنشفه أرضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة، فيفسد أرضيكم، وأشجاركم، وزروعكم، وثماركم(1).
4. روي أنه قال: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ أي أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل، ولا تسمع، ولا تبصر، ولا تقدر على شي ء ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنها لا تقدر على شي ء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم تبارك وتعالى(1).
__________
(1) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص151/76.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ تطيعون(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل، لا ند له(1).
__________
(1) سفيان الثوري: ص٤٢.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن الله خلقكم، وخلق السماوات والأرض(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٩٤.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ أي مهادا(1).
2. روي أنّه قال: ( ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ أي أضدادا، وواحدها ندّ ونديد(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 79.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ يعني: المطر، ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ﴾ يقول: فأخرج بالمطر من الأرض أنواعا من الثمرات ﴿رِزْقًا لَكُمْ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٩٣.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) أنّه قال: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٩١.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ الخطاب يحتمل الخصوص والعموم.
2. قوله: ﴿اعْبُدُوا﴾ تعني:
أ. وحدوا ربكم، وجعل العبادة عبارة عن التوحيد؛ لأن العبادة التي هي لله لا تكون ولا تخلص له إلا بالتوحيد.
ب. يقال: ﴿اعْبُدُوا﴾؛ أي أطيعوا له؛ أي اجعلوا عبادتكم لله، لا تعبدوا غيره.
وفي كلا التأويلين يرجع إلى الكفرة.
3. العبادة جعل العبد كلّيته لله قولا، وعملا، وعقدا، وكذلك التوحيد، والإسلام.
4. الطاعة ترجع إلى الائتمار؛ لأنه يجوز أن يطاع غير الله، ولا يجوز أن يعبد غير الله؛ لأن كل من عمل بأمر آخر فقد أطاعه؛ كقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [المائدة: 92] ولا كل من عمل بأمر آخر فهو عابد له، وبالله نستعين.
5. ثم بين الذي أمر بالتوحيد إياه وبالعبادة له خالصا، فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، والذين تعبدونهم لم يخلقوكم، ولا خلقوا الذين من قبلكم، فكيف تعبدونهم دون الذي خلقكم(2).
6. قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يحتمل: تتقون المعاصي والمناهي، والمحارم التي حرم الله عليكم، فإذا كان هذا هو المراد فذلك راجع إلى المؤمنين.
ب. يحتمل قوله: ﴿تَتَّقُونَ﴾ الشرك وعبادة غير الله، فذلك راجع إلى الكفرة.
7. الأحسن في الأمر بالتقوى والتوحيد أن يجعل عامّا، وفى الخبر عن التقوى خاصّا.
8. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ أي كي تتقوا.
9. بيّن اتقاء الذي أمر بالتوحيد له، وتوجيه العبادة إليه، وإخلاص النية له؛ فقال: الذى فرش لكم الأرض لتنتفعوا بها، وتقضوا حوائجكم فيها، من أنواع المنافع عليها، واتخاذ المستقر والمسكن فيها.
10. ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ أي رفع السماء بناء، والسماء: كل ما علا وارتفع، كما يقال لسقف البيت: سماء؛ لارتفاعه، وسمى السماء بناء ـ وإن كان لا يشبه بناء الخلق ـ حتى يعلم أن البناء ليس اسم ما يبنى الناس خاصة.
11. ثم بين بقوله: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾، أي وجهوا العبادة إلى الذي ينزل لكم من السماء ماء عند حوائجكم، ولا تعبدوا من تعلمون أنه لم يخلقكم، ولا أنزل لكم من السماء ماء، ولا أخرج لكم من ذلك الماء ثمرات تكون رزقا لكم.. بل هو الله الواحد الذي لا شريك له؛ ولأنه يخلقكم، ويرزقكم، ويخرج لكم من ذلك الماء المنزل من السماء رزقا تأكلونه، وماء عذبا تشربونه.
12. في الآية دلالة أن المقصود في خلق السماء والأرض، وإنزال الماء منها، وإخراج هذه الثمرات وأنواع المنافع ـ بنو آدم، وهم الممتحنون فيها؛ بدلالة قوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ وما ذكر من المخرج والمنزل منها، وما ذكر في آية أخرى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 13]، ومنه ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [إبراهيم: 33، النحل: 12]، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ﴾ [إبراهيم: 32] مما يكثر من الآيات.
13. أضاف ذلك كلّه إلينا، ثم جعل ـ عزّ وجل ـ بلطفه منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما من المسافة، حتى لا تخرج الأرض شيئا إلا بما ينزل من السماء من الماء؛ ليعلم أن منشئ السماء هو منشئ الأرض؛ لأنه لو كان منشئ هذا غير منشئ الآخر لكان لا معنى لاتصال منافع هذا بمنافع الآخر على بعد ما بينهما، ولتوهم كون الاختلاف من أحدهما للآخر.. فإذا كان كذلك دل على أن منشئهما واحد، لا شريك له ولا ند.
14. اختلف في معنى الإضافة إلينا:
أ. زعم قوم: أن الأشياء كلها حلّ لنا، طلق، غير محظور علينا، حتى يجيء ما يحظر، فاستدلوا بظاهر هذه الآية بقوله: ﴿رِزْقًا لَكُمْ﴾، وبقوله: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [البقرة: 168].
ب. قال آخرون: لا يدل ذلك على الإباحة؛ وذلك أن الأشياء لم تصر لنا من كل الوجوه، فهو على الحظر حتى تجيء الإباحة، ولأن الأشياء لا تحل إلا بأسباب تتقدم؛ فظهر الحظر قبل وجود الأسباب، فهو على ذلك حتى يجيء ما يحل ويبيح.
ج. أو أن يقال: خلق هذه الأشياء لنا محنة امتحنا بها، أو فتنة فتنا بها؛ كقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: 28، التغابن: 15]، فتنّا بها؛ وكقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ الآية [البقرة: 155]، ولأن في العقل ما يدفع حمل الأشياء كلها على الإباحة، لما في ذلك فساد الخلق، وتفانيهم، فبين لكل منهم ملكا على حدة بسبب يكتسب به؛ لئلا يحملهم على التفاني والفساد.
15. قوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ أي أعدالا، وأشكالا في العبادة، وكله واحد.. ند الشيء: هو عدله، وشكله: هو مثله.
16. اختلف في معنى قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ :
أ. الأول: أن لا ندّ، ولا عدل، ولا شكل؛ لما أراكم من إنشاء هذه الأشياء ولم تروا من ذلك ممن تعبدونه شيئا.
ب. الثاني: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لما أنشأ فيكم من الأشياء ما لو تدبرتم وتفكرتم وتأملتم، علمتم أنه لا ندّ له ولا شكل له؛ كقوله: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/399.
(2) تأويلات أهل السنة: 1/400.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ في الأنداد ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أنها الأكفاء.
ب. الثاني: الأشباه.
ج. الثالث: الأضداد.
2. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن لا ند ولا ضد ويحتمل وأنتم تعلمون أن الله خلقهم ويحتمل أن يكون العلم هاهنا بمعنى العقل أي وأنتم تعقلون.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/34.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله عزّ وجل: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ فيه ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أنّ الانداد الأكفاء، وهذا قول ابن مسعود.
ب. والثاني: الأشباه، وهو قول ابن عباس.
ج. والثالث: الأضداد، وهو قول المفضل.
2. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فيه ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: وأنتم تعلمون أن الله خلقكم، وهذا قول ابن عباس وقتادة.
ب. الثاني: معناه وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له ولا ضد، وهذا قول مجاهد.
ج. الثالث: معناه وأنتم تعقلون فعبر عن العقل بالعلم.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/84.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآية يمكن الاستدلال بها على ان الكفار مخاطبون بالعبادات، لدخولهم تحت الاسم.
2. هذه الآية متوجهة الى جميع الناس: مؤمنهم، وكافرهم، لحصول العموم فيها إلا من ليس بشرائط التكليف من المجانين والأطفال.
3. روي عن ابن عباس أنه قال قوله ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ : أي وحدوه وقال غيره: ينبغي أن يحمل على عمومه في كل ما هو عبادة لله: من معرفته: ومعرفة أنبيائه، والعمل بما أوجبه عليهم وندبهم اليه وهو الأقوى.
4. قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ : أي تتقون عذابه بفعل ما أوجبه عليكم كما قال ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾(2).
5. معنى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، هو كما قال الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا... نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم... كلمح سراب في الملا متألق
6. فراشا: يعني مهاداً، أو وطاء، لا حزنة غليظة لا يمكن الاستقرار عليها، وتقديره: اعبدوا ربكم الخالق لكم والخالق للذين من قبلكم، الجاعل لكم الأرض فراشاً.
7. ذكر بذلك عباده نعمه عليهم، وآلاءه لديهم، ليذكروا أياديه عندهم، فيثبتوا على طاعته تعطفاً منه بذلك عليهم، ورأفة منه بهم، ورحمة لهم من غير ما حاجة منه الى عبادتهم، ليتم نعمته، لعلهم يهتدون.
8. الفراش: البساط، والفرش: البسط، فرش يفرش فرشاً، وافترش افتراشاً، وفراش الرأس: طرائق رقاق من القحف، والفراش: فراش القاع والطين بعد ما يبس على وجه الأرض، والفراش: الذي يطير ويتهافت في السراج، وجارية فريش: قد افترشها الرجل، والفرش: صغار النعم، ورجل فراشة: خفيف، والفرش من الشجر: دقه، واصل الماء: موه، لأنه يجمع امواها، ويصغر مويه، وماهت الركية تموه موها، واماهها صاحبها: ـ إذا أكثر ماءها ـ إماهة.
9. استدلّ ابو علي الجبائي بهذه الآية، على أن الأرض بسيطة ليست كرة كما يقول المنجمون والبلخي بأن قال جعلها فراشاً، والفراش البساط بسط الله تعالى إياها، والكرة لا تكون مبسوطة، قال والعقل يدل ايضاً على بطلان قولهم، لأن الأرض لا يجوز أن تكون كروية مع كون البحار فيها، لأن الماء لا يستقر إلا فيما له جنبان يتساويان، لأن الماء لا يستقر فيه كاستقراره في الأواني. فلو كانت له ناحية في البحر مستعلية على الناحية الأخرى، لصار الماء من الناحية المرتفعة الى الناحية المنخفضة. كما يصير كذلك إذا امتلأ الإناء الذي فيه الماء، وهذا لا يدل على ما قاله، لأن قول من قال الأرض كروية، معناه إن لجميعها شكل الكرة.
10. سمّي السماء سماء لعلوها على الأرض، وعلو مكانها من خلقه وكل شيء كان فوق شيء فهو لما تحته سماء لذلك، وقيل لسقف البيت سماء لأنه فوقه.. وسمى السحاب سماء، ويقال: سمى فلان لفلان إذا أشرف له، وقصد نحوه عاليا عليه. قال الفرزدق:
سمونا لنجران اليماني واهله... ونجران أرض لم تديث مقاوله
11. وقوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي من ناحية السماء. قال الشاعر: أمنك البرق أرقبه فهاجا.. أي من ناحيتك. فبناء السماء على الأرض كهيئة القبة، وهي سقف على الأرض.
12. إنما ذكر السماء والأرض، فيما عد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم، لأن فيها أقواتهم، وأرزاقهم ومعايشهم، وبها قوام دنياهم، وأعلمهم أن الذي خلقهما وخلق جميع ما فيهما من أنواع النعم هو الذي يستحق العبادة والطاعة، والشكر. دون الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.
13. قوله: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ : يعني مطراً، فاخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم، وغروسهم ثمرات رزقا لهم، وغذاء وقوتاً، تنبيهاً على أنه هو الذي خلقهم، وأنه الذي يرزقهم ويكلفهم دون من جعلوه نداً وعدلا من الأوثان والآلهة.
14. ثم زجرهم أن يجعلوا له نداً مع علمهم بان ذلك كما أخبرهم، وانه لا ند له ولا عدل، ولا لهم نافع ولا ضار، ولا خالق ولا رازق سواه بقوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾، والند: العدل والمثل. قال حسان بن ثابت:
أتهجوه ولست له بند... فشركما لخيركما الفداء
15. اختلف في معنى الأنداد:
أ. روى عن ابن مسعود وغيره من الصحابة، أن معنى الآية: لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله.
ب. قال ابن عباس: إنه خاطب بقوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، جميع الكفار من عباد الأصنام، واهل الكتابين، لأن معنى قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وإن ما تعبدون لا يضر ولا ينفع.
ج. وروي عن مجاهد: أنه عنى بدلك أهل الكتابين، لأنهم الذين كانوا يعلمون أنه لا خالق لهم غيره، ولا منعم عليهم سواه، والعرب ما كانت تعتقد وحدانيته تعالى.
16. الأول أقوى لأن الله تعالى، قد أخبر أن العرب قد كانت تعتقد وحدانيته تعالى، فقال تعالى حكاية عنهم: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ فحمل الآية على عمومها اولى، ويطابق أول الآية، وقد بينا أن خطابه لجميع الخلق.
17. قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يتحمل أمرين:
أ. أحدهما ـ إنكم تعلمون أنه لا خالق لكم، ولا منعم بما عدده من انواع النعيم سوى الله، وإن من أشركتم به لا يضر ولا ينفع.
ب. الثاني ـ إنه أراد، وأنتم علماء بأمور معايشكم، وتدبير حروبكم، ومضاركم ومنافعكم. لستم بإغفال ولا جهال.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/100.
(2) تفسير الطوسي: 1/99.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. (يا): نداء، تقول: يا رجل، و(أي): اسم مبهم، و(ها) تنبيه لازم لـ (أيٍّ) في النداء؛ لأن النداء موضع تنبيه، فلما كانت (ها) تلحق للتنبيه في غير النداء لزمت (يا) لأنه مبهم وقع موقعًا حقيقًا بالتنبيه؛ ألا ترى أنهم جعلوا له أدوات التنبيه (كيا، وأيا، وهيا)
ب. الخلق والفعل والإحداث نظائر، وبينها فرق، فالخلق: الإيجاد على تقديرٍ، والإحداث: الإيجاد عن قرب عهد، ومنه سمي الحديث حديثًا، والفعل يقع على الجميع، والخلق أيضًا التقدير للشيء كما يريد، قال الشاعر:
فَلأَنتَ تَفري ما خَلَقْتَ وَبَعـ... ـضُ القَوْمِ يَخلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي
ج. الجعل والخلق والإحداث نظائر.
د. الفراش والمهاد والبساط نظائر، والفرش مصدر فرش يفرش فرشًا، وهو بسط الفراش.
هـ. الأرض بساط الأنام للبناء، قال الزجاج: كل ما على الأرض فاسمه بناء، يقال: بنى بناء، وكل شيء جعلته كالأساس لغيره، ثم وصلته به، فقد بنيته عليه.
و. الماء معروف، وأصله مَوَهٌ، ولذلك يجمع على أمواه، ويصغر على مُوَيْه، ويُحَدُّ الماء بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان، عن علي بن عيسى، وقيل: جوهر وطب يلزمه اعتماد سفلي، والتحديد في مثل هذا باطل؛ لأن الغرض بالتحديد التعريف، وكل شيء يحد به الماء فالماء أعرف وأشهر منه.
ز. الإخراج نقيض الإدخال، خرج يخرج، وأخرجه غيره، وسمي الخراج كذلك؛ لأنه يخرج في كل سنة من مالهم بقدر معلوم، وأصله: الانتقال عن محيط، ثم يستعمل في غيره، فيقال: أخرج الدليل، أظهره، وخرج من الكفر إلى الإيمان.
ح. الثمرة: حمل الشجرة، والثمرات الجمع، أثمرت الشجرة فهي مثمرة إذا حملت الثمرة.
ط. النِّدُّ: المِثْلُ، وقيل: الضد، عن أبي عبيدة، وقيل: حقيقة المثل المُنَاوِئ، كأن أصله من النَدُّ والنِدُّ والنَديدُ والنَدِيدةُ المثل.
2. قيل: نزلت في الفريقين من الكفار والمنافقين، عن ابن عباس، وقيل: في اليهود، وقوله: ﴿تَعْلَمُونَ﴾ يعني: تعلمون أن ذلك في التوراة والإنجيل، عن مجاهد، والأول أصح.
3. ابتدأ اللَّه تعالى بذكر الكتاب، وبين أن الناس فيه على ثلاث فرق: مؤمن به، وكافر، ومنافق، ووصف حال كل واحد، وما أعد لهم، ثم عاد إلى ذكر الحجاج، وبيان الأدلة والدعاء إلى الإسلام، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، وهو عام في كل مكلف، وعن ابن عباس والحسن أن ما في القرآن (يَا أَيُّهَا النَّاس) نزل بمكة، وما فيه من (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْا) نزل بالمدينة، (اعبدوا ربكم) أي تذللوا له، وتقربوا إليه بفعل العبادة، (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي أوجدكم، ولم تكونوا موجودين، (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ) يعني خلق مَنْ قَبْلَكُمْ فَبَيَّنَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ وعلى آبائهم؛ لأن نعمه عليهم لا تتم إلا بنعمه على آبائهم.
4. سؤال وإشكال: ما النعمة في الخلق؟ والجواب: خلقه إياي حيًّا لينفعني مع سلامة الحواس، والصورة الحسنة، والعقل المميز، والتكليف والهداية؛ لتتقوا بعبادته عذاب اللَّه تعالى.
5. سؤال وإشكال: كيف احتج بالخلق، وهم لا يقرون به؟ والجواب: لأن العقل يقتضيه، حيث لم يكونوا فَوُجِدُوا، فلا بد من فاعل؛ إذ الطبع باطل، والنجوم لا تؤثر، وقيل: هو خطاب لمشركي العرب، وكانوا مقرين بالخلق.
6. اختلف في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ :
أ. قيل: يتصل بالخلق أي خلقكم للتقوى والعبادة، كقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
ب. وقيل: يتصل بالعبادة، قيل: اعبدوا للتقوى.
7. ذكر الخلق عند الأمر بالعبادة لأنه بمنزلة العلة في وجوب العبادة لما فيه من النعم، ولأنه لولاه لما صحت العبادة.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿تَتَّقُونَ﴾ :
أ. قيل: تصيرون أتقياء مؤمنين.
ب. وقيل: تتقون معاصيه وعذابه، عن أبي علي.
ج. وقيل: اعبدوا للتقوى، كأن العبادة لطف في اجتناب القبائح.
9. لما ذكر الله تعالى الاحتجاج على الكفار بدأ بأنفسهم منبهًا على ما فيها من عجيب خلقه ولطيف صنعه، ثم عطف عليها بذكر السماء والأرض منبهًا على ما فيه من دليل الوحدانية وآثار الصنعة، والتنبيه على النعمة، فقال تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ يعني: بساطًا ساكنًا دائم السكون ليمكنكم التصرف عليه، (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) يعني سقفًا مرفوعًا مبنيًا.
10. اختلف في الأرض وبسطها وخلقها:
أ. فمنهم من قال: سكونها يدل عليه؛ لأنه مما لا يقدر عليه غيره فهو كالحياة، والأول عن أبي علي.
ب. ومنهم من قال: يجوز أن يكون ذلك فعل ملك عظيم الخلقة، كبير القدرة؛ لأنه في جنسه مقدور لعباده، وعلى هذا تدل على أن اللَّه تعالى بَسَطَهَا، وفي الأول بغير واسطة، عن أبي هاشم.
11. ذكر أبو علي أن قوله: ﴿فِرَاشًا﴾ يدل على أن الأرض مسطحة غير كروية، وهو مذهب جماعة، وجوز أبو هاشم كونها كروية ومسطحة، وأبو القاسم قطع على أنها كروية، وتوقف فيها القاضي.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ :
أ. قيل: من نحو السماء، يعني: من السحاب.
ب. وقيل: من السماء حقيقة.
13. ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ﴾ بالماء ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾، والباء في (به) بمعنى السبب، وهو سبب من طريق العادة لا الوجوب؛ لأنه لو أنزل الماء، ولم يخرج النبات جاز، ولو أخرج النبات من غير ماء جاز، ولا تأثير للماء والأرض والبذر والشمس فيها، إلا أنه تعالى أجرى العادة بذلك مصلحة لعباده.
14. استدلّ بعضهم بقوله: ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ على أنه تعالى يفعل لسبب، واختلفوا:
أ. قال أبو علي: لا يفعل اللَّه لسَبب؛ لأنه يؤذن بالحاجة.
ب. وقال أبو هاشم: يجوز؛ لأن الحاجة ترجع إلى الفعل فهو كالمحل للأعراض.
ج. وذهب أبو هاشم إلى أنه بَنَى الأشياء على طبيعة تخرج منها الأشياء بطبائعها، وهذا عندنا باطل؛ إذ الطبع لا يعقل، والتأثير من غير صانع مُختَارٍ فاسد.
15. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ :
أ. قيل: أي لا تصفوا اللَّه بالمثل والشبيه والضد.
ب. وقيل: لا تجعلوا عبادتكم لغيره فتكونوا قد جعلتم لله أندادًا.
ج. وقيل: هم الكفار يطيعونهم في معصية اللَّه، عن ابن مسعود.
د. وقيل: أراد الأوثان، أي لا تتخذوها آلهة.
16. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ :
أ. قيل: تعلمون أنه المنعم عليكم دون الأوثان، فإنها لا تنفع ولا تضر، فكيف تستحق العبادة وأنتم تعلمون أنه الخالق دون الأوثان، عن ابن عباس.
ب. وقيل: يعلمون أن ذلك في التوراة خاطب به اليهود، عن مجاهد، وقيل: وأنتم تعلمون مصالح دنياكم، فكيف تذهبون عن مصالح دينكم.
17. كان الذنب مع العلم أعظم لوجوه:
أ. منها: أن نعم اللَّه تعالى أعظم.
ب. ولأنه يقترن به التجزي والاستحقاق.
ج. ولأنه يقتدي به غيره فيصير كالشبَه.
18. تدل الآية الكريمة على:
أ. وجوب العبادة لله تعالى.
ب. أن العلة والسبب فيها ما لله عليه من الخلق بهذه الصفة التي معها تصح العبادة.
ج. أنه لا خالق للأجسام سواه، من حيث نبه بقوله: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ ونبه على ما فينا من دلالة على الحدث والافتقار إلى فاعل.
د. أنه أراد التقوى من الجميع؛ لأن تقديره: خلقكم لتتقوا، فيبطل قول الْمُجْبِرَة في الإرادة.
هـ. أن حظ السماء والأرض في النعمة والدلالة على الوحدانية، وفي كونها سببًا للزوم العبادة بمنزلة خلق أنفسنا، لأن أحدًا لا يقدر عليها، كما لا يقدر على الإحياء، فلذلك ذكر خلقها عقيب الأمر بالعبادة.
و. الأرض وبسطها وخلقها وما فيها من الأثمار والأنهار والجبال على إثبات صانع.
ز. السماء ورفعها وسكونها، وما فيها من النجوم السائرة، والأفلاك الدائرة، وما يتصل بها من الليل والنهار على أن لها صانعًا مدبرًا. وتدل الثمرات وإنزال الماء وما تختص به الثمرات من اختلاف الطعوم والروائح والألوان والهيئات على صانع مخالف لنا.
ح. قوله: ﴿رِزْقًا لَكُمْ﴾ على أنه خلق جميع ذلك لعباده.
19. مسائل نحوية:
أ. الناس صفة لـ (أي) كما توصف المبهمة بالأجناس، وقال الأخفش: الأقيس أن يكون الناس صفة لـ (أي)، وأنكر ذلك أكثر النحويين، وأجاز المازني وجه النصب في صفة أي قياسا على جوازه في صفة هذا، فقال: يجوز يا أيها الرجلَ أقبل، ولم يسمع ذلك من العرب، ولا وافقه على إجازته أحد.
ب. معنى (لعل) هنا وأصله الشك فيه ثلاثة أوجه:
• الأول قيل: بمعنى لام (كي)، أي لتتقوا، عن قطرب وأبي علي.
• الثاني: عن شك المخاطبين، كأنه قيل: افعلوا على الرجاء والطمع، أي تتقوا، عن سيبويه وأبي مسلم.
• الثالث: افعلوا ذلك متعرضين للتقوى، عن أبي بكر أحمد بن علي، وقد قال سيبويه وغيره: لعل وعسى حرفا شك، وهما من اللَّه واجب.
ج. (الذي): موضعه نصب؛ لأنه من صفة الرب، تقديره: اعبدوا ربكم الذي جعل لكم.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/279.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الخلق: الفعل على تقدير، وخلق السماوات: فعلها على تقدير ما تدعو إليه الحكمة، من غير زيادة ونقصان.. والخلق: الطبع، والخليقة: الطبيعة، والخلاق: النصيب.
ب. الجعل، والخلق، والإحداث، نظائر.
ج. الأرض: هي المعروفة، والأرض: قوائم الدابة، ومنه قول الشاعر: واحمر كالديباج، أما سماؤه... فريا، وأما أرضه فمحول والأرض: الرعدة، وفي كلام ابن عباس: (أزلزلت الأرض أم بي أرض!) والفراش والبساط والمهاد نظائر.
د. سمي السماء سماء لعلوها على الأرض، وكل شيء كان فوق شيء، فهو لما تحته سماء.. وسما فلان لفلان: إذا قصد نحوه عاليا عليه، قال الفرزدق:
سمونا لنجران اليمان، وأهله... ونجران أرض لم تدبث مقاوله
هـ. بناء: قال الزجاج: كل ما علا الأرض فهو بناء.
و. الماء: أصله موه، وجمعه أمواه، وتصغيره مويه، وأنزل من السماء أي: من ناحية السماء، قال الشاعر: (أمنك البرق أرقبه فهاجا) أي: من ناحيتك.
ز. الند: المثل، والعدل، قال حسان بن ثابت:
أتهجوه، ولست له بند... فشركما لخيركما الفداء
وقال جرير:
أتيما تجعلون إلي ندا... وما تيم لذي حسب نديد
وقيل: الند الضد.
2. هذا الخطاب متوجه إلى جميع الناس، مؤمنهم وكافرهم، إلا من ليس بمكلف من الأطفال والمجانين.. وروي عن ابن عباس والحسن أن ما في القرآن من ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فإنه نزل بمكة، وما فيه من ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنه نزل بالمدينة.
3. ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ أي: تقربوا إليه بفعل العبادة، وعن ابن عباس أنه قال: معناه وحدوه، ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ : أي أوجدكم بعد أن لم تكونوا موجودين، وأوجد من تقدم زمانكم من الخلائق والبشر.
4. بين سبحانه نعمه عليهم، وعلى آبائهم، لأن نعمه عليهم لا تتم إلا بنعمه على آبائهم.
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ :
أ. قيل: أي: خلقكم لتتقوه وتعبدوه كقوله تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
ب. وقيل: معناه اعبدوه لتتقوا.
ج. وقيل: معناه لعلكم تتقون الحرمات بينكم، وتكفون عما حرم الله، وهذا كما يقول القائل: اقبل قولي لعلك ترشد، فليس أنه من ذلك على شك، وإنما يريد اقبله ترشد، وإنما أدخل الكلام (لعل) ترقيقا للموعظة، وتقريبا لها من قلب الموعوظ، ويقول القائل لأجيره: اعمل لعلك تأخذ الأجرة، وليس يريد بذلك الشك، وإنما يريد لتأخذ أجرتك، ومثله قول الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا... نكف، ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب، كانت عهودكم... كلمح سراب في الملا متألق
أراد: قلتم لنا كفوا لنكف، لأنه لو كان شاكا لما قال (وثقتم كل موثق)
د. وقال سيبويه: إنما وردت لفظة (لعل) على أنه ترج للمخاطبين، كما قال ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ وأراد بذلك الإبهام على موسى وهارون، فكأنه قال اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما والله عز وجل من وراء ذلك، وعالم بما يؤول إليه أمر فرعون.
هـ. وقيل: فائدة إيراد لفظة (لعل) هي أن لا يحل العبد أبدا محل الامن المدل بعمله، بل يزداد حالا بعد حال، حرصا على العمل، وحذرا من تركه، وأكثر ما جاءت لفظة ﴿لَعَلَّ﴾ وغيرها من معاني الشك، فيما يتعلق بالآخرة في دار الدنيا، فإذا ذكرت الآخرة مفردة، جاء اليقين.
و. وقيل: معناه لعلكم توقون النار في ظنكم ورجائكم، وأجرى (لعل) على عباده دون نفسه، وهذا قريب مما قاله سيبويه.
6. معنى هذه الآية يتعلق بما قبلها، لأنه تعالى أمرهم بعبادته، والاعتراف بنعمته، ثم عدد لهم صنوف نعمه ليستدلوا بذلك على وجوب عبادته، فإن العبادة إنما تجب لأجل النعم المخصوصة، فقال سبحانه: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ أي: بساطا يمكنكم أن تستقروا عليها، وتفترشوها، وتتصرفوا فها، وذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون.
7. ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ أي: سقفا مرفوعا مبنيا ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ﴾ نحو ﴿السَّمَاءِ﴾ أي: من السحاب ﴿مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ﴾ أي: بالماء ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ أي: عطاء لكم، وملكا لكم، وغذاء لكم، وهذا تنبيه على أنه هو الذي خلقهم، والذي رزقهم، دون من جعلوه ندا له من الأوثان.
8. ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندا مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم به بقوله ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾
9. قوله ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يحتمل وجوها:
أ. أحدها: أن يريد أنكم تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها، لم تنعم عليكم بهذه النعم التي عددناها، ولا بأمثالها، وأنها لا تضر ولا تنفع.
ب. ثانيها: أن يريد أنكم تعقلون وتميزون، ومن كان بهذه الصفة فقد استوفى شرائط التكليف، ولزمته الحجة، وضاق عذره في التخلف عن النظر، وإصابة الحق.
ج. ثالثها: ما قاله مجاهد وغيره: إن المراد بذلك أهل التوراة والإنجيل دون غيرهم أي: تعلمون ذلك في الكتابين.
10. قال الشريف الأجل المرتضى: استدلّ أبو علي الجبائي بقوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ وفي آية أخرى ﴿بِسَاطًا﴾ على بطلان ما يقوله المنجمون من أن الأرض كروية الشكل، قال: وهذا القدر لا يدل لأنه يكفي من النعمة علينا أن يكون في الأرض بسائط، ومواضع مفروشة، ومسطوحة، وليس يجب أن يكون جميعها كذلك.. ومعلوم ضرورة أن جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا، وإن كان مواضع التصرف فيها بهذه الصفة، والمنجمون لا يدفعون أن يكون في الأرض سطوح يتصرف فيها، ويستقر عليها، وإنما يذهبون إلى أن جملتها كروية الشكل.
11. مسائل نحوية:
أ. يا: حرف النداء، وأي: اسم مبهم يقع على أجناس كثيرة، لأنه إنما يتم بأن يوصف، وصفته تكون باسم الجنس لأنه لما كان لا يتم إلا بصفة، وهي لفظة دالة على ما دل أي عليه، مخصصة له، وكان التخصيص في الإشارة يقع بالجنس، ثم بالوصف، وصف بأسماء الأجناس كالناس في قوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ .. فأي: منادى مفرد معرفة مبني، لأنه وقع موقع حرف الخطاب، وهو الكاف.. وإنما بني على الحركة مع أن الأصل في البناء السكون، ليعلم أنه ليس بعريق في البناء، والبناء عارض فيه، وإنما حرك بالضم لأنه كان في أصله التنوين، فلما سقط التنوين في البناء أشبه قبل وبعد الذي قطع عنه الغاية، فارتفع، وقد ذكر فيه وجوه أخر توجد في مظانها.
ب. ﴿النَّاسِ﴾ : مرفوع لأنه صفة لأي، فتبعه على حركة لفظه.. ولا يجوز هنا النصب، وإن كانت الأسماء المناديات المفردة المعرفة يجوز في صفاتها النصب والرفع، لأن هنا الصفة هو المنادى في الحقيقة، وأي وصلة إليه، ويدل على ذلك لزوم ها وهو حرف التنبيه، قبل الناس وثباتها، وامتناعهم من حذفها، فصار ذلك كالإيذان باستئناف نداء، والعلم لأن لا يجوز الاقتصار على المنادى قبله، كما جاز في سائر المناديات.. وأجاز المازني في يا أيها الرجل النصب، وذلك فاسد لما ذكرناه، ولأنه لا مجاز لذلك في كلام العرب، ولم يرو عنها غير الرفع.
ج. ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ : في موضع نصب، لأنه عطف على الكاف والميم في قوله (خلقكم) وهو مفعول به.. و ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ : صلة ﴿الَّذِينَ﴾ .
د. ﴿لَعَلَّ﴾ : حرف ناصب من أخوات إن.. وكم: في موضع نصب بكونه اسم (لعل)، و ﴿تَتَّقُونَ﴾ : جملة في موضع الرفع بأنه خبره.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/156.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ . اختلف العلماء فيمن عنى بهذا الخطاب على أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه عامّ في جميع الناس، وهو قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنه خطاب لليهود دون غيرهم، قاله الحسن ومجاهد.
ج. الثالث: أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم، قاله السّدّيّ.
د. الرابع: أنه خطاب للمنافقين واليهود، قاله مقاتل.
2. ﴿النَّاسِ﴾ اسم للحيوان الآدمي وسموا بذلك:
أ. لتحرّكهم في مراداتهم، والنوس: الحركة.
ب. وقيل: سمّوا ناسا لما يعتريهم من النسيان.
3. في المراد بالعبادة ها هنا قولان:
أ. أحدهما: التوحيد.
ب. الثاني: الطاعة، رويا عن ابن عباس.
4. لأنه أبلغ في التذكير، وأقطع للجحد، وأحوط في الحجّة.
5. الخلق: الإيجاد. وإنما ذكر من قبلهم، لأنه:
أ. قيل: لأنه أبلغ في التذكير، وأقطع للجحد، وأحوط في الحجة.
ب. وقيل: إنما ذكر من قبلهم، لينبّههم على الاعتبار بأحوالهم في إثابة مطيع، ومعاقبة عاص.
6. في ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ قولان:
أ. قال ابن عباس: لعلّكم تتقون الشرك.
ب. وقال الضّحّاك: لعلّكم تتقون النار.
ج. وقال مجاهد: لعلّكم تطيعون.
7. في (لعل) قولان:
أ. أحدهما: أنها بمعنى كي، وأنشدوا في ذلك:
وقلتم لنا كفّوا الحروب لعلّنا... نكفّ ووثّقتم لنا كلّ موثق
فلمّا كففنا الحرب كانت عهودكم... كلمع سراب في الملا متألّق
يريد: لكي نكفّ، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل وقطرب وابن كيسان.
ب. الثاني: أنها بمعنى التّرجّي، ومعناها: اعبدوا الله راجين للتقوى، ولأن تقوا أنفسكم ـ بالعبادة ـ عذاب ربكم، وهذا قول سيبويه.
8. إنّما سمّيت الأرض أرضا:
أ. قيل: لسعتها، من قولهم: أرضت القرحة: إذا اتسعت
ب. وقيل: لانحطاطها عن السّماء، وكل ما سفل: أرض.
ج. وقيل: لأن الناس يرضّونها بأقدامهم.
9. سمّيت السماء سماء لعلوّها. قال الزّجّاج: وكل ما علا على الأرض فاسمه بناء، وقال ابن عباس: البناء ها هنا بمعنى السّقف.
10. قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾، يعني: من السحاب، ﴿مَاءٍ﴾ يعني المطر.
11. ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾، يعني: شركاء، أمثالا. يقال: هذا ندّ هذا، ونديده.
12. فيما أريد بالأنداد ها هنا قولان:
أ. أحدهما: الأصنام، قاله ابن زيد.
ب. الثاني: رجال كانوا يطيعونهم في معصية الله، قاله السّدّيّ.
13. في قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ستة أقوال:
أ. أحدها: وأنتم تعلمون أنه خلق السماء، وأنزل الماء، وفعل ما شرحه في هذه الآيات، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس وقتادة ومقاتل.
ب. الثاني: وأنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابكم التوراة والإنجيل، روي عن ابن عباس أيضا، وهو يخرج على قول من قال الخطاب لأهل الكتاب.
ج. الثالث: وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له، قاله مجاهد.
د. الرابع: أن العلم ها هنا بمعنى العقل، قاله ابن قتيبة.
هـ. الخامس: وأنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه.
و. السادس: وأنتم تعلمون أنها حجارة.
__________
(1) زاد المسير: 1/43.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما قدّم الله تعالى أحكام الفرق الثلاثة، أعني المؤمنين والكفار والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب، وهو من باب الالتفات المذكور في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
2. في ذلك فوائد كثيرة، منها:
أ. أن فيه مزيد هز وتحريك من السامع كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث: إن فلاناً من قصته كيت وكيت، ثم تخاطب ذلك الثالث فقلت: يا فلان من حقك أن تسلك الطريقة الحميدة في مجاري أمورك، فهذا الانتقال من الغيبة إلى الحضور يوجب مزيد تحريك لذلك الثالث.
ب. كأنه سبحانه وتعالى يقول: جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولًا، ثم الآن أزيد في إكرامك وتقريبك، فأخاطبك من غير واسطة، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة، شرف المخاطبة والمكالمة.
ج. أنه مشعر بأن العبد إذا كان مشتغلًا بالعبودية فإنه يكون أبداً في الترقي، بدليل أنه في هذه الآية، انتقل من الغيبة إلى الحضور.
د. أن الآيات المتقدمة كانت في حكاية أحوالهم، وأما هذه الآيات فإنها أمر وتكليف، ففيه كلفة ومشقة فلا بد من راحة تقابل هذه الكلفة، وتلك الراحة هي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته، كما أن العبد إذا ألزم تكليفاً شاقاً فلو شافهه المولى وقال: أريد منك أن تفعل كذا فإنه يصير ذلك الشاق لذيذاً لأجل ذلك الخطاب.
3. (ياء) حرف وضع في أصله لنداء البعيد، وإن كان لنداء القريب، لكن لسبب أمر مهم جداً، وأما نداء القريب فله: أي والهمزة، ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب تنزيلًا له منزلة البعيد.
4. إن قيل: فلم يقول الداعي يا رب يا الله وهو أقرب إليه من حبل الوريد، قلنا هو استبعاد لنفسه من مظان الزلفى، وما يقربه إلى منازل المقربين هضماً لنفسه وإقراراً عليها بالتنقيص حتى يتحقق الإجابة بمقتضى قوله: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي)، أو لأجل أن إجابة الدعاء من أهم المهمات للداعي.
5. (أي) وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام، كما أن (ذو) و(الذي) وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل، وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهامه، فلا بد وأن يردفه اسم جنس، أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء فالذي يعمل فيه حرف النداء هو أي والاسم التابع له صفة، كقولك يا زيد الظريف إلا أن أيا لا يستقل بنفسه استقلال زيد فلم ينفك عن الصفة وموصوفها.
6. أما كلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها ففيها فائدتان:
أ. الأولى: معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه.
ب. الثانية: وقوعها عوضاً مما يستحقه أي من الإضافة.
5. إنما كثر في كتاب الله تعالى النداء على هذه الطريقة لاستقلاله بهذه التأكيدات والمبالغات، فإن كل ما نادى الله تعالى به عباده من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، واقتصاص أخبار المتقدمين بأمور عظام، وأشياء يجب على المستمعين أن يتيقظوا لها مع أنهم غافلون عنها، فلهذا وجب أن ينادوا بالأبلغ الآكد.
7. حكي عن علقمة والحسن أنه قال كل شيء في القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فإنه مكي، وما كان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فبالمدينة، قال القاضي: هذا الذي ذكروه إن كان الرجوع فيه إلى النقل فمسلم، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فهذا ضعيف، لأنه يجوز أن يخاطب المؤمنين مرة بصفتهم، ومرة باسم جنسهم، وقد يؤمر من ليس بمؤمن بالعبادة، كما يؤمر المؤمن بالاستمرار على العبادة والازدياد منها، فالخطاب في الجميع ممكن.
8. الألفاظ في الأغلب عبارات دالة على أمور هي: إما الألفاظ أو غيرها، أما الألفاظ فهي: كالاسم والفعل والحرف، فإن هذه الألفاظ الثلاثة يدل كل واحد منها على شيء، هو في نفسه لفظ مخصوص، وغير الألفاظ: فكالحجر والسماء والأرض، ولفظ النداء لم يجعل دليلًا على شيء آخر، بل هو لفظ يجري مجرى عمل يعمله عامل لأجل التنبيه، أما الذين فسروا قولنا: يا زيد) بأنادي زيداً، أو أخاطب زيداً فهو خطأ من وجوه:
أ. أن قولنا. أنادي زيداً، خبر يحتمل التصديق والتكذيب، وقولنا يا زيد، لا يحتملها.
ب. أن قولنا يا زيد، يقتضي صيرورة زيد منادى في الحال، وقولنا أنادي زيداً، لا يقتضي ذلك.
ج. أن قولنا يا زيد يقتضي صيرورة زيد مخاطباً بهذا الخطاب وقولنا أنادي زيداً لا يقتضي ذلك لأنه لا يمتنع أنه يخبر إنساناً آخر بأني أنادي زيداً
د. أن قولنا أنادي زيداً، إخبار عن النداء، والإخبار عن النداء غير النداء، والنداء هو قولنا: يا زيد، فإذن قولنا: أنادي زيداً، غير قولنا يا زيد
فثبت بهذه الوجوه فساد هذا القول.
9. قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ يقتضي أن الله تعالى أمر كل الناس بالعبادة فلو خرج البعض عن هذا الخطاب لكان ذلك تخصيصاً للعموم.
10. الأصح في لفظ الجمع المعرف بلام التعريف أنه يفيد العموم، لأنه يصح تأكيده بما يفيد العموم كقوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر: 15] ولو لم يكن اللفظ في أصله للعموم لما كان قوله: ﴿كُلُّهُمْ﴾ تأكيداً بل بياناً ولأنه يصح استثناء كل واحد من الناس عنه والاستثناء يخرج ما لولاه لدخل فوجب أن يفيد العموم وتمام تقريره في أصول الفقه.
11. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ يتناول جميع الناس الذين كانوا موجودين في ذلك العصر، لكنه لا يتناول الذين سيوجدون بعد ذلك، لأن:
أ. قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ : خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز.
ب. وأيضاً فالذين سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في تلك الحالة، وما لا يكون موجوداً لا يكون إنساناً وما لا يكون إنساناً لا يدخل تحت قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾
4. إن قيل: فوجب أن لا يتناول شيء من هذه الخطابات الذين وجدوا بعد ذلك الزمان وأنه باطل قطعاً، الجواب: لو لم يوجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك إلا أنا عرفنا بالتواتر من دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تلك الخطابات ثابتة في حق من سيوجد بعد ذلك إلى قيام الساعة، فلهذه الدلالة المنفصلة حكمنا بالعموم.
12. قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ أمر للكل بالعبادة فهل يفيد أمر الكل بكل عبادة؟ الجواب:
أ. الحق لا، لأن قوله اعبدوا معناه ادخلوا هذه الماهية في الوجود، فإذا أتوا بفرد من أفراد الماهية في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية لأن هذه العبادة عبارة عن العبادة مع قيد كونها هذه ومتى وجد المركب فقد وجد قيداه، فالآتي بفرد من أفراد العبادة آت بالعبادة، والآتي بالعبادة آت بتمام ما اقتضاه قوله: ﴿اعْبُدُوا﴾ وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة.
ب. إن أردنا أن نجعله دالًا على العموم نقول: الأمر بالعبادة لا بد وأن يكون لأجل كونها عبادة لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف، لا سيما إذا كان الوصف مناسباً للحكم، وهاهنا كون العبادة عبادة يناسب الأمر بها، لما أن العبادة عبارة عن تعظيم الله تعالى وإظهار الخضوع له وكل ذلك مناسب في العقول، وإذا ثبت أن كونه عبادة علة للأمر بها وجب في كل عبادة أن يكون مأموراً بها، لأنه أينما حصلت العلة وجب حصول الحكم لا محالة.
13. ذكر الله تعالى هاهنا خمسة أنواع من الدلائل اثنين من الأنفس وثلاثة من الآفاق:
أ. بدأ أولًا: بقوله: ﴿خَلَقَكُمْ﴾
ب. ثانياً: بالآباء والأمهات، وهو قوله: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾
ج. ثالثاً: بكون الأرض فراشاً.
د. رابعاً: يكون السماء بناء.
هـ. خامساً: بالأمور الحاصلة من مجموع السماء والأرض، وهو قوله: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾
14. لهذا الترتيب أسباب:
أ. الأول: بدأ بالأقرب فالأقرب:
• أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم، فكل ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة، وكان أولى بالذكر، فلهذا السبب قدّم ذكر نفس الإنسان.
• ثم ثناه بآبائه وأمهاته.
• ثم ثلث بالأرض، لأن الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء، والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء.
• إنما قدم ذكر السماء على نزول الماء من السماء وخروج الثمرات بسببه لأن ذلك كالأمر المتولد من السماء والأرض، والأثر متأخر عن المؤثر، فلهذا السبب أخر الله ذكره عن ذكر الأرض والسماء.
ب. الثاني: هو أن خلق المكلفين أحياء قادرين أصل لجميع النعم، وأما خلق الأرض والسماء والماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة، فلا جرم قدم ذكر الأصول على الفروع.
ج. الثالث: أن كل ما في الأرض والسماء من دلائل الصانع فهو حاصل في الإنسان، وقد حصل في الإنسان من الدلائل ما لم يحصل فيهما؟ لأن الإنسان حصل فيه الحياة والقدرة والشهوة والعقل، وكل ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى. فلما كانت وجوه الدلائل له هاهنا أتم كان أولى بالتقديم.
15. معنى الخلق: التقدير والتسوية(2).، واحتجوا فيه بالآية والشعر والاستشهاد:
أ. أما الآية فقوله تعالى: ﴿أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14] أي المقدرين ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: 17] أي تقدرون كذباً ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ﴾ [المائدة: 110] أي تقدر.
ب. أما الشعر فقول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
16. الفائدة في قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ أن العبادة لا تستحق إلا بذلك، فلما ألزم عباده بالعبادة بين ماله ولأجله تلزم العبادة.
17. الفائدة في قوله: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ وخلق الله من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم، من وجهين:
أ. الأول: إن الأمر وإن كان على ما ذكرت ولكن علمهم بأن الله تعالى خلقهم كعلمهم بأنه تعالى خلق من قبلهم لأن طريقة العلم بذلك واحدة.
ب. الثاني: أن من قبلهم كالأصول لهم، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع فكأنه تعالى يذكرهم عظيم إنعامه عليهم، كأنه تعالى يقول: لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين بسبب أني كنت خالقاً لأصولك وآبائك.
18. كلمة لعل للترجي والإشفاق، تقول لعل زيداً يكرمني وقال تعالى: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44]، ﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: 17] ألا ترى إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا﴾ [الشورى: 18]
19. بما أن الترجي والإشفاق لا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة وذلك على الله تعالى محال، لذلك لا بد فيه من التأويل وهو من وجوه:
أ. أحدها: أن معنى (لعل) راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى فقوله: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه، ثم الله تعالى عالم بما يؤول إليه أمره.
ب. ثانيها: أن من عادة الملوك والعظماء أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا لعل وعسى ونحوهما من الكلمات، أو للظفر منهم بالرمزة، أو الابتسامة أو النظرة الحلوة فإذا عثر على شيء من ذلك لم يبق للطالب شك في الفوز بالمطلوب فعلى هذا الطريق ورد لفظ لعل في كلام الله تعالى.
ج. ثالثها: ما قيل أن لعل بمعنى كي، قال صاحب (الكشاف): ولعل لا يكون بمعنى كي، ولكن كلمة لعل للأطماع، والكريم الرحيم إذا أطمع فعلى ما يطمع فيه لا محالة تجري أطماعه مجرى وعده المحتوم، فلهذا السبب قيل لعل في كلام الله تعالى بمعنى كي.
د. رابعها: أنه تعالى فعل بالمكلفين ما لو فعله غيره لاقتضى رجاء حصول المقصود، لأنه تعالى لما أعطاهم القدرة على الخير والشر وخلق لهم العقول الهادية وأزاح أعذارهم، فكل من فعل بغيره ذلك فإنه يرجو منه حصول المقصود، فالمراد من لفظة لعل فعل ما لو فعله غيره لكان موجباً للرجاء.
هـ. خامسها: قال القفال: لعل مأخوذ من تكرر الشيء كقولهم عللا بعد نهل، واللام فيها هي لام التأكيد كاللام التي تدخل في لقد، فأصل لعل عل، لأنهم يقولون علك أن تفعل كذا، أي لعلك، فإذا كانت حقيقته التكرير والتأكيد كان قول القائل: افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك معنا. افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه.
20. لما خلق الله تعالى الأرض، وكانت كالصدف والدرة المودعة فيه آدم وأولاده، ثم علم الله أصناف حاجاتهم فكأنه قال: يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا﴾ [عبس: 25، 26] فانظر يا عبدي أن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة، ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع، ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها سجن، فكيف الحال في الجنة، فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم، لأن الأم تسقيك لوناً واحداً من اللبن، والأرض تطعمك كذا وكذا لوناً من الأطعمة.
21. ثم قال ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ [طه: 55] معناه نردكم إلى هذه الأم، وهذا ليس بوعيد، لأن المرء لا يوعد بأمه، وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض، ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى، ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى، كما كنت في بطن الأم الصغرى، لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة، فضلًا عن أن تكون لك كبيرة، بل كنت مطيعاً لله بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك.
22. لما ذكر الله تعالى الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض والإخراج به من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان، ومن أنواع الثمار رزقاً لبني آدم ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم، ويعرفوا أن شيئاً من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليقها إلا من كان مخالفاً لها في الذات والصفات، وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.
23. أقوى المراتب الاسم، وأضعفها الحرف، فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف، وكذا أعظم الموجودات هو الحق سبحانه وتعالى، وأضعفها البشر ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28] فقالت الملائكة: أي مناسبة بينهما ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: 30] فقيل قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء، فكذا البشر يصلح لخدمة الرب حال النداء والتضرع ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 23] ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]
24. لفظ (الذي) وهو موصول مع صلته، إما أن يكون في محل النصب وصفاً للذي خلقكم أو على المدح والتعظيم، وإما أن يكون رفعاً على الابتداء، وفيه ما في النصب من المدح.
25. (الذي) كلمة موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة، كقولك ذهب الرجل الذي أبوه منطلق، فأبوه منطلق قضية معلومة، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الذي، وهو تحقيق قولهم. إنه مستعمل لوصف المعارف بالجملة.
26. قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً والسماء بناء، وذلك تحقيق قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: 25، الزمر: 38].
27. ذكر الله تعالى هاهنا أنه جعل الأرض فراشاً، ونظيره قوله: ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا﴾ [النمل: 61] وقوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ [الزخرف: 10]
28. كون الأرض فراشاً مشروط بأمور، مع التنبيه إلى أنه ذكر ذلك بحسب المعلومات المتاحة في عصره، والكثير منها صحيح، ولم يزده العلم الحديث إلا صحة:
أ. الشرط الأول: كونها ساكنة، وذلك لأنها لو كانت متحركة لكانت حركتها إما بالاستقامة أو بالاستدارة،(3). ويمكن حمل كلامه على شعورنا بذلك، لا على حقيقة الأمر.
ب. الشرط الثاني: في كون الأرض فراشاً لنا أن لا تكون في غاية الصلابة كالحجر، فإن النوم والمشي عليه مما يؤلم البدن، وأيضاً فلو كانت الأرض من الذهب مثلًا لتعذرت الزراعة عليها، ولا يمكن اتخاذ الأبنية منه لتعذر حفرها وتركيبها كما يراد، وأن لا تكون في غاية اللين، كالماء الذي تغوص فيه الرجل.
ج. الشرط الثالث: أن لا تكون في غاية اللطافة والشفافية فإن الشفاف لا يستقر النور عليه، وما كان كذلك فإنه لا يتسخن من الكواكب والشمس، فكان يبرد جداً، فجعل الله كونه أغبر، ليستقر النور عليه فيتسخن فيصلح أن يكون فراشاً للحيوانات.
د. الشرط الرابع: أن تكون بارزة من الماء، لأن طبع الأرض أن يكون غائصاً في الماء، فكان يجب أن تكون البحار محيطة بالأرض، ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً لنا، فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض جوانبها من الماء كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشاً لنا.
29. من الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشاً أن لا تكون كرة، واستدل بهذه الآية على أن الأرض ليست كرة، وهذا بعيد جداً، لأن الكرة إذا عظمت جداً كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه، والذي يزيده تقريراً أن الجبال أوتاد الأرض، ثم يمكن الاستقرار عليها، فهذا أولى والله أعلم.
30. بث الله تعالى الأرض منافع كثرة، وخصها بصفات تتيح لها تلك المنافع، ومنها:
أ. الأشياء المتولدة فيها من المعادن والنبات والحيوان والآثار العلوية والسفلية لا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى.
ب. أن يتخمر الرطب بها فيحصل التماسك في أبدان المركبات.
ج. اختلاف بقاع الأرض، فمنها أرض رخوة، وصلبة، ورملة، وسبخة، وحرة، وهي قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ [الرعد: 4]، وقال: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف: 58]
د. اختلاف ألوانها فأحمر، وأبيض، وأسود، ورمادي اللون، وأغبر، على ما قال تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ [فاطر: 27].
هـ. انصداعها بالنبات، قال تعالى: ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ [الطارق: 12]
و. كونها خازنة للماء المنزل من السماء، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: 18]، وقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30]
ز. العيون والأنهار العظام التي فيها، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا﴾ [الرعد: 3]
ح. ما فيها من المعادن والفلزات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ [الحجر: 19]، ثم بين بعد ذلك تمام البيان، فقال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: 21]
ط. الخبء الذي تخرجه الأرض من الحب والنوى، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ [الأنعام: 95]، وقال: ﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النمل: 25]، ثم إن الأرض لها طبع الكرم لأنك تدفع إليها حبة واحدة، وهي تردها عليك سبعمائة: ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: 261]
ي. حياتها بعد موتها، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا﴾ [السجدة: 27]، وقال: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ [يس: 33]
ك. ما عليها من الدواب المختلفة الألوان والصور والخلق، وإليه الإشارة بقوله: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ [لقمان: 10]
ل. ما فيها من النبات المختلف ألوانه وأنواعه ومنافعه، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [ق: 7]، فاختلاف ألوانها دلالة، واختلاف طعومها دلالة، واختلاف روائحها دلالة:
• فمنها قوت البشر، ومنها قوت البهائم، كما قال ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾ [طه: 54]، أما مطعوم البشر، فمنها الطعام، ومنها الإدام، ومنها الدواء، ومنها الفاكهة، ومنها الأنواع المختلفة في الحلاوة والحموضة، قال تعالى: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: 10]
• وأيضاً فمنها كسوة البشر، لأن الكسوة إما نباتية، وهي القطن والكتان، وإما حيوانية وهي الشعر والصوف والإبريسم والجلود، وهي من الحيوانات التي بثها الله تعالى في الأرض.
• فالمطعوم من الأرض، والملبوس من الأرض، ثم قال ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى.
• ثم إنه سبحانه وتعالى جعل الأرض ساترة لقبائحك بعد مماتك، فقال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ [المرسلات: 25، 26]، ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ [طه: 55]، ثم إنه سبحانه وتعالى جمع هذه المنافع العظيمة للسماء والأرض فقال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجاثية: 13]
م. ما فيها من الأحجار المختلفة، ففي صغارها ما يصلح للزينة فتجعل فصوصها للخواتم وفي كبارها ما يتخذ للأبنية، فانظر إلى الحجر الذي تستخرج النار منه مع كثرته، وانظر إلى الياقوت الأحمر مع عزته، ثم انظر إلى كثرة النفع بذلك الحقير، وقلة النفع بهذا الشريف.
ن. ما أودع الله تعالى فيها من المعادن الشريفة، كالذهب والفضة، ثم تأمل فإن البشر استخرجوا الحرف الدقيقة والصنائع الجليلة واستخرجوا السمكة من قعر البحر، واستنزلوا الطير من أوج الهواء ثم عجزوا عن إيجاد الذهب والفضة، والسبب فيه أنه لا فائدة في وجودهما إلا الثمينة، وهذه الفائدة لا تحصل إلا عند العزة فالقادر على إيجادهما يبطل هذه الحكمة، فلذلك ضرب الله دونهما باباً مسدوداً، إظهاراً لهذه الحكمة وإبقاء لهذه النعمة، ولذلك فإن ما لا مضرة على الخلق فيه مكنهم منه فصاروا متمكنين من اتخاذ الشبه من النحاس، والزجاج من الرمل، وإذا تأمل العاقل في هذه اللطائف والعجائب اضطر في افتقار هذه التدابير إلى صانع حكيم مقتدر عليم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
هـ. كثرة ما يوجد على الجبال والأراضي من الأشجار التي تصلح للبناء، والسقف، ثم الحطب، وما أشد الحاجة إليه في الخبز والطبخ، قد نبه الله تعالى على دلائل الأرض ومنافعها بألفاظ لا يبلغها البلغاء ويعجز عنها الفصحاء فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [الرعد: 3]، وأما الأنهار فمنها العظيمة كالنيل، وسيحون، وجيحون، والفرات، ومنها الصغار، وهي كثيرة وكلها تحمل مياهاً عذبة للسقي والزراعة وسائر الفوائد.
31. ذكر الله تعالى أمر السماوات والأرض في كتابه في مواضع، ولا شك أن إكثار ذكر الله تعالى من ذكر السماوات والأرض يدل على عظم شأنهما، وعلى أن له سبحانه وتعالى فيهما أسراراً عظيمة، وحكماً بالغة لا يصل إليها أفهام الخلق ولا عقولهم.
32. تتجلى فضائل السماء من وجوه:
أ. أن الله تعالى زينها بسبعة أشياء:
• بالمصابيح ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك: 5]
• وبالقمر ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا﴾ [نوح: 16]
• وبالشمس ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [نوح: 16]
• وبالعرش ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129]
• وبالكرسي ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [البقرة: 255]
• وباللوح ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: 22]
• وبالقلم ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ [القلم: 1]
فهذه سبعة: ثلاثة منها ظاهرة، وأربعة خفية: ثبتت بالدلائل السمعية من الآيات والأخبار.
ب. أنه تعالى سمى السموات بأسماء تدل على عظم شأنها: سماء، وسقفاً محفوظاً، وسبعاً طباقاً، وسبعاً شداداً، ثم ذكر عاقبة أمرها فقال: ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ﴾ [المرسلات: 9]، ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾ [التكوير: 11]، ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ﴾ [الأنبياء: 104]، ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ﴾ [المعارج: 8]، ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا﴾ [الطور: 9]، ﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ [الرحمن: 37]، وذكر مبدأها في آيتين فقال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: 11] وقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: 30] فهذا الاستقصاء الشديد في كيفية حدوثهما وفنائهما يدل على أنه سبحانه خلقهما لحكمة بالغة على ما قال ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [ص: 27]
ج. أنه تعالى جعل السماء قبلة الدعاء: فالأيدي ترفع إليها، والوجوه تتوجه نحوها، وهي منزل الأنوار ومحل الصفاء والأضواء والطهارة والعصمة عن الخلل والفساد.
د. قال بعضهم: السماوات والأرضون على صفتين، فالسماوات مؤثرة غير متأثرة، والأرضون متأثرة غير مؤثرة، والمؤثر أشرف من القابل، فلهذا السبب قدم ذكر السماء على الأرض في الأكثر، وأيضاً ففي أكثر الأمر ذكر السموات بلفظ الجمع، والأرض بلفظ الواحد، فإنه لا بد من السموات الكثيرة ليحصل بسببها الاتصالات المختلفة للكواكب وتغير مطارح الشعاعات، وأما الأرض فقابلة فكانت الأرض الواحدة كافية.
هـ. تفكر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير، فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر وتقوية له، حتى أن الأطباء يأمرون من أصابه وجع العين بالنظر إلى الزرقة، فانظر كيف جعل الله تعالى أديم السماء ملوناً بهذا اللون الأزرق، لتنتفع به الأبصار الناظرة إليها، فهو سبحانه وتعالى جعل لونها أنفع الألوان، وهو المستنير وشكلها أفضل الأشكال، وهو المستدير، ولهذا قال: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ [ق: 6] يعني ما فيها من فصول، ولو كانت سقفاً غير محيط بالأرض لكانت الفروج حاصلة.
33. من فضائل السماء التي ذكرها القرآن الكريم الشمس، في طلوعها وغروبها، فلولا ذلك لبطل أمر العالم كله، فكيف كان الناس يسعون في معايشهم:
أ. ثم المنفعة في طلوع الشمس ظاهرة، ولكن تأمل النفع في غروبها:
• فلولا غروبها لم يكن للناس هدو ولا قرار مع احتياجهم إلى الهدو والقرار لتحصيل الراحة وانبعاث القوة الهاضمة وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء على ما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ [يونس: 67]
• وأيضاً فلولا الغروب لكان الحرص يحملهم على المداومة على العمل على ما قال ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ: 10، 11]
• الثالث: أنه لولا الغروب لكانت الأرض تحمى بشروق الشمس عليها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان، ويهلك ما عليها من نبات على ما قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا﴾ [الفرقان: 45]، فصارت الشمس بحكمة الحق سبحانه وتعالى تطلع في وقت وتغيب في وقت، بمنزلة سراج يدفع لأهل بيت بمقدار حاجتهم، ثم يرفع عنهم ليستقروا ويستريحوا فصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم هذا كله في طلوع الشمس وغروبها.
ب. أما ارتفاع الشمس وانحطاطها فقد جعله الله تعالى سبباً لإقامة الفصول الأربعة:
• ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منه مواد الثمار ويلطف الهواء ويكثر السحاب والمطر، ويقوي أبدان الحيوانات بسبب احتقان الحرارة الغريزية في البواطن.
• وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وينور الشجر ويهيج الحيوان للسفاد.
• وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار، وتنحل فضول الأبدان، ويجف وجه الأرض، ويتهيأ للبناء والعمارات.
• وفي الخريف يظهر اليبس والبرد فتنتقل الأبدان قليلًا قليلًا إلى الشتاء، فإنه إن وقع الانتقال دفعة واحدة هلكت الأبدان وفسدت.
ج. أما حركة الشمس فتأمل في منافعها:
• فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد لاشتدت السخونة في ذلك الموضع واشتد البرد في سائر المواضع، لكنها تطلع في أول النهار من المشرق فتقع على ما يحاذيها من وجه المغرب، ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى الغروب فتشرق على الجوانب الشرقية، فلا يبقى موضع مكشوف إلا ويأخذ حظاً من شعاع الشمس.
• وأيضاً كأن الله تعالى يقول لو وقفت في جانب الشرق والغنى قد رفع بناءه على كوة الفقير، فكان لا يصل النور إلى الفقير، لكنه تعالى يقول إن كان الغني منعه نور الشمس فأنا أدير الفلك وأديرها عليه حتى يأخذ الفقير نصيبه.
د. أما منافع ميلها في حركتها عن خط الاستواء:
• فلو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصاً ببقعة واحدة فكان سائر الجوانب يخلو عن المنافع الحاصلة منه، وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال، وكانت القوة هناك لكيفية واحدة، فإن كانت حارة أفنت الرطوبات وأحالتها كلها إلى النارية ولم تتكون المتولدات فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية، وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى وخط متوسط بينهما على كيفية متوسطة فيكون في موضع شتاء دائم يكون فيه الهواء والعجاجة، وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق، وفي موضع آخر ربيع أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم يكن عودات متتالية، وكانت الكواكب تتحرك بطيئاً لكان الميل قليل المنفعة وكان التأثير شديد الإفراط، وكان يعرض قريباً مما لم يكن ميل.
• ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت، فأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة، ثم تنتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة وتبقى في كل جهة برهة من الدهر تم بذلك تأثيره وكثرت منفعته، فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية.
34. من فضائل السماء التي ذكرها القرآن الكريم القمر، وهو المسمى بآية الليل، فالله سبحانه وتعالى جعل طلوعه وغيبته مصلحة، وجعل طلوعه في وقت مصلحة، وغروبه في وقت آخر مصلحة:
• أما غروبه ففيه نفع لمن هرب من عدوه فيستره الليل يخفيه فلا يلحقه طالب فينجو، ولولا الظلام لأدركه العدو، وهو المراد من قول المتنبي:
وكم لظلام الليل عندي من يد... تخبر أن المانوية تكذب
35. سؤال وإشكال: في قوله تعالى ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ سؤال وإشكال: ذلك أنه يقتضي نزول المطر من السماء وليس الأمر كذلك فإن الأمطار إنما تتولد من أبخرة ترتفع من الأرض وتتصاعد إلى الطبقة الباردة من الهواء فتجتمع هناك بسبب البرد وتنزل بعد اجتماعها وذلك هو المطر، والجواب: من وجوه:
أ. أحدها: أن السماء إنما سميت سماء لسموها فكل ما سماك فهو سماء فإذا نزل من السحاب فقد نزل من السماء.
ب. وثانيها: أن المحرك لإثارة تلك الأجزاء الرطبة من عمق الأرض الأجزاء الرطبة ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾
ج. وثالثها: أن قول الله هو الصدق وقد أخبر أنه تعالى ينزل المطر من السماء، فإذا علمنا أنه مع ذلك ينزل من السحاب فيجب أن يقال ينزل من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض.
36. الله تعالى هو الخالق لهذه الثمرات إمّا:
أ. عقيب وصول الماء إليها بمجرى العادة.
ب. أو إن الله تعالى خلق في الماء طبيعة مؤثرة، وفي الأرض طبيعة قابلة، فإذا اجتمعا حصل الأثر من تلك القوة التي خلقها الله تعالى
وعلى كلا القولين لا بد من الصانع الحكيم.
37. لا شك أنه تعالى قادر على خلق هذه الثمار ابتداء من غير هذه الوسائط لأن الثمرة لا معنى لها إلا جسم قام به طعم ولون ورائحة ورطوبة، والجسم قابل لهذه الصفات، وهذه الصفات مقدورة لله تعالى ابتداء لأن المصحح للمقدورية إما الحدوث، أو الإمكان، وإما هما وعلى التقديرات فإنه يلزم أن يكون الله تعالى قادراً على خلق هذه الأعراض في الجسم ابتداء بدون هذه الوسائط.
38. مما يؤكد هذا الدليل العقلي من الدلائل النقلية ما ورد الخبر بأنه تعالى يخترع نعيم أهل الجنة للمثابين من غير هذه الوسائط، إلا أنا نقول قدرته على خلقها ابتداء لا تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام، وظاهر قول المتأخرين من المتكلمين إنكار ذلك ولا بد فيه من دليل.
39. مع كون الله تعالى قادراً على خلق هذه الثمار بدون هذه الوسائط، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لكن مع ذلك له حكم في خلقها بهذه الوسائط في هذه المدة الطويلة، ومنها:
أ. أنه تعالى إنما أجرى العادة بأن لا يفعل ذلك إلا على ترتيب وتدريج، لأن المكلفين إذا تحلوا المشقة في الحرث والغرس طلباً للثمرات وكدوا أنفسهم في ذلك حالًا بعد حال علموا أنهم لما احتاجوا إلى تحمل هذه المشاق لطلب هذه المنافع الدنيوية، فلأن يتحملوا مشاق أقل من المشاق الدنيوية لطلب المنافع الأخروية التي هي أعظم من المنافع الدنيوية كان أولى، وصار هذا كما أنه تعالى قادر على خلق الشفاء من غير تناول الدواء لكنه أجرى عادته بتوقيفه عليه لأنه إذا تحمل مرارة الأدوية دفعاً لضرر المرض، فلأن يتحمل مشاق التكليف دفعاً لضرر العقاب كان أولى.
ب. أنه تعالى لو خلقها دفعة من غير هذه الوسائط لحصل العلم الضروري بإسنادها إلى القادر الحكيم، وذلك كالمنافي للتكليف والابتلاء، أما لو خلقها بهذه الوسائط فحينئذ يفتقر المكلف في إسنادها إلى القادر إلى نظر دقيق، وفكر غامض فيستوجب الثواب، ولهذا قيل: لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب.
ج. أنه ربما كان للملائكة ولأهل الاستبصار عبر في ذلك وأفكار صائبة.
40. اختلف في معنى من في قوله تعالى: ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ على قولين:
أ. أحدهما: التبعيض لأن المنكرين أعني ماء ورزقاً يكتنفانه وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية فكأنه قيل وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم.
ب. الثاني: أن يكون للبيان كقولك أنفقت من الدراهم إنفاقاً.
41. انتصبت رزقاً لأن:
أ. إن كان من للتبعيض كان انتصابه بأنه مفعول له.
ب. وإن كانت مبينة كان مفعولًا لأخرج.
42. سؤال: الثمر المخرج بماء السماء كثير، فلم قيل الثمرات دون الثمر أو الثمار؟ الجواب: تنبيهاً على قلة ثمار الدنيا وإشعاراً بتعظيم أمر الآخرة.
43. اختلف في تعلق قوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا﴾ على ثلاثة أوجه:
أ. أن يتعلق بالأمر، أي اعبدوا فلا تجعلوا لله أنداداً فإن أصل العبادة وأساسها التوحيد.
ب. بلعل، والمعنى خلقكم لكي تنقوا وتخافوا عقابه فلا تثبتوا له نداً فإنه من أعظم موجبات العقاب.
ج. بقوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ أي هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شركاء.
44. الند: المثل المنازع وناددت الرجل نافرته من ند ندوداً إذا نفر كأن كل واحد من الندين يناد صاحبه أي ينافره ويعانده.
45. معنى ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ : إنكم لكمال عقولكم تعلمون أن هذه الأشياء لا يصح جعلها أنداداً لله تعالى، فلا تقولوا ذلك فإن القول القبيح ممن علم قبحه يكون أقبح.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/336.
(2) حكاه عن الأزهري صاحب (التهذيب) عن ابن الأنباري.
(3) ثمّ فصل في ذلك بحسب ما كان عليه العلم في عصره، ولا حاجة لذكر ما ذكره هنا، ولمن شاء أن يطلع عليه يجده هنا: تفسير الفخر الرازي: 2/337.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ قال علقمة ومجاهد: كل آية أولها ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فإنما نزلت بمكة، وكل آية أولها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنما نزلت بالمدينة، وهذا يرده أن هذه السورة والنساء مدنيتان وفيهما ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾
2. أما قولهما في ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [النساء: 19] فصحيح، وقال عروة بن الزبير: ما كان من حد أو فريضة فإنه نزل بالمدينة، وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه نزل بمكة، وهذا واضح.
3. اختلف من المراد بالناس هنا على قولين:
أ. أحدهما: الكفار الذين لم يعبدوه، يدل عليه قوله ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ [البقرة: 23]
ب. الثاني أنه عام في جميع الناس، فيكون خطابه للمؤمنين باستدامة العبادة، وللكافرين بابتدائها، وهذا حسن.
4. قوله تعالى: ﴿اعْبُدُوا﴾ أمر بالعبادة له، والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه.. وأصل العبادة الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبده إذا كانت موطوءة بالاقدام، قال طرفة: وظيفا وظيفا فوق مور معبد.. والعبادة: الطاعة. والتعبد: التنسك. وعبدت فلانا: اتخذته عبدا.
5. قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ خص تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته:
أ. إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها، فذكر ذلك حجة عليهم وتقريعا لهم.
ب. وقيل: ليذكرهم بذلك نعمته عليهم.
6. في أصل الخلق وجهان:
أ. أحدهما: التقدير، يقال: خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته قبل القطع، قال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ... ـض القوم يخلق ثم لا يفري
وقال الحجاج: ما خلقت إلا فريت، ولا وعدت إلا وفيت.
ب. الثاني: الإنشاء والاختراع والإبداع، قال الله تعالى: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: 17]
7. قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لان من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي، وهذا وما كان مثله فيما ورد في كلام الله تعالى من قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ فيه ثلاث تأويلات:
أ. الأول: أن (لعل) على بابها من الترجي والتوقع، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر، فكأنه قيل لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع أن تعقلوا وأن تذكروا وأن تتقوا، هذا قول سيبويه ورؤساء اللسان، قال سيبويه في قوله عز وجل: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44 43] قال معناه: اذهبا على طمعكما ورجائكما أن يتذكر أو يخشى، واختار هذا القول أبو المعالي.
ب. الثاني أن العرب استعملت (لعل) مجردة من الشك بمعنى لام كي، فالمعنى لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا، وعلى ذلك يدل قول الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا... نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم... كلمع سراب في الملا متألق
والمعنى: كفوا الحروب لنكف، ولو كانت (لعل) هنا شكا لم يوثقوا لهم كل موثق، وهذا القول عن قطرب والطبري.
ج. الثالث أن تكون (لعل) بمعنى التعرض للشيء، كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرضين لأن تعقلوا، أو لأن تذكروا أو لأن تتقوا.
المعنى في قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم الله به وقاية بينكم وبين النار، وهذا من قول العرب: اتقاه بحقه إذا استقبله به، فكأنه جعل دفعه حقه إليه وقاية له من المطالبة، ومنه قول علي رضي الله عنه: كنا إذا احمر البأس اتقينا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي جعلناه وقاية لنا من العدو، وقال عنترة:
ولقد كررت المهر يدمى نحره... حتى اتقتني الخيل بابني حذيم
8. قال علماء الصوفية: أعلم الله عز وجل في هذه الآية سبيل الفقر، وهو أن تجعل الأرض وطاء والسماء غطاء، والماء طيبا والكلأ طعاما، ولا تعبد أحدا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لأبد لك منه، من غير منة فيه لاحد عليك.
9. قال نوف البكالي: رأيت علي بن أبي طالب خرج فنظر إلى النجوم فقال: يا نوف، أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق يا أمير المؤمنين، قال طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن والدعاء دثارا وشعارا، فرفضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام.
10. قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ معناه هنا صير لتعديه إلى مفعولين:
أ. ويأتي بمعنى خلق، ومنه قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ﴾ [المائدة: 103]، وقوله: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الانعام: 1]
ب. ويأتي بمعنى سمى، ومنه قوله تعالى: ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: 3 1]، وقوله: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ [الزخرف: 15]، وقوله: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ [الزخرف: 19] أي سموهم.
11. قوله تعالى: ﴿فِرَاشًا﴾ : أي وطاء يفترشونها ويستقرون عليها، وما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها، لان الجبال كالأوتاد كما قال ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ [النبأ: 7 6]، والبحار تركب إلى سائر منافعها كما قال: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ [البقرة: 164]
12. بناء على هذه الآية الكريمة ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لو حلف رجل ألا يبيت على فراش أو لا يستسرج بسراج فبات على الأرض وجلس في الشمس لم يحنث، لان اللفظ لا يرجع إليهما عرفا.
13. الثمرات جمع ثمرة، ويقال: ثمر مثل شجر، ويقال ثمر مثل خشب، ويقال: ثمر مثل بدن، وثمار مثل إكام جمع ثمر، وثمار السياط: عقد أطرافها.
14. المعنى في الآية أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات، وأنواعا من النبات ﴿رِزْقًا﴾ طعاما لكم، وعلفا لدوابكم، وقد بين هذا قوله تعالى: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ ) [عبس: 32 25]
15. أطلق الله تعالى اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك، لأنها معدة لان تملك ويصح بها الانتفاع، فهي رزق.
16. دلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق، ولهذا قال صلّى الله عليه وآله وسلّم مشيرا إلى هذا المعنى: والله لان يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه)، أخرجه مسلم، ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الاشغال من الصنائع وغيرها، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله ندا.
17. قوله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا﴾ نهى ﴿لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ أي أكفاء وأمثالا ونظراء، واحدها ند، قال الشاعر:
نحمد الله ولا ند له... عنده الخير وما شاء فعل
وقال حسان:
أتهجوه ولست له بند... فشركما لخيركما الفداء
ويقال: ند ونديد ونديدة على المبالغة، قال لبيد:
ليكلا يكون السندري نديدتي... وأجعل أقواما عموما عماعما
وقال أبو عبيدة (أندادا) أضدادا، النحاس: (أندادا) مفعول أول، و(لله) في موضع الثاني. الجوهري: والند (بفتح النون): التل المرتفع في السماء. والند من الطيب ليس بعربي. وند البعير يند ندا وندادا وندودا: نفر وذهب على وجهه، ومنه قرأ بعضهم (يوم التناد). وندد به أي شهره وسمع به.
18. قوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ابتداء وخبر، والجملة في موضع الحال، والخطاب للكافرين والمنافقين، عن ابن عباس.. وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الختم والطبع والصمم والعمى لوجهين:
أ. أحدهما ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق، فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الأنداد.
ب. الثاني أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم، والله أعلم، وفي هذا دليل على الامر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.
19. قال ابن فورك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/226.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين والكافرين والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتا للنكتة السابقة في الفاتحة.
2. إنما خصّ نعمة الخلق وامتنّ بها عليهم:
أ. لأن جميع النعم مترتبة عليها، وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها.
ب. وأيضا فالكفار مقرّون بأن الله هو الخالق ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ فامتنّ عليهم بما يعترفون به ولا ينكرونه.
3. في أصل معنى الخلق وجهان:
أ. أحدهما التقدير. يقال خلقت الأديم للسقاء: إذا قدّرته قبل القطع. قال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبع... ض القوم يخلق ثمّ لا يفري
4. ﴿فِرَاشًا﴾ أي وطاء يستقرون عليها.
5. لما قدّم نعمة خلقهم أتبعه بنعمة خلق الأرض فراشا لهم، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم.
6. أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾
7. أصل البناء: وضع لبنة على أخرى.
8. ثم امتنّ عليهم بإنزال الماء من السماء، وأصل ماء موه، قلبت الواو لتحركها وانفتاح ما قبلها ألفا فصار ماه، فاجتمع حرفان خفيفان فقلبت الهاء همزة..
9. الثمرات جمع ثمرة، أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات وأنواعا من النبات ليكون ذلك متاعا لكم إلى حين.
10. قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة حالية والخطاب للكفار والمنافقين، وصفهم بالعلم، وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال: ﴿وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، ﴿وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾، ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾، لأن:
أ. المراد أن جهلهم وعدم شعورهم لا يتناول هذا، أي كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد، فإنهم كانوا يعلمون هذا ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية.
ب. قد يقال: المراد وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوّة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم، وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج وترك التقليد.
ج. قال ابن فورك: المراد وتجعلون لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد.
11. حذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد.
12. (لعل) أصلها الترجّي والطمع والتوقع والإشفاق، وذلك مستحيل على الله سبحانه، ولذلك اختلف في تأويلها، فقيل:
أ. لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كانت بمنزلة قوله لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع، وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه.
ب. وقيل: إن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي، والمعنى هنا: لتتقوا، وكذلك ما وقع هذا الموقع، ومنه قول الشاعر:
وقلتم لنا كفّوا الحروب لعلّنا... نكفّ ووثّقتم لنا كلّ موثق
فلمّا كففنا الحرب كانت عهودكم... كشبه سراب في الملا متألّق
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/60.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ لم يقع النداء في القرآن بغير (يا)، وهي الأصل، فما حذف منه حرف النداء مثل: ﴿رَبَّنَا لَا تُوَاخِذْنَآ﴾ [البقرة: 286] و﴿اَيُّهَ الْمُومِنُونَ﴾ [النور: 31] قُدِّر فيه (يا) لِذكرها في غيره ولأصالتها، و﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ مكِّيٌّ، وقَلَّ مدنيًّا كما في هذه السورة و(النساء) و(الحجرات) فإنَّهنَّ مدنيَّات.
2. والنداء هنا وفي ﴿يَآ أَيـُّهَا الاِنسَانُ﴾ ونحوها للتنبيه على ما يصلح، ويأتي للمدح نحو: ﴿يَآ أَيـُّهَا الرَّسُولُ﴾، ﴿يَآ أَيـُّهَا النَّبِيءُ﴾، ﴿يَآ أَيـُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا﴾، وللذمِّ نحو: ﴿قُلْ يَآ أَيـُّهَا الْكَافِرُونَ﴾، وليس منه: ﴿يَآ أَيـُّهَا الَّذِينَ هَادُوا﴾ إلَّا المعنى الذي ادَّعوا أنَّهم تابوا إلى الله، إلَّا أن يُدَّعى خروجه عن معناه الأصليِّ إلى معنى الذين بقوا على اليهوديَّة مع بعثة محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويكون للعتاب كقوله تعالى: ﴿يَآ أَيـُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾، و﴿يَآ أَيـُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ والآيتان للإنشاط والإراحة من ضيق، كالمفاكِهِ لغيره، ويكون لغير ذلك.
3. والخطاب في مثل هذه الآية للموجودين المكلَّفين والآتين بعدُ إلى قيام الساعة، ولو مجانين أو صبيانًا بقيد الإفاقة والبلوغ، وذلك تغليب؛ وقيل: للمكلَّفين الموجودين في مهبط الوحي، وَأَمَّا غيرهم فبالنصِّ أو القياس، أو الإجماع، لا بصيغة النداء ونحوها، وعلى الأوَّل خوطبوا إذا بلغوا أو أفاقوا من زمان الوحي.
4. قال بعضهم: الأصحُّ أنَّ نحو ﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ يشمل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولو قرن بـ (قُلْ)، أو اكتبْ إليهم، أو بلِّغهم، أو نحو ذلك، وقيل: لا يشمله؛ لأنَّه ورد على لسانه للتبليغ لغيره؛ لأنَّه إن كان آمرًا أو مبلِّغًا فلا يكون مأمورًا؛ لأنَّ الواحد بالخطاب الواحد لا يكون آمرًا ومأمورًا أو مبلِّغًا ومُبلَّغًا إليه للضرورة؛ ولأنَّ الآمر أو المبلِّغ طالب والمأمور أو المبلَّغ إليه مطلوب، وإن قيل: قد يكون آمرًا مأمورًا مبلِّغًا مبلَّغًا إليه من جهتين قلت: الآمر أعلى رتبة من المأمور، ولا بدَّ من المغايرة، إلَّا أنَّه لا يشترط أن يكون المبلِّغ أعلى رتبة من المبلَّغ إليه، لكنَّ الخطاب يصل المبلِّغ قبلُ، وقيل: إن قرن بنحو (قُلْ) لم يشمله صلّى الله عليه وآله وسلّم لظهوره في التبليغ، وإلَّا شمله.
5. والأصحُّ أنَّ نحو ﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ﴾ يشمل العبد المكلَّف شرعًا كما يشمله لغة، وعليه الأكثر؛ وقيل: لا يشمله لصرف من معه إلى سيِّده في غير أوقات ضيق العبادات، وشمل الكافر أيضًا؛ لأنَّه مخاطب بفروع الشريعة على الصحيح، وشمل الموجودين وقت النزول، وقيل: يتناول من سيوجد أيضًا، وفيه أنَّه لا يظهر أن يقال للمعدوم: يا فلان، أو نحو ذلك.
6. ﴿اعْبُدُوا رَبكُم﴾ وحِّدوه، لا تجعلوا له شريكًا، أو اعملوا الصالحات واجتنبوا المحرَّمات له، ومن ذلك ترك الأصنام والهوى ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ وتعليق الحكم بالمشتقِّ أو بما بمعناه يؤذن بكونه علَّة، أي اعبدوا الذي هو سيِّدكم أو مربِّيكم، وخَلَقَكم وخَلَق الذين مِن قبلكم، أي اعبدوه لسيادته وملكه وخلقه لكم، فما ليس سيِّدًا لكم ولا مالكًا ولا خالقًا لا يستحقُّ أن يُعبد.
7. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ قال سيبويه: (عسى) في كلامه تعالى للتحقيق، ولا يشكل عليه قوله تعالى: ﴿عَسَى رَبـُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُّـبَدِّلَهُ أزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ﴾ [التحريم: 5]؛ لأنَّ تحقيقَه تبديلَ أزواجٍ خيرٍ معلَّقٌ بالتطليق، والتطليقُ غير واقع، و(لعلَّ) مثل (عسى)، فمعنى الآية: تحقُّق حصول الوقاية عن عقاب الله بالعبادة أو اعبدوه راجين حصول الوقاية، فقد لا تكون العبادة وقاية لخللها أو إبطالها برياء أو ردَّة أو نحوهما؛ أو اعبدوا لتحصِّلوا الوقاية، أو شبَّه طلب التقوى منهم بعد اجتماع أسبابها ودواعيها بالترجِّي في أنَّ متعلِّق كلٍّ منهما مخيَّر بين أن يفعل وأن لا يفعل مع رجحان ما بجانب الفعل فينتقل ذلك إلى كلمة (لعلَّ)، فتكون استعارة تبعيَّة، أو تشبَّه ذواتهم بمن يرجى منه التقوى فيثبت له بعض لوازمه وهو الرجاء، فتكون الاستعارة بالكناية.
8. ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم﴾ في جملة مَن سِوَاكم ﴿الَارْضَ فِراشًا﴾ بساطًا خارجًا عن الماء مع ثقلها ينتفع به، لا صلبًا ضارًّا، ولا رخوًا مغرقًا، وسمَّاها بساطًا ولو قيل: إنَّها كريَّة الشكل؛ لأنَّ الكرة إذا عظمت كان كلُّ قطعة سطحًا، وكانت قبل خلق السماء كريَّة وبعد خلق السماء دُحِيَت أي بُسطت.
9. ﴿والسَّمَآءَ بِنَآءً﴾ من فوقكم كالسقف، كما جاء في آية أخرى أنَّها كسقف للأرض، أو كقبَّة مضروبة على الأرض، والمراد مبنيَّة، وأفردها لإفراد الأرض ولو أريد بها الجنس، وقدَّم الأرض لتقدُّم خلقها، ولأنَّهم فيها، ولأنَّ انتفاعهم بها أكثر، ولأنَّها ما يحتاج إليه بعد الوجود إذ لا بدَّ من مكان يستقرُّ فيه، أو لأنَّها أفضل من السماء لأنَّ الأنبياء منها وفيها، وهذا قول.
10. ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ﴾ أي من جهته، أو من السحاب سمَّاه سماء ﴿مَآءً﴾ والله قادر على أن ينزِّل من السماء إحدى السبع ماء في سرعة ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ أخرج به ﴿رِزْقًا﴾ من الثمرات ﴿لَّكُمْ﴾ تأكلونه وتعلفون دوابَّكم، وتلبسونه كالقطن والكتَّان؛ وما لدوابِّ الناس هو لهم.
11. ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ حال من (رزقًا)، و(مِن) للتبعيض أو للبيان، و(رزقًا) مفعول به؛ أو (مِن) اسمٌ بمعنى بعض مفعول به، و(رزقًا) حال من (مِن)، والثمرات: جميع ما تخرج الأرض، حتَّى الحشيش أو الثمار، ونواها داخل فيها علف، وذلك أسبَابُ أن لا تجعلوا له أندادًا كما قال: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَندَادًا﴾ شركاء في العبادة مقاومين لله، تعالى عن ذلك، فإنَّ كلَّ ما سواه عاجز ذليلٌ خَلَقَه الله ومَلَكَه، وذلك أنَّ ما يصنعونه بأصنامهم وما يعبدونه في صورة المقاومة، قالوا بها أو لم يقولوا.
12. والنِّدُّ: المقاوِم، مثَلاً أو خلافًا أو ضدًّا، وهم لا يقولون بالمنادَّة، أو الندُّ: الكفؤُ أو المثلُ، وإذا جُمع مع غيره كالكفؤِ والضدِّ والمثلِ والشبيهِ كان كلٌّ بمعناه على حدة، والندُّ: مثل الشيء الذي يضادُّه ويخالفه في أموره وينافره، من نَدَا البعيرُ إذا نفر، وقيل: الندُّ: المشارك في الجوهريَّة، والشَّكلُ: المشارك في القدر والمساحة، والشِّبْه: المشارك في الكيفيَّة، والمُساوي: [المشارك] في الكمِّـيَّة، والمِثْل عامٌّ، وفي تسمية الأصنام أندادًا استعارة تهكُّميَّة؛ لأنَّهم علموا أنَّها عاجزة لا فعل لها، ولا تشارك الله تعالى في شيء، كما يستعار أسدٌ للجبان، والتبشير للوعيد، وحكمة ذلك الإشارة إلى أنَّ عليهم ذنب من اعتقدها مشاركة له في صفاته وأفعاله.
13. ﴿وَأنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أنَّه ليس في كتاب من كتب الله تعالى ثبوت الندِّ له تعالى، وتعلمون أنَّه الخالق وغيره ليس خالقًا، فكيف يصحُّ لكم جعل ما لا يخلق شيئًا إلهًا مع ما تشاهدون من حدوث غيره وعجز غيره؟ ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِـكُم مَّنْ يَّفْعَلُ مِن ذَالِكُم مِّن شَيْءٍ﴾ [الروم: 40]؟ أو تعلمون عن أهل التوراة والإنجيل أنَّه ليس فيهما جواز اتّخاذ الأنداد، بل النهي.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/54.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لمّا ذكر الله علوّ طبقة كتابه الكريم، وتحزّب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق، مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام، وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق، وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق، وما اختصت به كلّ فرقة مما يسعدها ويشقيها، ويحظيها عند الله ويرديها، أقبل عليهم بالخطابـ وهو من الالتفات المذكور عند قوله جلّ ذكره ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾
2. لمّا احتج عليهم بما يثبت الوحدانية، ويحققها، ويبطل الإشراك، ويهدمه، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك، وتصحيحه، وعرّفهم أن من أشرك فقد كابر عقله، وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه ـ عطف على ذلك ما هو الحجّة على إثبات نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة، وأراهم كيف يتعرّفون: أهو من عند الله ـ كما يدّعي ـ أم هو من عند نفسه ـ كما يدّعون ـ بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم، ويذوقوا طباعهم، وهم أبناء جنسه، وأهل جلدته.
3. الالتفات فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع ـ كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما: إنّ فلانا من قصته كيت وكيت، فقصصت عليه ما فرط منه، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث، فقلت: يا فلان! من حقّك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك، وتستوي على جادّة السّداد في مصادرك ومواردك ـ نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته، بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازّا من طبعه، ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة.
4. وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع، ويستهش الأنفس للقبول.
5. إنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريقة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ لاستقلاله بأوجه من التأكيد، وأسباب من المبالغة. كالإيضاح بعد الإبهام، واختيار لفظ البعيد وتأكيد معناه بحرف التنبيه.
6. ومعلوم أنّ كل ما نادى الله له عباده: من أوامره، ونواهيه، وعظاته، وزواجره، ووعده، ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك.. مما أنطق به كتابه ـ أمور عظام، وخطوب جسام، ومعان علّمهم أن يتيقّظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم عنها غافلون. فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ ـ أفاده الزمخشريّ ـ.
7. المراد بالناس: كافّة المكلّفين ـ مؤمنهم وكافرهم ـ فطلب العبادة من المؤمنين طلب الزيادة فيها، والثبات عليها، ومن الكافرين، ابتداؤها.
8. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ أنعم عليكم بإخراجكم من العدم إلى الوجود.
9. وخلق ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي كي تتقون، كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وقوله سبحانه ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]
10. مما ينبغي التفطّن له ـ في الاعتبار بهذه الآية ـ ما قاله الزمخشريّ: من أنّه سبحانه وتعالى قدّم من موجبات عبادته، وملزمات حقّ الشكر له:
أ. خلقهم أحياء قادرين أوّلا ـ لأنه سابقة أصول النعم، ومقدّمتها، والسبب في التمكّن من العبادة والشكر وغيرهما.
ب. ثمّ خلق الأرض ـ التي هي مكانهم، ومستقرّهم الذي لا بدّ لهم منه ـ وهي بمنزلة عرصة المسكن، ومتقلّبه، ومفترشه.
ج. ثمّ خلق السماء ـ التي هي كالقبّة المضروبة، والخيمة المطنّبة ـ على هذا القرار.
د. ثمّ ما سوّاه عزّ وجلّ من شبه عقد النكاح بين المقلّة والمظلّة بإنزال الماء منها عليها، والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان ـ من ألوان الثمار ـ رزقا لبني آدم، ليكون لهم ذلك معتبرا، ومتسلقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف، ونعمة يتعرّفونها فيقابلونها بلازم الشكر، ويتفكّرون في خلق أنفسهم، وخلق ما فوقهم وتحتهم، وأنّ شيئا من هذه المخلوقات كلّها لا يقدر على إيجاد شيء منها، فيتيقّنوا ـ عند ذلك ـ أن لا بدّ لها من خالق ـ ليس كمثلها ـ حتى لا يجعلوا المخلوقات له أندادا، وهم يعلمون أنها تقدر على نحو ما هو عليه قادر.
11. نظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 64].. فمضمونه أنّه الخالق، الرازق، مالك الدار وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره.
12. في إيراد (لعلّ) تشبه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجوّ منه أمرا هيّن الحصول، فإنّه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار، وطلب منهم الطاعة، ونصب لهم أدلّة عقليّة ونقليّة داعية إليها، ووعد، وأوعد، وألطف بما لا يحصى كثرة، لم يبق للمكلف عذر، وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في رجحان اختياره لما يرتجي منه ـ مع تمكّنه من خلافه ـ وصار طلب الله تعالى لعبادته واتّقائه بمنزلة الترجّي ـ فيما ذكرناه ـ.
13. ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ النهي متفرع على مضمون ذلك الأمر، كأنّه قيل: إذا أمرتم بعبادة من هذا شأنه ـ من التفرد بهذه الأفعال الجليلة ـ فلا تجعلو له أندادا شركاء في العبادة، أي أمثالا تعبدونهم كعبادته.. والأنداد: جمع ندّ، وهو المثل، ولا يقال إلّا للمثل المخالف المناوئ، وصلح تسميتها أندادا وهم ما كانوا يزعمون أنها تخالفه وتناوئه، بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده، لأجل أنّهم لما تقرّبوا إليها، وعظموها، وسمّوها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنّها آلهة مثله قادرة على مخالفته، ومضادّته، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكّم، وكما تهكّم بهم بلفظ الندّ شنّع عليهم، واستفظع شأنهم، بأن جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصحّ أن يكون له ندّ قط.
14. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ما بينه وبينها من التفاوت، وأنها لا تفعل مثل أفعاله، كقوله: ﴿هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الروم: 40].. أو وأنتم من أهل العلم والمعرفة ـ والتوبيخ فيه آكد ـ أي أنتم العرافون المميزون، ثمّ ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا ـ هو غاية الجهل، ونهاية سخافة العقل.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/267.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) المناسبة بين هذا المحلّ وما سبقه، فذكر ما يلي:(1).:
1. افتتح الله تعالى هذه السورة بذكر كتابه القرآن وكونه حقا لا ريب فيه، وذكر بعد ذلك أصناف البشر تجاهه من المهتدين به بالقوة وبالفعل، ومن الكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهدى، ومن المنافقين المذبذبين بين المؤمنين والكافرين، وفيه ما يفهم منه أن هؤلاء متفاوتون، منهم المستعد للإخلاص في الايمان ومن فقد الاستعداد له، وحكمة بيان حال الميؤوس من إيمانهم أنهم ليسوا حجة على هداية القرآن، بل هو حجة عليهم
2. بعد هذا التمهيد جاءت هذه الآية والآيات الأربع بعدها مصرحات بدعوة جميع الناس إلى دين الله تعالى الحق ببيان أصوله وأسسه، وهى توحيد الالوهية بعبادة الله تعالى وحده، مع ملاحظة توحيد الربوبية القرآن، آيته الكبرى ودينه التفصيلي نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم المرسل بهذا القرآن الجزاء في الآخرة على الكفر وأعماله بالنار، وعلى الايمان وأعماله بالجنة.
3. يقول تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ الذين يدعون الايمان بالله قولا بأفواههم ولم يمس الايمان الحق سواد قلوبهم، ولا كان له سلطان على أرواحهم، ويدعون الايمان باليوم الآخر ولم يستعدوا له بتهذيب أنفسهم واصلاح أعمالهم، وإنما يأتون ببعض صور العبادات بحكم العادات الموروثة، وقلوبهم مشغولة عن الله الذي لا تفيد العبادة عنده إلا بالتوجه إليه وابتغاء مرضاته، والشعور بعظمته وجلاله، فهم يخادعون الله بهذه الظواهر التي لا معنى لها، والصور التي لا روح فيها، وإنما يخدعون فى الحقيقة أنفسهم لأن أعمالهم هذه لا تفيدهم في الدنيا عزة وسعادة ولا تنجيهم في الآخرة.
4. ويا أيها الناس الذين لم يرزؤوا بهذا الخذلان، ولم يبتلوا بهذا الافتتان، سواء كانوا من أهل الكفر أو من أهل الايمان، ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ جميعا.
5. بدء الدعوة بالأمر بعبادة الله تعالى وحده هو سنة جميع المرسلين قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ فكان كل رسول يبدأ دعوته بقوله: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾، وذلك أن جميع تلك الأمم كانت تؤمن بأن الله خالق الخلق هو ربهم ومدبر أمورهم، وإنما كان كفرهم الأعظم بعبادة غير الله تعالى بالدعاء الذي هو ركن العبادة الأعظم في وجدان جميع البشر، وبغير الدعاء والاستغاثة من العبادات العرفية، كالتقرب إلى المعبود بالنذور وذبح القرابين أو الطواف والتمسح به، إن كان جسما أو تمثالا لملك أو بشر أو حيوان أو قبرا لإنسان، ومنهم من كان ينكر البعث أيضا.
6. ولما كان المخاطبون بالدعوة هنا أولا وبالذات في ضمن الدعوة العامة، وهم اليهود والعرب في المدينة وما حولها يؤمنون برب العالمين ووحدانيته ويعبدون غيره إما بدعائه مع الله أو من دون الله وإما بجعله شارعا يتبعونه فيما يصدره من أحكام التعبد أو الحرام والحلال ـ لما كانوا كذلك احتج على دعوتهم إلى توحيد الله تعالى بالتعبير بلفظ (رب) مضافا إليهم، فقال: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾
3. ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ جميعا عبادة خشوع واخلاص وأدب وحضور، كأنكم تنظرون إليه وترونه، فان لم تكونوا ترونه فإنه يراكم، وينظر دائما إلى محل الاخلاص منكم وهو قلوبكم.
7. واستعينوا على إشعار نفوسكم هذا الخشوع والحضور والاخلاص في العبادة باستحضار معنى الربوبية فإنه هو ربكم الذي أنشأكم فيما لا تعلمون: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وغذاكم بنعمه، ونماكم بكرمه، كما فعل مثل ذلك بسلفكم الصالح فشكروه وعبدوه وحده مقرين بهذه التربية، ومعظمين لهذه المنة.
8. فليدع ذلك الصنف احتقار النعم التي هو فيها والاقتصار على تعظيم نعمة الله على السلف فقط فإن هذا الرب العظيم ﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ و﴾ خلق ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ قد رباكم كما ربى سلفكم، ووهبكم من الهدايات مثلما وهبهم، فمن شكر منهم ومنكم زاده نعما، ومن كفر بهذه النعم جعلها عليه نقما، ليكون عبرة ومثلا للآخرين، وذلك من رحمته بالعالمين، وقد أقسم تعالى على ذلك في كتابه المجيد. فقال: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ وفى القصاص حياة لأولى الألباب.. وما يتذكر إلا من أناب.
9. وصف الله تعالى بما يدل على انفراده بالربوبية من الصفات المسلمة عند اليهود والعرب في المدينة وما حولها، وهى الخلق والتكوين والرزق فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ إلى آخر الآية التالية.
10. أي اذا كان ربكم هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم، وهو الذي سخر لكم السماء والأرض لرزقكم ومنافعكم فيجب أن تعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحدا من خلقه فتجعلونه مساويا له وتفضلونه على أنفسكم تفضيلا من نوع تفضيل الخالق على المخلوق والرب على المربوب.
11. هكذا أمر الله تعالى عباده أجمعين. بأن يعبدوه وحده مخلصين له الدين، وأرشدهم باعلامه إياهم أنه ساوى بينهم وبين من قبلهم في المواهب الخلقية ـ الى الاستقلال بالعمل، وقدر نعمته عليهم قدرها، ليعلموا أن كل النعم التي تكتسب بالشكر ـ وهى ما عدا النبوة ـ مقدورة لهم. كما كانت مقدورة لمن قبلهم، وأنهم إذا زادوا على سلفهم شكرا يزادون نعما، وما الشكر الا استعمال المواهب والنعم فيما وهبت لأجله.
12. فالذين يقولون إننا لا نقدر على فهم الدين بأنفسنا من الكتاب والسنة لأن عقولنا وأفهامنا ضعيفة، وإنما علينا أن نأخذ بقول من قبلنا من آبائنا، لأن عقولهم كانت أقوى، وكانوا على فهم الدين أقدر، بل لا يمكن أن يفهمه غيرهم، أولئك كافرون بنعمة العقل، وغير مهتدين بهذه الآية الناطقة بالمساواة في المواهب وسعة الرحمة والفضل.
13. وكذلك الذين يتخذون وسطاء بينهم وبين الله تعالى لأجل التقريب إليه زلفى بغير ما شرعه لهم من الدين وما جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام ـ وهم الوسائل في الهداية والارشاد ـ أو لأجل الشفاعة لهم عنده لينالوا جزاء ما شرعه من الدين. من غير طريق العمل به واتباع المرسلين ـ قد احتقروا نعم الله تعالى ولم يهتدوا بهذه الآية لأنهم قد جعلوا لله أندادا يبغون أن ينالوا بأشخاصهم ما حكم الله بأن يطلبه الناس بإيمانهم وأعمالهم. فجعلوا هؤلاء الأنداد شركاء لله يغنونهم عن شريعته. شعروا بذلك أم لم يشعروا.
14. يقول تعالى لجميع عباده: اعبدوني ملاحظين معنى الربوبية، والمساواة في المواهب الخلقية، التي تؤهلكم للسعادة الحقيقية ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فإن العبادة على هذا الوجه هي التي تعدكم للتقوى، ويرجى بها بلوغ غاية الكمال القصوى.
15. الشائع أن (لعل) للترجي في ذاتها وإذا وقعت في كلام الله تعالى يكون معناها التحقيق، وغرض القائلين بهذا تنزيه الله سبحانه عن الترجي بمعناه اللغوي الآتي، ولكنه رمى للكلام بدون بيان.
16. حقيقة (لعل) أنها للترجي، ولكنها تستعمل للأعداد والتهيئة للشيء، وفى هذا معنى الترجي، فحيث وقعت (لعل) في القرآن، فالمراد بها هذا المعنى الأخير كما فسرناها به آنفا، وهو يستلزم التحقيق لأن الإعداد بما تأتى (لعل) بعده أمر محقق لا ريبة فيه، فإن العبادة على الوجه الذي أرشدت إليه الآية من ملاحظة معنى الربوبية ما تقدم شرحه تطبع في النفس ملكة خشية الله وتعظيمه ومراقبته، وتعلى همة العابد وتقوى عزيمته وإرادته، فتزكو نفسه وتنفر من المعاصي والرذائل، وتألف الطاعات والفضائل، وهذه هي التقوى، وإذا قلنا: إن الرجاء متعلق بالناس فالاعداد فيه ظاهر ومتحقق، إذ لو لم يخلقهم مستعدين للتقوى لما اتقاه منهم أحد.
17. معنى الترجي في أصل اللغة: توقع حصول الشيء القريب بحصول سببه والاستعداد له، سواء كان الاستعداد كسبيا أو طبيعيا فاستعملنا (لعل) المعبرة عن التوقع في سببه وهو الاستعداد أو الاعداد الذي هو جعل المرء مستعدا، والتعبير عن المسبب بلفظ السبب شائع في استعمال اللغة، وقد عدوا الترجي والتمني من الأخبار وصيغهما صيغ انشاء فقط، وهذا صحيح ولكنه غير مطرد، والتحقيق أن الترجي عبارة عن كون الشيء مأمولا بما يذكر من سببه غير مقطوع به لذاته، بل يتبع قوة أسبابه مع انتفاء الموانع ويتعلق تارة بالمتكلم وتارة بالمخاطب وتارة بالمتكلم عنه وتارة بغيرهما، فتأمل قوله تعالى: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ وقوله حكاية عن قوم موسى: ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ﴾ وقوله: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾ الخ وقوله لموسى وهارون: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ وقد علم أن هذا مقطوع بعدم وقوعه عند الله ولكن الرجاء فيه متعلق بموسى وهارون أي: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ راجيين به أن يتذكر أو يخشى لا قولا غليظا منفرا.
18. تأتى (لعل) للإشفاق وإفادة التحذير من أمر وقعت أسبابه فكان بها مظنة الوقوع كقوله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ الآية وقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ الآية.
19. ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ متماسكا لكيلا تقع على الأرض فتسحقكم، والسماء مجموع ما فوقنا من العالم، والبناء وضع شيء على شيء بحيث يتكون من ذلك شيء بصورة مخصوصة.
20. كون الله السماء بنظام كنظام البناء، وسوى أجرامها على هذه الصفة المشاهدة وأمسكها بسنة الجاذبية فلا تقع على الأرض، ولا يصطدم بعضها ببعض، إلا إذا جاء يوم الوعيد وبطل نظام هذا العالم ليعود في خلق جديد، والواجب ملاحظته في هذا المقام: هو تصور قدرة الله تعالى وعظمته، وسعة فضله ورحمته.
21. ثم بعد أن امتن بنعمة الايجاد، ونعمة الفراش والمهاد، ونعمة السماء، التي هي كالبناء، ذكر نعمة الامداد، الذي تحفظ به هذه الاجساد، وهى مادة الغذاء، التي بها النمو والبقاء، فقال ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾
22. الثمرات ما يحصل من النبات نجما كان أو شجرا: يصلح الزارع والغارس الأرض، ويبذر البذر، ويغرس الفسيل، ويتعاهد ذلك بالسقي والعذق، فيكون له كسب في رزقه، ولكنه ليس له كسب في إنزال المطر الذي يسقى به، ولا في تغذية النبات بماء المطر أو النهر المجتمع من المطر؛ وبأجزاء الأرض وعناصرها الأخر، ولا في تولد خلاياه التي بها نموه ولا في إثماره إذا أثمر، وإنما كل ذلك بيد الله القدير ـ فعلينا أن نتفكر في ذلك لنزداد تعظيما له واجلالا فلا نعبد معه أحدا
23. لما ذكر الله عباده بنعمة الايجاد ونعمة المساواة في المواهب التي تقتضى التقوى وعدم إطراء السلف برفعهم إلى مقام الربوبية كما وقع من الذين ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ذكرهم ثانيا ببعض خصائص الربوبية التي تقتضى الاختصاص بالعبودية؛ فقال ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ بما مهدها وجعلها صالحة للافتراش والاقامة عليها والارتفاق بها.
24. أي فهو القادر على جلائل الفعال، العظيم الذي يستحق العبادة والاجلال، المنعم بجميع النعم، الجدير بأعلى مراتب الشكر، جعل الأرض بقدرته فراشا لأجل منفعتكم.
25. بعد أن عرفنا الله تعالى بأنفسنا، وبنعمته علينا وعلى سلفنا وبعد أن عرفنا ذاته الكريمة. بآثار رحمته ومننه العظيمة، وصرنا جديرين بأن نعرف أن العبد عبد فلا يعبد، وأن الرب رب فلا يشرك به ولا يجحد. قال تفريعا وترتيبا على ما سبق ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ من سلفكم المخلوقين مثلكم تطلبون منهم ما لا يطلب إلا منه، وهو كل ما تعجزون عنه، ولا يصل كسبكم إليه، لا تفعلوا ذلك فانهم في الخلق والعبودية مثلكم
26. بعد أن عرفنا الله تعالى بأنفسنا، وبنعمته علينا وعلى سلفنا وبعد أن عرفنا ذاته الكريمة. بآثار رحمته ومننه العظيمة، وصرنا جديرين بأن نعرف أن العبد عبد فلا يعبد، وأن الرب رب فلا يشرك به ولا يجحد. قال تفريعا وترتيبا على ما سبق ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ من سلفكم المخلوقين مثلكم تطلبون منهم ما لا يطلب إلا منه، وهو كل ما تعجزون عنه، ولا يصل كسبكم إليه، لا تفعلوا ذلك فانهم في الخلق والعبودية مثلكم
27. الانداد جمع ند بكسر النون وفسر بالشريك وهو في اللغة المضارع والكفء يقال فلان ند فلان ومن أنداد فلان أي يضارعه ويماثله ولو في بعض الشؤون.
28. الانداد الذين اتخذوا في جانب الله هم الذين خضع الناس لهم وصمدوا إليهم في بعض الحاجات، لمعنى يعتقده فيهم الخاضعون المخاطبون بترك الأنداد أولا وبالذات، وهم مشركو العرب وأهل الكتاب.
29. العرب كانت تسمى ذلك الخضوع والصمود عبادة إذ لم يكن عندهم وحى ينهاهم عن عبادة غير الله فيتحاموا هذا اللفظ (العبادة) ويستبدلوا به لفظ التعظيم أو التوسل مثلا تأويلا لظاهر نص التنزيل، وأما أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا فكانوا يؤولون فلا يسمون من النصارى من لا يتحامون التصريح بعبادة السيدة مريم وبعض القديسين استعمالا للفظ في مدلوله اللغوى.
30. صور العبادة تختلف عند الأمم اختلافا عظيما وأعلاها عند المسلمين الاركان الخمسة والدعاء، وقالوا: كل عمل غير محظور تحسن فيه النية لله تعالى فهو عبادة، كأن المعنى الذي يجعل جميع الأعمال عبادة هو التوجه إلى الله تعالى وحده وابتغاء مرضاته.
31. لها عند أهل الكتاب صور أخرى والمؤولون يخصون هذه الصور بالله تعالى وإذا ابتدعوا صورة فيها معنى العبادة يسمونها باسم آخر يستحلونها بل يستحبونها به، ولكنهم لا يخرجون بالتسمية أو التأويل عن حيز من يتخذ من دون الله أندادا كما ذكر الله عنهم في قوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ولم يكن منهم سوى التوسل بهم، والأخذ في الدين بقولهم تقليدا لهم بدون فهم لما جاء على لسان الوحى، كما صح ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقدماء الفرس جعلوا لله ندا في الخلق والايجاد، فقالوا: إن للخير إلها هو الاله الأول، وإن للشر إلها يضاده، وليس النهى في الآية عن هذا الند الشريك لأن المخاطبين لا يدينون به كما قلنا وتدل عليه الآيات الكثيرة.
32. لذلك وصل النهى بقوله عز وجل ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي والحال أنكم تعلمون أنه لا ند له لأنكم إذ سئلتم: من خلقكم وخلق من قبلكم؟ تقولون الله، وإذا سئلتم: من يرزقكم من السموات والأرض ومن يدبر الأمر؟ تقولون الله. فلماذا تستغيثون إذن بغير الله وتدعون غير الله؟ ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضر ولا تنفع وادعيتم أنهم شفعاؤكم عند الله؟ ومن أين جاءكم أن التقرب والتوسل إلى الله يكون بغير ما شرعه من الدين حتى قلتم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ﴾
33. يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم، وخلق وسائطكم وشفعاءكم وأعدكم جميعا للتقوى التي تقربكم إليه زلفى، وساوى بينكم في أنواع المواهب إلا أنه خصّ الأنبياء عليهم السّلام بالوحى ليعلموكم ما اخطأ نظركم ورأيكم فيه، فعليكم أن تهتدوا بما جاؤوا به، فإن صد المرؤوسين عن ترك تقاليدهم واتباع الوحى من غير زيادة فيه ولا نقصان منه خوفهم الرؤساء. فقد آثروا رؤساءهم على الله وجعلوهم له أندادا، وإن صد الرؤساء عن هذا الاتباع توقع زوال المنفعة والجاه لدى المرؤوسين فقد اتخذوهم أندادا، فالند هو المكافئ والمثل، وأنتم بترككم الحق لخوفهم ورجائهم تفضلونهم على الله تعالى وتجعلونه أقل الأنداد تعظيما، ففروا رحمكم الله إلى الله، ولا تخافوا غيره ولا ترجو سواه، فعار على من يعرف الله أن يؤثر رضاء أحد على رضاه، لا فرق بين رئيس ومرؤوس، وتابع ومتبوع، بل هذا لا يقع من مؤمن حقيقي لأن الله تعالى يقول: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 1/188.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن ذكر الله تعالى أصناف الخلق وبيّن أن منهم المهتدين، والكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهداية، والمنافقين المذبذبين بين ذلك ـ دعا الناس إلى دين التوحيد الحق وهو عبادة الله وحده عبادة خشوع وإخلاص، حتى كأنهم ينظرون إليه ويرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، فإن فعلوا ذلك أعدّوا أنفسهم للتقوى، وبلغو الغاية القصوى.
2. ثم عدد بعض نعمه المتظاهرة عليهم الموجبة للعبادة والشكر، فجعل منها خلقهم أحياء قادرين على العمل والكسب، ثم خلق الأرض مستقرا ومهادا لينتفعوا بخيراتها ويستخرجوا معادنها ونباتها، ثم بنى لهم السماء التي زينها بالكواكب، وجعل فيها مصابيح يهتدى بها الساري في الليل المظلم، وأنزل منها الماء فأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها وأشكالها.
3. أفليس في كل هذا ما يطوّح بالنظر، ويهدى الفكر إلى أن خالق هذا الكون البديع المثال لا ندّ له ولا نظير، وأن ما جعلوه أندادا له لا يقدرون على إيجاد شيء مما خلق وأنهم يعلمون ذلك حق العلم، فكيف يستغيثون بغير الله، ويدعون غير الله، ويستشفعون به، ويتوسلون إليه، مع أنه لا خالق ولا رازق إلا الله؟
4. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ بدأ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم دعوته بعبادة الله وحده، وقد كان هذا صنيع كل نبيّ كما قال ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ .
5. المخاطبون بهذه الدعوة أوّلا هم العرب واليهود في المدينة وما حولها، وكانوا يؤمنون بالله ويعبدون غيره إما بدعائه مع الله) أو من دون الله.
6. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ أي إن هذا الرب العظيم المتصف بتلك الصفات التي تعلمونها ـ هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم، ورباكم وربّى أسلافكم، ودبّر شئونكم، ووهبكم من طرق الهداية ووسائل المعرفة مثل ما وهبهم، فاعبدوه وحده، ولا تشركوا بعبادته أحدا من خلقه.
7. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي فاعبدوه على تلك الشاكلة، فإن العبادة على هذا السنن هي التي تعدّكم للتقوى، ويرجى بها بلوغ درجة الكمال القصوى.
8. ثم ذكر بعض خصائص الربوبية التي تقتضى الاختصاص به تعالى فقال: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ أي هو الذي مهّد لكم الأرض وجعلها صالحة للافتراش والإقامة فيها.
9. ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ أي وهو الذي كوّن السماء بنظام متماسك كنظام البناء، وسوّى أجرامها على ما نشاهد وأمسكها لسنة الجاذبية، حتى لا تقع على الأرض ولا يصطدم بعضها ببعض، حتى يأتي اليوم الموعود.
10. ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ أي وهو الذي أنزل من السماء مطرا يسقى به الزرع، ويغذّى به النبات، فأخرج به ثمرا نأكل منه وننتفع به.
11. ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ الأنداد هم الذين خضع الناس لهم وقصدوهم في قضاء حاجاتهم، وكان مشركو العرب يسمون ذلك الخضوع عبادة، إذ لم يكن عندهم شرع ينهاهم عن عبادة غير الله.
12. أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا كانوا يتحاشون هذا اللفظ، فلا يسمون ذلك الاتخاذ عبادة ولا أولئك المعظمين آلهة وأندادا، بل يسمون دعاءهم غير الله والتقرب إليه توسلا واستشفاعا، ويسمون تشريعهم لهم بعض العبادات، وتحليل المنكرات، وتحريم بعض الطيبات، فقها واستنباطا من التوراة، والكل متفقون على أنه لا خالق إلا الله ولا رازق إلا هو.
13. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي وإنكم لتعلمون بطلان ذلك، وإنكم إذا سئلتم من رزقكم من السموات والأرض ومن يدبر الأمر؟ تقولون: الله، فلم إذا تدعون غيره، وتستشفعون به؟
14. ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضر ولا تنفع؟ ومن أين جاءكم أن التقرب إلى الله يكون بغير ما شرعه الله حتى قلتم ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾
__________
(1) تفسير المراغي: 1/63.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. عندما يتم استعراض الصور الثلاث يرتد السياق في السورة نداء للناس كافة، وأمرا للبشرية جمعاء، أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة.. الصورة النقية الخالصة.. الصورة العاملة النافعة.. الصورة المهتدية المفلحة.
2. إنه النداء إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم، ربهم الذي تفرد بالخلق، فوجب أن يتفرد بالعبادة.. وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه هو التقوى.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .. لعلكم تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور البشرية. صورة العابدين لله.. المتقين لله. الذين أدوا حق الربوبية الخالقة، فعبدوا الخالق وحده؛ رب الحاضرين والغابرين، وخالق الناس أجمعين، ورازقهم كذلك من الأرض والسماء بلا ند ولا شريك.
3. ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ واقيا كالفراش.
4. والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه.. ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم وسائل العيش، وما سخره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع، ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة، ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسيّ في غير البيئة التي تكفل لهم الحياة، ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم لشق على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتى لو قدرت لهم الحياة
5. ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ فيها متانة البناء وتنسيق البناء، والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض، وبسهولة هذه الحياة.
6. وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية أجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها، تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها. فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس بقدرة الخالق، وفضل الرازق، واستحقاق المعبود للعبادة من العبيد المخاليق.
7. ذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به، ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض التذكير بقدرة الله، والتذكير بنعمته كذلك.
8. الماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا، فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ .. سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض، أو كوّن الأنهار والبحيرات العذبة، أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية، التي تتفجر عيونا أو تحفر آبارا، أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى.
9. قصة الماء في الأرض، ودوره في حياة الناس، وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها.. كل هذا أمر لا يقبل المماحكة، فتكفي الإشارة إليه، والتذكير به، في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب.
10. في ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الإسلامي:
أ. وحدة الخالق لكل الخلائق: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾
ب. ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ .. فهذا الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان، وسماؤه مبنية بنظام، معينة بالماء الذي تخرج به الثمرات رزقا للناس.. والفضل في هذا كله للخالق الواحد:
11. الأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة، قد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون، فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية، قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة، وفي الخوف من غير الله في أي صورة، وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي صورة.
12. عن ابن عباس قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت! وقول الرجل: لولا الله وفلان.. هذا كله به شرك).. وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندا؟)! هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي والأنداد مع الله.. فلننظر نحن أين نحن من هذه الحساسية المرهفة، وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة.
13.﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ .. تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم، وتعلمون أنه جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء، وأنه لم يكن له شريك يساعد، ولا ند يعارض. فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق!
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/47.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه دعوة عامة شاملة إلى الناس، من ربّ الناس، بعد أن عرضهم هذا العرض الكاشف، من مؤمنين، وكافرين، منافقين.
2. الطريق إلى الله مفتوح للناس جميعا، يسع برّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، وبين يدي كل إنسان شواهد قائمة، وأعلام منصوبة؛ على الطريق، تدعوه إلى الله، وإلى الإقرار بوحدانيته، إذا هو نظر في هذا الوجود، نظرة بعيدة عن الهوى، خالصة من الضلال والزيغ.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/41.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ استئناف ابتدائي ثني به العنان إلى موعظة كل فريق من الفرق الأربع المتقدم ذكرها، موعظة تليق بحاله بعد أن قضى حق وصف كل فريق منهم بخلاله، ومثلت حال كل فريق، وضربت له أمثاله.
2. لما استوفى الله تعالى أحوالا للمؤمنين وأضدادهم من المشركين والمنافقين لا جرم تهيأ المقام لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشادا لهم ورحمة بهم لأنه لا يرضى لهم الضلال ولم يكن ما ذكر آنفا من سوء صنعهم حائلا دون إعادة إرشادهم والإقبال عليهم بالخطاب، ففيه تأنيس لأنفسهم بعد أن هددهم ولامهم وذم صنعهم ليعلموا أن الإغلاظ عليهم ليس إلا حرصا على صلاحهم وأنه غني عنهم كما يفعله المربي الناصح حين يزجر أو يوبخ فيرى انكسار نفس مرباه فيجبر خاطره بكلمة لينة ليريه أنه إنما أساء إليه استصلاحا وحبا لخيره فلم يترك من رحمته لخلقه حتى في حال عتوهم وضلالهم وفي حال حملهم إلى مصالحهم.
3. هذا الاستئناس وجبر الخواطر يزداد به المحسنون إحسانا وينكف به المجرمون عن سوء صنعهم فيأخذ كل فريق من الذين ذكروا فيما سلف حظّه منه، فالمقصود بالنداء من قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ الإقبال على موعظة نبذ الشرك، وذلك هو غالب اصطلاح القرآن في الخطاب بيا أيها الناس، وقرينة ذلك هنا قوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22] وافتتح الخطاب بالنداء تنويها به.
4. (يا) حرف للنداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا فهو أصل حروف النداء ولذلك لا يقدر غيره عند حذف حرف النداء ولكونه أصلا كان مشتركا لنداء القريب والبعيد كما في (القاموس)، قال الرضي في (شرح الكافية): إن استعمال يا في القريب والبعيد على السواء ودعوى المجاز في أحدهما أو التأويل خلاف الأصل، وهو يريد بذلك الرد على الزمخشري إذ قال في (الكشاف): ويا حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة من سها أو غفل وإن قرب تنزيلا له منزلة من بعد) وكذلك فعل في كتاب (المفصل).
5. (أيّ) في الأصل نكرة تدل على فرد من جنس اسم يتصل بها بطريق الإضافة، نحو أيّ رجل أو بطريق الإبدال نحو يا أيها الرجل، ومنه ما في الاختصاص كقولك لجليسك أنا كفيت مهمك أيها الجالس عندك وقد ينادون المنادى باسم جنسه أو بوصفه لأنه طريق معرفته أو لأنه أشمل لإحضاره كما هنا فربما يؤتى بالمنادى حينئذ نكرة مقصودة أو غير مقصودة، وربما يأتون باسم الجنس أو الوصف معرفا باللام الجنسية إشارة إلى تطرق التعريف إليه على الجملة تفننا فجرى استعمالهم أن يأتوا حينئذ مع اللام باسم إشارة إغراقا في تعريفه ويفصلوا بين حرف النداء والاسم المنادى حينئذ بكلمة أيّ وهو تركيب غير جار على قياس اللغة ولعله من بقايا استعمال عتيق.
6. اختصروا اسم الإشارة فأبقوا (ها) التنبيهية وحذفوا اسم الإشارة، فأصل يا أيها الناس يا أي هؤلاء وقد صرحوا بذلك في بعض كلامهم كقول الشاعر: أيهذان كلا زاديكما.. وربما أرادوا نداء المجهول الحاضر الذات أيضا بما يدل على طريق إحضاره من حالة قائمة به باعتبار كونه فردا من جنس فتوصلوا لذلك باسم الموصول الدال على الحالة بصلته والدال على الجنسية لأن الموصول يأتي لما تأتي له اللام فيقحمون أيّا كذلك نحو: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ [الحجر: 6]
7. (الناس) هو اسم جمع نودي هنا وعرف بال يشمل كل أفراد مسماه لأن الجموع المعرفة باللام للعموم ما لم يتحقق عهد كما تقرر في الأصول واحتمالها العهد ضعيف إذ الشأن عهد الأفراد فلذلك كانت في العموم أنص من عموم المفرد المحلى بال.
8. المخاطب بالأمر بالعبادة المشركون من العرب والدهريون منهم وأهل الكتاب والمؤمنون كل بما عليه من واجب العبادة من إثبات الخالق ومن توحيده، ومن الإيمان بالرسول، والإسلام للدين والامتثال لما شرعه إلى ما وراء ذلك كله حتى منتهى العبادة ولو بالدوام والمواظبة بالنسبة إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين معه فإنهم مشمولون للخطاب على ما تقرر في الأصول.
9. فالمأمورية هو القدر المشترك حتى لا يلزم استعمال المشترك في معانيه عند من يأبى ذلك الاستعمال وإن كنا لا نأباه إذا صلح له السياق بدليل تفريع قوله بعد ذلك: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة: 22] على قوله: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ الآية.. فليس في هذه الآية حجة للقول بخطاب الكفار بفروع الشريعة لأن الأمر بالعبادة بالنسبة إليهم إنما يعنى به الإيمان والتوحيد وتصديق الرسول، وخطابهم بذلك متفق عليه وهي مسألة سمجة.
10. العبادة في الأصل التذلل والخضوع.. ولما كان التذلل والخضوع إنما يحصل عن صدق اليقين كان الإيمان بالله وتوحيده بالإلهية مبدأ العبادة لأن من أشرك مع المستحق ما ليس بمستحق فقد تباعد عن التذلل والخضوع له.
11. وجه العدول عن غير طريق الإضافة من طرق التعريف نحو العلمية إذ لم يقل اعبدوا الله، لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذانا بأحقية الأمر بعبادته فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة لأن فيها معنى الشكر وإظهار الاحتياج.
12. إفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله، فإن المشركين وإن أشركوا مع الله آلهة إلا أن بعض القبائل كان لها مزيد اختصاص ببعض الأصنام، كما كان لثقيف مزيد اختصاص باللات، وتبعهم الأوس والخزرج.
13. فالعدول إلى الإضافة هنا لأنها أخصر طريق في الدلالة على هذا المقصد فهي أخصر من الموصول فلو أريد غير الله لقيل اعبدوا أربابكم فلا جرم كان قوله: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ صريحا في أنه دعوة إلى توحيد الله.
14. يتعين أن قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ صفة ثانية للرب، لأن مساقها مساق قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: 21]، والمقصود الإيماء إلى سبب آخر لاستحقاقه العبادة وإفراده بها فإنه لما أوجب عبادته أنه خالق الناس كلهم أتبع ذلك بصفة أخرى تقتضي عبادتهم إياه وحده، وهي نعمه المستمرة عليهم مع ما فيها من دلائل عظيم قدرته فإنه مكن لهم سبل العيش.
15. وأولها المكان الصالح للاستقرار عليه بدون لغوب فجعله كالفراش لهم ومن إحاطة هذا القرار بالهواء النافع لحياتهم، والذي هو غذاء الروح الحيواني، وذلك ما أشير إليه بقوله: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ وبكون تلك الكرة الهوائية واقية الناس من إضرار طبقات فوقها متناهية في العلو، من زمهرير أو عناصر غريبة قاتلة خانقة، فالكرة الهوائية جعلت فوق هذا العالم فهي كالبناء له ونفعها كنفع البناء فشبهت به على طريقة التشبيه البليغ وبأن أخرج للناس ما فيه إقامة أود حياتهم باجتماع ماء السماء مع قوة الأرض وهو الثمار.
16. يتعين أن قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ صفة ثانية للرب، لأن مساقها مساق قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: 21]، والمقصود الإيماء إلى سبب آخر لاستحقاقه العبادة وإفراده بها فإنه لما أوجب عبادته أنه خالق الناس كلهم أتبع ذلك بصفة أخرى تقتضي عبادتهم إياه وحده، وهي نعمه المستمرة عليهم مع ما فيها من دلائل عظيم قدرته فإنه مكن لهم سبل العيش.
17. وأولها المكان الصالح للاستقرار عليه بدون لغوب فجعله كالفراش لهم ومن إحاطة هذا القرار بالهواء النافع لحياتهم، والذي هو غذاء الروح الحيواني، وذلك ما أشير إليه بقوله: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ وبكون تلك الكرة الهوائية واقية الناس من إضرار طبقات فوقها متناهية في العلو، من زمهرير أو عناصر غريبة قاتلة خانقة، فالكرة الهوائية جعلت فوق هذا العالم فهي كالبناء له ونفعها كنفع البناء فشبهت به على طريقة التشبيه البليغ وبأن أخرج للناس ما فيه إقامة أود حياتهم باجتماع ماء السماء مع قوة الأرض وهو الثمار.
18. قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ زيادة بيان لموجب العبادة، أو زيادة بيان لما اقتضته الإضافة من تضمن معنى الاختصاص بأحقية العبادة.
19. قوله: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يفيد تذكير الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: 24] فكان قوله: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لا بد أن ينتهوا إلى أب أول فهو مخلوق لله تعالى.
20. لعل هذا هو وجه التأكيد بزيادة حرف (من) في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ الذي يمكن الاستغناء عنه بالاقتصار على ﴿قَبْلِكُمْ﴾، لأن (من) في الأصل للابتداء فهي تشير إلى أول الموصوفين بالقبلية فذكرها هنا استرواح لأصل معناها مع معنى التأكيد الغالب عليها إذا وقعت مع قبل وبعد.
21. الخلق أصله الإيجاد على تقدير وتسوية ومنه خلق الأديم إذا هيأه ليقطعه ويخرزه، قال جبير في هرم بن سنان:
ولأنت تفري ما خلقت وبع... ض القوم يخلق ثم لا يفري
22. التقوى هي الحذر مما يكره، وشاعت عند العرب والمتدينين في أسبابها، وهو حصول صفات الكمال التي يجمعها التدين.
23. لما كانت التقوى نتيجة العبادة جعل رجاؤها أثرا للأمر بالعبادة، فالمعنى اعبدوا ربكم رجاء أن تتقوا فتصبحوا كاملين متقين، فإن التقوى هي الغاية من العبادة فرجاء حصولها عند الأمر بالعبادة وعند عبادة العابد أو عند إرادة الخلق والتكوين واضح الفائدة.
24. جملة: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ تعليل للأمر باعبدوا، فلذلك فصلت، أي أمرتكم بعبادته لرجاء منكم أن تتقوا.
25. (لعل) حرف يدل على الرجاء، والرجاء هو الإخبار عن تهيئ وقوع أمر في المستقبل وقوعا مؤكدا، فتبين أن لعل حرف مدلوله خبري لأنها إخبار عن تأكد حصول الشيء، ومعناها مركب من رجاء المتكلم في المخاطب، وهو معنى جزئي حرفي.
26. شاع عند المفسرين وأهل العلوم الحيرة في محمل لعل الواقعة من كلام الله تعالى لأن معنى الترجي يقتضي عدم الجزم بوقوع المرجو عند المتكلم، فللشك جانب في معناها، حتى قال الجوهري: لعل كلمة شك)، وهذا لا يناسب علم الله تعالى بأحوال الأشياء قبل وقوعها، ولأنها قد وردت في أخبار مع عدم حصول المرجو لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 13] مع أنهم لم يتذكروا كما بينته الآيات من بعد.
27. للمفسرين في تأويل لعل الواقعة في كلام الله تعالى وجوه:
أ. أحدها قال سيبويه: لعل على بابها، والترجي أو التوقع إنما هو في حيز المخاطبين)، يعني أنها للإخبار بأن المخاطب يكون مرجوا، واختاره الرضي قائلا لأن الأصل أن لا تخرج عن معناها بالكلية.. ولا يعني سيبويه أن ذلك معنى أصل لها، ولكنه يعني أنها مجاز قريب من معنى الحقيقة لوقوع التعجيز في أحد جزأي المعنى الحقيقي لأن الرجاء يقتضي راجيا ومرجوا ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ﴾ منه فحرف الرجاء على معنى فعل الرجاء إلا أنه معنى جزئي، وكل من الفاعل والمفعول مدلول لمعنى الفعل بالالتزام، فإذا دلت قرينة على تعطيل دلالة حرف الرجاء على فاعل الرجاء لم يكن في الحرف أو الفعل تمجز، إذ المجاز إنما يتطرق للمدلولات اللغوية لا العقلية وكذلك إذا لم يحصل الفعل المرجو.
ب. ثانيها: أن لعل للإطماع تقول للقاصد لعلك تنال بغيتك، قال الزمخشري: وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن)، والإطماع أيضا معنى مجازي للرجاء لأن الرجاء يلزمه التقريب والتقريب يستلزم الإطماع فالإطماع لازم بمرتبتين.
ج. ثالثها: أنها للتعليل بمعنى كي قاله قطرب وأبو علي الفارسي وابن الأنباري؛ وأحسب أن مرادهم هذا المعنى في المواقع التي لا يظهر فيها معنى الرجاء، فلا يرد عليهم أنه لا يطرد في نحو قوله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: 17] لصحة معنى الرجاء بالنسبة للمخاطب ولا يرد عليهم أيضا أنه إثبات معنى في (لعل) لا يوجد له شاهد من كلام العرب وجعله الزمخشري قولا متفرعا على قول من جعلها للإطماع فقال: ولأنه إطماع من كريم إذا أطمع فعل) قال من قال إن لعل بمعنى كي، يعني فهو معنى مجازي ناشئ عن مجاز آخر، فهو من تركيب المجاز على اللزوم بثلاث مراتب.
د. رابعها: ما ذهب إليه صاحب (الكشاف) أنها استعارة فقال: ولعل واقعة في الآية موقع المجاز لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم ووضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الخير والتقوى فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجى بين أن يفعل وأن لا يفعل ومصداقه قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: 7]، وإنما يبلي ويختبر من تخفي عنه العواقب ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار فكلام (الكشاف) يجعل لعل في كلامه تعالى استعارة تمثيلية لأنه جعلها تشبيه هيئة مركبة من شأن المزيد والمراد منه والإرادة بحال مركبة من الراجي والمرجو منه والرجاء فاستعير المركب الموضوع للرجاء لمعنى المركب الدال على الإرادة.
هـ. وهناك وجه آخر مستقل وهو: أن لعل الواقعة في مقام تعليل أمر أو نهي لها استعمال يغاير استعمال لعل المستأنفة في الكلام سواء وقعت في كلام الله أم في غيره، فإذا قلت افتقد فلانا لعلك تنصحه كان إخبارا باقتراب وقوع الشيء وأنه في حيز الإمكان إن تم ما علق عليه فأما اقتضاؤه عدم جزم المتكلم بالحصول فذلك معنى التزامي أغلبي قد يعلم انتفاؤه بالقرينة، وذلك الانتفاء في كلام الله أوقع، فاعتقادنا بأن كل شيء لم يقع أو لا يقع في المستقبل هو القرينة على تعطيل هذا المعنى الالتزامي دون احتياج إلى التأويل في معنى الرجاء الذي تفيده لعل حتى يكون مجازا أو استعارة، لأن لعل إنما أتى بها لأن المقام يقتضي معنى الرجاء فالتزام تأويل هذه الدلالة في كل موضع في القرآن تعطيل لمعنى الرجاء الذي يقتضيه المقام والجماعة لجئوا إلى التأويل لأنهم نظروا إلى لعل بنظر متحد في مواقع استعمالها بخلاف لعل المستأنفة فإنها أقرب إلى إنشاء الرجاء منها إلى الإخبار به، وعلى كل فمعنى لعل غير معنى أفعال المقاربة.
28. معنى جعل الأرض فراشا أنها كالفراش في التمكن من الاستقرار والاضطجاع عليها وهو أخص أحوال الاستقرار.. والمعنى أنه جعلها متوسطة بين شدة الصخور بحيث تؤلم جلد الإنسان وبين رخاوة الحمأة بحيث يتزحزح الكائن فوقها ويسوخ فيها وتلك منة عظيمة.
29. ﴿جَعَلَ﴾ لها وجهان:
أ. إن كانت بمعنى أوجد، فحمل الامتنان هو إن كانتا على هذه الحالة.
ب. وإن كانت بمعنى صيّر فهي دالة على أن الأرض والسماء قد انتقلتا من حال إلى حال حتى صارتا كما هما، وصار أظهر في معنى الانتقال من صفة إلى صفة، وقواعد علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) تؤذن بهذا الوجه الثاني، فيكون في الآية منتان وعبرتان في جعلهما على ما رأينا وفي الأطوار التي انتقلتا فيهما بقدرة الله تعالى وإذنه فيكون كقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ إلى قوله: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 30 ـ 32]
30. امتن الله وضرب العبرة بأقرب الأشياء وأظهرها لسائر الناس حاضرهم وباديهم، وبأول الأشياء في شروط هذه الحياة، وفيهما أنفع الأشياء، وهما الهواء، والماء النابع من الأرض، وفيهما كانت أول منافع البشر.
31. في تخصيص الأرض والسماء بالذكر نكتة أخرى، وهي التمهيد لما سيأتي من قوله: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾، وابتدأ بالأرض لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر، ثم بالسماء لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به.
32. المراد بالسماء هنا إطلاقها العرفي عند العرب وهو ما يبدو للناظر كالقبة الزرقاء وهو كرة الهواء المحيط بالأرض، كما هو المراد في قوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: 19]، وهذا هو المراد الغالب إذا أطلق السماء بالإفراد دون الجمع.
33. وجه شبه السماء بالبناء هو:
أ. أن الكرة الهوائية جعلها الله حاجزة بين الكرة الأرضية وبين الكرة الأثيرية فهي كالبناء فيما يراد له البناء، وهو الوقاية من الأضرار النازلة، فإن للكرة الهوائية دفعا لأضرار أظهرها دفع ضرر طغيان مياه البحار على الأرض، ودفع أضرار بلوغ أهوية تندفع عن بعض الكواكب إلينا وتلطيفها حتى تختلط بالهواء، أو صد الهواء إياها عنا.
ب. مشابهة منظر الكرة الهوائية لهيئة القبة، والقبة بيت من أدم مقبب وتسمى بناء.
34. معنى البناء في كلام العرب ما يرفع سمكه على الأرض للوقاية سواء كان من حجر أو من أدم أو من شعر، ومنه قولهم: بنى على امرأته إذا تزوج لأن المتزوج يجعل بيتا يسكن فيه مع امرأته، وقد اشتهر إطلاق البناء على القبة من أدم ولذلك سموا الأدم الذي تبنى منه القباب مبناة بفتح الميم وكسرها، وهذا كقوله في سورة الأنبياء: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾
35. سؤال وإشكال: الامتنان بجعل السماء كالبناء لوقاية الناس من قبيل المعجزات العلمية، وذلك لا يدركه إلا الأجيال التي حدثت بعد زمان النزول فماذا يكون حظ المسلمين وغيرهم الذين نزلت بينهم الآية: ﴿ والَّذِينَ جاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ [الحشر: 10] في عدة أجيال فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يشعرون بأن للسماء خاصية البناء في الوقاية وغاية ما كانوا يتخيلونه أن السماء تشبه سقف القبة كما قالت الأعرابية حين سئلت عن معرفة النجوم: أيجهل أحد خرزات معلقة في سقفه فتتمحض الآية لإفادة العبرة بذلك الخلق البديع إلا أنه ليس فيه حظ من الامتنان الذي أفاده قوله: ﴿لَكُمْ﴾ فهل نخص تعلقه بفعل ﴿جَعَلَ﴾ المصرح به دون تعلقه بالفعل المطوي تحت واو العطف، أو بجعله متعلقا بقوله: ﴿فِرَاشًا﴾ فيكون قوله: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ معطوفا على معمول فعل الجعل المجرد عن التقييد بالمتعلق؟ والجواب:
أ. هذا يفضي إلى التحكم في تعلق قوله: ﴿لَكُمْ﴾ تحكما لا يدل عليه دليل للسامع، بل الوجه أن يجعل ﴿لَكُمْ﴾ متعلقا بفعل ﴿جَعَلَ﴾
ب. يكفي في الامتنان بخلق السماء إشعار السامعين لهذه الآية بأن في خلق السماء على تلك الصفة ما في إقامة البناء من الفوائد على الإجمال ليفرضه السامعون على مقدار قرائحهم وأفهامهم ثم يأتي تأويله في قابل الأجيال.
36. حذف ﴿لَكُمْ﴾ عند ذكر السماء إيجازا، لأن ذكره في قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ﴾ دليل عليه.
37. قوله: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ﴾ امتنان بما يلحق الإيجاد مما يحفظه من الاختلال وهو خلقة لما تتلفه الحرارة الغريزية والعمل العصبي والدماغي من القوة البدنية ليدوم قوام البدن بالغذاء وأصل الغذاء هو ما يخرج من الأرض وإنما تخرج الأرض النبات بنزول الماء عليها من السماء أي من السحاب والطبقات العليا.
38. كون الماء نازلا من السماء هو أن تكونه يكون في طبقات الجو من آثار البخار الذي في الجو فإن الجو ممتلئ دائما بالأبخرة الصاعدة إليه بواسطة حرارة الشمس من مياه البحار والأنهار ومن نداوة الأرض ومن النبات ولهذا نجد الإناء المملوء ماء فارغا بعد أيام إذا ترك مكشوفا للهواء فإذا بلغ البخار أقطار الجو العالية برد ببرودتها وخاصة في فصل الشتاء فإذا برد مال إلى التميع، فيصير سحابا ثم يمكث قليلا أو كثيرا بحسب التناسب بين برودة الطبقات الجوية والحرارة البخارية فإذا زادت البرودة عليه انقبض السحاب وثقل وتميع فتجتمع فيه الفقاقيع المائية وتثقل عليه فتنزل مطرا، وهو ما أشار له قوله تعالى: ﴿وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾ [الرعد: 12] وكذلك إذا تعرض السحاب للريح الآتية من جهة البحر وهي ريح ندية ارتفع الهواء إلى أعلى الجو فبرد فصار مائعا وربما كان السحاب قليلا فساقت إليه الريح سحابا آخر فانضم أحدهما للآخر ونزلا مطرا، ولهذا غلب المطر بعد هبوب الريح البحرية وفي الحديث: إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة)
39. من القواعد أن الحرارة وقلة الضغط يزيدان في صعود البخار وفي قوة انبساطه والبرودة وكثرة الضغط يصيران البخار مائعا، وقد جرب أن صعود البخار يزداد بقدر قرب الجهة من خط الاستواء وينقص بقدر بعده عنه، وإلى بعض هذا يشير ما ورد في الحديث أن المطر ينزل من صخرة تحت العرش فإن العرش هو اسم لسماء من السماوات والصخرة تقريب لمكان ذي برودة وقد علمت أن المطر تنشئه البرودة فيتميع السحاب فكانت البرودة هي لقاح المطر.
40. ﴿مِنَ﴾ التي في قوله: ﴿مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ ليست للتبعيض إذ ليس التبعيض مناسبا لمقام الامتنان، بل إما لبيان الرزق المخرج، وتقديم البيان على المبين شائع في كلام العرب وإما زائدة لتأكيد تعلق الإخراج بالثمرات.
41. ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، أتت الفاء لترتيب هاته الجملة على الكلام السابق وهو مترتب على الأمر بالعبادة و(لا) ناهية والفعل مجزوم وليست نافية حتى يكون الفعل منصوبا في جواب الأمر من قوله: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾
42. المراد هنا تسببه الخاص وهو حصوله عن دليل يوجبه وهو أن الذي أمركم بعبادته هو المستحق للإفراد بها فهو أخص من مطلق ضد العبادة لأن ضد العبادة عدم العبادة، ولكن لما كان الإشراك للمعبود في العبادة يشبه ترك العبادة جعل ترك الإشراك مساويا لنقيض العبادة لأن الإشراك ما هو إلا ترك لعبادة الله في أوقات تعظيم شركائهم.
43. الند بكسر النون المساوي والمماثل في أمر من مجد أو حرب، وزاد بعض أهل اللغة أن يكون مناوئا أي معاديا، وكأنهم نظروا إلى اشتقاقه من ند إذا نفر وعاند، وليس بمتعين لجواز كونه اسما جامدا.
44. من وجه دلالة الند على المناوأة والمضادة أنها من لوازم المماثلة عرفا عند العرب، فإن شأن المثل عندهم أن ينافس مماثله ويزاحمه في مراده فتحصل المضادة، ونظيره في عكسه تسميتهم المماثل قريعا، فإن القريع هو الذي يقارع ويضارب ولما كان أحد لا يتصدى لمقارعة من هو فوقه لخشيته ولا من هو دونه لاحتقاره كانت المقارعة مستلزمة للمماثلة، وكذلك قولهم قرن للمحارب المكافئ في الشجاعة، ويقال جعل له ندا، إذا سوى غيره به.
45. المعنى لا تثبتوا لله أندادا تجعلونها جعلا وهي ليست أندادا، وسماها أندادا تعريضا بزعمهم لأن حال العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان أهل الجاهلية يقولون إن الآلهة شفعاء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، وجعلوا الله خالق الآلهة فقالوا في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك) لكنهم لما عبدوها ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها عبادة الله، أصبح عملهم عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى لأن العبرة بالفعل لا بالقول، وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة الأقوال للأفعال.
46. قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة حالية، ومفعول ﴿تَعْلَمُونَ﴾ متروك لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول بل قصد إثباته لفاعله فقط فنزل الفعل منزلة اللازم، والمعنى وأنتم ذو علم.
47. المراد بالعلم هنا العقل التام وهو رجحان الرأي المقابل عندهم بالجهل على نحو قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]
48. جعلت هاته الحال محط النهي والنفي تلميحا في الكلام للجمع بين التوبيخ وإثارة الهمة، فإنه أثبت لهم علما ورجاحة الرأي ليثير همتهم، ويلفت بصائرهم إلى دلائل الوحدانية، ونهاهم عن اتخاذ الآلهة أو نفي ذلك مع تلبسهم به وجعله لا يجتمع مع العلم توبيخا لهم على ما أهملوا من مواهب عقولهم، وأضاعوا من سلامة مداركهم.
49. هذا منزع تهذيبي عظيم، أن يعمد المربي فيجمع لمن يربيه بين ما يدل على بقية كمال فيه حتى لا يقتل همته باليأس من كماله، فإنه إذا ساءت ظنونه في نفسه خارت عزيمته وذهبت مواهبه، ويأتي بما يدل على نقائص فيه ليطلب الكمال فلا يستريح من الكد في طلب العلى والكمال.
50. أومأ قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إلى أنهم يعلمون أن الله لا ند له، ولكنهم تعاموا وتناسوا فقالوا: إلا شريكا هو لك).
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/326.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآيات الكريمات تدعو إلى عبادة الله تعالى وحده، وتذكر أنه خالق من في الوجود، وأنه ربه الذي يربّه وأنعم عليه بالنعم، وهذا يبين أن الكافرين والمنافقين على باطل، وأن أهل الحق وحدهم هم الذين يسلكون الصراط المستقيم.
2. قال بعض العلماء: إن الخطاب بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ يكون لأهل مكة، وخطاب ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يكون للمؤمنين بعد الهجرة، ونرى أن هذا التخصيص ليس محكما دقيقا، فهذه سورة البقرة مدنية، وأهل الإيمان قد قاموا واستقروا، وأهل الشرك لا يزالون قائمين بمكة.. وفوق ذلك جاء الخطاب بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ في سورة النساء، وهى مدنية فقد قال تعالى فيها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، لذلك نرى أن ذلك الاستقراء غير كامل.
3. الأقرب أن نقول إنه إذا كان بـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فإنه يعم المؤمنين والكافرين؛ لأنه يكون متضمنا خطابا للكافة، ويكون المطلوب فيه إجابة الدعوة المحمدية بالتوحيد، مع ذكر البرهان العام الدال على التوحيد وصدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. أما النداء بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنه يكون متجها إلى بيان الأحكام التكليفية: نهيا أو طلبا، أو إباحة بنص شرعي، وسواء أكان التكليف يتعلق بالأسرة أم بالعلاقات الدولية، أم كان بالتحريض على الجهاد.
4. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ قالوا إن النداء ب (يا) يكون للبعيد، والنداء ب (أي) يكون للقريب، وهنا النداء ب (يا) و(أي) معا، ثم يزاد عليها ها التي تفيد التنبيه، وينادى للبعيد حسّا ب (يا)، وللبعيد معنويا بها أيضا، والنداء من الله تعالى لعبيده نداء من أعلى من في الوجود إلى خلقه؛ ولذا كان النداء بأداتي نداء، وهما (يا) و(أي)، ويضاف إليهما، فهو منه عزّ وجل إلى الخلق جدير بأن يكون بأعلى الصيغ، لبعد ما بين الكون وخالقه في المنزلة، وفوق أن هذا النداء من الخالق، وهذا يقتضى أعلى العلو وأبعده، وموضوع النداء له جلال وخطر، وعظيم شأن؛ لأنه العبادة أو الشرائع.
5. كثر النداء في القرآن بـ ﴿يَا أَيُّهَا﴾(2). لاستقلاله بأوجه من التأكيد وأسباب من المبالغة؛ لأن كل ما نادى الله تعالى به عباده من أوامره ونواهيه، وعظاته وزواجره، ووعده ووعيده، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم، وغير ذلك مما أنطق به كتابه أن ينادوا بالآكد الأبلغ كان المنادى الناس، مؤمنين وغير مؤمنين، فهو سبحانه وتعالى ينادى الإنسانية كلها لا فرق بين كافر ومؤمن، وأبيض وأسود، وعربي وأعجمي، والذى يناديهم به أن يعبدوه وحده لا إله غيره، وطلب العبادة من المؤمنين وغير المؤمنين، وتحقيقها في كل منهما بما يناسبه:
أ. فالكافرون الذين يعبدون مع الله تعالى الأنداد، ويتخذونهم شركاء لله ـ تعالى عن الشبيه والمثل ـ تكون عبادتهم بخلع عبادة الأوثان، والإيمان بواحد أحد فرد صمد، ليس بوالد ولا ولد، وتصديق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل ما جاء به وطاعته سبحانه فيما أمر به ونهى عنه، وبالخضوع الكامل له وحده سبحانه.
ب. وبالنسبة للمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، وصدقوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما جاء به من عند ربه العلى الأعلى، فإن ذلك يكون بزيادة الإيمان، والإذعان، والاستمرار على الإيمان والبقاء عليه مستوثقين، كلما جاءتهم آية زادتهم إيمانا لا يرتابون، ويجتمعون ويكونون قوة في هذه الأرض، وإن الازدياد من العبادة عبادة في ذاته، وكأنها منشأة بعد أن لم تكن.
6. العبادة الخضوع المطلق لله سبحانه وتعالى وحده بحيث يكون القلب كله لله تعالى، لا يحب إلا لله ولا يكره إلا لله، والعبادات تعم الصلوات، والزكوات، والصوم والحج، وغير ذلك مما يكلفه العباد، حتى الأعمال التي تكون بها الحياة، كلها تكون عبادة إذا قصد بالخير فيها وجه الله تعالى، ونفع عباده، فالصانع فى مصنعه والزارع في مزرعته إذا قصد بعمله نفع الناس ووجه الله تعالى، فهو في عبادة.
7. فالعبادة تعم كل أفعال الإنسان، واختصت من بينها الفرائض، لأنها لا يمكن أن تكون إلا لله تعالى، وهو عليم بذات الصدور.
8. وصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ ذاته العلية بصفات تدعو إلى العبادة، من له قلب يخشع، وعقل يخضع، فوصفه أولا بأنه الرب الأوحد، فقال: ﴿رَبُّكُمُ﴾ أي رباكم ونماكم، أو وربكم: تولاكم، وكلأكم بالليل والنهار، ويتبع حياتكم، فيرعاكم حق الرعاية في كل أجزاء جسمكم، ونفوسكم وعقولكم، ولا تخفى عليه خافية من أموركم، وهو بهذه الربوبية يستحق أن تعبدوه وحده، لا شريك له؛ لأنه لا أحد سواه يربكم.
9. وُصف الله تعالى ثانيا بأنه ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ والخلق معناه الإنشاء والإبداع والتقدير والتصوير، صوركم، فأحسن صوركم، والعرب كانوا يعرفون الله تعالى، وأنه وحده الذي خلقهم، كما حكى الله تعالى عنهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ وكانوا يقولون: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، فهم يؤمنون بوحدة الخالق المنشئ المكون، ويؤمنون بوحدة الذات والصفات، وإشراكهم كان إشراك العبودية، فهم يعبدون مع الله غيره آلهة أخرى، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
10. وُصف الله تعالى ثالثا بأنه خلق الذين من قبلهم، وقد وصف هذا الوصف، مع أن السابق يتضمنه، فمن خلق جيلا فإنه يخلق الأجيال كلها: من مضى، ومن حضر، ومن يجيء بعد ذلك من الأخلاف، لأنه:
أ. لا يغنى المتضمن عن الصريح.
ب. وذكر الجيل السابق، أو الأجيال السالفة للإشارة أولا إلى عموم قدرته، وإلى أنه قادر على الإحياء والإماتة فهو خلق السابقين، وأماتهم ثانيا.
ج. للإشارة إلى أن الحاضرين ليسوا مخلدين، فهم سيموتون، كما مات من سبقوهم وسيبعثون جميعا يوم الدين.
د. ولأن العرب كانوا يعتزون بأسلافهم، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه هو وحده الذي خلق أسلافهم، سواء كانوا ضالين أم كانوا مهتدين.
هـ. وإن صفة الربوبية وصفة الخلق والتكوين للكون كله، ولمن حضر من الناس، ومن سبقوهم وقبروا في مقابرهم، تقتضى ألا يعبد سواه، ولا يحمد غيره، ولا يستحق الألوهية الحق غيره، فهو الله الواحد الأحد.
11. قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ متصل بقوله تعالى: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ أي اعبدوه رجاء أن تتقوا بأن تقوا أنفسكم شر عذابه، وتكونوا في أمن من عقابه.
12. يقولون إن التقوى أقصى درجات العبادة، لأن تغليب الخوف عبادة، ورجاء النجاة عبادة.
13. وقد يقال إن قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ متصلة بقوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ ومثل قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ والمعنى أن الله تعالى خلق الناس في ماضيهم وحاضرهم وقابلهم رجاء أن يعبدوه أبلغ العبادة بالتقوى وامتلاء النفس بهيبته، والاعتزاز بعزته.
14. الاتصال بين رجاء التقوى والأمر بالعبادة أظهر وأوضح، ولا إشكال فيه.
15. (لعل) الدالة على الرجاء، الرجاء فيها من العباد، والمعنى اعبدوا فالعبادة طريق التقوى ومعها رجاؤها، وتحقيقها.
16. إن الله تعالى عالم بكل شيء فليس يجوز عليه الرجاء؛ لأنه يحتمل الوقوع وعدم الوقوع، والرجاء لا يجوز أن يكون من أحوال الله تعالى، بل هو من أحوال الخلق، لذلك قرروا أن (لعل) هنا مجازية أي أنها ذكرت على سبيل المجاز، أي أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، وجعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة وقدرة وقوة بها يختارون ويفعلون، لا يقع شيء من أفعالهم الاختيارية إلا بإرادتهم، يدركون الأمور ويتخيرون ويعرفون أسبابها ونتائجها، فحالهم حال من يرجو أن يتجهوا نحو العبادة يبتغونها، فالرجاء من حالهم، والله تعالى لا يرجو، ولا يتصور منه، إنما يتصور منه العلم، ووقوع الأمر كما علم، وكما قدر.
17. قد بين سبحانه بعد ذلك بديع التكوين، والنعم التي ينعم بها العباد، فقال تعالت كلماته: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ وتأتى بمعنى سمّى، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ وتأتى بمعنى أخذ واتخذ.
18. ﴿جَعَلَ﴾ هنا بمعنى صيّر لأنها ذات مفعولين، الأول ﴿الْأَرْضُ﴾ والثاني ﴿فِرَاشًا﴾، والمعنى جعل الله تعالى الأرض ممهدة معبدة كأنها فراش يستقر عليه الإنسان، ويجد فيها مقاما ثابتا، وإذا كان فيها نتوء كالجبال فقد جعلها الله تعالى مثبتا لذلك الفراش، ولذلك قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾
19. وصفت الأرض بأن الله تعالى جعلها مهادا، ووصفت بأنه جعلها بساطا، فهي ممهدة كالفراش وكالبساط، وتلك نعمة من الله تعالى لتسهل الإقامة عليها، والانتقال بين آفاقها، والهجرة بين أجزائها، وهى للإنسان كالعرصة في مسكنه.
20. كون الأرض فراشا لا ينافى أنها كرة تدور حول الشمس، فإنها لعظمها وانبساطها تعد فراشا أو كالفراش، ولا يحس بأنها كرة إلا من تتبع الليل والنهار والشمس والقمر، والسير فيها من المشرق إلى المغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وما يقرره العلم الاستقرائي المتتبع لما خلق الله سبحانه وتعالى.
21. ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ أي وجعل السماء بناء، أي كأنها البناء أو الخباء الذي يحيط بأهله فهي السقف، أو كالسقف، ولقد قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾، يقال: بنى على أهله. أي زفت إليه زوجه؛ لأنه من العادة المعروفة عندهم أن المرأة كانت إذا زفت لزوجها بنى لها خباء يسترهما، فهي من الأرض بمنزلة الخباء الذي يحيط بها ويظلها؛ ولذا تسمى الأرض المقلّة وتسمى السماء التي نراها المظلّة.
فضل الله:
22. قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ هذه الآية الكريمة تدل على أن الماء ينزل من السّحب المتراكمة التي تكون كالجبال، وعبر سبحانه وتعالى عن نزول الماء بأنه من السماء، لأنها وعاء السحاب، ولأنه سبحانه وتعالى منّ على عباده، بأنه جعل السماء مظلة الأرض، فناسب أن يذكر السماء مضافه إليها نعمة أخرى، وهى نعمة نزول الماء الذي يكون به الخصب والنماء، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾
23. قال سبحانه بالتنكير: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ وأسند الإخراج إليه، فلم يقل سبحانه أخرجت الأرض، أو أنبتت الأرض، أو أنبت الماء نباتا، لبيان جلائل نعمته لأنه هو المخرج، وهو المنبت، وهو الذي يربى البذر، وينتج الثمر، وتلك أسباب وهو خالق الأسباب والمسببات، فالمولود لا يولد بنطفة الفحل، ولكن بخلق الله تعالى، وجعل سبحانه وتعالى النطفة سبب الوجود.
24. إنه إذا كانت هذه القدرة القاهرة التي خلقت الحاضرين والماضين ومهدت لهم الأرض تمهيدا، وجعلت لهم السماء سقفا محفوظا، وأنعمت برزق من زواج السماء بالأرض، وأخرجت لهم منها بعض رزق الله، وهو كثير، فهو وحده المستحق للعبادة وحده، إذ لا قدرة لبشر ولا لحجر أن ينشئ خلقا أو يرزق رزقا؛ إذ لا ينفع ولا يضر.
25. لذا قال تعالى بعد هذه النعم في الخلق والتكوين: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الجعل هنا هو الاتخاذ، والند هو المثل الذي يفرض فيه أنه مماثل مناوئ، كما تقول فلان ند لفلان أي مثل مناوئ كفء له.
26. هؤلاء المشركون مع إيمانهم بأن الله خالق كل شيء، ومجرى النعم، ومنزل السحاب، مع علمهم بذلك يتخذون الأنداد ويشركون بها، يعبدونها مع الله سبحانه وتعالى وكأنها ند لله تعالى في زعمهم، وإنهم يفعلون ذلك، وهم يعلمون، أي هم يعلمون أن الله وحده هو خالق كل شيء، وأنه منزل النعم، وأنهم لا يستجيرون إلا به.
27. أو نقول: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنهم من أهل المعرفة والإدراك، والفهم والذكاء، ولا يليق بذكائهم أن يجعلوا المخلوق كالخالق، ومن لا يضر ولا ينفع كمن يملك الضر والنفع، أو إنهم يعقلون ويدركون، فذلك حث لهم على الإيمان بإثارة علمهم وعقلهم وتفكيرهم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/154.
(2) نقله عن الزمخشري إجابة على سؤال وهو: لماذا كثر النداء في القرآن ب (يا أيها)؟.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد ان ذكر سبحانه كلا من المؤمنين والكافرين والمنافقين بسماتهم وأوصافهم، وما يؤول اليه حال كل منهم انتقل الى مخاطبة البالغين العاقلين، مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين، الموجود منهم في زمن الخطاب، ومن سيوجد آمرا الجميع بعبادة الله وحده.
2. الأمر بالنسبة الى المؤمنين يراد به الثبوت والاستمرار على الايمان والطاعة، وبالنسبة الى غيرهم من الكافرين والمنافقين والفاسقين يراد به التوبة والانابة.
3. عمم الخطاب لمن سيوجد مع العلم بأن يا أيها الناس خطاب مشافهة، والمشافهة مع المعدوم لا تجوز لأن القضايا على نحوين خارجية وحقيقية:
أ. الأولى تختص بمن وجد بالفعل، ولا تشمل من سيوجد، مثل غرق من في السفينة.
ب. الثانية تشمل من وجد، ومن سيوجد، مثل اعدلوا أيها الحكام، فان هذه القضية تنطبق على كل حاكم موجود بالفعل أو بالقوة، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ من هذا الباب.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/59.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما ذكر الله تعالى أن المؤمنين على هدى من ربهم والقرآن هدى لهم، وأن الكافرين مختوم على قلوبهم؛ وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، وأن المنافقين مرضى وزادهم الله مرضا وهم صم بكم عمي (وذلك في تمام تسع عشرة آية) فرع تعالى على ذلك أن دعا الناس إلى عبادته وأن يلتحقوا بالمتقين دون الكافرين والمنافقين بهذه الآيات الخمس إلى قوله: ﴿خَالِدُونَ﴾
2. هذا السياق يعطي كون قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ متعلقا بقوله: ﴿اعْبُدُوا﴾، دون قوله ﴿خَلَقَكُمْ﴾ وإن كان المعنى صحيحا على كلا التقديرين.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/57.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ كان الكلام الماضي في ثلاث فرق من الناس باعتبار موقفهم من القرآن؛ الذي أنزله الله هدىً للناس فاختلفوا فيه.
2. وهذه دعوة عامة لأصناف الناس في هذه الآية والتي بعدها تدعوهم إلى الأمر الذي خلقوا له، وتحذرهم من الشرك الذي كان قد انتشر في الأرض مع أنه أكبر الكبائر.
3. في قوله تعالى: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ إشارة إلى أنه تحق له العبادة؛ لأنه مالككم، والعبادة تعبير عن العبودية.
4. ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ فكلكم عباده تحق له منكم العبادة حقاً عليكم وعلى آبائكم ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ربكم، أي اعبدوه لعلكم تتقون عذابه، فعبادته بخلاف عبادة الأنداد التي هي مملوكة لله مثلكم ليس لها شرك فيكم ولا تضركم إذا لم تعبدوها فلا معنى لعبادتها، أما ربكم الذي تحق له العبادة فأنتم محتاجون إلى عبادته لتتّقوا عذابه.
5. ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ بأن أعدّها لكم صالحة لتعيشوا فيها إعداداً كاملاً، حتى كأنها فراش لكم كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [الملك: 15]
6. من شاء مشى عليها ومن شاء حرث ومن شاء بنى وغير ذلك، ألا ترى أنه يتعسر ذلك لو كانت متخلخلة يهوي فيها من أراد المشي عليها أو مملوءة بالصخور التي لم يتصل بعضها ببعض، أو كالمفروشة بالمرو الحداد، أو كانت تلولاً كالجبال، لكنه سبحانه جعلها متحملة للمشي عليها والأعمال مهيأة لذلك، حتى كأنها فراش للناس.
7. ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ أي مبنيّة، قال تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذاريات: 47] وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ [الأنبياء: 32]، ويحتمل: أنها سقف للأرض من كل جهة، فهي محيطة بها من مسافة بعيدة، ولذلك فالسماء واسعة جداً، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]، وعلى هذا: فالسماء بناء محيط بالأرض وما حولها وما بينها وبين الأرض من كل جهة ـ والله أعلم ـ ولا بد أن للسماء منفعة للناس تصحح أن تعتبر السماء بناءً لهم وإن لم يعرفوها.
8. فوائد الشمس والقمر والنجوم ظاهرٌ بعضُها، وقد جاء في القرآن، وقال تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ﴾ [الصافات: 6 ـ 7] وقال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا﴾ [الفرقان: 61] وقال تعالى حاكياً: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [نوح: 15 ـ 16]، فلا يبعد أن تسمى السماء بناء من أجل النيرات؛ لأنها كالسقف، والنيرات كالمصابيح المعلقة في السقف، وهذا المعنى هو الظاهر؛ لأنه المعلوم عند المخاطبين من قبل نزول القرآن، ولا بد أن للنيرات علاقة بالسماء أوجبت اعتبارهن كائنات فيها وزينة لها، مع أنه يكفي في صحة الظرفية كون السماء محيطة بالفضاء وما فيه من الكواكب والشمس إن كانت فيه والقمر.
9. الحاصل أن السماء بناءٌ لأهل الأرض بمعنى أنها محيطة فوق كل جهة، ولهم فيها منافع بما فيها من الشمس والقمر والكواكب.
10. الفوائد التي لا تعرفها العرب لا يجب أن تكون مقصودة هنا؛ لأن الكلام مسوق لإثارة دفائن العقول ليعلموا بعقولهم بهذه الأدلة أن العبادة تحق له وحده ولا تحق لغيره ويحتج عليهم بما يعلمون، ولعله من أجل ذلك ختم الآية بقوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي تعلمون هذه الدلالة على أنه هو الذي يستحق العبادة.
11. ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي من جهة العلو حيث يكون السحاب، قال تعالى: ﴿فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الروم: 48]، وفائدة ذكره: أنه بعيد عن الناس لا تناله أيديهم ولا يقدر على إنزاله إلاَّ الله فإنزاله من السماء آية ونعمة.
12. ﴿مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ أما كونه للشرب فظاهر، من أنه ماء نزل من السماء، فبيّن سبحانه أنه الذي خلق الناس ورزقهم فهو الذي تحق له العبادة والشكر؛ لأنه المالك المنعم.
13. ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ لأنها لم تخلق ولم ترزق، وليس لها ملك في الناس، بل هي مربوبة مثلهم
14. ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أنه الذي خلقكم وآباءكم وخلق ما تحتاجون له من الماء والرزق وهو القادر على كل شيء كما قدر على خلقكم، وإنزال ماء صالح للشرب والسقي، وإخراج الثمرات المنوعة بقدرته، وهو العليم بكل شيء كما أتقن صنعكم وصنع أرزاقكم، فكيف تجعلون له مماثلاً في استحقاق العبادة وهو مخلوق ضعيف لم يخلق ولم يرزق.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/71.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في بداية هذا الفصل من السورة، دعوة إلى تحديد الموقف من قضايا الكفر والإيمان، بالوقوف مع خط الإيمان من خلال العبادة، ومواجهة فكرة الشرك والتوحيد بالأدلة الواضحة التي تلتقي بالتوحيد في حركة الحياة.
2. نلتقي في هذه الآية بأسلوب الدعوة القرآنية، الذي لا يدعو إلى الإيمان من خلال التفكير المجرد الذي يطرح القضايا من خلال المواقف التأملية، التي ينفصل فيها جانب الفكر عن أجواء العمل، فيكون للإنسان مجالان، يتحرك في أحدهما مع الفكر، وفي الثاني مع خطوات العمل، كما هي طريقة التفكير الفلسفي الذي يبعد جانب الفكر عن جانب العمل، بل يدعو إلى الارتباط العملي بالله من موقع العبادة بطريقة إيحائية تترك انطباعا في النفس بأن قضية الإيمان بالله ليست من القضايا الفكرية التي يدخل الإنسان معها في مجال المناقشة التي تحتمل الرفض والقبول، بل هي من قضايا الوجدان الذي يوحي بالفكرة من خلال الإحساس الداخلي النابع من مواجهة الكون الذي يحيط بالإنسان في كل مظاهره، حتى يجد الله متمثلا في عمق ذلك كله، في اللفتة والنظرة والشعور، حيث ينتقل من جوّ الملاحظة العفوية إلى جوّ العبادة من دون تردد أو توقف.
3. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ الذين يتحركون في الحياة على هدى إنسانيتهم في أصالتها الفطرية، وشعورها المنفتح على الحقيقة، وجهدها المتحرك في خط الفكر الأصيل، بعيدا عن عناصر الخصوصيات القومية والجغرافية والعرقية، سواء كنتم مؤمنين أم كافرين، فهذا هو النداء الذي ينفذ إلى أعماقكم ويستثير فيها الحركة نحو عبادة الله.
4. في هذا السياق، ثمة قول ينسب إلى ابن عباس والحسن، أن ما في القرآن من ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ فإنه نزل بمكة، وما فيه من ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنه نزل في المدينة، وبعيدا عن ثبوت صدور هذا الرأي عنهما، أو عدمه، فإن مضمونه يحثّنا على الوقوف عند أساس هذه الفكرة، التي في تقديرنا، ترجع إلى كون سورة البقرة مدنية كلها إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ الآية، فإنها نزلت في حجة الوداع بمنى.
5. قد يكون الأساس في هذه الفكرة، أن مكة كانت مرحلة الدعوة التي يتوجه فيها الخطاب إلى الناس كلهم من أجل إدخالهم في الإيمان، بينما يتوجه الخطاب في المدينة إلى المؤمنين من أجل تفصيل مسئولياتهم العملية باعتبارها مرحلة الحركة في الدولة، ولكن هناك ملاحظتان في هذه المسألة:
أ. الأولى: أن من الممكن مخاطبة المؤمنين في صفتهم الإنسانية لاستثارة المضمون الإنساني الذي ينفتح بهم على القضايا الحيوية في عناصر الحذر والخوف والرحمة والمحبة ونحو ذلك التي تتمثل في خصائص الإنسان من حيث هو إنسان مما يتصل بساحة الدعوة وساحة الحركة معا.
ب. الثانية: أن مرحلة المدينة لم تبتعد عن مرحلة الدعوة، لأن الكثيرين من العرب وغيرهم كانوا لا يزالون مقيمين على الشرك أو الكفر، مما يفرض التوجه إليهم بين وقت وآخر، فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين معه، لم يكونوا مستغرقين في أجواء المدينة، بل كانوا يتطلعون إلى الناس خارجها، ويتحركون من أجل توعيتهم وهدايتهم إلى الإسلام.
6. إنّ الآية توحي بأنّ الدعوة إلى الإيمان بالله وإلى عبادته، ليست خاضعة لموقف فكري بعيد عن حياة الإنسان وشعوره، ككثير من القضايا الفكرية التي ترتبط بها وتنسجم معها باعتبارها حقيقة من حقائق الحياة التي تفرض نفسها عليه، من دون أن يكون لها ارتباط به من ناحية شعورية، بل هي خاضعة لإحساس الإنسان بوجوده ووجود الناس الذين من قبله، ومرتبطة بحركة حياته، وهو يتنقل في الأرض ليعيش قضايا الحياة، أو يتطلع إلى السماء التي تمنحه الشعور بالعظمة، وتنزل عليه بركاتها التي تحوّل الأرض إلى خصب يعطي الرزق الذي يفسح للإنسان مجال الامتداد في هذه الحياة.
7. وبذلك يستوحي الإنسان في عبادته لله العظمة المحيطة به في كل مظاهر الحياة، والنعمة المتفجرة من الأرض، والمنهمرة من السماء، لتعطيه الخير والبركة والرخاء، مما يبعد العبادة عن الخضوع الأبله الساذج، ويربطها بالخشوع الذي يمتزج فيه الشعور بالعظمة، بالإحساس بالنعمة، التي يحتاج معها إلى الاعتراف بالجميل، ويجعل من علاقة الإنسان بالله شيئا يتصل بمشاعره الحميمة لا بأفكاره المجردة، وهذا ما يحقق للإنسان معنى التقوى الذي اعتبرته الآية غاية للعبادة، لأنه يمثّل الانضباط العملي على خط الله، من خلال الإحساس العميق به، في موقف نفسيّ داخلي يتجسّد فيه الإيمان المسؤول بالجانب العملي في الحياة.
8. وهذا هو ما ينبغي للعالمين في سبيل الدعوة إلى الله أن يسلكوه في أساليبهم العملية في الدعوة، أي عليهم استيحاء الجو القرآني الذي يتحرك فيه الأسلوب بعيدا عن الأجواء الفلسفية المجردة التي قد تعطي فكرا قويا، ولكنها لا تمنح الإنسان حركة الإيمان في داخل النفس، وفي أعماق الحياة.
9. ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، فإن الخلق يمثل العبودية التكوينية من خلال الإرادة الإنسانية في تحقيق معنى المضمون الواقعي لعبودية الإنسان، في وجوده لتكون مظهر الوعي المتحرك فيه، لأن القضية لا تنطلق من حالة فكرية مجردة في عقله، بل تتحرك من حالة وجودية في ذاته، تماما كما يتحسس خصائصه الشعورية الذاتية.
10. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لأن العبادة تفتح وجدانكم على الله في الإحساس بعظمته وربوبيته ووحدانيته، الأمر الذي يؤدي إلى اهتزاز العمق الإنساني في الخضوع لله، والخوف منه، والمحبة له، بحيث تصبح التقوى حالة طبيعية في حركة الذات.
11. ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أن التقوى هي الغاية للخلق، فيكون المعنى أن الغاية من خلق الإنسان هي الوصول به إلى التقوى، ولكن التأمل في الآية يؤدي بنا إلى أنها غاية للعبادة، لجهتين:
أ. الأولى: أن الكلام قد سيق للأمر بالعبادة فهي الأصل في الكلام، أمّا الخلق فقد ذكر كصفة من صفات الله التي توحي للإنسان بمسؤوليته أمام الله في عبادته له، فلا يناسب المقام رجوع الغاية إليه.
ب. الثانية: أن الغاية لا بد من أن تكون بمثابة النتيجة الطبيعية للعمل، ونحن نعرف أن مجرّد الخلق لا يتصل بالغاية، بل الذي يحققها هو العبادة ذاتها التي تثير في النفس الشعور بالله، والخضوع له، مما يوحي له بمسؤوليته الممتدة أمام الله، ويؤكد ذلك بممارسته العملية الدائمة المنفتحة على الحق.
12. ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ ومستقرا ومقاما تستريحون فيه، وتتقلبون عليه، في حركتكم، وفي يقظتكم ومنامكم.
13. لقد جاء في الآية التعبير عن الأرض بأنها فراش، وعن السماء بأنها بناء، وهما استعارتان، أريد بهما التدليل على معنى دقيق، فقد جاءت كلمة فراش لتعبر عن الراحة التي يحس بها الإنسان في وجوده على هذه الأرض بما أودعه الله فيها من قوانين الحياة، تماما كالراحة التي يشعر فيها الإنسان بالإغفاءة الهانئة على الفراش الوثير بعد تعب يوم مكدود.
14. ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ من فوقكم كما هي القبة المطلّة عليكم، وخلق فيها الشمس التي تمنحكم النور والدفء والحرارة، والقمر الذي يضيء لكم ظلمات الليل ويحدّد لكم المواقيت.. وجاءت كلمة بناء للإيحاء بالتماسك والقوة التي تمنع من السقوط على الرغم من أنها لا تعتمد على قواعد ثابتة في الأرض.
15. ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ يحيي الأرض بعد موتها، ويمنحها الحيوية التي تعطي العناصر المودعة فيها قوّة النموّ وحركة الخصب، ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ من البذور المتناثرة في أعماقها وسطوحها ﴿رِزْقًا لَكُمْ﴾، وذلك لتلبية حاجات أجسادكم الغذائية، بما يكفل استمرار حياتكم وتواصلها، لتعتبروا بذلك كله، ولتعرفوا حاجتكم وفقركم إلى الله الذي لا يملك غيره أن يعطيكم ما أعطاكم، ويرزقكم ما رزقكم من فضله، ولتؤمنوا بأنه الله الذي لا إله إلا هو لا شريك له، لأن كل من عداه فهو مخلوق له، فكيف يكون ربا للناس!؟
16. إنّ التطلّع إلى الأرض فيما تمنحه للإنسان من الراحة بفعل القوانين الطبيعية المودعة فيها، وإلى السماء في تماسكها وفي خيراتها التي تغدقها على الإنسان، وفيما توحيه من عظمة الخالق من خلال سر عظمة الخلق، إن ذلك كله يدفعنا إلى رفض الأنداد والشركاء لله، عندما نحصل على القناعة الثابتة التي تؤكد لنا ـ بما لا يقبل الشك ـ أن الله هو وحده صانع ذلك كله، لأنه ـ وحده ـ القادر على ذلك كله.
17. ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ تحبونهم كحبكم لله، وتطيعونهم كطاعتكم له، وتعبدونهم كما تعبدونه، في القوت الذي لا يملك هؤلاء لأنفسهم من أمرهم أو أمر الناس شيئا، لأنهم عباد أمثالكم لا فرق بينكم وبينهم في معنى العبودية لله الواحد الذي لا إله إلا هو، ولا شبيه له ولا نظير، ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك كله، فكيف تحوّلون علمكم جهلا بالسير في دروب الجاهلين؟
__________
(1) من وحي القرآن: 1/166.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد تذكير الناس بنعمة الله عليهم المتمثلة في إيجادهم وإيجاد أصولهم، ينتقل بهم الخطاب إلى تذكيرهم بنعم الله في الكائنات من حولهم، وفي هذا تبصير لهم بآياته الكبرى الدالة على وحدانيته، والقاضية بوجوب الانقياد له والإذعان لأمره ونهيه، فهو مرتبط بما أمروا به من عبادته.
2. الآيات السابقة قسمت الناس إلى طوائف ثلاث، مؤمنة ظاهرا وباطنا، وكافرة ظاهرا وباطنا، ومذبذبة بين الطائفتين، مؤمنة في الظاهر وكافرة في الباطن، وبينت صفات كل طائفة، وما يؤول إليه أمرها، وجاء عقبها هذا النداء العام الموجه إلى عموم الناس على انقسام طوائفهم، ويدعوهم إلى عبادة الله، ويذكرهم بمختلف آلائه وفي هذا النداء إيناس للنافر المستوحش مما سبق من قوارع الإنكار، وتذكير للغافل بما تستوجبه نعم الله عليه من أداء شكرها بإخلاص العبادة لمن أسبغها عليه، وهو في حقيقته نداء موجه إلى الفطرة الإنسانية لإيقاضها من نومها، وتنبيهها من غفلتها.
3. نداء الفطرة يعد أنجح طريقة في التربية النفسية، ففيما تقدم من قواصف الإنكار وصوادع الوعيد؛ كفكفة للنفس الطائشة عن غلوائها في الشر، وفي النداء الذي يتبع ذلك تذكير لها بأنها لم تزل ـ مع سوابق إعراضها وبعد شططها في الصدود ـ يراد لها الخير ولا يطلب منها إلا ما فيه مصلحتها، وبهذا الذي ذكرته يتكشف ما بين الآيات السابقة وبين هذه الآية وما بعدها من رباط.
4. لطف الخطاب هنا بعد شدته هناك لا ينافي اندماج الطائفة الأولى في عموم هذا الخطاب، فإن سلاسة القول كما تتألف النافر، وتقرب البعيد، تزيد الأليف ألفة، والقريب قربا، وتمنحها باعثا نفسيا على إتيان ما يراد منهما من الخير، وتزيد همتهما نشاطا، وفكرتهما اتقادا، ورؤيتهما وضوحا، على أن تلك الطائفة المؤمنة نفسها لا تخلو عادة من تأثر بالوعيد الموجه إلى غيرها، لأن من شأن المؤمن أن يكون شديد الحذر، مشفقا على نفسه من انزلاق قدمه فيكون في عداد أهل الضلال.
5. إذا كانت الآيات السابقة تثير الوجل وتبعث القلق في نفس المؤمن بهذا السبب، فإن هذا الخطاب يفيض عليه الأنس والطمأنينة، فتتعادل في نفسه كفتا الخوف والرجاء.
6. هذا هو الذي يقتضيه اللفظ، فإن تعريف الناس تعريف جنسي ـ إذ لا عهد ـ فيشمل جميع الناس على اختلاف طوائفهم.
7. من المفسرين من:
أ. يخص هذا الخطاب بطائفتي الكفر والنفاق، وهو الذي رجحه ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس.
ب. ومنهم من يرى أنه خاص بالمنافقين وحدهم، وعزي إلى ابن عباس أيضا.
ج. ومنهم من يقول إنه خاص بكفار العرب.
د. ومنهم من يقول إنه لليهود وحدهم.
والتخصيص بغير مخصص تحكم.
8. مما يقوي العموم جواز التأكيد بما يفيد العموم في مثل هذا اللفظ، وجواز الاستثناء.
9. استشكل القائلون بعدم خطاب المشرك بفروع الشريعة توجيه هذا النداء إلى عموم الناس من مؤمن ومشرك وتضمنه الأمر بالعبادة، وتكلفوا الإجابة عن ذلك بالعديد من الأجوبة هروبا من الواضح إلى الشكل، وبما أن الخطاب بفروع الشريعة شامل للمسلمين والمشركين لا أجد ما يدعو إلى ذكر هذه التكلفات.
10. قبل الحديث في هذا الموضوع ينبغي النظر فيما ترتبط به هنا، فقد تقدمها الأمر بالعبادة في قوله: ﴿اعْبُدُوا﴾، وذكر الخلق في قوله: ﴿خَلَقَكُمْ﴾، وكل منهما يسوغ ارتباطهما به، وإن زعم القرطبي بأن تعلقهما بخلقكم لا يجوز؛ لأن من ذرأه الله تعالى لجهنم لم يخلقه للتقوى.
11. وقد عزا ذلك أبو حيان في البحر المحيط إلى الهدى، وهو قول مرفوض لأن الله تعالى يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، وهو نص صريح على أنهم مخلوقون للعبادة، ولا ينافي ذرء كثير منهم لجهنم كما أخبر الله، فإن استحقاقهم العذاب إنما هو بسبب إعراضهم عما خلقوا له من العبادة والتوحيد، وذلك لم ينشأ إلا عن اختيارهم بأنفسهم واستجابتهم لدعاء الشيطان، ولم يجبروا على شيء منه، وإن مضى القلم بحسب ما علم الله ما يكون منهم، وإذا جاز كونهم مخلوقين للعبادة فأي مانع من أن يكونوا منهم.
12. إذا جاز كونهم مخلوقين للعبادة فأي مانع من أن يكونوا مخلوقين للتقوى مع أن التقوى هي الغاية من العبادة، وما منعه المهدوي والقرطبي هو الذي عول عليه الزمخشري واقتصر عليه في كشافه، وسوغه ابن عطية.
13. وإنما قلت بصحة كلا المذهبين لأن قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ظاهرا في جواز تعلقها بخلق كما ذكرت، والرأي الآخر يعززه اقتران ذكر العبادات بذكر التقوى في مواضع من القرآن كآيات الحج، وبداية آيات الصوم، وهي قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، وفي معنى ذلك قوله سبحانه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، وهذه هي عين التقوى، وقوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾
14. جعل ابن جرير من الآية الكريمة سندا لمذهبه في جواز التكليف بما لا يطاق حيث أمر الله عز وجل عباده بعبادته مع علمه بأن كثيرا منهم لا يؤمنون، وتابعه على ذلك جماعة من المفسرين ولا مستند لهم في الآية، فإن إعراضهم عن الهدى ليس بإجبار من الله وإنما هو كان بمحض اختيارهم وما كتبه الله عز وجل عليهم إنما هو بحسب ما علم من هذا الاختيار.
15. لا إشكال في دخول المؤمنين في عموم هذا الخطاب الداعي إلى عبادة الله، وإن كان من قبل يعبدونه لا يشركون به شيئا، لأن الأمر بالعبادة أعم من أن يحصر في إنشائها أو المواظبة عليها والاستزادة منها، فيحمل خطاب كل فريق على ما يلائم حاله.
16. الخطاب كما أنه موجه إلى المعاصر لنزوله، يتوجه إلى من بعدهم من أجيال البشر المتعاقبة بطريق النص لا القياس، فإنه خطاب صادر من الخالق العظيم إلى هذا الجنس من المخلوقين، وليس خطاب الحق كخطاب الخلق، إذ لم يكن خطاب مشافهة حتى يقال كيف يخاطب من هم في أصلاب الآباء أو أرحام الأمهات؟ وإنما هو خطاب لا تعتبر فيه مقاييس الخلق فهو نداء سرمدي يواجه كل من سمعه أو تلاه من جديد، وبهذا يستغنى عما فاله أكثر المفسرين في هذا الموضوع.
17. صدر الخطاب بـ [يا] وهي أصل حروف النداء فيه، ولذلك ينادي بها القريب والبعيد على الراجح، خلافا لمن قال إنها مخصوصة بالبعيد، وإن نودي بها القريب فلتنزيله منزلة البعيد إما لسهوه وغفلته، وإما لاعتقاد البعد المعنوي بين المنادي والمنادى، ولذلك ينادى بها الله سبحانه وتعالى لأجل تنزيل المنادي نفسه منزلة البعد لضعفه وعجزه وقصوره هضما لنفسه، واعترافا بما هو متلبس به مما يبعد عن مقامات الزلفى ودرجات المقربين.
18. [أي] وصلة لنداء ما دخل عليه الألف واللام، ومخاطبة الناس هنا بعد الإخبار عنهم فيما سبق، التفات كالذي تقدم شرحه في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، والذي يحسنه هنا ـ بجانب النكتة العامة وهي تطرية الكلام وتجديد نشاط سامعه ـ أن توصيف كل طائفة من تلك الطوائف الثلاث وبيان أحوالها وجعلها في حكم الحضور، فحسن نداؤها وتعميمها بالخطاب، مع ما ذكرته من أن أنس هذا الخطاب يجدد نشاط الصالح، ويكف من شطط المفسد.
19. اختيار لفظة الرب دون سائر أسمائه تعالى، لما في مدلوله من معنى التربية بمختلف الآلاء الظاهرة والباطنة، وفي هذا حفز للمسارعة إلى ما أمر به من العبادة، لأن الخطاب صادر من الرب والعبادة المأمور بها له.
20. وفيه أيضا نوع تعليل للأمر؛ لأن من القواعد المعروفة أن الحكم على المشتق يؤذن بعليته، ويقوي ذلك ما ولي اسم الموصول من ذكر الخلق وما بعده، وهذا لا ينافي أن يكون الله تعالى حقيقا بالعبادة وجديرا بالطاعة المطلقة بنفس علو ذاته وكمال صفاته، مع قطع النظر عما أفاضه على عباده من صنوف النعم؛ أهمها إخراجهم من العدم إلى الوجود الذي ترتبت عليه بقية الآلاء، إذ لا مانع أن يراعى في العبادة الكمال الذاتي للمعبود، وما صدر عنه من فيض هباته للعابدين بل هذا هو المطلوب.
21. الخلق أصله التقدير والتهيئة يقال خلق الأديم إذا هيأه للقطع وخلق الأمر إذا قدره، وإذا نسب الخلق إلى الله سبحانه فهو بمعنى الإنشاء والاختراع على غير سبق مثال، وأقرب ذلك أن يقال: هو الإخراج من العدم إلى الوجود، وبهذا المعنى فهو من اختصاص الله سبحانه وتعالى فلا يصح إسناده إلى غيره، فلا يوصف مخلوق بالخالقية.
22. ما جاء في سورة آل عمران من قوله حكاية عن عيسى عليه السلام: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾، ومثله ما في سورة المائدة فهو محمول على مطلق الصنع، ولم يرد به اختراع على غير سبق مثال، وكان ذلك قبل تخصيصه في العرف الإسلامي بالله عز وجل، ونحوه قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾
23. لا مسوغ لقول أبي عبدالله البصري المعتزلي إن إطلاق الخالق على الله محال لمصادمته وصف الله نفسه بالخالقية في نحو قوله: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ﴾، وإن علل رأيه بأن التقدير يستدعي الفكر والحسبان؛ إذ لا قيمة للنظر مع ورود النص، على أن قياس الغائب على الشاهد لا يصح فالله سبحانه يخلق ويقدر بدون احتياج إلى ما يحتاج إليه المخلوقون من الوسائل.
24. بما أن أقرب شيء إلى الإنسان نفسه ذكر المخاطبون أولا بخلق أنفسهم، ثم أتبع ذلك تذكيرهم بخلق أصولهم التي ترتب وجودهم على وجودها، ومن المعلوم أن من لم تُجدِه الموعظة من نفسه لم تُجدِه من غيره، والخلق هو أصل النعم جميعا، وكما أن خلق الإنسان نفسه نعمة جُلىَّ فخلق أصوله يعد من كبريات النعم لترتب وجوده على وجودها.
25. لعل تفيد التوقع المشترك بين الرجاء والاشفاق، فإن كان المتوقع محبوبا فهي للرجاء، وإن كان مرهوبا فهي للإشفاق، مثال الأول قول التائب: لعل الله يرحمني، ومثال الثاني قول الخائف: لعل العدو يدهمني.
26. كلا الأمرين مستحيل على الله سبحانه، فمن بيده ملكوت السماوات والأرض وهو بكل شيء عليم، يستحيل عليه الرجاء والاشفاق ومن ثم كان مجيء لعل في كلامه تعالى داعيا إلى إمعان النظر فيما يراد بها.
27. إذا عرفت الاختلاف فيما ترتبط به (لعل) في هذه الآية لنعد إلى بيان معناها هنا لعدم جواز معناها الحقيقي ـ وهو التوقع ـ عليه سبحانه، وللعلماء في ذلك مذاهب:
أ. أولها: لسيبويه وجمهرة من أئمة العربية والتفسير، وهو أنها على حقيقتها من معنى الرجاء، غير أن هذا الرجاء ليس متلبسا بالله سبحانه، وإنما متلبس بالمخاطبين وهم الناس، ومعنى ذلك أنهم مأمورون بأن يعبدوا الله وهم راجون أن تفضي بهم عبادتهم إلى التقوى، وهو صلاح الظاهر والباطن كما هو شأن العبادة وعليه [فلعل] متعلقة بـ [اعبدوا] دون [خلقكم] لتعذر أن يكونوا حال خلقهم راجين أن يتقوا، إذ لم يكونوا آن ذاك أهلا للتفكير أو الرجاء.
ب. ثانيها: لبعض المفسرين، وهو أن الرجاء لا يلزم أن يكون من المخاطِب أو المخاطَب، وإنما يكون حسب الواقع؛ وذلك أن يكون الأمر مئنة لرجاء كل من أمعن فيه النظر لتوفر أسباب الرجاء، والباعث عليه هنا أن الله عز وجل خلق الناس في أحسن تقويم، وهداهم النجدين، وأفاض عليهم نعمه، وأرسل إليهم رسله وأنزل إليهم كتبه، فكانوا مئنة لأن يرجى منهم التقوى.
ج. ثالثها: أن لعل هنا محمولة على التعليل؛ وهو قول طائفة من النحويين، منهم الكسائي، وقطرب، وأبو علي الفارسي، وابن كيسان، وابن الأنباري، ونحا نحوهم بعض المفسرين وفي مقدمتهم ابن جرير.. وإذا تعذر حملها على الترجي فلا معنى تحمل عليه إلا التعليل، لجواز أن تحل محلها اللام أو كي التعليليتان، والذي أراه أن كثيرا من الآيات شاهدة بصحة هذا المذهب كقوله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾، إذ لا مساغ للترجي هنا إلا على ما تقدم في المذهب الثاني وهو لا دليل عليه، وبالغ الزمخشري في إنكار مجيئها للتعليل، وتابعه الجرجاني وأبو حيان، وجماعة من المفسرين وغيرهم، والأولى أن يصار إلى الدليل، وذكر ابن أبي حاتم أن لعل في القرآن تعليلية إلا في موضع واحد، وهو مروي عن بعض المتقدمين من أئمة التفسير، ولا يخلو من مبالغة.
د. رابعها: أنها للإطماع وذكر الزمخشري أنها جاءت للإطماع في مواضع من القرآن وعد قول من قال بأنها تأتي بمعنى كي ساريا إلى أدمغة الذين قالوه من حيث إن إطماع الله لعباده جار مجري وعده المحتوم، ونظّره بما يكون من الملوك في مقابل مطالب الرعايا من الاقتصار على الرمزة، أو الابتسامة أو النظرة الحلوة، أو الكلمات المؤشرة إلى الفوز بالمطلوب، وإذا ما حصل ذلك منهم لم يبق للطالب شك في نجاح مطلوبه والفوز بمرغوبه، وعلى هذا السنن جرى خطاب ملك الملوك.
هـ. خامسها: أن الإتيان بلعل لأجل النظر إلى أن الله سبحانه خلق الناس واختصهم من بين خلقه بالعديد من المزايا، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وأقام عليهم حجته بإرسال رسله وإنزال كتبه، وأمرهم بالاستقامة على الخير ونهاهم عن الانحراف إلى جانب الشر، ووعدهم وتوعدهم وهي حالة مرجحة لاستمساكهم بحبل التقوى عند كل من يفكر في أمرهم، فعبر بلعل الدالة على الرجاء عن طلب التقوى الصادر من الله تعالى إليهم، على طريقة الاستعارة التبعية، ويحتمل أن تكون الاستعارة تمثيلية إذا شبهت حالة بحالة، وذلك أن ينظر إلى جانب الخالق والخلق والمخلوقين، وطلب التقوى منهم، فيقابل ذلك بما إذا حصل رجاء من راج في مرجو منه، وقد طويت أركان هذا التشبيه ما عدا لعل لأنها العمدة فيه وإن لم يقتضها سياق الكلام، والذي يتبادر لي أن هذا المذهب لا يختلف عن المذهب الثاني إلا في أسلوب العرض، وعلى كلا المذهبين فهي مرتبطة بخلق، وأما المذهب الأول فهو مبني على ارتباطها بـ) اعبدوا) كما علمت، وأما على المذهبين الثالث والرابع فيجوز الأمران، والصحيح عندي المذهب الثالث لبعده عن التكلف وظهور أدلته، وإن أنكره من أنكر.
28. ومعنى جعل الأرض فراشا؛ تهيئتها لأن تكون مستقرا ومستودعا للمخلوقين فيها، فهي كالفراش من حيث أنهم يتقلبون عليها حسبما أرادوا، فعلى ظهرها يمشون ويقعدون وينامون.
29. ومن حكمته سبحانه لم يجعلها رخوة كالوحل والدقيق، ولا لطيفة كالماء والهواء، ولا صلبة كالصلد، بل جعلها مهيأة لراحة الإنسان كما يقتضيه حاله، وتقديم ذكرها على ذكر السماء لأنها إلى الإنسان أقرب وحاجته إليها أمس.
30. نجد من الناس من يتعلق بقوله تعالى: ﴿ والأرض فراشا ﴾ في إنكار كروية الأرض، مع أن كونها فراشا لا ينافي كرويتها بحال، كما نص عليه الزمخشري وهو من المفسرين القدامى، ونبه عليه كثير من المتقدمين وذلك أن صلاحها للاستقرار عليها هو معنى كونها فراشا.
31. الأصل في لفظة السماء أن تطلق على كل ما علا، كسقف البيت والخيمة، لأنها مأخوذة من سما إذا ارتفع، وخصصت في العرف بهذا الفضاء المحيط بالكرة الأرضية الذي نرى أبعاده شبيهة بقبة زرقاء مضروبة على الأرض، ولذلك تعتقد العامة أنها جسم أزرق مبني كالقبة، وما هي إلا فضاء واسع يسبح في عبابه مالا يحصى من الأجرام الفلكية.
32. هذا لا ينافي كونها طبقات لما عرف من أن الفضاء يتكون من طباق، كما أخبر الله سبحانه وفسره الاكتشاف العلمي، ومن الأدلة البارزة أن المراد بالسماء هو هذا الفضاء، قوله سبحانه في الشجرة الطيبة: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾، مع العلم أن فرعها لا يمتد إلى الأجرام الفلكية، ومثله قوله هنا: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ مع كون الماء ينزل من طبقة قريبة جدا من الأرض ينشأ فيها السحاب ويشبه في تراكمه الجبال وهو المراد بقوله: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾، والراكب على الطائرة يخترق هذه الطبقة ويتجاوز هذا السحاب.
33. المراد من جعل السماء بناء الربط بين أجرامها بسنة الجاذبية، التي هي أشبه بوضع لبنة على لبنة في البناء، فإنها يشد بعضها بعضا بما أودع الله سبحانه في كل منها من طبائع تتلاءم كما يشد اللبن بعضه بعضا، وذلك من أسباب تمكن الإنسان من الاستقرار على الأرض حتى يأتي وعد الله بانحلال هذا الرباط وتداعي هذا البناء، كما أخبر تعالى في قوله (إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت)
34. بجانب ذلك فإن الغلاف الهوائي المحيط بالكرة الأرضية أشبه ما يكون بالسقف المبني الواقي، فالشهب التي تتقاذف في أرجاء الفضاء لا تكاد تصلنا بسبب هذا الحاجز الطبيعي، وكذلك الأهوية المنبعثة من الأجرام السماوية ذات الطبائع المهلكة أو المؤذية، فإنها باتصالها بهذا الحاجز يصدها عن الوصول إلينا إلا بعد أن تلطف وتتكيف مع طبيعة هذه الكرة الأثيرية الملائمة لطبيعة الأرض ومن فيها.
35. على كلا المعنيين يتضح معنى جعل السماء بناء لها، وهو يعد من الإعجاز العلمي، إذ لم تكن هذه الحقائق واضحة للناس في عهد نزول القرآن، خصوصا أولئك الأميين الذين نزل بينهم.
36. بجانب هذا فإن التعبير عن هذه الحقائق بهذا الأسلوب الغريب يعد نمطا من أنماط الإعجاز البياني، وذلك أن القرآن واجه عصورا مختلفة تنوعت فيها الثقافات، وتباينت فيها التصورات باختلاف أطوار البشر، واختلاف علومهم وآدابهم، ومع ذلك فقد وسع هذا التعبير جميع هذه الأحوال ولم يصطدم مع مفاهيم أي جيل من هذه الأجيال:
أ. فالبدوي البدائي الذي لم يكن يدرك شيئا مما سبق الحديث عنه؛ من ترابط الأجرام الفلكية، وإحاطة الأرض بمظلة هوائية إذا تلا هذه الآية أو تليت عليه فهم من معناها ما وصل إليه فهمه، ولم تصطدم بشيء من تصوراته حول الكون.
ب. والعالم الفلكي في هذا العصر الذي توفرت لديه وسائل الاكتشاف التي لم تكن في الحسبان من قبل يرى أن الآية الكريمة ما جاءت إلا لتخاطب أمثاله، فسبحان من وسع كلامه جميع خلقه وهو بكل شيء عليم.
37. المراد بإنزال الماء من السماء، إنزاله من هذا الفضاء الذي يعلو الأرض بعد أن تتصاعد إليه الأبخرة ـ بتأثير حرارة الشمس ـ من المحيطات والبحار والأنهار فتتجمد في الفضاء لتأثير البرودة، ويتكون منها السحاب فتذوبه الطاقة الحرارية، وينهمر منه هذا الودق النافع للعباد.
38. ذلك كله بمشيئة الله، ولو شاء لخلق الماء في هذه الأرض نفسها من غير أن يتنزل من السماء، ومن غير أن يمر بأي طور من هذه الأطوار، كما أنه سبحانه لو شاء أن يخلق الناس والبهائم من غير لقاء بين الذكر والأنثى، ومن غير مرور بأطوار الحمل لكان ذلك، ولكنه ـ جلت حكمته ـ أراد بتنقل الأشياء من طور إلى آخر، وتقلبها من حال إلى أخرى تذكيرا للعباد، وتبصيرا بحكمة المبدأ وإمكان المعاد.
39. جمد كثير من المفسرين على ظاهر الآية، وزعموا:
أ. أن المطر يتنزل من السموات العالية حيث الأجرام الفلكية، وادعوا أن السحاب ليس هو إلا غربالا له.
ب. ومنهم من قال إن القطرات التي تتنزل من السموات هي بحسب حالها الذي نشاهده.
ج. وبالغ بعضهم فادعى أن المطر ينزل من تحت شجرة من أشجار الجنة.
40. بالغ كثير من المفسرين في رد الرأي الصحيح وعدوه من الأوهام الفلسفية، وما دروا أنهم هم الذين أسرتهم الأوهام بسبب ركونهم إلى الروايات الكاذبة التي راجت في أوساط الناس بعد ما مهد اليهود لرواجها، وليس لشيء منها سند يعول عليه، إذ لم يثبت أي شيء منها عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو عن أصحابه ولا يصح الآن بعد ما وضح الصبح لذي عينين أن يتعلق أحد بهذه الأوهام، فقد دلت المشاهدة على كذبها فكثيرا ما يخترق الراكبون على الطائرات طبقات السحاب الماطر حتى إذا جاوزوه وكانوا أعلاه لم يروا للمطر أثرا، فأين هذه القطرات التي هي في حجم الجمال؟
41. العجب من أولئك الذين صدقوا هذه الأوهام فعولوا عليها في تفسير كلام ربهم، كيف عزب عنهم وصف الله تعالى في القرآن إنشاء السحاب نحو قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾، وقوله ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾، وقوله ﴿ والله الذي أرسل فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها ﴾، وهذه الآية نص صريح على أن المطر من نفس السحاب لأن الإحياء إنما يكون به والضمير في قوله ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ عائد إلى السحاب.
42. من حكمة الله تعالى أن جعل في الماء خاصية الإنبات، وجعل في الأرض مثلها، وعندما تلتقي الخاصيتان وتتفاعلان يتولد النبات بمشيئته تعالى كما يكون اللقاح باجتماع ماء الذكر والأنثى في الرحم وذلك هو المقصود بقوله: ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾
43. اختلف فيما عطف عليه قوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ :
أ. ذهب فريق إلى أنه معطوف على ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾، لأن العبادة المطلوبة هي العبادة المحضة التي لا يشوبها شرك، وجعل الأنداد لله مناف لها، فلا غرو إذا كان الأمر بها يتضمن النهي عن اتخاذ الأنداد بطريق اللزوم، غير أنه قد يخفى على الكثير ممن تربوا على الجاهلية واعتادوا اتخاذ الأنداد له سبحانه، فمن ثم طرح بهذا اللازم معطوفا على ملزومه بالفاء الرابطة بين معطوفيها.
ب. ذهب آخرون إلى أنه معطوف على ﴿تَتَّقُونَ﴾، ونظروه بأطلع من قوله سبحانه: ﴿ لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى ﴾، وعليه فهو من ضمن ما يتعلق بلعل؛ سواء قيل إنها تعليلية أو للترجي على حسب الاختلاف الذي أوردته من قبل.
ج. وقيل: هو مرتبط بجملة ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾، وعليه فالموصول مقطوع عما قبله، وإنما هو خبر لمبتدأ محذوف ولا يخلو من تكلف.
د. الأبجح أنه مرتبط بجميع ما تقدم من تعداد الآلاء المتنوعة التي تبدأ بخلقهم وخلق من قبلهم، وما ذكر بعده من جعل الأرض فراشا لهم والسماء بناء، وإنزال الماء من السماء، وما يتبعه من إخراج رزقهم من الأرض، فإن جميع ذلك باعث على إخلاص العبادة لله الذي أغدق عليهم هذه النعمة فكان نهيهم عن اتخاذ الأنداد له سبحانه ـ بعد تذكيرهم بنعمه التي تقتضي منهم الشكر المنافي للإشراك ـ من الملاءمة لما تقدمه بمكان.
44. الند هو المثل المعارض، وقيل: ولو لم يكن معارضا، وإنما الغالب في الأنداد التنافس والتعارض بينها، فلذا خصه الأولون بالمعارضة، وهؤلاء المخاطبون لم يكونوا يعتقدون في معبوداتهم أنها معارضة لله تعالى، وإنما كانوا يعتقدونها وسيلة توصلهم إلى مقامات الزلفى منه، غير أنهم عدوا بمنزلة من اعتبرها معارضا له نظرا إلى أن العبادة من خصوصيات الخالق، فإشراك غيره فيها يعني اعتبار ذلك الغير في مقام الند له.
45. النهي عن جعل الأنداد لله يعم جميع أنواع الجعل:
أ. سواء كان بالتوجه إليها بالعبادات المعروفة؛ كالتقرب إليها بالركوع والسجود، والقرابين والنذور.
ب. أم كان بالضراعة والابتهال وطلب قضاء الحاجات التي لا يمكن لمخلوق قضاؤها.
ج. أم كان باعتقاد قدرتها على التصرف في هذا الوجود.
د. أم كان بالطاعة المطلقة التي تخرج بالصادرة منه عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
وقد روي عن سلف الأمة ما يدل على ذلك كله، والاختلاف فيما روي عنهم لا يتجاوز أن يكون من باب الاختلاف في مراعاة الأحوال بحسب اختلاف المقامات، وإلا فالنهي شامل لذلك كله.
46. ما أدق هذه التفاسير المأثورة عن السلف الصالح في معنى الأنداد، وما أعزب فهم كثير من الناس عنها، فلعلهم يتصورون أن اتخاذهم الأنداد لا يعدو عبادة الأصنام المنحوتة من الأحجار، ولا يدركون أن الأمر أعم منه، فقد تكون أصنام البشر أضر من أصنام الحجر إذا ما عظم الطواغيت وانقادت لهم الناس، وخضعوا لأحكامهم الجائرة، وآثروا ضلالهم على هدى الله، ورددوا شعاراتهم الزائفة التي ما أنزل الله بها من سلطان ولا يقصد بها إلا نقض عرى الدين وهدم صرح التوحيد، وإذا كان من شأن عقيدة التوحيد تطهير النفوس من الأوهام، وتزكية الأعمال بإخلاصها لله، فإن من شأنها أيضا تحرير الإنسانية حتى لا تخضع لغير الله ولا تتحاكم إلى غير شرعه، ولا تنقاد إلا لحكمه، ولا تذعن لغير طاعته، فلله الخلق ولله الأمر، وكل من تطاول فأمر بما يخالف أمره تعالى فهو متطاول على سلطان الله.
47. تذييل الآية بقوله: وأنتم تعلمون) لأجل حفزهم على النظر في ملكوت الله الدال على ملكه القاهر وسلطانه الباهر، لينشأ عن هذا النظر إخلاص العبادة لوجهه والاستسلام لأمره ونهيه.
48. المراد بكونهم يعلمون أن الله خلقهم مهيئين للعلم بما آتاهم من أسبابه ومنح كلا منهم من القوة الفكرية ما يمكنه من التفرقة بين الحق والباطل، والتمييز بين الهدى والضلال، لولا إتباع الشهوات، وتحكيم العادات، والتأثر بالبيئات فإن هذه هي عوامل إطفاء نور الفطرة وإخماد جذوة الفكر، فإذا لم يبصر أحد الهدى فما هو إلا من تقصيره في النظر والملامة لا تعود إلا عليه، فالخلقة كاملة والفطرة سليمة.
49. كونهم من شأنهم العلم لا ينافي ما سبق من وصف المنافقين بعدم العلم وعدم الشعور، فإن العلم والشعور المنفيين هناك علم خاص وشعور خاص لا مطلق العلم والشعور، وقد علمت أن نشأ عدم شعورهم وعلمهم تقصيرهم في النظر بسبب هوى نفوسهم واتباع شياطينهم، وليس ذلك فيهم جبليا.
50. هذا وفي تذكيرهم بأنهم يعلمون في مقام التقريع والزجر، تربية نفسية بالغة، فإن تذكير الإنسان بأسباب الكمال في نفسه حافز له على استخدام هذه الأسباب في تغطية جوانب نقصه، وهو مسلك تربوي قراني جاء ممن يعلم خفايا النفوس، ويحيط بأسرار طبائعها.
51. لا داعي إلى تقدير مفعول لـ [تعلمون] لأن المراد به أنهم متصفون بالعلم، وليس المراد به تذكيرهم بمعرفتهم بشيء معين، خلافا لبعض المفسرين الذي قدر بعضهم؛ وأنتم تعلمون أن أولئك الأنداد ليسوا أهلا لأن يعبدوا، وقدر آخرون منهم؛ وأنتم تعلمون أن الله وحده هو الخالق، وآخرون؛ وأنتم تعلمون أن الله لا ند له في التوراة وهذا مبني على أن الخطاب موجه إلى اليهود فحسب، وقد علمت أن الصحيح غير ذلك.
__________
(1) تفسير الخليلي: 2/344.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. فيما سبق من آيات كتاب الله سبحانه تبيّن ثلاث مجموعات هي: مجموعة المتقين، ومجموعة الكافرين، ومجموعة المنافقين، فالمتقون هم المشمولون بالهداية الإلهية، والمنافقون هم الذين طبع الله على قلوبهم، والمنافقون هم المرضى الذين زادهم الله مرضا، وفقدوا قدرة التشخيص نتيجة أعمالهم.
2. أمّا الآيات المذكورة فدعت النّاس إلى انتخاب طريق المجموعة الاولى، وإلى عبادة الله الواحد الأحد.
3. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ تكرر في القرآن عشرين مرّة تقريبا، وهو نداء عام شامل يشير إلى أن القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة خاصة، بل يوجّه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة الله، وللثورة على كل ألوان الشرك والانحراف عن طريق التوحيد.
4. يركّز القرآن، في دعوته إلى عبادة الله وإلى شكر الله، على نعمة خلق البشر، وهي نعمة تتجلى فيها قدرة الله كما يتجلى فيها علم الله وحكمته وكذلك رحمته العامة والخاصّة. لأن الموجود البشري سيّد الموجودات، ومظهر علم الله وقدرته اللامتناهية ونعمه الكثيرة الواسعة.
5. أولئك الذين يستنكفون عن عبادة الله والخضوع له، غافلون غالبا عن العظمة المنطوية في خلقهم وخلق الذين من قبلهم، وعن اليد المدبّرة المقدّرة التي أو جدت هذا الخلق، وأودعت فيه النعم الدقيقة المدروسة المتجلية في جسم الإنسان وروحه.. فالتذكير بهذه النعم دليل لمعرفة الله، ومحرك للشكر على هذه النعم.
6. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ لعلها ردّ على استدلال المشركين الذين برروا عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم، والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أن الله الواحد الأحد، خالق البشر وخالق آبائهم، وكل شرك يعتري المسيرة البشرية في حاضرها وسالفها هو انحراف عن الخط الصحيح.
7. نتيجة هذه العبادة هي التقوى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فعباداتنا لا تزيد الله عظمة وجلالا، كما أن إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة الله شيئا. هذه العبادات مدرسة لتعليم التقوى.. والتقوى هي الإحساس بالمسؤولية والمحرّك الذاتي للفرد، وهي معيار قيمة الإنسان وميزان تقييم شخصيته.
8. ذكرت الآية الكريمة أوّلا خلق الأرض: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾، فهذه الكرة السائرة بسرعة مذهلة في الفضاء، قد سخرت للإنسان كي يمتطيها ويستقر عليها دون أن تؤثر عليه حركتها.
9. تتجلى عظمة نعمة الأرض أكثر حين نلاحظ خاصّية الجاذبية التي تؤمّن لنا إمكانية الاستقرار وإنشاء الأبنية والمزارع، وسائر مستلزمات الحياة على هذه الأرض. فلو انعدمت هذه الخاصية لحظة واحدة لتناثر كل ما على هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات في الفضاء.
10. تعبير (فراش) يصوّر بشكل رائع مفهوم الاستقرار والاستراحة، كما يصوّر إضافة إلى ذلك مفهوم الاعتدال والتناسب في الحرارة، هذه الحقيقة يعبّر عنها الإمام علي بن الحسين عليه السّلام مفسرا هذه الآية إذ يقول: جعلها ملائمة لطباعكم، موافقة لأجسادكم ولم يجعلها شديدة الحماء والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الرّيح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النّتن فتعطبكم، ولا شديدة اللّين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصّلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم.. فلذلك جعل الأرض فراشا لكم)
11. تتعرض الآية إلى نعمة السماء فتقول: ﴿وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾، كلمة (سماء) وردت في القرآن بمعان مختلفة، وكلها تشير إلى العلو.
12. اقتران كلمة (سماء) مع (بناء) يوحي بوجود سقف يعلو البشر على ظهر هذه الأرض، بل إنّ القرآن صرّح بكلمة (سقف) في بيان حال السماء إذ قال ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾
13. لعل هذا التعبير القرآني يثير استغراب أولئك الذين يفهمون موقع الأرض في الفضاء، فيتساءلون عن هذا السقف.. عن مكانه وكيفيته، ولعل هذا التعبير يعيد ـ بادئ الرأي ـ إلى الأذهان فرضية بطليموس التي تصور الكون على أنه طبقات من الأفلاك متراكمة بعضها فوق بعض مثل طبقات قشور البصل، من هنا لا بدّ من توضيح لمفهوم السماء والبناء والسقف في التعبيرات القرآنية.
14. سماء كل شيء أعلاه، وأحد معاني السماء (جوّ الأرض)، وهو المقصود في الآية الكريمة، وجوّ الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة بالكرة الأرضية، ويبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات، ولو أمعنّا النظر في الدور الحياتي الأساس الذي تؤديه هذه الطبقة الهوائية لفهمنا مدى استحكام هذا السقف وأهميته لصيانة البشر:
أ. هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفّاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب، وقدرة استحكامه تفوق قدرة أضخم السدود الفولاذية، على الرغم من أنه لا يمنع وصول أشعة الشمس الحيوية الحياتية إلى الأرض.
ب. لو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوما إلى رشق الشهب والنيازك السماوية المتناثرة، ولما كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب، وهذه الطبقة الهوائية التي يبلغ سمكها عدّة مئات من الكيومترات تعمل على إبادة كل الصخور المتجهة إلى الكرة الأرضية، وقليل جدا من هذه الصخور تستطيع أن تخترق هذا الحاجز وتصل الأرض لتنذر أهل الأرض دون أن تعكّر صفو حياتهم.
15. من الشواهد الدالة على أن أحد معاني السماء هو (جو الأرض):
أ. حديث عن الإمام الصادق عليه السّلام يتحدث فيه إلى (المفضّل) عن السماء فيقول: فكّر في لون السّماء وما فيه من صواب التّدبير، فإنّ هذا اللّون أشدّ الألوان موافقة للبصر وتقوية..)، فمن الواضح أن زرقة السماء ليست إلّا لون الهواء الكثيف المحيط بالأرض، ولهذا فإن المقصود بالسماء في هذا الحديث هو جوّ الأرض نفسه.
ب. أضيفت كلمة الجوّ إلى السماء في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ﴾ .
16. بعد ذلك تطرقت الآية الى نعمة المطر: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ .. ماء يحيي الأرض ويخرج منها الثمرات.
17. عبارة ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ تؤكد مرّة أخرى أن المقصود من (السماء) هنا هو جوّ الأرض، لأننا نعلم أن المطر ينزل من الغيوم، والغيوم بخار متناثر في جوّ الأرض.
18. الإمام علي بن الحسين عليه السّلام يتحدث عن نزول المطر في تفسير هذه الآية فيقول: ينزله من أعلى ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم، ثمّ فرّقه رذاذا ووابلا وهطلا لتنشفه أرضوكم، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزرعكم وثماركم)
19. تشير الآية إلى نعمة الثمرات التي تخرج من بركة الأمطار لتكون رزقا لبني البشر ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾، وإخراج الثمرات مدعاة للشكر على رحمة رب العالمين لعباده، ومدعاة للإذعان بقدرة ربّ العالمين في إخراج ثمر مختلف ألوانه، من ماء عديم اللون، ليكون قوتا للإنسان والحيوان.
20. هذه الأنداد المفتعلة وما تعبدون من دون الله، لم يخلقوكم ولا خلقوا آباءكم، ولا خلقوا ما ترونه حولكم من مظاهر كونية ونعم موفورة.
21. (الأنداد) جمع (ند) على وزن ضدّ، وهو الشبيه والشريك، وواضح أن هذا الشبه قائم في أذهان المشركين وليس أمرا واقعيا.. وبعبارة أدق: ندّ الشيء ونديده ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ مشاركة في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، أي المماثلة في جوهر الذات.
22. لا بدّ من التأكيد على أن الشّرك بالله لا ينحصر باتّخاذ الأوثان الحجرية والخشبية آلهة من دون الله كما يفعل الوثنيون، أو القول بأن الله ثالث ثلاثة كما تقول النصارى، بل إن للشرك معنى أوسع وصورا متنوعة أكثر ضمورا وخفاء، وبشكل عام كل اعتقاد بوجود أشياء لها نفس تأثير الله في الحياة هو نوع من الشرك، وهذا ما يعبّر عنه ابن عباس إذ يقول: الأنداد) هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء، وهو أن يقول: والله، وحياتك يا فلان، وحياتي!.. ويقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص البارحة!.. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت.. هذا كله به شرك.. ونقرأ في حديث شريف أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما شاء الله وشئت، فقال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أجعلتني لله ندّا)!؟
23. مثل هذه التعابير التي يشمّ منها رائحة الشرك رائجة ـ مع الأسف ـ بين سواد المسلمين وغير لائقة بالشخص الموحّد، كقولهم: اعتمادي على الله وعليك!
24. في الرواية عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ قال: قول الرّجل لولا فلان لهلكت، ولولا فلان لأصبت كذا وكذا، ولولا فلان لضاع عيالي)
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/112.
7. القرآن والتحدي
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈7⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 23 ـ 24]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) أنّه قال: إذا مر أحدكم في الصلاة بذكر النار فليستعذ بالله من النار، وإذا مر أحدكم بذكر الجنة فليسأل الله الجنة(1).
__________
(1) ابن أبي شيبة: ٢/٢١١.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾، أي: في شك مما جاءكم به(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ أعوانكم على ما أنتم عليه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾، أي: لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر(3).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٦٣.
(2) سيرة ابن هشام: ١/٥٣٣.
(3) تفسير ابن كثير: ١/٩٠.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، يعني: شركاءكم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٦٤.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) أنّه قال: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ مثل القرآن(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٩٧.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ هذا قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ فلا يستطيعون ـ والله ـ أن يأتوا بسورة من مثله، ولو حرصوا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٦٣.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ من مثل هذا القرآن حقا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ لن تقدروا على ذلك، ولن تطيقوه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾، يعني: تجيئوا به، فيها تقديم، تقديمها: ولن تفعلوا ذلك، فإن تفعلوا فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، فلم يجيبوه، وسكتوا، يقول الله سبحانه: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٣٩٦.
(2) ابن جرير: ١/٤٠٢.
(3) تفسير مقاتل: ١/٩٣.
القرظي:
روي عن محمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ) أنّه قال: ناسا يشهدون لكم(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/١٦٨.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أن رجلا سأل الإمام الصادق: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ فقال: لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة(1).
2. روي أن ابن أبي العوجاء وثلاثة نفر من الدهرية اتفقوا على أن يعارض كل واحد منهم ربع القرآن، وكانوا بمكة عاهدوا على أن يجيئوا بمعارضته في العام القابل، فلما حال الحول واجتمعوا في مقام إبراهيم أيضا، قال أحدهم: إني لما رأيت قوله: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 44] كففت عن المعارضة، وقال الآخر وكذا أنا لما وجدت قوله: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ [يوسف: 80] أيست من المعارضة، وكانوا يسرون بذلك إذ مر عليهم الإمام الصادق فالتفت إليهم وقرأ عليهم: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88]، فبهتوا(2).
3. روي عن هشام بن الحكم قال اجتمع ابن أبى العوجاء وأبو شاكر الديصاني الزنديق وعبدالملك البصرى وابن المقفع عند بيت الله الحرام يستهزئون بالحاج، ويطعنون بالقرآن، فقال ابن أبى العوجاء: تعالوا ننقض كل واحد منا ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كله، فان في نقض القرآن إبطال نبوة محمد، وفى إبطال نبوته إبطال الإسلام، وإثبات ما نحن فيه، فاتفقوا على ذلك وافترقوا، فلما كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام فقال ابن أبى العوجاء: أما أنا فمفكر منذ افترقنا في هذه الآية: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ [يوسف: 80]، فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئا فشغلتني هذه الآية عن التفكر فيما سواها، فقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: 73] ولم أقدر، فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 22] لم أقدر على الاتيان بمثلها، فقال ابن المقفع: يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 44] لم ابلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الاتيان بمثلها، قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك إذ مر بهم جعفر بن محمد الصادق فقال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88]، فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصية محمد إلا إلى جعفر بن محمد، والله ما رأيناه قط إلا هبناه، واقشعرت جلودنا لهيبته، ثم تفرقوا مقرين بالعجز(2).
__________
(1) عيون أخبار الرضا: 239.
(2) الخرائج: 242.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ يعني: في شك ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا﴾ من القرآن ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾ يعني: محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ يقول: واستعينوا بالآلهة التي تعبدون ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ بأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول من تلقاء نفسه(1).
3. روي أنّه قال: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ بالتوحيد، يخوفهم الله عز وجل، فلم يخافوا، فقالوا من تكذيبهم: هذه النار وقودها الناس، فما بال الحجارة؟(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٩٣.
(2) تفسير مقاتل: ١/٩٤.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿شُهَدَاءَكُمُ﴾ عليها إذا أتيتم بها أنها مثله؛ مثل القرآن، وذلك قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٠٠.
الهادي إلى الحق:
قال الإمام الهادي إلى الحق (ت 298 هـ): ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، والناس هم: أهل المعاصي من الآدميين، والحجارة فقد قيل: إنها حجارة الكبريت، وقد يمكن أن تكون: هي وغيرها من الحجارة والصخور، وليس في ذلك على الحجارة ألم ولا وجع؛ فتكون بالألم والوجع مظلومة، وإنما هي شيء جعلها الله لذلك، لا تألم ولا تشكع، وليس حال الصخور والإيقاد بها في الآخرة إلا كحال الحطب والإيقاد به في الدنيا، فإن كان ذلك ظلما للحجارة فهو ظلم للحطب والخشب في الدنيا، وإنما يقال: ما ذنب الشيء فيما يفعل به؟) إذا كان يدري ويعلم ما يعمل به، ويتألم ويشكع مما يصنع فيه، فأما ما لا يشكع ولا يعلم، ولا يألم ولا يفهم، فلا يجوز ذلك القول في مثله، ولا يجوز بأن يقاس بغيره(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/27.
المرتضى:
ذكر المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ إنما أراد بذلك: مخاطبة المشركين من قريش، وغيرها.. ومعنى ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ هو: إن كنتم في شك، والشك هو: قلة اليقين، وإذا قل اليقين وقع الارتياب والتكذيب، فقال سبحانه وجل عن كل شأن شأنه لهم عند ارتيابهم: فأتوا بسورة من مثله، فإن لم تأتوا بها فأعلموا أنه من الله؛ لعجزكم عنه، ولو كان من الآدميين لجئتم بمثله.
2. ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ هو: كبرائكم الذين تقدمونهم وتصدقونهم في أقوالهم، وتستشهدونهم في أموركم، وتشهدون لهم بالتقدمة عليكم؛ فأمرهم الله تبارك وتعالى أن يأتوا بأولئك المعظمين عندهم، المقبولة شهادتهم لديهم؛ فإن أتى هؤلاء الشاكون وكبراؤهم بسورة مثل هذا القرآن فهم صادقون في قولهم: إنه ليس من الله، وذلك قوله عز وجل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وعند عجزهم عن الإتيان بمثله يكونون من الكاذبين وللحق من الرادين، وعند الله من المقبوحين، ولديه من المعذبين.. ومعنى المثل هو: الشبه للشيء حتى يكون مثله، ويكون شبيها به، وإذا كان شبها له فهو شكله، وهو في منزلته، والشبه هو: المساوي.. والعرب تسمي المثل: شيبها في الفعل، والخلق؛ وفي ذلك ما يقول الشاعر:
لم تك من شكلي ففارقتني... والناس أشكال لأشكال
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/26.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله عزّ وجل: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ من القرآن أنه مختلق مفترى، وأنه ليس منه؛ كقولهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: 7]، وقولهم: ﴿مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى﴾ [سبأ: 43]، و ﴿مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ﴾ [القصص: 36].
2. قوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ أي ائتوا أنتم بمثل ما أتى هو؛ إذ أنتم وهو سواء في الجوهر والخلقة واللسان، ليس هو أولى بذلك منكم؛ أعنى: في الاختلاق.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ :
أ. قيل: أي استعينوا بآلهتكم الذين تعبدون من دون الله، حتى تعين لكم على إتيان مثله إن كنتم صادقين في مقالتكم أنه مختلق مفترى.
ب. ويقال: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ . يعنى شعراءكم وخطباءكم ليعينوكم على إتيان مثله.
ج. ويقال: ادعوا شهداءكم من التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائر الكتب المنزلة على الرسل السالفة أنه مختلق مفترى.
4. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ يحتمل أنهم أقروا على أثر ذلك بالعجز عن إتيان مثله من غير تكلف ولا اشتغال كان منهم لما دفع عزّ وجل عن أطماعهم إتيان مثله نظما، ولا اجتهدوا كل جهدهم، وتكلفوا كل طاقتهم على إطفاء النور ليخرج قولهم على الصدق بأنه مختلق مفترى، ويظهر كذب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنه كلام رب العالمين، فدل إقرارهم بالعجز عن إتيان مثله، وترك اشتغالهم بذلك: أنه كلام رب العالمين، منزّل على نبيه ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
5. الوقود بالنصب هو الحطب، وبالرفع هو النّار.. أخبر عزّ وجل أن حطبها الناس كلما احترقوا أعيدوا وبدّلوا؛ كقوله: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ [النساء: 56]
6. الحجارة فيها وجهان:
أ. قيل: هي الكبريت.
ب. وقيل: الحجارة بعينها لصلابتها، وشدتها أشد احتراقا، وأكثر إحماء.
7. في قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ دلالة أنها لم تعدّ لغير الكافرين.. وهى تنقض على المعتزلة قولهم حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار، ولم يطلقوا له اسم الكفر، وفى زعمهم أنها أعدت للكافرين أيضا، وإن كان تعذيب المؤمن بمعاصي يرتكبها، وأوزار حملها، وفواحش تعاطاها؛ وذلك أن الله يعذب من يشاء بما شاء، وليس إلى الخلق الحكم في ذلك؛ لقوله: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26].
8. سؤال وإشكال: إن قالوا: إن أطفال المشركين في الجنة، والجنة لم تعدّ لهم، وإنما أعدت للمؤمنين، ثم جاز دخول غيرهم فيها وتخليدهم، وكذلك النّار وإن كانت معدة للكافرين، جاز لغير الكافر التعذيب والتخليد فيها، كقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [آل عمران: 106] شرط الكفر بعد الإيمان.. ثم من ينشأ على الكفر، والذى كفر بعد الإيمان سواء في التخليد، فكذلك مرتكب الكبيرة، والكافر، سواء في التخليد.. والجواب:
أ. إن كل كافر تشهد خلقته على وحدانية ربه؛ فإذا ترك النظر في نفسه، واختار الاعتناد فصار ككفر بعد الإيمان؛ لأنه لم يكن مؤمنا ثم كفر.
ب. أما قولهم في الأطفال؛ فإنهم إنما خلّدوا الجنة جزاء لهم من ربهم، ولله أن يعطى الجزاء من شاء بلا فعل، ولا صنع كان منه؛ فضلا وكرامة، وذلك في العقل جائز إعطاء الثواب بلا عمل على الإفضال والإكرام.
ج. أما التعذيب فإنه غير جائز في العقل بلا ذنب يرتكبه.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/402.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ قيل: حجارة من الكبريت [يجعلها الله وقوداً للنار لأن حجارة الأرض تبدل وتغير، ويمكن: أن يخترع الله حجارة وتكون وقوداً للنار من الكبريت، أو من الحديد، أو من غير ذلك.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل ويقال: طريق معبد أي مذلل قال طرفة: أي مذلل... فوق مورد معبد.
﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ أي من مثل هذا القرآن، ويجوز أن يكون من مثل محمد لأن محمداً بشر مثلكم.
1. ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ :
أ. أي أعوانكم.
ب. ويحتمل وجهاً ثانياً وهو أن المراد وادعوا آلهتكم لأنهم كانوا يعتقدون أنها تشهد لهم.
ج. ويجوز: وادعوا شهداءكم الذين يشهدون لكم بما تقولون.
2. ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ والوقود بفتح الواو الحطب والوقود بضم الواو الموقد والحجارة من كبريت أسود، وفيه تأويلان:
أ. أحدهما: أن الحجارة والناس وقود للنار يعذبون بهما.
ب. الثاني: أن الحجارة وقود للناس، والناس يعذبون بها.
وكلا القولين جيد وفيها مبالغة في العذاب.
3. ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ :
أ. وهي نار واحدة للكافرين وغيرهم من مستحقي العذاب وإنما يتفاضل عقابهم بقدر معاصيهم.
ب. وقيل: إن هذه النار الموصوفة للكافرين، ولغيرهم من العصاة نار أخرى.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/34.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله عزّ وجل: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ يعني في القرآن، على عبدنا: يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، والعبد مأخوذ من التعبد، وهو التذلل، وسمي المملوك من جنس ما يعقل عبدا، لتذلّله لمولاه.
2. ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: يعني من مثله من القرآن وهذا قول مجاهد وقتادة.
ب. الثاني: فأتوا بسورة من مثل محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من البشر، لأن محمدا بشر مثلهم.
3. ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ فيه ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: يعني أعوانكم، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: آلهتكم، لأنهم كانوا يعتقدون أنها تشهد لهم، وهذا قول الفراء.
ج. الثالث: ناسا يشهدون لكم، وهذا قول مجاهد.
4. قوله عزّ وجل: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ الوقود بالفتح الحطب، والوقود بالضم التوقّد، والحجارة من كبريت أسود، وفيها قولان:
أ. أحدهما: أنهم يعذبون فيها بالحجارة مع النار، التي وقودها الناس، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس.
ب. الثاني: أن الحجارة وقود النار مع الناس، ذكر ذلك تعظيما للنار، كأنها تحرق الحجارة مع إحراقها الناس.
5. في قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ قولان:
أ. الأول: أنها وإن أعدت للكافرين، فهي معدة لغيرهم من مستحقي العذاب من غير الكافرين، وهي نار واحدة، وإنما يتفاوت عقابهم فيها.
ب. الثاني: أن هذه النار معدة للكافرين خاصة، ولغيرهم من مستحقي العذاب نار غيرها.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/85.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآية فيها احتجاج لله تعالى لنبيه محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على مشركي قوم من العرب والمنافقين، وجميع الكفار من أهل الكتابين، وغيرهم، لأنه خاطب أقواماً عقلاء ألباء في الذروة العليا من الفصاحة، والغاية القصوى من البلاغة واليهم المفزع في ذلك، فجاءهم بكلام من جنس كلامهم وجعل عجزهم من مثله حجة عليهم، ودلالة على بطلان قولهم، ووبخهم، وقرعهم وامهلهم المدة الطويلة، وقال لهم: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾، ثم قال ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ وقال في موضع آخر: ﴿بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، وخبرهم أن عجزهم، إنما هو عن النظير والجنس، مع أنه ولد بين أظهرهم ونشأ معهم، ولم يفارقهم في سفر ولا حضر، وهو من لا يخفى عليهم حاله لشهرته وموضعه، وهم اهل الحمية والانفة يأتي الرجل منهم بسبب كلمة على القبيلة، فبذلوا أموالهم ونفوسهم في إطفاء أمره ولم يتكلفوا معارضته بسورة ولا خطبة فدل ذلك على صدقه، وذكرنا ذلك في الأصول.
2. وجه اتصالها بما قبلها أن الله سبحانه لما ذكر في الآية الاولى الدلالة على وحدانيته وقدرته ذكر بعدها الدلالة على نبوة نبيه، وأن ما جاء به ليس مفترى من عنده. قوله: ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾ يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ :
أ. قال قوم: إنها بمعنى التبعيض: وتقديره: فاتوا ببعض ما هو مثل له وهو سورة.
ب. قال آخرون: هي بمعنى تبيين الصفة كقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾
ج. وقال قوم: إن (من) زائدة، كما قال في موضع آخر: ﴿بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ : يعني مثل هذا القرآن.
د. قال آخرون: أراد ذلك من مثله في كونه بشراً امياً، طريقته مثل طريقته.
4. القول الأول أقوى، لأنه تعالى قال في سورة أخرى: ﴿بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾، ومعلوم أن السورة ليست محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا له بنظير ولأن في هذا الوجه تضعيفاً لكون القرآن معجزة، ودلالة على النبوة.
5. قوله: ﴿مِثْلِهِ﴾، أراد به ما يقاربه في الفصاحة، ونظمه، وحسن ترصيفه وتأليفه، ليعلم أنه إذا عجزوا عنه، ولم يتمكنوا منه، أنه من فعل الله تعالى، جعله تصديقاً لنبيه.
6. ليس المراد أن القرآن له مثل عند الله، ولولاه لم يصح التحدي لأن ما قالوه: لا دليل عليه، والاعجاز يصح، وإن لم يكن له مثل أصلا، بل ذلك أبلغ في الاعجاز، لأن ذلك جار مجرى قوله: ﴿هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ وإنما أراد نفي البرهان أصلا، والدعاء أراد به الاستعانة، قال الشاعر:
وقبلك ربّ خصم قد تمالوا... عليّ فما جزعت ولا دعوت
وقال آخر:
فلما التقت فرساننا ورجالهم... دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر
يعنى انتصروا بكعب واستغاثوا بهم.
7. اختلف في معنى قوله: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ :
أ. قال ابن عباس: أراد أعوانكم على ما أنتم عليه، إن كنتم صادقين.. وهو الأقوى.
ب. وقال الفراء: أراد ادعوا آلهتكم.
ج. وقال مجاهد وابن جريح أراد قوماً يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولهم.
8. شهداء جمع شهيد: مثل شريك وشركاء وخطيب وخطباء، والشهيد: يسمى به الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه، وقد يسمى به المشاهد للشيء، كما يقال: جليس فلان. يريد به مجالسه ومنادمه. فعلى هذا تفسير ابن عباس أقوى.
9. معناه استنصروا أعوانكم على أن يأتوا بمثله، وشهداءكم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيب الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم إن كنتم محقين.
10. ما قاله مجاهد وابن جريح في تأويل ذلك لا وجه له، لأن القوم على ثلاثة أصناف، فبعضهم اهل ايمان صحيح، وبعضهم أهل كفر صحيح، وبعضهم أهل نفاق:
أ. فأهل الايمان إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله، فلا يجوز ان يكونوا شهداء للكفار على ما يدعونه.
ب. اما اهل النفاق والكفر فلا شك انهم إذا دعوا الى تحقيق الباطل وإبطال الحق، سارعوا اليه مع كفرهم وضلالتهم. فمن أي الفريقين كانت تكون شهداء، لكن يجري ذلك مجرى قوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ وقد أجاز قوم هذا الوجه أيضاً قالوا: لأن العقلاء لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على الشهادة بما يفتضحون به في كلام أنه مثل القرآن ولا يكون مثله. كما لا يجوز ان يحملوا نفوسهم على ان يعارضوا ما ليس بمعارض في الحقيقة.
11. معنى الآية: إن كنتم في شك من صدق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما جاءكم به من عندي، فاتوا بسورة من مثله، فاستنصروا بعضكم بعضاً على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم حتى إذا عجزتم وعلمتم انه لا يقدر على ان يأتي به محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا احد من البشر يتضح عندكم انه من عند الله تعالى.
12. معنى ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ لم تأتوا بسورة من مثله ـ وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه واعوانكم ـ وقد تبين لكم بامتحانكم، واختباركم عجزكم وعجز جميع الخلق عنه وعلمتم انه من عندي، ثم أقمتم على التكذيب به.
13. قوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ لا موضع له من الاعراب، وإنما هو اعتراض بين المبتدأ والخبر، كقولك: زيد ـ فافهم ما أقول ـ رجل صدق، وإنما لم يكن له موضع اعراب، لأنه لم يقع موضع المفرد.
14. معنى ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ : اي لن تأتوا بسورة من مثله ابداً، لأن ﴿لَنْ﴾ تنفي على التأبيد في المستقبل.
15. في قوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ دلالة على صحة نبوته، لأنه يتضمن الاخبار عن حالهم في المستقبل بأنهم لا يفعلون ولا يجوز لعاقل ان يقدم على جماعة من العقلاء يريد تهجينهم فيقول: أنتم لا تفعلون إلا وهو واثق بذلك، ويعلم ان ذلك متعذر عندهم.
16. ينبغي ان يكون الخطاب خاصاً لمن علم الله انه لا يؤمن، ولا يدخل فيه من آمن فيما بعد وإلا كان كذبا.
17. اختلف في معنى (الحجارة):
أ. قيل: إنها حجارة الكبريت لأنها أحر شيء إذا حميت، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، والظاهر إن الناس والحجارة: وقود النار وحطبها كما قال: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ تهيباً وتعظيما بأنها تحرق الحجارة والناس.. وهو أقوى وأليق بالظاهر.
ب. وقيل: إن أجسادهم تبقى على النار بقاء الحجارة التي توقدها النار بالقدح.
ج. وقال قوم معناه: أنهم يعذبون بالحجارة المحماة مع النار.
18. إنما جاز أن يكون قوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ جواب الشرط مع لزوم الاتقاء من النار كيف تصرفت الحال، لأنه لا يلزمهم الاتقاء على التصديق بالنبوة إلا بعد قيام المعجزة، فكأنه قال فان لم تفعلوا، ولن تفعلوا، فقد قامت الحجة، ووجب اتقاء النار بالمخالفة.
19. قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ :
أ. لا يمنع من اعدادها لغير الكافرين من الفسّاق كما قال: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ ولم يمنع ذلك من إحاطتها بالفساق والزناة والزبانية.
ب. وقال قوم: هذه نار مخصوصة للكافرين لا يدخلها غيرهم، والفساق لهم نار أخرى.
20. استدلّ بهذه الآية الكريمة على بطلان قول من حرم النظر والحجاج العقلي بأن قيل: كما احتج الله تعالى على الكافرين بما ذكره في هذه الآية وألزمهم به تصديق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمعرفة بان القرآن كلامه، لأنه قال إن كان هذا القرآن كلام محمد فاتوا بسورة من مثله، ودلهم بعقولهم أنه لو كان كلام محمد لتهيأ لهم مثل ذلك، لأنهم الذين يؤخذ عنهم اللغة، وإذا كان لم يتهيأ لهم ذلك علموا بعقولهم أنه من كلام الله وهذا هو معنى الاحتجاج بالعقول، فيجب ان يكون ذلك صحيحاً من كل واحد.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/104.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الريب: الشك مع تهمة.
ب. العبد: المملوك من نوع ما يعقل، ونظيره الرق، ونقيضه الحرية، وأصله مأخوذ من التعبد، وهو التذلل، كأنه يذل لمولاه، وَعَبْدُ قِنّ تأكيد للعبودية، وجمعه أَعْبد وعُبْدان، وعَبِيد، والعبودية لا تقع إلا بالسمع؛ لأنه بمنزلة ذبح الحيوان، ويستحق عليه العوض، والعبودية ليست بعقوبة، ولذلك يسترق الصبي والمؤمن.
ج. السورة: يهمزها بعضهم، ولا يهمزها الآخرون، فالأول مأخوذ من سور البناء، وأصله البناء المرتفع، فكأنه جعل كل سورة منزلة، وعلى الثاني أريد قطعة من القرآن؛ لأنه من قولهم أسْأرْتُ منه سُؤْرًا، فأما الجمع ففي سورة من القرآن سُؤَر بفتح الواو، ومن البناء سُوْرٌ بتسكين الواو، وأصل السورة المنزلة.
د. المثل والشبه والعِدْل نظائر، ونقيض المثل الخلاف، وحد المثل هو ما يسد مسده فيما يرجع إلى ذاته.
هـ. الدعاء: النداء، دعا يدعو دعاء، والدعاء لله: سؤال الرحمة، والدعاء: الاستعانة: الدعاء إلى المنازلة، وأصل الجميع الطلب.
و. الشهادة: البينة، يقال: شهادة عدل، والشهادة نقيض الغيبة، وأصله من المشاهدة، وَحَدُّهُ الإخبار بالشيء عن مشاهدة، والشاهد: فاعل الشهادة.
ز. الصدق: نقيض الكذب، وحده الإخبار عن الشيء على ما هو به.
ح. الفعل والإحداث والإيجاد نظائر، يقال: فعل فِعْلاً وفَعْلا، بكسر الفاء وفتحها، فالمفتوح المصدر، والمكسور الاسم، هكذا ذكره ابن الخليل، وحد الفعل ما حدث عن قادر، والفعل بنفسه يدل على كون فاعله قادرا، وبانتظار أو بانتظام الفعل على كونه عالمًا، وبواسطة تدل على كونه حيًّا موجودًا.
ط. الوقود بالفتح الحطب، وبالضم الإيقاد، ونظيره: الوَضوء والوُضوء.
ي. الحجارة واحدها حجر، وليس بقياس، فالقياس أحجار.
ك. الإعداد: مصدر أعد له كذا، أي هيأ، ومنه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ﴾
2. قيل: لما سمع المشركون القرآن قالوا: ما يشبه هذا كلام اللَّه، وإنا لفي شك منه، فأنزل اللَّه هذه الآية.
3. لما احتج تعالى للتوحيد عقبه بالاحتجاج في النبوة فقال تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾ أيها المشركون ﴿فِي رَيْبٍ﴾ شك وتهمة ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا﴾ من الفرقان ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾ يعني على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وقلتم: إنه كلام بشر.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ :
أ. قيل: من مثل القرآن.
ب. وقيل: من مثل محمد.
5. سؤال وإشكال: هل للقرآن مثل؟ والجواب: نعم في مقدوره تعالى، لا يقدر عليه غيره لكونه معجزًا، فهو كَفَلْقِ البحر، وقلب العصا حية، وإحياء الموتى.
6. سؤال وإشكال: لو لم يكن له مثل، أكان يصح التحدي به؟ والجواب: قال القاضي: نعم؛ لأن وجه الإعجاز لا يتعلق بكون مثله مقدورًا، وقال علي بن عيسى: لا كالقديم.
7. سؤال وإشكال: بأي شيء وقع التحدي في قوله: (مِنْ مِثْلِهِ)؟ والجواب: من جزالة اللفظ، وحسن المعنى والفصاحة التي اختصت به، والإخبار عن الغيوب.
8. ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ معنى ادعوا: استعينوا واستنصروا بهم، ﴿شُهَدَاءَكُمُ﴾ :
أ. قيل: أعوانكم على ما أنتم عليه، عن ابن عباس.
ب. وقيل: آلهتكم، عن الفراء وأبي علي.
ج. وقيل: ناس يشهدون لكم، عن مجاهد وابن جريج، يعني: يشهدون لكم أنكم عارضتم القرآن.
د. وقيل: من يشهد لكم ويوافقكم في مذهبكم.
هـ. وقيل: كبراءكم وأماثلكم، عن أبي مسلم.
9. سؤال وإشكال: كيف تسمى آلهتهم شهداء وهي جماد؟ والجواب: عندهم أنهم يشهدون لهم فسماهم شهداء على زعمهم، وقيل: إنهم يحضرونهم ويشهدونهم، وهذا تحدٍّ وتعجيز، وليس بأمر.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ :
أ. قيل: أي ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أن محمدًا يقوله من تلقاء نفسه، فإنه يتكلم بلغتكم، فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه ليس من قِبَلِهِ.
ب. وقيل: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فيما تزعمون.
11. لما تحداهم بالقرآن، ولم يأتوا بمثله، أخبر عن عجزهم، وحذرهم الكفر به، فقال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أي لم تأتوا بمثل القرآن في الماضي، ولن تفعلوا في المستقبل؛ لأن ﴿لَمْ﴾ تنفي الفعل في الماضي، و ﴿لَنْ﴾ في المستقبل، وقيل: فيه تقديم وتأخير، وتقديره: فأتوا بسورة من مثله، ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾، فإن لم تقدروا أن تفعلوا ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾، أي اتقوا الكفر، الذي هو سبب دخول النار.
12. سؤال وإشكال: لم قال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا)، ولم يقل: فإن لم تقدروا وعجزتم؟ والجواب: أراد جميع ما يتعلق بالقرآن من الإيمان به، والعمل بما فيه، فالكل محجوج به، المؤمن بالعمل به، والكافر بالإتيان به؛ لأن التخويف عام.
13. سؤال وإشكال: كيف جاء ﴿فَاتَّقُوا﴾ مشروطًا بقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ واتقاؤه يجب على كل وجه؟ والجواب: هو في تصديق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك لا يلزم إلا بعد العلم بالمعجز، فجاء مشروطًا لهذا، والمعنى فإن لم تعارضوا فقد قامت الحجة فوجب قبولها، وإلا استحق النار والعذاب.
14. ﴿الَّتِي وَقُودُهَا﴾ يعني حطبها ﴿النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ :
أ. قيل: هي حجارة الكبريت، وهي أشد الحجارة حرًّا، عن ابن مسعود وابن جريج والفراء.
ب. وقيل: هي أجسادهم تبقى بقاء الحجارة بتبقية اللَّه تعالى إياها، كقوله: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾
ج. وقيل: النار لعظمها تحرق الحجارة، وهي مثلها، عن أبي علي وأبي مسلم.
د. وقيل: هي حجارة تحمى فتكون عذابًا على أهل النار.
هـ. وقيل: أراد أصنامهم؛ لأن أكثرها منحوت من حجارة، كقوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾
15. ﴿أُعِدَّتْ﴾ يعني النار هيئت للكافرين بِاللَّهِ ورسله.
16. سؤال وإشكال: كيف قال: (أُعِدَّتْ للكَافِرِينَ) وهي معدة للفاسقين أيضًا؟ والجواب:
أ. هي معدة لهم، وليس فيه أنها لم تعد لغيرهم، وإثبات الشيء لا يدل على نفي ما عداه؛ ألا ترى أنه لا يمتنع أن يكون وقودها من الجن أيضًا لقوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾
ب. وقيل: إنها نار خاصة للكافرين، وغيرها من النيران لغيرهم، ولهذا قال: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ وقيل: إنه قد يكتفى بذكر أعظم الشيئين إذا اجتمعا، كقوله: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ وقيل: لأنهم هم الأصل فيها، ولهم العذاب العظيم، فكأن غيرهم لم يعتد بهم.
17. تدل الآية الكريمة على:
أ. الآية صريحة في الحِجَاج والنظر في الدين وصحته، فيبطل قول من لا يرى الحجاج.
ب. أن التحدي بالقرآن وببعضه، وأنها تدل على صحة نبوة نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ج. أن هذه السورة كما هي منزلة لا كما زعم بعضهم أنه نظم أيام عثمان، فلذلك صح التحدي بسورة مرة، وبعشر سور مرة، وبكل القرآن مرة.
د. أن القرآن كلام اللَّه تعالى، وليس من كلام البشر.
هـ. أن إثبات النبوة من حيث عجزوا عن مثل القرآن مع التحدي، وحرصهم على إبطال أمره، وتدل عليها أيضًا من حيث أخبرهم عن الغيب أنهم لا يأتون بمثله، وكان كما أخبر.
و. أن تصديق الرسول مع التمكن من معرفة النبوة بالمعجز واجب، وفي تركه كفر.
ز. بطلان مذهب الْمُجْبِرَة من وجوه:
ح. أن صحة التحدي مبني على تعذره عليهم، وصحة الفعل منهم، فمن نفى كون العبد فاعِلاً لم يمكنه إثبات التحدي.
ط. أن تعذره عندهم لفقد القدرة الموجبة، ويستوي فيه المعجز وغيره، فلا معنى للتحدي بها.
ي. أن ما يضاف إليهم هو الخالق له في التحقيق، فكأنه تحدى به نفسه.
ك. أنه أمرهم بالتقوى فدل على أنه فعلهم.
18. مسائل نحوية:
أ. (من) في قوله: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ قيل للتبعيض؛ لأنه تحداهم ببعض ما هو مثله، وقيل: للجنس كقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ وقيل: صلة وزيادة، كأنه قال: (فأتوا بسورة مثله)، ولا يصح؛ إذ لا يحكم بالزيادة مع صحة المعنى.
ب. تعود الهاء في قوله: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ إلى ما في قوله: ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ يعني من مثل القرآن، عن الحسن وقتادة ومجاهد وعمرو بن عبيد وواصل، وقيل: يعود إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كأنه قال: من بَشَرٍ أُمِّيٍّ مثله.
ج. سؤال وإشكال: ما موضع (وَلَنْ تَفْعَلُوا) من الإعراب؟ وكيف يتصل بما قبله؟ والجواب: أما اتصاله بما قبله من الكلام، فكما يتصل الاعتراض بين المبتدأ والخبر، وبين الشرط والجزاء، وبين اسم (إن) وخبرها، فالأول كقولك: زيد ـ فافهم ما أقول لك ـ رجل صدق، والثاني (وَلَنْ تَفْعَلُوا) والثالث: كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ فقوله: (إنّا لا نُضِيعُ) اعتراض، والخبر: أولئك، فأما موضعه من الإعراب، فقيل: لا موضع لها من الإعراب؛ إذ لم يعمل فيها عامل؛ إذ العوامل في الأصل للأسماء المفردة، دون الجمل.
د. جزم لام الفعل لأنها نقلته إلى الماضي، فأخرجته من الإعراب الذي يكون للاسم، لما باعدته عنه، فأما (أن) فتنصب الفعل؛ لأنها أشبهت (أنْ) المشددة في عوامل الاسم من حيث كانت مع ما بعدها بمنزلة المصدر، فأما (لن) وأخواتها، فمشبهة بـ (أنْ)، لأنها تنقل الفعل إلى الاستقبال على الحد الذي يكون عليه الاسم، وليس كـ (إن) التي للجزاء؛ لأن الجزاء لا يكون إلا بالفعل، فجزم لما دخله معنى لا يكون من الاسم، كما جزم حرف النهي لما كان لا يصح إلا بالفعل.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/285.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. إن: دخلت ههنا لغير شك، لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون، ولكن هذا على عادة العرب في خطابهم، كقولهم إن كنت إنسانا فالفعل كذا، وإن كنت ابني فأطعني، وإن كان كونه إنسانا وابنا معلوما، وإنما خاطبهم الله تعالى على عادتهم في الخطاب.
ب. الريب: الشك مع تهمة.
ج. العبد: المملوك من جنس ما يعقل، ونقيضه الحر، من التعبيد: وهو التذليل، لأن العبد يذل لمولاه.. والعبودية: من أحكام الشرع، لأنه بمنزلة ذبح الحيوان، ويستحق عليها العوض، وليست بعقوبة، ولذلك يسترق المؤمن، والصبي.
د. السورة غير مهموزة: مأخوذة من سورة البناء.. وكل منزلة رفيعة فهي سورة، ومنه قول النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة... ترى كل ملك دونها يتذبذب هذا قول أبي عبيدة، وابن الأعرابي في تفسير السورة، فكل سورة من القرآن بمنزلة درجة رفيعة، ومنزل عال رفيع يرتفع القارئ منها إلى منزلة أخرى إلى أن يستكمل القرآن.. وقيل: السورة مهموزة، والمراد بها القطعة من القرآن، انفصلت عما سواها وأبقيت.. وسؤر كل شيء: بقيته.. وأسأرت في الإناء: أبقيت فيه، قال الأعشى يصف امرأة:
فبانت وقد أسأرت في الفؤاد... صدعا على نأيها مستطيرا
2. لما احتج الله تعالى للتوحيد، عقبه من الاحتجاج للنبوة بما قطع عذرهم فقال: وإن كنتم في شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلنا على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقلتم لا ندري هل هو من عند الله أم لا ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ أي: من مثل القرآن.. وعلى قول من يقول الضمير في مثله عائد إلى ﴿عَبْدَنَا﴾ : فالمعنى فأتوا بسورة من بشر أمي مثله لا يحسن الخط والكتابة، ولا يدري الكتب، والصحيح هو الأول لقوله تعالى في سورة أخرى: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾، وقوله ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾
3. قوله: ﴿لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ يعني فأتوا بسورة مثلما أتى به محمد في الإعجاز من حسن النظم وجزالة اللفظ والفصاحة التي اختصت به، والإخبار عما كان وعما يكون، دون تعلم الكتب، ودراسة الأخبار.
4. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ :
أ. قال ابن عباس: يعني أعوانكم وأنصاركم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم، وسمي أعوانهم شهداء، لأنهم يشاهدونهم عند المعاونة.. والشهيد يكون بمعنى المشاهد كالجليس والأكيل، ويسمى الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه بأنه شهيد أيضا.
ب. وقال الفراء: أراد وادعوا آلهتكم.
ج. وقال مجاهد، وابن جريج: أراد قوما يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولهم.
5. قول ابن عباس (يعني أعوانكم وأنصاركم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم) أقوى، لأن معناه استنصروا أعوانكم على أن يأتوا بمثله، لأن الدعاء بمعنى الاستعانة كما قال الشاعر:
فلما التقت فرساننا، ورجالنا... دعوا: يا لكعب، واعتزينا لعامر
وقال آخر:
وقبلك رب خصم قد تمالوا... علي فما جزعت، ولا دعوت
6. قول مجاهد (أراد قوما يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولهم) لا وجه له، لأن الشاهدين لا يخلو إما أن يكونوا مؤمنين، أو كفارا، فالمؤمنون لا يكونون شهداء للكفار، والكفار لا بد أن يسارعوا إلى إبطال الحق، أو تحقيق الباطل، إذا دعوا إليه، فمن أي الفريقين يكون شهداؤهم؟ ولكن ينبغي أن يجري ذلك مجرى قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ وقال قوم: إن هذا الوجه جائز أيضا صحته، لأن العقلاء لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على الشهادة بما يفتضحون به في كلام أنه مثل القرآن، ولا يكون مثله، كما لا يجوز أن يحملوا نفوسهم على أن يعارضوا ما ليس بمعارض على الحقيقة.
7. قوله: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي من غير الله، كما يقال: ما دون الله مخلوق، يريد وادعوا من اتخذتموهم معاونين من غير الله ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أن هذا الكتاب يقوله محمد من نفسه.
8. هذه الآية تدل على صحة نبوة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن الله تعالى تحدى بالقرآن وببعضه.. ووجه الاستدلال بها أنه تعالى خاطب قوما عقلاء فصحاء قد بلغوا الغاية القصوى من الفصاحة، وتسنموا الذروة العليا من البلاغة، فأنزل إليهم كلاما من جنس كلامهم، وتحداهم بالإتيان بمثله، أو ببعضه بقوله: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ و ﴿بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ وجعل عجزهم عن ذلك حجة عليهم، ودلالة على صدق رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم أهل الحمية والأنفة، فبذلوا أموالهم ونفوسهم في إطفاء أمره، ولم يتكلفوا في معارضة القرآن بسورة، ولا خطبة، فعلمنا أن المعارضة كانت متعذرة عليهم، فدل ذلك على أن القرآن معجز دال على صحة نبوته.
9. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أي: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه، وأعوانكم، وتبين لكم عجزكم، وعجز جميع الخلق عنه، وعلمتم أنه من عندي، فلا تقيموا على التكذيب به.. ومعنى ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ أي: ولن تأتوا بسورة مثله أبدا، لأن ﴿لَنْ﴾ تنفي على التأبيد في المستقبل.. وفيه دلالة على صحة نبوة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنه يتضمن الإخبار عن حالهم في مستقبل الأوقات، بأنهم لا يأتون بمثله، فوافق المخبر عنه الخبر.
10. قوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ أي: فاحذروا أن تصلوا النار بتكذيبكم، وإنما جاز أن يكون قوله ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ جواب الشرط، مع لزوم اتقاء النار، كيف تصرفت الحال، لأنه لا يلزمهم الاتقاء إلا بعد التصديق بالنبوة، ولا يصح العلم بالنبوة إلا بعد قيام المعجزة، فكأنه قال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ فقد قامت الحجة، ووجب اتقاء النار ﴿الَّتِي وَقُودُهَا﴾ أي: حطبها.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْحِجَارَةُ﴾ :
أ. قيل: هي جمع حجر.
ب. وقيل: إنها حجارة الكبريت، لأنها أحر شيء إذا أحميت، عن ابن مسعود، وابن عباس.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ :
أ. الظاهر أن الناس والحجارة وقود النار أي: حطبها يريد بها أصنامهم المنحوتة من الحجارة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾
ب. وقيل: ذكر الحجارة دليل على عظم تلك النار، لأنها لا تأكل الحجارة إلا وهي في غاية الفظاعة والهول.
ج. وقيل: معناه إن أجسادهم تبقى على النار بقاء الحجارة التي توقد بها النار بتبقية الله إياها، ويؤيد ذلك قوله ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ الآية.
د. وقيل: معناه إنهم يعذبون بالحجارة المحمية بالنار.
13. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ :
أ. قيل: معناه: خلقت وهيئت للكافرين، لأنهم الذين يخلدون فيها، ولأنهم أكثر أهل النار، فأضيفت إليهم.
ب. وقيل: إنما خص النار بكونها معدة للكافرين، وإن كانت معدة للفاسقين أيضا، لأنه يريد بذلك نارا مخصوصة لا يدخلها غيرهم، كما قال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ .
14. هذه الآية تدل على بطلان قول من حرم النظر والحجاج العقلي، لأن الله عز اسمه احتج على الكفار بما ذكره في هذه الآية، وألزمهم به تصديق نبيه، صلع، وقررهم بأن القرآن كلامه إذ قال: إن كان هذا القرآن كلام محمد فأتوا بسورة من مثله، لأنه لو كان كلام البشر لتهيأ لكم مع تقدمكم في البلاغة والفصاحة الإتيان بمثله، أو بسورة منه، مع قوة دواعيكم إليه، فإذا لم يتأت لكم ذلك، فاعلموا بعقولكم أنه كلام الله تعالى، وهذا هو المراد بالاحتجاج العقلي.
15. استدلّ بقوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ على أن النار مخلوقة الآن، لأن المعد لا يكون إلا موجودا، وكذلك الجنة بقوله ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ والفائدة في ذلك أنا وإن لم نشاهدهما، فإن الملائكة يشاهدونهما، وهم من أهل التكليف والاستدلال، فيعرفون ثواب الله للمتقين، وعقابه للكافرين.
16. مسائل نحوية:
أ. ﴿إِن﴾ حرف شرط تجزم الفعل المضارع، وتدخل على الفعل الماضي فتصرفه إلى معنى الاستقبال، ولابد للشرط من جزاء، وهما جملتان ربطت إحداهما بالأخرى نحو إن تفعل أفعل، فقولك: إن تفعل، شرط وهو مجزوم بأن، وقولك أفعل جزاء، وهو مجزوم بالشرط، لا بأن وحدها ولا بالفعل، فإن كان الجزاء جملة من فعل وفاعل، كان مجزوما، وإن كان جملة من مبتدأ وخبر، فلا بد من الفاء، وكانت الجملة في موضع الجزم، فقوله ﴿كُنْتُمْ﴾ : في موضع الجزم بأن.
ب. ائتوا: مبني على الوقف، لأنه أمر المخاطبين.. والواو فاعل.. والفاء وما بعده في موضع جزم بأنه جزاء.. وما قبل الفاء لا يعمل فيما بعده.
ج. من: يقع على أربعة أوجه:
• أحدها: أن يكون بمعنى ابتداء الشيء من مكان ما، كقولك خرجت من البصرة.
• ثانيها: بمعنى التبعيض كقولك أخذت من الطعام قفيزا.
• ثالثها: بمعنى التبيين كقوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ وهي في التبيين تخصص الجملة التي قبلها، كما أنها في التبعيض تخصص الجملة التي بعدها.
• رابعها: أن تقع مزيدة نحو: ما جاءني من رجل.
د. ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ :
• قال بعضهم: إن (من) بمعنى التبعيض، وتقديره: فأتوا ببعض ما هو مثل له وهو سورة.. وهو أقوى.
• وقيل: هو لتبيين الصفة.
• وقيل: إن (من) مزيدة لقوله في موضع آخر بسورة (مثله) أي: مثل هذا القرآن.. وتعود الهاء في ﴿مِثْلِهِ﴾ إلى (ما) من قوله ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ في الأقوال الثلاثة.
• وقيل: إن (من) بمعنى ابتداء الغاية، والهاء من (مثله): يعود إلى (عبدنا)، فيكون معناه بسورة من رجل مثله.
هـ. إن: حرف شرط.. ولم: حرف يدخل على الفعل المضارع فينفيه ويجعله بمعنى الماضي، ويعمل فيه الجزم.. و ﴿تَفْعَلُوا﴾ : فعل وفاعل، وهو مجزوم بلم، وعلامة الجزم فيه سقوط النون.. و ﴿لَمْ تَفْعَلُوا﴾ : في موضع جزم أيضا بأن.
و. و ﴿لَنْ﴾ : حرف يدخل على الفعل المضارع فيخصه بالاستقبال وينفيه، ويعمل فيه النصب، وعلامة النصب في (تفعلوا) سقوط النون أيضا.. وقال سيبويه في (لن): زعم الخليل أنها لا أن ولكنهم حذفوا لكثرته في كلامهم كما قالوا: ويلمه، وجعلت بمنزلة حرف واحد، كما جعلوا هلا بمنزلة حرف واحد، وإنما هي هل ولا قال: وهذا ليس بجيد، لأنه لو كان كذلك لم يجز زيدا لن أضرب.. ومعنى هذا القول هو أنه لو كان أصل لن: لا أن، وما بعد أن يكون صلة لها، ولا يجوز تقديم معمول ما في الصلة على الموصول، فكان يجب أن لا يجوز تقديم زيدا في قولك: لن أضرب زيدا، على لن، كما لم يجز تقديمه على أن، فلا تقول: زيدا أن أضرب، وزيدا لا أن أضرب.. ولا خلاف بين النحويين في جواز التقديم هناك.
ز. قوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ لا موضع له من الإعراب، لأنه اعتراض وقع بين الشرط والجزاء، كما يقع بين المبتدأ والخبر في قولك زيد، فافهم ما أقول لك عالم.. والاعتراض غير واقع موقع المفرد، فيكون له موضع إعراب.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/158.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. (إن) ها هنا لغير شكّ، لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون، ولكن هذا عادة العرب، يقول الرجل لابنه: إن كنت ابني فأطعني، وقيل: إنها ها هنا بمعنى إذ، قال أبو زيد: ومنه قوله تعالى: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ .
2. السورة تهمز ولا تهمز، فمن همزها جعلها من أسأرت، يعني أفضلت كأنها قطعة من القرآن، ومن لم يهمزها جعلها من سورة البناء، أي منزلة بعد منزلة، قال النّابغة في النّعمان:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
والسّورة في هذا البيت: سورة المجد، وهي مستعارة من سورة البناء.
3. إنما سمّيت السورة سورة لأنه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة، مثل سورة البناء، معنى: أعطاك سورة، أي: منزلة شرف ارتفعت إليها عن منازل الملوك. قال ابن القاسم: ويجوز أن تكون سمّيت سورة لشرفها، تقول العرب: له سورة في المجد، أي: شرف وارتفاع، أو لأنها قطعة من القرآن من قولك: أسأرت سؤرا، أي: أبقيت بقية.
4. في هاء (مثله) قولان:
أ. أحدهما: أنها تعود على القرآن المنزّل، قاله قتادة والفرّاء ومقاتل، وعلى هذا القول: تكون (من) زائدة.
ب. الثاني: أنها تعود على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيكون التقدير: فأتوا بسورة من مثل هذا العبد الأمّي، ذكره أبو عبيدة والزّجّاج وابن القاسم، على هذا القول: تكون (من) لابتداء الغاية
5. في قوله تعالى: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن معناه: استعينوا من المعونة، قاله السّدّيّ والفرّاء.
ب. الثاني: استغيثوا، من الاستغاثة، وأنشدوا:
فلمّا التقت فرساننا ورجالهم... دعوا يال كعب واعتزينا لعامر
وهذا قول ابن قتيبة.
6. في (شهدائهم) ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم آلهتهم، قاله ابن عباس والسّدّيّ ومقاتل والفرّاء:
• قال ابن قتيبة: وسموا شهداء، لأنهم يشهدونهم ويحضرونهم.
• قال غيره: لأنهم عبدوهم ليشهدوا لهم عند الله.
ب. الثاني: أنهم أعوانهم، روي عن ابن عباس أيضا.
ج. الثالث: أن معناه: فأتوا بناس يشهدون أن ما تأتون به مثل القرآن، روي عن مجاهد.
7. قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي في قولكم: إن القرآن ليس من عند الله، قاله ابن عباس.
8. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ في هذه الآية مضمر مقدّر، يقتضي الكلام تقديمه، وهو أنه لما تحدّاهم بما في الآية الماضية من التّحدّي، فسكتوا عن الإجابة؛ قال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾
9. في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ أعظم دلالة على صحة نبوّة نبيّنا، لأنه أخبر أنهم لا يفعلون، ولم يفعلوا.
10. الوقود: بفتح الواو: الحطب، وبضمها: التّوقّد، كالوضوء بالفتح: الماء، وبالضم: المصدر، وهو اسم حركات المتوضّئ، وقرأ الحسن وقتادة: وقودها، بضم الواو، والاختيار الفتح، والناس أوقدوا فيها بطريق العذاب.
11. الحجارة، لبيان قوّتها وشدّتها، إذ هي محرقة للحجارة، وفي هذه الحجارة قولان:
أ. أحدهما: أنها أصنامهم التي عبدوها، قاله الرّبيع بن أنس.
ب. الثاني: أنها حجارة الكبريت، وهي أشدّ الأشياء حرّا، إذا أحميت يعذّبون بها.
__________
(1) زاد المسير: 1/44.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. سبب المجيء بإذا الذي للوجوب دون (إن) الذي للشك وجهان:
أ. أحدهما: أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم، فإنهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام.
ب. الثاني: أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يقاومه: إن غلبتك، وهو يعلم أنه غالبه تهكماً به.
2. إنما قال ﴿نَزَّلْنَا﴾ على لفظ التنزيل دون الإنزال لأن المراد النزول على سبيل التدريج، وذكر هذا اللفظ هو اللائق بهذا المكان لأنهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند الله ومخالفاً لما يكون من عند الناس لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة على حسب النوازل ووقوع الحوادث وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً بحسب ما يظهر من الأحوال المتجددة والحاجات المختلفة فإن الشاعر لا يظهر ديوان شعره دفعة والمترسل لا يظهر ديوان رسائله وخطبه دفعة فلو أنزله الله تعالى لأنزله على خلاف هذه العادة جملة ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: 32]
3. الله سبحانه وتعالى ذكر هاهنا ما يدل على أن القرآن معجز مع ما يزيل هذه الشبهة وتقريره أن هذا القرآن النازل على هذا التدريج إما أن يكون من جنس مقدور البشر أو لا يكون، فإن كان الأول وجب إتيانهم بمثله أو بما يقرب منه على التدريج، وإن كان الثاني ثبت أنه مع نزوله على التدريج معجز وقرئ (على عبادنا) يريد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته.
4. السورة هي طائفة من القرآن، وواوها إن كانت أصلًا:
أ. فإما أن تسمى بسور المدينة وهو حائطها لأنها طائفة من القرآن محدودة كالبلد المسور.
ب. أو لأنها محتوية على فنون من العلم كاحتواء سور المدينة على ما فيها.
ج. وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة، لأن السورة بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارئ وهي أيضاً في أنفسها طوال وأوساط وقصار.
د. أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين.
5. السورة هي طائفة من القرآن، وواوها إن جعلت منقلبة عن همزة، فلأنها قطعة وطائفة من القرآن كالسورة التي هي البقية من الشيء والفضلة منه.
6. فائدة تقطيع القرآن سوراً من وجوه:
أ. أحدها: ما لأجله بوب المصنفون كتبهم أبواباً وفصولًا.
ب. ثانيها: أن الجنس إذا حصل تحته أنواع كان أفراد كل نوع عن صاحبه أحسن.
ج. ثالثها: أن القارئ إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب، ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأثبت على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله، ومثله المسافر إذا علم أنه قطع ميلًا أو طوى فرسخاً نفس ذلك عنه ونشطه للسير.
د. رابعها: أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها، فيجل في نفسه ذلك ويغتبط به، ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل.
7. قوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ يدل على أن القرآن وما هو عليه من كونه سوراً هو على حد ما أنزله الله تعالى بخلاف قول كثير من أهل الحديث: إنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان، فلذلك صح التحدي مرة بسورة ومرة بكل القرآن.
8. الضمير في قوله: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ إلى ماذا يعود فيه وجهان:
أ. أحدهما: أنه عائد إلى (ما) في قوله: ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ أي فأتوا بسورة مما هو على صفته في الفصاحة وحسن النظم، وهو مروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن وأكثر المحققين.
ب. الثاني: أنه عائد إلى (عبدنا) أي فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء.
9. يدل على ترجيح بسورة مما هو على صفته وجوه:
أ. أحدها: أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي، لا سيما ما ذكره في يونس ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ [يونس: 38]
ب. ثانيها: أن البحث إنما وقع في المنزل لأنه قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا﴾، فوجب صرف الضمير إليه، ألا ترى أن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا شيئاً مما يماثله وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقال: وإن ارتبتم في أن محمد منزل عليه فهاتوا قرآناً من مثله.
ج. ثالثها: أن الضمير لو كان عائداً إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا وسواء كانوا أميين أو كانوا عالمين محصلين، أما لو كان عائداً إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فذلك لا يقتضي إلا كون أحدهم من الأميين عاجزين عنه لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الواحد الأمي، فأما لو اجتمعوا، وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد، لأن الجماعة لا تماثل الواحد، والقارئ لا يكون مثل الأمي، ولا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى.
د. رابعها: أنا لو صرفنا الضمير إلى القرآن فكونه معجزاً، إنما يحصل لكمال حاله في الفصاحة، أما لو صرفناه إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكونه معجزاً إنما يكمل بتقرير كمال حاله في كونه أمياً بعيداً عن العلم، وهذا وإن كان معجزاً أيضاً إلا أنه لما كان لا يتم إلا بتقرير نوع من النقصان في حق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان الأول أولى.
هـ. خامسها: أنا لو صرفنا الضمير إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لكان ذلك يوهم أن صدور مثله القرآن ممن لم يكن مثل محمد في كونه أمياً ممكن، ولو صرفناه إلى القرآن لدل ذلك على أن صدور مثل من الأمي وغير الأمي ممتنع فكان هذا أولى.
10. في المراد من الشهداء وجهان:
أ. الأول: المراد من ادعوا فيه الإلهية وهي الأوثان، فكأنه قيل لهم إن كان الأمر كما تقولون من أنها تستحق العبادة لما أنها تنفع وتضر فقد دفعتم في منازعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى فاقة شديدة وحاجة عظيمة في التخلص عنها فتعجلوا الاستعانة بها وإلا فاعلموا أنكم مبطلون في ادعاء كونها آلهة وأنها تنفع وتضر، فيكون في الكلام محاجة من وجهين:
• أحدهما: في إبطال كونها آلهة.
• الثاني: في إبطال ما أنكروه من إعجاز القرآن وأنه من قبله.
ب. الثاني: المراد من الشهداء أكابرهم أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمعنى: وادعوا أكابركم ورؤساءكم ليعينوكم على المعارضة وليحكموا لكم وعليكم فيما يمكن ويتعذر.
11. سؤال وإشكال: إن قيل هل يمكن حمل اللفظ عليهما معاً وبتقدير التعذر فأيهما أولى؟ والجواب:
أ. أما الأول فممكن لأن الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة، فيمكن جعله مجازاً عن المعين والناصر، وأوثانهم وأكابرهم مشتركة في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصاراً لهم وأعواناً، وإذا حملنا اللفظ على هذا المفهوم المشترك دخل الكل فيه.
ب. أما الثاني:
• فالأولى حمله على الأكابر، وذلك لأن لفظ الشهداء لا يطلق ظاهراً إلا على من يصح أن يشاهد ويشهد فيتحمل بالمشاهدة ويؤدي الشهادة، وذلك لا يتحقق إلا في حق رؤسائهم، أما إذا حملناه على الأوثان لزم المجاز، في إطلاق لفظ الشهداء على الأوثان.
• أو يقال: المراد وادعوا من تزعمون أنهم شهداؤكم، والإضمار خلاف الأصل.
ج. أما إذا حملناه على الوجه الأول صح الكلام، لأنه يصير كأنه قال: وادعوا من يشهد بعضكم لبعض لاتفاقكم على هذا الإنكار، فإن المتفقين على المذهب يشهد بعضهم لبعض لمكان الموافقة فصحت الإضافة في قوله شهداءكم، ولأنه كان في العرب أكابر يشهدون على المتنازعين في الفصاحة بأن أيهما أعلى درجة من الآخر، وإذا ثبت ذلك ظهر أن حمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.
12. معنى (دون) هو أدنى مكان من الشيء ومنه الشيء الدون، وهو الحقير الدني، ودون الكتب إذا جمعها لأن جمع الشيء أدناه بعضه من بعض ويقال: هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلًا، ودونك هذا، أصله خذه من دونك أي من أدنى مكان منك فاختصر ثم استعير هذا اللفظ للتفاوت في الأحوال، فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل ما يجاوز حداً إلى حد، قال الله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 28] أي لا يتجاوزون ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين.
13. متعلق من دون الله فيه وجهان:
أ. أحدهما: أن متعلقه (شهداءكم) وهذا فيه احتمالان:
• الأول: المعنى ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن المعجز بفصاحته غاية التهكم بهم.
• الثاني: ادعوا شهداءكم من دون الله أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله، وهذا من المساهلة والإشعار بأن شهداءهم وهم فرسان الفصاحة تأبى عليهم الطبائع السليمة أن يرضوا لأنفسهم بالشهادة الكاذبة.
ب. ثانيهما: أن متعلقه هو الدعاء، والمعنى ادعوا من دون الله شهداءكم، يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا الله يشهد أن ما ندعيه حق، كما يقول العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينة تصحح بها الدعاوى عند الحكام، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم، وأنه لم يبق لهم متشبث عن قولهم: الله يشهد إنا لصادقون.
14. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ دالة على المعجز من وجوه أربعة:
أ. أحدها: أنا نعلم بالتواتر أن العرب كانوا في غاية العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي غاية الحرص على إبطال أمره، لأن مفارقة الأوطان والعشيرة وبذل النفوس والمهج من أقوى ما يدل على ذلك، فإذا انضاف إليه مثل هذا التقريع وهو قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ فلو كان في وسعهم وإمكانهم الإتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة منه لأتوا به، فحيث ما أتوا به ظهر المعجز.
ب. وثانيها: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم وإن كان متهماً عندهم فيما يتصل بالنبوة فقد كان معلوم الحال في وفور العقل والفضل والمعرفة بالعواقب، فلو تطرقت التهمة إلى ما ادعاه من النبوة لما استجاز أن يتحداهم ويبلغ في التحدي إلى نهايته، بل كان يكون وجلًا خائفاً مما يتوقعه من فضيحة يعود وبالها على جميع أموره، حاشاه من ذلك صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلولا معرفته بالاضطرار من حالهم أنهم عاجزون عن المعارضة لما جوز من نفسه أن يحملهم على المعارضة بأبلغ الطرق.
ج. ثالثها: أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لو لم يكن قاطعاً بصحة نبوته لما قطع في الخبر بأنهم لا يأتون بمثله، لأنه إذا لم يكن قاطعاً بصحة نبوته كان يجوز خلافه، وبتقدير وقوع خلافه يظهر كذبه، فالمبطل المزور ألبتة لا يقطع في الكلام ولا يجزم به، فلما جزم دل على أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان قاطعاً في أمره.
د. رابعها: أنه وجد مخبر هذا الخبر على ذلك الوجه لأن من أيامه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عصرنا هذا لم يخل وقت من الأوقات ممن يعادي الدين والإسلام وتشتد دواعيه في الوقيعة فيه. ثم إنه مع هذا الحرص الشديد لم توجد المعارضة قط.
15. هذه الوجوه الأربعة في الدلالة على المعجز مما تشتمل عليها هذه الآية، وذلك يدل على فساد قول الجهال الذين يقولون إن كتاب الله لا يشتمل على الحجة والاستدلال.
16. قال ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ ولم يقل فإن لم تأتوا به، لأن هذا أخصر من أن يقال فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله.
17. ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ لا محل لها لأنها جملة اعتراضية، ولا ولن أختان في نفي المستقبل إلا أن في (لن) توكيداً وتشديداً تقول لصاحبك: لا أقيم غداً عندك، فإن أنكر عليك قلت لن أقيم غداً، ثم فيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أصله لا أن، وهو قول الخليل.
ب. ثانيها: لا، أبدلت ألفها نوناً، وهو قول الفراء.
ج. ثالثها: حرف نصب لتأكيد نفي المستقبل وهو قول سيبويه، وإحدى الروايتين عن الخليل.
18. استدلّ المعتزلة بهذا التحدي على إبطال القول بالجبر، وذلك من وجوه:
أ. أحدها: أنه مبني على تعذر مثله ممن يصح الفعل منه، فمن ينفي كون العبد فاعلًا لم يمكنه إثبات التحدي أصلًا وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز.
ب. ثانيها: أن تعذره على قولهم يكون لفقد القدرة الموجبة ويستوي في ذلك ما يكون معجزاً، وما لا يكون فلا يصح معنى التحدي على قولهم.
ج. ثالثها: أن ما يضاف إلى العبد فالله تعالى هو الخالق له فتحديه تعالى لهم يعود في التحقيق إلى أنه متحد لنفسه وهو قادر على مثله من غير شك فيجب أن لا يثبت الإعجاز على هذا القول.
د. رابعها: أن المعجز إنما يدل بما فيه من نقض العادة، فإذا كان قولهم: إن المعتاد أيضاً ليس بفعل لم يثبت هذا الفرق فلا يصح الاستدلال بالمعجز.
هـ. خامسها: أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يحتج بأنه تعالى خصه بذلك تصديقاً له فيما ادعاه ولو لم يكن ذلك من قبله تعالى لم يكن داخلًا في الإعجاز، وعلى قولهم بالجبر لا يصح هذا الفرق، لأن المعتاد وغير المعتاد لا يكون إلا من قبله.
19. رد عليهم الرازي بأن المطلوب من التحدي إما أن يأتي الخصم بالمتحدي به قصداً أو أن يقع ذلك منه اتفاقاً، والثاني باطل، لأن الاتفاقيات لا تكون في وسعه، فثبت الأول، وإذا كان كذلك ثبت أن إتيانه بالتحدي موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه، فذلك القصد إن كان منه لزم التسلسل وهو محال، وإن كان من الله تعالى فحينئذ يعود الجبر ويلزمه كل ما أورده علينا فيبطل كل ما قال.
20. سؤال وإشكال: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ والجواب: إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندم صدق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار، فاتقاء النار يوجب ترك العناد، فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ قائماً مقام قوله فاتركوا العناد، وهذا هو الإيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة وفيه تهويل لشأن العناد، لإنابة اتقاء النار منابه متبعاً ذلك بتهويل صفة النار.
21. الوقود هو ما يوقد به النار، وأما المصدر فمضموم، وقد جاء فيه الفتح، قال سيبويه: وسمعنا من العرب من يقول وقدنا النار وقوداً عالياً، ثم قال: والوقود أكثر، والوقود: الحطب وقرأ عيسى بن عمر بالضم تسمية بالمصدر كما يقال فلان فخر قومه وزين بلده.
22. سؤال وإشكال: صلة الذي يجب أن تكون قضية معلومة فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ والجواب: لا يمنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من أهل الكتاب، أو سمعوه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو سمعوا من قبل هذه الآية قوله في سورة التحريم: ﴿نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]
23. سؤال وإشكال: لم جاءت النار الموصوفة بهذه الجملة منكرة في سورة التحريم وهاهنا معرفة؟ والجواب: تلك الآية نزلت بمكة فعرفوا منها ناراً موصوفة بهذه الصفة، ثم نزلت هذه بالمدينة مستندة إلى ما عرفوه.
24. معنى قوله: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ أنها نار ممتازة من النيران بأنها لا تتقد إلا بالناس والحجارة، وذلك يدل على قوتها من وجهين:
أ. الأول: أن سائر النيران إذا أريد إحراق الناس بها أو إجماء الحجارة أوقدت أولًا بوقود ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه، وتلك أعاذنا الله منها برحمته الواسعة توقد بنفس ما تحرق.
ب. الثاني: أنها لإفراط حرها تتقد في الحجر.
25. قرن الناس بالحجارة وجعلت الحجارة معهم وقودا لأنهم:
أ. قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث نحتوها أصناماً وجعلوها لله أنداداً وعبدوها من دونه قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: 98] وهذه الآية مفسرة لها فقوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ في معنى الناس والحجارة وحصب جهنم في معنى وقودها.
ب. ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستشفعون بهم ويستدفعون المضار عن أنفسهم تمسكاً بهم، وجعلها الله عذابهم فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً وإغراباً في تحسرهم، ونحوه ما يفعله بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحوا بها ومنعوها من الحقوق حيث يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
26. قيل هي حجارة الكبريت، وهو تخصيص بغير دليل، بل فيه ما يدل على فساده، وذلك لأن الغرض هاهنا تعظيم صفة هذه النار والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد فلا يدل الإيقاد بها على قوة النار، أما لو حملناه على سائر الأحجار دل ذلك على عظم أمر النار فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران فكأنه قال تلك النيران بلغت لقوتها أن تتعلق في أول أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدنيا.
27. قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ يدل على أن هذه النار الموصوفة معدة للكافرين، وليس فيه ما يدل على أن هناك نيراناً أخرى غير موصوفة بهذه الصفات معدة لفساق أهل الصلاة.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/353.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ :
أ. معناه أعوانكم ونصراءكم.
ب. الفراء: آلهتكم.
2. سؤال وإشكال: إن قيل كيف ذكر الشهداء هاهنا، وإنما يكون الشهداء ليشهدوا أمرا، أو ليخبروا بأمر شهدوه، وإنما قيل لهم: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾؟ والجواب: أن المعنى استعينوا بمن وجدتموه من علمائكم، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به، فيكون الرد على الجميع أوكد في الحجة عليهم، وهذا هو معنى قول مجاهد: معنى: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ أي ادعوا ناسا يشهدون لكم، أي يشهدون أنكم عارضتموه.
3. ﴿شُهَدَاءَكُمُ﴾ نصب بالفعل جمع شهيد، يقال: شاهد وشهيد، مثل قادر وقدير.
4. قوله: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي من غيره، ودون نقيض فوق، وهو تقصير عن الغاية، ويكون ظرفا، والدون:
أ. الحقير الخسيس، قال:
إذا ما علا المرء رام العلاء... ويقنع بالدون من كان دونا
ولا يشتق منه فعل.
ب. وبعضهم يقول منه: دان يدون دونا، ويقال: هذا دون ذاك، أي أقرب منه، ويقال في الإغراء بالشيء: دونكه. قالت تميم للحجاج: أقبرنا صالحا وكان قد صلبه فقال: دونكموه.
5. قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة، لقولهم في آية أخرى: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ [الأنفال: 31]
6. الصدق: خلاف الكذب، وقد صدق في الحديث، والصدق: الصلب من الرماح، ويقال: صدقوهم القتال، والصديق: الملازم للصدق، ويقال: رجل صدق، كما يقال: نعم الرجل، والصداقة مشتقة من الصدق في النصح والود.
7. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ :
أ. يعني فيما مضى ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ أي تطيقوا ذلك فيما يأتي، والوقف على هذا على ﴿صَادِقِينَ﴾ تام.
ب. وقيل: وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار، فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على ﴿صَادِقِينَ﴾
8. سؤال وإشكال: كيف دخلت (إن) على (لم) ولا يدخل عامل على عامل؟ والجواب: أن (إن) ها هنا غير عاملة في اللفظ فدخلت على (لم) كما تدخل على الماضي، لأنها لا تعمل في (لم) كما لا تعمل في الماضي، فمعنى إن لم تفعلوا إن تركتم الفعل.
9. قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ نصب بلن، ومن العرب من يجزم بها، ذكره أبو عبيدة، ومنه بيت النابغة: فلن أعرض أبيت اللعن بالصفد.. وفي حديث ابن عمر حين ذهب به إلى النار في منامه: فقيل لي: لن ترع). هذا على تلك اللغة.
10. في قوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ إثارة لهممهم، وتحريك لنفوسهم، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها، وقال ابن كيسان: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ توقيفا لهم على أنه الحق، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب، وأنه مفترى وأنه سحر وأنه شعر، وأنه أساطير الأولين، وهم يدعون العلم ولا يأتون بسورة من مثله.
11. ﴿الَّتِي﴾ من نعتها، وفيها ثلاث لغات: التي والت (بكسر التاء) والت (بإسكانها)، وهي اسم مبهم للمؤنث وهي معرفة، ولا يجوز نزع الالف واللام منها للتنكير، ولا تتم إلا بصلة، وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضا: اللتان واللتا (بحذف النون) واللتان (بتشديد النون)، وفي جمعها خمس لغات: هذا الثناء فإن تسمع به حسنا.. اللاتي، وهي لغة القرآن، واللات (بكسر التاء بلا ياء)، واللواتي، واللوات (بلا ياء)، وأنشد أبو عبيدة:
من اللواتي واللتي واللاتي... زعمن أن قد كبرت لداتي
واللوا (بإسقاط التاء)، هذا ما حكاه الجوهري، وزاد ابن الشجري: اللائي (بالهمز وإثبات الياء)، واللاء (بكسر الهمزة وحذف الياء)، واللا (بحذف الهمزة) فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي: اللواتي وفي اللائي: اللوائي. قال الجوهري: وتصغير التي اللتيا (بالفتح والتشديد)، قال الراجز:
بعد اللتيا واللتيا والتي... إذا علتها أنفس تردت
وبعض الشعراء أدخل على (التي) حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الالف واللام إلا في قولنا: يا الله، وحده. فكأنه شبهها به من حيث كانت الالف واللام غير مفارقتين لها، وقال:
من أجلك يا التي تيمت قلبي... وأنت بخيلة بالود عني
ويقال: وقع فلان في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية.
12. ﴿النَّاسِ﴾ عموم، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها، أجارنا الله منها.
13. ﴿وَالْحِجَارَةُ﴾ هي حجارة الكبريت الأسود عن ابن مسعود والفراء وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الاتقاد، نتن الرائحة، كثرة الدخان، شدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت.
14. ليس في قوله تعالى: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكره في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها.
15. قيل: المراد بالحجارة الأصنام، لقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ﴾ ﴾ جَهَنَّمَ ﴾ [الأنبياء: 98] أي حطب جهنم، وعليه فتكون الحجارة والناس وقودا للنار، وذكر ذلك تعظيما للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس.
16. وعلى التأويل الأول يكونون معذبين بالنار والحجارة، وقد جاء الحديث عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: (كل مؤذ في النار)، وفي تأويله وجهان:
أ. أحدهما ـ أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار.
ب. الثاني ـ أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار معد لعقوبة أهل النار.
17. ذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة، والله أعلم، روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: احتجت النار والجنة فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها)، وأخرجه مسلم، ولان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أراهما في صلاة الكسوف، وراءهما أيضا في إسرائه ودخل الجنة، فلا معنى لما خالف ذلك، وبالله التوفيق.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/233.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما احتجّ عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الشرك عقبه بما هو الحجة على إثبات نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وما يدفع الشبهة في كون القرآن معجزة، فتحدّاهم بأن يأتوا بسورة من سوره.
2. السورة: الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص، سميت بذلك لأنها مشتملة على كلماتها كاشتمال سور البلد عليها.
3. (من) في قوله: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ زائدة لقوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾
4. اختلف في الضمير في مثله:
أ. قيل عائد على القرآن عند جمهور أهل العلم.
ب. وقيل عائد على التوراة والإنجيل، لأن المعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدّق ما فيه.
ج. وقيل يعود على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمعنى: من بشر مثل محمد: أي لا يكتب ولا يقرأ.
5. الشهداء: جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو المعاون، والمراد هنا الآلهة.
6. معنى ﴿دُونَ﴾ : أدنى مكان من الشيء:
أ. اتسع فيه حتى استعمل في تخطّي الشيء إلى شيء آخر، ومنه ما في هذه الآية، وكذلك قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
ب. له معان أخر، منها التقصير عن الغاية والحقارة، يقال: هذا الشيء دون، أي حقير، ومنه:
إذا ما علا المرء رام العلاء... ويقنع بالدّون من كان دونا
ج. القرب، يقال: هذا دون ذاك، أي أقرب منه.
د. ويكون إغراء، تقول: دونك زيدا: أي خذه من أدنى مكان.
3. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ متعلق بادعوا: أي ادعوا الذين يشهدون لكم من دون الله إن كنتم صادقين فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة، وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم.
7. الصدق: خلاف الكذب، وهو مطابقة الخبر للواقع أو للاعتقاد أو لهما، على الخلاف المعروف في علم المعاني.
8. كرّر الله سبحانه تحدّي الكفار بهذا في مواضع في القرآن، منها هذا، ومنها:
أ. قوله تعالى في سورة القصص: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَأَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾
ب. وقال في سورة سبحان: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾
ج. وقال في سورة هود: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
د. وقال في سورة يونس: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
9. وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو كونه في الرتبة العلية من البلاغة الخارجة عن طوق البشر، أو كان العجز عن المعارضة للصرفة من الله سبحانه لهم عن أن يعارضوه، والحقّ الأول.
10. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ يعني فيما مضى ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ أي تطيقوا ذلك فيما يأتي وتبيّن لكم عجزكم عن المعارضة.
11. جملة لن تفعلوا: لا محل لها من الإعراب لأنها اعتراضية.
12. لن للنفي المؤكد لما دخلت عليه، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها، لأنها لم تقع المعارضة من أحد من الكفرة في أيام النبوّة وفيما بعدها وإلى الآن.
13. ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ بالإيمان بالله وكتبه ورسله والقيام بفرائضه واجتناب مناهيه.
14. عبر عن الإتيان بالفعل، لأن الإتيان فعل من الأفعال لقصد الاختصار.
15. الوقود بالفتح: الحطب، وبالضم: التوقّد، أي المصدر، وقد جاء فيه الفتح.
16. اختلف في المراد بالحجارة:
أ. الأصنام التي كانوا يعبدونها لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا فجعلت وقودا للنار معهم، ويدلّ على هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ أي: حطب جهنم.
ب. وقيل المراد بها حجارة الكبريت، وفي هذا من التهويل ما لا يقدّر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها.
17. المراد بقوله: ﴿أُعِدَّتْ﴾ جعلت عدّة لعذابهم وهيئت لذلك.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/63.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وإن كُنتُمْ﴾ عبَّر بـ (إنْ) مع تحقُّق ارتيابهم إشارةً إلى أنَّه بعيد جدًّا، حتَّى إنَّه يشكُّ في وقوعه، وذلك توبيخ؛ أو لأنَّ فيهم من لم يتحقَّق ارتيابُه فغُلِّب على غيره مِمَّن تحقَّق ارتيابه، أو لَمَّا اختلفوا جُعلوا كأنَّه لا قطع بارتيابهم.
2. ﴿فِي رَيْبٍ﴾ شكٍّ ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من القرآن أهو من الله أو من عنده أو غيره من الناس، ومقتضى الظاهر الغيبة: (في ريب مِمَّا نزَّل على عبده)، ولكن عدل إلى التكلُّم تفخيمًا للقرآن ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قالوا: ما يقول محمَّد لا يشبه الوحي وإنَّا لفي شكٍّ منه، فنزلت الآية: ﴿فَاتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ أي بسورة هي مثل ما أنزلنا في البلاغة وحسن التأليف، والإخبار بالغيب مع الصدق، أو فأتوا بسورة صدرت أو كانت من مثل عبدنا من فصحاء العرب وبلغائها، ولو كان يقرأ الكتب والأخبار ويسمعها، وكيف تأتون بها من أمِّيٍّ مثله لا يقرأ ولا يكتب ولا يسمع الأخبار!؟ ويدلُّ للأوَّل: ﴿وادْعُوا﴾ وقوله تعالى في سورة أخرى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَاتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ [يونس: 38]، وقوله تعالى: ﴿اَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَاتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: 13] فإنَّه لا يصحُّ فيهما عود الضمير إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم .
3. وأقلُّ السور ما فيه ثلاث آيات كسورة الكوثر، وسورة والعصر، وسورة قريش، إلَّا أن يعدَّ ﴿لإيلافِ قريشٍ﴾ آية، وكسورة الفتح إن عدَّ ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾ آية وهو المكتوب، والواضح أنَّها آيتان آخِر الأولى: ﴿أفواجًا﴾، وآخر الثانية: ﴿توَّابًا﴾، فأقلُّ السور آيتان، إلَّا إن جاء حديث في أنَّ آخر الأولى: ﴿وَالْفَتْحُ﴾.
4. ﴿وَادْعُواْ﴾ نادوا واطلبوا ﴿شُهَدَآءَكُم﴾ جمع شهيد أو شاهد لتعينكم آلهتُكم التي تشهد لكم على زعمكم أنَّكم عبدتموها وتقرِّبكم إلى الله زلفى، أو تنصركم أو تحضركم للنفع، أو تكون إمامًا لكم، فإنَّ الشهادة تكون من تلك المعاني، ﴿مِّن دُونِ اللهِ﴾ غير الله، أصل (دون): التفاوت والانحطاط في الحسِّ كقرب مكان، وكقولك: عمْرو دون زيد في القامة، وتستعمل في غير الحسِّ نحو: عمرو دون زيد شرفًا، ثمَّ شاع استعماله في كلِّ تفاوت، وكأنَّها أداة استثناء.
5. ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أنَّ القرآن من غير الله، ﴿فَإِن لَّمْ﴾ مجزوم (إِنْ) [هو] (لَمْ) ومجزومُها، أو (لَمْ) والجملة بعدها، فهي من الجمل التي لها محلٌّ، كما قيل بأنَّ محلَّ جملة الشرط إذا سُبقت بمبتدإ في محلِّ رفعٍ خبرٌ له، نحو: ﴿مَنْ يَّعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: 123] وهو قول بعض.
6. ﴿تَفْعَلُوا﴾ إتيانًا بالمثل لعجزكم ﴿وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ إتيانًا بالمثل لظهور إعجازه وعجزكم، والحال أنَّكم مقدَّرون أن لا تفعلوا أبدًا، ولا يضرُّ تصدير جملة الحال بأداة الاستقبال إذا كانت الحال مقدَّرة، ولا يصحُّ العطف؛ لأنَّ أداة الشرط لا تليها (لن).
7. ﴿فَاتقُوا النَّارَ﴾ بالإيمان بالقرآن من الله تعالى ، فإنَّ إنكاره موجب لها، أو فاتَّقوها مع بقائكم على الكفر إن وجدتم وقاية، ولكن لا تجدونها، وعرَّف النار عهدًا من تنكيرها في آية التحريم النازلة في مكَّة، وأوَّل التحريم إليها مدنيٌّ.
8. ﴿الَّتِي وَقُودُهَا﴾ أي الجسم الذي توقد به ﴿النَّاسُ﴾ الكفرة، قدَّم الناس لأنَّهم المعذَّبون، ولأنَّ لحومهم وشحومهم أليق بالنار تزداد بها وقودًا، والمراد ما يشمل الجنَّ أو لم يرادوا في الآية؛ لأنَّ السياق لكفَّار قريش، وذكروا في غير هذه الآية ﴿وَالحِجارَةُ﴾ المعبودة، ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء: 98] وما شاء الله من الحجارة لتعذيب الكفرة مطلقًا، ولمزيد التحسُّر إذا رأوا أنَّهم عذِّبوا بما عَبَدوا ولم يَدفع عذابَهم فضلا عن أن ينفعهم، وهي نار تتَّقد بالحجارة لشدَّة حرارتها، لا كنار الدنيا تتَّقد بالحيل أو بالحطب، ويوقى عنها الناس، وقيل: حجارة الكبريت لشدَّة حرِّها وكثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد، ومزيد الالتصاق بالأبدان، ونتن الريح، وكثرة الدخان، وقيل: الذهب والفضَّة لأنَّهما يسمَّيان حجرًا، ولا يتبادر، ولا مانع من أن يراد ذلك كلُّه.
9. ﴿أُعِدَّتْ﴾ هيَّأها الله وأوجدها ووكَّل عليها ملائكة قبل يوم القيامة، ولا تفنى، وإن فنيت أعادها، وحكمة إيجادها قبله الإخبار بأحوالها الواقعة للزجر، وهو أقوى من الإخبار أنَّها لم تكن وأنَّها ستكون بوصف كذا، وإن لم تكن الآن فكأنَّها كانت لتحقُّق الوقوع، فعبَّر بـ (أُعِدَّت) والمراد: ستُعدُّ.
10. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ يعذَّبون بها، أو الكافرون: كفَّار قريش ونحوهم، عدل عن الإضمار مع تقدُّم ذكرهم إلى ذكرهم باسم الكفر الموجب للنار المذكور، أو جنس الكفَّار فيدخل هؤلاء أوَّلاً وبالذات.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/58.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا﴾ ـ أي من القرآن الذي نزّلناه ـ ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه من عند الله تعالى، والتعبير عن اعتقادهم في حقّه بالريب ـ مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر ـ كما يعرب عنه قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إمّا للإيذان بأنّ أقصى ما يمكن صدوره عنهم ـ وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد ـ هو الارتياب في شأنه، وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال.
2. كما أنّ تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقّه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع، وإمّا للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإعجاز، ونهاية قوّتها، وإنّما لم يقل: ﴿ وإن ارتبتم فيما نزلنا ﴾، لما أشير إليه ـ فيما سلفـ من المبالغة في تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيه ـ حسبما نطق به قوله تعالى ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾
3. الإشعار بأن ذلك ـ إن وقع ـ فمن جهتهم لا من جهته العالية، واعتبار استقرارهم فيه، وإحاطته بهم، لا ينافي اعتبار ضعفه وقلّته: لما أنّ ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به، لا قلته ولا كثرته، وفي ذكره صلّى الله عليه وآله وسلّم بعنوان العبودية، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة ـ من التشريف، والتنويه، والتنبيه على اختصاصه به عزّ وجلّ، وانقياده لأوامره تعالى ـ ما لا يخفى.
4. الأمر في قوله تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ﴾ :
أ. من باب التعجيز وإلقام الحجر، كما في قوله تعالى: ﴿فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 258]
ب. أو من باب المجاراة معهم ـ بحسب حسبانهم ـ حيث كانوا يقولون: لو نشاء لقلنا مثل هذا.
5. السورة: الطائفة من القرآن العظيم المترجمة، وأقلها ثلاث آيات، وواوها أصلية:
أ. منقولة من سور البلد ـ لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة، محوزة. أو محتوية على فنون رائقة من العلوم، احتواء سور المدينة على ما فيها.
ب. أو من السورة التي هي الرتبة، فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رتبا ـ من حيث الفضل والشرف، أو من حيث الطول والقصر ـ فهي من حيث انتظامها مع أخواتها في المصحف: مراتب يرتقي إليها القارئ شيئا فشيئا.
6. (من) في قوله تعالى: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ :
أ. بيانيّة متعلقة بمحذوف صفة لسورة، والضمير (لما نزلنا) أي بسورة كائنة من مثله في علو الرتبة، وسموّ الطبقة، والنظم الرائق، والبيان البديع، وحيازة سائر نعوت الإعجاز.
ب. وقيل (من) زائدة ـ على ما هو رأي الأخفش ـ بدليل قوله تعالى ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ [يونس: 38] ﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ [هود: 13]
7. قوله تعالى: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إرشاد لهم إلى إنهاض أمّة جمّة ليحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورجلهم، ويتعاونوا على الإتيان بقدر يسير مماثل في صفات الكمال لما أتى بجملته واحد من أبناء جنسهم، وهذا كقوله تعالى في سورة هود: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود: 13]
8. (الشهداء) جمع شهيد، بمعنى: الحاضر، أو القائم بالشهادة، أو الناصر.. و(من) لابتداء الغاية متعلّقة ب (ادعوا) والظرف مستقرّ.
9. المعنى: ادعوا، متجاوزين الله تعالى للاستظهار، من حضركم ـ كائنا من كان ـ أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكم ـ الذين تفزعون إليهم في الملمات، وتعوّلون عليهم في المهمّات ـ أو القائمين بشهاداتكم الجارية فيما بينكم ـ من أمنائكم المتولّين لاستخلاص الحقوق، بتنفيذ القول عند الولاة ـ أو القائمين بنصرتكم ـ حقيقة أو زعما ـ من الإنس والجن ليعينوكم.
10. إخراجه، سبحانه وتعالى، من حكم الدعاء في الأول ـ مع اندراجه في الحضور ـ لتأكيد تناوله لجميع ما عداه، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه، فإنّ ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه، وأمّا في سائر الوجوه: فللتصريح من أوّل الأمر ببراءتهم منه تعالى، وكونهم في عدوة المحادّة والمشاقة له، قاصرين استظهارهم على ما سواه، والالتفات لإدخال الروعة، وتربية المهابة.
11. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي: في زعمكم أنه من كلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم، واستلزام المقدّم للتالي من حيث إنّ صدقهم في ذلك الزعم يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله، بقضية مشاركتهم له صلّى الله عليه وآله وسلّم في البشرية والعربية، مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام، لا سيما عند المظاهرة والتعاون ـ ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به، ودواعي الأمر به ـ.
12. هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدّي الكافرين بالتنزيل الكريم، وقد تحدّاهم الله تعالى في غير موضع منه:
أ. فقال في سورة القصص ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَأَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾ [القصص: 49]
ب. وقال في سورة الإسراء ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88]
ج. وقال في سورة هود: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود: 13]
د. وقال في سورة يونس: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: 38 ـ 38]
وكل هذه الآيات مكيّة.
13. تحدّاهم القرآن الكريم أيضا في المدينة بقوله ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ [البقرة: 23]، إلى آخر هذه الآية فعجزوا عن آخرهم، وهم فرسان الكلام، وأرباب النظام، وقد خصوا من البلاغة والحكم، ما لم يخص به غيرهم من الأمم، وأوتو من ذرابة اللسان، ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب، ما يقيّد الألباب.
14. جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة، وفيهم غريزة وقوّة.. يأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون بديها في المقامات وشديد الخطب، ويرتجزون به بين الطعن والضرب، ويمدحون، ويقدحون، ويتوسلون، ويتوصّلون، ويرفعون، ويضعون، فيأتون بالسحر الحلال، ويطوّقون من أوصافهم أجمل من سمط اللئال. فيخدعون الألباب، ويذللون الصعاب، ويذهبون الإحن، ويهيجون الدّمن، ويجرّئون الجبان، ويبسطون يد الجعد البنان، ويصيّرون الناقص كاملا، ويتركون النبيه خاملا:
أ. منهم البدويّ: ذو اللفظ الجزل، والقول الفصل، والكلام الفخم، والطبع الجوهريّ، والمنزع القويّ.
ب. ومنهم الحضريّ: ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطبع السهل، والتصرّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرونق، الرقيق الحاشية.
وكلا البابين فلهما ـ في البلاغة ـ الحجّة البالغة، والقوّة الدامغة، والقدح الفالج، والمهبع الناهج.
15. لا يشكون أنّ الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قدحوا فنونها، واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كلّ باب من أبوابها، وعلوا صرحا لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفنّنوا في الغثّ والسمين، وتقاولوا في القلّ والكثر، وتساجلوا في النظم والنثر.
16. ومع هذا لم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم، ولم ينهض ـ لمقدار أقصر سورة منه ـ ناهض من بلغائهم، على أنّهم كانوا أكثر من حصى البطحاء، وأوفر عددا من رمال الدهناء، ولم ينبض منهم عرق العصبيّة مع اشتهارهم بالإفراط في المضادّة والمضارّة، وإلقائهم الشراشر على المعازّة والمعارّة، ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخطط، وركوبهم في كل ما يرومونه الشطط: إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر، وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر، وقد جرّد لهم الحجّة أولا، والسيف آخرا، فلم يعارضوا إلا السيف وحده.
17. ما أعرضوا عن معارضة الحجّة إلا لعلمهم أنّ البحر قد زخر فطمّ على الكواكب، وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب، وبذلك يظهر أنّ في قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ معجزة أخرى، فإنهم ما فعلوا، وما قدروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم ـ كمسيلمة ـ كشف عواره لجميعهم.
18. قال ابن كثير: ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟ فقال: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ . ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها. قال وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر! إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حفر نقر ـ ثم قال ـ: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم إني أعلم أنك تكذب!
19. حيث عجز عرب ذلك العصر، فما سواهم أعجز في هذا الأمر! وقد مضى ـ إلى الآن ـ أكثر من ألف وثلاثمائة عام، ولم يوجد أحد من معاديه البلغاء إلا وهو مسلم، أو ذو استسلام، فدلّ على أنّه ليس من كلام البشر، بل كلام خالق القوى والقدر، أنزله تصديقا لرسوله، وتحقيقا لمقوله.
20. هذا الوجه ـ أعني بلوغه في الفصاحة والبلاغة إلى حدّ خرج عن طوق البشر ـ كاف وحده في الإعجاز، وقد انضمّ إليه أوجه: منها) إخباره عن أمور مغيبة ظهرت كما أخبر، و(منها) كونه لا يملّه السمع مهما تكرر، و(منها) جمعه لعلوم لم تكن معهودة، عند العرب والعجم، و(منها) إنباؤه عن الوقائع الخالية، وأحوال الأمم، والحال أنّ من أنزل عليه، صلّى الله عليه وآله وسلّم كان أميّا لا يكتب ولا يقرأ، لاستغنائه بالوحي، وليكون وجه الإعجاز بالقبول أحرى.
21. بذلك يعلم أنّ القرآن أعظم المعجزات، فإنّه آية باقية مدى الدهر، يشاهدها ـ كلّ حين بعين الفكر ـ كلّ ذي حجر، وسواه ـ من المعجزات ـ انقضت بانقضاء وقتها، فلم يبق منها إلا الخبر.
22. من الوجوه الأخرى لإعجاز القرآن الكريم(2). كونه قاهرا لمن يقاومه، وغالبا على من يغالبه، ونافذا في إزهاق ما يخالفه، وكونه مؤثرا في إيجاد الأمة، وبقاء الشريعة، ونفوذ الحكم، وثبوت الكلمة، لما جعل الله فيه من النور، والهداية، والرحمة.. فكلام الله تعالى يمتاز عن غيره بالنفوذ، والغلبة في هداية الخلق، وإنشاء أمة مستقلّة، وإبقاء شريعة جديدة، وهي علامة كافية في معرفة الكلمات الإلهية، والآيات السماوية.
23. خلاصة تقرير الدليل(3). أن الكلام ـ الذي يتحدّى الداعي به، وينسبه إلى الله ـ إذا ظهر منه التأثير التام في هداية النفوس المستعدة الطالبة، وقهر الأمم المنكرة المانعة، فأوجد أمة مستقلة نامية، وشريعة جديدة باقية، فلا يبقى ثمّة شك أنه هو كلام الله النازل من السماء، والقدرة الظاهرة منه هي القدرة التي منذ القديم ظهرت من المرسلين والأنبياء، وإلى هذه النكتة أشير في قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ويَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ﴾ [الأنفال: 7] وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى: 16]
24. هذه العلامة لا توجد إلّا في كتب الله تعالى، ويتمكن كل إنسان أن يدركها ويفهمها منها، سواء كان عالما، أو أميا، أو عجميا. شرقيا، أو غربيا:
أ. فمن الذي يشك أن بني إسرائيل ما خرجوا عن ظلمات الجهل إلى نور الإيمان، وعن ذلّة العبودية إلى عزّ الاستقلال إلا بسبب التوراة!؟ ومن الذي يجهل أن الأمم الأوروبية ما وصلوا إلى عبادة الله تعالى ـ بعد عبادة الأوثان ـ إلّا بواسطة الإنجيل!؟
ب. ومن الذي لا يعرف أن الأمم الكبرى ـ من حدود الشرق الأقصى إلى أقاصيي إفريقيّة ـ ما خرجوا عن ربقة الوثنية، وعبادة النار إلى التوحيد وعبادة الله إلّا بهداية القرآن العظيم؟ وما تحروا عن أغلال العقائد الفاسدة، والأعمال القبيحة، وما وصلوا إلى الأخلاق الفاضلة، والعقائد الصحيحة إلّا بنور هذا السّفر الكريم!؟
25. الخلاصة(3). إن هذه العلامة وهي هداية النفوس، وإيجاد الديانة الجديدة ـ بقهر الأديان القديمة، وتبديل العوائد العتيقة ـ هي العلامة الظاهرة المميّزة بين الكلمات الإلهية! والمصنّفات البشرية. حتى أن أول نفس أذعنت بحقيقة رسالة رسول، وصدق شريعته، لو لم تعرف في نفسها هذه الهداية، ولم تشعر في ذاتها بهذه المغلوبية لما كانت أول من صدّقه ولبّاه، واتبعه وآساه، فإن محبّة الدين القديم الموروث راسخة في جميع النفوس، والخوف من تبديل أركانه وآدابه متمكّن في أعماق القلوب.
26. الهداية أظهر علامة في صدق النبوة والرسالة، إذ هي صفة الفعل، ومرتبطة بالدعوة ـ كالإبراء للطب، ومعرفة السطوح للهندسة، والبيع والشراء للتجارة، وصنع الأسرّة والأبواب وغيرها للنجارة.
27. إذا تصفّحنا القرآن المجيد(3). نجد أن الله تعالى استدلّ بها في مواضع متعدّدة، ووصف القرآن بأنه حجّة ـ بما أودع فيه من الهداية والرحمة ـ ولا نرى موضعا واحدا وصفه بأنه أفصح الكتب وأبلغ الصحف:
أ. فانظر في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لولا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَولَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَأَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾ [القصص: 48 ـ 49]. أترى أن الله تعالى أفحمهم بقوله: فأتوا بكتاب من عند الله هو أفصح منهما أو أبلغ منهما؟
ب. وكذلك لما انتقدوا على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدم صدور معجزة منه كالمعجزات السالفة، فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: 50]، فبين الله تعالى مزية القرآن على سائر المعجزات، وكفايته عن غيره بأن فيه الذكرى والرحمة.
ج. وقال تعالى في أول هذه السورة ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ وما قال فيه فصاحة وبلاغة يعجز عن مثلها جميع العالمين، وذلك لأن الفصاحة والبلاغة من الأوصاف الخفية الغامضة الدقيقة ـ التي تختلف فيها الأذواق، وتتشعّب فيها الآراء والأنظار.
28. ما ظهر من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بسبب نزول القرآن عليه ـ من العلم والقدرة على هداية الأمم، وإزالة أسقام أهل العالم، وتأسيس الشريعة الإلهامية، وإيجاد الأمة الإسلامية رغما للأمم الكبرى، ومباينا للديانات العظمى: أمر ظاهر محسوس، تصعب فيه المناقشة، ولا تفيد معه المغالطة، فمن الذي يمكنه أن ينكر أن الأمم العظيمة ـ كالعرب والفرس، والخزر، والترك، والهنود، والصينيين، وأهالي إفريقيّة ـ خرجوا من ظلمات الشرك، وعبادة النار والأوثان، وإنكار الأنبياء، ودخلوا في نور التوحيد، وعبادة الله وحده، والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه، بنور الكتاب المبين!
29. كذا في كتاب (الدرر البهية) لأبي الفضائل الإيرانيّ، ولا يخفى أن ما ذكره هو وجه متين، ولكن لا يسوغ نفي ما عداه لأجله، بل يجدر أن يضم إليها، ويكون في مقدمتها.
30. ثم إن من عادته تعالى، في كتابه، أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني ـ على الأصح ـ وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر ـ أو عكسه ـ أو حال السعداء ثم الأشقياء ـ أو عكسه ـ وحاصله ذكر الشيء ومقابله، والحكمة في ذلك: هي إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف.
31. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أي: ما أمرتم به من الإتيان بالمثل، بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود.
32. ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ اعتراض بين جزأي الشرطية، مقرر لمضمون مقدمها، ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها، وهي معجزة باهرة: حيث أخبر بالغيب الخاص ـ علمه به عز وجل ـ وقد وقع الأمر كذلك.
33. ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ جواب الشرط، على أن اتقاء النار كناية عن الاحتراز من العناد، إذ ـ بذلك ـ يتحقّق تسبّبه عنه، وترتبه عليه، كأنه قيل: فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله ـ كما هو المقرر ـ فاحترزوا من إنكار كونه منزلا من عند الله سبحانه، فإنه مستوجب للعقاب بالنار، لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنيّة على تصوير العناد بصورة النار.
34. جعل الاتصاف به عين الملابسة بها، للمبالغة في تهويل شأنه، وتفظيع أمره، وإظهار كمال العناية ـ بتحذير المخاطبين منه، وتنفيرهم عنه، وحثّهم على الجدّ في تحقيق المكنيّ به ـ
35. فيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى. حيث كان الأصل: فإن لم تفعلوا فقد صحّ صدقه عندكم، وإذا صحّ ذلك كان لزومكم العناد، وترككم الإيمان به، سببا لاستحقاقكم العقاب بالنار، فاحترزوا منه.
36. ﴿الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ صفة للنار مورثة لها زيادة هول وفظاعة ـ أعاذنا الله منها برحمته الواسعة ـ و(الوقود) ما توقد به النار، وترفع من الحطب.
37. سؤال وإشكال: صلة الذي والتي يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب، فكيف علم أولئك أنّ نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ والجواب: قلت: لا يمتنع أن يتقدّم لهم بذلك سماع من آيات التنزيل المتقدمة عليها، أو من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو من أهل الكتاب.
38. المراد بالحجارة الأصنام، وبالناس أنفسهم ـ حسبما ورد في قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: 98] فإنها مفسّرة لما نحن فيه ـ وحكمة اقترانهم مع الحجارة في الوقود: أنهم لمّا اعتقدوا في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستنفعون بهم، ويستدفعون المضارّ عن أنفسهم بمكانهم، جعلها الله عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم ـ إبلاغا في إيلامهم، وإغراقا في تحسيرهم، ونحوه ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضّتهم عدة وذخيرة، فشحّوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنّم. فتكوى جباههم وجنوبهم.
39. ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ هيّئت لهم، وجعلت عدة لعذابهم.. والمراد: إما جنس الكفّار ـ والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليّا، ـ وإمّا هم خاصة، ووضع الكافرين موضع ضميرهم لذمّهم، وتعليل الحكم بكفرهم ـ والجملة مستأنفة مقرّرة لمضمون ما قبلها، ومبيّنة لمن أريد بالناس، دافعة لاحتمال العموم.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/268.
(2) قدم لها بقوله: ذهب بعض علماء الشيعة، ثم ذكر أنه أبو الفضائل الإيرانيّ، وكتابه (الدرر البهية.
(3) تتمة لما نقله عن كتاب (الدرر البهية)، كما ذكر.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. عبر الله تعالى عن كون الريب بأن للإيذان بأن من شأن هذا التنزيل أن لا يرتاب فيه لأن الحق فيه ظاهر بذاته، يتلألأ نوره في كل آية من آياته، ولكن إذا لم تكن للمرء عين صحيحة... فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر، ﴿ لا رَيْبَ فِيهِ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾
2. التنزيل من مادة النزول كالإنزال وتقدم تفسيره إلا أن صيغة (التفعيل) الدالة على التدريج أو التكثير. تفيد أن القرآن نزل نجوما متفرقة وهو الواقع وصيغة أنزل لا تنافيه
3. قوله تعالى ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ فيه وجهان:
أ. أحدهما: أن الضمير في (مثله) للقرآن المعبر عنه بقوله ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا﴾
ب. الثاني: أنه لعبدنا.
ثم ذكر ترجيح أستاذه محمد عبده للثاني، بدليل (من) الداخلة على (مثله) الدالة على النشوء، أي فإن كان أحد ممن يماثل الرسول بالأمية يقدر على الإتيان بسورة فليفعل.
4. قال تعالى: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ الذين يشهدون لكم أنكم أتيتم بسورة من مثله، وهؤلاء الشهداء هم غير الله تعالى بالضرورة أي ادعوا كل من تعتمدون عليه ليشهد لكم.
5. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أو ادعوا كل أحد غير الله تعالى ليؤيد دعواكم، كما أيد الله تعالى دعوة عبده محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وانظروا هل يغنيكم دعاؤكم شيئا.
6. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم أن عندكم فيه ريبا، وإنما يصدق المرتاب في ريبه إذا خفيت الحجة، وغلبت الشبهة، وكان جادا في النظر، فهو يقول: إن كنتم صدقتم في أنكم مرتابون فلديكم ما يمحص الحق فجدوا في الفكر، ولا تتوانوا في النظر، وتدبروا هذا الكتاب.
__________
(1) تفسير المنار: 1/192.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ أي وإن ارتبتم في أمر هذا القرآن، وزعمتم أنه من كلام البشر فأتوا بمثله، لأنكم تقدرون على ما يقدر عليه سائر البشر.
2. قد يكون المراد بالشهداء الأصنام؛ أي وادعوا أصنامكم الذين اتخذتموهم آلهة وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق، وابتعدوا عن الله ناصر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
3. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أن فيه مجالا للريب والشك، وأن محمدا تقوّله من تلقاء نفسه، فلديكم ما يهدى إلى الحق ويجلّى الأمر، فها هو القرآن أمامكم فأتوا بسورة من مثله.
4. قد نزل في هذا المعنى آيات كثيرة بمكة:
أ. أولها ما في سورة الإسراء: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾
ب. ثم ما في سورة هود: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
ج. ثم ما في سورة يونس: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾
د. وما جاء في هذه السورة المدنية.
5. ﴿ ولن تفعلوه فليس في استطاعتكم ﴾ فاحذروا من العناد واعترفوا بكونه منزلا من عند الله، لئلا تكونوا أنتم وأصنامكم وقودا للنار التي أعدت لأمثالكم من الكافرين، والنار موطن العذاب، ونحن نؤمن بها كما أخبر القرآن، ولا نبحث عن حقيقتها.
6. الوقود (بفتح الواو) ما توقد به النار، والمراد بالناس العصاة، والمراد بالحجارة هنا الأصنام كما قال ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ .. أعدّت للكافرين؛ أي هيئت للذين لا يستجيبون دعوة الرسل أو ينحرفون عنها لمخالفتهم هدى الدين، وعمل ما تنكره شرائع الأنبياء والمرسلين.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/67.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. يبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال.. يصف الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بالعبودية لله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ .. ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة، فهو:
أ. أولا تشريف للنبي وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى؛ دلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك.
ب. وهو ثانيا تقرير لمعنى العبودية، في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده، واطراح الأنداد كلها من دونه.. فها هو ذا النبي في مقام الوحي ـ وهو أعلى مقام ـ يدعى بالعبودية لله، ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام.
2. التحدي منظور فيه إلى مطلع السورة.. فهذا الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم، فإن كانوا يرتابون في تنزيله، فدونهم فليأتوا بسورة من مثله؛ وليدعوا من يشهد لهم بهذا ـ من دون الله ـ فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه.
3. وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعدها، وما يزال قائما إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها.. وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا.. وسيظل كذلك أبدا.
4. التحدي هنا عجيب، والجزم بعدم إمكانه أعجب، ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة، وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها، ولقد كان المجال أمامهم مفتوحا، فلو أنهم جاؤوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لانهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعا، ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس.. وهذه وحدها كلمة الفصل التاريخية.
5. على أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء؛ وكل من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء؛ وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر.. لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر، والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة لا تميز، أو غرض يلبس الحق بالباطل.
6. من ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ .
7. ففيم هذا الجمع بين الناس والحجارة، في هذه الصورة المفزعة الرعيبة؟ لقد أعدت هذه النار للكافرين.. الكافرين الذين سبق في أول السورة وصفهم بأنهم ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ .. والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون، ثم لا يستجيبون.. فهم إذن حجارة من الحجارة! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية!
8. هذا الجمع بين الحجارة من الحجر والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر! على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع: مشهد النار التي تأكل الأحجار.. ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه الأحجار.. في النار.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/49.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذا الكتاب الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، هو آية من آيات الله، وعلم من أعلامه الدالة عليه، وعلى قدرته ووحدانيته.. فمن قصرت بصيرته عن تناول الآيات الكونية، وعن فهم ما تحدّث به عن الله، وعن قدرته ووحدانيته، فهذا هو كتاب الله، ترجمان هذه الآيات، بلسان عربي مبين، يفهم عنه كل عربي ما يقول.. فليستمع إليه، وليأخذ بما يقول، وليؤمن به.. لأنه لا يقول إلا صدقا، ولا ينطق إلا حقّا وعدلا، إذ هو كلام ربّ العالمين.. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
2. ليس الكشف عن صدق هذا الكتاب، وعن علوّ متنزلة، بالأمر الذي يعجز عنه العربي، إذ هو ناطق بلسانه متحدث باللغة التي يعرف دقائق أسرارها، وروائع أساليبها.. وما عليه إلا أن يستمع إلى آيات من هذا الكتاب، ثم إلى ما يتخير من فنون الكلام عند قومه: من شعر، وخطابة، وأمثال، وسجع كهان.. ثم يزن كلا القولين، بأي ميزان من موازين القول عنده.. وفى غير عناء سيبدو له أنه يقابل الدر بالحصى، ويفاضل بين الجواهر والأصداف، وأن كلام الله هو كلام الله، وأن كلام الناس هو كلام الناس!
3. إن شكّ شاك في هذا؛ فليضع الأمر موضع الامتحان العملي.. فهذه كلمات الله، في جلالها، وسموها، تقف في الميدان، متحدية أرباب الفصاحة والبيان، بكل صور التحدي: أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، وأن يجمعوا إليهم كل ما استطاعوا جمعه من قوى مادية ومعنوية، بشرية أو غير بشرية.. وهيهات أن يبلغوا من ذلك إلا العجز، والاستخزاء.
4. إذا كشفت هذه التجربة عن العجز الفاضح، وظهر منها أن هذا الكلام هو كلام الله، وأن هذا الرسول هو رسول الله، لم يكن بد من تصديقه، وتصديق ما جاء به، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والامتثال لما يأمر به، وينهى عنه، وإلا فهو العناد الآثم، والكبر الوقاح، المفضي بصاحبه إلى هذا المصير المشئوم: ﴿النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/42.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. وجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية الإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف، واستعارة (في) لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب كقولهم هو في نعمة.
2. أتى بفعل نزّل دون أنزل، لأن القرآن نزل نجوما، وفعّل يدل على التقضي شيئا فشيئا على أن صاحب (الكشاف) قد ذكر أن اختياره هنا في مقام التحدي لمراعاة ما كانوا يقولون ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: 32] فلما كان ذلك من مثارات شبههم ناسب ذكره في تحديهم أن يأتوا بسورة مثله منجمة.
3. السورة قطعة من القرآن معينة، فتميزه عن غيرها من أمثالها بمبدإ ونهاية، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام أو عدة أغراض.
4. جعل لفظ سورة اسما جنسيا لأجزاء من القرآن اصطلاح جاء به القرآن، وهي مشتقة من السور وهو الجدار الذي يحيط بالقرية أو الحظيرة، فاسم السورة خاص بالأجزاء المعينة من القرآن دون غيره من الكتب.
5. إنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن لأن من جملة وجوه الإعجاز أمورا لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض، وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام، وصحة التقسيم، ونكت الإجمال والتفصيل، وأحكام الانتقال من فن إلى آخر من فنون الغرض، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع، وفصل الجمل ووصلها، والإيجاز والإطناب، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نظم الكلام، وتلك لا تظهر مطابقتها جلية إلا إذا تم الكلام واستوفى الغرض حقه.
6. لا جرم كان لنظم القرآن وحسن سبكه إعجاز يفوت قدرة البشر هو غير الإعجاز الذي لجمله وتراكيبه وفصاحة ألفاظه، فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يحكم لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها. قال الطيبي في (حاشية الكشاف) عند قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ : ولسر النظم القرآني كان التحدي بالسورة وإن كانت قصيرة دون الآيات وإن كانت ذوات عدد.
7. التنكير للإفراد أو النوعية، أي بسورة واحدة من نوع السور وذلك صادق بأقل سورة ترجمت باسم يخصها، وأقل السور عدد آيات سورة الكوثر.
8. المثل أصله المثيل والمشابه تمام المشابهة فهو في الأصل صفة يتبع موصوفا، ثم شاع إطلاقه على الشيء المشابه المكافئ.
9. الضمير في قوله: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ :
أ. يجوز أن يعود إلى ﴿ ما نزّلنا ﴾ أي من مثل القرآن.
ب. ويجوز أن يعود إلى عَبْدِنا.
10. إن أعيد الضمير في قوله: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ إلى ﴿ ما نزلنا ﴾ أي من مثل القرآن:
أ. فالأظهر أن ﴿مِنَ﴾ ابتدائية أي سورة مأخوذة من مثل القرآن أي كتاب مثل القرآن، والجار والمجرور صفة لسورة.
ب. ويحتمل أن تكون ﴿مِنَ﴾ تبعيضية أو بيانية أو زائدة، وقد قيل بذلك كله، وهي وجوه مرجوحة.
وعلى الجميع فالجار والمجرور صفة لسورة، أي هي بعض مثل ما نزلنا.. ومثل اسم حينئذ بمعنى المماثل، أو سورة مثل ما نزلنا و ﴿مَثَلُ﴾ صفة على احتمالي كون ﴿مِنَ﴾ بيانية أو زائدة.
11. كل هذه الأوجه تقتضي أن المثل سواء كان صفة أو اسما فهو مثل مقدّر بناء على اعتقادهم وفرضهم، ولا يقتضي أن هذا المثل موجود، لأن الكلام مسوق مساق التعجيز.
12. إن أعيد الضمير لعبدنا فمن لتعدية فعل ﴿ائْتُوا﴾ وهي ابتدائية وحينئذ فالجار والمجرور ظرف لغو غير مستقر، ويجوز كون الجار والمجرور صفة لسورة على أنه ظرف مستقر والمعنى فيهما ائتوا بسورة منتزعة من رجل مثل محمد في الأمية، ولفظ مثل إذن اسم.
13. لفظ ﴿مَثَلُ﴾ في الآية لا يحتمل أن يكون المراد به الكناية عن المضاف إليه على طريقة قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] بناء على أن لفظ (مثل) كناية عن المضاف إليه إذ لا يستقيم المعنى أن يكون التقدير فأتوا بسورة من القرآن، أو من محمد خلافا لمن توهم ذلك من كلام (الكشاف)، وإنما لفظ مثل مستعمل في معناه الصريح إلا أنه أشبه المكنّى به عن نفس المضاف هو إليه من حيث إن المثل هنا على تقدير الاسمية غير متحقق الوجود إلا أن سبب انتفاء تحققه هو كونه مفروضا فإن كون الأمر للتعجيز يقتضي تعذر المأمور، فليس شيء من هاته الوجوه بمقتض وجود مثل للقرآن حتى يراد به بعض الوجوه كما توهمه التفتازانيّ.
14. الاحتمالات التي احتملها قوله: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ كلها مرادة لرد دعاوى المكذبين في اختلاف دعاويهم فإن منهم من قال القرآن كلام بشر، ومنهم من قال هو مكتتب من أساطير الأولين، ومنهم من قال إنما يعلمه بشر، وهاته الوجوه في معنى الآية تفند جميع الدعاوى فإن كان كلام بشر فأتوا بمماثله أو بمثله، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه الأساطير، وإن كان يعلمه بشر فأتوا أنتم من عنده بسورة فما هو ببخيل عنكم إن سألتموه، وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها.
15. التحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلة القرآن في ألفاظه وتراكيبه، ومماثلة الرسول المنزّل عليه في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [العنكبوت: 51]، فذلك معنى المماثلة فلو أتوا بشيء من خطب أو شعر بلغائهم غير مشتمل على ما يشتمل عليه القرآن من الخصوصيات لم يكن ذلك إتيانا بما تحداهم به، ولو أتوا بكلام مشتمل على معان تشريعية أو من الحكمة من تأليف رجل عالم حكيم لم يكن ذلك إتيانا بما تحداهم به، فليس في جعل (من) ابتدائية إيهام إجزاء أن يأتوا بشيء من كلام بلغائهم لأن تلك مماثلة غير تامة.
16. قوله تعالى: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ معطوف على ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ﴾ أي ائتوا بها وادعوا شهداءكم، والدعاء يستعمل بمعنى طلب حضور المدعو، وبمعنى استعطافه وسؤاله لفعل ما، قال أبو فراس يخاطب سيف الدولة ليفديه من أسر ملك الروم:
دعوتك للجفن القريح المسهد لديّ... وللنوم الطريد المشرد
17. الشهداء جمع شهيد فعيل بمعنى فاعل:
أ. من شهد إذا حضر، وأصله الحاضر قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ [البقرة: 282]، ثم استعمل هذا اللفظ فيما يلازمه الحضور مجازا أو كناية لا بأصل وضع اللفظ.
ب. وأطلق على النصير على طريقة الكناية فإن الشاهد يؤيد قول المشهود فينصره على معارضه.
ج. ولا يطلق الشهيد على الإمام والقدوة، وأثبته البيضاوي، ولا يعرف في كتب اللغة ولا في كلام المفسرين، ولعله انجر إليه من تفسير (الكشاف) لحاصل معنى الآية فتوهمه معنى وضعيا.
18. المراد هنا ادعوا آلهتكم بقرينة قوله: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه.
19. في الآية إدماج توبيخهم على الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة، وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني، وفيه تظهر مقدرة البليغ إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف، قال الحرث بن حلّزة:
آذنتنا ببينها أسماء... رب ثاو يملّ منه الثّواء
فإن قوله رب ثاو عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه كناية عن أن ليست هي من هذا القبيل الذي يمل ثواؤه، وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها، وقد عد الإدماج من المحسنات البديعة وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب أو تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فإن آلهتهم أنصار لهم في زعمهم.
20. يجوز أن يكون المراد ادعوا نصراءكم من أهل البلاغة فيكون تعجيزا للعامة والخاصة، وادعوا من يشهد بمماثلة ما أتيتم به لما نزلنا، على نحو قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا﴾ [الأنعام: 150] ويكون قوله: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ على هذه الوجوه حالا من الضمير في (ادعوا) أو من (شهداءكم) أي في حال كونكم غير داعين لذلك الله أو حال كون الشهداء غير الله بمعنى اجعلوا جانب الله الذي أنزل الكتاب كالجانب المشهود عليه فقد أذناكم بذلك تيسيرا عليكم لأن شدة تسجيل العجز تكون بمقدار تيسير أسباب العمل.
21. يجوز أن يكون (دون) بمعنى أمام وبين يدي يعني ادعوا شهداءكم بين يدي الله، واستشهد له بقول الأعشى:
تريك القذى من دونها وهي دونه... إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق
22. كما يجوز أن يكون ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ بمعنى من دون حزب الله وهم المؤمنون أي أحضروا شهداء من الذين هم على دينكم فقد رضيناهم شهودا فإن البارع في صناعة لا يرضى بأن يشهد بتصحيح فاسدها وعكسه إباءة أن ينسب إلى سوء المعرفة أو الجور، وكلاهما لا يرضاه ذو المروءة وقديما كانت العرب تتنافر وتتحاكم إلى عقلائها وحكامها فما كانوا يحفظون لهم غلطا أو جورا، وقد قال السموأل:
إنا إذا مالت دواعي الهوى... وأنصت السامع للقائل
لا نجعل الباطل حقا... ولا نلظ دون الحق بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا... فنخمل الدهر مع الخامل
وعلى هذا التفسير يجيء قول الفقهاء إن شهادة أهل المعرفة بإثبات العيوب أو بالسلامة لا تشترط فيها العدالة، ويُعلل ذلك في الفقه بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن شهادة الزور، وقد قام الوازع العلمي في شهادة أهل المعرفة مقام الوازع الديني لأن العارف حريص ما استطاع أن لا يؤثر عنه الغلط والخطأ وكفى بذلك وازعا عن تعمده وكفى بعلمه مظنة لإصابة الصواب فحصل المقصود من الشهادة.
23. قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ اعتراض في آخر الكلام وتذييل أتى بأنّ الشرطية التي الأصل في شرطها أن يكون غير مقطوع بوقوعه لأن صدقهم غير محتمل الوقوع وإن كنتم صادقين في أن القرآن كلام بشر وإنكم أتيتم بمثله.
24. الصدق ضد الكذب، وهما وصفان للخبر لا يخلو عن أحدهما:
أ. فالصدق أن يكون مدلول الكلام الخبري مطابقا ومماثلا للواقع في الخارج أي في الوجود الخارجي احترازا عن الوجود الذهني.
ب. والكذب ضد الصدق وهو أن يكون مدلول الكلام الخبري غير مطابق أي غير مماثل للواقع في الخارج.
25. الكلام موضوع للصدق، وأما الكذب فاحتمال عقلي، والإنشاء لا يوصف بصدق ولا كذب إذ لا معنى لمطابقته لما في نفس الأمر لأنه إيجاد للمعنى لا للأمور الخارجية.
26. هذا معنى الصدق والكذب في الإطلاق المشهور، وقد يطلق الكذب صفة ذم فيلاحظ في معناه حينئذ أن مخالفته للواقع كانت عن تعمد فتوهم الجاحظ أن ماهية الكذب تتقوم من عدم مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد معا، وسرى هذا التقوم إلى ماهية الصدق فجعل قوامها المطابقة للخارج والاعتقاد معا ومن هنا أثبت الواسطة بين الصدق والكذب، وقريب منه قول الراغب، ويشبه أن يكون الخلاف لفظيا ومحل بسطه في علمي الأصول والبلاغة.
27. المعنى إن كنتم صادقين في دعوى أن القرآن كلام بشر، فحذف متعلق (صادقين) لدلالة ما تقدم عليه، وجواب الشرط محذوف تدل عليه جملة مقدرة بعد جملة: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إذ التقدير فتأتون بسورة من مثله ودل على الجملة المقدرة قوله قبلها: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ وتكون الجملة المقدرة دليلا على جواب الشرط فتصير جملة ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ تكريرا للتحدي.
28. في هذه الآية إثارة لحماسهم إذ عرض بعدم صدقهم فتتوفر دواعيهم على المعارضة.
29. كان المشركون بالمدينة تبعا للمشركين بمكة، وكان نزول هذه السورة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة فكان المشركون كلهم ألبا على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يتداولون الإغراء بتكذيبه وصد الناس عن اتباعه، فأعيد لهم التحدي بإعجاز القرآن الذي كان قد سبق تحديهم به في سورة يونس وسورة هود وسورة الإسراء.
30. قد كان التحدي أولا بالإتيان بكتاب مثل ما نزل منه ففي سورة الإسراء: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾، فلما عجزوا استنزلوا إلى الإتيان بعشر سور مثله في سورة هود، ثم استنزلوا إلى الإتيان بسورة من مثله في سورة يونس.
31. هذه الآية قد أثبتت إعجاز القرآن إثباتا متواترا امتاز به القرآن عن بقية المعجزات، فإن سائر المعجزات للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام إنما ثبتت بأخبار آحاد وثبت من جميعها قدر مشترك بين جميعها وهو وقوع أصل الإعجاز بتواتر معنوي مثل كرم حاتم، فأما القرآن فإعجازه ثبت بالتواتر النقلي أدرك معجزته العرب بالحس، وأدركها عامة غيرهم بالنقل، وقد تدركها الخاصة من غيرهم بالحس كذلك.
32. إدراك العرب معجزة القرآن ظاهر من هذه الآية وأمثالها، فإنهم كذبوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وناوءوه وأعرضوا عن متابعته فحاجهم على إثبات صدقه بكلام أوحاه الله إليه، وجعل دليل أنه من عند الله عجزهم عن معارضته فإنه مركب من حروف لغتهم ومن كلماتها وعلى أساليب تراكيبها، وأودع من الخصائص البلاغية ما عرفوا أمثاله في كلام بلغائهم من الخطباء والشعراء.
33. حاكمهم الله تعالى إلى الفصل في أمر تصديقه أو تكذيبه بحكم سهل وعدل، وهو معارضتهم لما أتى به أو عجزهم عن ذلك نطق بذلك القرآن في غير موضع كهاته الآية، فلم يستطيعوا المعارضة فكان عجزهم عن المعارضة لا يعدو أمرين:
أ. إما أن يكون عجزهم لأن القرآن بلغ فيما اشتمل عليه من الخصائص البلاغية التي يقتضيها الحال حد الإطاقة لأذهان بلغاء البشر بالإحاطة به، بحيث لو اجتمعت أذهانهم وانقدحت قرائحهم وتآمروا وتشاوروا في نواديهم وبطاحهم وأسواق موسمهم، فأبدى كل بليغ ما لاح له من النكت والخصائص لوجدوا كل ذلك قد وفت به آيات القرآن في مثله وأتت بأعظم منه، ثم لو لحق بهم لا حق، وخلف من بعدهم خلف فأبدى ما لم يبدوه من النكت لوجد تلك الآية التي انقدحت فيها أفهام السابقين وأحصت ما فيها من الخصائص قد اشتملت على ما لاح لهذا الأخير وأوفر منه، فهذا هو القدر الذي أدركه بلغاء العرب بفطرهم، فأعرضوا عن معارضته علما بأنهم لا قبل لهم بمثله، وقد كانوا من علو الهمة ورجاحة الرأي بحيث لا يعرضون أنفسهم للافتضاح ولا يرضون لأنفسهم بالانتقاص، لذلك رأوا الإمساك عن المعارضة أجدى بهم واحتملوا النداء عليهم بالعجز عن المعارضة في مثل هذه الآية، لعلهم رأوا أن السكوت يقبل من التأويل بالأنفة ما لا تقبله المعارضة القاصرة عن بلاغة القرآن، فثبت أنه معجز لبلوغه حدا لا يستطيعه البشر فكان هذا الكلام خارقا للعادة ودليلا على أن الله أوجده كذلك ليكون دليلا على صدق الرسول فالعجز عن المعارضة لهذا الوجه كان لعدم القدرة على الإتيان بمثله، وهذا هو رأي جمهور أهل السنة والمعتزلة وأعيان الأشاعرة مثل أبي بكر الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني وهو المشهور عن الأشعري.
ب. قد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ممكنة منهم المعارضة، ولكنهم صرفهم الله عن التصدي لها مع توفر الدواعي على ذلك فيكون صدهم عن ذلك مع اختلاف أحوالهم أمرا خارقا للعادة أيضا وهو دليل المعجزة، وهذا مذهب من قول ذهب إليه فريق وقد ذكره أبو بكر الباقلاني في كتابه في (إعجاز القرآن) ولم يعين له قائلا، وقد نسبه التفتازانيّ في كتاب (المقاصد) إلى القائلين إن الإعجاز بالصرفة، وهو قول النظام من المعتزلة وكثير من المعتزلة، ونسبه الخفاجي إلى أبي إسحاق الإسفرائيني، ونسبه عياض إلى أبي الحسن الأشعري، ولكنه لم يشتهر عنه، وقال به الشريف المرتضى من الشيعة كما في (المقاصد) وهو مع كونه كافيا في أن عجزهم على المعارضة بتعجيز الله إياهم هو مسلك ضعيف.
34. سؤال وإشكال: لم لا يجوز أن يكون ترك العرب للمعارضة تعاجزا لا عجزا؟ وبعد فمن آمننا أن يكون العرب قد عارضوا القرآن ولم ينقل إلينا ما عارضوا به؟ والجواب: يستحيل أن يكون فعلهم ذلك تعاجزا:
أ. فإن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث في أمة مناوئة له معادية لا كما بعث موسى في بني إسرائيل موالين معاضدين له ومشايعين فكانت العرب قاطبة معارضة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ كذبوه ولمزوه بالجنون والسحر وغير ذلك لم يتبعه منهم إلا نفر قليل مستضعفين بين قومهم لا نصير لهم في أول الدعوة.
ب. ثم كان من أمر قومه أن قاطعوه ثم أمروه بالخروج بين هم بقتله واقتصار على إخراجه كل هذا ثبت عنهم في أحاديثهم وأقوالهم المنقولة نقلا يستحيل تواطؤنا عليه على الكذب وداموا على مناوأته بعد خروجه كذلك يصدونه عن الحج ويضطهدون أتباعه إلى آخر ما عرف في التاريخ والسير، ولم تكن تلك المناوأة في أمد قصير يمكن في خلاله كتم الحوادث وطي نشر المعارضة فإنها مدة تسع عشرة سنة إلى يوم فتح مكة.
ج. لا جرم أن أقصى رغبة لهم في تلك المدة هي إظهار تكذيبه انتصارا لأنفسهم ولآلهتهم وتظاهرا بالنصر بين قبائل العرب كل هذا ثبت بالتواتر عند جميع الأمم المجاورة لهم من فرس وروم وقبط وأحباش.
د. ولا جرم أن القرآن قصر معهم مسافة المجادلة، وهيأ لهم طريق إلزامه بحقية ما نسبوه إليه فأتاهم كتابا منزلا نجوما ودعاهم إلى المعارضة بالإتيان بقطعة قصيرة مثله، وأن يجمعوا لذلك شهداءهم وأعوانهم نطق بذلك هذا الكتاب.
هـ. كل هذا ثبت بالتواتر، فإن هذا الكتاب متواتر بين العرب ولا يخلو عن العلم بوجوده أهل الدين من الأمم وإن اشتماله على طلب المعارضة ثابت بالتواتر المعلوم لدينا، فإنه هو هذا الكتاب الذي آمن المسلمون قبل فتح مكة به وحفظوه وآمن به جميع العرب أيضا بعد فتح مكة فألفوه كما هو اليوم شهدت على ذلك الأجيال جيلا بعد جيل.
و. وقد كان هؤلاء المتحدون المدعوون إلى المعارضة بالمكانة المعروفة من أصالة الرأي واستقامة الأذهان، ورجحان العقول وعدم رواج الزيف عليهم، وبالكفاءة والمقدرة على التفنن في المعاني والألفاظ تواتر ذلك كله عنهم بما نقل من كلامهم نظما ونثرا وبما اشتهر وتواتر من القدر المشترك من بين المرويات من نوادرهم وأخبارهم، فلم يكن يعوزهم أن يعارضوه لو وجدوه على النحو المتعارف لديهم فإن صحة أذهانهم أدركت أنه تجاوز الحد المتعارف لديهم.
ز. فلذلك أعرضوا عن المعارضة مع توفر داعيهم بالطبع وحرصهم لو وجدوا إليه سبيلا ثبت إعراضهم عن المعارضة بطريق التواتر إذ لو وقع مثل هذا لأعلنوه وأشاعوه وتناقله الناس لأنه من الحوادث العظيمة فعدلوا عن المعارضة باللسان إلى المحاربة والمكافحة، ثبت ذلك بالتواتر لا محالة عند أهل التاريخ وغيرهم.
ح. وأيا ما جعلت سبب إعراضهم عن المعارضة من خروج كلامه عن طوق البشر أو من صرف الله أذهانهم عن ذلك فهو دليل على أمر خارق للعادة كان بتقدير من خالق القدر ومعجز البشر.
ط. ووراء هذا كله دليل آخر يعرفنا بأن العرب بحسن فطرتهم قد أدركوا صدق الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وفطنوا لإعجاز القرآن وأنه ليس بكلام معتاد للبشر، وأنهم ما كذبوا إلا عنادا أو مكابرة وحرصا على السيادة ونفورا من الاعتراف بالخطإ، ذلك الدليل هو إسلام جميع قبائل العرب وتعاقبهم في الوفادة بعد فتح مكة فإنهم كانوا مقتدين بقريش في المعارضة مكبرين المتابعة لهذا الدين خشية مسبة بعضهم وخاصة قريش ومن ظاهرهم، فلما غلبت قريش لم يبق ما يصد بقية العرب عن المجيء طائعين معترفين عن غير غلب فإنهم كانوا يستطيعون الثبات للمقارعة أكثر مما ثبتت قريش إذ قد كان من تلك القبائل أهل البأس والشدة من عرب نجد وطئ وغيرهم ممن اعتز بهم الإسلام.
ي. بعد ذلك فإنه ليس مما عرف في عوائد الأمم وأخلاقها أن تنبذ قبائل عظيمة كثيرة أديانا تعتقد صحتها وتجيء جميعها طائعا نابذا دينه في خلال أشهر من عام الوفود لم يجمعهم فيه ناد ولم تسر بينهم سفراء ولا حشرهم مجمع لولا أنهم كانوا متهيئين لهذا الاعتراف لا يصدهم عنه إلا صاد ضعيف وهو المكابرة والمعاندة.
ك. ثم في هذه الآية معجزة باقية وهي قوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ فإنها قد مرت عليها العصور والقرون وما صدقها واضح إذ لم تقع المعارضة من أحد من المخاطبين ولا ممن لحقهم إلى اليوم.
35. سؤال وإشكال: ثبت بهذا أن القرآن معجز للعرب وبذلك ثبت لديهم أنه معجزة وثبت لديهم به صدق الرسول ولكن لم يثبت ذلك لمن ليس مثلهم فما هي المعجزة لغيرهم؟ والجواب: إن ثبوت الإعجاز لا يستلزم مساواة الناس في طريق الثبوت، فإنه إذا أعجز العرب ثبت أنه خارق للعادة لما علمت من الوجهين السابقين فيكون الإعجاز للعرب بالبداهة ولمن جاء بعدهم بالاستدلال والبرهان وهما طريقان لحصول العلم.
36. من شاء أن يدرك الإعجاز كما أدركه العرب فما عليه إلا أن يشتغل بتعلم اللغة وأدبها وخصائصها حتى يساوي أو يقارب العرب في ذوق لغتهم، ثم ينظر بعد ذلك في نسبة القرآن من كلام بلغائهم ولم يخل عصر من فئة اضطلعت بفهم البلاغة العربية وأدركت إعجاز القرآن وهم علماء البلاغة وأدب العربية الصحيح، وسنذكر أمثلة عنهم هنا:
أ. منهم الشيخ عبد القاهر الذي قال في مقدمة (دلائل الإعجاز): فإن قال قائل إن لنا طريقا إلى إعجاز القرآن غير ما قلت (أي من توقفه على علم البيان) وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم بالعجز عنه، ولو كان الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب، وما استوى الناس فيه قاطبة، فلم يخرج الجاهل بلسان العرب عن أن يكون محجوجا بالقرآن قيل له خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى غير ألا يزال البرهان منه لائحا معرضا لكل من أراد العلم به والعلم به ممكنا لمن التمسه وألا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي كان به معجزا قائم فيه أبدا.
ب. منهم السكاكي الذي قال في معرض التنويه ببعض مسائل التقديم: متوسلا بذلك إلى أن يتأنق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلا مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل.
37. قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ تفريع على الشرط وجوابه، أي فإن لم تأتوا بسورة أو أتيتم بما زعمتم أنه سورة ولم يستطع ذلك شهداؤكم على التفسيرين فاعلموا أنكم اجترأتم على الله بتكذيب رسوله المؤيد بمعجزة القرآن فاتقوا عقابه المعد لأمثالكم.
38. مفعول ﴿تَفْعَلُوا﴾ محذوف يدل عليه السياق أي فإن لم تفعلوا ذلك أي الإتيان بسورة مثله.. وجيء بإن الشرطية التي الأصل فيها عدم القطع مع أن عدم فعلهم هو الأرجح بقرينة مقام التحدي والتعجيز؛ لأن القصد إظهار هذا الشرط في صورة النادر مبالغة في توفير دواعيهم على المعارضة بطريق الملاينة والتحريض واستقصاء لهم في إمكانها وذلك من استنزال طائر الخصم وقيد لأوابد مكابرته ومجادلة له بالتي هي أحسن حتى إذا جاء للحق وأنصف من نفسه يرتقي معه في درجات الجدل؛ ولذلك جاء بعده ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ كأن المتحدي يتدبر في شأنهم، ويزن أمرهم فيقول أولا ائتوا بسورة، ثم يقول: قدروا أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله وأعدوا لهاته الحالة مخلصا منها، ثم يقول: ها قد أيقنت وأيقنتم أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله، مع ما في هذا من توفير دواعيهم على المعارضة بطريق المخاشنة والتحذير.
39. لذلك حسن موقع (لن) الدالة على نفي المستقبل، فالنفي بها آكد من النفي بلا، ولهذا قال سيبويه: لا لنفي يفعل، ولن لنفي سيفعل فقد قال الخليل إن لن حرف مختزل من لا النافية وأن الاستقبالية وهو رأي حسن، وإذا كانت لنفي المستقبل تدل على النفي المؤبد غالبا لأنه لما لم يوقت بحد من حدود المستقبل دل على استغراق أزمنته إذ ليس بعضها أولى من بعض، ومن أجل ذلك قال الزمخشري بإفادتها التأبيد حقيقة أو مجازا وهو التأكيد، وقد استقريت مواقعها في القرآن وكلام العرب فوجدتها لا يؤتى بها إلا في مقام إرادة النفي المؤكد أو المؤبد، وكلام الخليل في أصل وضعها يؤيد ذلك فمن قال من النحاة إنها لا تفيد تأكيدا ولا تأبيدا فقد كابر.
40. قوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ من أكبر معجزات القرآن فإنها معجزة من جهتين:
أ. الأولى أنها أثبتت أنهم لم يعارضوا لأن ذلك أبعث لهم على المعارضة لو كانوا قادرين، وقد تأكد ذلك كله بقوله قبل ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 23]، وذلك دليل العجز عن الإتيان بمثله فيدل على أنه كلام من قدرته فوق طوق البشر.
ب. الثانية أنه أخبر بأنهم لا يأتون بذلك في المستقبل، فما أتى أحد منهم ولا ممن خلفهم بما يعارض القرآن فكانت هاته الآية معجزة من نوع الإعجاز بالإخبار عن الغيب مستمرة على تعاقب السنين فإن آيات المعارضة الكثيرة في القرآن قد قرعت بها أسماع المعاندين من العرب الذين أبوا تصديق الرسول وتواترت بها الأخبار بينهم وسارت بها الركبان بحيث لا يسع ادعاء جهلها، ودواعي المعارضة موجودة فيهم، ففي خاصتهم بما يأنسونه من تأهلهم لقول الكلام البليغ وهم شعراؤهم وخطباؤهم، وكانت لهم مجامع التقاول ونوادي التشاور والتعاون، وفي عامتهم وصعاليكهم بحرصهم على حث خاصتهم لدفع مسبة الغلبة عن قبائلهم ودينهم والانتصار لآلهتهم وإيقاف تيار دخول رجالهم في دين الإسلام، مع ما عرف به العربي من إباءة الغلبة وكراهة الاستكانة. فما أمسك الكافة عن الإتيان بمثل القرآن إلا لعجزهم عن ذلك وذلك حجة على أنه منزل من عند الله تعالى، ولو عارضه واحد أو جماعة لطاروا به فرحا وأشاعوه وتناقلوه فإنهم اعتادوا تناقل أقوال بلغائهم من قبل أن يغريهم التحدي فما ظنك بهم لو ظفروا بشيء منه يدفعون به عنهم هذه الاستكانة وعدم العثور على شيء يدعى من ذلك يوجب اليقين بأنهم أمسكوا عن معارضته.
5. ﴿تَفْعَلُوا﴾ الأول مجزوم بلم لا محالة لأن (إن) الشرطية دخلت على الفعل بعد اعتباره منفيا فيكون معنى الشرط متسلطا على (لم) وفعلها فظهر أن ليس هذا متنازع بين إن ولم في العمل في ﴿تَفْعَلُوا﴾ لاختلاف المعنيين فلا يفرض فيه الاختلاف الواقع بين النحاة في صحة تنازع الحرفين معمولا واحدا كما توهمه ابن العلج أحد نحاة الأندلس نسبه إليه في (التصريح على التوضيح) على أن الحق أنه لا مانع منه مع اتحاد الاقتضاء من حيث المعنى وقد أخذ جوازه من كلام أبي علي الفارسي في (المسائل الدمشقيات) ومن كتاب (التذكرة) له أنه جعل قول الراجز:
حتى تراها وكأنّ وكأن... أعناقها مشرّفات في قرن
من قبيل التنازع بين كأنّ المشددة وكأن المخففة.
41. إنما عبّر بلم تفعلوا ولن تفعلوا دون فإن لم تأتوا بذلك ولن تأتوا كما في قوله تعالى: ﴿ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ﴾ [يوسف: 59، 60] لأن في لفظ ﴿تَفْعَلُوا﴾ هنا من الإيجاز ما ليس مثله في الآية الأخرى إذ الإتيان المتحدّي به في هذه الآية إتيان مكيف بكيفية خاصة وهي كون المأتيّ به مثل هذا القرآن ومشهودا عليه ومستعانا عليه بشهدائهم فكان في لفظ ﴿تَفْعَلُوا﴾ من الإحاطة بتلك الصفات والقيود إيجاز لا يقتضيه الإتيان الذي في سورة يوسف.
42. قوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ أثر لجواب الشرط في قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ دل على جمل محذوفة للإيجاز لأن جواب الشرط في المعنى هو ما جيء بالشرط لأجله وهو مفاد قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ [البقرة: 23]، فتقدير جواب قوله ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أنه: فأيقنوا بأن ما جاء به محمد منزل من عندنا وأنه صادق فيما أمركم به من وجوب عبادة الله وحده واحذروا إن لم تمتثلوا أمره عذاب النار، فوقع قوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ موقع الجواب لدلالته عليه وإيذانه به وهو إيجاز بديع، وذلك أن اتقاء النار لم يكن مما يؤمنون به من قبل لتكذيبهم بالبعث فإذا تبين صدق الرسول لزمهم الإيمان بالبعث والجزاء.
43. الوقود: بفتح الواو اسم لما يوقد به، وبالضم مصدر وقيل بالعكس، وقال ابن عطية حكي الضم والفتح في كل من الحطب والمصدر، وقياس فعول بفتح الفاء أنه اسم لما يفعل به كالوضوء والحنوط والسّعوط والوجور إلّا سبعة ألفاظ وردت بالفتح للمصدر وهي الولوع والقبول والوضوء والطّهور والوزوع واللّغوب والوقود، والفتح هنا هو المتعين لأن المراد الاسم وقرئ بالضم في الشاذ وذلك على اعتبار الضم مصدرا أو على حذف مضاف أي ذوو وقودها الناس.
44. الناس: أريد به صنف منهم وهم الكافرون فتعريفه تعريف الاستغراق العرفي، ويجوز أن يكون تعريف العهد لأن كونهم المشركين قد علم من آيات أخرى كثيرة.
45. الحجارة: جمع حجر على غير قياس وهو وزن نادر في كلامهم جمعوا حجرا عن أحجار وألحقوا به هاء التأنيث قال سيبويه كما ألحقوها بالبعولة والفحولة، وعن أبي الهيثم أن العرب تدخل الهاء في كل جمع على فعال أو فعول لأنه إذا وقف عليه اجتمع فيه عند الوقف ساكنان أحدهما الألف الساكنة والثاني الحرف الموقوف عليه أي استحسنوا أن يكون خفيفا إذا وقفوا عليه، وليس هو من اجتماع الساكنين الممنوع، ومن ذلك عظامة ونفارة وفحالة وحبالة وذكارة وفحولة وحمولة (جموعا) وبكارة جمع بكر (بفتح الباء) ومهارة جمع مهر.
46. معنى وقودها الحجارة أن الحجر جعل لها مكان الحطب لأنه إذا اشتعل صار أشد إحراقا وأبطأ انطفاء ومن الحجارة أصنامهم فإنها أحجار وقد جاء ذلك صريحا في قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: 98].
47. في هذه الآية تعريض بتهديد المخاطبين والمعنى المعرض به فاحذروا أن تكونوا أنتم وما عبدتم وقود النار وقرينة التعريض قوله: ﴿فَاتَّقُوا﴾ وقوله: ﴿وَالْحِجَارَةُ﴾ لأنهم لما أمروا باتقائها أمر تحذير علموا أنهم هم الناس، ولما ذكرت الحجارة علموا أنها أصنامهم، فلزم أن يكون الناس هم عبّاد تلك الأصنام فالتعريض هنا متفاوت ف الأول منه بواسطة واحدة والثاني بواسطتين.
48. حكمة إلقاء حجارة الأصنام في النار مع أنها لا تظهر فيها حكمة الجزاء أن ذلك تحقير لها وزيادة إظهار خطأ عبدتها فيما عبدوا، وتكرر لحسرتهم على إهانتها، وحسرتهم أيضا على أن كان ما أعدوه سببا لعزهم وفخرهم سببا لعذابهم، وما أعدوه لنجاتهم سببا لعذابهم، قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ الآية.
49. تعريف (النار) للعهد ووصفها بالموصول المقتضي علم المخاطبين بالصلة كما هو الغالب في صلة الموصول لتنزيل الجاهل منزلة العالم بقصد تحقيق وجود جهنم، أو لأن وصف جهنم بذلك قد تقرر فيما نزل قبل من القرآن كقوله تعالى في سورة التحريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ وإن كانت سورة التحريم معدودة في السور التي نزلت بعد سورة البقرة فإن في صحة ذلك العد نظرا، أو لأنه قد علم ذلك عندهم من أخبار أهل الكتاب.
50. في جعل الناس والحجارة وقودا دليل على أن نار جهنم مشتعلة من قبل زجّ الناس فيها وأن الناس والحجارة إنما تتقد بها لأن نار جهنم هي عنصر الحرارة كلها كما أشار إليه حديث: إن شدة الحر من فيح جهنم)، فإذا اتصل بها الآدمي اشتعل ونضج جلده وإذا اتصلت بها الحجارة صهرت، وفي الاحتراق بالسيال الكهربائي نموذج يقرّب ذلك للناس اليوم، وروي عن ابن عباس أن جهنم تتقد بحجارة الكبريت فيكون نموذجها البراكين الملتهبة.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/331.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ذكر سبحانه وتعالى احتمال أن يكونوا في ريب من أن القرآن من عند الله، وأنه الدلالة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾
2. عبر سبحانه بأداة الشرط التي لا تدل على وقوع الريب قطعا كـ (إذ)؛ لأن التعبير بـ (إن) يدل على الشك في فعل الشرط، لا على تحققه للإشارة ـ إلى أنهم لو كانوا في شك من أمر القرآن حقيقة، وأنهم يستطيعون أن يأتوا بمثله، كما كانوا يقولون ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ ما كان ذلك مبنيا على تفكير سليم، إذ إن أي تدبر وتفكير في معانيه يزيل كل ريب، ويوجه إلى الحقيقة توجيها مستقيما، لا مجال فيه لأى ريب أو أي شك.
3. سؤال وإشكال: وصف القرآن الكريم في أول السورة بأنه لا ريب فيه، فكيف يتصور أن يكون ثمة ريب فيه؟ والجواب: إن الريب منهم لا منه في ذاته، فهو في ذاته يعلو عن الريب، لأنه يعلو عن المثل والشبيه في تساوق ألفاظه ومعانيه، وجمال فواصله، ورنة نغمه، وحلاوة موسيقاه، وكل ما اشتمل عليه مما أدهش المشركين، وحاروا، ولم يجدوا محيصا من الإذعان والسكوت والانتقال من العجز الذليل إلى الاضطهاد والإيذاء.
4. قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ بالتعبير بكان المصورة لما وقع منهم، إشارة إلى أنه لا ريب فيه لذاته، وإنما الريب من عقولهم المنحرفة، ونفوسهم الوثنية، التي استهوتها الأحجار فعبدتها، فالشك منهم، والقرآن أعلى من ذلك، ولا ريب فيه، وفى أنه من العزيز الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
5. سؤال وإشكال: إنهم لم يكونوا في ريب من أمره، بل كانوا جازمين بأنه ليس من عند الله، بدليل قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في تكذيبكم، والجواب: إنهم كانوا جازمين في تكذيب أنه من عند الله تعالى، ولكن النص القرآني ينبههم إلى أن حالهم في مثل إدراكهم البياني وذوقهم البلاغي، وكونهم مقاول العرب، وأهل الفصاحة والبيان والدربة في القول، ومعرفة موازينه، وتنبههم الآية الكريمة إلى أن مثلهم في حالهم لا ينبغي أن يجزموا منكرين، بل يترددوا حتى يصلوا إلى الحقيقة، في أمر هذا النوع من القول الذي لا ينهد إلى مكانته قول من أقوالهم.
6. الثابت في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان له أثر في نفوسهم، وأحسوا بأنه فوق ما يقوله البشر، فقال بعضهم: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، ما يقول هذا بشر)، وكانوا يتفاهمون فيما بينهم على ألا يسمعوه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت] فإذا اتفقوا على ذلك ذهب كل واحد منهم سرا إلى حيث يسمعونه، وكل يظن أنه وحده الذي جاء يستمع إليه، فإذا هم يلتقون، وينقضون ما اتفقوا عليه، ولذلك سموه سحرا، وسموا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ساحرا.
7. لذلك، فإن ذكر القرآن الكريم لهم بأنهم كانوا في ريب منه وخصوصا أهل العلم بالبيان منهم وصف صادق، فما كانوا مؤمنين به، وما كانوا منكرين إنكارا قاطعا بأنه ليس من عند الله؛ ولذلك لم يعرف عن أحد من عقلائهم أنه أراد أن يأتي بمثله.
8. تنكير الريب دليل على أنه ريب ليس بالقوى، أو الشديد، وذلك لكمال وضوح الأدلة الدالة على أنه ليس من طاقة أحد أن يأتي بمثله، وإن الشك إن كان منهم فليس له محل ولا مسوغ.
9. من في قوله تعالى: ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا﴾ معناها بيان موضع الشك الذي يثور عندهم، فيقال في شك من الأمر، باعتبار أن موضع الشك هو الأمر.
10. قوله تعالى: ﴿نَزَّلْنَا﴾ تدل على التنزيل منجما زمنا بعد زمن، ولم ينزل دفعة واحدة، وكانوا يثيرون الشك حوله بسبب ذلك، وقد قال تعالى فيما حكى عنهم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ فكان مما يثير ريبهم الباطل أن القرآن لم ينزل دفعة، ولكنه نزل منجما ليثبت به قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وليتعلم ترتيله، ويعلمه أصحابه؛ وليحفظوه في الصدور ولا يكتفى بالسطور.
11. ذكر الله تعالى تنزيله على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله تعالت كلماته: ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ وهو محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكره بالعبودية لله تعالى، وفى ذلك تشريف للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبيان لحماية الله تعالى له، وبيان بأن الرسالة لا تبعده عن مقام العبودية فهو عبد لله تعالى، ولن يستنكف أن يكون عبدا لله تعالى، وأن الله تعالى عاصمه في رسالته من الناس كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾
12. من في قوله تعالى: ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ بيانية، والمعنى على ذلك فأتوا بسورة من كتاب مثله إن كان في استطاعتكم أن تأتوا بكتاب مثله، فأتوا بسورة منه تكون واضحة التماثل والتشابه بها.
13. قال بعض العلماء أن (من) زائدة لتقوية السياق وتكون كقوله تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، ولا يقال في القرآن إن حرفا زائد.
14. تحداهم سبحانه وتعالى أن يأتوا بسورة من قراءة ﴿مِثْلِهِ﴾ يستطيعون بها أن يقولوا بها كما يقولون: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾
15. تحداهم ذلك التحدي، وتحداهم أن يدعو من يشاءون ممن ينصرونهم ويؤازرونهم في الملمات والشدائد، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾
16. الشهداء جمع شهيد، وهو الحاضر؛ أي ادعوا الحاضرين الذين يناصرونكم ويعاونونكم في الملمات وأجمعوا أمركم من دون الله أي متجاوزين الله سبحانه أو من تجمعونهم مهما يكونوا دون الله تعالى، فشهداؤكم مهما تكن قوتهم، ومهما تكونوا تفزعون إليهم في أموركم وعظائمها؛ فإنهم لا يمكن أن يأتوا بذلك.. افعلوا ذلك: إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم تستطيعون، وهذا كقوله تعالى في التحدي: ﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
17. كان التحدي من الله سبحانه وتعالى وكان العجز منهم، وقد كان التحدي يطالبهم بأن يجمعوا من يشاءون ومن يستطيعون جمعه من الأنصار والمقاويل ليقولوا، ولكنهم عجزوا لا بصرف الهمم، ولكن لعجزهم، فكان الإعجاز في ذات القرآن لا بصرف الأفهام كما ادعى المقلدون من الفلاسفة وبعض علماء الكلام.
18. كان فعل الشرط هو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾، وكان جواب الشرط هو التحدي بالمطلب المعجز وهو قوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾
19. هذا تحد للإعجاز، كما جاء في حكاية إبراهيم مع الطاغية عندما تحداه أن يأتي بالشمس من المغرب بدل المشرق، إذ قال تعالى حكاية عن ذلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، والتحدي: هو أن يأتوا بسورة من مثله.
20. السورة عدد من الآيات أقلها ثلاث كما في قوله تعالى في سورة الكوثر: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾
21. وهى في أصلها من السّور لأنها تحيط العدد من الآيات كأنها سور حولها، يحيط، أو من السورة وهى الدرجة الرفيعة، والسورة يتحقق فيها المعنيان، فهما متحققان في معنى السورة، فهي درجة من درجات البيان الرفيع لا تتفاوت مقاديرها وتتلاحق في درجاتها وتقديرها، وكل واحدة لها مقامها حتى أنها لتسمى قرآنا وحدها.
22. لقد تحداهم الله تعالى في سور مكية مثل:
أ. قوله تعالى في سورة هود: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
ب. وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
ج. وقال تعالى في سورة القصص: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَأَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾
23. بمقتضى الحكم السليم والمنطق المستقيم أنه إذا عجزوا ذلك العجز الصارخ أن يذعنوا للحق الذي جاءهم؛ ولذا قال تعالت كلماته: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ فإن لم تفعلوا أي لم تأتوا بمثله، أو بسورة من مثله.
24. قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ جملة معترضة بين الشرط وجوابه، وهى مسارعة إلى بيان عجزهم، لأنه من الله، وجعله الله تعالى فوق قدرة البشر، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لا يستطيعون، فكانت هذه الجملة الاعتراضية لتسجيل العجز المطلق، ونتيجته وهى أن يتقوا النار التي أعدت وهيئت للكافرين الجاحدين المعاندين للحق.
25. هذه الآية الكريمة كانت في سورة مدنية، وهى تدل على استمرار التحدي بالقرآن في المدينة. كما تحدى به في مكة، وكما يتحدى الأجيال كلها من بعد ذلك.
26. بعد أن تتضافروا وتتعاونوا، وتدعوا من استطعتم أن تدعوه، ومع ذلك تعجزون عن أن تأتوا فاعلموا أن ريبكم لا موضع له، وأنه شك حيث يجب اليقين، وعناد حيث يجب التسليم، وعليكم أن تتخذوا الإيمان وتدخلوا في الإسلام، وتتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة التي تعبدونها تحقيقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء].
27. قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ جواب الشرط في ظاهر اللفظ، وهى تطوى في ثناياها كلاما هو بمنزلة السبب لهذا الجواب، تقديره: فإن لم تأتوا بمثله فدعوا عنادكم، وصدقوا بالحق الذي جاءكم، وبذلك تتقون النار التي يكون وقودها أنتم والحجارة التي تعبدونها، وإن جواب الشرط على هذا إنذار بعد ذكر البرهان على الحق.
28. الوقود هو ما تستعر به النيران وتشتعل، وذكر الحجارة التي لا تنفع ولا تضر تنديد بهم وبعقولهم التي تعبد ما لا ينفع ولا يضر، ويضل ولا يهدى.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/163.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. النبوة سفارة بين الله، وبين خلقه يخص بها من يشاء من عباده، ليبلغهم عنه ما لا غنى لهم عن معرفته.. وقد عزز الله كل نبي ببينة جلية واضحة على صدقه في نبوته، لتكون له الحجة على من أرسل اليهم، والشرط الأساسي لهذه البينة أن تكون من نوع خاص يظهر على يد الأنبياء بالذات دون غيرهم حذرا من الخلط والاشتباه بين النبي وغيره.
2. لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بيّنات ودلائل على نبوته، منها هذا القرآن الذي عمت نسخه كل مكان، وأذيعت سوره وآياته في المكبرات، ومن الاذاعات في الشرق والغرب.. ووجه الدلالة أنه تحدى، وما زال، ولن يزال يتحدى كل منكر أن يأتي هو بنفسه، أو يأتي بمن يأتي بسورة من مثله، وما نقل عن واحد قديما وحديثا انه استطاع أن ينقض هذا التحدي، على الرغم من كثرة الجاحدين، وعدائهم للإسلام والمسلمين، وحيث ثبت العجز فقد ثبتت نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بالبداهة.
3. بعد أن اتفق العلماء على ان القرآن معجزة اختلفوا في وجه الاعجاز وسره: هل هو الأسلوب والشكل من الجمال والروعة، أو هو المضمون والمحتوى من العلم وقوانين التشريع، والاخبار بالغيب، وما إلى ذلك، أو هما معا؟
4. أطالوا الكلام في بيان وجه الاعجاز، ووضعوا فيه كتبا خاصة، وما أراه وجها للإعجاز، يتلخص بأن الإنسان يستطيع أن يقلد ويحاكي إنسانا مثله في قول أو فعل تكلفا وتصنعا بالنظر إلى ان كلا منهما يصدر عن العقل والخيال، اما ان يقلد ويحاكي خالقه وصانعه في أثر من آثاره فمحال، لأن الإنسان لا يتجاوز حدوده كمخلوق، مهما بلغ من القوة والعظمة.
5. تحدى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المعاندين بالقرآن، وليس من شك ان التحدي يتم ويصح إذا كان الفعل من النوع الذي يقدر عليه الشخص المقصود بالتحدي، كما لو طلبت ممن له يد سليمة أن يضعها على رأسه، أو يرفع بها ريشة من الأرض، أما إذا طلبت من الأمي أن يقرأ، ومن غير الطبيب أن يشفي المرضى، ومن غير الشاعر أن ينظم الأشعار فلا يكون من التحدي في شيء.. وقد تحدى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم المعاندين بما من شأنه أن بكون مقدورا لهم، وهو الكلام، فعجزوا عنه، وعجزهم هذا أضفى على القرآن صفة المعجزة.
6. سؤال وإشكال: ينبغي أن يكون معجزة بالنسبة الى البليغ في اللغة العربية، لا بالنسبة الى الجاهل بها، أو الضعيف من أهلها؟ والجواب: أن القرآن معجزة بما هو كلام الله، بصرف النظر عن العربي البليغ وغيره، وإنما نعرف المعجزة، ونكتشفها من عجز العربي البليغ، تماما كما نكتشف من عجز بطل السباحة العالمي في البحر الهائج عجز سواه، مع التقدير بأنه الأول في بطولة السباحة.. فعجز العربي البليغ سبب للمعرفة بمعجزة القرآن، وليس جزءا ولا شرطا لها.
7. معجزات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يبلغها الإحصاء، لأن الحكمة الإلهية تستدعي تنوع المعجزة واختلافها باختلاف الموارد والأشخاص، كما استدعت حكمته سبحانه أن يباهل نبيه نصارى نجران.. هذا إذا كان طالب المعجزة يبتغيها بصدق، أما الكاذب المتعنت الذي لا يجدي معه شيء فيقتصر الأمر معه على القرآن، لأن اعجازه مبدأ عام لا يختص بعصر دون عصر، ولا بفئة دون فئة، أو بفرد دون فرد.
8. قد تستدعي الحكمة ان لا تعرض المعجزة على الشخص إطلاقا، كما لو اكتفى بمجرد شعوره وإحساسه، أو بيمين النبي، فقد جاء في الأخبار ان رجلا قال لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما لي وللمعجزات؟.. احلف بالله انك رسول الله، وأنا أومن بك، فقال الرسول: والله اني رسول الله، فقال الرجل: اشهد ان لا إله الا الله، وان محمدا رسول الله.
9. الذي يدلنا على ان آفاق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعجزاته أعظم من أن يبلغها الإحصاء ان رجل الدين فيما مضى كان يستدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بما جاءت به الأخبار من تكلم الحصى له، وسعي الشجرة اليه، ونبع الماء من بين أصابعه، وكان الناس يتقبلون هذا يومذاك، أما اليوم حيث يتطلع الناس الى حياة أفضل فإنّا نستدل مما نستدل به على نبوته بأنه وقف مع المستضعفين، وحارب المستأثرين والظالمين، وبفضله وفضل شريعته نزعت التيجان عن رؤوس الجبابرة، وألقيت تحت أقدام رعاة الإبل، ووزعت كنوز الملوك على الفقراء والمساكين.
10. جميع معجزات الرسول الأعظم هامة وعظيمة، ولكن أهمها جميعا أمران:
أ. الأول: شريعة القرآن التي نظمت حقوق الإنسان، وعلاقات الناس بعضهم مع بعض على أساس العدل والتعاون، وسنعرض كل شيء في مورده ان شاء الله.
ب. الثاني: مباهلة الرسول مع وفد نجران التي سجلها الله سبحانه في سورة آل عمران، ان هذه المباهلة هي الدليل الحاسم، والحد الفاصل الذي يضع المعاند الجاحد أمام العذاب والهلاك وجها لوجه، هلاك ينزله محمد من السماء بكلمة واحدة تخرج من فمه الطاهر.. ان هذا التحدي لا مثيل له على الإطلاق في تاريخ البشرية.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/66.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ أمر تعجيزي لإبانة إعجاز القرآن، وأنه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه، إعجازا باقيا بمر الدهور وتوالي القرون، وقد تكرر في كلامه تعالى هذا التعجيز كقوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾، وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
2. على هذا فالضمير في مثله عائد إلى قوله تعالى: ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا﴾، ويكون تعجيزا بالقرآن نفسه وبداعة أسلوبه وبيانه، ويمكن أن يكون الضمير راجعا إلى قوله: ﴿عَبْدَنَا﴾، فيكون تعجيزا بالقرآن من حيث إن الذي جاء به رجل أمي لم يتعلم من معلم ولم يتلق شيئا من هذه المعارف الغالية العالية والبيانات البديعة المتقنة من أحد من الناس فيكون الآية في مساق قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، وقد ورد التفسيران معا في بعض الأخبار.
3. هذه الآية كنظائرها تعطي إعجاز أقصر سورة من القرآن كسورة الكوثر وسورة العصر مثلا، وما ربما يحتمل من رجوع ضمير مثله إلى نفس السورة كسورة البقرة أو سورة يونس مثلا يأباه الفهم المستأنس بأساليب الكلام إذ من يرمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى إنما يرميه جميعا ولا يخصص قوله ذاك بسورة دون سورة، فلا معنى لرده بالتحدي بسورة البقرة أو بسورة يونس لرجوع المعنى حينئذ إلى مثل قولنا: وإن كنتم في ريب من سورة الكوثر أو الإخلاص مثلا فأتوا بسورة مثل سورة يونس وهو بين الاستهجان هذا.
4. دعوى القرآن أنها آية معجزة بهذا التحدي الذي أبدتها هذه الآية تنحل بحسب الحقيقة إلى دعويين، وهما دعوى ثبوت أصل الإعجاز وخرق العادة الجارية، ودعوى أن القرآن مصداق من مصاديق الإعجاز، ومعلوم أن الدعوى الثانية تثبت بثبوتها الدعوى الأولى، والقرآن أيضا يكتفي بهذا النمط من البيان ويتحدى بنفسه فيستنتج به كلتا النتيجتين غير أنه يبقى الكلام على كيفية تحقق الإعجاز مع اشتماله على ما لا تصدقه العادة الجارية في الطبيعة من استناد المسببات إلى أسبابها المعهودة المشخصة من غير استثناء في حكم السببية أو تخلف واختلاف في قانون العلية، والقرآن يبين حقيقة الأمر ويزيل الشبهة فيه من جهتين.
أ. الأولى: أن الإعجاز ثابت، ومن مصاديقه القرآن المثبت لأصل الإعجاز، ولكونه منه بالتحدي.
ب. الثانية: أنه ما هو حقيقة الإعجاز وكيف يقع في الطبيعة أمر يخرق عادتها وينقض كليتها.
5. لا ريب في أن القرآن يتحدى بالإعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكية ومدنية تدل جميعها على أن القرآن آية معجزة خارقة حتى أن الآية السابقة أعني قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ )، أي من مثل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم استدلال على كون القرآن معجزة بالتحدي على إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبي ص، لا أنه استدلال على النبوة مستقيما وبلا واسطة، والدليل عليه قوله تعالى في أولها: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾، ولم يقل وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا.
6. جميع التحديات الواقعة في القرآن نحو استدلال على كون القرآن معجزة خارقة من عند الله، والآيات المشتملة على التحدي مختلفة في العموم والخصوص، ومن أعمها تحديا قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾، والآية مكية وفيها من عموم التحدي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة.
7. لو كان التحدي ببلاغة بيان القرآن وجزالة أسلوبه فقط لم يتعد التحدي قوما خاصا وهم العرب العرباء من الجاهليين والمخضرمين قبل اختلاط اللسان وفساده، وقد قرع بالآية أسماع الإنس والجن.. وكذا غير البلاغة والجزالة من كل صفة خاصة اشتمل عليها القرآن كالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة والأحكام التشريعية والأخبار المغيبة ومعارف أخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك، كل واحد منها مما يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم، فإطلاق التحدي على الثقلين ليس إلا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات.
8. القرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته، وللحكيم في حكمته، وللعالم في علمه وللاجتماعي في اجتماعه، وللمقننين في تقنينهم وللسياسيين في سياستهم، وللحكام في حكومتهم، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعا كالغيب والاختلاف في الحكم والعلم، والبيان.
9. من هنا يظهر أن القرآن يدعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كونه إعجازا لكل فرد من الإنس والجن من عامة أو خاصة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لب يشعر بالقول، فإن الإنسان مفطور على الشعور بالفضيلة وإدراك الزيادة والنقيصة فيها، فلكل إنسان أن يتأمل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثم يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحق والنصفة:
أ. فهل يتأتى القوة البشرية أن يختلق معارف إلهية مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن وتماثله في الحقيقة؟ وهل يمكنها أن تأتي بأخلاق مبنية على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء والفضيلة؟
ب. هل يمكن لأي بشر أن يشرع أحكاما تامة فقهية تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدي إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد وكلمة التقوى في كل حكم ونتيجته، وسريان الطهارة في أصله وفرعه؟
ج. هل يمكن أن يصدر هذا الإحصاء العجيب والإتقان الغريب من رجل أمي لم يترب إلا في حجر قوم حظهم من الإنسانية على مزاياها التي لا تحصى وكمالاتها التي لا تغيا أن يرتزقوا بالغارات والغزوات ونهب الأموال وأن يئدوا البنات ويقتلوا الأولاد خشية إملاق ويفتخروا بالآباء وينكحوا الأمهات ويتباهوا بالفجور ويذموا العلم ويتظاهروا بالجهل وهم على أنفتهم وحميتهم الكاذبة أذلاء لكل مستذل وخطفة لكل خاطف فيوما لليمن ويوما للحبشة ويوما للروم ويوما للفرس؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهلية.
د. هل يجتري عاقل على أن يأتي بكتاب يدعيه هدى للعالمين ثم يودعه أخبارا في الغيب مما مضى ويستقبل وفيمن خلت من الأمم وفيمن سيقدم منهم لا بالواحد والاثنين في أبواب مختلفة من القصص والملاحم والمغيبات المستقبلة ثم لا يتخلف شيء منها عن صراط الصدق؟.
هـ. هل يتمكن إنسان وهو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادية؛ والدار دار التحول والتكامل؛ أن يداخل في كل شأن من شئون العالم الإنساني ويلقي إلى الدنيا معارف وعلوما وقوانين وحكما ومواعظ وأمثالا وقصصا في كل ما دق وجل، ثم لا يختلف حاله في شيء منها في الكمال والنقص وهي متدرجة الوجود متفرقة الإلقاء وفيها ما ظهر ثم تكرر وفيها فروع متفرعة على أصولها؟ هذا مع ما نراه أن كل إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل ونقصه على حال واحدة.
10. الإنسان اللبيب القادر على تعقل هذه المعاني لا يشك في أن هذه المزايا الكلية وغيرها مما يشتمل عليه القرآن الشريف كلها فوق القوة البشرية ووراء الوسائل الطبيعية المادية وإن لم يقدر على ذلك فلم يضل في إنسانيته ولم ينس ما يحكم به وجدانه الفطري أن يراجع فيما لا يحسن اختباره ويجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به.
11. سؤال وإشكال: ما الفائدة في توسعة التحدي إلى العامة والتعدي عن حومة الخاصة، فإن العامة سريعة الانفعال للدعوة والإجابة لكل صنيعة، وقد خضعوا لأمثال الباب والبهاء والقادياني والمسيلمة على أن ما أتوا به واستدلوا عليه أشبه بالهجر والهذيان منه بالكلام، والجواب:
أ. هذا هو السبيل في عموم الإعجاز والطريق الممكن في تمييز الكمال والتقدم في أمر يقع فيه التفاضل والسباق، فإن أفهام الناس مختلفة اختلافا ضروريا والكمالات كذلك، والنتيجة الضرورية لهاتين المقدمتين أن يدرك صاحب الفهم العالي والنظر الصائب ويرجع من هو دون ذلك فهما ونظرا إلى صاحبه، والفطرة حاكمة والغريزة قاضية.
ب. لا يقبل شيء مما يناله الإنسان بقواه المدركة ويبلغه فهمه العموم والشمول لكل فرد في كل زمان ومكان بالوصول والبلوغ والبقاء إلا ما هو من سنخ العلم والمعرفة على الطريقة المذكورة، فإن كل ما فرض آية معجزة غير العلم والمعرفة فإنما هو موجود طبيعي أو حادث حسي محكوم بقوانين المادة محدود بالزمان والمكان فليس بمشهود إلا لبعض أفراد الإنسان دون بعض ولو فرض محالا أو كالمحال عمومه لكل فرد منه فإنما يمكن في مكان دون جميع الأمكنة، ولو فرض اتساعه لكل مكان لم يمكن اتساعه لجميع الأزمنة والأوقات.. فهذا ما تحدى به القرآن تحديا عاما لكل فرد في كل مكان في كل زمان.
12. تحدى القرآن الكريم بالعلم والمعرفة خاصة بقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وقوله: ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، إلى غير ذلك من الآيات، فإن الإسلام كما يعلمه ويعرفه كل من سار في متن تعليماته من كلياته التي أعطاها القرآن وجزئياته التي أرجعها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بنحو قوله: ﴿ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾، وقوله تعالى: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾، وغير ذلك متعرض للجليل والدقيق من المعارف الإلهية (الفلسفية) والأخلاق الفاضلة والقوانين الدينية الفرعية من عبادات ومعاملات وسياسات واجتماعيات وكل ما يمسه فعل الإنسان وعمله، كل ذلك على أساس الفطرة وأصل التوحيد بحيث ترجع التفاصيل إلى أصل التوحيد بالتحليل، ويرجع الأصل إلى التفاصيل بالتركيب.
13. بيّن القرآن الكريم بقاؤها جميعا وانطباقها على صلاح الإنسان بمرور الدهور وكرورها بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، فهو كتاب لا يحكم عليه حاكم النسخ ولا يقضي عليه قانون التحول والتكامل.
14. سؤال وإشكال: قد استقرت أنظار الباحثين عن الاجتماع وعلماء التقنين اليوم على وجوب تحول القوانين الوضعية الاجتماعية بتحول الاجتماع واختلافها باختلاف الأزمنة والأوقات وتقدم المدنية والحضارة، والجواب:
أ. أن القرآن الكريم يبني أساس التشريع على التوحيد الفطري والأخلاق الفاضلة الغريزية ويدعي أن التشريع يجب أن ينمو من بذر التكوين والوجود.
ب. وهؤلاء الباحثون يبنون نظرهم على تحول الاجتماع مع إلغاء المعنويات من معارف التوحيد وفضائل الأخلاق، فكلمتهم جامدة على سير التكامل الاجتماعي المادي العادم لفضيلة الروح، وكلمة الله هي العليا.
15. من وجوه التحدي (التحدي بمن أنزل عليه القرآن)، وقد تحدى الله تعالى بالنبي الأمي الذي جاء بالقرآن المعجز في لفظه ومعناه، ولم يتعلم عند معلم ولم يترب عند مرب بقوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، فقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهم وهو أحدهم لا يتسامى في فضل ولا ينطق بعلم حتى لم يأت بشيء من شعر أو نثر نحوا من أربعين سنة، وهو ثلثا عمره لا يحوز تقدما ولا يرد عظيمة من عظائم المعالي، ثم أتى بما أتى به دفعة فأتى بما عجزت عنه فحولهم وكلت دونه ألسنة بلغائهم، ثم بثه في أقطار الأرض فلم يجترئ على معارضته معارض من عالم أو فاضل أو ذي لب وفطانة.
16. غاية ما أخذوه عليه:
أ. أنه سافر إلى الشام للتجارة فتعلم هذه القصص ممن هناك من الرهبان ولم يكن أسفاره إلى الشام إلا مع عمه أبي طالب قبل بلوغه، وإلا مع ميسرة مولى خديجة وسنه يومئذ خمسة وعشرون وهو مع من يلازمه في ليله ونهاره، ولو فرض محالا ذلك، فما هذه المعارف والعلوم؟ ومن أين هذه الحكم والحقائق؟ وممن هذه البلاغة في البيان الذي خضعت له الرقاب وكلت دونه الألسن الفصاح؟
ب. وما أخذوه عليه أنه كان يقف على قين بمكة من أهل الروم كان يعمل السيوف ويبيعها فأنزل الله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾، وما قالوا عليه أنه يتعلم بعض ما يتعلم من سلمان الفارسي وهو من علماء الفرس عالم بالمذاهب والأديان مع أن سلمان إنما آمن به في المدينة، وقد نزل أكثر القرآن بمكة وفيها من جميع المعارف الكلية والقصص ما نزلت منها بمدينة بل أزيد، فما الذي زاده إيمان سلمان وصحابته؟
ج. على أن من قرأ العهدين وتأمل ما فيهما، ثم رجع إلى ما قصه القرآن من تواريخ الأنبياء السالفين وأممهم رأى أن التاريخ غير التاريخ والقصة غير القصة، ففيهما عثرات وخطايا لأنبياء الله الصالحين تنبو الفطرة وتتنفر من أن تنسبها إلى المتعارف من صلحاء الناس وعقلائهم، والقرآن يبرئهم منها، وفيها أمور أخرى لا يتعلق بها معرفة حقيقية ولا فضيلة خلقية ولم يذكر القرآن منها إلا ما ينفع الناس في معارفهم وأخلاقهم وترك الباقي وهو الأكثر.
17. من وجوه التحدي (تحدي القرآن بالإخبار عن الغيب)، وقد تحدى بالإخبار عن الغيب بآيات كثيرة:
أ. منها إخباره بقصص الأنبياء السالفين وأممهم كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾، وقوله تعالى بعد قصة يوسف: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾، وقوله تعالى في قصة مريم: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
ب. ومنها الإخبار عن الحوادث المستقبلة كقوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾، وقوله تعالى في رجوع النبي إلى مكة بعد الهجرة: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾، وقوله تعالى ﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رؤوسكم وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، وقوله تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، وآيات أخر كثيرة في وعد المؤمنين ووعيد كفار مكة ومشركيها.
ج. ومن هذا الباب آيات أخر في الملاحم نظير قوله تعالى: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، وقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾
د. ومن هذا الباب قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾، وقوله تعالى ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾، مما يبتني حقيقة القول فيها على حقائق علمية مجهولة عند النزول حتى اكتشف الغطاء عن وجهها بالأبحاث العلمية التي وفق الإنسان لها في هذه الأعصار.
هـ. ومن هذا الباب، وهو من مختصات هذا التفسير الباحث عن آيات القرآن باستنطاق بعضها ببعض واستشهاد بعضها على بعض:
• ما في سورة المائدة من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾
• وما في سورة يونس من قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ إلى آخر الآيات.
• وما في سورة الروم من قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾
إلى غير ذلك من الآيات التي تنبئ عن الحوادث العظيمة التي تستقبل الأمة الإسلامية أو الدنيا عامة بعد عهد نزول القرآن.
18. من وجوه التحدي: (تحدى القرآن بعدم الاختلاف فيه)، وقد تحدى أيضا بعدم وجود الاختلاف فيه، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ :
أ. فإن من الضروري أن النشأة نشأة المادة والقانون الحاكم فيها قانون التحول والتكامل فما من موجود من الموجودات التي هي أجزاء هذا العالم إلا وهو متدرج الوجود متوجه من الضعف إلى القوة ومن النقص إلى الكمال في ذاته وجميع توابع ذاته ولواحقه من الأفعال والآثار، ومن جملتها الإنسان الذي لا يزال يتحول ويتكامل في وجوده وأفعاله وآثاره التي منها آثاره التي يتوسل إليها بالفكر والإدراك، فما من واحد منا إلا وهو يرى نفسه كل يوم أكمل من أمس ولا يزال يعثر في الحين الثاني على سقطات في أفعاله وعثرات في أقواله الصادرة منه في الحين الأول، هذا أمر لا ينكره من نفسه إنسان ذو شعور.
ب. وهذا الكتاب جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نجوما، وقرأه على الناس قطعا قطعا في مدة ثلاث وعشرين سنة في أحوال مختلفة وشرائط متفاوتة في مكة والمدينة في الليل والنهار والحضر والسفر والحرب والسلم في يوم العسرة وفي يوم الغلبة ويوم الأمن ويوم الخوف، ولإلقاء المعارف الإلهية وتعليم الأخلاق الفاضلة وتقنين الأحكام الدينية في جميع أبواب الحاجة، ولا يوجد فيه أدنى اختلاف في النظم المتشابه؛ كتابا متشابها مثاني، ولم يقع في المعارف التي ألقاها والأصول التي أعطاها اختلاف يتناقض بعضها مع بعض وتنافي شيء منها مع آخر، فالآية تفسر الآية والبعض يبين البعض، والجملة تصدق الجملة كما قال علي عليه السلام: ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض)، ومن حيث الإتقان والمتانة.
19. سؤال وإشكال: إن قلت: هذه مجرد دعوى لا تتكي على دليل، وقد أخذ على القرآن مناقضات وإشكالات جمة ربما ألف فيه التأليفات، وهي إشكالات لفظية ترجع إلى قصوره في جهات البلاغة ومناقضات معنوية تعود إلى خطئه في آرائه وأنظاره وتعليماته، وقد أجاب عنها المسلمون بما لا يرجع في الحقيقة إلا إلى التأويلات التي يحترزها الكلام الجاري على سنن الاستقامة وارتضاء الفطرة السليمة، والجواب:
أ. ما أشير إليه من المناقضات والإشكالات موجودة في كتب التفسير وغيرها مع أجوبتها، فالإشكال أقرب إلى الدعوى الخالية عن البيان.
ب. لا تكاد تجد في هذه المؤلفات التي ذكرها المستشكل شبهة أوردوها أو مناقضة أخذوها إلا وهي مذكورة في مسفورات المفسرين مع أجوبتها فأخذوا الإشكالات وجمعوها ورتبوها وتركوا الأجوبة وأهملوها، ونعم ما قيل: لو كانت عين الحب متهمة فعين البغض أولى بالتهمة.
20. من وجوه التحدي: (التحدي بالبلاغة)، وقد تحدى القرآن بالبلاغة:
أ. كقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾، والآية مكية.
ب. وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾، والآية أيضا مكية وفيها التحدي بالنظم والبلاغة، فإن ذلك هو الشأن الظاهر من شئون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ.
21. العجز عن إجابة التحدي، مع أنّ:
أ. التاريخ لا يرتاب أن العرب العرباء بلغت من البلاغة في الكلام مبلغا لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم المتقدمة عليهم والمتأخرة عنهم ووطئوا موطئا لم تطأه أقدام غيرهم في كمال البيان وجزالة النظم ووفاء اللفظ ورعاية المقام وسهولة المنطق.
ب. وقد تحدى عليهم القرآن بكل تحد ممكن مما يثير الحمية ويوقد نار الأنفة والعصبية، وحالهم في الغرور ببضاعتهم والاستكبار عن الخضوع للغير في صناعتهم مما لا يرتاب فيه.
ج. وقد طالت مدة التحدي وتمادى زمان الاستنهاض فلم يجيبوه إلا بالتجافي ولم يزدهم إلا العجز ولم يكن منهم إلا الاستخفاء والفرار، كما قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾
د. وقد مضى من القرون والأحقاب ما يبلغ أربعة عشر قرنا ولم يأت بما يناظره آت ولم يعارضه أحد بشيء إلا أخزى نفسه وافتضح في أمره.
هـ. وقد ضبط النقل بعض هذه المعارضات والمناقشات، فهذا مسيلمة عارض سورة الفيل بقوله: الفيل ما الفيل وما أدريك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل).. فانظر إلى هذه الهذيانات واعتبر، وهذه سورة عارض بها الفاتحة بعض النصارى (الحمد للرحمن. رب الأكوان الملك الديان. لك العبادة وبك المستعان اهدنا صراط الإيمان) إلى غير ذلك من التقولات.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/58.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ شك وقلق ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو القرآن الكريم بتوهم أنه تقوّله ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ في الحكمة والإتقان وحسن التعبير؛ لأنه إذا قدر أن يتقولَّه؛ قدرتم أن تتقوَّلوا مثله في الحكمة والإتقان وحسن التعبير كما قال تعالى: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ [الطور: 34] وقال تعالى في سورة يونس: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾
2. ظهر أن ﴿مِنَ﴾ ليست للتبعيض، وإنما هي للبيان ولو كانت للتبعيض لكان المعنى فأتوا بسورة من كتاب مثله، وليس المراد كما بينا.
3. ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ ليشهدوا على إتيانكم بسورة من مثله، وتفسير الدعوة بهذا أظهر؛ لأنها مقرونة بذكر الشهداء، فكانت كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ وهذا يفيد: أنهم لو قالوا كلاماً وزعموا أنه مثل القرآن وسموه (سورة) لما وجدوا شهداء يشهدون بذلك؛ لوضوح الفرق وافتضاح الدعوى، فالناس يستحيون من الشهادة بذلك، ونظيره قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا﴾ [الأنعام: 150].
4. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ لأنه سبحانه يعلم أنكم لن تفعلوا، فكيف يشهد لكم بالفعل فلا معنى لدعوته للشهادة ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في تجويز أنه تقوّله لتبينوا أنكم على صواب في الارتياب فيه.
5. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ لم تأتوا بسورة من مثله بعد هذا التعجيز ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ لن تأتوا بسورة من مثله أبداً، فقد بان لكم أنه لا ريب في أنه كلام الله أنزله على رسوله.
6. ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا﴾ حطبها الذي توقد به ﴿النَّاسِ﴾ أي جنس الناس، والمراد الذين استحقوها بمعصية الله ﴿وَالْحِجَارَةُ﴾ فهذه النار.
7. ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فلا تكفروا بالقرآن والرسول، وآمنوا لتنجوا منها، وجملة ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ حاليّة.. أي فاتقوا النار حال كونها أعدت للكافرين.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/73.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ﴾ أيها الناس، ﴿فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ بفعل استبعاد تصوراتكم أن يكون النبي بشرا، أو أن تكون له من الأوضاع والمميزات ما ترونه منافيا للموقع المميز للنبوّة، كالفقر والمنزلة الاجتماعية العادية وما إلى ذلك، فإننا ندعوكم، لرفع هذه الشكوك والشبهات، إلى دراسة هذا التنزيل القرآني الذي لم تألفوا مثل فصاحته وبلاغته في أساليبكم ومحاوراتكم؛ والذي يتحداكم في أن تحاكوه.
2. ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ من دون تحديد لحجم السورة وطبيعتها ومضمونها، فتكون لكم حرية الاختيار في رد التحدي بما يتناسب مع إمكاناتكم البلاغية إذا لم تنفتحوا على إمكانات علمية أو فكرية مما تتضمنه هذه السورة أو تلك.
3. وإذا كنتم لا تملكون القدرة الذاتية على ذلك، فاعملوا على أن تستعينوا بالذين ترون فيهم القدرة العالية على القيام بالأمور الصعبة، ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ الذين اتخذتموهم آلهة ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، وزعمتم أنهم يملكون القوة الكبيرة التي تميزهم عن الناس، واعتقدتم أنهم يشهدون لكم، في حضورهم القوي الفاعل الذي يتدخل لإعانتكم، فيما لا تقدرون عليه ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم والتزامكم بالشرك.
4. أمّا عناصر الإثارة التي اشتملت عليها آية التحدي مع ما بعدها، فهي التوجه إليهم بدعوة شهدائهم الذين يدعونهم من دون الله ليشهدوا لهم أو ليعاونوهم ـ وهو الأقرب ـ باعتبار القوة الهائلة التي يزعمونها لهم، مما يجعل القضية لا تقف في مستوى قوتهم الذاتية فحسب، بل تتعداهم إلى شهدائهم الذين يمكن أن يكون المقصود بهم الشركاء الذين يعبدونهم من دون الله، ويرون فيهم القوة التي تقترب من الله، وبذلك، كان التحدي يواجه كل القوى الذاتية وغير الذاتية، مما يملكونه لدى شركائهم الذين يدعون من دون الله.
5. وهذا من أبلغ حالات التحدي التي تعمل على كشف تفاهة ما لدى الشركاء، إلى جانب تعرية حالة الشك المزعومة لديهم بتجريدها من كل مبرراتها.
6. سر التحدي القرآني المتمثل في الإعجاز يتمثل في الإعجاز البياني الذي تصل فيه الناحية التعبيرية في الكلمة إلى أعلى مستوى من الفنّ والروعة والأداء، بحيث تلحظ كل الجوانب المحيطة بالكلمة، وبالموقف، وبالإنسان، في الامتداد الرحب للحياة، من دون أن يتغلب جانب على آخر، بل هو التناسب والتوازن في الحركة والحرف والأسلوب، والروح المتدفق بالحياة، المناسب بالسحر والروعة والقوة والجلال.. وذلك هو سر القرآن الخالد في كلماته وآياته، التي تضج بالحركة، فتحس، وأنت تقرأه، بالتجدد يملأ روحك وقلبك وضميرك، ويحرك حياتك لتسمو، وترقّ، وتصفو، وتتعمق، وتنساب، في عمق الفكرة، وإشراق الإيحاء، وسماحة الأسلوب.
7. وذلك هو سر الكلمة التي لا تموت، لأنها انطلقت من الحياة الكبيرة الممتدة، لتمنح الأرض والإنسان سرّ الحياة التي تتجدد، ولتشير إلى الدرب الذي يتخذ من الموت جسرا تسير عليه الحياة إلى العالم السرمدي الذي يخجل الموت أن يمر على وهمه في خفة الضلال، لأن الموت يختبئ حيث تعيش الأشباح السوداء في عتمة الحياة، أو حيث يتجمد الصقيع في وحشة الضباب وبرودته، فلا يقترب من الصّحو الذي يتوهّج فيه النور، كمثل الحلم الوردي السابح في بحيرات الصفاء، في وداعة الروح، حيث تنطلق الرؤية في وضوح تخجل أمامه كل نوازع الشكوك، وذلك هو السر الذي يطوف بالكلمات، فتمتد في أعماق الروح حبا، وروحانية، وفكرا، وحياة.
8. للتحليل الفني للإعجاز البياني في القرآن مجال واسع في علوم البلاغة والأدب، وهو يؤكّد حقيقة قرآنية ملموسة، وهي أن أيّ تحليل أو تصوير للقرآن في معانيه وأسراره، أو أي بحث للأسرار البلاغية الكامنة في كلماته وآياته، لن تستطيع أن تجسد الحالة الروحية والشعورية والفكرية التي تغمر الإنسان وهو يقرأ القرآن أو يستمع إليه، لأن القضية ليست قضية المقاييس الفنية للجمال الأدبي، بل هي الروح الغامضة الرائعة المنسابة في الحروف والكلمات والمعاني والأسلوب، فإنك تشعر بها، وهي تتصاعد في مشاعرك وأفكارك وآفاقك في عالم من السموّ الإلهي الذي لا يدرك الإنسان مداه.
9. لعل القيمة، كل القيمة، أن تقرأ القرآن أو تستمع إليه، لا لتتجمد أمام كتب اللغة في تحديد معاني الكلمات، أو لتطوف في آفاق كتب الأدب والبلاغة، لتجعل لكل جملة أجواءها الجمالية ومقاييسها الفنية، بل لتشعر بأن الوحي القرآني الذي تعيشه في داخل الكلمات، وفيما بينها، وأمامها وخلفها، هو الشيء الذي يغمر كيانك، ويفتح قلبك على عالم من المعاني والأضواء والألوان والمشاعر والظلال، التي تجعلك تحس بالمعنى وهو يتسع ويتسع حتى تتلاشى الكلمة، فلا تعود حروفا تقبع في كتب اللغة، بل معاني تنطلق في رحاب الحياة، لتوحي للإنسان، وقد ارتفع إلى المستوى العظيم حيث تغمره الألطاف الإلهية، بروعة القرب إليها، روعة نجواها الخالدة خلود الحياة في الأبد، بالأسرار الخالدة.
10. هذا ما نفهمه من طبيعة التحدي القرآني الذي أطلقه القرآن بآياته.. إنه التحدي بالكلمة التي كانت سر القيمة لدى المجتمع الذي ولدت فيه الرسالة وعاشت.. ولكي يكون التحدي تحديا، لا بد من أن يوجّه إلى المجتمع الذي تتحرك فيه الرسالة عندما يضع أمامها العقبات أو التحديات، ليمنعها من الاستمرار والتقدم في الوصول إلى أهدافها الكبرى، ولا بد للتحدي ـ إلى جانب ذلك ـ من أن يكون في الإطار الذي تتجمع فيه الطاقات المبدعة للمجتمع، لتتضاءل تلك الطاقات أمام الرسالة، فتسير معها في فعل إيمان، أو لتنسحب من ساحة الصراع وهي تجرّ أذيال الهزيمة، لتكون الانطلاقة من موقع القوة في إطار الفكرة، كما هي القوة في موقع الحياة.
11. على ضوء ذلك، نفهم كيف كانت معجزة موسى عليه السّلام التي تحدّت إبداع السحرة بإعجاز السحر، وكيف كانت معجزة عيسى عليه السّلام التي تحدّت عظمة الطب، بإعجاز تتضاءل أمامه كل قوانين الطب وقواعده، ومرت المسيرة، وتراجع الفكر عن التحدي، ليفسح في المجال للغوغاء التي لا يمكن للحياة أن تحتضن أصواتها باستمرار إلا ريثما يستسلم الإنسان ـ ولبعض لحظات ـ ليقظة الفكر، وصفاء الوجدان، وإشراقة الروح، حيث تتبخّر كل السحب، وتخفت كل الأصوات.
12. ليس معنى ذلك، أن قصة المعجزة تتحرك في إطار المجتمع الذي تبدأ فيه الرسالة حركتها، فلا تتجاوز إلى غيره، لتكون المعجزة حدثا طارئا في حياة الرسول، وفي حركة الرسالة، فليس ذلك هو ما نحاوله، لأننا نعتبر المعجزة ضرورة حية لتأكيد علاقة الرسالة بالله باعتبارها عملا خارقا للقوانين الطبيعية المألوفة في الحياة، من دون أن نسيء إلى قانون السببية الذي جعله الله في الكون في علاقة الظواهر العامة بأسبابها، لأنها لا تخرق القانون بل تتحرك في النطاق الخفي في حركته الكونية لتكون اختراقا للقانون العادي لا للقانون من حيث المبدأ، بمعنى أنه ليس من الضروري أن تكون خرقا له، لكن لا مانع من ذلك إذا انطلقت حكمته ـ تعالى ـ في تعلق إرادته بها بشكل مباشر.
13. بذلك، فإن المعجزة تشكل القاعدة التي تنطلق منها الرسالة، لتؤكد شرعيتها في إخضاع الحياة لمفاهيمها وشرائعها على أساس ما تمثله من إرادة الله، كما أنها تشكل القوة الصادمة للقوى المناوئة، بحيث لا تسمح لاستفزازاتها بأن تشوّه وجه الدعوة، أو تحرفها عن مسيرتها القوية، لا سيما في بداياتها الأولى، لئلا تبدأ بداية ضعيفة يحوطها الغموض، وتنتابها الشبهات.
14. وذلك لأن خصوم الدعوة، في بداياتها الأولى، يمثلون القوى الطاغية الغاشمة، التي تقف ضد امتدادها وانتشارها، وتمنع الآخرين من الدخول في عملية حوار مع الدعوة حول القضايا التي تطرحها والمفاهيم التي تحملها، الأمر الذي قد يفسح في المجال للأوهام والأضاليل والشبهات، بالانتشار، لتؤخر مسيرتها وتشوّه صورتها، كما نلاحظ ذلك في الأساليب التي كان يتبعها فرعون ضد موسى عليه السّلام بالتهوين من شأنه، والحط من قدره، لتشويه صورة الرسالة التي يدعو إليها، والوقوف أمام كل تحرك عملي يحاوله موسى عليه السّلام في سبيل الوصول إلى أفكار الناس وقناعاتهم.
15. وهذا ما استطاع موسى عليه السّلام أن يحطمه بمعجزة العصا التي ﴿تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ [الأعراف: 117]، فكانت صدمة عنيفة قوية هزت كيان السحرة حتى خرّوا ساجدين من دون انتظار لأي شيء، مما خيل لفرعون، أو هكذا حاول أن يوحي لقومه، بأنها مؤامرة بين موسى عليه السّلام وبينهم باعتبار أنه كبيرهم الذي علمهم السحر، وهذا ما فعله كل الأنبياء الذين جاؤوا بالمعجزات لتحطيم الحواجز الضخمة التي أقامها خصومهم أمام الرسالات، وانطلقوا ـ بعد ذلك ـ لمواجهة الصراع من موقع القوة التي هزمت أعداءها في الداخل، وإن ظلوا متماسكين في ظاهر الأمور.
16. قد يجد الكثيرون من المفسرين أن الإعجاز القرآني لا يقتصر على الجانب البياني؛ فيذكرون معه الإعجاز العملي، لاشتمال القرآن على الإشارة إلى بعض القضايا العلمية التي لم يكتشفها الإنسان إلا بعد وقت طويل، أو التي كانت معروفة لدى اليونانيين وغيرهم من دون أن تكون هناك أية وسيلة معقولة لوصولها إلى النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو إلى المجتمع الذي عاش فيه، فقد كان المجتمع مجتمعا جاهليا يفقد الاهتمامات التي تدفعه إلى البحث والتعمق والسفر من أجل المعرفة الشاملة، بل كانت ثقافته واهتماماته تدور حول ما يشارك فيه الناس من قضايا الشعر والنثر المحدودة الأفق، الضيقة المعاني، في امتداد الفكر وسعته، ولم تكن للنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ثقافة ذاتية يتميز بها عن ثقافة قومه، لأنه لا يملك الوسائل الكفيلة بانفتاحه على هذه الثقافة من قراءة أو كتابة أو ممارسة دائبة لأصحاب الفكر والمعرفة في نواديهم ومجتمعاتهم.
17. رأينا الكثيرين يطرحون الإعجاز العملي كمظهر من مظاهر التحدي القرآني؛ فيتحدثون عن كروية الأرض التي أشارت إليها الآيات التي تتحدث عن ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ [الرحمن: 17]، أو ﴿بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ [المعارج: 40]، باعتبار أننا لا نفهم معنى معقولا لتعدد المشارق والمغارب إلا من خلال كروية الأرض التي نجد فيها الشمس تشرق عندنا وهي تغرب عند قوم آخرين، وبالعكس، أو من خلال قانون الزوجية في الكون، ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49] وغير ذلك من الأسرار التي لم يكتشفها الإنسان إلا بعد حين.
18. وقد يذكرون ـ إلى جانب ذلك ـ الإعجاز الغيبي من خلال إخبار القرآن بالمغيبات كشاهد على إعجاز القرآن، ويتحدثون ـ في هذا المجال ـ عن قوله تعالى: ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: 1 ـ 3].. فقد ذكر المفسرون ـ في أسباب النزول ـ أن الفرس تغلبوا على الروم، فشمت المشركون بالمؤمنين، باعتبار أن الروم يلتقون مع المسلمين على أساس الإيمان بالله الواحد، فنزلت الآية لتخبر بالانتصار المستقبلي للروم على الفرس، وقد حدث ذلك في سنوات قليلة، كما جاء في الآية الكريمة، ثم يتحدثون عن آيات أخرى في هذا المجال.
19. وقد يذكرون ـ في معرض الحديث عن الإعجاز القرآني ـ نظامه وتشريعه المعجز الذي أثبت قدرته على الصمود والاستمرار أمام التطورات والمتغيرات الحياتية، فلم يعرض عليه أي خلل في حل مشاكل الإنسان والحياة، بل استمرت الأصالة الإسلامية في التشريع ثابتة من أجل أن يتطور الإنسان نحو المستقبل الأفضل بدلا من أن يتطور نحو الانحراف.
20. ثم تتنوع الأحاديث في قضية الإعجاز حتى تصل إلى الإعجاز العددي الذي يعتمد على اكتشاف التناسب العددي في ألفاظ القرآن الكريم، فنجد تساويا في عدد المرات التي ذكرت فيها الدنيا مقارنا بعدد مرات ذكر الآخرة، إذ تكررت كل منهما 115 مرة على الرغم من اختلاف مواردهما، ونلاحظ تساويا في عدد ذكر الملائكة وعدد ذكر الشياطين، إذ وردت كلّ منهما 88 مرة، وهكذا تتسع الشواهد حتى تشمل الكثير من كلمات القرآن مع اختلاف مواردها وتنوّعها.
21. ملاحظتنا على ذلك هي، أن هناك أسلوبين في قضية إثبات صدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصدق القرآن، أولهما: هو الأسلوب الذي يعتمد على الحوار الهادئ فيثير الفكرة المضادّة أمام البحث ويناقشها ويحاكمها ويستمع إلى ردود الفعل المختلفة فيرجع إلى الفكرة من جديد.. وهذا هو الأسلوب الغالب في القرآن، حيث نجد أمامنا الحوار الذي أداره مع الكافرين في التهم التي وجهت إلى شخص الرسول في صفاته الذاتية من جهة، وإلى القرآن وعلاقته بالله أو بالرسول من جهة أخرى، فقد حدثنا عن صفة الشاعر والساحر والمجنون وغيرها من الصفات التي أثيرت حول شخص الرسول للتهوين من شأنه، وللتخفيف من تأثيره، وكان للأسلوب القرآني الحكيم، الجو الهادئ الذي يتابع الكلمات بروح هادئة، أو بكلمات قوية واضحة، ليعين الآخرين على التأمل العميق من موقع الفكر المسؤول.
أ. وقد أثيرت حول القرآن عدة أفكار سلبية في مجتمع الدعوة الأول:
• منها أنه من تعليم البشر، وكانت الفكرة تشير إلى غلام رومي في مكة كان النبي يجلس إليه في بعض الأوقات وذلك هو قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103]
• ومنها: أنه من وحي الثقافة الذاتية المكتسبة بالقراءة والكتابة، وذلك هو قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: 48].
• ومنها: اعتبار القصص القرآني من أساطير الأولين اكتتبها النبي فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، وذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 5].
ب. وقد أثار القرآن قضية المصدر الإلهي للقرآن، من خلال:
• الدعوة إلى التدبر فيه لاكتشاف الوحدة الفكرية التي تربط بين كل آياته على الرغم من اختلاف موضوعاته، وتباعد أزمان نزوله، وذلك هو قوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].
• كما عالجها من ناحية أخرى، فركز على الدعوة إلى دراسة تاريخ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قبل الدعوة، وخلوّه من أية إشارة إلى ما استقبل به الناس من القرآن والدعوة والعمل، مقارنا بتاريخه بعد الدعوة، على أساس أن أية فكرة يهجس بها الإنسان أو يعمل على إثارتها في حياته وحياة الآخرين، لا بد من أن تظهر على فلتات لسانه أو تصرفاته العملية، لأن الإنسان لا يستطيع أن ينفصل عن شخصيته الفكرية والروحية مهما جاهد في إخفاء ملامحها ونوازعها وأطماعها، ولا سيما إذا كانت القضية في حجم الرسالة الإسلامية وتطلعاتها المستقبلية، مما يصعب على الشخص أن يبتعد عن تأثيراته في حياته العملية وذلك في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى: 52]. ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: 16].
ج. وقد نستطيع الحديث عن صدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في رسالته، وفي قرآنه، من خلال الدراسة الموضوعية الشاملة التي تدرس حياة النبي في نشأته، وبيئته، وعلاقاته العامة والخاصة، للتعرف على المؤثرات التي يمكن أن تكون قد ساهمت في صنع شخصيته المستقبلية بكل ما تشتمل عليه من دعوات وأحداث، مع المقارنة بما يشتمل عليه القرآن، وما تتسع له الشريعة الإسلامية من حقائق كونية، ومفاهيم حياتية، في جميع مجالات الحياة، لننتهي إلى النتائج الحاسمة التي تربط القرآن بالله وتبعده عن الانتساب إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
22. الأسلوب الثاني في قضية إثبات صدق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصدق القرآن الكريم هو أسلوب التحدّي الذي يعتمد على الصدمة الفكرية أو الحسية التي تحيط بالإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله، في عملية تشديد وتهويل وإثارة، فتتحدى فيه كل طاقاته، لتعرّيه أمام نفسه وأمام الآخرين، ليتصاغر أمام جبروت القدرة، ويستسلم لرسالتها وشريعتها على أساس الشعور بالعجز المطلق أمام القدرة المطلقة.. وعلى ضوء ذلك، نجد أن التحدي القرآني لم ينطلق إلا في إطار الجو الذي يملك المشركون أمر التحرك فيه، وهو الجانب البياني، أما الجانب العملي أو التشريعي أو الغيبي، فهو من الجوانب التي تنهض دليلا على صدق القرآن في إطار الأسلوب الأول الذي يتميز بالحوار الهادئ الذي يريد للفكر أن يناقش الموقف بموضوعية وهدوء وليس في إطار التحدي، لأن التحدي لا يعني شيئا في المجال الذي لا يملكون أمر المعرفة له، فقد يكون لهم أن يعتذروا بعدم الاختصاص أو بغير ذلك من الأمور التي تمنعهم من مواجهته بمثله.
23. سؤال وإشكال: قد يقال إن التحدي موجّه للناس كافة، فلا بد من أن يكون في إطار يشمل كل الجوانب التي يمكن أن تثار أمام الناس، بمختلف فئاتهم، في أجواء التحدي، والجواب:
أ. إن التحدي لا يمكن أن يتحرك في فراغ في عصر نزول القرآن، بل لا بد له من أن يتوجه إلى الناس المعاصرين للدعوة باعتبارهم القوة التي تحتاج إلى صدمة التحدي لتلقي سلاحها أمام الدعوة الجديدة، ويمكن لهذا التحدي أن يثبت وجوده ويستمر في كل المجالات، وليس من الضروري أن يتّسع التحدي لكل الاختصاصات، بل يكفي فيه أن يكون معجزا ولو في بعض المجالات التي تثبت ارتباط الرسول بالقوّة الإلهية، كما نلاحظ ذلك في معاجز سائر الأنبياء.
ب. إننا نلاحظ أن التحدي قد طرح فكرة الإتيان بسورة واحدة، أو بعشر سور مثله، ونحن نعلم أن في السور القرآنية، ولا سيما السور الصغيرة منها، ما لا يشتمل على أية قضية علمية أو تشريعية أو غيبية، فكيف يمكن أن يكون التحدي منطلقا في هذه الاتجاهات.
ج. أن الآية التي تحدّت بالقرآن، لا يظهر منها أن المقصود فيها بالقرآن هو مجموع ما بين الدفتين، بل الظاهر هو غير ذلك، باعتبار أن هذه الآية هي جزء من القرآن، كما أن نزولها لم يكن في آخر عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل ربما كان في وقت قريب من بداية الدعوة كما توحي به طبيعة التحدي في مراحله الأخيرة السابقة، وقد نستطيع تأكيد ذلك بما قرره العلماء، وهو أن مصطلح القرآن يطلق على الآية، وعلى السورة، وعلى المجموع، فلعل المراد منه الطبيعة القرآنية بنوعها في خصائصها الذاتية من دون نظر إلى كمية الآيات قلة وكثرة.
د. ثم إن قضايا العلم والغيب لا يمكن أن تكون مجالا للتحدي من خلال شخصية النبي، وطبيعة البيئة التي عاش فيها، ونوعية المرحلة الفكرية التي وصل إليها عصره، أمّا من ناحية طبيعة الموضوع، فلا مجال للتحدي، لأن الوصول إلى هذه النتائج ـ ولا سيما العلمية ـ لم يعجز الإنسان في الماضي ولا في الحاضر، وقد وصل الإنسان إلى بعض الأفكار في مجتمع غير مجتمع النبي، سواء في عصره أو في العصور المتأخرة عنه، وهذا ما لا تستجيب له آيات التحدي في القرآن، لأن الظاهر منها انطلاق التحدي من الطبيعة القرآنية للكلمة بعيدا عن شخصية النبي وظروفه الموضوعية وطبيعة المرحلة الفكرية للمجتمع.
هـ. هناك نقطة جديرة بالتأمل نثيرها أمام الإعجاز بالغيب، فإن الغالب في الأحاديث التي تفسر آيات الغيب ببيان أسباب النزول، أنّها منقولة بطريق الأخبار الظنية التي لا تفيد قطعا وقناعة حاسمة بالنسبة للخصوم، مما لا يدع مجالا لإقناع الآخرين بذلك، لأن بإمكانهم أن يفسروا الآيات بما لا يتناسب مع هذه الفكرة، هذا مع التحفظ الشديد لكثير مما يثأر في تفسير القرآن بالنظريات العلمية مما لا مجال لبحثه الآن لأننا بصدد بحث في التفسير لا في علوم القرآن.
24. أشار المحقق الخوئي في كتابه القيّم (البيان في تفسير القرآن) في حديثه عن الفرق بين معجزة النبي في قرآنه وبين معجزة سائر الأنبياء، بخلود معجزة الإسلام، وهو القرآن، وانقطاع معجزة غير الإسلام من الأديان الأخرى انطلاقا من خلود الإسلام في الزمن وعدم خلود غيره، فقال: قد عرفت أن طريق التصديق بالنبوة والإيمان بها ينحصر بالمعجز الذي يقيمه النبي شاهدا لدعواه، ولما كانت نبوءات الأنبياء السابقين مختصة بأزمانهم وأجيالهم، كان مقتضى الحكمة أن تكون معاجزهم مقصورة الأمد ومحدودة، لأنها شواهد على نبوءات محدودة فكان البعض من أهل تلك الأزمنة يشاهد تلك المعجزات فتقوم عليه الحجة، والبعض الآخر تنقل إليه أخبارها من المشاهدين على وجه التواتر فتقوم عليه الحجة أيضا. أمّا الشريعة الخالدة، فيجب أن تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة أيضا، لأن المعجزة إذا كانت محدودة قصيرة الأمد، لم يشاهدها البعيد وقد تنقطع أخبارها المتواترة، فلا يمكن لهذا البعيد أن يحصل له العلم بصدق تلك النبوّة، فإذا كلّفة الله بالإيمان بها كان من التكليف بالممتنع، والتكليف بالممتع مستحيل على الله تعالى، فلا بد للنبوّة الدائمة من معجزة دائمة)
25. هناك ملاحظات على ما ذكره من جهتين:
أ. إن القضية التي أثارها سيدنا الأستاذ لا تدور مدار الخلود وعدمه، بل تتحرك في إطار إمكانية حصول التواتر وعدم حصوله، وهذا أمر مشترك بين الشريعة الخالدة والشريعة المحدودة بزمن طويل يرقى إلى مئات السنين، فإن من البعيد أن نحصل على التواتر في جميع الطبقات في المدة المتطاولة التي قد ترقى إلى خمسمائة سنة أو أكثر كما في رسالة المسيح عليه السّلام، وفي هذه الحال يعود السؤال في تلك الشريعة: كيف يمكن أن يكلف الله الناس بالإيمان بها مع عدم إمكان ثبوت المعجزة لهم بالمشاهدة والتواتر؟ فإذا قيل بإمكانية حصول التواتر في ذلك المقدار من الزمان فلنا أن نقول به في الزمان الأكثر.
ب. إننا نعتقد أن هناك أساليب عقلية لإثبات النبوّة من طريق المحاكمات الفكرية التي جاءت بها الرسالات، مما يشهد بصدق النبوّة، غير المعجزة التي تأخذ جانب التحدي، ولعل التاريخ النبوي يدلنا على أن المعجزة ـ التحدي، لم تكن هي الأساس في إيمان الناس بالنبي والنبوة، بل كانت هناك عناصر أخرى غيرها، من معاجز آنية، أو معادلات عقلية، كما نجد ذلك في رسالة نوح التي كانت معجزتها الطوفان في نهاية عهدها الرسالي مع قومه، وفي رسالة إبراهيم التي كانت معجزتها الوقوع في النار من دون احتراق في وقت متأخر جدا عن ذلك، وهكذا نجد في كثير من الرسالات الأخرى التي لم يحدثنا القرآن الكريم فيها عن وقوع معاجز محددة في بدايات الرسالة، ونعتقد أن شخصية النبي في قداستها وامتدادها، وأن النبوّة في مضمونها الرحب العميق، عندما تتحول إلى تيار جارف في الحياة العامة، تحققان القناعة والانطباع العفوي لدى الآخرين بصدق الرسول والرسالة.
26. بناء على هذا من المستحسن الخروج من الإطار الكلامي الذي درج عليه العلماء في تفسيرهم لقضية النبوّة وربطها بمعجزة التحدي، وإهمال الطرق العقلية، كأساس للإيمان.
27. ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ أي لم تستطيعوا القيام بذلك، ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ لأن القضية أكبر من طاقة البشر، وبالتالي لا يملك إنسان أن يجيب على هذا التحدي، مما يدل على أنه ليس كلاما صادرا من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل هو صادر من الله سبحانه، ليكون ذلك دليلا على صدقه في رسالته، وانطلاقه من الوحي الإلهي في كل ما جاء به، الأمر الذي يفرض عليكم الإيمان به، وبرسالته، والاتباع له في شريعته في كل أوضاعكم وأعمالكم، لأن ذلك هو الذي ينقذكم من غضبه وسخطه وعذابه.
28. نواجه ـ في الآية ـ التأكيد الحاسم بأنهم لن يستطيعوا مواجهة التحدي بمثله في المستقبل، كما في الحاضر، لأن القضية لا ترتكز على حالة آنية، أو مستوى محدود قابل للتطور في المستقبل، بل ترتكز على الطبيعة البشرية، التي لا تستطيع من خلال إمكاناتها الذاتية مواجهة ذلك.
29. ثم يمعن في الإثارة التي تقودهم إلى التجربة لئلّا يقول قائل: إن القوم لم يجدوا ما يدعوهم إلى الإلحاح في المواجهة، فلا نستطيع أن نعتبر عدم التجربة دليلا على العجز، فيواجههم بضرورة الإيمان المتمثل بمراقبة الله من ناحية عملية فيما يعتقدونه وفيما يعملونه، ليجنبوا أنفسهم ﴿النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ المعدّة للكافرين، فإن في هذا الوصف إيحاء بعظمة النار وشدة لهبها وحرارتها، التي تحوّل الحجارة إلى جمر يتوقّد ويشتعل، وتحقيرا للكافرين بمقارنتهم بالحجارة في النار، مما يؤجج في نفوسهم حس الكرامة، فيدعوهم إلى رد التحدي، ومحاولة المجابهة التي يرجعون منها خاسرين.
30. ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، مما يميزها عن غيرها من النيران التي توقد أولا بالوقود المألوف من الخشب ونحوه ثم يلقى فيها ما يراد إحراقه بها، ولكنها توقد بما تحرقه من الناس والحجارة التي تتحول إلى جمر متّقد، فهي موقده لهم وبهم.
31. ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ بالله، وبرسوله، وبرسالاته، واليوم الآخر بعد قيام الحجّة عليهم بذلك، مما جعل كفرهم منطلقا من موقع التمرد لا من موقع القناعة الفكرية، فاستحقّوا عذاب المتمردين.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/172.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لم يعلق هذا الشرط بإذا المفيد للجزم بالوقوع، بل علق بإن المفيد للشك في مشروطها، مع القطع بأن المشركين والمنافقين واليهود كانوا في ريب مما نزل على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم نظرا إلى أن ريبهم كان مستضعفا، ولم ينشأ إلا عن مكابرتهم للحق وتعاميهم عن الحقيقة، وإلا فالقرآن من وضوح الحجة ونصوع البرهان بمكان لا يرقى إليه شك، ممن استنار فكره واتقد ذهنه وانجلت بصيرته.
2. ذهب بعضهم إلى أن إن هنا بمعنى إذا، وهو لا يصح لعدم ثبوته عن أحد ممن يعتد به.. والمراد بالريب هنا الشك، وبه قال أئمة التفسير من الصحابة فمن بعدهم.
3. التعبير بالتنزيل دون الإنزال:
أ. قيل: لدلالة التفعيل على الكثرة، وقد كان من بواعث شكوك هؤلاء الشكاك في القرآن أن إنزاله لم يكن دفعة، وإنما كان نجوما بحسب الوقائع والأحداث، وهو لم يختلف ـ حسبما كانوا يرون ـ عن عادة الناس في كلامهم، فالشاعر لا يلقي بقصائده دفعة واحدة، والخطيب لا يجمع جميع خطبه في مقام واحد، وإنما ينظر كل منهما إلى المناسبات التي تستوجب الحديث عنها نظما أو نثرا، ومثل ذلك شأن الكتاب والقصاص، وقد رأى أولئك الذين شككوا في صحة نزول القرآن من عند الله، أنه لو حقا منه تعالى لكان له شأن من هذه الناحية مغاير لأحوال الناس، وقد حكى الله عنهم ذلك في قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾، وقد قيل لهم هنا: إن كنتم في شك منه بسبب ما ذكرتموه فلتأتوا أنتم بمثل نوبة واحدة من نوبه وهي سورة من قصار سوره، أفاد ذلك الزمخشري.
ب. تعقبه أبو حيان بأنه دلالة التفعيل على الكثرة لا تخرج بالفعل عن اللزوم إلى التعدي، فالفعل اللازم إذا ضعف يبقى على لزومه، والمتعدي يبقى كذلك متعديا، وإنما يفهم من الفعلين وقوعه بالكثرة، مثال ذلك جَرَح وجرَّح، فإن الفعلين متعديان وإنما يمتاز المضعف عن المجرد بالدلالة على كثرة الوقوع، وإذا انتقل الفعل بالتضعيف عن اللزوم إلى التعدي نحو بان وبين لم يدل تضعيفه على الكثرة، ومن هذا الباب نزل ونزل، فإن نزل ـ بالتضعيف ـ لا يختلف عن أنزل في شيء، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ حيث ضعف الفعل ولم يقصد به إلا المرة.. وبهذا يتبين أن التعبير بالإنزال تارة وبالتنزيل أخرى ليس لفارق بينهما، وإنما هو من باب التفنن في الكلام، وكثيرا ما يأتي لفظ التنزيل في القرآن فيما لا يحتمل التكثير إلا بضرب من التأويل البعيد، كقوله تعالى: ﴿لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾، وقوله: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ .. هذه خلاصة رد أبي حيان على الزمخشري، وهو في منتهى القوة والوضوح.
4. ذكر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بلقب العبودية في مقام الدفاع عنه مؤذن بأن عبودية الإنسان لله شرف له إذ هي أرقى هذه الدرجات الروحية التي يصلها العبد بجهاده وبعناية الله، وفي هذه الإضافة إلى الضمير العائد إليه تعالى تشريف له صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتنويه بأنه تحت رعاية الله وفي حمى عنايته.
5. في قوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ تحد لهم واستفزاز لنخواتهم، واستنفار لعزائمهم، أي إن كنتم صادقين بأن ما أنزل على عبدنا مما يحول حوله الريب ويرقى إلى عليائه الشك أو أنه تعلمه من غيره؛ أو افتراه بنفسه، أو أنه أساطير الأولين اكتتبها، فما عليكم إلا أن تصدقوا مقالتكم فتأتوا بجزء قصير من الكلام الذي يشبه ما جاء به أسلوبا، وبلاغة، وغزارة معنى.
6. السورة معروفة، وهي آيات مستقلة تشتمل على غرض أو أغراض لها فاتحة وخاتمة، ولكل سورة ترجمة في المصحف الشريف.
7. اختلف في الضمير الذي أضيف إليه [مثل] هل هو عائد إلى الموصول وهو [ما] أو هو عائد إلى عبد.. والأول هو الذي عليه الأكثرون، ونسب إلى عمر وابن مسعود وابن عباس من الصحابة، وإلى الحسن البصري ومجاهد وقتادة من التابعين، واختاره ابن جرير والزمخشري والرازي وأبو حيان والألوسي والقطب في التيسير.
8. رجح كونه عائدا إلى الموصول وهو [ما] بكثير من المرجحات منها:
أ. أن سياق الكلام فيها نزل عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم لا في شخصه ولا في نبوته، وإن ارتبطت نبوته بما أنزل عليه.
ب. ومنها مراعاة التواؤم بين صدر الكلام وعجزه، وشرطه وجزائه.
ج. ومنها موافقة ما في بقية السور، نحو قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾، وقوله، ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وقوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وقوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾
د. ومنها أن عود الضمير على المنزل لا المنزل عليه أدل على كمال التحدي لما فيه من إرخاء العنان وتوسيع المجال للخصوم، بحيث طلب منهم جميعا على اختلاف طبقاتهم الفكرية وتباين ملكاتهم البيانية أن يأتوا بجزء يسير من مثل ما هم شاكون فيه، بخلاف ما إذا حصرت المطالبة فيمن كان مثل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأمية، ويؤيد ذلك قوله: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، قوله: ﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ في آيتي يونس وهود، وقول ﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ في آية الاسراء.
9. المراد بالمثلية:
أ. أن تكون مثل سورة من القرآن في تلاؤم ألفاظها وتواؤم معانيها، وتناسق حروفها، وتآخي كلماتها، وسلاسة أسلوبها، أو ما يطلق عليه الإعجاز البياني.
ب. وقيل المراد بالمثلية أن تكون كسورة من القرآن فيما تشتمل عليه من أوامر ونواه، ووعد ووعيد، وقصص وحكم، ومواعظ وأمثال.
ج. وقيل: المراد أن تكون منطوية على مثل ما في القرآن من أخبار الغيوب التي لم تكن العرب تحيط بها علما.
د. وقيل: كونها كالقرآن في عدم فناء عجائبه وانقضاء غرائبه، وأنه لا يمحوه الماء ولا تمله الأسماع، ولا يزداد إلا تجددا ما تجدد الجديدان.
10. الإعجاز البياني هو الصحيح المراد لأن العرب بهروا بأسلوب القرآن الراقي، مع غض النظر عن عجائب محتوياته، وهم كانوا يكذبون بوعده ووعيده، وقصصه وأخباره، ومواعظه وأمثاله وأوامره ونواهيه.. على أي حال فالمثلية مفروضة ـ كما قال الزمخشري ـ وليست واقعة.
11. لا معنى لما يقوله البعض من أن لفظة مثل زائدة كزيادتها في ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، على رأي بعضهم لأن ذلك يفضي إلى أن المراد فأتوا بسورة منه، مع أن المطلوب منهم أن يعارضوا القرآن بشيء يشبهه، كما كانوا يدعون بقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا، وإنما قلنا بفرض المثلية دون حصولها، ليتفق ما هنا مع ما في قوله تعالى من بعد ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾، وقوله ﴿لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾، وفرضها مبني على اعتقاد المخاطبين، وما كانوا يمنون به أنفسهم في دحض حجة القرآن وسوق الكلام مساق التعجيز والتحدي شاهد على عدم وجود المثل.
12. انتقد أبو حيان الزمخشري في جعله المثلية مفروضة، مع أن ذلك لا يتأتى إن أعيد الضمير في (مثله) على المنزل عليه وهو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لوجود عدد كبير في العرب ممن يشبهه في الأمية، وكذلك إن أعيد الضمير على المنزل، لوجود الكلام البليغ فيما تنطق به العرب، وهو يجعل المماثلة حاصلة له من بعض الوجوه.
13. ليس فيما قاله الزمخشري موضع للنقد:
أ. أما أولا فقد بنى مذهبه على ما اختاره سابقا من عود الضمير في مثله إلى المنزَّل، وهذا الذي اختاره أبو حيان نفسه وعزاه إلى الأكثرين، ومن المعلوم أن التفريغ يجب أن لا يخرج عن منهج التأصيل.
ب. أما ثانيا فلأن البلاغة وحدها لا تكفي لعد سائر الكلام العربي البليغ مماثلا للقرآن، لما علمته من اختصاص القرآن بروح بيانية غيبية لا توجد في أي كلام آخر، ولولاها لم يكن لفرسان البلاغة العربية أن يقفوا مشدوهين أمام معجزته، متحيرين من ترتيب حروفه، ورصف كلماته بطريقة تجعل كل حرف وكل كلمة ينبضان بحياة لا توجد في سائر الكلام، وهو يعني أن البلاغة المتيسرة للكلام العربي لا تكفي لأن ترفع ذلك الكلام إلى هذا المستوى الرفيع.
14. بناء على القول بعود الضمير على [عبد]، فالمراد بالمثلية أن يكون مثله في صفة الأمية التي من شأنها عدم اتساع الأفق العلمي والمعرفة بأحوال الأمم، وأخبار النبيين، والأمور التشريعية والأوضاع الاجتماعية، إلى غير ذلك مما حواه القرآن الكريم، وعلى هذا مشى الإمامان محمد عبده ومحمد رشيد في المنار، واستدل له الاستاذ الإمام بدخول [من] الدالة على النشوء على لفظة (مثل)
15. فرق السيد محمد رشيد بين هذه الآية وسائر آيات التحدي في الإسراء ويونس وهود؛ بأن:
أ. التحدي في سورتي يونس وهود خاص ببعض أنواع الإعجاز، وهو ما يتعلق بالأخبار، كقصص الرسل مع أقوامهم التي لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا قومه يحيطون بها علما من قبل، وجوز أن يكون التحدي بعشر سور مفتريات دون سورة واحدة لإرادة نوع خاص مع عدم تفاوتها في البلاغة، كما يظهر ذلك في بعض القصص التي ترد في القرآن بعبارات مختلفة الأسلوب والنظم من مختصر ومطول، والتحدي بمثله لا يظهر في قصة مخترعة مفتراه، بل لابد من التعدد الذي يظهر فيه التعبير عن المعنى الواحد، والقصة الواحدة، بأساليب مختلفة، وتراكيب متعددة، كما هو واضح في سوره، ومن هنا أباح لهم أن تكون هذه السورة التي طولبوا بها مفتراة كما وصفوا بذلك القرآن.
ب. أما في سورة يونس فقد اكتفى بالتحدي بسورة واحدة؛ في مقام الرد على قولهم افتراه لعدم التقييد بكونها مفتراه، لا لأجل التخفيف عنهم بالواحدة بعد عجزهم عن العشر، وعليه فيقتضي ذلك انطواءها على خبر الغيب والتزامها بالصدق.
ج. وفي هذه السورة التي أعادت هذا التحدي في مواجهة اليهود بالمدينة المنورة بعدما تكرر بمكة المكرمة، كان التقييد في المطالبة بالإتيان بسورة مشتملة على ما تشتمل عليه سور القرآن من مثل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في أميته لأجل أن اليهود لم يكونوا يعدون التحدث عما جاءت به الرسل من الغيوب، فكأنهم طولبوا بالإتيان بذلك من رجل أمي كالرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.
16. هذه خلاصة تفرقته، ورأي الجمهور أوضح حجة وأقوى دليلا، لما علمته من أن المقصود بيان عجز الناس ـ ولو تضافرت جهودهم وتظاهرت قواهم ـ عن محاكاة القرآن، وقد سبق لك أن الأسلوب القرآني وحده كان كافيا في تبكيت العرب وإقامة الحجة عليهم بأن البيان الذي تحدوا به لم ينشأ عن ملكة بشرية، وإنما هو نداء غيبي، يخرس صوت كل معاند، ويستأصل شبهة كل مشاقق، ويهدي أولي البصائر إلى سواء السبيل، وذلك مع غض النظر عن محتواه من الغيوب وغيرها، وأخبار النبوات وإن كانت هي من ضروب إعجازه فإنها لم تكن هي المبكتة لطواغيت الجاهلية الذين لم يكونوا يؤمنون بالنبوات، ولا يصفون هذه الأخبار إلا بكونها أساطير الأولين، ولو كان التحدي في مكة المكرمة بمضمون القرآن دون لفظه لكان في ذلك مجال للكفار بأن يلفقوا بعض الأساطير الكاذبة، ويوهموا أتباعهم بأنها نظيرة ما في القرآن، إذ لا حكم يحتكم إليه في مثل هذه الأمور عندهم، بخلاف البلاغة فإن الحكم فيها الذوق والوجدان، والكل مشتركون فيهما، وعدم التقييد في المطالبة بالإتيان بكون الآتي مثل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأمية أبلغ في التحدي وأوغل في التبكيت لما فيه من إفساح المجال للمعارضة وإرخاء العنان للمعارضين، وليست في [من] دلالة على ما قاله الأستاذ الإمام، لأنها موضوعة لابتداء الغاية غالبا، وإذا كانت السورة المطلوبة منهم مؤلفة من كلام مثيل لما في القرآن لم تخرج [من] عن هذا المعنى الذي وضعت له.
17. الشهداء جمع شهيد، وهو الذي يقتضيه القياس، وحمله بعضهم على أنه جمع شاهد كعالم وعلماء:
أ. وهو مأخوذ من شهد إذا حضر، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾
ب. واستعمل بمعنى النصير لأن الشاهد يناصر المشهود له بشهادته.
18. المراد بالشهداء هنا نصراؤهم من الذين اتخذوهم آلهة من دون الله، والمراد بدعوتهم استحضارهم لأجل مناصرتهم كما هو شأنهم في اللجوء إليهم من دون الله تعالى.
19. في الآية إدماج لأنها جمعت بين تعجيزهم عن المعارضة وتوبيخهم على الشرك، وهو من أفانين البلاغة ويحتمل أن يراد بالشهداء نصراؤهم من أهل البلاغة، وهو أبلغ في التعجيز لما في ذلك من حضهم على استنفار جميع أصحاب الملكات البيانية، ويعضده قوله تعالى: ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا).
20. روي عن ابن عباس والسدي، ومقاتل والفراء، أن المراد بهم الذين يشهدون لهم عند الله في زعمهم، وهو كالقول الأول لأن اتخاذهم الآلهة من دون الله إنما هو لأجل تقريبهم إليه كما يقتضيه قوله تعالى حاكيا عنهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بهم الذين يشهدون لهم بمماثلة ما جاؤوا به للقرآن، فإنهم لو احتكموا إلى أرباب الصناعة البيانية ممن هم على مثل اعتقادهم، وجاؤوا بما يزعمون أنه مثل القرآن ما كانوا ليشهدوا لهم، فإن من شأن البارعين في الصناعة الأنفة من أن يسجل عليهم تصحيح فاسدها أو تزييف صحيحها، وقد جرت العادة عند العرب إذا ما تنافرت أن تحتكم إلى عقلائها، وكان المحتكم إليهم يحرصون على تنزيه ساحتهم من نسبة الجور أو الغلط إليهم فيما يحكمون.
21. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿ادْعُوا﴾ :
أ. أي استنصروا بشهدائكم ولا تستنصروا بالله، فإنه لن ينصركم، وهو مبني على أن المراد بالشهداء المناصرون.
ب. أما إن قيل إن المراد بهم الذين يشهدون لهم بمضارعة ما جاؤوا به للقرآن، فيكون المعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بذلك ولا تدعوا الله إن كنتم تتصورون أن من أعوانكم ونصرائكم من تطاوعه لسانه فينطق بالتسوية بين القرآن وما جئتم به، وهذا يعني أن يجعلوا جانب الله تعالى كالمشهود عليه، وهو أيضا من باب توسعة ميدان المعارضة لهم بحيث سمح لهم أن يأتوا بمن شاءوا من دون الله، ممن يطمعون أن يميلوا إلى جانبهم فيرفعوا ما يلفقونه من القول إلى مقام القرآن.
ج. ويصح أن يكون متعلقا بشهداء، وعليه فالمراد استحضروا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله زاعمين أنهم يشهدون لكم يوم القيامة، و(دون) على هذا القول مستعملة في التجاوز، وجوز بعضهم أن تكون بمعنى أمام أخذا من قول الشاعر: تريك القذى من دونها وهي دونه
د. ومعنى ذلك ادعوا الذين يزعمون أنهم يشهدون لكم بين يدي الله.
هـ. أما إن قيل إن الشهداء الذين يشهدون لهم بأن ما يأتون به كالقرآن فـ (دون) دالة على التجاوز لا غير، وجوز بعضهم تقدير مضاف، أي من دون حزب الله ويراد بهم المؤمنون توسعه لهم أن يأتوا بمن شاءوا من الحكام الذين هم على ملتهم كما تقدم.
22. قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ تذييل لما تقدم بما يثير حماسهم من تكرار التحدي وتأكيده، والمراد به إن كنتم صادقين أنه كلام بشر، أو أنه مظنة للريب، أو أن الإتيان بمثله أمر مقدور عليه، وجيء بأنّ دون إذا لأن صدقهم لا مكان له هنا، وقد تقدم الكلام على الصدق في معرض الحديث عن نقيضه وهو الكذب فلا داعي لتكراره.
23. إيثار (إن) على إذا ـ في قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ مع القطع بأنهم لا يفعلون ـ لأجل ملاينتهم وإطماعهم في القدرة على الإتيان بالمطلوب، بعد إثارة نعراتهم بما تقدم من التعريض بهم أنهم كاذبون، وهم أحرص ما يكونون على إلقاء هذه الوصمة الشائنة، ودرء هذا العار البغيض عن أنفسهم وقد كانوا أصحاب الحمية المتوقدة، والعصبية الثائرة، فلا يمكن مع ما سبق من تكرار التحدي وتتابع التقريع إلا أن يفكروا في استعراض ملكاتهم، والمقارنة بين ما تحدوا به من القول وما هو من مقدور ألسنتهم، فكأنه قيل لهم قدروا أنكم عاجزون عن فعل ما طولبتم به، ثم أتبعت هذه الملاينة المطمعة بالشدة المؤيسة في قوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ لئلا يبقى لهم عذر أو دعوى يتشبثون بها في تركهم المعارضة فقد أغروا بها بأنواع القول.
24. في قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ اختصار لأنه بمعنى فإن لم تأتوا بسورة من مثله، وكذا في قوله: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ لأن مؤداه ولن تأتوا بسورة من مثله، و(لن) لا تأتي إلا مع قصد تأكيد النفي أو تأبيده أو لأجلهما معا، وهي هنا مفيدة للتأكيد والتأييد كما في قوله تعالى: ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾، لتعذر أن يأتي أحد بمثل القرآن أو بمثل سورة منه في أي عصر كان.
25. جملة ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ معترضة بين الشرط وجوابه، وهي تفيد خبرا غيبيا صدقه الواقع، فقد تعاقبت عند العرب منذ نزول هذه الآية مدارس بيانية متنوعة، وكان من بين تلامذتها كثير ممن أوغل في الإلحاد، وبالغ في محاربة القرآن، غير أنهم لم تحدثهم أنفسهم أن يخوضوا تجربة فيحاولوا إنشاء سورة واحدة من مثل قصار سوره لتثبيت عقيدتهم وتأييد نزعتهم، بل قصرت عزائمهم جميعا عن الطموح إلى ذلك، على أن الوقت الذي نزل فيه القرآن كان زاخرا بأرباب ملكات البيان، فقد بلغت فيه اللغة العربية أوج ارتفاعها، وانتهى طوفان الكلام عند العرب إلى أقصى حده، وكانت عداوة الحق وكره الرسالة الجديدة، والتكذيب بها قد جمعت بين فئاتهم، والتقى عليها كتابيهم ووثنيهم، وقد تعاقدوا بالخناصر، وتشادوا بالعهود على محاربة الله ورسوله، إلا من رحم ربك ممن شرح الله صدره للإسلام، وقليل ما هم في بداية الأمر وكانت آيات التحدي تقرع مسامعهم جميعا، ومع ذلك رضوا لأنفسهم الذلة والخنوع من آثار هزيمتهم في هذا المجال، لأنهم شعروا من أعماق نفوسهم أنهم لو نزلوا حلبة المعارضة لما جاؤوا بشيء ما عدا السخافات التي يربؤون بأنفسهم عنها، وسجل التاريخ عليهم هزيمة نكراء لا يعرفون لها نظيرا، ويتضح بهذا أن هذه الجملة الاعتراضية ـ بجانب إعجاز بيانها ـ تحتوي على إعجاز خبري أقره التاريخ، وسلم له الحميم والعدو.
26. جملة: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾؛ مفرعة على الشرط وجوابه على الصحيح، وليست فذلكة لما تقدم كما قال الألوسي، فإن المراد فإن عجزتم عن الإتيان بسورة مماثلة لما فيه القرآن، أو حاولتم المعارضة، ولم يكن لشهدائكم أن يسجلوا لكم بأنكم بلغتم بما أتيتم به شأو القرآن، فأيقنوا أن ما جاءكم حق نازل من عند الله، وأنكم اجترأتم عليه بتكذيب رسوله المؤيد بهذه المعجزة الخالدة فاتقوا عقابه المعد لأمثالكم من الكفار المكذبين.
27. عزا القرطبي إلى جماعة من المفسرين أن في الآية تقديما وتأخيرا، وأن الأصل وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار، وفرع عليه عدم تمام الوقف على صادقين، وهو قول مرفوض، لما علمته من أن جملة ﴿ لن تفعلوا ﴾ جاءت معترضة في موضع حسن فيه مثل هذا الاعتراض، والتجرؤ على القول بأن في القرآن تقديم ما حقه التأخير أو العكس اجتراء عظيم على من أنزله بحسب هذا الترتيب، لأن تقديم ما حقه التأخير لا يصدر إلا ممن يعييه ترتيب الكلمات أو الجمل بحسب ما تقتضيه معانيها، وهو عجز لا تصح نسبته إلى الله، ومن نسبه إليه فقد كفر والعياذ بالله، وما أشبه هذا الذي عزاه القرطبي إلى جماعة من المفسرين ـ في الغرابة والبعد ـ بما ذكره ابن عطية والقرطبي أيضا أن بعضهم ذهب إلى أن الضمير في قوله ﴿مِنْ مِثْلِهِ﴾ عائد إلى ما نزل من قبل من كتب الله، وفساد هذا الرأي ظاهر بداهة لمخالفته ما يتبادر من معنى الآية ومعاني نظائرها، ولأن التحدي إنما هو بالقرآن وليس بما تقدمه من الكتب.
28. المراد باتقائهم النار اتقاؤهم الأسباب الموصلة إليها، وأهمها ركوب متن العناد، والإخلاد إلى الكفر والشقاق كرها للحق وتعاميا عن الحقيقة مع سطوع حجتهما وإشراق براهينهما، وهو من التعبير بالمسبب عن السبب.
29. المراد بالناس الكفار المكذبون بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وما نزل عليه، وهو مبني على أنها نار مخصوصة بالكفار، وثم نيران أخرى لغيرهم من أصحاب الكبائر، ويدل عليه تذييل الآية بقوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ وذهب جماعة إلى أن إعدادها للكفار لا ينافي اشتراك سائر أهل الكبائر معهم في دخولها.
30. المراد بالحجارة:
أ. التماثيل المنحوتة التي عبدوها من دون الله وعلقوا على عبادتها أمل نجاتهم، فإنهم يعذبون بها يوم القيامة لمضاعفة حسرتهم على تأليهها، وبيان حقارتها عند الله عندما تنقلب أداة ضر، بعدما عدوها وسيلة نفع، وسببا للسحق بعدما كانوا يطمعون أن تكون لهم سبيلا إلى الزلفى، وهناك يكتشفون ضلال عقولهم وخيبة سعيهم إذ عدلوا عن عبادة الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن إلى عبادة أحجار نحتوها بأيديهم، وصوروها بحسب رغبتهم، لا تسمع ولا تبصر، ولا تحسب، ولا تفكر، ولا تأتي بخير، ولا تدفع ضيرا، ويشهد لهذا التفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾، وتعضده النصوص الدالة على أن المجرم يعذب يوم القيامة بآلة إجرامه، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا...)
ب. وقيل هي حجارة الكبريت لتميزها بين الأحجار بسرعة الاشتعال، وشدة الحرارة، وكثرة الدخان، ونتن الرائحة والالتصاق بالأبدان، وهو قول ابن عباس وابن مسعود، وعول عليه جماعة من أهل التفسير بناء على أن بعضهم يرى أن قول الصحابي في التفسير له حكم الرفع، وهذان الصحابيان الجليلان معدودان في مقدمة الصحابة في فن التفسير، رواية ودراية، وقد سبق أن كثيرا من العلماء يرون مثل هذا القول لا يعدو أن يكون موقوفا على الصحابي المنسوب إليه، ومن ثم عول أصحاب الرأي الأول على ما دلت عليه آية الأنبياء من معنى.
ج. يمكن الجمع بين الرأيين بأن تلك الحجارة نفسها تتحول إلى حجارة ذات طبع كبريتي، وذكر الناس والحجارة لا ينافي أن يكون لهذه النار وقود غيرهما، فالشياطين ومردة الجن تشتعل بهم كما تشتعل بكفار البشر والعياذ بالله.
__________
(1) تفسير الخليلي: 2/356.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. العبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل، فسمى المملوك من جنس ما يفعله عبدا لتذلله لمولاه، قال طرفة:
إلى أن تحامتني العشيرة كلها... وأفردت إفراد البعير المعبد
أي المذلل. قال بعضهم: لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط، سمى نبيه عبدا، وأنشدوا:
يا قوم قلبي عند زهراء... يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها... فإنه أشرف أسمائي
2. لأجل أن يؤكد هذا التحدي دعاهم أن لا يقوموا بهذا العمل منفردين، بل ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
3. كلمة (شهداء) تشير إلى الفئة التي كانت تساعدهم في رفض رسالة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعبارة ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إشارة إلى عجز جميع البشر عن الإتيان بسورة قرآنية ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وإلى قدرة الله وحده على ذلك.
4. وعبارة ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ تستهدف حثّهم على قبول هذا التحدي، ومفهومها: لو عجزتم عن هذا العمل فذلك دليل كذبكم، فانهضوا إذن لإثبات ادعائكم.
5. طبيعة التحدي تقتضي أن يكون صارخا إلى أبعد حدّ ممكن، وأن يكون محفّزا للعدو مهما أمكن، وبعبارة أخرى أن يثير الحميّة فيه، كي يجنّد كل طاقاته لعملية المجابهة، حتى إذا فشل وأيقن بعجزه علم أنه أمام ظاهرة إلهية لا بشرية.
6. سؤال وإشكال: لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟ والجواب: نعلم أن منصب النّبوة أعظم منصب منحه الله لخاصة أوليائه. فكل المناصب عادة تمنح صاحبها القدرة للحكم على أبدان الأفراد، إلّا منصب النّبوة، فالنّبي يحكم على الأجسام والقلوب في مجتمعه.. من هنا كان مقام النّبوة لا يبلغه مقام في سموّه، ومن هنا أيضا كان أدعياء النبوّات الكاذبة أحطّ النّاس وأشدّهم انحرافا.
7. النّاس هنا أمام أمرين: إمّا أن يؤمنوا بدعوات النّبوة جميعا، أو يرفضوها جميعا، لو قبلوها جملة لتحولت ساحة الأديان إلى فوضى وهرج ومرج، ولو رفضوها جملة لكان عاقبة ذلك الضلال والضياع.
8. الدليل على مبدأ البعثة ذاته يفرض إذن أن يكون الأنبياء الصادقين مجهزين بالدليل على نبوتهم كي يتميز الصادقون من الكاذبين.. أي أن يكونوا مجهزين بالمعجزة الدالة على صدق ادعائهم.
9. (المعجزة) ـ كما هو واضح من لفظها ـ عمل خارق يأتي به النّبي ويعجز عن الإتيان به الآخرون، وعلى النّبي صاحب المعجزة أن يتحدى النّاس بمعجزته، وأن يعلن لهم أن معجزته دليل على صدق دعواه.
10. القرآن معجزة نبي الإسلام الخالدة، فالقرآن كتاب يسمو على أفكار البشر، ولم يستطع أحد حتى اليوم أن يأتي بمثله، وهو معجزة سماوية كبرى.
11. هذا الكتاب الكريم يعتبر ـ بين معاجز النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أقوى سند حيّ على نبوة الرّسول الخاتم، لأنه معجزة (ناطقة) و(خالدة) و(عالمية) و(معنوية).
أ. أمّا أنّه معجزة (ناطقة) فإنّ معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك، أي أنها كانت بحاجة إلى وجود النّبي لكي يتحدث للناس عن معجزته ويتحداهم بها، ومعاجز النّبي الخاتم ـ عدا القرآن ـ هي من هذا اللون. أما القرآن فمعجزة ناطقة، لا يحتاج إلى تعريف، يدعو لنفسه بنفسه، يتحدى بنفسه المعارضين ويدينهم ويخرج منتصرا من ساحة التحدي، وهو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان يتحداهم في عصر الرسالة. إنه دين ومعجزة، إنه قانون، ووثيقة تثبت الهية القانون.
ب. أما الخلود والعالمية: فإنّ القرآن حطم سدود (الزمان والمكان) وتعالى عليهما، لأن معاجز الأنبياء السابقين ـ وحتى معاجز النّبي الخاتم غير القرآن ـ مسجلة على شريط معين من الزمان، وواقعة في مساحة معينة من المكان، وأمام جمع معدود من النّاس، مثل معاجز عيسى عليه السّلام كحديثه في المهد وإحيائه الموتى.. وواضح أن الأحداث المقيّدة بزمان ومكان معينين تمسي صورتها باهتة كلما ابتعدنا عن ظروفها الزمانية والمكانية، وهذا من خصائص الأمور الزمنية.. لكن القرآن لا يرتبط بالزمان والمكان، فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على عرب الجاهلية قبل قرون، بل إن مرور الزمن زاد البشرية قدرة في العلم والإمكانات لتستفيد منه أكثر من ذي قبل، وما لا يرتبط بزمان أو مكان فإنه يحوي عناصر الدوام والخلود وسعة دائرته العالمية، وبديهي أن الدين العالمي الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.
ج. أمّا الصّفة (المعنوية) للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين، ونرى أنها كانت غالبا (جسمية) مثل: شفاء الأمراض الجسمية المستعصية، وتحدث الطفل في المهد.. وكانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أما القرآن، فيسخر القلوب والنفوس، ويبعث فيها الإعجاب والإكبار. إنه يتعامل مع الأرواح والأفكار والعقول البشرية، وواضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز الجسمية.
12. من أقوال المشاهير بشأن القرآن بمن فيهم أولئك الذين اتهموا بمعارضة القرآن:
أ. أبو العلاء المعري (المتهم بمعارضة القرآن) يقول: وأجمع ملحد ومهتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمّد كتاب بهر بالإعجاز، ولقى عدوه بالإرجاز، ما حذى على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال... ما هو من القصيد الموزون، ولا الرجز، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة، وجاء كالشمس، لو فهمه الهضب لتصدع، وأن الآية منه أو بعض الآية لتعرض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والظهرة البادية في جدوب).
ب. الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو رجل عرف بين عرب الجاهلية بكياسته وحسن تدبيره، ولذلك سمي (ريحانة قريش)، سمع آيات من سورة (غافر) فرجع إلى قوم من بني مخزوم فقال لهم: والله لقد سمعت من محمّد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وان أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى عليه)
ج. العالم المؤرخ البريطاني (كارليل) يقول حول القرآن: لو ألقينا نظرة على هذا الكتاب المقدس لرأينا الحقائق الكبيرة، وخصائص أسرار الوجود، مطروحة بشكل ناضج في مضامينه، ممّا يبين بوضوح عظمة القرآن، وهذه الميزة الكبرى خاصة بالقرآن، ولا توجد في أي كتاب علميّ وسياسي واقتصادي آخر. نعم، قراءة بعض الكتب تترك تأثيرا عميقا في ذهن الإنسان، ولكن هذا التأثير لا يمكن مقارنته بتأثير القرآن. من هنا ينبغي أن نقول: المزايا الأساسية للقرآن، ترتبط بما فيه من حقائق وعواطف طاهرة، ومسائل كبيرة، ومضامين هامة لا يعتريها شك وترديد، وينطوي هذا الكتاب على كل الفضائل اللازمة لتحقيق تكامل البشرية وسعادتها)
د. جان ديفن بورت مؤلف كتاب: الاعتذار إلى محمّد والقرآن). يقول: القرآن بعيد للغاية عن كل نقص، بحيث لا يحتاج إلى أدنى إصلاح أو تصحيح، وقد يقرؤه شخص من أوّله إلى آخره دون أن يحسّ بأي ملل)، ويقول: لا خلاف في أن القرآن نزل بأبلغ لسان وأفصحه، وبلهجة قريش أكثر العرب أصالة وأدبا.. ومليء بأبلغ التشبيهات وأروعها)
هـ. غوتة الشاعر الألماني يقول: قد يحسّ قرّاء القرآن للوهلة الاولى بثقل في العبارات القرآنية، لكنه ما أن يتدرج حتى يشعر بانجذاب نحو القرآن، ثم إذا توغّل فيه ينجذبـ دون اختيار ـ إلى جماله الساحر)، وفي موضع آخر يقول: لسنين طويلة، أبعدنا القساوسة عن فهم حقائق القرآن المقدس وعن عظمة النّبي محمّد، ولكن كلما خطونا على طريق فهم العلم تنزاح من أمام أعيننا حجب الجهل والتعصب المقيت، وقريبا سيلفت هذا الكتاب الفريد أنظار العالم، ويصبح محور أفكار البشرية)! ويقول كذلك: كنا معرضين عن القرآن، ولكن هذا الكتاب ألفت أنظارنا، وحيّرنا، حتى جعلنا نخضع لما قدمه من مبادئ وقوانين علمية كبرى)
و. المفكر الفرنسي (جول لا بوم) في كتاب (تفصيل الآيات) يقول: العلم انتشر في العالم على يد المسلمين، والمسلمون أخذوا العلوم من (القرآن) وهو بحر العلم، وفرّعوا منه أنهارا جرت مياهها في العالم..)
ز. المستشرق البريطاني دينورت يقول: يجب أن نعترف أنّ العلوم الطبيعية والفلكية والفلسفة والرياضيّات التي شاعت في أوربا، هي بشكل عام من بركات التعاليم القرآنية، ونحن فيها مدينون للمسلمين، بل إن أوربا من هذه الناحية من بلاد الإسلام)
ح. الدكتورة لورا واكسيا واغليري أستاذة جامعة نابولي في كتاب (تقدم الإسلام السريع) تقول: كتاب الإسلام السماوي نموذج الإعجاز.. (القرآن) كتاب لا يمكن تقليده، وأسلوبه لا نظير له في الآداب، والتأثير الذي يتركه هذا الأسلوب في روح الإنسان ناشئ عن امتيازاته وسموّه.. كيف يمكن لهذا الكتاب الإعجازي أن يكون من صنع محمّد، وهو رجل أميّ!؟.. نحن نرى في هذا الكتاب كنوزا من العلوم تفوق كفاءة أكثر النّاس ذكاء وأكبر الفلاسفة وأقوى رجال السياسة والقانون، من هنا لا يمكن اعتبار القرآن عمل إنسان متعلّم عالم)
ط. (ويل ديورانت) المؤرخ المعروف يقول: القرآن أوجد في المسلمين عزّة نفس وعدالة وتقوى لا نرى لها نظيرا في أية بقعة من بقاع العالم)
13. القرآن تحدى البشرية في مواضع عديدة من سوره، منها قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾، وقوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ .
14. القرآن تحدى بصراحة وقوة في هذه الآيات جميع البشرية، وفي هذه الصراحة والقوّة دلالة حيّة على حقّانيته، ولم يكتف في تحدّيه بدعوة النّاس إلى أن يأتوا بمثله، بل حفّزهم وشجعهم على ذلك، وعبارات التحفيز نجدها في قوله تعالى: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾، وقوله: ﴿ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ والْجِنُ ﴾، وقوله: ﴿لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾، وقوله: ﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والْحِجارَةُ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا ﴾
15. هذا التحفيز والحثّ والإثارة لم يصدر ضمن إطار معركة أدبية أو عقائدية، بل في إطار معركة (سياسية) (اقتصادية) (اجتماعية)، ضمن إطار معركة حياة أو موت، يرتبط بمصيرها وجود هذا الكيان الجديد، وعجز المعارضين أمام هذا التحدّي الحياتي الصارخ، يبيّن بشكل أوضح أبعاد المعجزة القرآنية.
16. جدير بالذّكر أن تحدي القرآن لا ينحصر بزمان أو مكان، بل إن هذا التحدّي قائم حتى يومنا هذا.
17. سؤال وإشكال: هل جيء بمثله؟ والجواب: الجواب على هذا السؤال يتضح لو ألقينا نظرة على الظروف والملابسات التي عاصرت نزول القرآن، وعلى تاريخ ما ذكر من محاولات لكتابة ما يشبه القرآن، فغير خفيّ أن الرسالة في عصر النّزول وما بعده، واجهت خصوما ألدّاء من المشركين واليهود والنصارى والمنافقين، وهؤلاء توسّلوا بكل ما لديهم من قوة وحيلة للوقوف بوجه الدعوة. حتى إن بعض المنافقين مثل (ابو عامر) الراهب ومن وافقه من المنافقين اتّصلوا بإمبراطور الرّوم للتآمر على الإسلام، وبلغ الأمر بهؤلاء المتآمرين أن شيّدوا (مسجد ضرار) في المدينة، وحدثت على أثر ذلك وقائع عجيبة أشار إليها القرآن في سورة التوبة).. ومن الطبيعي أن هؤلاء الأعداء الألدّاء من المنافقين وغيرهم كانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويتحينون كل فرصة للإضرار بالمسلمين، ولو كان هؤلاء قد حصلوا على كتاب يجيب على تحدي القرآن، لتهافتوا عليه ونشروه وطبّلوا له وزمّروا، أو لسعوا في حفظه على الأقل.. ولذلك نرى أن التاريخ احتفظ بأسماء أولئك الذين يحتمل احتمالا ضعيفا أنهم عارضوا القرآن، مثل:
أ. عبد الله بن المقفع، فقد قيل أنه عارض القرآن بكتابه (الدرّة اليتيمة) بينما لا نعثر في هذا الكتاب الموجود بين أيدينا اليوم على إشارة إلى هذه المعارضة، ولا نعرف لماذا وجهت التهمة إلى ابن المقفع بهذا الكتاب؟
ب. المتنبي، أحمد بن الحسين الكوفي الشاعر، ذكر في زمرة المعارضين وأصحاب النبوءات، بينما تؤكد دراسات حياة المتنبي وأدبه، أنه كان ينطلق في شعره غالبا من روح الخيبة في بلوغ المناصب الرفيعة، ومن الحرمان العائلي.
ج. أبو العلاء المعرّي، اتهم بهذا أيضا، ونقلت عنه أشعار تنم عن رفضه لبعض مسائل الدين، لكنه لم يرفع صوته يوما بمعارضة القرآن، بل نقلت عنه عبارات في عظمة كتاب الله العزيز.
د. مسيلمة الكذاب من أهل اليمامة فقد عارض القرآن، وأتى بآيات! أقرب إلى الهزل منها إلى الجد، ومن ذلك ما قاله معارضا سورة (الذاريات): والمبذرات بذرا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا. والثاردات ثردا، واللاقمات لقما. اهالة وسمنا).. من النماذج الأخرى لآياته: يا ضفدع نقّي فإنّك نعم ما تنقين، لا واردا تنفرين، ولا ماء تكدرين)
18. سياق الآيات التالية، يركز على عنصر الإثارة ويقول: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ وهذه النار ليست حديث مستقبل، بل هي واقع قائم: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾
19. جمع من المفسرين قالوا: إن المقصود بالحجارة: الأصنام الحجرية، واستشهدوا لذلك بالآية الكريمة: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ .. جمع آخر قالوا: الحجارة) إشارة إلى صخور معدنية كبريتية تفوق حرارتها حرارة الصخور الأخرى.. وهناك من المفسرين من يعتقد أن المقصود من هذا التعبير، إلفات النظر إلى شدة حرارة جهنم، أي إن حرارة جهنّم وحريقها يبلغ درجة تشتعل فيها الصخور والأجساد كما يشتعل الوقود.
20. يبدو من ظاهر الآيات المذكورة، أن نار جهنم تستعر من داخل النّاس والحجارة، ولا يصعب فهم هذه المسألة لو علمنا أن العلم الحديث أثبت أن كل أجسام العالم تنطوي في أعماقها على نار عظيمة (أو بعبارة أخرى على طاقة قابلة للتبديل إلى نار)، ولا يلزم أن نتصور نار جهنم شبيهة بالنار المشهودة في هذا العالم.
21. في موضع آخر يقول تعالى: ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾ خلافا لنيران هذا العالم التي تنفذ من الخارج إلى الداخل.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/233.
8. الصالحون والجنة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈8⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 25]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أتوا بالثمرة في الجنة، فنظروا إليها، فقالوا: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ في اللون والمرأى، وليس يشبه الطعم(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٠٨.
(2) ابن جرير: ١/٤١٤.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء(1).
2. روي أنّه قال: عملوا الصالحات فيما بينهم وبين ربهم(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، أي: خالدون أبدا، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله، لا انقطاع له(3).
4. روي أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، قال باقون، لا يخرجون منها أبدا، قال وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول عدي بن زيد(4).:
فهل من خالد إما هلكنا... وهل بالموت يا للناس عار
__________
(1) مُسَدَّد ـ كما في المطالب العالية: ٥٢٠٢.
(2) تفسير الثعلبي: ١/١٦٩.
(3) سيرة ابن هشام: ١/٥٣٩ ـ .
(4) الدرّ المنثور: الطستي. وينظر: الإتقان: ٢/٧٥.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ يشبه بعضه بعضا، ويختلف في الطعم(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٦٧.
ابن جبير:
روي عن سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بشرهم بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٦٥.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، يعني: المساكن، تجري أسفلها أنهارها(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٦٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾، يقولون: ما أشبهه به. يقول: من كل صنف مثل(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ متشابها في اللون، مختلفا في الطعم، مثل الخيار من القثاء(2).
3. روي أنّه قال: ﴿مُتَشَابِهًا﴾ في اللون، والطعم(3).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص١٩٨.
(2) ابن جرير: ١/٤١٤.
(3) عبد الرزاق: ١/٤١.
عكرمة:
روي عن عكرمة (ت 105 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ قال قولهم: ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ معناه: مثل الذي كان بالأمس(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٦٦.
(2) ابن جرير: ١/٤١٥.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) أنّه قال: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ خيارا كله، يشبه بعضه بعضا، لا رذل فيه، ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه!(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤١٣.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾، أي: في الدنيا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾، أي: خيارا كله، لا رذل فيه، وإن ثمار الدنيا ينتقى منها، ويرذل منها، وثمار الجنة خيار كله، لا يرذل منه شيء(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٠٨.
(2) ابن جرير: ١/٤١٣.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ( ﴿مُتَشَابِهًا﴾ أي يشبه بعضه بعضا في اللون، والطّعم.. ويقال: متشابها في اللون، ومختلفا في الطّعم(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 80.
ابن زيد:
روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت 182 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ في الدنيا(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا، التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان، قالوا في الجنة: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ في الدنيا، ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ يعرفونه، وليس هو مثله في الطعم(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٠٩.
(2) ابن جرير: ١/٤١٦.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: ثمر الدنيا منه ما يرذل، ومنه نقاوة، وثمر الجنة نقاوة كله، يشبه بعضه بعضا في الطيب، ليس منه مرذول(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤١٣.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، يعني: البساتين(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٩٤.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾، قال في ذلك بعض يتعاطى العلم: إن معنى قولهم: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وشبهوه بالثمر الأول.. وليس عندي كذلك؛ لأنه إذا كان ثمر الجنة كثمر الدينار فلا فضل إذا لنعيم الآخرة على نعيم الدنيا؛ لأنه إذا كان النبات كنبات الدنيا، والمأكل كمأكل الدنيا ـ فلا فضل لما في الآخرة على ما نحن نرى، وهذا مخالف للكتاب، محال عند ذوي الألباب؛ نحن نرى فواكه الدنيا ومعايشها تتفاضل في الدنيا، فكيف ما جعل الله سبحانه في الآخرة.
2. المعنى في ذلك عندي، والله الموفق للصواب: أن معنى قول أهل الجنة: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ يريدون بذلك: أنه لا يصل بهم من الله عز وجل رزق إلا أعجبهم، ووقع بموافقتهم، ثم تصل بهم أرزاق من بعد ذلك تكون في الجودة والسرارة والموافقة كالأول سواء؛ لأن أرزاق الدنيا منها موافق، ومنها مخالف، ومنها طيب، ومنها ردي، ومنها مكروه، ومنها محبوب، وأرزاق الجنة كلها مؤتلفة، مصيبة للشهوة.
3. قد فسر الله ذلك في آخر الآية، فقال سبحانه: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾، فقد قال بعض الناس: متشابها في الألوان.. وذلك خطأ من المقال، وإنما ـ رحمك الله ـ معنى: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ : في الإرادة والشهوة والمحبة؛ لأن الأرزاق في الدنيا لا تشتبه عند صاحبها، ولا بد أن يرى فيها ما يغمه، وما يكرهه ولا يشتهيه، وأرزاق الآخرة ليس فيها تعكظ، ولا أمر لغير شهوة، ولا تكسر إرادة؛ فلذلك قال الله سبحانه: ﴿مُتَشَابِهًا﴾، يريد: متشابها في الموافقة والإرادة والإعجاب، وكلما رزقوا رزقا كان لهم معجبا، ولقلوبهم ماليا، وإذا رزقوا رزقا آخر من بعد الأول كان لقلوبهم ماليا، ولنفوسهم معجبا، كالإعجاب الأول، لا يختلف لهم فيه محبة، ولا يتضاد لديهم له شهوة؛ بل يكون ذلك في قلوبهم كمحل الآخر سواء، ولو كان في الجنة شيء من الأرزاق يرزقه العبد، يوافقه ويفرح به، ثم يرزق من بعده رزقا دونه ـ لكان الفرح يختلف، ولو اختلف لوقع الخوف والانكسار، ولفسد قوله عز وجل: ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وتلك دار السرور، ومحل الحبور، حيث لا خوف على أهلها ولا هم يحزنون؛ ولكن اشتبه فرحهم بكل ما رزقهم الله، فراح عنهم الغم والاكتئاب، وصاروا بعون الله إلى أكرم محل ومآب، فلا هم ينزل بهم، ولا شر في أرزاقهم يتعكظ عليهم؛ قد أمنوا النيران، وصاروا إلى الرضى والرضوان، تجري من تحتهم الأنهار، خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك، عطاء غير مجذوذ.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/27.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ينقض قول من جعل جميع الطاعات إيمانا؛ لما أثبت لهم اسم الإيمان، دون الأعمال الصالحات، غير أن البشارة لهم، وذهاب الخوف عنهم إنما أثبت بالأعمال الصالحات.
2. يحتمل الأعمال الصالحات: عمل القلب، وهو أن يأتي بإيمان خالص لله، لا كإيمان المنافق بالقول دون القلب.
3. قوله: ﴿مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ قيل فيه بوجوه:
أ. قيل: إن البساتين ليست هي اسم الأرض والبقعة خاصة، ولكن ما يجمع من الأشجار، وما ينبت فيها من ألوان الغروس المثمرة فعند ذلك يسمى بستانا، وقوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي من تحت أشجارها، وأغراسها الأنهار.
ب. وقيل: من تحتها: مما يقع البصر عليها، وذلك أنزه عند الناس، وأجلى، وأنبل.
ج. وقيل أيضا: من تحتها أي من تحت ما علا منها [من القصور والغرف]: تحت كل شعرة جنابة)؛ أي تحت ما علا، لا تحت الجلد؛ فكذلك الأول من تحت ما علا منها من القصور، والغرف.
4. قوله: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ قيل فيه بوجوه:
أ. ﴿رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ في الدنيا.
ب. وقيل: ﴿رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أي هذا الذي وعدنا في الدنيا أنّ في الجنة هذا.
ج. وقيل: ﴿رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾، في الجنة قبل هذا.
5. قوله: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ قيل فيه بوجوه:
أ. قيل: ﴿مُتَشَابِهًا﴾ في المنظر، مختلفا في الطعم.
ب. وقيل: ﴿مُتَشَابِهًا﴾ في الطعم مختلفا في رأى العين والألوان؛ لأن من الفواكه ما يستلذ بالنظر إليها دون التناول منها.
ج. وقيل: ﴿مُتَشَابِهًا﴾ في الحسن والبهاء.
قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، قيل فيه بوجوه:
6. ﴿مُطَهَّرَةً﴾ من سوء الخلق والدناءة، ليس كنساء الدنيا لا يسلمن عن ذلك.
7. وقيل: ﴿مُطَهَّرَةً﴾ من الأمراض، والأسقام، وأنواع ما يبلى به في الدنيا من الدرن، والوسخ والحيض.
8. وقيل: ﴿مُطَهَّرَةً﴾ لصفاء جوهرها؛ كما يقال: يرى مخّ ساقيها من كذا وكذا.
9. وقيل: ﴿مُطَهَّرَةً﴾ مختارة مهذبة.
10. قوله: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي يقيمون أبدا.
11. الآية ترد على الجهمية قولهم؛ لأنهم يقولون بفناء الجنة، وفناء ما فيها؛ يذهبون إلى أن الله تعالى هو الأول، والآخر، والباقي، ولو كانت الجنة باقية غير فانية لكان ذلك تشبيها.. لكن ذلك وهم عندنا؛ لأن الله تعالى هو الأول بذاته، والآخر بذاته، والباقي بذاته، والجنة وما فيها باقية بغيرها.
12. لو كان فيما ذكر الجهمية تشبيه لكان في العالم، والسميع، والبصير تشبيه، ولكان في الخلق أيضا في حال البقاء تشبيه، فإذا لم يكن فيما ذكرنا تشبيه لم يكن فيما تقدم تشبيه.
13. إن الله تعالى جعل الجنة دارا مطهرة من المعايب كلها؛ لما سماها دار قدس، ودار سلام.. ولو كان آخرها للفناء كان فيها أعظم المعايب؛ إذ المرء لا يهنأ بعيش إذا نغص عليه بزواله؛ فلو كان آخره بالزوال كان نعمة منغصة على أهلها؛ فلما نزه عن العيوب كلها ـ وهذا أعظم العيوبـ لذلك كان التخليد لأهلها أولى بها.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/404.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله عز وجل: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ أي متشابهاً في الفضل، أو في بعض الأحوال(1)..
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 271.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بشّر من البشارة وهو أول خبر يرد عليك ساراً، وقد قيل فيما يغم أيضاً، والأول أصح وأظهر لكثرة استعماله واشتقاقه من البشرة وهي ظاهر الجلد لتغيرها عن أول خبر.
2. الجنات جمع جنة وهي:
أ. البستان وسميت بذلك لأنها تستر بشجرها.
ب. وقيل: الجنة البستان الذي فيه النخل وإن لم يكن فيه شجر غيره فإن كان فيه كرم فهو فردوس وإن لم يكن فيه شجر غيره.
3. ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي أن أنهار الجنة تجري من غير أخدود.
4. معنى ذلك أن الذي رزقناه من ثمار الجنة يحتمل:
أ. أن يكون على ما ذكروا من ثمار الجنة كلما جنيت استخلف مكانها آخر يشبه ما جني أولاً حتى إذا رأوها قدروا أنها هي التي جنوها أولاً، ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ أي: كله خياراً يشبه بعضه بعضاً في الجودة وليست كثمار الدنيا التي فيها الردي والخيار.
ب. والثاني: أنه يجوز أن يكون أراد أنها مثل ثمار الدنيا في اللون وإن اختلفت في الطعم، ويحتمل أن يكون مثل ثمار الدنيا في الطعم واللون.
5. قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ يعني في الأبدان والأخلاق والأفعال فلا يحضن ولا يلدن ولا يذهبن إلى غائط وغيره.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/35.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الجنات جمع جنة، وهي البستان ذو الشجر، وسمي جنة لأن ما فيه من الشجر يستره، وقال المفضل: الجنة كل بستان فيه نخل، وإن لم يكن فيه شجر غيره، فإن كان فيه كرم فهو فردوس، كان فيه شجر غير الكرم أو لم يكن.
2. قوله عزّ وجل: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾، يعني بقوله: ﴿رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ أي من ثمار شجرها.
3. ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: أن معناه: أن هذا الذي رزقناه من ثمار الجنة، مثل الذي رزقناه من ثمار الدنيا، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة.
ب. والثاني: أن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها، استخلف مكانها مثلها، فإذا رأوا ما استخلف بعد الذي جني، اشتبه عليهم، فقالوا: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾، وهو قول أبي عبيد ويحيى بن أبي كثير.
4. قوله عزّ وجل: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ فيه تأويلات:
أ. أحدها: أن معنى التشابه أن كله خيار يشبه بعضه بعضا وليس كثمار الدنيا، التي لا تتشابه لأن فيها خيارا وغير خيار، وهذا قول الحسن وقتادة وابن جريج.
ب. الثاني: أن التشابه في اللون دون الطعم فكأن ثمار الجنة في ألوان ثمار الدنيا، وإن خالفتها في الطعم، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود والربيع بن أنس.
ج. الثالث: أن التشابه في الأسماء دون الألوان والطعوم، فلا تشبه ثمار الجنة شيئا من ثمار الدنيا في لون ولا طعم، وهذا قول ابن الأشجعي وليس بشيء.
5. قوله عزّ وجل: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ في الأبدان، والأخلاق، والأفعال، فلا يحضن، ولا يلدن، ولا يذهبن إلى غائط ولا بول، وهذا قول جميع أهل التفسير.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/86.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى البشارة:
أ. قيل: هو الاخبار بما يسر المخبر به إذا كان سابقاً لكل خبر سواه، لأن الثاني لا يسمى بشارة.
ب. وقيل: إن الاخبار بما يغم ايضاً يسمى بشارة، كما قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، والاولى أن يكون ذلك مجازاً.
2. هي مأخوذة من البشرة: وهي ظاهر الجلد لتغييرها بأول الخبر، ومنه تباشير الصبح: أوله، وكذلك تباشير كل شيء.. المبشرات: الرياح التي تجيء لسحاب، والبشر: الإنسان والبشرة: أعلى جلدة الجسد، والوجه من الإنسان.. والمباشرة: ملاصقة البشرة، والبشر: قشر الجلد.
3. الجنان: جمع جنة، والجنة: البستان، والمراد بذكر الجنة ما في الجنة من أشجارها وأثمارها، وغروسها دون أرضها، فلذلك قال ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ لأنه معلوم انه أراد الخبر عن ماء أنهارها انه جار تحت الأشجار والغروس والثمار لا انه جار تحت ارضها، لأن الماء إذا كان تحت الأرض جاريا، فلا حظ فيه للعيون إلا بكشف الساتر بينه وبينها، على ان الذي يوصف به انهار الجنة انها جارية في غير أخاديد، روي ذلك عن مسروق، رواه عنه ابو عبيدة وغيره.
4. اختلف في معنى (من ثمرة):
أ. من زائدة، والمعنى: كلما رزقوا ثمرة، (ومنها): يعني من الجنات والمعنى: أشجارها وتقديرها: كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدها الله للمؤمنين.
ب. وقال الرماني: هي بمعنى التبعيض، لأنهم يرزقون بعض الثمرات في كل وقت.
ج. ويجوز ان تكون بمعنى تبيين الصفة، وهو ان يبين الرزق من اي جنس هو.
5. اختلف في قوله: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ :
أ. روي عن ابن عباس، وابن مسعود وجماعة من الصحابة انه الذي رزقنا في الدنيا، وقال مجاهد: معناه أشبهه به.
ب. وقال بعضهم: إن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها، عاد مكانها فإذا رأوا ما عاد بعد الذي جني، اشتبه عليهم، فقالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، وهذا قول أبي عبيدة، ويحيى بن أبي كثير.
ج. وقال قوم: هذا الذي رزقنا، وعدنا به في الدنيا.
د. وقال قوم: هذا الذي رزقنا من قبل لمشابهته في اللون وإن خالفه في الطعم.
هـ. وقال بعض المتأخرين في قوله ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ معناه هذا الذي أعطينا بعبادتنا من قبل.
و. وقال ابو علي معناه ذلك ما يؤتون به في كل وقت من الثواب مثل الذي يؤتى في الوقت الذي قبله من غير زيادة ولا نقصان، لأنه لا بد أن تتساوى مقادير الاستحقاق في ذلك.
ز. وقال أيضاً يجب أن يسوي بينهم في الأوقات في مقدار ما يتفضل به عليهم في وقت، ويزدادون في وقت آخر قال لأن ذلك يؤدي الى أن التفضل أعظم من الثواب، وهذا الذي ذكره غير صحيح، لأن العقل لا يدل على مقادير الثواب في الأوقات، ولا يعلم ذلك غير الله، بل لا يدل العقل على دوام الثواب، وإنما علم ذلك بالسمع والإجماع، واما التفضل فلا شك أنه يجوز أن يزيد في وقت على ما يفضله في وقت آخر، ولا يؤدي ذلك الى مساواته للثواب، لأن الثواب يتميز من التفضل لمقارنة التعظيم له والتبجيل ولأجل ذلك يتميز كل جزء من الثواب من كل جزء من التفضل ولا زيادة هناك.
6. أقوى الأقوال هو الأول، ومعناه هذا الذي رزقنا في الدنيا، لأنه قال ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ فعم ولم يخص.. فأول ما أتوا به لا يتقدر هذا القول فيه إلا بأن يكون اشارة الى ما تقدم رزقه في الدنيا، لأنا فرضناه أولا وليس في الآية تخصيص ويكون التقدير هذا الذي رزقنا في الدنيا لأن ما رزقوه أولا قد عدم واقام المضاف اليه مقام المضاف كما أن القائل إذا قال لغيره: أعددت لك طعاماً، ووصفه له، يحسن أن يقول: هذا طعام كل وقت يريد مثله ومن جنسه، ونوعه.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: قوله: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ :
أ. قال الضحاك: إذا رأوه، قالوا: هو الأول في النظر واللون، وإذا طعموا وجدوا له طعماً غير طعم الاول وقوله: وأتوا به) معناه جيئوا به، وليس معناه أعطوه.
ب. وقال قوم: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ أي يشبه بعضه بعضاً إلا في المنظر والطعم أي كل واحد منه له من الفضل في نحوه مثل الذي للآخر في نحوه. ذكره الأخفش، وهذا كقول القائل: وقد جيء بأثواب أو أشياء رآها فاضلة فاشتبهت عليه في الفضل، فقال: ما أدري ما أختار منها كلها عندي فاضل. قال الشاعر
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم... مثل النجوم التي يسري بها الساري
يعني أنهم تساووا في الفضل والسؤدد، وروي هذا عن الحسن وابن جريح.
ج. وقال قتادة معناه يشبه ثمار الدنيا غير انها أطيب.
د. وقال ابن زيد والاشجعي: إن التشابه في الأسماء دون الألوان والطعوم، فلا يشبه ثمار الجنة شيء من ثمار الدنيا في لون ولا طعم.
8. اولى هذه الأقوال أن يكون المراد به متشابهاً في اللون والمنظر على ان الطعم مختلف لما قدمناه من أن هذا يقولونه في أول الحال أيضاً، وما تقدر عليه غرة، وبعد هذا قول من قال معناه أن كلها جياد لا رذال فيه.
9. قوله ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ قيل في الأبدان والأخلاق والافعال ولا يحضن، ولا يلدن، ولا يذهبن الى غائط، وهو قول جماعة المفسرين.
10. قوله ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي دائمون يبقون ببقاء الله لا انقطاع لذلك ولا نفاد.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/108.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الصالحات: نعت لاسم محذوف، تقديره: أفعال أو خصال صالحات.
ب. موضع (أن) في قوله: ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ فيه خلاف، قال بعضهم: نصب ب ﴿بُشِّرَ﴾ أي: بشرهم، أن لهم، وقال الخليل والكسائي: خفض بالباء، كأنه قال: بشرهم بأن لهم جنات فهو على هذا منصوب بنزع الخافض.
ج. كسرت تاء الصالحات، وفتحت سادتنا، لأنه في جنات والصالحات تاء الجمع، وفي سادتنا تاء الأصل، يقال: سيد وسادة، ومن قرأ (ساداتنا) فإنها تاء الجمع.
د. معنى (مِنْ) في قوله: (مِنْ ثَمَرَةٍ) قيل: زائدة، وقيل: للتبعيض؛ لأنهم رزقوا بعض الثمرات، وإذا صح المعنى لا يحكم بالزيادة.
هـ. في رفع أزواج خلاف، قيل: يجوز بالابتداء، ويجوز ب (لهم) عن الزجاج، وقيل: بالابتداء، عن ابن السراج، وقيل: بالصفة، عن الكوفيين، وقيل: رفع على الغاية، قال تعالى: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾
2. لما تقدم ذِكْرُ ما أعد للكافرين، عقبه بذكر ما أعد للمؤمنين، فقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ﴾ يعني أخبرهم بما يبشرهم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صدقوا ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ :
أ. قيل: عملوا بالواجبات، وهي الأفعال الصالحة.
ب. وقيل: بالطاعات.
ج. وقيل: أخلصوا الأعمال، عن عثمان.
د. وقيل: أدوا الصلاة، عن علي.
هـ. وقيل: التوبة.
والأول الوجه؛ لاشتمالها على الجميع، ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ .
3. اختلف في التبشير هل هو خاص أو عام:
أ. قيل: خاص؛ لأنه مشروط في التقدير لمن لم يحبط عمله؛ إذ المرتد من أهل الوعيد، عن أبي علي.
ب. وقيل: عام؛ لأن ذلك تَمَدّحٌ لا يطلق على من أحبط عمله، كما لا يطلق اسم مؤمن على كافر.
4. اشترط عمل الصالحات، ولم يشترط اجتناب الكبائر:
أ. لأنه من الأعمال الصالحات.
ب. لأن مع فعل الكبائر لا يعتد بعمل الصالحات.
5. ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا﴾ يعني: أعطوا من ثمارها ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ أي عطاء، وأطعموا منها طعامًا.
6. ﴿قَالُوا﴾ يعني أهل الجنة ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ اختلفوا فيه:
أ. فقيل: رزقنا من قبل في الجنة، يعني يؤتى بصحفة فيأكل، فيؤتى بأخرى، فيقول: هذا الذي أوتينا به من قبل، فيقول الملك: كلوا فاللون واحد والطعم مختلف، وهم يعلمون أنه غيره، ولكن شبهوه به في لونه وريحه وطيبه.
ب. وقيل: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) في الجنة، أي كالذي رزقنا، علموا أنه غيره، ولكن شبهوه به في لونه وطعمه ورائحته وطيبه وجودته، عن الحسن وواصل.
ج. وقيل: هو الذي رزقنا من قبل في دار الدنيا، عن ابن عباس وابن مسعود.
د. وقيل: هذا الذي وعدنا به في الدنيا.
هـ. وقيل: إنهم أرادوا الاستمرار على الشكر، فقالوا: نعم الله كانت علينا متواترة متتابعة في الدارين)
و. وقيل: لما كان ما يستحقونه من الثواب في الوقت الثاني مثل ما يستحقونه في الوقت الأول وأعطاهم الله تعالى ذلك شبهوه به، عن أبي علي.
ز. وقيل: أتوا به مثل ما ألفوا من قبل؛ لأن النفس تميل إلى المألوف ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾
ح. قيل: كلها متشابهة في الجودة خيار لا رُذَالَ فيه، عن الحسن وقتادة.
ط. وقيل: مشتبهًا في اللون، مختلفًا في الطعم، عن ابن عباس ومجاهد والربيع والسدي.
ي. وقيل: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب، عن عكرمة.
ك. وقيل: مُتَشابِهًا) يشبه بعضه بعضا في اللذة وجميع الصفات، عن أبي مسلم.
ل. وقيل: متشابهًا في الاسم، مختلفًا في الطعم.
م. وقيل: متشابهًا من حيث الموافقة، فالخادم يوافق المسكن، والمسكن يوافق الفرش، وكذلك جميع ما يليق به.
7. (وَلَهُمْ) لأهل الجنة (فِيهَا أَزْوَاجٌ) يعني نساء:
أ. قيل: الحور العين.
ب. وقيل: نساء الدنيا، عن الحسن.
ج. قيل: هي عجائزكم الرُّمْضُ العُمْشُ طهرن من أقذار الدنيا.
8. اختلف في معنى ﴿مُطَهَّرَةً﴾ :
أ. قيل: طهرت في الأبدان والأخلاق والأفعال، فلا يلدن، ولا يحضن.
ب. وقيل: ﴿مُطَهَّرَةً﴾ طهرن من الأقذار والآثام.
اختلفوا في الجنة أهي مخلوقة أم لا:
أ. فالأكثر على أنها مخلوقة.
ب. وقيل: غير مخلوقة يخلقها يوم القيامة، لقوله: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ﴾ ولو كانت مخلوقة لفنيت لا محالة قبل يوم القيامة، عن أبي هاشم.
9. تدل الآية الكريمة على:
أ. أن العمل مشروط في استحقاق الجنة وثوابها، فيبطل قول المرجئة.
ب. أن للعبد فعلا؛ لذلك قال: ﴿آمَنُوا﴾ فيبطل قول الْمُجْبِرَةِ في المخلوق.
ج. أن الجنة وأهلها دائمون خلاف قول جهم.
د. الترغيب في الأعمال الصالحة التي هي سبب الوصول إلى الجنة.
هـ. أن في الجنة الطعام والثمار والأزواج خلاف قول الباطنية.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/290.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. البشارة: هي الإخبار بما يسر المخبر به إذا كان سابقا لكل خبر سواه، لأن الثاني لا يسمى بشارة، وقد قيل للاخبار بما يعم أيضا: بشارة، كقوله تعالى: ﴿ وبشرهم بعذاب أليم ﴾ وذلك على سبيل التوسع، وهي مأخوذة من البشرة: وهي ظاهر الجلد لتغيرها بأول خبر، وتباشير الصبح: أوله.
ب. الجنات: جمع الجنة، وهي البستان، والمراد بذكر الجنة: ما في الجنة من أشجارها وثمارها، دون أرضها، فلذلك قال ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ لأن من المعلوم أنه أراد الخبر عن ماء أنهارها، بأنه جار تحت الأشجار، لأن الماء إذا كانت تحت الأرض، فلاحظ فيها للعيون، على أنه روي عن مسروق: إن أنهار الجنة جارية في غير أخاديد رواه عنه أبو عبيدة وغيره، وأصلها من الجن: وهو الستر.. ومنه الجن لتسترها عن عيون الناس، والجنون: لأنه يستر العقل، والجنة: لأنها تستر البدن، والجنين: لتستره بالرحم.. قال المفضل: البستان: إذا كان فيه الكرم فهو فردوس، سواء كان فيه شجر غيره، أو لم يكن.. والجنة: كل بستان فيه نخل، وإن لم يكن فيه غيره.
ج. الأزواج: جمع زوج.. والزوج يقع على الرجل والمرأة، ويقال للمرأة زوجة أيضا.. وزوج كل شيء: شكله.
د. الخلود: الدوام والبقاء.
2. قرن الله تعالى الوعد في هذه الآية بالوعيد، فيما قبلها، ليحصل الترغيب والترهيب، فقال: ﴿وَبَشِّرِ﴾ أي أخبر بما يسر ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فيما بينهم وبين ربهم، عن ابن عباس، بـ ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي: من تحت أشجارها ومساكنها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ والنهر لا يجري، وإنما يجري الماء فيه ويستعمل الجري فيه توسعا، لأنه موضع الجري.
3. قوله: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا﴾ أي: من الجنات، والمعنى من أشجارها، وتقديره: كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدها الله للمؤمنين ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ أي: أعطوا من ثمارها عطاء، وأطعموا منها طعاما، لأن الرزق عبارة عما يصح الانتفاع به، ولا يكون لأحد المنع منه.
4. في قوله تعالى: ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ وجوه:
أ. أحدها: إن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها، عاد مكانها مثلها، فيشتبه عليهم فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل، هذا قول أبي عبيدة، ويحيى بن كثير.
ب. ثانيها: إن معناه هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، عن ابن عباس، وابن مسعود.. وقيل: هذا الذي وعدنا به في الدنيا.
ج. ثالثها: معناه هذا الذي رزقناه من قبل في الجنة أي: كالذي رزقنا، وهم يعلمون أنه غيره، ولكنهم شبهوه به في طعمه ولونه وريحه وطيبه وجودته عن الحسن وواصل.
5. قال الشيخ أبو جعفر: وأقوى الأقوال قول ابن عباس لأنه تعالى قال: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ فعم ولم يخص، فأول ما أتوا به لا يتقدر فيه هذا القول، إلا بأن يكون إشارة إلى ما تقدم رزقه في الدنيا، ويكون التقدير هذا مثل الذي رزقناه في الدنيا، لأن ما رزقوه في الدنيا قد عدم، فأقام المضاف إليه مقام المضاف، كما أن القائل إذا قال لغيره أعددت لك طعاما، ووصفه له، يحسن أن يقول هذا طعامي في منزلي، يريد مثله ومن جنسه.
6. قوله ﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ أي: جيئوا به وليس معناه أعطوه.
7. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مُتَشَابِهًا﴾ بوجوه:
أ. أحدها: إنه أراد متشابها في اللون، مختلفا في الطعم، عن ابن عباس، ومجاهد.
ب. ثانيها: إن كلها متشابه في الجودة، خيار لا رذل فيه، عن الحسن، وقتادة، واختاره الأخفش، قال: وهذا كما يقول القائل، وقد جيء بأشياء فاضلة، فاشتبهت عليه في الفضل: لا أدري ما اختار منها، كلها عندي فاضل، كقول الشاعر:
من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم... مثل النجوم التي يسري بها الساري
يعني أنهم قد تساووا في الفضل.
ج. ثالثها: إنه يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب، عن عكرمة.
د. رابعها: إنه يشبه بعضه بعضا في اللذة وجميع الصفات، عن أبي مسلم.
هـ. خامسها: إن التشابه من حيث الموافقة، فالخادم يوافق المسكن، والمسكن يوافق الفرش، وكذلك جميع ما يليق به.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: قوله ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ﴾ :
أ. قيل: هن الحور العين.
ب. وقيل: هن من نساء الدنيا، قال الحسن: هن عجائزكم الغمص الرمص العمش، طهرن من قذرات الدنيا.
9. ﴿مُطَهَّرَةً ﴾ في الأبدان والأخلاق والأعمال فلا يحضن ولا يلدن ولا يتغوطن ولا يبلن، قد طهرن من الأقذار والآثام، وهو قول جماعة المفسرين.
10. ﴿وَهُمْ فِيهَا﴾ أي: في الجنة ﴿خَالِدُونَ ﴾ يعني: دائمون، يبقون بقاء الله لا انقطاع لذلك، ولا نفاد، لأن النعمة تتم بالخلود والبقاء، كما تنتقص بالزوال والفناء.. والخلود: هو الدوام من وقت مبتدأ، ولهذا لا يقال لله تعالى خالد.
11. مسائل نحوية:
أ. موضع ﴿إِنَّ﴾ : مع اسمه وخبره نصب.. معناه بشر المؤمنين بأن لهم جنات، فلما سقطت الباء أفضى الفعل إلى (أن) فنصبه.. وعلى قول الخليل: يكون (أن) في موضع جر، وإن سقطت الباء.
ب. جنات: منصوب بأنه اسم ﴿إِنَّ﴾، و ﴿لَهُمْ﴾ : الجار والمجرور في موضع خبره.. والتاء تاء جماعة المؤنث، تكون في حال النصب، والجر، على صورة واحدة، كما أن ياء جماعة الذكور في الزيدين ونحوه، يكون في حال النصب والجر على صورة واحدة.
ج. ﴿تَجْرِي﴾ مع ما اتصل به، جملة منصوبة الموضع بكونها صفة لجنات.
د. كلما: ضم كل إلى ما الجزاء، فصارا أداة للتكرار، وهو منصوب على الظرف، والعامل فيه ﴿رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ﴾
هـ. من: مزيدة أي: ثمرة.. وقال علي بن عيسى: هي بمعنى التبعيض، لأنهم يرزقون بعض الثمرات في كل وقت.. ويجوز أن يكون بمعنى تبيين الصفة، وهو أن يبين الرزق من أي جنس هو.
و. ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ : تقديره أي: من قبل هذا الزمان، أو هذا الوقت، فحذف المضاف إليه منه لفظا، مع أن الإضافة مرادة معنى، فبني لأجل مشابهته الحرف، وإنما بني على الحركة ليدل على تمكنه في الأصل، وإنما خص بالضم لأن إعرابه عند الإضافة كان بالفتح أو الجر، نحو من قبلك وقبلك، لكونه ظرفا، فبني على حركة لم تكن تدخلها في الإعراب، وهي الضمة، وموضعه نصب على الظرف.
ز. ﴿مُتَشَابِهًا﴾ : نصب على الحال.. و ﴿أَزْوَاجٍ﴾ : رفع إما بالابتداء، أو بالظرف.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/161.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. البشارة: أول خبر يرد على الإنسان، وسمّي بشارة، لأنه يؤثر في بشرته، فإن كان خيرا، أثر المسرّة والانبساط، وإن شرا، أثر الانجماع والغمّ.. الأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير، وقد تستعمل في الشر، ومنه قوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾
2. قوله تعالى: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ :
أ. يشمل كل عمل صالح، وقد روي عن عثمان بن عفّان أنّه قال أخلصوا الأعمال.
ب. وعن عليّ أنه قال: أقاموا الصلوات المفروضات.
3. الجنّات، جمع جنّة، وسميت الجنة جنة، لاستتار أرضها بأشجارها، وسمّي الجنّ جنّا، لاستتارهم، والجنين من ذلك، والدّرع جنّة، وجنّ الليل: إذا ستر، وذكر عن المفضّل أن الجنّة: كل بستان فيه نخل، وقال الزّجّاج: كل نبت كثف وكثر وستر بعضه بعضا، فهو جنة.
4. قوله تعالى: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾، فيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن معناه: هذا الذي طعمنا من قبل، فرزق الغداة كرزق العشيّ، روي عن ابن عباس والضّحّاك ومقاتل.
ب. والثاني: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، قاله مجاهد وابن زيد.
ج. والثالث: أن ثمر الجنّة إذا جني خلفه مثله، فإذا رأوا ما خلف الجنى، اشتبه عليهم، فقالوا: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾، قاله يحيى بن أبي كثير وأبو عبيدة.
5. قوله تعالى: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ . فيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه متشابه في المنظر واللّون، مختلف في الطّعم، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والضّحّاك والسّدّيّ ومقاتل.
ب. الثاني: أنه متشابه في جودته، لا رديء فيه، قاله الحسن وابن جريج.
ج. الثالث: أنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم، غير أنه أحسن في المنظر والطّعم، قاله قتادة وابن زيد.
6. سؤال وإشكال: ما وجه الامتنان بمتشابهه، وكلّما تنوّعت المطاعم واختلفت ألوانها كان أحسن!؟ والجواب: أنا إن قلنا: إنه متشابه المنظر مختلف الطعم، كان أغرب عند الخلق وأحسن، فإنك لو رأيت تفاحة فيها طعم سائر الفاكهة، كان نهاية في العجب، وإن قلنا: إنه متشابه في الجودة؛ جاز اختلافه في الألوان والطعوم، وإن قلنا: إنه يشبه صورة ثمار الدنيا مع اختلاف المعاني؛ كان أطرف وأعجب، وكل هذه مطالب مؤثرة.
7. قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ :
أ. أي: الخلق، فإنهن لا يحضن ولا يبلن ولا يأتين الخلاء.
ب. وفي الخلق، فإنهن لا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن، قال ابن عباس: نقية عن القذى والأذى.
8. قال الزّجّاج: و ﴿مُطَهَّرَةً﴾ أبلغ من طاهرة؛ لأنه للتكثير.
__________
(1) زاد المسير: 1/46.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في عطف هذا الأمر، وهو قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ من وجوه:
أ. أحدها: أنه ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والضرب، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق.
ب. ثانيها: أنه معطوف على قوله: ﴿فَاتَّقُوا﴾ كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم.
ج. ثالثها: قرأ زيد بن علي ﴿وَبَشِّرِ﴾ على لفظ المبني للمفعول عطفاً على أعدت.
2. يجوز أن يكون في المأمور بقوله وبشر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.. وأن يكون كل أحد كما قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة)، لم يأمر بذلك واحد بعينه، وإنما كل أحد مأمور به، وهذا الوجه أحسن وأجزل، لأنه يؤذن بأن هذا الأمر لعظمته وفخامته حقيق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به.
3. البشارة: هي الخبر الذي يظهر السرور، ولهذا قال الفقهاء إذا قال لعبيده: أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى عتق أولهم، لأنه هو الذي أفاد خبره السرور، ولو قال مكان بشرني أخبرني عتقوا جميعاً لأنهم جميعاً أخبروه.. ومنه البشرة لظاهر الجلد، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه، وأما ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ فمن الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك.
4. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ يدل على أن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان لأنه لما ذكر الإيمان ثم عطف عليه العمل الصالح وجب التغاير وإلا لزم التكرار وهو خلاف الأصل.
5. الجنة: البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه والتركيب دائر على معنى الستر وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره كأنها سترة واحدة لفرط التفافها وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان.
6. نُكرت الجنات، لأن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنات.
7. عُرفت الأنهار، لأن المراد به الجنس كما يقال لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب يشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب، أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ [محمد: 15]
8. قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا﴾ لا يخلو إما أن يكون صفة ثانية لجنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل: إن لهم جنات لم يخل قلب السامع أن يقع فيه أن ثمار تلك الجنات أشباه ثمار الدنيا أم لا؟
9. وقع ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ﴾ فيه وجهان:
أ. الأول: هو كقولك كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئاً حمدتك فموقع من ثمرة موقع قولك من الرمان فمن الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية، لأن الرزق قد ابتدأ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفردة على هذا التفسير، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار.
ب. الثاني: وهو أن يكون من ثمرة بياناً على منهاج قولك رأيت منك أسداً تريد أنت أسد، وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمرة أو الحبة الواحدة.
10. سؤال وإشكال: كيف يصح أن يقولوا هذا الذي رزقنا الآن هو الذي رزقنا من قبل، والجواب: لما اتحد في الماهية وإن تغاير بالعدد صح أن يقال هذا هو ذاك أي بحسب الماهية فإن الوحدة النوعية لا تنافيها الكثرة بالشخص، ولذلك إذا اشتدت مشابهة الابن بالأب قالوا إنه الأب.
11. سؤال وإشكال: الآية تدل على أنهم شبهوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنة برزق آخر جاءهم قبل ذلك، فالمشبه به أهو من أرزاق الدنيا، أم من أرزاق الجنة؟ والجواب: فيه وجهان:
أ. الأول: أنه من أرزاق الدنيا: ويدل عليه وجهان:
• الأول: أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل، فإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه ثم إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد ثم وجده أشرف مما ألفه أولًا عظم ابتهاجه وفرحه به، فأهل الجنة إذ أبصروا الرمانة في الدنيا ثم أبصروها في الآخرة ووجدوا رمانة الجنة أطيب وأشرف من رمانة الدنيا كان فرحهم بها أشد من فرحهم بشيء مما شاهدوه في الدنيا.
• الثاني: أن قوله: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا﴾ يتناول جميع المرات فيتناول المرة الأولى فلهم في المرة الأولى من أرزاق الجنة شيء لا بد وأن يقولوا هذا الذي رزقنا من قبل، ولا يكون قبل المرة الأولى شيء من أرزاق الجنة حتى يشبه ذلك به فوجب حمله على أرزاق الدنيا.
ب. الثاني: أن المشبه به رزق الجنة أيضاً، والمراد تشابه أرزاقهم، ثم اختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين:
• الأول: المراد تساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص.
• الثاني: المراد تشابهها في المنظر، فيكون الثاني كأنه الأول على ما روي عن الحسن ثم هؤلاء مختلفون:
ـ فمنهم من يقول: الاشتباه كما يقع في المنظر يقع في المطعم، فإن الرجل إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق به نفسه إلا بمثله، فإذا جاء ما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة.
ـ ومنهم من يقول إنه وإن حصل الاشتباه في اللون لكنها تكون مختلفة في الطعم، قال الحسن يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى، فيقول هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم مختلف.
12. الضمير في قوله: ﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ :
أ. إن قلنا المشبه به هو رزق الدنيا فإلى الشيء المرزوق في الدنيا والآخرة يعني أتوا بذلك النوع متشابهاً يشبه الحاصل منه في الآخرة ما كان حاصلًا منه في الدنيا.
ب. وإن قلنا المشبه به هو رزق الجنة أيضاً، فإلى الشيء المرزوق في الجنة، يعني أتوا بذلك النوع في الجنة بحيث يشبه بعضه بعضاً.
13. موقع قوله: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ من نظم الكلام هو أن الله تعالى لما حكى عن أهل الجنة ادعاء تشابه الأرزاق في قوله: ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ فالله تعالى صدقهم في تلك الدعوة بقوله: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾
14. قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ المراد طهارة أبدانهن من الحيض والاستحاضة وجميع الأقذار، وطهارة أزواجهن من جميع الخصال الذميمة، ولا سيما ما يختص بالنساء، وإنما حملنا اللفظ على الكل لاشتراك القسمين في قدر مشترك.
15. سؤال وإشكال: هلا جاءت الصفة مجموعة كالموصوف؟ والجواب: هما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلن والنساء فعلت، ومنه بيت الحماسة:
وإذا العذارى بالدخان تقنعت... واستعملت نصب القدور فملت
والمعنى وجماعة أزواج مطهرة، وقرأ زيد بن علي: مطهرات وقرأ عبيد بن عمير: مطهرة يعني متطهرة.
16. قيل طاهرة، لأن في المطهرة إشعار بأن مطهراً طهرهن، وليس ذلك إلا الله تعالى، وذلك يفيد فخامة أمر أهل الثواب، كأنه قيل إن الله تعالى هو الذي زينهن لأهل الثواب.
17. اختلف في معنى قوله: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ :
أ. قيل: الخلد هاهنا هو الثبات اللازم والبقاء الدائم الذي لا ينقطع، واستدلوا لذلك بما يلي:
• قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: 34] فنفى الخلد عن البشر مع أنه تعالى أعطى بعضهم العمر الطويل، والمنفي غير المثبت، فالخلد هو البقاء الدائم.
• قول امرئ القيس:
وهل يعمن إلا سعيد مخلد... قليل هموم ما يبيت بأوجال
ب. قيل: الخلد هو الثبات الطويل سواء دام أو لم يدم، واستدلوا لذلك بما يلي:
• قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ ولو كان التأبيد داخلًا في مفهوم الخلد لكان ذلك تكراراً.
• العرف، حيث يقال حبس فلان فلاناً حبساً مخلداً، ولأنه يكتب في صكوك الأوقاف وقف فلان وقفاً مخلداً.
18. العقل يدل على دوام النعيم لأنه لو لم يجب دوامه لجوزوا انقطاعه، فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة، لأن النعمة كلما كانت أعظم كان خوف انقطاعها أعظم وقعاً في القلب، وذلك يقتضي أن لا ينفك أهل الثواب ألبتة من الغم والحسرة.
19. هذه الآيات صريحة في كون الجنة والنار مخلوقتين، أما النار فلأنه تعالى قال في صفتها: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فهذا صريحة في أنها مخلوقة وأما الجنة فلأنه تعالى قال في آية أخرى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133] ولأنه تعالى قال هاهنا: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وهذا إخبار عن وقوع هذا الملك وحصوله وحصول الملك في الحال يقتضي حصول المملوك في الحال فدل على أن الجنة والنار مخلوقتان.
20. مجامع اللذات إما المسكن أو المطعم أو المنكح فوصف الله تعالى المسكن بقوله: ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ والمطعم بقوله: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ والمنكح بقوله: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ ثم إن هذه الأشياء إذا حصلت وقارنها خوف الزوال كان التنعم منغصاً فبين تعالى أن هذا الخوف زائل عنهم فقال: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ فصارت الآية دالة على كمال التنعم والسرر، ولنتكلم الآن في ألفاظ الآية.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/358.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما ذكر الله عز وجل جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أيضا، والتبشير الاخبار بما يظهر أثره على البشرة ـ وهي ظاهر الجلد ـ لتغيرها بأول خبر يرد عليك.
2. الغالب أن يستعمل في السرور مقيدا بالخير المبشر به، وغير مقيد أيضا، ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيدا منصوصا على الشر المبشر به، قال الله تعالى ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق: 24]، ويقال: بشرته وبشرته ـ مخفف ومشدد ـ بشارة (بكسر الباء) فأبشر واستبشر، وبشر يبشر إذا فرح، ووجه بشير إذا كان حسنا بين البشارة (بفتح الباء)، والبشرى: ما يعطاه المبشر، وتباشير الشيء: أوله.
3. أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال: من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر، فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم يكون حرا دون الثاني، واختلفوا إذا قال من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر، فهل يكون الثاني مثل الأول:
أ. القول الأول: نعم، لان كل واحد منهم مخبر.
ب. القول الثاني: لا، لان المكلف إنما قصد خبرا يكون بشارة، وذلك يختص بالأول، وهذا معلوم عرفا فوجب صرف القول إليه.
ج. القول الثالث: التفريق بين قوله: أخبرني، أو حدثني، فإذا قال الرجل أي غلام لي أخبرني بكذا، أو أعلمني بكذا وكذا فهو حر ـ ولا نية له ـ فأخبره غلام له بذلك بكتاب أو كلام أو رسول فإن الغلام يعتق، لان هذا خبر، وإن أخبره بعد ذلك غلام له عتق، لأنه قال أي غلام أخبرني فهو حر، ولو أخبروه كلهم عتقوا، وإن كان عنى ـ حين حلف ـ بالخبر كلام مشافهة لم يعتق واحد منهم إلا أن يخبره بكلام مشافهة بذلك الخبر.. وإذا قال أي غلام لي حدثني، فهذا على المشافهة، لا يعتق واحد منهم.
4. قوله تعالى: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ رد على من يقول: إن الايمان بمجرده يقتضي الطاعات، لأنه لو كان ذلك ما أعادها، فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح.. وقيل: الجنة تنال بالإيمان، والدرجات تستحق بالأعمال الصالحات.
5. ﴿تَجْرِي﴾ في موضع النعت لجنات وهو مرفوع، لأنه فعل مستقبل فحذفت الضمة من الياء لثقلها معها. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ أي من تحت أشجارها، ولم يجر لها ذكر، لان الجنات دالة عليها. ﴿الْأَنْهَارُ﴾ أي ماء الأنهار، فنسب الجري إلى الأنهار توسعا، وإنما يجري الماء وحده فحذف اختصارا، كما قال تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ ) [يوسف: 82] أي أهلها.. وروي: أن أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها.
6. الوقف على ﴿الْأَنْهَارُ﴾ حسن وليس بتام، لان قوله: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ﴾ من وصف الجنات. ﴿رِزْقًا﴾ مصدره.
7. معنى ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ يعني في الدنيا، وفيه وجهان:
أ. أحدهما ـ أنهم قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا.
ب. الثاني ـ هذا الذي رزقنا الدنيا، لان لونها يشبه لون ثمار الدنيا، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك.
8. وقيل: ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ يعني في الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون، فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها، ثم أتوا منها في آخر النهار قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، يعني أطعمنا في أول النهار، لان لونه يشبه ذلك، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الأول.
9. ﴿بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ حال من الضمير في (به):
أ. أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم.
ب. وقال عكرمة: يشبه ثمر الدنيا ويباينه في جل الصفات.
ج. ابن عباس: هذا على وجه التعجب، وليس في الدنيا شي مما في الجنة سوى الأسماء، فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها.
د. وقال قتادة: خيارا لا رذل فيه، كقوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ [الزمر: 23] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه، لان فيها خيارا وغير خيار.
10. ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ﴾ ابتداء وخبر، وأزواج: جمع زوج، والمرأة: زوج الرجل، والرجل زوج المرأة. قال الأصمعي: ولا تكاد العرب تقول زوجة، وحكى الفراء أنه يقال: زوجة، وأنشد الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
11. ﴿مُطَهَّرَةً﴾ نعت للأزواج، ومطهرة في اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبصاق وسائر أقذار الآدميات.. عن مجاهد: ﴿مُطَهَّرَةً﴾ قال: لا يبلن ولا يتغوطن ولا يلدن ولا يحضن ولا يمنين ولا يبصقن.
12. الخلود: البقاء ومنه جنة الخلد، وقد تستعمل مجازا فيما يطول، ومنه قولهم في الدعاء: خلد الله ملكه أي طوله. قال زهير:
ألا لا أرى على الحوادث باقيا... وـ لا خالدا إلا الجبال الرواسيا
وأما الذي في الآية فهو أبدي حقيقة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/239.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ الأعمال المستقيمة، والمراد هنا: الأعمال المطلوبة منهم المفترضة عليهم.. وفيه ردّ على من يقول إن الإيمان بمجرده يكفي، فالجنّة تنال بالإيمان والعمل الصالح.
2. الأنهار: جمع نهر، وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر، والمراد: الماء الذي يجري فيها، وأسند الجري إليها مجازا، والجاري حقيقة هو الماء كما في قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ أي أهلها وكما قال الشاعر:
نبّئت أنّ النّار بعدك أوقدت... واستبّ بعدك يا كليب المجلس
3. الضمير في قوله: ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ عائد إلى الجنات لاشتمالها على الأشجار: أي من تحت أشجارها.
4. قوله: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا﴾ وصف آخر للجنات، أو هو جملة مستأنفة كأن سائلا قال كيف ثمارها؟ ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ﴾ في معنى: من أي ثمرة، أي نوع من أنواع الثمرات.
5. اختلف في المراد بقوله: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ :
أ. أنه شبيهه ونظيره، لا أنه هو، لأن ذات الحاضر لا تكون عين ذات الغائب لاختلافهما، وذلك أن اللون يشبه اللون وإن كان الحجم والطعم والرائحة والماوية متخالفة، والضمير في به عائد إلى الرزق.
ب. وقيل: المراد أنهم أتوا بما يرزقونه في الجنة متشابها فما يأتيهم في أول النهار يشابه الذي يأتيهم في آخره، فيقولون: هذا الذي رزقنا من قبل، فإذا أكلوا وجدوا له طعما غير طعم الأول، و ﴿مُتَشَابِهًا﴾ منصوب على الحال.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/66.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَبَشِّرِ الذِين ءَامَنُوا﴾ بالله وأنَّ القرآن منه تعالى ، أخبرْهم إخبارًا يُظهر الفرح بها على أبشارهم أي جلودهم، والتبشير أخصُّ من الإخبار؛ لأنَّه أوَّلاً بالخير، والإخبار أوَّلا وغير أوَّل وبالخير وغيره.
2. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ من الفرائض ولا بدَّ، أو مع النفل إن كان، ومن العمل الصالح ترك المعاصي؛ لأنَّ تركها جَبْذٌ للنفس عنها، وهو عمل، ولا سيما إن قارن جبذها عمل الجارحة، وذلك الترك تقوًى، ومن التقوى أداء الفرض، و(ال) في (الصالحات) للجنس فتصدق بعملين وبعمل واحد في شأن من لم يدرك من حين كلِّف إلَّا ذلك، كمن بلغ ومات عن قريب، أو أسلم كذلك، أو مات قبل نزول سائر الفرائض، ومن عمل قليلاً فجنَّ، ولا يخفى أنَّه من مات قبل أن يعمل شيئًا ما من الأعمال لسرعة موته أو نحوه يدخل الجنَّة.
3. ﴿أنَّ لَهُمْ﴾ أي بأنَّ لهم، أو ضمِّنَ (بشِّرْ) معنى الإعلام ﴿جَنَّاتٍ﴾ حدائق فيها كلُّ صنف من الثمار حتَّى ما لا يؤكل كالحنظل يحلو فيها، وفيها مساكن وقصور ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا﴾ تحت أشجارها ومساكنها، والجنَّة الأرض كما رأيت بتقدير مضاف، وإن شئت فلا تقدِّر بل اردد الضمير إلى الأرض، والمراد به الأشجار استخدامًا، وإن أريد الأرض والشجر فالضمير عائد إليها باعتبار جزئها، أو تحتَها جانبها ﴿الَانْهَارُ﴾ تنبع من تحتها ولم تجئ من محلٍّ آخر، أو جاءت من بحر غائرة في الأرض حتَّى إذا وصلت الجنَّات نبعت ظاهرة، وجرت على وجه الأرض في غير أخدود، وحصباؤها دُرٌّ وياقوت، أو بعض تجري من بعيد تحتها، وبعض تنبع تحتها.
4. والنهر والبحر أرض؛ ذلك لأنَّ الماء ينهره أي يوسِّعه، والجري للماء، وأسنده لمحلِّه، والنهر مجمع الماء الذي يجري الماء منه إلى غيره، وإن قلنا: النهر الماء الجاري في متَّسع فلا مجاز، و(ال) للحقيقة أو للعهد في قوله: ﴿فِيهَآ أَنْهَارٌ﴾ [محمَّد: 15] أو نابت عن الضمير.
5. ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا﴾ من الجنَّات ﴿مِن ثَمَرَةٍ﴾ حال من قوله: ﴿رِّزْقًا﴾ أي شيئًا مرزوقًا، و(رزقًا) مفعول ثان، و(مِنْ) للبيان أي رزقًا هو ثمرة، لا بدل بعضٍ لأدائه إلى حذف الرابط، ولإفرادها، ولا يرزق من الثمرة، ولأدائه إلى استعمال النكرة في الإثبات للعموم الشموليِّ مع وجود التخلُّص من ذلك، ولا بدل اشتمال؛ لأنَّ الثمرة بعض الجنَّة لا شيء غيرها ملابس لها، ولأدائه إلى استعمال النكرة في الإثبات للشمول، ولو قيل به في ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ﴾ [التكوير: 14]، والثمرة: الأفراد أو الأنواع، و(ما) مصدريَّة و(كُلَّ) ظرفٌ لإضافته للمصدر النائب عن الزمان، أي: كلُّ رَزْقٍ منها (بفتح الراء) على المعنى المصدريِّ متعلِّق بقوله: ﴿قَالُوا﴾ أي يقولون كلَّ وقت رَزْقٍ منها: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ في الدنيا أو في الآخرة، ولا يزالون يقولون: (هذا الذي..) إلخ، أي مثل الذي رزقناه من قبله في ظنِّهم بحسب اللون والصورة، وإذا أكلوه وجدوا طعمه غير طعم الأوَّل وأحلى، وكلُّ طعام أفضل مِمَّا قبله أبدًا، فإذا رُزقوا الرزق الأوَّل في الجنَّة قالوا: هذا الذي رزقنا في الدنيا، وإذا رزقوا ثانيًا قالوا: هذا الذي رزقنا في الجنَّة قبلُ، وهكذا إلى ما لا نهاية له، وقيل: كلُّ ذلك في الآخرة لم يدخل فيه ما في الدنيا، ولا دليل على أنَّ المراد: ما رزقنا من قبلُ: هو الأعمال الصالحة في الدنيا تسميةً للمسبَّب باسم السبب.
6. ﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ أي أتاهم الملائكة به أو الوِلْدان، كقوله تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ﴾.. إلخ [الإنسان: 19] أو تارة الملائكة وتارة الولدان ﴿مُتَشَابِهًا﴾ يشبه بعضه بعضًا لونًا ويختلف طعمًا، أخبرنا الله بتشابه اللون تلذيذًا لنا بغرابة تشابه اللون واختلاف الطعم، وذلك مدح للجنَّة، أو متشابهًا لونًا وطعمًا إلَّا أنَّ الطعم متفاوت فضلاً، قال الحسن: إنَّ أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ثمَّ يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى: فيقول: هذا الذي رزقنا من قبل، فتقول الملائكة: اللون واحد والطعم مختلف، وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : (والذي نفس محمَّد بيده، إنَّ الرجل من أهل الجنَّة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتَّى يبدل الله مكانها مثلها)، فيجوز أن يحمل للتشابه، و﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ على هذا.
7. ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ﴾ حور عين وآدميَّات أفضل منهنَّ، وللجنِّ جنِّـيَّات وحور، وجمع (الأزواج) للقلَّة والمراد الكثرة، والمفرد (زوج) بلا تاء، وَأَمَّا (زوجة) بالتاء في المؤنَّث فشاذٌّ أو خطأ، وقيل: لغة تميم وكثير من قيس، قال الفرزدق:
çإنَّ الذي يسعى لِيُفسِد زوجَتي...كَسَاعٍ إلى أُسْدِ الشَّرى يَسْتَمِيلُهاé
8. ﴿مُّطَهَّرَةٌ﴾ منزَّهة عن أن يكون فيهنَّ الحيض أو شعر الإبط أو شعر العانة أو نتن أو بلل مستقذر أو بول أو غائط أو سوء خلق، كما هم طُهِّروا كذلك، والمطهِّر لهنَّ الله تعالى، وليس ذلك جمعًا بين الحقيقة والمجاز إذ كان التطهير في الآدميَّات والجنيَّات إذهاب نحو الحيض عنهنَّ بعد إذ كان، أو تأهَّلن له ولم يكن، وفي الحور من أوَّل الأمر؛ لأنَّ المراد تحصيلهنَّ وهنَّ طواهر هكذا، وليس في ذكر الزوجات ما يدلُّ على الولادة في الجنَّة، فقيل: لا ولادة فيها وهو المشهور، وقيل: بها، ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا يخرجون ولا يموتون ولا تزول بعض حواسِّهم وأجسادهم، ولا بعض قواهم، ولا تصيبهم آفة.
9. ولا تفنى الجنَّة والنار وأهلهما كما زعمت الجهميَّة قبَّحهم الله تعالى ؛ لأنَّه ليس في دوامهما اشتراك مع الله فيه؛ لأنَّ دوامه غير دوامهم، فإنَّه بالذات ودوامهم بإدامته، وأنفاس أهلهما مع دوامهم فيها معلومة له، بل قيل: يقال إنَّ معلوماته محصورة عنده مع أنَّها لا تنقضي، وذلك من كمال قدرته ومخالفته للخلق؛ فلا يلزم الجهل له تعالى بدوام أنفاس أهلها، والنصوص دلَّت على ذلك، ولو كان لأهل الجنَّة فناء لاغتمُّوا ولم تتخلَّص لذَّاتهم، ولَفرِح أهل النار وليس لهم فرح.
10. روي عن ابن عبَّاس وابن مسعود أنَّ رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربَا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد وبرق وصواعق، فجعلا كلَّما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا إلى ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرَا لزما مكانهما فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمَّدا فنضع أيدينا في يده، فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن الرجلين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة.
11. وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقًا من كلام النبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم أن ينزل فيهم شيء، أو يُذكروا بشيء فيُقتلوا، كما يجعل الرجلان أيديهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه، أي إذا كثرت أموالهم وأصابوا غنيمة وفتحًا مشوا فيه، وقالوا: إنَّ دين محمَّد صدق واستقاموا كما يمشي الرجلان في البرق، ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ أي: إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا: هذا لِدين محمَّد، وكفروا كما يمسك الرجلان عن المشي إذا زال البرق.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/61.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. (البشارة): الإخبار بما يظهر سرور المخبر به، ومنه البشرة: لظاهر الجلد، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه، وأمّا ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء ـ الزائد في غيظ المستهزأ به، وتألّمه، واغتمامه ـ ففيه استعارة أحد الضدّين للآخر تهكّما وسخرية.
2. و ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ ما استقام من الأعمال أي صلح لترتب الثواب عليه، وقد أجمع السلف على أنّ الإيمان: قول وعمل، يزيد وينقص.
3. إذا أطلق الإيمان دخلت فيه الأعمال، لقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: الإيمان بضع وستون شعبة ـ أو بضع وسبعون شعبة ـ أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
4. وإذا عطف عليه ـ كما في هذه الآية ـ فهنا:
أ. قد يقال: الأعمال دخلت فيه، وعطفت عطف الخاص على العام.
ب. وقد يقال: لم تدخل فيه، ولكن مع العطف ـ كما في اسم الفقير والمسكين. إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا عطف أحدهما على الآخر فهما صنفان.
5. هذا التفصيل في الإيمان هو كذلك في لفظ البرّ، والتقوى، والمعروف، وفي الإثم، والعدوان، والمنكر، تختلف دلالتها في الإفراد والاقتران لمن تدبّر القرآن.
6. بيّن حديث جبريل أنّ الإيمان أصله في القلب، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ـ كما في المسند عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنّه قال: الإسلام علانية والإيمان في القلب)، وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديث الصحيح: ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)، فإذا كان الإيمان في القلب، فقد صلح القلب. فيجب أن يصلح سائر الجسد، فلذلك هو ثمرة ما في القلب. فلهذا قال بعضهم: الأعمال ثمرة الإيمان، وصحته، لما كانت لازمة لصلاح القلب، دخلت في الاسم. كما نطق بذلك الكتاب والسنة في غير موضع.
7. قوله تعالى: ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ جمع (جنّة): وهي البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلّل بالتفاف أغصانه، وإنما سميت (دار الثواب) بها مع أنّ فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور، لما أنّها مناط نعيمها، ومعظم ملاذّها.
8. جمعها مع التنكير: لاشتمالها على جنان كثيرة في كلّ منها مراتب ودرجات متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها.
9. قوله ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ صفة جنّات، ثم:
أ. إن أريد بها الأشجار، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر.
ب. وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها، فلا بدّ من تقدير مضاف ـ أي من تحت أشجارها ـ
ج. وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار، فاعتبار التحتيّة بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحّح لإطلاق اسم الجنّة على الكل.
10. إنما جيء ذكر الجنات ـ مشفوعا بذكر الأنهار الجارية ـ لما أنّ أنزه البساتين، وأكرمها منظرا، ما كانت أشجاره مظلّلة، والأنهار في خلالها مطّردة، وفي ذلك النعمة العظمى واللذة الكبرى.
11. اللام في الأنهار:
أ. للجنس: كما في قولك: لفلان بستان فيه الماء الجاري.
ب. أو للعهد، والإشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾ [محمد: 15] الآية.
12. ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا﴾ ـ أي: أطعموا من تلك الجنات ـ ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ ـ أي: مثل الذي رزقناه من قبل هذا الذي أحضر إلينا ـ فالإشارة إلى المرزوق في الجنّة لتشابه ثمارها. بقرينة قوله ﴿وَأُتُوا بِهِ﴾ ـ أي: أتتهم الملائكة والولدان برزق الجنة ـ
13. ﴿مُتَشَابِهًا﴾ يشبه بعضه بعضا لونا، ويختلف طعما، وذلك أجلب للسرور، وأزيد في التعجّب، وأظهر للمزّية، وأبين للفضل.
14. ترديدهم هذا القول، ونطقهم به ـ عند كل ثمرة يرزقونها ـ دليل على تناهي الأمر في استحكام الشّبه، وأنّه الذي يستملي تعجّبهم، ويستدعي استغرابهم، ويفرط ابتهاجهم.
15. موقع قوله ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ من نظم الكلام هو كقولك: فلان أحسن بفلان، ونعم ما فعل، ورأى من الرأي كذا، وكان صوابا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 34]، وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير.
16. ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ من الحيض والاستحاضة وما لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس ـ ويجوز لمجيئه مطلقا، أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع، وسوء الأخلاق وسائر مثالبهنّ وكيدهنّ.
17. قوله تعالى: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ هذا هو تمام السعادة، فإنّهم ـ مع هذا النعيم ـ في مقام أمين من الموت والانقطاع، فلا آخر له ولا انقضاء. بل في نعيم سرمديّ أبديّ على الدوام.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/276.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قال تعالى ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولم يذكر بماذا آمنوا لأن متعلق الإيمان كان معروفا عند المخاطبين، وهو الله تعالى وصفاته التي ورد بها النقل الصريح، وأثبتها العقل الصحيح، والوحى ومن جاء به، والبعث والجزاء.. فهذه هي الأصول التي كان يدعو إليها الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام، فمن صدقهم فيها كان مؤمنا ويصدق بما يتبع ذلك من التفصيل.
2. ولا بد في تحقق الايمان من اليقين، ولا يقين إلا ببرهان قطعي لا يقبل الشك والارتياب، ولا بد أن يكون البرهان على الألوهية والنبوة عقليا؛ وإن كان الارشاد إليها سمعيا، ولكن لا ينحصر البرهان العقلي المؤدى إلى اليقين في تلك الأدلة التي وضعها المتكلمون وسبقهم إلى كثير منها الفلاسفة الأقدمون، وقلما تخلص مقدماتها من خلل، أو تصح طرقها من علل، بل قد يبلغ أمي علم اليقين بنظرة صادقة في ذلك الكون الذي بين يديه، أو في نفسه إذا تجلت بغرائبها عليه، وقد رأينا من أولئك الأميين، مالا يلحقه في يقينه آلاف من أولئك المتفننين، الذين أفنوا أوقاتهم في تنقيح المقدمات وبناء البراهين، وهم أسوأ حالا من أدنى المقلدين(2)..
3. الحق أن اطمئنان القلب بما جاء به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من غير تردد ولا اضطراب كاف في النجاة في الآخرة، وأن أفضل الأدلة ما أرشد إليه القرآن من النظر في آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق، فبداهة العقل فيه كافية عند سليم الفطرة الذي لم يبتل بشكوك الفلاسفة وجدليات المتكلمين ولا بتقليد المبطلين.
4. إطلاق الايمان وذكر المؤمنين وما أعد لهم من غير وصله بذكر متعلقاته معهود في القرآن لأن المتعلق معلوم للسامعين، وهو بالنسبة لمن لم يؤمنوا: ما دعاهم إليه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إجمالا من الأصول، وأما المؤمنون فقد عرفوه مفصلا تفصيلا.
5. ثم وصف الله تعالى المؤمنين الذين يستحقون البشارة بقوله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، وأطلق في هذا أيضا كما أطلق في كثير من الآيات لأن العمل الصالح معروف عند الناس بالإجمال، وذلك كاف في الترغيب فيه وجعله تابعا للإيمان متصلا به ولازما من لوازمه، وبين الأعمال الصالحة بالتفصيل في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، وكالآيات في أول سورة (المؤمنون) وآخرها، وآخر سورة الفرقان، وأوائل سورة المعارج، وغير ذلك.. كأن الله تعالى يقول: إن العمل الصالح معروف عند الناس لأنه أودع في نفوسهم ما يميزون به بين الخير والشر، ولكن بعضهم يضل بانحراف يطرأ على نفسه فيخرجها عن الاعتدال الفطري ثم يضل بضلاله آخرون، فتكون التقاليد والعادات الناشئة عن هذا الضلال هي الميزان عند الضالين في معرفة الصلاح والفساد، والخير والشر لا أصل الهداية الفطرية، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله وسلّم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
6. لو ترك الإنسان ونفسه لاهتدى إلى الحق ما دام بعيدا عن التقاليد والعادات وقد بلغ فساد الطباع وانحراف الفطرة في بعض الأمم مبلغا كادوا يخرجون به عن طور البشر:
أ. كمتنطعي البراهمة إذ ذهبوا إلى أن كمال الأرواح وسعادتها إنما هو في تعذيب الأبدان وحرمانها من لذاتها، ولذلك جدوا في البعد عن اللذات الجسمانية بأنواعها، فمالوا عن سنن الاعتدال، ومنوا أبدانهم وعقولهم بالفساد والاعتلال.
ب. وكبعض كفرة العرب وطائفة من البراهمة إذ زعموا أنه لا خير إلا في اللذة البدنية ولا شر إلا في الألم الجسداني، فالسعادة والكمال عندهم في البعد عن الآلام البدنية، والتمتع بالشهوات الحسية.
7. مثل هؤلاء المرضى النفوس المحرومين من الكمال الروحي والعقلي كمثل من غلبت عليه الصفراء فصار يذوق الحلو مرا، وإن من المرضى من يشتهى في طور النقه ما لا يشتهى في حال الصحة والاعتدال وكذلك الحبالى في مدة الوحم:
يرى الجبناء أن الجبن حزم... وتلك خديعة الطبع اللئيم
8. الخير والشر والصلاح والفساد والحق والباطل والفضيلة والرذيلة كل ذلك معروف في الجملة حتى عند الأشرار، ولذلك يدعون الخير والصلاح، وينكرون ما هم عليه، فإطلاق القول بذكر الأعمال الصالحات ليس مبهما عندهم، ولا خطابا بغير مفهوم، وإنما يحتاج معتل الفطرة إلى التفصيل في ذلك، وذكر الإمارات والدلائل التي تميز بين الصالحين والفاسقين، والمحقين والمبطلين، ولهذا نزلت آيات البيان والتفصيل، وبها ينقطع تلبيس الأغبياء، واعتذار الجهلاء، وحق القول بأن الذي يستحق هذه البشارة هو من جمع بين الإيمان والعمل الصالح الذي ترشد إليه الفطرة السليمة، ويهدى إلى تحديده الكتاب العزيز وسنة الرسول المتبعة.
9. بشرهم ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ ورد لفظ الجنة والجنات كثيرا في مقابلة النار، والجنة في اللغة البستان والجنات جمعها، وليس المراد بهما مفهومهما اللغوي فقط وإنما هما دار الخلود في النشأة الآخرة، فالجنة دار الأبرار والمتقين، والنار دار الفجار والفاسقين، فنؤمن بهما بالغيب ولا نبحث في حقيقة أمرهما، ولا نزيد على النصوص القطعية فيهما شيئا لأن عالم الغيب لا يجرى فيه القياس.
10. مما وصف الله تعالى به الجنات قوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ والمناسبة ظاهرة فان البساتين حياتها بالأنهار.
11. سؤال وإشكال: هل سميت دار النعيم جنة وجنات على سبيل التشبيه، وذكرت الانهار ترشيحا له، أم سميت بذلك لأنها مشتملة على الجنات، تسمية للكل باسم البعض؟ والجواب: لو لم يرد في هذا المقام إلا ذكر الجنة أو الجنات لوجب التفويض وامتنع الترجيح، أما وقد ذكر في آيات أخرى أنواع من الشجر المثمر وذكر الثمرات، فقد تعين ترجيح الشق الثاني، وإلا كان هربنا من تشبيه أسرى الألفاظ عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه، إلى تأويلات الباطنية المعطلين لدلالتها من كل وجه.
12. ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ كلمة (من) الأولى للابتداء والثانية للتبعيض، أي كلما رزقوا من الجنات رزقا من بعض ثمارها ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أي هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الإيمان والعمل الصالح، فهو كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾
13. ذهب بعضهم إلى اختيار أن معناه تشبيه ثمرات الآخرة بثمرات الدنيا لأنها مثلها في اللون والشكل والرائحة وإن كانت تفضلها في الطعم واللذة، فقوله تعالى ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ بيان لسبب القول على هذا التفسير، أي أتوا بما ذكر من الرزق في الدنيا والآخرة متشابها بعضه يشبه بعضا، ومحصله: أنهم عندما يؤتون برزق الجنة يبادرون إلى الحكم بأنه غير ما وعدوا به وأنه عين رزق الدنيا، لأن التشابه يكون سبب الاشتباه عليهم، ولكنهم يعرفون الفرق بعد ذلك بالطعم لأن فرقا عظيما بين لذة رزق الدنيا ورزق الجنة.
14. ما ذكروه من تشبيه ثمرات الآخرة بثمرات الدنيا غيره صحيح، لأن:
أ. التعبير بكلما ينافى هذا التفسير لأن الاشتباه إنما يكون في المرة الأولى، ثم يعرفون التفاوت معرفة تذهب به وتمنع من الحكم بأن هذا عين ذاك أما بالنسبة لأفراد النوع الواحد من الثمار فبالاختبار، وأما بالنسبة لما بعد النوع الأول من الأنواع فبالقياس عليه.
ب. ما ذهب إليه هؤلاء مناف للبلاغة في المعنى أيضا لأن تشابه رزقي الدنيا والآخرة في الألوان والروائح واختلافه في الطعم فقط ليس فيه كبير تشويق لأن اللذة في التنقل.
ج. أطوار الجنة مخالفة لأطوار الدنيا، والتشويق للناس إنما يكون بحسب ما عهدوا واعتادوا وألفوا، وإننا نعلم أن الأكل في الدنيا لأجل حفظ البنية من الانحلال، ولا انحلال في دار الخلد والبقاء، فلا بد أن يكون الأكل والشرب هناك على ما ورد لحكمة أخرى، أو هو لتحصيل لذة لا نعرفها لأنها من أحوال عالم الغيب، وإنما نؤمن بما ورد ونفوض أمر حقيقته وحكمته إلى الله تعالى، ومما ورد أنه لذة أعلى من لذات الدنيا.
د. قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي) وفى حديث الصحيحين المرفوع عن الله عز وجل (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وهو تفسير قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
15. ذهب بعض المفسرين إلى أن ذلك الرزق هو عين ما وعدوا به جزاء على أعمالهم، فكلما رزقوا ثمرة منه يذكرون الوعد الإلهي شكرا لله على توفيقهم لذلك العمل الذي له أعدّ هذا الجزاء، كما تفيده آية ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، فهو من قبيل ارتباط الموعود به بالموعود عليه كان الأعمال عين الجزاء ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾
16. قوله تعالى بعد ذلك ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ تأكيد وتقرير لما تضمنه قولهم وهذا هو الراجح، وهنالك قول ثالث، وهو أن رزق الجنة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته، ويختلف في طعمه ولذته، وهو المتبادر من اللفظ.
17. قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ أي مبالغ في تطهيرهن وتزكيتهن فليس فيهن ما يعاب من خبث جسدي حتى ما هو في الدنيا طبيعي كالحيض والنفاس، ولا نفسي كالمكر والكيد وسائر مساوئ الأخلاق، لأنهن طهرن كل نوع من أنواع التطهير.
18. نساء الجنات من المؤمنات الصالحات، وهن المعروفات في القرآن بالحور العين.
19. صحبة الأزواج في الآخرة كسائر شؤونها الغيبية نؤمن بما أخبر به الله تعالى منها لا نزيد فيه ولا ننقص منه، ولا نبحث في كيفيته، وإنما نعرف بالإجمال أن أطوار الحياة الآخرة أعلى وأكمل من أطوار الحياة الدنيا، ونحن نعلم أن الحكمة في لذة الأزواج بالمصاحبة الزوجية المخصوصة هي التناسل وإنماء النوع، ولم يرد أن في الآخرة تناسلا، فلا بد أن تكون لذة المصاحبة الزوجية هناك أعلى، وحكمتها أسمى وإننا نؤمن بها ولا نبحث في حقيقتها كما تقدم في بحث رزق الجنة.
20. هذا لا ينافى كون الإنسان في الآخرة يكون إنسانا لا ملكا، وإنما تكون لذاته الإنسانية أكمل مما كان في الدنيا وأسلم من المنغصات ومنها الطعام والشراب والمباشرة الزوجية فتنبه، وثبت في الحديث الصحيح (أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا ينغوطون ولا يتمخطون) قالوا فما بال الطعام؟ قال جشاء ورشح كرشح المسك، ويلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس) رواه مسلم عن جابر بن عبد الله وفى معناه أحاديث أخرى.. وفى الصحيح أيضا أن لكل رجل في الجنة زوجين اثنتين ـ قال العلماء إحداهن من نساء الدنيا والأخرى من نساء الجنة وما ورد من كثرتهن لا يصح منه شيء.
21. الخلود في اللغة طول المكث، ومن كلامهم خلد في السجن كما في الأساس، وفى الشرع الدوام الأبدي أي لا يخرجون منها ولا هي تفنى بهم فيزولوا بزوالها، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها، وفقنا الله لما يجعلنا من خيار أهلها من العلوم الصحيحة، والأعمال الصالحة، التي ترتقى بها الأرواح، وتستعد لذلك الفلاح
__________
(1) تفسير المنار: 1/230.
(2) نسب محمد رشيد رضا هذا النص لمحمد عبده، وعلقه عليه بقوله: كان الأستاذ قد أطلق اشتراط البرهان العقلي هنا كما أطلقه في مواضع أخرى تقدم بعضها والبحث فيه ثم قيده هنا بما بين به خطأ بعض المتكلمين في اشتراطهم البراهين المنطقية التي سموها قطعية على ما فيها من خلل وعلل) تفسير المنار: 1/231.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ البشارة الإخبار بما يسرّ، وآمنوا: أي بالله وصفاته التي جاء بها النقل وأيدها العقل، وبالنبي وبما جاء به، وبالبعث والجزاء، ولا يتحقق الإيمان إلا باطمئنان القلب وقيام البرهان الذي لا يقبل الشك والارتياب، وأفضل البراهين ما أرشد إليه القرآن من النظر في آيات الله في الآفاق والأنفس، فقد يبلغ الإنسان علم اليقين بنظرة صادقة في هذا الكون الذي بين يديه، أو في نفسه إذا تجلت له بغرائب خلقها وبدائع صنعها.
2. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ العمل الصالح معروف عند الناس، فقد أودع في فطرتهم ما يميزون به بين الخير والشر، ولكن بعضهم يضلّ بما يطرأ على نفسه من زيغ يحيد به عن الهدى، ويتبعه آخرون في ضلاله فتتولد التقاليد الضارة، وتكون هي ميزان الخير والصلاح لدى الضالين، وإن كانت مخالفة لأصل الفطرة كما ورد في الحديث: كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه).
3. الجنة البستان فيه النخيل، والفردوس البستان فيه الكرم، والمراد بها هنا دار الخلود في الحياة الآخرة أعدها الله للمتقين كما أعدّ النار للكافرين، ونحن نؤمن بهما ولا نبحث عن حقيقتهما
4. الأنهار واحدها نهر (بفتح الهاء وسكونها) وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كنيل مصر، وجرى الأنهار من تحتها هو كما نشاهد في الأشجار التي على شواطئ الأنهار الجارية.
5. ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أي كلما رزقوا من الجنة رزقا من بعض ثمارها قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الإيمان وصالح العمل، فهو من وادي قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ .
6. ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ أي إن رزق الجنة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته ويختلف في طعمه ولذته.
7. ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ أي ولهم في الجنات أزواج تطهرن غاية التطهر، فليس فيهنّ ما يعبن عليه من خبث جسدي مما عليه النساء في الدنيا كالحيض والنفاس، أو نفسيّ كالكيد والمكر وسائر مساوى الأخلاق.
8. صحبة الأزواج في الآخرة من الأمور الغيبية التي نؤمن بها كما أخبر الله، ولا نبحث فيما وراء ذلك، فأطوار الآخرة أعلى مما في حياتنا الدنيا، فهي سالمة من المنغّصات في الطعام والشراب والمباشرة الزوجية، روى مسلم أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون، قالوا فما بال الطعام، قال جشاء ورشح كرشح المسك، ويلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النّفس).
9. ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ الخلود لغة: المكث الطويل، قال في الأساس: ومن كلامهم خلد فلان في السجن، أي أقام طويلا، ويراد به في لسان الشرع الدوام الأبدي أي وهم لا يخرجون منها ولا هي تفنى وتزول، بل هي حياة أبدية لا تنتهى.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/68.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في مقابل ذلك المشهد المفزع يعرض المشهد المقابل، مشهد النعيم الذي ينتظر المؤمنين.. وهي ألوان من النعيم يستوقف النظر منها ـ إلى جانب الأزواج المطهرة ـ تلك الثمار المتشابهة، التي يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل ـ إما ثمار الدنيا التي تشبهها بالاسم أو الشكل، وإما ثمار الجنة التي رزقوها من قبل ـ فربما كان في هذا التشابه الظاهري والتنوع الداخلي مزية المفاجأة في كل مرة.. وهي ترسم جوا من الدعابة الحلوة، والرضى السابغ، والتفكه الجميل، بتقديم المفاجأة بعد المفاجأة، وفي كل مرة ينكشف التشابه الظاهري عن شيء جديد!
2. هذا التشابه في الشكل، والتنوع في المزية، سمة واضحة في صنعة البارئ تعالى، تجعل الوجود أكبر في حقيقته من مظهره، ولنأخذ الإنسان وحده نموذجا كاشفا لهذه الحقيقة الكبيرة.. الناس كلهم ناس، من ناحية قاعدة التكوين: رأس وجسم وأطراف. لحم ودم وعظام وأعصاب. عينان وأذنان وفم ولسان.. خلايا حية من نوع الخلايا الحية.. تركيب متشابه في الشكل والمادة.. ولكن أين غاية المدى في السمات والشيات؟ ثم أين غاية المدى في الطباع والاستعدادات؟ إن فارق ما بين إنسان وإنسان ـ على هذا التشابه ـ ليبلغ أحيانا أبعد مما بين الأرض والسماء!
3. هكذا يبدو التنوع في صنعة البارئ هائلا يدير الرؤوس: التنوع في الأنواع والأجناس، والتنوع في الأشكال والسمات، والتنوع في المزايا والصفات.. وكله.. كله مرده إلى الخلية الواحدة المتشابهة التكوين والتركيب.. فمن ذا الذي لا يعبد الله وحده، وهذه آثار صنعته، وآيات قدرته؟ ومن ذا الذي يجعل لله أندادا، ويد الإعجاز واضحة الآثار، فيما تراه الأبصار، وفيما لا تدركه الأبصار؟
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/50.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ تبيان لطيب ثمر الجنة، وأنه على درجة واحدة من طيب الطعم وحسن المنظر، وأنه في اختلاف أصنافه وألوانه، هو واحد فيما يجد الطاعم له من لذة ومتعة ونعيم!
2. هذا شأن آيات الله في كمالها، وجلالها، وتشابهها في الكمال والجلال؛ وبهذا وصف الله ـ سبحانه ـ القرآن الكريم بقوله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾
3. سؤال وإشكال: ألا تملّ النفس هذا المستوي الواحد من الطعوم التي تكاد تكون لونا واحدا من ألوان الطعام؟ أفلا كان من تمام النعيم أن تتجدد طعومه، وتختلف مذاقاته، فيكون نعيما فوق نعيم، تتضاعف به اللذة، وتتجدد فيه الرغبة؟ والجواب:
أ. إن نعيم الجنة لا يقاس بنعيم الدنيا، وأحوال أهل الجنة لا تقابل بأحوال أهل الدنيا، فهم إنما ينعمون نعيما كاملا لا نقص فيه، ولا يقبل مزيدا عليه.. نعيما متصلا لا ينقطع أبدا.. فكل ما ينالون من ثمار الجنة يحقق لهم هذا النعيم الذي ليس فوقه نعيم، دون سأم أو ملل، لأن النفس إنما تسأم الشيء الذي يلحّ عليها، بعد أن تتشبع به، وتستوفى حظها منه، فتزهد فيه، لأنه إن أرضاها في حال، فلن يرضيها في جميع الأحوال.. وليس كذلك نعيم الجنة، الذي يرضى أهله إرضاء كاملا متصلا.
ب. هذا، مع أن نجعل في تقديرنا، تلك الفروق الشاسعة بين أحوال الآخرة وأحوال الدنيا، وبين إنسان الجنة الخالد، وإنسان الدنيا الزائل.
4. للآية الكريمة وجه آخر يمكن أن تفهم عليه، وهو أن ما يتلقاه أهل الجنة من ثمارها ليس هو كل طعام أهل الجنة، فهنالك ألوان من النعيم لا عدد لها ولا حصر، والثمار لون واحد من ألوان النعيم، وهى وإن جاءت إليهم متشابهة في صورها، حتى ليحسب اللاحق منها أنه من صنف السابق ـ فإنها عند الطعم والمذاق تكشف عن أنها من جنس غير جنس ما سبقها، وفى هذا ما فيه من لذة المفاجأة، وإثارة الواقع غير المتوقع!
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/44.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. التبشير الإخبار بالأمر المحبوب فهو أخص من الخبر، وقيد بعض العلماء معنى التبشير بأن يكون المخبر (بالفتح) غير عالم بذلك الخبر والحق أنه يكفي عدم تحقق المخبر (بالكسر) علم المخبر (بالفتح) فإن المخبر (بالكسر) لا يلزمه البحث عن علم المخاطب، فإذا تحقق المخبر علم المخاطب لم يصح الإخبار إلا إذا استعمل الخبر في لازم الفائدة أو في توبيخ ونحوه.
2. الصالحات جمع صالحة وهي الفعلة الحسنة، فأصلها صفة جرت مجرى الأسماء لأنهم يقولون صالحة وحسنة ولا يقدرون موصوفا محذوفا، قال الحطيئة:
كيف الهجاء وما تنفكّ صالحة... من آل لأم بظهر الغيب تأتينا
وكأنّ ذلك هو وجه تأنيثها للنقل من الوصفية للاسمية.
3. التعريف هنا للاستغراق، وهو استغراق عرفي يحدد مقداره بالتكليف والاستطاعة والأدلة الشرعية مثل كون اجتناب الكبائر يغفر الصغائر فيجعلها كالعدم.
4. وجه إتيان العرب بالجموع بعد أل الاستغراقية إذا كان المفرد مغنيا غناءها هو أن أل المعرّفة تأتي للعهد وتأتي للجنس مرادا به الماهية وللجنس مرادا به جميع أفراده التي لا قرار له في غيرها فإذا أرادوا منها الاستغراق نظروا فإن وجدوا قرينة الاستغراق ظاهرة من لفظ أو سياق نحو: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [العصر: 2، 3] ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران: 119] ﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا﴾ [الحاقة: 17] اقتنعوا بصيغة المفرد لأنه الأصل الأحفّ، وإن رأوا قرينة الاستغراق خفية أو مفقودة عدلوا إلى صيغة الجمع لدلالة الصيغة على عدة أفراد لا على فرد واحد، ولما كان تعريف العهد لا يتوجه إلى عدد من الأفراد غالبا تعين أن تعريفها للاستغراق نحو: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134] لئلا يتوهم أن الحديث على محسن خاص نحو قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ [يوسف: 52] لئلا يتوهم أن الحديث عن خائن معين تعني نفسها فيصير الجمع في هذه المواطن قرينة على قصد الاستغراق.
5. الجنات جمع جنة، والجنة في الأصل فعلة من جنه إذا ستره نقلوه للمكان الذي تكاثرت أشجاره والتف بعضها ببعض حتى كثر ظلها، وذلك من وسائل التنعم والترفه عند البشر قاطبة لا سيما في بلد تغلب عليه الحرارة كبلاد العرب قال تعالى: ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ [النبأ: 16]
6. الجري حقيقته سرعة شديدة في المشي، ويطلق مجازا على سيل الماء سيلا متكررا متعاقبا، وأحسن الماء ما كان جاريا غير قار لأنه يكون بذلك جديدا كلما اغترف منه شارب أو اغتسل مغتسل.
7. الأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح، والنهر الأخدود الجاري فيه الماء على الأرض وهو مشتق من مادة نهر الدالة على الانشقاق والاتساع ويكون كبيرا وصغيرا.
8. أكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها، وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر لأن في الماء طبيعة الحياة ولأن الناظر يرى منظرا بديعا وشيئا لذيذا.. وأودع في النفوس حب ذلك:
أ. إما لأن الله تعالى أعد نعيم الصالحين في الجنة على نحو ما ألفته أرواحهم في هذا العالم، فإن للإلف تمكنا من النفوس والأرواح بمرورها على هذا العالم عالم المادة اكتسبت معارف ومألوفات لم تزل تحن إليها وتعدها غاية المنى، ولذا أعد الله لها النعيم الدائم في تلك الصور.
ب. وإما لأن الله تعالى حبب إلى الأرواح هاته الأشياء في الدنيا لأنها على نحو ما ألفته في العوالم العليا قبل نزولها للأبدان لإلفها بذلك في عالم المثال، وسبب نفرتها من أشكال منحرفة وذوات بشعة عدم إلفها بأمثالها في عوالمها.
والوجه الأول أقوى في تعليل مجيء لذات الجنة على صور اللذات المعروفة في الدنيا ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾
9. معنى ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ من أسفلها، والضمير:
أ. عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها.
ب. ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار لأنها أهم ما في الجنات، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات كقول كعب بن زهير:
شجّت بذي شبم من ماء محنية... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
10. أورد صاحب (الكشاف) توجيها لتعريف الأنهار ومخالفتها لتنكير (جنات):
أ. إما بأن يراد تعريف الجنس فيكون كالنكرة.
ب. وإما بأن يراد من التعريف العهد إلا أنه عهد تقديري، لأن الجنات لما ذكرت استحضر لذهن السامع لوازمها ومقارناتها فساغ للمتكلم أن يشير إلى ذلك المعهود فجيء باللام، وهذا معنى قوله: أو يراد أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة، يريد أن المتكلم في مثل هذا المقام في حيرة بين أن يأتي بالأنهار معرفة بالإضافة للجنات وبين أن يعرفها بال العهدية عهدا تقديريا، واختير الثاني تفاديا من كلفة الإضافة وتنبيها على أن الأنهار نعمة مستقلة جديرة بأن لا يكون التنعم بها تبعا للتنعم بالجنات وليس مراده أن أل عوض عن المضاف إليه على طريقة نحاة الكوفة لأنه قد أباه في تفسير قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 39] وإنما أراد أن الإضافة واللام متعاقبتان هنا، وليس ذلك صالحا في كل موضع على أني أرى مذهب الكوفيين مقبولا وأنهم ما أرادوا إلا بيان حاصل المعنى من ذلك التعريف فإن تقدير المضاف إليه هو الذي جعل المضاف المذكور كالمعهود فأدخلت عليه لام التعريف العهدي.
والصحيح أن الداعي إلى التعريف هو التفنن لئلا يعاد التنكير مرة ثانية فخولف بينهما في اللفظ اقتناعا بسورة التعريف.
11. قوله: ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ يظهر أنه قيد كاشف قصد منه زيادة إحضار حالة جري الأنهار إذ الأنهار لا تكون في بعض الأحوال تجري من فوق، فهذا الوصف جيء به لتصوير الحالة للسامع لقصد الترغيب، وهذا من مقاصد البلغاء، إذ ليس البليغ يقتصر على مجرد الإفهام، وقريب من هذا قول النابغة يصف فرس الصائد وكلابه:
من حس أطلس تسعى تحته شرع... كأن أحناكها السفلى مآشير
12. التحت اسم لجهة المكان الأسفل وهو ضد الأعلى، ولكل مكان علوّ وسفل ولا يقتضي ذلك ارتفاع ما أضيف إليه التحت على التحت بل غاية مدلوله أنه بجهة سفله، قال تعالى حكاية عن فرعون: ﴿وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ [الزخرف: 51]، فلا حاجة إلى تأويل الجنة هنا بالأشجار لتصحيح التحت ولا إلى غيره من التكلفات.
13. جملة: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا﴾ يجوز أن تكون صفة ثانية لجنات، ويجوز أن تكون خبرا عن مبتدأ محذوف وهو ضمير ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فتكون جملة ابتدائية الغرض منها بيان شأن آخر من شئون الذين آمنوا، ولكمال الاتصال بينها وبين جملة ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ فصلت عنها كما تفصل الأخبار المتعددة.
14. (كلما) ظرف زمان لأن كلا أضيفت إلى ما الظرفية المصدرية فصارت لاستغراق الأزمان المقيدة بصلة ما المصدرية وقد أشربت معنى الشرط لذلك فإن الشرط ليس إلا تعليقا على الأزمان المقيدة بمدلول فعل الشرط ولذلك خرجت كثير من كلمات العموم إلى معنى الشرط عند اقترانها بما الظرفية نحو كيفما وحيثما وأنما وأينما ومتى وما مهما.
15. الناصب لكلما الجواب لأن الشرطية طارئة عليها طريانا غير مطرد بخلاف مهما وأخواتها.. وإذ كانت كلما نصا في عموم الأزمان تعين أن قوله ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ المبني على الضم هو على تقدير مضاف ظاهر التقدير أي من قبل هذه المرة فيقتضي أن ذلك ديدن صفات ثمراتهم أن تأتيهم في صور ما قدم إليهم في المرة السابقة، وهذا يحتمل:
أ. أن يكون حكاية لصفة ثمار الجنة وليس فيه قصد امتنان خاص فيكون المعنى أن ثمار الجنة متحدة الصورة مختلفة الطعوم، ووجه ذلك والله أعلم أن اختلاف الأشكال في الدنيا نشأ من اختلاف الأمزجة والتراكيب، فأما موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل، وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري.
ب. أن في ذلك تعجيبا لهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس، ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر، وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق.
ج. أن كلما لعموم غير الزمن الأول فهو عام مراد به الخصوص بالقرينة.
16. اختلف في معنى ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ :
أ. في المرة الأولى من دخول الجنة.
ب. على تقدير من قبل دخول الجنة أي هذا الذي رزقناه في الدنيا، ووجهه في (الكشاف): (بأن الإنسان بالمألوف آنس) وهو بعيد لاقتضائه أن يكون عموم كلما مرادا به خصوص الإتيان به في المرة الأولى في الجنة ولأنه يقتضي اختلاف الطعم واختلاف الأشكال وهذا أضعف في التعجب، ولأن من أهل الجنة من لا يعرف جميع أصناف الثمار فيقتضي تحديد الأصناف بالنسبة إليه.
17. قوله: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ ظاهر في أن التشابه بين المأتي به لا بينه وبين ثمار الدنيا.
18. ثم منّ الله عليهم بنعمة التأنس بالأزواج ونزه النساء عن عوارض نساء الدنيا مما تشمئز منه النفس لولا النسيان فجمع لهم سبحانه اللذات على نحو ما ألفوه فكانت نعمة على نعمة.
19. الأزواج جمع زوج يقال للذكر والأنثى لأنه جعل الآخر بعد أن كان مفردا زوجا، وقد يقال للأنثى زوجة بالتاء، وقال الفرزدق:
وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي... كساع إلى أسد الشّرى يستمليها
20. قوله: ﴿مُطَهَّرَةً﴾ هو بزنة الإفراد وكان الظاهر أن يقال مطهرات كما قرئ بذلك ولكن العرب تعدل عن الجمع مع التأنيث كثيرا لثقلهما لأن التأنيث خلاف المألوف والجمع كذلك، فإذا اجتمعا تفادوا عن الجمع بالإفراد وهو كثير شائع في كلامهم لا يحتاج للاستشهاد.
21. قوله: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ احتراس من توهّم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنعم عليه كما قال أبو طيب:
أشدّ الغم عندي في سرور... تحقّق عنه صاحبه انتقالا
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/348.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَبَشِّرِ﴾ فعل أمر من التبشير، وأصله من البشارة، وأصلها الخبر الذي يجيء المبلغ به فتبدو آثار السرور على بشرته، فهو الخبر بالأمر الذي يسر ولا يضر، ويكون أول الخبر بالسرور، وصاحبه يسمى البشير: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾، والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو البشير النذير، الذي يبشر أهل الحق واليقين، وينذر أهل الجحود والإنكار.
2. قد تطلق على سبيل المجاز كلمة التبشير في مقام التهديد والإنذار، كقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، وهذا على سبيل السخرية والتهكم، كأنهم يترقبون ما يسرهم، فيجيء الخبر بما يضرهم ويسمى باسم البشارة تهكما بهم، وإشارة إلى أن ذلك ما يجب أن ينتظروه ويترقبوه، والله محيط بهم.
3. قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فيه إشارة إلى سبب البشارة، لأن التعبير باسم الموصول دليل على أن الصلة سبب الحكم، فالإيمان والعمل الصالح هما السبب في البشارة، أو هما السبب في الجزاء بأن تكون لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، وثمرات الجنة المتشابهة المختلفة الطعوم.
4. الإيمان هو التصديق والإذعان بالقلب، وأن يصدق المؤمن بكل ما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن يصدق الرسول في كل ما جاء به مذعنا له، مصدقا بأنه من عند الله تعالى، والإسلام هو إعلان الإيمان، والإذعان لأحكام الإسلام، ولقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: الإسلام علانية، والإيمان في القلب)
5. حدث في أثناء الدعوة المحمدية، وتبليغ الرسالة، أن كان بعض الأعراب يعلن اتباع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولكن القلوب لم تذعن إذعانا كاملا،؛ ولذلك قال الله تعالى عنهم: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ ولقد روى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: الإسلام علانية والإيمان في القلب. قال ثم يشير إلى صدره ثلاث مرات ويقول: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا)
6. لا شك أن العمل الصالح ثمرة من ثمرات الإيمان الصادق، والإذعان المطلق لله سبحانه وتعالى، والطاعة الكاملة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، لكن هل يزيد الإيمان بالعمل الصالح، وينقص بترك العمل بموجبه وما يقتضيه ويدعو إليه؟ وهى قضية يخوض فيها علماء الكلام من حيث إن الإيمان يزيد وينقص أو لا يزيد ولا ينقص، وأنه حقيقة واحدة، وهى التصديق والاعتقاد الجازم، والإذعان المطلق لله ولرسوله، وتلك لا تزيد ولا تنقص.
7. جاء في النصوص القرآنية أن الإيمان يزيد، فقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾، وهكذا نرى في صريح القرآن أن الإيمان يزيد، وأنه وإن كان أصله الاعتقاد والتصديق، فإن زيادته تكون بتوثيقه بحيث يكون عميقا لا تزعزعه الرياح، أو راسيا ثابتا، كالجبال، ولا شك أن العمل بموجبه يوثقه، ويؤكده، وأن ترك العمل يجعله يجف، وإن كان لا يموت ولا يذهب وإن الجزاء يكون على الإيمان وللعمل جزاؤه.
8. وردت أحاديث كثيرة تجعل الأعمال من الإيمان، وقد روى ابن ماجه عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الإيمان بضع وستون أو سبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول لا إله إلا الله، والحياء شعبة من الإيمان)، وإنّ عد هذه الأعمال من الإيمان على أنها من ثمراته، ولا مانع من أن تعد الثمرة من الأصل إذا كانت لا تظهر إلا ثمرة له فلا تكون إلا من أصل الإيمان، فهي من قبيل الاتحاد بين اللازم والملزوم.
9. مهما يكن القول في الاتصال بين الإيمان والعمل، فإن العمل يزكى الإيمان ويقويه، وهو كالماء، والغذاء، يتغذى منه الإيمان ويقوى، وإن الإيمان من غير عمل يجف، ولا يكون مثمرا منتجا، فمن يكون مؤمنا من غير أن يعمل بموجب إيمانه يكون كمن يملك أرضا طيبة، لا يزرعها، ولا يثمرها.
10. المؤمن، وإن لم يعمل، خير من الكافر، وإنه وإن أهمل فقد يعمل، والله تعالى يجزيه الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، وهو خير كله إذا عمل، واتقى وآثر الحياة الآخرة على الدنيا.
11. الجزاء الذي بشر به الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ الجنات الحدائق التي تشتمل على نخيل وأشجار متكاثفة، حتى تستر الأرض وتجنها، فهي جنات، لأنها تستر ما تظله، والضمير في تجرى من تحتها الأنهار، يعود على أشجارها، وإن لم تذكر باسمها، فكلمة جنات متضمنة لها، إذ لا تتحقق الجنات إلا بأشجار متكاثفة ملتفة.
12. وإن هذه الجنات فيها بهجة للناظرين، فهي متعة للأنظار، وبهجة للنفوس بذاتها، وفيها ثمرات شهية من كل شيء، وكما قال تعالى في آية أخرى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ [محمد].
13. الجريان للماء، لا للأنهار؛ لأن الأنهار هي ما يشق في الأرض ليجرى فيه الماء فهو من إطلاق اسم المحل، وإرادة الحالّ، مثل قوله تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ [العلق]، وإن الناظر إلى الماء وهو يجرى منسابا في الأرض لا يرى النهر ولكن يرى الماء، فكأن النهر اختفى في الماء ولا يرى غير الماء.
14. إن الثمرات متشابهة في اللون، وإن كان الطعم في الذوق متغيرا، وهى دائمة متجددة، مستمرة لا تمل ولا تسأم بل فيها المتعة المتجددة؛ ولذا قال تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أي أن هذه الثمرات تجيء إليهم رزقا من الله تعالى من غير جهد يبذلونه، ولا عمل يعملونه.. لذلك قال تعالى: ﴿رُزِقُوا﴾ وأكده سبحانه بقوله تعالى: ﴿رِزْقًا﴾ أي أنه يجيء بأمر الله وإنعامه رزقا حسنا من غير أن يقوموا بمجهود فيها، فهي دار الجزاء والنعيم، فإذا كانوا لم يعملوا في الجنات فهو جزاء وفاق لما سبقوا به من عمل صالح، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فهو جزاء لمجهود سابق، وثمرة لإيمان وعمل صالح.
15. هم يقولون: هذا الذي رزقنا من قبل، وهذا يدل على التجدد المستمر، ويدل على التشابه في الشكل، فمعنى النص: هذا الذي رزقناه في الجنة مثل الذي رزقناه من قبل في شكله، ولكنهم يجدون الطعم متغيرا، وسبحان خالق كل شيء ولذا قال تعالى: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ في شكله، وإن تغير طعمه.
16. هناك فوق متعة الطعام، والتمكن من كل الخير متعة الأنس بالحياة الزوجية، ولذا قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، والأزواج جمع زوج ذكرا كان أو أنثى، فهي تطلق على المرأة المتزوجة، كما تطلق على الرجل المتزوج، وإلحاق التاء بها بالنسبة للمرأة قليل نادر.. ومعنى مطهرة أنها خالية من الدنس النفسي المعنوي والجسدي، فهن طاهرات مطهرات من كل رجس.
17. الجزاء لهما معا، فلها كل الثمرات التي للرجل، والأزواج متعة للرجل والمرأة، فهو متعتها وهى متعته، إن صح هذا التعبير؛ ولذلك صرح القرآن الكريم بأن الجزاء لهما، فقال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾
18. ذلك النعيم دائم لا ينغصه توقع زواله، بل النعمة كاملة بدوامه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
19. نعيم الجنة نعيم مادى حسى؛ لأن ذلك هو ما تدل عليه الألفاظ، ولا يصح تأويلها بغير سند من الشرع، ولا حجة، ولا دليل، ولا نؤوّلها بعقولنا المجردة، فإن ذلك يعد إنكارا للغيب الذي قرر الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم أن أول صفة من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، وأن فرق ما بين الإيمان والزندقة الإيمان بالغيب.
20. لكن ورد عن ابن عباس أن الألفاظ التي وردت في نعيم الجنة ليست على حقيقتها التي نراها، فثمراتها، ورمانها وعسلها ولبنها، وخمرها، ليست هي خمرنا، وأن نعيم الجنة فوق علمنا، ولكن الله تعالى قرب لنا نعيم الجنة بما يشبهها في استعمالنا، ولكنها مادية حسية، ويتحقق بذلك قول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/169.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما أنذر الكافرين اتبعه التبشير للمؤمنين، وهكذا جاء في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، فقال سبحانه: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الصالح ضد الفاسد.. وفي (حديقة الحكمة) للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام: الصلاح في أصل اللغة: هو السلامة من الآفات، وهو نقيض الفساد في كلامهم.. وقال عليه السلام: وصلاحها ـ أي الأعمال ـ سلامتها من آفات التبعات)
2. تكرر في القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ دون وعملوا الحسنات، ولعل الحكمة فيه: أن صلاح العمل لا يكفي أنه في الأصل حسن حتى ينضاف إلى ذلك أنه خالص من الرياء سليم من الإحباط، فلا بد من الإخلاص والتقوى ليكون مقبولاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27].
3. العمل الذي لم يخلص لله لا يعتبر صالحاً، وكل عمل محبط فهو غير صالح، بل هو كالزرع الذي أصابته آفة كما أن عامله لا يعد من الصالحين؛ لأنه معيب كأن به عاهة وفساداً، أما العمل الخالص لله المقرون بالتقوى والإيمان، فهو كالزرع السليم من الآفات والعوائق الذي ينمو ويثمر.
4. ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ هذه (اللام) تفيد: أنها لهم ملك أو شبه الملك، وتفيد: أنها صارت حقاً لهم، والجنة هي الأشجار أو الزروع الكثيرة التي تجن أي تغطي ما فيها.
5. ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ تكرر في القرآن الكريم هذا الوصف:
أ. لأن الجنات تحتاج إلى ماء وإلا اصفرت أوراقها، ثم يبست، أما إذا كان الماء يجري من تحتها، فهي لا تزال في صلاح ونمو وإثمار وخضرة جميلة تسر الناظرين.
ب. وفائدة أخرى: أنها لا يلحق أهلها عناء بسقيها كجنات الأرض التي تسقى من الآبار، بل الماء يجري من تحتها، وهذه صفتها، فلا تحتاج إلى إيصال الماء إليها من الآبار، والنهَر مجرى الماء الواسع.
ج. وفائدة أخرى وهي أنه يجتمع جمال الخضرة وجمال الماء ويتمم كل منهما جمال الآخر.
6. ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ أي من نوع من ثمارها ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أول ما أعطينا في الجنة.
7. ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ في حسنه ونفعه ولذته، قال السيد العلامة الكبير عبد الله بن أحمد الشرفي اليماني الزيدي، أحد تلاميذ الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في تفسيره (المصابيح): قال المرتضى ـ يعني الإمام محمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم عليهم السلام: وقال بعض من يتعاطى العلم: أن معنى هذا الذي رزقنا أي في الدنيا وشبهوه بالثمر الأوّل، وليس ذلك عندي كذلك؛ لأنه إذا كان ثمر الجنة كثمر الدنيا فلا فضل إذاً لنعيم الآخرة على نعيم الدنيا، وهذا مخالف للكتاب محال عند ذوي الألباب.. والمعنى في ذلك عندي: أن معنى قول أهل الجنة: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ يريدون بذلك: أنه لا يصلهم من الله ـ عزَّ وجل ـ رزق إلاَّ أعجبهم ووقع بمرافقهم، ثم يصل بهم من بعد ذلك أرزاق تكون في الجودة والموافقة كالأول سواء؛ لأن أرزاق الدنيا منها موافق ومنها مخالف ومنها طيب ومنها رديء، وأرزاق الجنة كلها مؤتلفة مصيبة للشهوة، وقد فسر الله ذلك في آخر الآية، فقال سبحانه: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ وقد قال بعض الناس: متشابهاً في الألوان، وذلك خطأ من المقال، وإنما المعنى: وأوتوا به متشابهاً في الإرادة والشهوة والمحبة؛ لأن أرزاق الدنيا لا تشتبه عند صاحبها)
8. هذا تفسير حسن جداً، وهو وإن كان فيه حمل الكلام على التشبيه فقرينته ظاهرة، وهي أن الحمل على الحقيقة يؤدي إلى القول باستمرار أهل الجنة في الغلط وتكرار الغلط كلما رزقوا من ثمرة، وهذا بعيد جداً؛ لأن التجربة مرتين أو نحوها تكفيهم لمعرفة الغلط وتدعوهم إلى السكوت عن هذا الكلام؛ لأنهم أهل حكمة كما قال تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج: 24].
9. سؤال وإشكال: إنهم لا ينكشف لهم الخطأ، بل لا يزالون في الخطأ أبداً؟ والجواب: إنه يستلزم أن لا يعلموا أن قد وجدوا ما وعدهم ربهم حقاً؛ لأن من جملة الوعد هذه الآية، وقد أفادت أنهم يرزقون ثمرات مختلفة متشابهة، وهم في خطئهم يعتقدونها ثمرة واحدة تَرِدُ عليهم كل مرة، فأين وجدانهم لما وعدهم ربهم حقاً، فظهر: أن ليس المراد ذلك، وأن المعنى: أنهم أعجبوا بالأول، فكانت لا تزال في أنفسهم لذته وفائدته لكونه الأول، فلم يزالوا يذكرونه عند كل رزق يماثله في اللذة والمنفعة، فيخبروا أنه مثله تعبيراً عن تكرار النعمة الكاملة، وهذا من طيب القول؛ لأنه شكر للمنعم، فظهر أن قولهم: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ من التشبيه المؤكد.. فأما قول من قال إن المراد التشبيه بما رزقوا في الدنيا، فهو بعيد كما قال المرتضى عليه السلام.
10. لا معنى لتكرار القول في كل مرة بهذا المعنى، وأكثر أهل الدنيا فقراء لم ينالوا ثمرات الدنيا كلها لاختلاف البلدان في الثمرات وقلتها في بعض البلدان، ولا تكاد تجتمع أنواع ثمرات الدنيا في بلد واحد طيب فضلاً عن الخبيث الذي لا يخرج نباته إلاَّ نكداً، فكيف يقولون: هذا الذي رزقنا في الدنيا، ولم يرزقوا إلاَّ بعضه، فظهر ضعف ذلك التفسير.
11. ﴿وَلَهُمْ فِيهَا﴾ أي في الجنات ﴿أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ نساء مطهرات في خَلْقِهِنَّ، ليس فيهن وسخ ولا حيض، وظاهره أن في كل جنة من الجنات واحدة أو أكثر، فالذي له جنات تتعدد أزواجه كما في سورة الرحمن.
12. يمكن أن الله تعالى فرق صفات الحور، كما فرق صفات الجنة في القرآن لحكمة في ذلك، تشويقاً للقارئ حيث يطلع على وصف في آية فيرغب لأجله وحده، ثم يطلع في موضع آخر على وصف آخر فتجدد رغبته وتقوى، ثم يطلع على وصف زائد على ما قد وجد، فتزداد رغبته وتجدد له عند كل وصف رغبة مع الرغبة الأولى، ولا تزال تجدد له الرغبة بتجدد الأوصاف، وهكذا في الإنذار والتخويف.
13. على هذا فلا نحتاج إلى قولنا: لعل وصف الحور بالطهارة دليلٌ على أن الطهارة أهم أوصاف الحور، ويكفي أن نقول: إن ذلك ترغيب كامل مستقل يدل على أهمية الطهارة في الترغيب، ولا حاجة إلى أن نقول: يشمل التطهير الخُلُقي؛ لأنه وإن كان من أوصافهن فلا يجب ذكره هنا، وله محل آخر أي للحصانة والعفاف، وهذا هو الراجح لعدم الدليل على إرادة المعنيين هنا.
14. ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام في (تفسير سورة البينة): وتأويل ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ فهو بقاؤهم أبداً بعد المصير إليها)، ومعناه: أنهم لا يزالون أحياء لا يموتون، كما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [الأنبياء: 34 ـ 35] وفي (معلَّقة طَرفَه):
ألا أيُّ هذا الزاجري أَحْضرُ الوغى... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي... فدعني أبادرها بما ملكت يدي
15. هكذا اقترن الوعيد بالوعد كما سيقترن معناهما في الوقوع يوم القيامة، وفي الجمع بينهما زيادة ترغيب وترهيب، لما يستفاد من المقابلة من الترهيب بالنار، وفوات الجنة، ومن الترغيب بالجنة والسلامة من النار، وبضدها تتميز الأشياء.
وقد قسّمنا ما ذكروه في تفسيره ـ بحسب محتواه ـ إلى العناوين التالية:
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/75.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بشر الله في هذه الآيات ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ تتنوع، وتمتد أشجارها وأثمارها، وتتحرك كل جمالاتها، بما ينعش الروح، ويسحر البصر، ويأخذ باللبّ.
2. ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ المتدفقة بالحياة الصافية، العذبة، الرقراقة، التي تمنح الأرض الخصب والنموّ والحياة، لتنبت من كل زوج بهيج، ولتهتز بالخضرة المعشوشبة والثمار اللذيذة.
3. ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ وتناولوه بأيديهم، وحدّقوا فيه، وفي خصائصه، وفي حجمه، ولونه، وشكله، وتلذذوا بطعمه في عناصره الحلوة الشهية، ﴿قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ في الدنيا فلم يتغير علينا شيء مما ألفناه وعرفناه من الثمار، ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ يشبه بعضه بعضا في الشكل، ولكنه يختلف في طبيعته، أو يشبه ثمار الدنيا، مع تميّزه عنها في الجودة، أو يشبه بعضه بعضا في الجودة.
4. ذلك أنّ لثمار الجنة خصائصها التي تتميز عن كل ما في الدنيا من لذة، كما قال الله في الحديث عن كل ما في الجنة مما ينتظر المؤمنين والمؤمنات: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17]، فلا يعرف الإنسان ماذا يتخير منها.
5. ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ من قذارة الروح والجسد، وربما أريد بهن الأبكار بقرينة ما ورد في القرآن عن الحور العين كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ [الواقعة: 35 ـ 37] فتكون الطهارة كناية عن البكارة على هدى قوله تعالى: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾ [الرحمن: 56]
6. وربما يقال: إن الأزواج جمع زوج، والزوج يطلق على الرجل والمرأة فيقال لكل واحد منهما زوج، فتكون الآية مسوقة للحديث عن أزواج الرجال المؤمنين من النساء المطهرات، وعن أزواج النساء من الرجال المطهرين، ويكون تأنيث مطهرة بلحاظ الجمع وفيه خفاء.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/194.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. التبشير الإخبار عن المحبوب، فهو مضاد للإنذار، واشترط بعضهم عدم علم المبشر بالنبأ السار الذي يبشر به، وهو الذي اعتمده الزمخشري، وعليه فمن حدث أحدا حديثا يسره، والمحدَث عارف به فهو إخبار وليس بتبشير.
2. الصحيح أنه تبشير على كلا الحالين، لأن الله سبحانه أمر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم هنا أن يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنات ونعيمها، مع أنه تقدم في القرآن المكي تبشيرهم بذلك، فهم ليسوا على جهل بما به يبشرون وإنما يزدادون بتجديد التبشير نشاطا في السعي إلى الخير وتوقيا من الوقوع في المهلكات.
3. الأمر بتبشير المؤمنين يجوز أن يكون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن يكون لكل من يصلح للتبشير، وهذا إذا لم يقصد بالخطاب معين، نحو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، والوجهان جائزان في كل ما كان مثله في القرآن كقوله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وقوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾ وقوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وقوله: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾
4. ماهية الإيمان الشرعية تشمل الأعمال الصالحة التي يقتضيها توحيد الله تعالى.. وروى أبو القاسم اللالكائي عن البخاري أنه اجتمع بنحو ألف من أئمة السلف فلم يكونوا يختلفون في ذلك، ومع هذا فإن جل المفسرين استدلوا بعطف العمل الصالح على الإيمان على تغايرهما، لعدم جواز عطف الشيء على نفسه.
5. الأقرب إلى ما تقتضيه الأدلة القرآنية والحديثية أن الإيمان إذا أطلق فمدلوله العقيدة والعمل معا، وإذا عطف عليه العمل كما في هذه الآية فيحتمل أن يكون من باب عطف الخاص على العام، وأن يكون المراد به العقيدة وحدها، كما أن المسكين والفقير إذا أفرد أحدهما كانا صنفا واحدا، وإذا عطف أحدهما على الآخر كانا صنفين، ومثله يقال في الألفاظ التي تتحد مدلولاتها كالبر والتقوى والمعروف، وكالإثم والعدوان والمنكر وهذا لا ينافي أن يكون مقر الإيمان القلب لأن صلاح الجسد متوقف على صلاح القلب كما في حديث النعمان بن بشير الذي أخرجه البخاري: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)
6. الأعمال جمع عمل وهو ما يزاوله العامل، واختلف في شموله للترك، وبناء على الشمول يكون اجتناب المعاصي داخلا في الأعمال الصالحة، وعلى عدمه فاجتنابها يفهم قصده بذكر الأعمال الصالحة بحسب ما تقتضيه القرائن، والصحيح عدم الشمول، لأن تفسير العمل بالمزاولة ينافي أن يراد به الترك، هذا من حيث مدلول لفظ العمل اللغوي.. وأما من الناحية الشرعية فالقرائن هي التي تدل عند إطلاق العمل الصالح على قصد فعل الحسنات واجتناب السيئات معا لأن تقبل الأعمال موقوف شرعا على اجتناب محبطاتها من الكبائر، بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾
7. الصالحات جمع صالحة والأصل أنها صفة لموصوف؛ ولكن أجريت مجرى الأسماء فلذلك أطلقت من غير تقدير محذوف قبلها ولعل التاء فيها لنقلها من الوصفية إلى الاسمية ومثلها الحسنة والسيئة، فإن كلا منهما تطلق على ذات العمل من غير تقدير موصوف وقد ورد في الكلام العربي إطلاق الصالحة على حقيقة العمل.
8. تصدق الصالحات على كل ما يطلب فعله سواء كان طلبه جازما ـ وهو الواجب ـ أو غير جازم ـ وهو المندوب ـ وكذلك اجتناب المنهيات ـ إذا عد من عمل الصالحات ـ يدخل فيه ما كان النهي عنه جازما ـ وهو المحرم ـ أو غير جازم ـ وهو المكروه ـ ودخول المندوبات والمكروهات في ذلك بطريق التبعية.
9. التعريف في الصالحات للجنس لعدم قصد صالحات معينة، اللهم إلا أن يراد بها ما سبق التنويه به من صفات المؤمنين فيما نزل قبل من السور، كقوله تعالى في سورة المؤمنون: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إلى أو﴿ لئك هم الوارثون ﴾، وقوله في سورة المعارج ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ إلى ﴿أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾، وقوله في سورة الفرقان ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ إلى ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ﴾
10. بناء على أن أل للجنس فالمراد بها ماهية الأعمال الصالحة، وتصدق على الواحد فصاعدا إن كان اللفظ الدال عليها مفردا وعلى الثلاثة فأكثر إن كان جمعا كما في هذه الآية، وليس من المعقول أن يستوعب الإنسان الواحد صالحات الأعمال على اختلافها؛ لعجز الطاقة البشرية عن استيعابها، كما أنه ليس من المعقول أن يكتفي منها بثلاثة أعمال فحسب، وإنما تختلف الواجبات باختلاف أحوال المكلفين، فمن البديهي أن تراعى الفوارق بين حالات الغنى والفقر، والسعة والضيق، والسفر والحضر كما تراعى فوارق الذكورة والأنوثة، فالتكاليف تختلف باختلاف هذه الأحوال جميعها، فالغني ينوء بما لا ينوء به الفقير منها، وكل من الرجل والمرأة مخصوص بتكاليف معينة بحسب نوعهما، فوق التكاليف العامة التي يشتركان فيها، وهكذا يقال في الحاضر والمسافر، وهلم جرا، وإنما مصدر بيان هذا كله الشريعة الغراء التي نزل بها الكتاب العزيز، ووردت بها السنة المطهرة، ولا يحكم على العمل بالصلاح أو غيره إلا بمقاييسها، وهي بحمد الله جامعة لحكم كل شيء إما تفصيلا وإما إجمالا، والجزئيات غير المنصوص عليها تستفاد أحكامها بالرجوع إلى القواعد العامة، ولا دخل للعقول والعادات والأعراف في شيء من ذلك.
11. لا ريب أن الفطرة السليمة تهدي إلى الخير وتدعو إلى الصالحات غير أنها لا تكفي لأن تكون مصدر الأحكام، وموئل الاحتكام، لأنها كثيرا ما تتأثر بالمؤثرات المختلفة، ومن هنا كان اتصال الإنسان بخالقه تعالى لا يكون إلا بطريق ما شرعه من الأحكام بوحيه المنزل، ولذا لم يوكل الناس إلى عقولهم في تمييز الخير من الشر، والنفع من الضر، فقد يستحسن عقل ما يستهجنه آخر، وتستسيغ فطرة ما تأباه فطرة أخرى، وهذا لتأثير العوامل التربوية والاجتماعية والشخصية على نفوس الناس وكثيرا ما تكون البيئة عاملا مهما من هذه العوامل، ومن ثم تختلف أحوال مجتمعات الناس في استحسان الأمور واستقباحها، ولأجل ذلك كان ميزان الأعمال الذي يفرز الصالح من غيره هو كتاب الله وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
12. روي عن الصحابة ومن بعدهم من مفسري التابعين أقوال في المراد بالصالحات، منهم من قال إنها الإخلاص، ومنهم من ذهب إلى أنها الجمع بين العلم والنية، والصبر والإخلاص، وذهب بعضهم إلى أنها الصلوات الخمس، وقال آخرون هي الأمانة، وذهبت طائفة إلى أنها التوبة، ولا تعد هذه الآراء مختلفة، وإنما ذلك كله من أمثلة الأعمال الصالحة، وقد تكرر في هذا التفسير عدم اعتبار مثل هذا خلافا، وإنما كانت تختلف إجابات الصحابة وغيرهم باختلاف أحوال السائلين أو السامعين، فتارة يكون اللائق بالمقام الحض على الصلوات الخمس لتهاون السائل أو المستمع بها، وتارة تدعو الحال إلى التذكير بالإخلاص أو بالتوبة، وتفسيرنا للصالحات بأنها ما وافق الكتاب والسنة يجمع جميع ما قالوه.
13. هذا التبشير إنما هو للمؤمنين حقا الذين انعكس إيمانهم على أعمالهم، فلا يأتون شيئا ولا يذرونه إلا بحسب تعاليم الحق التي نزل بها الكتاب المبين، وفصلها الرسول الأمين صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبيان استحقاقهم هذا الثواب لم يكن إلا من طريق الوحي، إذ لا دخل للعقول في مثل ذلك خلافا للمعتزلة القائلين بأن الوحي لا يكون إلا مؤكدا لما يدل عليه العقل، وأن مثوبة الله لعباده واجبة عليه لهم إن قاموا بما فرضه عليهم من الأعمال.
14. الحق أن المثوبة ليست إلا محض فضل من الله، وأن طاعة العبد لربه واجبة على أي حال، ولو لم تكن تترتب عليها مثوبة، وليست موجبة على الله تعالى شيئا، فالله يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وبحسب الإنسان هذه الآلاء التي يسبح في خضمها منذ بداية نشأته وإلى انتقاله إلى الدار الآخرة، داعيا ملحا إلى استنفاد الجهد واستفراغ الطاقة في طاعته تعالى ولو أن نعمة من أبسط هذه النعم قوبلت بأعمال الناسك الأواب الذي وقف حياته كلها على عبادة ربه، ولم يترك شيئا مما في وسعه من الطاعات إلا فعله، ولا شيئا من المنهيات إلا جانبه لذهبت تلك النعمة بهذه الأعمال كلها، فما بالك بهذا البحر الواسع من النعم، مع أن التوفيق لصالحات الأعمال هو نفسه من أجل الآلاء وأوسع المنن بحيث لا يمكن لإنسان أن يفي بشكره على أي حال.
15. الجنات جمع جنة وهي الحديقة ذات الشجر الملتف بعضه على بعض مأخوذ من جن بمعنى ستر، لأن شجرها ساتر لأرضها ولمن كان داخله، واشتقاقات هذه الكلمة كلها دالة على الستر كالجنون والجنين والجن والجنان، فالجنون ساتر للعقل، وسائرها مستورة وتطلق الجنة على الشجر نفسه.. ومن العلماء من ذهب إلى أن اسم الجنة لنفس الشجر لا للأرض ذات الشجر.
16. في تشويق الله سبحانه وتعالى إلى الدار التي أعدها للأبرار يوم القيامة، وتسميتها جنات تنويه بقيمة النباتات وعظم نفعها، ففي تلك الدار قصور شامخة لا يتصور العقل علوها، غير أن الله سبحانه لم يسمها المدينة أو نحوه من الأسماء الدالة على المباني، وإنما سماها جنة، وهذا:
أ. لأن كل شيء يألف ما كان إلى جنسه أقرب، ويشتاق ما كان إلى وصفه أدنى، والإنسان والنبات مشتركان في الحياة وإن اختلف نوع الحياتين بعكس المباني فإنها وإن راقت للعين بزخرفها وأبهجت النفس بتشكيلها لا تجامعهما في صفة الحياة.
ب. وبجانب ذلك فإن تنوع النباتات واختلاف صنوف الشجر مما يزيد النفس سرورا والعين قرارا فلذلك خصت دار الثواب بهذا الاسم وهي ذات مراتب متفاوتة تفاوت أصحابها في الأعمال.
17. الجريان سرعة سيلان الماء ويطلق على العدو السريع من الإنسان وغيره، ورأى العلامة ابن عاشور أنه موضوع للعدو السريع، وأن إطلاقه على سيلان الماء مجاز، والشائع خلاف ما قال.
18. الأنهار جمع نهر ـ بالتحريك ـ وهي اللغة الفصحى، وقد تسكن الهاء، ويدل على فصاحة التحريك، قوله تعالى: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾، ويلائمه الجمع على أنهار، لأن أفعال جمع لكل اسم ثلاثي إلا ما كان مفتوح الفاء ساكن العين فيجمع على أفعل كأنهر ولم تأت هذه الصيغة في القرآن وكفى بذلك دليلا على رجحان التحريك.
19. أصل النهر السعة ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أنهر الدم) أي وسع الجرح حتى أسال الدم، وسمي به المجرى الواسع للماء، وهو فوق الجدول ودون البحر، ومنهم من يرى أنه الماء الجاري نفسه، وعلى الأول فإسناد الجريان إليه من باب المجاز العقلي للملابسة بين الماء ومجراه، ويجوز أن يكون من باب المجاز اللغوي والعلاقة إطلاق اسم المحل على الحال وعلى الثاني فالإسناد حقيقي.
20. جريان الماء بين المروج الخضراء مما يضاعف بهجة النفس وقرة العين وسرور الخاطر، فما بالك إذا كانت المروج ـ من حسن الشكل وبديع المنظر ـ بحيث لم تر مثل حسنها عين، ولا يتصور جمالها خيال، وكانت المياه تنساب على تراب المسك والكافور، وتتدفق على أحجار الدر والياقوت، فإنها دار الخلود التي يصف الله تعالى ما فيها بقوله: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وفي الحديث القدسي: أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، وذكر أن أنهار الجنة تجري مطردة في غير أخاديد وذلك مما يضاعف بهجة النفوس بها وسرور الخاطر برونقها.
21. مما يستغرب منه توقف الإمام محمد عبده عن تفسير حقيقتي الجنة والنار؛ هل هما بمعناهما المفهوم عند الناس، أو أن لهما حقيقة غير ما يتصور، وبنى عليه جواز أن يكون ذكر الأنهار ترشيحا للجنات التي أريد بها التشبيه، وحاصل كلامه أنه من المحتمل أن يكون المراد بالأنهار غير المعنى المتبادر، وأن لا تكون هناك جنات ولا أنهار بحسب معناها المفهوم عندنا، وأن يكون ما هناك حقيقة أخرى شبهت بالجنات والأنهار، وتعقبه السيد رشيد رضا بأنه لو لم يرد في هذا المقام إلا ذكر الجنة أو الجنات لوجب التفويض وامتنع الترجيح، أما وقد ذكر في آيات أخرى أنواع من الشجر المثمر والثمرات فقد تعين ترجيح الشق الثاني وإلا كنا هربنا فيما يتعلق بعالم الغيب من معاني الألفاظ إلى تأويلات الباطنية المعطلين للحقائق الظاهرة التي تدل عليها الألفاظ.
22. جريان الأنهار من تحتها هو انسيابها تحت تلك الأشجار الباسقة الزاهية وتدفقها تحت قصورها البهية العالية.
23. الظاهر أن ﴿آلَ﴾ في الأنهار للجنس، وقيل إنها للعهد والمعهود ما سبق من وصفها في سورة القتال، وذلك قوله تعالى: فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمرة لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى)، وهو مبني على أن آية القتال نزلت بمكة، ولست أدري ما هو دليلهم على ذلك، فإن جل أئمة التفسير يقولون إن سورة القتال نزلت بالمدينة، وذلك واضح من نفس السورة، على أن أكثر الآيات المكية الواصفة للجنة وأنهارها ذكرت فيها الأنهار معرفة.
24. جوّز الزمخشري أن تكون (أل) سادّة مسد الإضافة فيراد بها أنهارها، وأورد عليه بأنه مذهب كوفي، وتعقب ابن عاشور هذا الإيراد بأن الزمخشري لم يرد أن (أل) عوض عن المضاف إليه، فإنه بنفسه قد أباه في تفسير قوله تعالى ﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾، وإنما أراد أن الإضافة واللام متعاقبتان هنا، وليس ذلك صالحا في كل موضع، ورأى ابن عاشور من ذلك أن مذهب الكوفيين مقبول، وأنهم لم يريدوا إلا بيان حاصل المعنى من ذلك التعريف، فإن تقدير المضاف إليه هو الذي جعل المضاف المذكور كالمعهود، فأدخلت عليه لام التعريف العهدي، غير أنه اختار كون الداعي إلى تعريف الأنهار التفنن لسبق تنكير جنات.
25. من فضل الله على عباده أن جعل مثوبتهم في الدار الآخرة من جنس ما ألفوه في الدنيا من صنوف النعم وأنواع الملذات، فإن النفس البشرية إلى مألوفها أميل، وفي معروفها أرغب، والإنسان بمروره بالدنيا يكتسب معارف جمة تتعلق بشئون الحياة، فذا شوق إلى عهده فيها مما يميل إليه طبعه، وترغب فيه نفسه كان ذلك أسرع في التأثير عليه مما لو كان تشويقه إلى ما لم يعهد له مثيلا.
26. هذا مع التفاوت الكبير والبون الشائع بين نعيم الدنيا وملذاتها، وما أعده الله سبحانه في الدار الآخرة للمتقين من جنس هذا النعيم وصنوف تلك الملذات، فما في الدنيا لا يعد شيئا بجانب ما في الآخرة ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
27. جملة ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ وصف لجنات، ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا﴾ وصف ثان، ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا لبيان حالهم في هذه الجنات لأن ذكر الجنات مشعر بالثمار، فيمكن للسامعين أن يتساءلوا عن كيفية طريقة انتفاعهم بثمارها؟ فيجابوا بذلك.
28. الظاهر أن ﴿مِنْ ثَمَرَةٍ﴾ بدل من قوله ﴿مِنْهَا﴾ لجواز قول القائل: أكلت من حديقة فلان من تفاحها أو من رمانها، وهو بدل بعض من كل ويجوز أن يكون بدل اشتمال و ﴿رِزْقًا﴾ مفعول ثان لرزقوا وليس مفعولا مطلقا كما قال بعض المفسرين.
29. ﴿قَالُوا﴾ جواب للشرط المفهوم من ﴿كُلَّمَا﴾ ومعنى ذلك أنهم إذا جيئوا بشيء من فاكهتها ظنوه هو عين ما رزقوه من قبل؛ لما بين شكليهما من التشابه، ومرادهم ما رزقوه من قبل في الحياة الدنيا، حسبما روى ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وآخرين من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ورواه عبد بن حميد عن علي بن زيد وقتادة ورجحه ابن جرير والزمخشري ويعني ذلك أن ثمار الجنة شبيهة بثمار الدنيا من حيث الأشكال وإن تباينت في لذاتها.
30. علل الزمخشري هذا التشابه بأن الإنسان آنس بمألوفه وأميل إلى معهوده، فإذا رأى ما لم يألف ربما نفر عنه طبعه وعافته نفسه، ولأنه ربما إذا رزق شيئا من جنس ما كان له به عهد، ورأى فيه مزية ظاهرة بالتفاوت بينه وبين ما سبق له به العهد، ضاعف ذلك ابتهاجه واستثار استغرابه واستعجابه، وأدرك حقيقة النعمة فيه، وتحقق مقدار النعمة به، بخلاف ما إذا كان جنسا غير معهود له فإنه ربما يحسبه أن ذلك الجنس لا يكون إلا بذلك المقدار، فلا يدرك عظم النعمة به تمام الإدراك، فإذا رأى أحد رمانة في الجنة تشبع السكن وقد عهد جنسها في الدنيا لا يتجاوز أكبره حد البطيخة الصغيرة، ورأى النبق في دار الآخرة كقِلال هَجَر، وقد عهد جنسه في الدنيا لا يتجاوز حجمه الفلكة، ونحو ذلك إذا ما رأى الشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام وهو لا يقطعه مع ما عهده من مقادير أشجار الدنيا، كان ذلك أعمق لسروره وأبلغ في استغرابه مما لو لم يتقدم له بجنس ذلك عهد.
31. استدلّ ابن جرير لصحة هذا المذهب بما يدل عليه قوله: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا﴾ من تكرار هذا القول منهم بتكرر رزقهم، وصدقه على أول مرة يؤتون فيها بهذا الرزق، إذ لو كان المراد بقولهم ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ ما تقدم لهم من رزقهم بثمار الجنة لم يصدق ذلك على المرة الأولى، فإنهم فيها غير عاهدين شيئا من ثمارها، وإنما عهدهم بثمار الدنيا، وعليه فالمضاف إليه الذي قطعت عنه ﴿قَبْلِ﴾ هو دخول الجنة، وأما تكرار هذا القول منهم بعد المرة الأولى من دخولها؛ فقد حمله الزمخشري على فرط استغرابهم مما يرون.
32. ذهب فريق إلى أن المراد بقولهم: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ قبل تلك المدة منذ دخولهم الجنة، وهو يعني تشابه ثمار الجنة، وقد أخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي كثير وعضد بقوله تعالى: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ وقد روى معنى ذلك ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة، إذ فسروه أنه متشابه في اللون والمرأى مع اختلافه في الطعم، وأُيِّدَ بأن السعيد الذي يرزق من ثمار الجنة لا يلزم ـ بل لا يمكن عادة ـ أن يكون على علم في الدنيا بجميع صنوف فواكهها، مع أن الله تعالى يقول في وصف الجنتين: ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ .
33. وجه ابن عاشور هذا الاتحاد في أشكال فواكه الجنة مع اختلافها في الدنيا؛ بأن الاختلاف في هذه الدار ناشئ من اختلاف الأمزجة والتراكيب بخلاف موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري ويحتمل أن ذلك لتعجيبهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر ثم قال: وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق)، وأصحاب هذا القول يضعفون القول الأول لبعد أن يقصدوا بقولهم ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ ثمار الدنيا كلما تكرر رزقهم وأن لا يعتادوا هذا النعيم الأخروي بحيث ينظرونه بما تقدم في الدنيا ويحملون هذا التكرار على ما بعد المرة الأولى من دخولهم الجنة، وتخصيص تلك المرة مفهوم من القرائن.
34. الظاهر أن ثمار الجنة متنوعة كما تفيده الأحاديث وهو الذي يقتضيه قوله تعالى ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾، وإنما كل جنس من الفاكهة يختلف طعمه بين مرة وأخرى، فإن اختلاف طعوم الفاكهة الواحدة أدعى إلى الاستغراب وأكثر متعة من اتحاد جميع الفواكه في الشكل مع اختلافها في المذاق، وبهذا يتبين المراد من قولهم: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ فإنهم كلما أتوا بفاكهة وجدوها من حيث الشكل قريبة مما رزقوه من نوعها من قبل فإذا أكلوها وجدوا لها طعما آخر أما أن يرددوا في كل مرة تشبيه ما يؤتونه بما رزقوه في الدنيا فبعيد، لما تقدم من عدم إحاطة أحد بجميع فواكه الدنيا، لأن الله لم يجعل كل جزء من أرضها صالحا لنبت كل الفواكه، وإنما جعل أجزاءها مختلفة النباتات بحسب اختلاف المناخ ولأنهم إذا حسبوا ـ أول مرة يرزقون فيها من فاكهة الجنة ـ أنها مثل فاكهة الدنيا، ثم أدركوا ما بينها من تفاوت فليس من المعقول أن يعودوا فيما بعدها إلى ترداد هذا القول فإذا أعيدت إليهم تلك الفاكهة نفسها علموا التفاوت بتجربتهم السابقة وان أوتوا غيرها علموه بالقياس على ما سبق تجربته.
35. وقيل: مرادهم بقولهم ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ هذا الذي وعدنا في دار الدنيا بأن نرزقه في الآخرة، وهو بعيد، وقيل: مرادهم به ما وفقوا له من الأعمال الصالحة في الدنيا فكانت سببا لهذا الجزاء في الجنة، ولا يخفى ما فيه من التعسف وقد عده قطب الأئمة من غلو المتصوفة الذين يحملون ألفاظ القرآن مالا تتحمله من المعاني.
36. فسر الحسن وقتادة التشابه بكونه خيار لا رذل فيه، رواه عنهما ابن جرير وعبد بن حميد، ومعنى ذلك أن ما يكون في فواكه الدنيا من التفاوت بين جيدها ورديئها لا يكون في فواكه الجنة، فهي كلها جيدة لا رديء فيها، وهو ظاهر.
37. وقيل: يراد بالتشابه تشابه أسماء فواكه الجنة وفواكه الدنيا دون مسمياتها، لما رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا أسماء) ويبعده أن الظاهر من التشابه في الآية تشابه الذوات لا الأسماء.
38. ذهب الزمخشري إلى أن المراد به تشابه المرزوق في الدارين، وبه قال الفخر الرازي، وأبو السعود، والألوسي وقطب الأئمة، واستشكل ذلك أبو حيان لأن الحديث عن رزق الجنة، ولأن الضمير في قوله (به) مفرد لا يصح أن يكون عائدا إلى المرزوقَين، وأجاب عن ذلك الألوسي في روح المعاني، وقطب الأئمة في الهيميان بأنه من باب الكناية الإيمانية ويعنيان بذلك أن الحديث وإن كان خاصا برزق الجنة إلا أن اقترانه بعروض الإشارة إلى رزق الدنيا هو الذي سوغ رجوع الضمير إليهما معا، وقولهم هذا مبني على ما تقدم، من أن المراد بما رزقوه من قبل ما أوتوا في الدنيا، وقد علمت ما فيه من الضعف، ولو سلم أن ذلك صحيح فيستبعد جدا ـ كما قال أبو حيان ـ أن يعود الضمير إلى رزقي الدنيا والآخرة مع أن الحديث عن رزق الآخرة.
39. لسائر المفسرين أقوال في هذا التشابه منهم من قال هو في اللون فقط، ومنهم من قال هو في الشكل، ومنهم من قال في أحدهما وفي الطعم، ومنهم من قال هو فيهما معا، وهي أقوال ليس عليها من دليل.
40. الظاهر أن جملة ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ حال من ﴿قَالُوا﴾ مفيدة لسبب هذا القول، واعتبارها حالية يستلزم إضمار قد، ونحوه كثير في القرآن، نحو ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ أي وقد كنتم، وقوله: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا﴾ أي وقد قعدوا، وقيل: هي للتذييل الذي يراد به التقرير والتأكيد كما في قوله عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ بعد أن حكى عن بلقيس قولها: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾، وقيل هي صفة ثالثة لجنات، ويضعفه عدم وجود الرابط بين الصفة والموصوف.
41. قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ يراد به أنهن منزهات من جميع الأدناس الحسية والمعنوية مما يكون في الدنيا خاصا بالنساء أو مشتركا بينهن وبين الرجال، فجميع الأقذار التي تفرزها الطبيعة في نساء الدنيا، أو فيهن وفي رجالهن نزهت منها نساء الآخرة، وكذلك ما يكون من لؤم الطباع مما تعد قذارته معنوية كالغل والكيد والحسد نزه الله تعالى منه نساء الآخرة، سواء كن من الصالحات في الدنيا كما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في تفسير الأزواج هنا، أو كن من الحور العين كما قال غيره.
42. الظاهر أن المراد بالأزواج هنا ما يعم النوعين لكمال أنس المؤمنين بهما معا، ولتبرئة الله سبحانه الصالحات من نساء الدنيا في الجنة من كل العيوب الجسدية والنفسية وذلك تطهير لهن مما كن متلوثات به في الدنيا.
43. اللاتي ينشأن هناك، فتنشئتهن من أول الأمر مطبوع طبع السلامة من هذه العيوب، وجاءت أحاديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بيان أحوال نساء الجنة منها الصحيح ومنها الحسن، ومنها دون ذلك وهي صريحة في أن الاتصال بين الزوجين يتم يوم القيامة على نحو ما يكون في الدنيا، وإن كان أكمل في اللذة وأبعد من الأذى.
44. توقف محمد عبده ـ كعادته في الأمور الغيبية ـ عن تفسير الحكمة المطلوبة من الحياة الزوجية في الآخرة، نظرا إلى أن الحكمة المطلوبة من الزواج في الدنيا هي التناسل وإنماء النوع؛ مع عدم ورود أن في الآخرة تناسلا، وبناء على ذلك يرى أن لذة المصاحبة الزوجية هناك أعلى، وحكمتها أسمى يُؤمَن بها ولا يُبحث عن حقيقتها.. والحق أن الحكمة في ذلك معروفة، وهي لذة الاتصال بين الجنسين كما صرحت به الأحاديث النبوية، وأومت إليه الآيات القرآنية والإنسان يوم القيامة لا يتحول عن إنسانيته وقد وفر الله لعباده المؤمنين في دار كرامته جميع ما تتوق إليه أنفسهم في الدنيا من متع الحياة ونعيمها، فما يؤتونه في الدنيا إنما هو بقدر هذه الحياة المحدودة وبقدر طبيعتها المقيدة التي تختلف تمام الاختلاف عن طبيعة الحياة الأخروية المطلقة فالفارق بين لذات الدارين كالفارق بين البقاء فيهما.
45. بما أن النعمة وإن كملت، واللذة وإن تناهت ـ إن لم يأمن صاحبها زوالهما كان ذلك من أشد المنغصات عليه ـ جيء هنا بما يستأصل هذا الخوف وهو إثبات خلودهم في الجنة ونعيمها، فالحياة الأخروية لا انقطاع لها، ولا يكدر أمنها خوف، ولا يهدد شبابها هرم، ولا صحتها سقم، ولا غناها فقر، ولا نعيمها بؤس.
46. الخلد يطلق على المكث الدائم الذي لا ينقطع وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾، وهو المراد في هذه الآية ونظائرها من آيات الوعد والوعيد.
47. أخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها، ولو قيل لأهل الجنة إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا ولكن جعل لهم الأبد)
48. يطلق الخلد على المكث الطويل من غير دوام، وهو وارد في كلام العرب نثره وشعره، واختلف فيم هو الأصل:
أ. فذهب الزمخشري، وابن عطية، والقرطبي، والشوكاني إلى أن الخلد موضوع للدوام الأبدي، واستعماله في غيره مجاز.
ب. وذهب الفخر الرازي وأبو حيان، وأبو السعود، وقطب الأئمة إلى أنه موضوع للمكث الطويل مع غض النظر عن دوامه أو انقطاعه، وعليه فهو من باب المشترك الذي يتعين ما يراد به بالقرينة الدالة عليه، وجعل هؤلاء دوام الثواب والعقاب بالدلائل الأخرى من الكتاب والسنة غير لفظة الخلود، نحو قوله تعالى في الذين آمنوا وعملوا الصالحات: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، حيث قرن الخلود بالتأبيد في الموضعين، ومثل ذلك ما يستفاد من الأحاديث الصحيحة الصريحة في خلود أهل الدارين فيهما.
49. مهما يكن الأصل في معنى الخلد فإن خلود الأبرار في الجنة والفجار في النار خلود أبدي للإجماع على بقاء الدارين، والأدلة القاضية على أن حياة سكانها حياة أبدية وخالفت في هذا طائفتان:
أ. أولهما الجهمية، مستندين في ذلك إلى شبهتين:
• الأولى أن دوام المخلوقين مناف لاتصاف الله بالأخروية، فإن من أسماء الله الأول والآخر، ومعنى أوليته سبقه على كل موجود، وهكذا يلزم أن يكون معنى آخريته بقاؤه بعد كل موجود.. وأجيب عنها بأن دوام حياة المخلوقين في الدار الآخرة لا ينافي آخريته تعالى، لاختلاف دوامهم عن دوامه، فإن دوامه ذاتي، ودوامهم بإدامته إياهم، فلذلك كان حقيقيا بصفة الأخروية دونهم.
• الثانية: أن أنفاس أهل الدارين إما أن تكون معلومة له تعالى وذلك يعني أنها محصورة وحصرها لا يتفق مع دوامهم، وإما أن تكون غير معلومة وهو لا يتفق مع وصفه أنه بكل شيء عليم.. وأجيب عنها بأن استمرار أنفاسهم لا ينافي إحاطة علمه سبحانه بها، فإن علمه ذاتي ليس كعلم المخلوقين ولا يصح أن يقاس عليه.
ب. ثانيتهما: أصحاب النظرة المادية القائلون بتعذر بقاء الأجسام لأنها مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية فهي معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال.. وأجيب: بأن كونه تعالى قديرا على كل شيء ينفي هذا الإشكال من أصله، إذ ليس ببعيد أن يعيد الأبدان بطبيعة أخرى لا تتحلل معها أو أن يجعلها كلما تحلل منها شيء عوضت عنه ببديل منه.. ومن أيقن أن الله قدير على كل شيء تضاءلت هذه الشبهة أمام ناظريه حتى تتلاشى، فإن الله الذي ركب الأجسام في هذه الدنيا من الأجزاء المتضادة قادر على تركيبها يوم القيامة غير متضادة، ولا يقاس ما في عالم الغيب على ما في عالم الشهادة، ولا البقاء المطلق على البقاء المحدود، فإن الله يطبع كل شيء بما يتلاءم مع ما أراده له، وللدار الآخرة طبائع تكوينية تختلف تمام الاختلاف عن الطبائع المشاهدة المألوفة وما يدرينا لعل المتضاد في الدنيا يكون غير متضاد يوم القيامة.
__________
(1) تفسير الخليلي: 2/375.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في كثير من الآيات القرآنية يقترن ذكر الإيمان بذكر العمل الصالح، حتى كأن الاثنين متلازمان دونما افتراق، والحق كذلك، لأن الإيمان والعمل يكمل بعضها الآخر.
2. لو نفذ الإيمان إلى أعماق النفس لتجلت آثاره في الأعمال حتما، مثله كمثل مصباح لو أضاء في غرفة لشع نوره من كل نوافذ الغرفة، ومصباح الإيمان كذلك لو شعّ في قلب إنسان، لسطع شعاعه من عين ذلك الإنسان وأذنه ولسانه ويده ورجله، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، ويقول: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ .. فالإيمان بمثابة جذر شجرة والعمل الصالح ثمرتها، ووجود الثمر السليم دليل على سلامة الجذر، ووجود الجذر السليم يؤدي إلى نموّ الثمر الطيب.
3. من الممكن أن يصدر عمل صالح أحيانا عن أفراد ليس لهم إيمان، ولكن ذلك لا يحدث باستمرار حتما. فالذي يضمن بقاء العمل الصالح هو الإيمان المتغلغل في أعماق وجود الإنسان، الإيمان الذي يضع الإنسان دوما أمام مسئولياته.
4. بعد الإشارة إلى ثمار الجنّة المتنوعة تقول الآية: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾، وقد ذكر المفسرون لهذا المقطع من الآية تفاسير متعددة:
أ. قال بعضهم: المقصود من قولهم: ﴿هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ هو أن هذه النعم أغدقت علينا بسبب ما أنجزناه من عمل في الحياة الدنيا، وغرسنا بذوره من قبل.
ب. وقال بعض آخر: عندما يؤتى بالثمار إلى أهل الجنّة ثانية يقولون: هذا الذي تناولناه من قبل، ولكنهم حين يأكلون هذه الثمار يجدون فيها طعما جديدا ولذّة أخرى، فالعنب أو التفاح الذي نتناوله في هذه الحياة الدنيا مثلا له في كل مرّة نأكله نفس طعم المرّة السابقة، أمّا ثمار الجنّة فلها في كلّ مرّة طعم وإن تشابهت أشكالها، وهذه من امتيازات ذلك العالم الذي يبدو أنه خال من كل تكرار!
ج. وقال آخرون: المقصود من ذلك أنهم حين يرون ثمار الجنّة يلقونها شبيهة بثمار هذه الدنيا، فيأنسون بها ولا تكون غريبة عليهم، ولكنهم حين يتناولونها يجدون فيها طعما جديدا لذيذا.
د. ويجوز أن تكون عبارة الآية متضمنة لكل هذه المفاهيم والتفاسير، لأن ألفاظ القرآن تنطوي أحيانا على معان.
5. ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾، أي متشابها في الجودة والجمال. فهذه الثمار بأجمعها فاخرة بحيث لا يمكن ترجيح إحداها على الأخرى، خلافا لثمار هذا العالم المختلفة في درجة النضج والرائحة واللون والطعم.
6. آخر نعمة تذكرها الآية هي نعمة الأزواج المطهرة من كل أدران الروح والقلب والجسد.
7. ممّا يلفت النظر في هذه الآية أن الوصف الوحيد الذي استعمله القرآن لمدح الأزواج في جنّات النعيم هو أنّها (مطهرة)، وهي إشارة إلى أول شرط في الزوجة هو (الطهر)، وكل ما سواه من الشروط والأوصاف ثانوي.. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: إيّاكم وخضراء الدّمن. قيل: يا رسول الله! وما خضراء الدّمن؟ قال المرأة الحسناء في منبت السّوء)
8. أحد منغّصات نعم الدنيا زوالها، فصاحب النعمة يقلقه زوال هذه النعمة، ومن هنا فلا تكون هذه النعم عادة باعثة على السعادة والاطمئنان. أمّا نعم الجنّة ففيها السعادة والطمأنينة لأنها خالدة لا يعتريها الزوال والفناء، وإلى هذه الحقيقة تشير الآية في خاتمتها وتقول: ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ .
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/132.
9. الله وضرب الأمثال
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈9⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 26 ـ 27]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين؛ قوله تعالى ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾، وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ يعني: المنافقين، ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ يعني: المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم؛ لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له، وأنه لما ضربه له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به، و ﴿يَهْدِي بِهِ﴾ ـ يعني: بالمثل ـ كثيرا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم، وإيمانا إلى إيمانهم؛ لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا، وإقرارهم به، وذلك هداية الله لهم به(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٢٣.
(2) ابن جرير: ١/٤٣٣.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن الله ذكر آلهة المشركين، فقال: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا﴾ [الحج: ٧٣]، وذكر كيد الآلهة، فجعله كبيت العنكبوت، فقالوا: أرأيتم حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء كان يصنع بهذا!؟ فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ الآية(1).
2. روي أنّه قال: لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود، وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله هذه الآية(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾، يعني: ما أمر الله به من الإيمان بالنبيين كلهم(3).
4. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ إياكم ونقض هذا الميثاق، فإن الله قد كره نقضه، وأوعد فيه، وقدم فيه في آي من القرآن تقدمة ونصيحة وموعظة وحجة، ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق، فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليوف به الله(4).
__________
(1) الواحدي في أسباب النزول: ص٢٣ ـ: ٢٤.
(2) الواحدي في الوسيط: ١/١٠٧.
(3) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٣٠.
(4) ابن جرير: ١/٤٣٩.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ هي ست خصال في المنافقين، إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصائص: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٧١.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، يعني: الأمثال كلها؛ صغيرها وكبيرها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ يؤمن به المؤمنون، ويعلمون أنه الحق من ربهم، ويهديهم الله به(1).
3. روي أنّه قال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ يعرفه المؤمنون فيؤمنون به، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به(2).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص١٩٨.
(2) الدرّ المنثور: عبد بن حميد.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لما نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ [الحج: ٧٣] المشركون: ما هذا من الأمثال فيضربـ أو: ما يشبه هذا الأمثال ـ فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، لم يرد البعوضة، إنما أراد المثل(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، أي: يعلمون أنهم ابتلوا بذلك؛ ليعلم الله من يعرف أمره، ويصدق قوله، ويستيقن بما أنزل الله من كتابه أنه حق، وأن ما قال كما قال(2).
__________
(1) علّق ابن أبي حاتم: ١/٦٩ نحوه.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٦٩.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، أي: إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر منه شيئا، قل منه أو كثر، إن الله تعالى حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، أي: إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر منه شيئا، قل منه أو كثر(1).
3. روي أنّه قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي: يعلمون أنه كلام الرحمن، وأنه الحق من الله، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾(2).
4. روي أنّه قال: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ فسقوا؛ فأضلهم الله بفسقهم(3).
5. روي أنّه قال: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ الرحم، والقرابة(4).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٢٤.
(2) الدارمي: ٢/٥٣٢.
(3) ابن جرير: ١/٤٣٤.
(4) ابن جرير: ١/٤٤١، والدرّ المنثور: عبد بن حميد.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) أنّه قال: ( ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي فما دونها في الصّغر.. وهذا من الأضداد.. يقال ما هو أكبر، لما هو أصغر(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 80.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ من الأرحام(1).
2. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ هو ما عهد عليهم في القرآن، فأقروا به، ثم كفروا، فنقضوه(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ يعملون فيها بالمعصية(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٧٢.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٧١.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ فإذا جاءت آجالهم وانقطعت مدتهم صاروا كالبعوضة، تحيا ما جاعت، وتموت إذا رويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب لهم هذا المثل إذا امتلأوا من الدنيا ريا أخذهم الله، فأهلكهم، فذلك قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤](1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ هذا مثل ضربه الله للدنيا، إن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن، إذا امتلأوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك، قال ثم تلا ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٤٤](2).
3. روي أنّه قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، أي: أن هذا المثل الحق من ربهم، وأنه كلام الله، ومن عنده(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٢٤.
(2) ابن جرير: ١/٤٢٣.
(3) ابن جرير: ١/٤٣١. وابن أبي حاتم: ١/٦٩.
ابن حيان:
روي عن مقاتل بن حيان (ت 149 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ يعني: ميثاقه الأول الذي أخذ عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا، ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويصدقوه، فكفروا، ونقضوا الميثاق الأول(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ في محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والنبيين والمرسلين من قبله، أن يؤمنوا جميعا، ولا يفرقوا بين أحد منهم(2).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٧١.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٧٢.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾، يعني: إن الله تعالى لا يمنعه الحياء أن يصف للخلق مثلا ما؛ بعوضة فما فوقها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني: يصدقون بالقرآن ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾ أي: هذا المثل هو ﴿الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾(1).
3. روي أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ فنقضوا العهد الأول، ونقضوا ما أخذ عليهم في التوراة ـ أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا، وأن يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، وكفروا بعيسى وبمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وآمنوا ببعض الأنبياء، وكفروا ببعض(1).
4. روي أنّه قال: نظيرها في الرعد: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ من إيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٩٥.
يحيى بن سلام:
روي عن يحيى بن سلام (ت 200 هـ) أنّه قال: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ هو الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، وتفسيره في سورة الأعراف(1).
__________
(1) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٣٠.
المرتضى:
قال الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ): ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ الاستحياء من الله عز وجل ليس من طريق الخجل ولا الحصر، ولا يتوهم ذلك من له دين أو معرفة بالله أو يقين، وإنما المعنى في ذلك: أنه ـ عز وجل ـ لا يرى في التمثيل للحق والصواب والصدق بما صح من الأمثال ـ عيبا ولا خطأ، ولا مقالا لأحد من أهل الكفر والضلال؛ بل ذلك عند الله تبارك وتعالى صواب وصدق وحسن(1).
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/30.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، كأن هذا ـ والله أعلم ـ يخرج جوابا على أثر قول قاله الكفرة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على ما ذكره بعض أهل التأويل ـ فقالوا: ما يستحى ربك أن يذكر البعوض والذباب ونحوها مما يصغر في نفسه، وملوك الأرض لا يذكرون ذلك، ويستحيون؟ فقال عزّ وجل جوابا لقولهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾، لأن ملوك الأرض إنما ينظرون إلى هذه الأشياء بالاستحقار لها، والاستذلال؛ فيستحيون ذكرها على الإنكاف، والأنفة.
2. الله ـ عزّ وجل ـ لا يستحيى عن ذلك؛ لأن الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته في خلق الصغير من الجثة والجسم، أكبر من الكبار منها والعظام؛ لأن الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب، وتركيب ما يحتاج إليه من الفم والأنف والرجل واليد والمدخل والمخرج ـ ما قدروا، ولعلهم يقدرون على ذلك في العظام من الأجسام والكبار منها.. فأولئك لم ينظروا إليها لما فيه من الأعجوبة واللطافة، ولكن نظروا للحقارة، والخساسة أنفا منهم وإنكافا.
3. قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي علموا أن ضرب المثل بما ذكر من صغار الأجسام والجثة حق؛ لما نظروا إلى ما فيها من الأعجوبة والحكمة واللطافة.
4. قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ لم ينظروا فيها لما فيها من الأعجوبة والحكمة، ولكن نظروا للخساسة والحقارة.
5. قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ الآية تنقض على المعتزلة قولهم؛ لأنه جواب قولهم: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ فقال: أراد أن يضل بهذا المثل كثيرا، وأراد أن يهدى به كثيرا، أضل به من علم منه أنه يختار الضلالة، ويهدى به من علم أنه يختار الهدى، أراد من كل ما علم منه أنه يختار ويؤثر.. وهم يقولون: بل أراد أن يهدى به الكلّ، ولكنهم لم يهتدوا.
6. قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ أي ما يضل بهذا المثل إلا الفاسق الذي لا ينظر إلى ما فيها من الأعجوبة واللطافة في الدلالة.
7. عهد الله يكون على وجهين:
أ. عهد خلقة؛ لما يشهد خلقه كلّ أحد على وحدانية الرب؛ كقوله: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]، وكقوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية [الروم: 8]، إنه إن نظر في نفسه وتأمل عرف أن له صانعا وأنه واحد لا شريك له.
ب. عهد رسالة على ألسنة الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ كقوله: ﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾ الآية [المائدة: 12]، وكقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الآية [آل عمران: 187].
8. فنقضوا العهدين جميعا؛ عهد الخلقة، وعهد الرسالة.
9. قوله تعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. يقطعون الإيمان ببعض الرسل وقد أمروا بالوصل؛ كقوله: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ [النساء: 150].
ب. وقيل: يقطعون ما أمر الله أن يوصل من صلة الأرحام.
10. قوله تعالى: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ قيل فيه بوجهين:
أ. يفسدون بما يأمرون في الأرض بالفساد؛ كقوله: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ [التوبة: 67].
ب. وقيل: يفسدون، أي يتعاطون بأنفسهم في الأرض بالفساد؛ كقوله: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ [المائدة: 33، 63].
11. قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ يحتمل وجهين:
أ. خسروا لما فات عنهم، وذهب من المنى والأماني في الدنيا.
ب. وروى عن الحسن أنه قال في قوله: ﴿هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ : أي قذفوا أنفسهم ـ باختيارهم الكفر ـ بين أطباق النار؛ فذلك هو الخسران المبين.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/407.
العياني:
روي عن الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ : أي لا يستحي من ذكر الحق، وضرب الأمثال في الصدق.
2. نفى عن نفسه الحياء والخجل الذي يفعله من لا خير فيه، يخاف أحدهم من تعنيف الناس إن تكلم بحق، فيمسكه خوفاً لهم ويصير عند ذلك إلى إرادتهم، ويكون من حيث لا يشعر متصرفاً تحت مشيئتهم فنفى عز وجل عن نفسه ذلك، وأخبر أنه لا يستثقل من الحكمة ذكر البعوضة التي هي عندهم لا تذكر، ولا يلتفت إليها الطغام ولا تنظر، بل يستخف بها عندهم وتهان وتحقر.
3. معنى قوله: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ :
أ. أي فما دونها فيما روي.
ب. وقيل: إن فوق كلمة تقوم مقام دون، لأنهما من حروف الصفات.
4. معنى قوله عز وجل: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ يريد عز وجل: فأما أولياء الله فيعلمون أنه حكيم لا يحقر من الحكمة حقيراً، ولا يترك من الصواب شيئاً كثيراً ولا يسيراً.
5. أما الذين كفروا بآيات الله وجهلوا حكمته، فيقولون ماذا أراد الله بهذه الأسباب الحقيرة وذكرها، وما له لم يتكبر وينزه نفسه عن ضرب الأمثال بها، ما هذا من الله، ولا هذا إلا قول محمد وتوهمه، وكَذَبَ أعداءُ الله في قولهم، وأعظموا الفرية على دين الله بكفرهم.
6. رد الله عليهم سبحانه في قولهم فقال عز وجل: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ : أي يبين ضلال كثير من أعدائه، بذلك الكلام الذي أنكروا، ويسميهم بالضلالة لما ضلوا وكفروا، ويهدي به كثيراً من الناس إذا فكروا واعتبروا بما فيه من الحكمة وتدبروا.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 271.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح.. تفسيره في الآية يجوز أن يكون بمعنى يترك ولا يخشى ولا يمتنع.
2. في قوله: ﴿مَا بَعُوضَةً﴾ تأويلان:
أ. أحدهما أن تكون بمعنى الذي.
ب. الثاني أن تكون (ما) زائدة كما قال النابغة:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا... إلى حمامتنا أو نصفه فقد
3. ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ في:
أ. الكبر.
ب. ويحتمل أن يكون فما فوقها أي فما دونها في الصغر لأن الغرض المطلوب هو الصغر.
4. ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ أي يضل بالتكذيب بأمثاله كثيراً ويهدي بالتصديق بها كثيراً، ويحتمل أن يكون امتحنهم بأمثاله فضل بها قوم فجعلها ضلالاً لهم واهتدى آخرون فجعلها هداية لهم.
5. النقض هو ضد الإبرام، والعهد فيه تأويلان:
أ. أحدهما الوصية.
ب. الثاني الموثق.
6. الميثاق ما وقع به التوثق والعهد هو وصية الله تعالى إلى خلقه وأمره إياهم بطاعته ونهيه إياهم عن معصيته.
7. ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ الذي أمر الله بوصله هو:
أ. رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقطعوه بالتكذيب والعصيان.
ب. ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد به الرحم والقرابة.
ج. ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون عاماً في جميع ما أمر الله بوصله
8. ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ وفي وجه فسادهم في الأرض تأويلان:
أ. أحدهما قطعهم للطريق وإخافتهم السبيل.
ب. الثاني دعواهم الناس إلى الكفر.
9. قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ :
أ. أصل الخسار النقصان ومنه قول جرير:
إن سليطاً في الخسار إنه... أولاد قوم خلفوا إنه
عنى بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم.
ب. ويحتمل أن يكون الخسار بمعنى الهلاك فيكون التقدير فأولئك هم الهالكون، وكلما نسبه الله سبحانه من الخسار إلى المسلمين فإنما أراد به الذنب وكلما نسبه إلى غيرهم فإنما أراد به الكفر.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/36.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في المثل ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه وارد في المنافقين، حيث ضرب لهم المثلين المتقدّمين: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾، وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾، فقال المنافقون: إن الله أعلى من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس.
ب. الثاني: أن هذا مثل مبتدأ ضربه الله تعالى مثلا للدنيا وأهلها، وهو أن البعوضة تحيا ما جاعت، وإذا شبعت ماتت، كذلك مثل أهل الدنيا، إذا امتلئوا من الدنيا، أخذهم الله تعالى عند ذلك، وهذا قول الربيع بن أنس.
ج. الثالث: أن الله عزّ وجل حين ذكر في كتابه العنكبوت والذباب وضربهما مثلا، قال أهل الضلالة: ما بال العنكبوت والذباب يذكران، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول قتادة، وتأويل الربيع أحسن، والأول أشبه.
2. اختلف في معنى قوله: ﴿لَا يَسْتَحْيِي﴾ :
أ. معناه لا يترك لا يخشى.
ب. لا يمتنع، وهذا قول المفضل.
3. أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبح.
4. البعوضة: من صغار البقّ سميت بعوضة، لأنها كبعض البقّة لصغرها.
5. في قوله: ﴿مَا بَعُوضَةً﴾ ثلاثة أوجه:
أ. أحدها: أن (ما) بمعنى الذي، وتقديره: الذي هو بعوضة.
ب. الثاني: أن معناه: ما بين بعوضة إلى ما فوقها.
ج. الثالث: أن (ما) صلة زائدة، كما قال النابغة:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا... إلى حمامتنا ونصفه فقد
6. ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ فيه تأويلان:
أ. أحدهما: فما فوقها في الكبر، وهذا قول قتادة وابن جريج.
ب. والثاني: فما فوقها في الصغر، لأن الغرض المقصود هو الصغر.
7. في قوله عزّ وجل: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: معناه بالتكذيب بأمثاله، التي ضربها لهم كثيرا، ويهدي بالتصديق بها كثيرا.
ب. الثاني: أنه امتحنهم بأمثاله، فضلّ قوم فجعل ذلك إضلالا لهم، واهتدى قوم فجعله هداية لهم.
ج. الثالث: أنه إخبار عمّن ضلّ ومن اهتدى.
8. النقض، فهو ضد الإبرام، وفي العهد قولان:
أ. أحدهما: الوصيّة.
ب. والثاني: الموثق.
9. الميثاق ما وقع التوثق به، وفيما تضمنه عهده وميثاقه أربعة أقاويل:
أ. أحدها: أن العهد وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعة، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصية في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك بترك العمل به.
ب. الثاني: أن عهده ما خلقه في عقولهم من الحجة على توحيده وصدق رسله بالمعجزات الدالة على صدقهم.
ج. الثالث: أن عهده ما أنزله على أهل الكتاب [من]، على صفة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والوصية المؤكدة باتباعه، فذلك العهد الذي نقضوه بجحودهم له بعد إعطائهم الله تعالى الميثاق من أنفسهم، ليبينه للناس ولا يكتمونه، فأخبر سبحانه، أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا.
د. الرابع: أن العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، الذي وصفه في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الأعراف: 172].
10. في هذه الكتابة التي في ميثاقه قولان:
أ. أحدهما: أنها كناية ترجع إلى اسم الله وتقديره من بعد ميثاق الله.
ب. الثاني: أنها كناية ترجع إلى العهد وتقديره من بعد ميثاق العهد.
11. في قوله عزّ وجل: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ ثلاثة تأويلات:
أ. أحدها: أن الذي أمر الله تعالى به أن يوصل، هو رسوله، فقطعوه بالتكذيب والعصيان، وهو قول الحسن البصري.
ب. الثاني: أنّه الرحم والقرابة، وهو قول قتادة.
ج. الثالث: أنه على العموم في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل.
12. قوله عزّ وجلّ: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾، في إفسادهم في الأرض قولان:
أ. أحدهما: هو استدعاؤهم إلى الكفر.
ب. الثاني: أنه إخافتهم السّبل وقطعهم الطريق.
13. في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن الخسران هو النقصان، ومنه قول جرير:
إنّ سليطا في الخسار إنّه... أولاد قوم حلفوا افنه
يعني بالخسار، ما ينقص حظوظهم وشرفهم.
ب. والثاني: أن الخسران هاهنا الهلاك، ومعناه: أولئك هم الهالكون.
14. منهم من قال كل ما نسبه الله تعالى من الخسران إلى غير المسلمين فإنما يعني الكفر، وما نسبه إلى المسلمين، فإنما يعني به الذنب.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/92.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿يَسْتَحْيِي﴾ لغة اهل الحجاز وعامة العرب بيائين، وبنو تميم يقولون: بياء واحدة اخصر. كما قالوا: ألم يك، ولا أدر، ومعنى ﴿يَسْتَحْيِي﴾ :
أ. قال بعضهم: إنه لا يخشى ان يضرب مثلا كما قال: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ معناه: تستحيي الناس والله أحق ان تستحييه، فيكون الاستحياء بمعنى الخشية بمعنى الاستحياء.
ب. قال الفضل بن سلمة: معناه لا يمتنع.
ج. قال قوم: لا يترك، وهو قريب من الثاني.
2. أصل الاستحياء: الانقباض عن الشيء، والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح والاستحياء، والانخزال والانقماع، والارتداع متقاربة المعنى وضد الحياء القحة.
3. معنى (الاستحياء) في الآية: انه ليس في ضرب المثل بالحقير عيب يستحيى، وكأنه قال لا يحل ضرب المثل بالبعوضة محل ما يستحيى منه، فوضع قوله: ـ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ الآية.
4. قوله: ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ هو ان يصف ويمثل ويبين، كما قال تعالى ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ معناه وصف لكم كما قال الكميت:
وذلك ضرب أخماس أريدت... لأسداس عسى أن لا تكونا
والمعنى وصف أخماس، وضرب المثل بمثله. يقال: أي ضرب هذا؟ أي من أي جنس ولون، والضروب: الأمثال.
5. المثل: الشبه، ويقال: مِثل ومَثَل، كما قالوا: شِبه وشَبه. كقول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا... وما مواعيده إلا الأباطيل
يعني شبهاً. فمعنى الآية: إن الله لا يستحيي أن يصف شبهاً لما شبه به.
6. من الوجوه الوارد في تأويلها:
أ. روي عن ابن مسعود وابن عباس أن الله تعالى، لما ضرب هذين المثلين للمنافقين، وهو قوله: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾، وقوله: ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ قال المنافقون الله أجل من (أن يضرب مثلا) الى آخر الآية.
ب. قال الربيع بن أنس هذا مثل ضربه الله للدنيا، لأن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا سمنت ماتت فشبه الله تعالى هؤلاء بأنهم إذا امتلئوا أخذهم الله، كما قال تعالى ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ الى آخر الآية ـ الى ان قال ـ ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾
ج. قال قتادة معناه أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها أي لا يستحيي من الحق أن يذكر منه شيئاً ما قل أو كثر.. إن الله تعالى حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال اهل الضلالة ماذا أراد الله من ذكر هذا؟ فانزل الله تعالى ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ الآية.
7. كل هذه الوجوه حسنة، وأحسنها قول ابن عباس، لأنه يليق بما تقدم، وبعده ما قال قتادة، وليس لأحد ان يقول: هذا المثل لا يليق بما تقدم. من حيث لم يتقدم للبعوضة ذكر، وقد جرى ذكر الذباب والعنكبوت في موضع آخر. في تشبيه آلهتهم بها وان يكون المراد بذلك أولى.
8. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ . انما هو خبر منه تعالى انه لا يستحيي تعالى أن يضرب مثلا في الحق من الأمثال: صغيرها وكبيرها، لأن صغير الأشياء عنده وكبيرها بمنزلة واحدة من حيث لا يتسهل الصغير، ولا يصعب الكبير، وإن في الصغير من الأحكام والإتقان ما في الكبير، فلما تساوى الكل في قدرته، جاز أن يضرب المثل بما شاء من ذلك، فيقر بذلك المؤمنون، ويسلمون ـ وان ضل به الفاسقون بسوء اختيارهم ـ وهذا المعنى مروي عن مجاهد.
9. روي عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام انه قال إنما ضرب الله بالبعوضة، لأن البعوضة على صغر خلق فيها جميع ما في الفيل على كبره وزيادة عضوين آخرين. فأراد الله ان ينبه بذلك المؤمنين على لطف خلقه وعجيب عظم صنعه.
10. سؤال وإشكال: أليس تقولون: إن الله لا يضل أحداً، ولا يهدي خلقاً، وإن العباد هم يضلون أنفسهم ويهدونها، وهم يضلون من شاءوا ويهدون من شاءوا، وقد قال الله تعالى: في غير موضع من كتابه نحو قوله: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، ولا يمكنكم ان تقولوا: إن المراد بالإضلال العقوبة والتسمية، لأنه لو قال يضل كثيراً ويهدي كثيراً، كان ذلك ممكناً، لكنه قال ﴿يُضَلُّ بِهِ﴾ و ﴿يَهْدِي بِهِ﴾ والهاء راجعة الى القرآن، والمثل الذي ضربه فيه، ولا يجوز أن يعاقب بالمثل، ولا أن يسمى بالمثل، فعلم بذلك أنه أراد أنه ليس عليهم وجعله حيرة لهم، والجواب:
أ. أول ما في ذلك أنا لا نطلق أن الله لا يضل احداً ولا يهدي احداً، ومن اطلق ذلك، فقد اخطأ.
ب. ولا نقول ايضاً إن العباد يضلون أنفسهم ويهدونها مطلقاً أو يضلون غيرهم ويهدونه، فان إطلاق جميع ذلك خطأ.
ج. بل نقول: إن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ونقول: إن من أضله الله فهو الضال ومن هداه فهو المهتدي.
د. لكن لا نريد بذلك ما يريده المخالف مما يؤدي الى التظليم والتجوير لله في حكمه:
• والمخالف يقول: إن الله يضل كثيراً من خلقه بمعنى انه يصدهم عن طاعته، ويحول بينهم وبين معرفته، ويلبس عليهم الأمور ويحيرهم ويغالطهم، ويشككهم ويوقفهم في الضلالة، ويجبرهم عليها.
• ومنهم من يقول: يخلقها فيهم، ويخلق فيهم قدرة موجبة له، وبمنعهم الأمر الذي به يخرجون منها، فيصفون الله تعالى بأقبح الصفات وأخسها.
هـ. قالوا فيه بشرّ الأقوال، وقلنا نحن: إن الله قد هدى قوماً وأضل آخرين، وأنه يضل من يشاء، غير أن لفضله وكرمه، وعدله ورحمته لا يشاء أن يضل إلا من ضل وكفر وترك طريق الهدى وإنه لا يشاء ان يضل المهتدين والمتمسكين بطاعته، بل شاء أن يهديهم ويزيدهم هدى، فإنه يهدي المؤمنين بان يخرجهم من الظلمات الى النور:
• كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾
• وقال: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾
• وقال: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ وقال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
• وقال: ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾
11. ذكر في جوابه أن (الإضلال على وجوه كثيرة)، وقد نقلنا جوابه فيها إلى المبحث الخاص بحقيقة الإضلال.
12. سؤال وإشكال: أليس تقولون: إن الله لا يضل أحداً، ولا يهدي خلقاً، وإن العباد هم يضلون أنفسهم ويهدونها، وهم يضلون من شاءوا ويهدون من شاءوا 13. تتمة لما ذكر سابقا من وجوه الإجابة عن هذا الإشكال، فإن الإضلال على وجوه كثيرة:
أ. منها ما نسبه الله تعالى الى الشيطان: وهو الصد عن الخير والرشد والدعاء الى الفساد والضلال، وتزيين ذلك، والحث عليه، وهذا ينزه الله تعالى عنه.
ب. ومنها التشديد الامتحان والاختبار اللذين يكون عندهما الضلال ويعقبهما، ونظير ذلك في اللغة أن يسأل الرجل غيره شيئاً نفيساً خطيراً يثقل على طباعه بذله فإذا بخل به، قيل له نشهد لقد بخل به فلان، وليس يريدون بذلك عيب السائل وإنما يريدون عيب الباخل المسئول، لكن لما كان بخل المسئول ظهر عند مسألة السائل جاز أن يقال في اللغة: انه بخلك، ويقولون للرجل إذا أدخل الفضة النار ليعلم فسادها من صلاحها، وظهر فسادها: أفسدت فضتك، ولا يرون أنه فعل فيها فساداً، وإنما يريدون ان فسادها ظهر عند محنته، ويقرب من ذلك قولهم: فلان أضل ناقته، ولا يريدون انه أراد أن يضل، بل يكون قد بالغ في الاستتار منها وإنما يريدون ضلت منه لا من غيره، ويقولون أفسدت فلانة فلانا، وأذهبت عقله، وهي لا تعرفه، لكنه لما فسد وذهب عقله من أجلها، وعند رؤيته إياها قيل: قد أفسدت، وأذهبت عقله.
ج. ومنها التخلية على جهة العقوبة وترك المنع بالقهر والإجبار، ومنع الالطاف التي يؤتيها المؤمنين جزاء على ايمانهم، كما يقول القائل لغيره أفسدت سيفك، إذا ترك أن يصلحه، لا يريد أنه أراد أن يفسد أو أراد سبب فساده، أو لم يحب صلاحه، لكنه تركه فلم يحدث فيه الإصلاح ـ في وقت ـ بالصقل والإحداد.. وكذلك قولهم: جعلت أظافيرك سلاحاً، وإنما يريدون تركت تقليمها.
د. ومنها التسمية بالإضلال والحكم به كافراً، يقال: أضله إذا سماه ضالا، كما يقولون: أكفره إذا سماه كافراً، ونسبه اليه، قال الكميت:
وطائفة قد أكفروني بحبكم... وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
هـ. ومنها الإهلاك والتدمير، قال الله تعالى: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي هلكنا، فيجوز أن يكون أراد بالآية: حكم الله على الكافرين، وبراءته منهم ولعنه إياهم إهلاكا لهم، ويكون إضلاله إضلالا كما كان الضلال هلاكا.
14. إذا كان الضلال ينصرف على هذه الوجوه، فلا يجوز أن ينسب الى الله تعالى أقبحها وهو ما أضافه الى الشيطان، بل ينبغي أن ينسب اليه أحسنها وأجلها، وإذا ثبتت هذه الجملة، رجعنا الى تأويل الآية، وهو قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ معناه أن الكافرين لما ضرب الله لهم الأمثال قالوا: ما الحاجة اليها؟ قال الله تعالى: فيها أعظم الفائدة: لأنها محنة واختبار، وبهما يستحق الثواب، ويوصل إلى النعيم، فسمى المحنة اضلالا وهداية، لأن المحنة إذا اشتدت على الممتحن وثقلت فضل عندها، جاز أن تسمى اضلالا، فإذا سهلت فاهتدى عندها، سميت هداية، كما أن الرجل يقول لصاحبه: ما يفعل فلان؟ فيقول هو ذا، يسخي قوماً ويبخل قوماً آخرين أي يسأل قوماً فيشتد عليهم للعطاء فيبخلون، ويسأل آخرين، فيسهل عليهم فيعطون ويجودون، فسمي سؤاله باسم ما يقع عنده ويعقبه.
15. معنى قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ أي يمتحن به عباده، فيضل به قوم كثير، ويهتدي به قوم كثير، ولا يجب على ذلك أن يكون أراد إضلالهم، كما لا يجب ذلك في السائل الذي لا يريد بخل المسئول، بل يريد إعطاءه.
16. سؤال وإشكال: إن قيل: أليس الله تعالى امتحن بهذه الأمثال المؤمنين كما امتحن بها الكافرين، فيجب أن يكون مضلا لهم؟ والجواب: إنما سمى المحنة الشديدة إضلالا إذا وقع عندها الضلال، كما أن السؤال يسمى تبخيلا إذا وقع عنده البخل.
17. قد يراد بقوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ أنه يضل بالتكذيب بهذه الأمثال كثيراً، ويهدي بالإيمان كثيراً:
أ. لأنه لو كان سبباً للضلال لما وصفه الله بأنه هدى وبيان وشفاء لما في الصدور.
ب. وحذف التكذيب والإقرار اختصاراً، لأن في الكلام ما يدل عليه:
• كما يقول القائل: نزل السلطان فسعد به قوم وشقي به آخرون، وإنما يراد به سعد بإحسانه قوم وشقي بإساءته آخرون، لا بنزول جيشه، لأنه نفسه لا يقع به سعادة ولا شقاء.
• وكما قال ﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾ وانما أراد حب العجل، وذلك كثير.
ج. بينا أن الإضلال والهداية يعبر بهما عن العذاب والثواب، فعلى هذا يكون تقدير الآية: يضل أي يعذب بتكذيب القرآن، والأمثال كثيراً، ويهدى أي يثيب بالإقرار به كثيراً.
18. الدليل على ذلك قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ فلا يخلو أن يكون أراد ما قلناه من العقوبة على التكذيب، أو أراد به الحيرة والتشكيك، وقد ذكرنا انه لا يفعل الحيرة المتقدمة التي بها صاروا ضلالا فساقاً، لم يفعلها الله إلا بحيرة قبلها، وهذا يوجب ما لا نهاية له من حيرة قبل حيرة، لا إلى أول، أو اثبات إضلال لا إضلال قبله، فان كان الله قد فعل هذا الضلال الذي لم يقع قبله ضلال فقد أضل من لم يكن فاسقاً، وهذا خلاف قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾، فثبت أنه أراد أنه لا يعاقب إلا الفاسقين، كما قال: ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾
19. حكى الفراء وجهاً آخراً مليحاً، قال قوله: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ حكاية عمن قال ذلك، كأنهم قالوا: ماذا أراد بهذا مثلا يضل به كثيراً، أي يضل به قوم ويهدي به قوم.
20. ثم قال الله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ فبين عز وجل الإضلال، وأنه لا يضل إلا ضالا فاسقاً، واقتصر على الاخبار عنهم وبيان ما بين الإضلال دون ما أراد بالمثل، وهذا وجه حسن تزول معه الشبهة.
21. أصل الفسق في اللغة الخروج عن الشيء، يقال منه: فسقت الرطبة إذا أخرجت من قشرها، ومن ذلك سميت الفارة فويسقة، لخروجها من حجرها، ولذلك سمي المنافق والكافر فاسقين لخروجهما عن طاعة الله، ولذلك قال الله تعالى في صفة إبليس: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ يعني خرج من طاعته واتباع أمره.
22. قال قوم: هذه الآية نزلت في كفار أهل الكتاب، والمنافقين منهم، وإياهم عنى الله عز وجل بقوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ﴾ الآية، وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾، وكل ما في هذه الآية من اللوم والتوبيخ متوجه إليهم.
23. اختلف في معنى عهد الله الذي نقضوه بعد ميثاقه:
أ. قيل: هو ما أخذه عليهم في التوراة من العمل بما فيها، واتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا بعث، والتصديق بما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك جحودهم به بعد معرفتهم بحقيته وانكارهم ذلك، وكتمانهم ذلك عند الناس بعد إعطائهم إياه تعالى من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وإيمانهم أنهم متى جاءهم نذير آمنوا به، فلما جاءهم النذير ازدادوا نفوراً، ونبذوا ذلك وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلا، وهذا الوجه اختاره الطبري.. ويقوي هذا قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ والامر العهد أيضاً، وقال في موضع آخر: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾، وقال: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾
ب. وقال قوم: انما عنى بذلك العهد الذي أخذه الله حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصفه في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ .. الى آخر الآية) وهذا الوجه ضعيف لأن الله تعالى لا يجوز ان يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه ولا يعرفونه، وما ذكروه غير معلوم أصلا.
24. العهد: العقد، والأصر مثله، والعهد: الموثق، والعهد: الالتقاء، يقال: ما لفلان عهد بكذا، وهو قريب العهد بكذا، والعهد له معان كثيرة، وسمي المعاهد ـ وهو الذمي ـ بذلك لأنه بايع على ما هو عليه من إعطاء الجزية، والكف عنه، والعهدة كتاب الشراء، وجمعه عهد، وإذا أقسم بالعهد تعلق به عندنا كفارة الظهار، وقال قوم: كفارة يمين، وقال آخرون: لا كفارة عليه.
25. اختلف في معنى ﴿عَهْدُ اللَّهِ﴾ :
أ. قال قوم: هو ما عهد إلى جميع خلقه في توحيده وعدله، وتصديق رسوله بما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهد إليهم في أمره ونهيه، وما احتج به لرسله بالمعجزات التي لا يقدر على الإتيان بمثلها الشاهدة لهم على صدقه، ونقضهم ذلك: تركهم الإقرار بما قد ثبت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب.
ب. وقال قوم هو وصية الله إلى خلقه، وأمره على لسان رسله إياهم فيما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه، ونقضهم: تركهم العمل به.
26. النقض ضد الإبرام، والميثاق والميعاد والميقات متقاربة المعنى، يقال وثق يثق ثقة وأوثق ايثاقاً، وتوثق توثقاً، ويقال فلان ثقة للذكر والأنثى، والواحد والجمع بلفظ واحد، فإذا جمع قيل ثقات في الرجال والنساء، ومن لابتداء الغاية في الآية، وقيل: إنها زائدة، والهاء في قوله ميثاقه يحتمل ان تكون راجعة الى اسم الله تعالى.
27. القطع هو الفصل بين الشيئين أحدهما من الآخر، والأصل أن يكون في الأجسام ويستعمل في الأعراض تشبيهاً به، يقال قطع الحبل والكلام.. والوصل هو الجمع بين الشيئين من غير حاجز.
28. اختلف في معنى قوله: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ :
أ. قال قتادة وقطيعة الرحم والقرابة.
ب. قال غيره معناه الأمر بأن يوصل كل من أمر الله بصلة من أوليائه والقطع: البراءة من أعدائه وهذا أقوى، لأنه أعم من الأول، ويدخل فيه الأول.
ج. وقال قوم: أراد صلة رسوله وتصديقه، فقطعوه بالتكذيب وهو قول الحسن.
د. وقال قوم: أراد أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا
والأول أولى لأنا إذا حملناه على عمومه دخل ذلك فيه.
29. اختلف في معنى قوله: ﴿يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ :
أ. قال قوم: استدعاؤهم الى الكفر.
ب. وقال قوم: إخافتهم السبيل وقطعهم الطريق.
ج. وقال قوم أراد كل معصية تعدى ضررها الى غير فاعلها.
30. اختلف في معنى الخسران:
أ. قيل: هو النقصان، قال جرير:
إن سليطا في الخسار إنه... أولاد قوم خلقوا أقنه
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم.
ب. وقال قوم: الخسار ها هنا: الهلاك يعني هم الهالكون.
ج. وقال قوم: كلما نسبه الله من الخسار الى غير المسلمين فإنما عنى به الكفر، وما نسب به إلى المسلمين انما عنى به الدنيا، روي ذلك عن ابن عباس.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/113.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاستحياء والحياء ممدود وغير ممدود، بِمَعْنًى، ونقيض الحياء: القِحةُ، يقال: حييت من هذا الأمر، واستحييت منه، وحقيقة الحياء لا يجوز عليه تعالى؛ لأن ذلك خوف من مواقعة قبيح، وهو تعالى يفعل الحسن، ولا يفعل القبيح، وهو عالم بقبح القبيح، وعالم بغناه عنه، ولا يختاره.
ب. الضرب: مصدر ضرب يضرب ضربًا، وضرب في الأرض: سافر، وضرب اللَّه مثلاً: أرسلها، فهي سائرة عند المسلمين على ما ضربه لهم.
ج. المِثْلُ، والمَثَلُ، والشبه: نظائر.
د. البعوضة: صغار البق.
هـ. الحق والصواب والصحيح واحد، فالحق نقيض الباطل، وأصله وضع الشيء في موضعه، يقال: وضعته في حقه أي في المكان الذي هو أولى به.
و. الإرادة والمشيئة واحد، أراد فهو مريد، واللَّه تعالى مريد على الحقيقة.
ز. الضلال الهلاك، ثم سمي به الضلال في الدين؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك.
ح. الكثير نقيض القليل، يقال: كثر كثرة، والكوثر قيل: نهر في الجنة؛ لأنه يتشعب منه أنهار كثيرة في الجنة، وقيل: سمي به لكثرة مائه.
ط. الهداية: الدلالة، وقد بيناها.
ي. الفاسق والفاجر واحد، والفسق قيل: أصله الترك، فقيل: إنه ترك أمر اللَّه تعالى، وقيل: أصله الخروج، كأنه خرج من أمره، والفسق في الشرع: ذم يوصف به لارتكاب الكبائر، وله أحكام: لا تقبل شهادته، ويلعن، ويبرأ منه، والفسق معصية كبيرة، وكل كفر فسق، وليس كل فسق كفرا، والمعاصي ثلاثة: كفر، وفسق، وصغيرة، ولكل حُكْمٌ.
ك. النقض والهدم والكسر نظائر، وهو إفساد ما أَبْرَمتَ، ونقيضه الإبرام، وهو الإحكام للبناء، ومنه نقض المذهب والدليل، كأنه ليس له أصل يرده إليه، ويهدمه ما يضاده.
ل. العهد: الأمر، والعهد: الوصية، والعهد: الموثق، والجمع: عهود، وأصله العقد.
م. الميثاق والعهد والعقد نظائر، وأصله الوَثَاقَةُ، وهي إِحكام الشيء، والميثاق: ما وقع التوثيق به، كالميقات ما وقع التوقيت به، وكل مكلف فقد أخذ اللَّه عليه الميثاق بشيئين: بما ركب في عقله من الدلائل والآيات على الصانع المنعم، والثاني: بالأوامر والنواهي على ألسنة الرسل.
ن. القطع: نقيض الوصل، ونظيره الفصل، يقال: قطعه فانقطع، وقطع بالتخفيف في القليل، وقَطَّعَ بالتشديد في الكثير والمبالغة، والقطع الفصل بين الشيئين.
س. الوصل الجمع بينهما، ونظيره الجمع والضم.
ع. الأمر هو قول القائل لمن دونه: افعل هذا بصيغة الأمر، ثم يصير أمرًا بإرادة الآمر المأمور به، وصيغة الأمر تستعمل في غيره فيقع على الفرض، نحو: (أَقِيمُوا الصَّلاَةَ)، والنفل، كقوله: ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾ والإباحة: كقوله: (فَكُلُوا)، والتهديد: كقوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ والتحدي كقوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾، والتكوين: كقوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ ﴾ والأصل في الجميع الطلب، وحقيقة الأمر في القول، ومَجَازٌ في الفعل كقوله: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ لأنه لا يتصرف ولا يطَّرِد كاطراده في القول، يقال في القول: أمر يأمر أمرًا، ونقيضه النهي، وقيل: الأمر على الوجوب عن أكثر العلماء، وقيل: على الندب، عن أبي علي وأبي هاشم، وقيل: على التوقف، وليس بشيء.
ف. الخسران: نقيض الربح، خسر خسرانًا، ومنه: ﴿كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴾ أي غير مربحة، وحقيقة الخسران ذهاب رأس المال.
2. اختلف في عموم هذه الآيات وخصوصها:
أ. قيل: لما ضرب اللَّه تعالى المثلين للمنافقين، قالوا: اللَّه أجل من أن يضرب هذه الأمثال، فنزلت هذه الآية، عن ابن عباس وابن مسعود.
ب. وقيل: لما ضرب اللَّه المثل بالذباب والعنكبوت تكلم قوم من المشركين، وعابوا ذكره، فأنزل اللَّه هذه الآية، عن الحسن وقتادة.
3. ﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ يعني إذا كان المثل للبيان والحكمة، فالصغير والكبير فيه سواء.. قيل: البعوضة إذا جاعت سمنت، وإذا شبعت ماتت، كذلك هَؤُلَاءِ المنافقون إذا امتلؤوا من الدنيا أخذهم الله، ثم تلا: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾
4. عن الربيع وعن أنس، (فَمَا فَوْقَهَا) قيل: فوقها في الكبر، عن قتادة وابن جريج، قالا: والبعوضة أضعف خلق الله تعالى، وقيل: فما فوقها في الصغر؛ لأن الغرض المطلوب ههنا الصغر.
5. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني: صدقوا بمحمد والقرآن، وقبلوا الإسلام ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ مدحهم ـ بأنهم تدبروا حتى علموا أنه من ربهم، وأنه واقع في حقه.
6. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ذمهم على الإعراض عن طريق الاستدلال وإنكارهم ما هو الصواب، فقال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني بالقرآن والإسلام ﴿فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ أي: ماذا أراد بهذا المثل؟ فحذف الألف واللام.
7. اختلف في قوله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ :
أ. قيل: هي تتصل بما قبلها على طريق الحكاية عنهم.
ب. وقيل: بل كلامه تعالى ابتداء.
وكلاهما محتمل.
8. اختلف في معنى ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ :
أ. قيل: يهلك ويعذب بالكفر به كثيرًا، بأن يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسببه فيهلكوا، ويهدي إلى الثواب وطريق الجنة كثيرًا بالإيمان، عن أبي علي.
ب. وقيل: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾، وإنما أضاف ذلك إليه؛ لأن الضلال والهداية كانا عند نزوله:
• كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ والآيات لا تزيدهم رجسًا، ولكنهم ازدادوا عندها، فأضيف إليه.
• وكقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ يعني: ضلوا عنده، عن الأصم وأبي مسلم.
9. الضلال في الأصل هو الهلاك، ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ قيل: لا يهلك به إلا من كفر وفسق، وقيل: لا يضل عنده إلا الفاسقون، والفاسق من خرج من طاعة الله إلى معصيته، ومن ولايته إلى عداوته.
10. كل مكلف أخذ الله عليه الميثاق بشيئين:
أ. بما ركب في عقله من الدلائل والآيات على الصانع المنعم.
ب. بالأوامر والنواهي على ألسنة الرسل.
11. وصف تعالى الفاسقين الَّذِينَ تقدم ذكرهم فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ﴾ يعني هم الَّذِينَ ﴿يَنْقُضُونَ﴾ يهدمون، يعني لا يفون به.
12. اختلف في معنى ﴿عَهْدُ اللَّهِ﴾ :
أ. قيل: ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد.
ب. وقيل: ما قدم إليهم علي ألسن الرسل من صفة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما ذكر في التوراة والإنجيل ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾
ج. ويقال: أوامره لهم ونواهيه، عن أبي مسلم.
د. ويقال: عهد الله: أي أمره، ونقض العهد هو ترك العمل به.
13. من قال إنه العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين أخرجهم من صلب آدم فليس بصحيح؛ لأن أحدًا لا يتذكره، ولا عليه دليل، فكيف يكون حجة؟
14. اختلف في الموصوف بهذه الصفات:
أ. قيل: أحبار اليهود، ومنهم المنافقون.
ب. وقيل: جميع الكفار.
15. ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ أي من بعد توكيده عليهم، والهاء في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ :
أ. قيل: تعود على اسم الله تعالى، يعني أنه وكده عليهم.
ب. وقيل: ترجع على الميثاق والعهد، وكلاهما حسن
16. الأمر هو قول القائل لمن دونه: افعل هذا بصيغة الأمر، ثم يصير أمرًا بإرادة الآمر المأمور به.
17. صيغة الأمر تستعمل في غيره، فيقع على:
أ. الفرض، نحو: أَقِيمُوا الصَّلاَةَ)
ب. والنفل، كقوله: ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾
ج. والإباحة: كقوله: فَكُلُوا)
د. والتهديد: كقوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾
هـ. والتحدي كقوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾
و. والتكوين: كقوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾
18. الأصل في الجميع الطلب، وحقيقة الأمر في القول، ومَجَازٌ في الفعل كقوله: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ لأنه لا يتصرف ولا يطَّرِد كاطراده في القول، يقال في القول: أمر يأمر أمرًا، ونقيضه النهي.
19. قيل: الأمر على الوجوب عن أكثر العلماء، وقيل: على الندب، عن أبي علي وأبي هاشم، وقيل: على التوقف، وليس بشيء.
20. اختلف في معنى ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ :
أ. قيل: أُمِرُوا بصلة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين فقطعوهم، عن الحسن.
ب. وقيل: قطعوا رحم رسول الله بعداوته بغضا وحسدًا، عن أبي مسلم.
ج. وقيل: أمروا بصلة الأرحام فقطعوها، عن قتادة.
د. وقيل: أمروا بالإيمان بجميع الأنبياء والكتب ففرقوا، وقطعوا ذلك.
هـ. وقيل: هو عام في جميع ذلك؛ إذ لا مانع من حمله على الجميع.
21. اختلف في معنى ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ :
أ. قيل: استدعاؤهم إلى الكفر هو الفساد.
ب. وقيل: عملهم به.
ج. وقيل: ما يحدث بسبب كفرهم من إخافة السُّبُل، وقطع الطرق وأنواع الظلم مما يمنع منه الإيمان.
22. الخسران: نقيض الربح، خسر خسرانًا، ومنه: ﴿كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾ أي غير مربحة، وحقيقة الخسران ذهاب رأس المال.
23. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ :
أ. أي أهلكوا أنفسهم فهم بمنزلة من هلك رأس ماله.
ب. وقيل: فاتتهم الجنة واستوجبوا النار، فكانوا خاسرين.
24. تدل الآيات الكريمة على:
أ. إبطال قول أصحاب المعارف؛ لأنه تعالى مدح المؤمن بالعلم، وفرق بينه وبين الكافر، ولو كان الجميع سواء في المعرفة لما صح ذلك.
ب. الفسق اسم شرعي؛ لأنه أخرجه مخرج الذم. وتدل على أنه تعالى يعاقب الفاسق لا محالة، بخلاف قول المرجئة.
ج. أن الضلال من اللَّه يكون عقابًا.
د. أن بيان الأدلة وحل الشبه يجوز بما دق وجل، بعد أن يحصل الغرض المطلوب.
هـ. أن الله تعالى لا يُضِلُّ إلا الفِاسق، خِلاف قول الْمُجْبِرَةِ: إنه يضل المؤمن أيضا.
و. وجوب الوفاء بالعهد وقبح نَقْضِهِ، فيدخل فيه أوامر اللَّه تعالى، وتدخل فيه النذور والأيمان والمعاقدات.
ز. وجوب صلة الرحم وصلة المؤمن وقبح قطعه.
ح. أن من عصى اللَّه فقد استوجب النار، ومن دخلها فقد خسر خسرانًا مبينًا.
25. مسائل نحوية:
أ. يجوز في قوله: ﴿مَا بَعُوضَةً﴾ ثلاثة أوجه:
• الأول: أنه صلة، وتقديره: مثلاً بعوضة فَمَا فوقها.
• الثاني: أن يكون نكرة مفسرة بالبعوضة، كما يكون نكرة موصوفة، في قولك: مررت بما هو خير منك.
• الثالث: أن يكون بمعنى (الذي)، كأنك قلت: الذي هو بعوضة، والاختيار أنه صلة عند البصريين، وأجازه الكسائي والفراء وثعلب.
ب. يجوز نصب ﴿بَعُوضَةً﴾ من ثلاثة أوجه:
• الأول: المفعول الثاني من يضرب عند البصريين.
• الثاني: أن يكون معرفة بتعريف (ما) كما قال حسان:
وَكَفَى بِنَا فَضْلاً عَلَى مَنْ غَيْرِنَا... حب النَّبِي مُحَمَّدٍ إِيَّانَا
واختار هذا الوجه ثعلب والزجاج، وعلى هذا يجعل (ما) اسمًا تامًّا، وينصب (بعوضة) بنصبها.
• الثالث: أجازه الكوفيون، وهو النصب على إسقاط الخافض، كأنه قيل: ما مِنْ بعوضة فما فوقها.
ج. يجوز رفع (بعوضة) من وجهين:
• أحدهما: أن يكون خبر لـ (هو) في صلة (ما)، كأنه قيل: الذي هو بعوضة.
• الثاني: على الجواب، كأنه قيل: إن اللَّه لا يستحي أن يضرب مثلا، فقيل: ما هو؟ فقيل: بعوضة فما فوقها، كما يقال: مررت برجلٍ زيدٌ، أي هو زيد، و(ما) ههنا يجوز أن تكون كافة للفعل، فيستأنف الكلام بعدها، وهو على معنى المفعول.
د. دخلت الفاء في قوله: ﴿فَيَعْلَمُونَ﴾ لأنها جعلت جوابًا لما فيها من معنى الجزاء، كأنك إذا قلت: أما زيد فهو قائم، فتقديره مهما يكن من شيء فهو قائم.
هـ. جواب ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ فيه وجهان، وذكرهما سيبويه والأخفش:
• أحدهما: أن تجعل (ما) و(ذا) بمنزلة اسم واحد، فيكون جوابه نصبًا.
• الثاني: أن يكون (ذا) بمعنى (الذي) فيكون الجواب رفعًا، وجاء القرآن بالتقديرين جميعًا في: ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا﴾ وفي موضع آخر: ﴿قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ فالنصب كأنه قيل: أي شيء أنزل ربكم؟ وعلى الرفع: أيّ شيء الذي أنزل ربكم؟
و. انتصب (مَثَلاً): قال ثعلب: بأنه قطع، وقيل: انتصب بأنه تفسير، وقيل: بأنه حال.
ز. موضع ﴿الَّذِينَ﴾ من قوله: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ نصب؛ لأنه صفة للفاسقين، ويصلح الرفع على الذم، ويكون خبره ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
ح. معنى ﴿مِنَ﴾ في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ قيل: صلة وزيادة، وقيل: معناها ابتداء الغاية، كأنه قيل: ابتداء النقض للعهد.
ط. موضع ﴿إِنَّ﴾ في قوله: ﴿أَنْ يُوصَلَ﴾ تحتمل الخفض بدلاً من الهاء في قوله: (به)، أي أمر اللَّه بأن توصل، ويحتمل النصب، أي أمر اللَّه وصله.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/295.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الاستحياء من الحياء، ونقيضه القحة.
ب. الضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلا، يقال: ضرب في التجارة، وضرب في الأرض، وضرب في سبيل الله، وضرب بيده إلى كذا، وضرب فلان على يد فلان: إذا أفسد عليه أمرا أخذ فيه، وضرب الأمثال: إنما هو جعلها لتسير في البلاد، يقال: ضربت القول مثلا، وأرسلته مثلا، وما أشبه ذلك.
ج. البعوض: القرقس، وهو صغار البق، الواحدة بعوضة.
د. المثل والمثل، كالشبه والشبه، قال كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا... وما مواعيده إلا الأباطيل
هـ. الفسق والفسوق: الترك لأمر الله، وقال الفراء: الفسق الخروج عن الطاعة، تقول العرب: فسقت الرطبة عن قشرها: إذا خرجت، ولذلك سميت الفأرة فويسقة، لخروجها من جحرها.
و. النقض: نقيض الإبرام.
ز. العهد: العقد، والعهد: الموثق.. والعهد: الالتقاء، وهو قريب العهد بكذا.. وعهد الله: وصيته وأمره، يقال: عهد الخليفة إلى فلان بكذا أي: أمره وأوصاه به، ومنه قوله تعالى ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ﴾ .
ح. الميثاق: ما وقع التوثيق به كما أن الميقات: ما وقع التوقيت به، ويقال: فلان ثقة يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، ويقال: ثقات في الرجال والنساء.
ط. القطع: الفصل بين الشيئين، وأصل ذلك في الأجسام، ويستعمل ذلك أيضا في الأعراض، تشبيها به.. يقال: قطع الحبل، وقطع الكلام.
ي. الأمر: هو قول القائل لمن دونه: افعل، هذه صيغته، ثم يصير أمرا بإرادة الآمر المأمور به، وصيغة الأمر تستعمل في الإباحة: نحو قوله ﴿فَاصْطَادُوا﴾، وفي التهديد نحو قوله: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ وفي التحدي نحو قوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ وفي التكوين، كقوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ .. والأصل في الجميع الطلب.
ك. الوصل: نقيض الفصل، وهو الجمع بين شيئين من غير حاجز.
ل. الخسران: النقصان.. والخسار: الهلاك.. والخاسرون: الهالكون.. وأصل الخسران: ذهاب رأس المال.
2. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ :
أ. قيل: أي لا يدع.
ب. وقيل: لا يمتنع لأن أحدنا إذا استحيى من شيء تركه، وامتنع منه، ومعناه: إن الله لا يدع ضرب المثل بالأشياء الحقيرة لحقارتها، إذا رأى الصلاح في ضرب المثل بها.
ج. وقيل: معناه هو أن الذي يستحيى منه ما يكون قبيحا في نفسه، ويكون لفاعله عيب في فعله، فأخبر الله تعالى أن ضرب المثل ليس بقبيح، ولا عيب، حتى يستحيي منه.
د. وقيل: معناه إنه لا يخشى أن يضرب مثلا كما قال ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ أي: تستحيي الناس، والله أحق أن تستحييه، فالاستحياء بمعنى الخشية هنا، كما أن الخشية بمعنى الاستحياء هناك.. وأصل الاستحياء: الانقباض عن الشيء، والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح.
هـ. وقال علي بن عيسى: معناه إنه ليس في ضرب المثل بالحقير للحقير عيب يستحيى منه، فكأنه قال: لا يحل ضرب المثل بالبعوض محل ما يستحيى منه، فوضع قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ موضعه.
3. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ :
أ. قيل: أي: ما هو أعظم منها، عن قتادة وابن جريج.
ب. وقيل: فما فوقها في الصغر والقلة، لأن الغرض ههنا الصغر.
ج. وقال الربيع بن أنس: إن البعوضة تحيى ما جاعت، فإذا سمنت ماتت، فكذلك القوم الذين ضرب لهم هذا المثل، إذا امتلأوا من الدنيا ريا، أخذهم الله عند ذلك، ثم تلا ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ وروي عن الصادق عليه السلام، أنه قال: إنما ضرب الله المثل بالبعوضة، لأن البعوضة على صغر حجمها، خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره، وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله تعالى أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه، وعجيب صنعه.
استشهد على استحسان ضرب المثل بالشيء الحقير في كلام العرب بقول الفرزدق:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها... وقضى عليك به الكتاب المنزل
وبقوله أيضا:
وهل شيء يكون أذل بيتا... من اليربوع يحتفر الترابا
4. قوله ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: صدقوا محمدا والقرآن، وقبلوا الاسلام ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ مدحهم الله تعالى بأنهم تدبروا حتى علموا أنه من ربهم، وأن المثل وقع في حقه ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالقرآن ﴿فَيَقُولُونَ﴾ أي: فلإعراضهم عن طريق الاستدلال، وإنكارهم الحق، قالوا ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ أي: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ فحذف الألف واللام.
5. في قوله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ وجهان:
أ. أحدهما: حكي عن الفراء أنه قال: إنه حكاية عمن قال ماذا أراد الله بهذا مثلا، ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾، أي: يضل به قوم، ويهتدي به قوم، ثم قال الله تعالى ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ فبين تعالى أنه لا يضل إلا فاسقا ضالا، وهذا وجه حسن.
ب. الآخر: إنه كلامه تعالى ابتداء.
وكلاهما محتمل.
6. إذا كان محمولا على أنه كلامه تعالى ابتداء، فمعنى قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ يحتمل وجوها:
أ. قيل: أن الكفار يكذبون به، وينكرونه، ويقولون ليس هو من عند الله، فيضلون بسببه، وإذا حصل الضلال بسببه أضيف إليه، وقوله ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ يعني الذين آمنوا به وصدقوه.. وقالوا هذا في موضعه، فلما حصلت الهداية بسببه، أضيف إليه.. فمعنى الإضلال على هذا تشديد الامتحان الذي يكون عنده الضلال، وذلك بأن ضرب لهم الأمثال، لأن المحنة إذا اشتدت على الممتحن، فضل عندها، سميت إضلالا، وإذا سهلت فاهتدى، سميت هداية.
ب. وقيل: إن الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده، فيضل بها قوم كثير، ويهتدي بها قوم كثير، ومثله قوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ أي: ضلوا عندها، وهذا كما يقال للرجل إذا أدخل الفضة النار لينظر فسادها من صلاحها، فظهر فسادها، أفسدت فضتك، وهو لم يفعل فيها الفساد، وإنما يراد أن فسادها ظهر عند محنته، وقريب من ذلك قولهم: فلان أضل ناقته، ولا يريدون أنه أراد أن يضل، وإنما يريدون ضلت منه لا من غيره، وقولهم: أفسدت فلانة فلانا، وأذهبت عقله، وهي ربما لم تعرفه، ولكن لما ذهب عقله، وفسد من أجلها، أضيف الفساد إليها.
ج. وقيل: قد يكون الإضلال بمعنى التخلية على جهة العقوبة، وترك المنع بالقهر، ومنع الألطاف التي يفعل بالمؤمنين، جزاء على إيمانهم، وهذا كما يقال لمن لا يصلح سيفه: أفسدت سيفك، أريد به أنك تحدث فيه الإصلاح في كل وقت بالصقل والاحداد.
د. وقيل: وقد يكون الإضلال بمعنى التسمية بالضلال والحكم به، كما يقال أضله إذا نسبه إلى الضلال، وأكفره: إذا نسبه إلى الكفر، قال الكميت:
فطائفة قد أكفروني بحبكم... وطائفة قالوا مسيء ومذنب
هـ. وقيل: وقد يكون الإضلال بمعنى الإهلاك، والعذاب، والتدمير، ومنه قوله تعالى ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ ومنه قوله تعالى: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ أي: هلكنا وقوله ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: لن يبطل، سيهديهم، ويصلح بالهم، فعلى هذا يكون المعنى: إن الله تعالى يهلك ويعذب بالكفر به كثيرا، بأن يضلهم عن الثواب، وطريق الجنة بسببه فيهلكوا، ويهدي إلى الثواب وطريق الجنة بالإيمان به كثيرا، عن أبي علي الجبائي، ويدل على ذلك قوله ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ لأنه لا يخلو من أن يكون أراد به العقوبة على التكذيب كما قلناه، أو يكون أراد به التحيير والتشكيك.. فإن أراد الحيرة، فقد ذكر أنه لا يفعل إلا بالفاسق المتحير الشاك، فيجب أن لا تكون الحيرة المتقدمة التي بها صاروا فساقا من فعله، إلا إذا وجدت حيرة قبلها، أيضا، وهذا يوجب وجود ما لا نهاية له من حيرة قبل حيرة، لا إلى أول، أو ثبوت اضلال لا اضلال قبله، وإذا كان ذلك من فعله، فقد أضل من لم يكن فاسقا، وهو خلاف قوله ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾، وعلى هذا الوجه فيجوز أن يكون حكم الله تعالى عليهم بالكفر، وبراءته منهم، ولعنته عليهم، إهلاكا لهم، ويكون إهلاكه، إضلالا.
وكل ما في القران من الإضلال المنسوب إلى الله تعالى، فهو بمعنى ما ذكرناه من الوجوه.
7. لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى الإضلال الذي أضافه إلى الشيطان، وإلى فرعون والسامري، بقوله ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾ وقوله: ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ﴾ وقوله: ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ وهو أن يكون بمعنى التلبيس، والتغليط، والتشكيك، والإيقاع في الفساد، والضلال، وغير ذلك، مما يؤدي إلى التظليم والتجوير على ما يذهب إليه المجبرة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
8. الهداية في القرآن تقع على وجوه:
أ. أحدها: أن تكون بمعنى الدلالة والإرشاد، يقال: هداه الطريق، وللطريق، وإلى الطريق: إذا دله عليه، وهذا الوجه عام لجميع المكلفين، فإن الله تعالى هدى كل مكلف إلى الحق، بأن دله عليه، وأرشده إليه، لأنه كلفه الوصول إليه، فلو لم يدله عليه، لكان قد كلفه بما لا يطيق، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾، وقوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾، وقوله: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾، وقوله: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾، وقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وقوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، وما أشبه ذلك من الآيات.
ب. ثانيها: أن يكون بمعنى زيادة الألطاف التي بها يثبت على الهدى، ومنه قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ أي: شرح صدورهم، وثبتها.
ج. ثالثها: أن يكون بمعنى الإثابة، ومنه قوله تعالى: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ والهداية التي تكون بعد قتلهم: هي إثابتهم لا محالة، لأنه ليس بعد الموت تكليف ورابعها: الحكم بالهداية، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾ .. وهذه الوجوه الثلاثة خاصة بالمؤمنين دون غيرهم، لأنه تعالى إنما يثيب من يستحق الإثابة، وهم المؤمنون، ويزيدهم بإيمانهم، وطاعاتهم ألطافا، ويحكم لهم بالهداية لذلك أيضا.
د. ورابعها: أن تكون الهداية بمعنى جعل الانسان مهتديا، بأن يخلق الهداية فيه، كما يجعل الشيء متحركا بخلق الحركة فيه، والله تعالى يفعل العلوم الضرورية في القلوب، فذلك هداية منه تعالى.. وهذا الوجه أيضا عام لجميع العقلاء كالوجه الأول، فأما الهداية التي كلف الله تعالى العباد فعلها كالإيمان به، وبأنبيائه، وغير ذلك، فإنها من فعل العباد، ولذلك يستحقون عليها المدح والثواب، وإن كان الله سبحانه قد أنعم عليهم بدلالتهم على ذلك، وإرشادهم إليه، ودعائهم إلى فعله، وتكليفهم إياه، وأمرهم به، فهو من هذا الوجه نعمة منه سبحانه عليهم، ومنة منه واصلة إليهم، وفضل منه وإحسان لديهم، فهو سبحانه مشكور على ذلك، محمود إذ فعل بتمكينه، وألطافه، وضروب تسهيلاته، ومعوناته.
9. ثم وصف الله الفاسقين المذكورين في الآية فقال: هم ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ أي: يهدمونه لا يفون به، وقيل في عهد الله وجوه:
أ. أحدها: إنه ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد، والعدل، وتصديق الرسل، وما احتج به لرسله من المعجزات الشاهدة لهم على صدقهم، ونقضهم لذلك: تركهم الإقرار بما قد بينت لهم صحته بالأدلة.
ب. ثانيها: انه وصية الله إلى خلقه على لسان رسوله، بما أمرهم به من طاعته، ونهاهم عنه من معصيته، ونقضهم لذلك: تركهم العمل به.
ج. ثالثها: إن المراد به كفار أهل الكتاب، وعهد الله الذي نقضوه ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ هو ما أخذه عليهم في التوراة من اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتصديق بما جاء به من عند ربه، ونقضهم لذلك: هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وكتمانهم ذلك عن الناس، بعد أن أخذ الله ميثاقهم ليبيننه للناس، ولا يكتمونه، وأنهم إن جاءهم نذير آمنوا به، فلما جاءهم النذير ازدادوا نفورا، ونبذوا العهد وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا.. واختار هذا الوجه الطبري.
د. رابعها: إنه العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، كما وردت به القصة.. وهذا الوجه ضعيف لأنه لا يجوز أن يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه، ولا يعرفونه، ولا يكون عليه دليل.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ السورة الكريمة
أ. قيل: معناه: أمروا بصلة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين، فقطعوهم، عن الحسن.
ب. وقيل: أمروا بصلة الرحم والقرابة فقطعوها، عن قتادة.
ج. وقيل: أمروا بالإيمان بجميع الأنبياء والكتب، ففرقوا وقطعوا ذلك.
د. وقيل: أمروا بأن يصلوا القول بالعمل، ففرقوا بينهما، بأن قالوا ولم يعملوا.
هـ. وقيل: معناه الأمر بوصل كل من أمر الله بصلته من أوليائه، والقطع والبراءة من أعدائه.. وهذا أقوى لأنه أعم، ويدخل فيه الجميع.
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ :
أ. قيل: استدعاؤهم إلى الكفر هو الفساد في الأرض.
ب. وقيل: إخافتهم السبيل، وقطعهم الطريق.
ج. وقيل: نقضهم العهد.
د. وقيل: أراد كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها، والأولى حمله على العموم.
12. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ أي: أهلكوا أنفسهم فهم بمنزلة من هلك رأس ماله، وروي عن ابن عباس أن كل ما نسبه الله تعالى من الخسار إلى غير المسلمين، فإنما عنى به الكفر، وما نسبه إلى المسلمين، فإنما عنى به الدنيا.
13. مسائل نحوية:
أ. ﴿مَا﴾ في قوله ﴿مَا بَعُوضَةً﴾ بالنصب فيه وجوه:
• أحدها: أن تكون ما مزيدة، ومعناها التوكيد، كما في قول ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ وتقديره إن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة مثلا، أو مثلا بعوضة، فيكون بعوضة مفعولا ثانيا ليضرب.. والاختيار عند البصريين هذا الوجه، وإنما اختير لأن ضرب ههنا بمعنى جعل، فجاز أن يتعدى إلى مفعولين، ويدخل على المبتدأ والخبر، وفي التنزيل ما يدل عليه، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ فمثل الحياة: مبتدأ، وكماء: خبره، وفي موضع آخر ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ﴾ فدخل اضرب على المبتدأ والخبر، فصار بمنزلة قولك: ظننت زيدا كعمرو.
• ثانيها: أن يكون ﴿مَا﴾ نكرة مفسرة ببعوضة، كما يكون نكرة موصوفة في قوله تعالى: ﴿هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ فيكون تقديره لا يستحي أن يضرب مثلا شيئا من الأشياء، بعوضة، فتكون بعوضة بدلا من شيئا.
• ثالثها: ما يحكى عن الفراء أن معناه: ما بين بعوضة إلى ما فوقها، كما يقال مطرنا ما زبالة إلى التعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملا، وهي أحسن الناس، ما قرنا فقدما، يعنون ما بين في جميع ذلك.
ب. يجوز في الإعراب الرفع في بعوضة، وإن لم تجز القراءة به، وفيه وجهان:
• أحدهما: أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف في صلة ﴿مَا﴾ فكأنه قال الذي هو بعوضة، كقراءة من قرأ تماما على الذي أحسن بالرفع.. وهذا عند سيبويه ضعيف، وهو في الذي أقوى، لأن الذي أطول، وليس للذي مذهب غير الأسماء.
• الثاني: على الجواب كأنه لما قيل ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا﴾ قيل ما هو؟ فقيل: ﴿بَعُوضَةً﴾ أي: بعوضة كما تقول: مررت برجل زيد أي: هو زيد، فتكون ﴿مَا﴾ على هذا الوجه نكرة مجردة من الصفة والصلة.
ج. قوله ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لغة العرب جميعا بالتشديد، وكثير من بني تميم يقولون: إيما فلان، فيفعل كذا، وأنشد بعضهم:
مبتلة هيفاء أيما وشاحها... فيجري، وأيما الحجل منها فلا يجري
وهي كلمة تجئ في شيئين، أو أشياء، يفصل القول بينهما، كقولك: اما زيد فمحسن، وأما عمرو فمسيء.. فزيد: مبتدأ، ومحسن: خبره.. وفيها معنى الشرط والجزاء، وتقديره: مهما يكن من شيء فزيد محسن.. ثم أقيم (أما) مقام الشرط، فيحصل أما فزيد محسن، ثم أخر الفاء إلى الخبر، لإصلاح اللفظ، ولكراهة أن تقع الفاء التي للتعقيب في أول الكلام، فقوله ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ على هذا يكون مبتدأ، ويعلمون: خبره.. وكذلك (الذين كفروا) مبتدأ، ويقولون: خبره.
د. قوله ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ :
• ما: استفهام، وهو اسم في موضع الرفع بالابتداء، وذا: بمعنى الذي، وصلته ما بعده، وهو في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، تقديره: أي شيء الذي أراد الله.. فعلى هذا يكون الجواب رفعا كقولك البيان لحال الذي ضرب له المثل.
• ويحتمل أن يكون ما وذا بمنزلة اسم واحد، تقديره أي شيء أراد الله، فيكون في موضع نصب بأنه مفعول أراد.. فعلى هذا يكون الجواب نصبا كقولك البيان لحال من ضرب له المثل.
ومثال الأول قوله تعالى: ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ ومثال الثاني: قوله (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ومثلا) منصوب على الحال، وقيل: على القطع، وقيل: على التفسير.
هـ. ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ﴾ في موضع النصب، لأنها صفة الفاسقين.. و ﴿أُولَئِكَ﴾ : مبتدأ و ﴿الْخَاسِرُونَ﴾ : خبره.. و ﴿هُمْ﴾ فصل، ويجوز أن يكون مبتدأ.. والخاسرون خبره.. والجملة خبر ﴿أُولَئِكَ﴾
و. ﴿مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ :
• قيل: من مزيدة.
• وقيل: معناه ابتداء الغاية.
ز. الهاء في ﴿مِيثَاقِهِ﴾ : عائد إلى العهد.. ويجوز أن يكون عائدا إلى اسم الله تعالى.. وقوله ﴿أَنْ يُوصَلَ﴾ بدل من الهاء التي في ﴿بِهِ﴾ أي: ما أمر الله بأن يوصل، فهو في موضع جر به.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/166.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الحياء بالمد: الانقباض والاحتشام، غير أن صفات الحق عزّ وجلّ لا يطّلع لها على ماهية وإنما تمرّ كما جاءت.. ويستحيى منه يترك، وحكى ابن جرير الطّبريّ عن بعض اللغويين أن معنى لا يستحيى: لا يخشى، ومثله: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾، أي: تستحيي منه. فالاستحياء والخشية ينوب كل واحد منهما عن الآخر.
2. قوله تعالى: ﴿مَا بَعُوضَةً﴾، (ما) زائدة، وهذا اختيار أبي عبيدة والزّجّاج والبصريين، وأنشدوا للنّابغة:
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا... إلى حمامتنا أو نصفه فقد
3. في قوله تعالى: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ قولان:
أ. أحدهما: أن معناه فما فوقها في الكبر، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، والفرّاء.
ب. الثاني: فما فوقها في الصّغر، فيكون معناه: فما دونها، قاله أبو عبيدة.
4. قد يكون الفوق بمعنى: دون، وهو من الأضداد، ومثله: الجون؛ يقال للأسود والأبيض، والصّريم: الصبح والليل، والسّدفة: الظلمة والضوء، والجلل: الصغير والكبير، والنّاهل: العطشان والرّيان، والماثل: القائم واللاطئ بالأرض، والصّارخ: المغيث والمستغيث، والهاجد: المصلّي بالليل والنائم، والرّهوة: الارتفاع والانحدار، والتّلعة: ما ارتفع من الأرض وما انهبط من الأرض، والظّنّ: يقين وشكّ، والأقراء: الحيض والأطهار، والمفرع في الجبل: المصعد، وهو المنحدر، والوراء: يكون خلفا وقدّاما، وأسررت الشيء: أخفيته وأعلنته، وأخفيت الشيء: أظهرته وكتمته، ورتوت الشيء: شددته، وأرخيته، وشعبت الشيء: جمعته وفرّقته، وبعت الشيء بمعنى: بعته واشتريته، وشريت الشيء: اشتريته وبعثته، والحيّ خلوف: غيّب، ومتخلّفون.
5. اختلفوا في قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾، هل هو من تمام قول الذين قالوا: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾، أو هو مبتدأ من كلام الله عزّ وجلّ؟ على قولين:
أ. أحدهما: أنه تمام الكلام الذي قبله، قاله الفرّاء، وابن قتيبة، قال الفرّاء: كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضلّ به هذا، ويهدي به هذا!؟ ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله، فقال الله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾
ب. الثاني: أنه مبتدأ من قول الله تعالى، قاله السّدّيّ ومقاتل.
6. الفسق في اللغة: الخروج، يقال: فسقت الرّطبة: إذا خرجت من قشرها، فالفاسق: الخارج عن طاعة الله إلى معصيته.
7. في المراد بالفاسقين ها هنا، ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس ومقاتل.
ب. الثاني: المنافقون، قاله أبو العالية والسّدّيّ.
ج. الثالث: جميع الكفار.
8. النقض: ضد الإبرام، ومعناه: حلّ الشيء بعد عقده، وينصرف النقض إلى كل شيء بحسبه، فنقض البناء: تفريق جمعه بعد إحكامه، ونقض العهد: الإعراض عن المقام على أحكامه.
9. في هذا العهد ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أنه ما عهد إلى أهل الكتاب من صفة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم والوصية باتّباعه، قاله ابن عباس ومقاتل.
ب. الثاني: ما عهد إليهم في القرآن، فأقرّوا به ثم كفروا فنقضوه، قاله السّدّيّ.
ج. الثالث: أنه الذي أخذه عليهم حين استخرج ذرّية آدم من ظهره، قاله الزّجّاج، ونحن وإن لم نذكر ذلك العهد، فقد ثبت بخبر الصادق فيجب الإيمان به.
10. في (من) قولان:
أ. أحدهما: أنها زائدة.
ب. الثاني: أنها لابتداء الغاية، كأنه قال ابتداء نقض العهد من بعد ميثاقه.
11. في هاء (ميثاقه) قولان:
أ. أحدهما: أنها ترجع إلى الله سبحانه.
ب. الثاني: أنها ترجع إلى العهد، فتقديره: بعد إحكام التّوثّق فيه.
12. في الذي أمر الله به أن يوصل، ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: الرّحم والقرابة، قاله ابن عباس وقتادة والسّدّيّ.
ب. الثاني: أنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قطعوه بالتكذيب، قاله الحسن.
ج. الثالث: الإيمان بالله، وأن لا يفرق بين أحد من رسله، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، قاله مقاتل.
13. في فسادهم في الأرض ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: استدعاؤهم الناس إلى الكفر، قاله ابن عباس.
ب. والثاني: أنه العمل بالمعاصي، قاله السّدّيّ، ومقاتل.
ج. والثالث: أنه قطعهم الطريق على من جاء مهاجرا إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليمنعوا الناس من الإسلام.
__________
(1) زاد المسير: 1/47.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. بعد أن بين الله تعالى بالدليل كون القرآن معجزاً أورد هاهنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك، وأجاب عنها وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلًا عن كونه معجزاً.
2. فأجاب الله تعالى عنه بأن صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملًا على حكم بالغة، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها.
3. من الأقوال في نزولها:
أ. عن ابن عباس أنه لما نزل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ [الحج: 73] فطعن في أصنامهم ثم شبه عبادتها ببيت العنكبوت قالت اليهود أي قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله المثل بهما فنزلت هذه الآية.
ب. أن المنافقين طعنوا في ضرب الأمثال بالنار والظلمات والرعد والبرق في قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ [البقرة: 17]
ج. أن هذا الطعن كان من المشركين.
4. قال القفال: الكل محتمل هاهنا:
أ. أما اليهود فلأنه قيل في آخر الآية: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾، وهذا صفة اليهود، لأن الخطاب بالوفاء وبالعهد فيما بعد إنما هو لبني إسرائيل.
ب. وأما الكفار والمنافقون فقد ذكروا في سورة المدثر ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [المدثر: 31] الآية.
ج. فأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، والذين كفروا يحتمل المشركين لأن السورة مكية فقد جمع الفريقان هاهنا.
5. احتمال الكل هاهنا قائم لأن الكافرين والمنافقين واليهود كانوا متوافقين في إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد مضى من أول السورة إلى هذا الموضع ذكر اليهود، وذكر المنافقين، وذكر المشركين، وكلهم من الذين كفروا، وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداءً من غير سبب لأن معناه في نفسه مفيد.
6. الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم واشتقاقه من الحياة، يقال: حيي الرجل كما يقول: نسي وخشي وشظي الفرس إذا اعتلت هذه الأعضاء.. وجعل الحيي لما يعتريه الانكسار والتغير منكسر القوة منغص الحياة، كما قالوا فلان هلك حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلاك في وجهه من شدة الحياء، وذاب حياء.
7. يستحيل الحياء على الله تعالى لأنه تغير يلحق البدن، وذلك لا يعقل إلا في حق الجسم، ولكنه وارد في الأحاديث، روى سلمان عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: إن الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً)، وإذا كان كذلك وجب تأويله.
8. في تأويل الحياء على الله تعالى وجهان، أولهما، وهو القانون في أمثال هذه الأشياء، أن كل صفة ثبتت للعبد مما يختص بالأجسام فإذا وصف الله تعالى بذلك فذلك محمول على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض، مثاله:
أ. أن الحياء حالة تحصل للإنسان لكن لها مبدأ ومنتهى، أما المبدأ فهو التغير الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن ينسب إلى القبيح، وأما النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل، فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته.
ب. وكذلك الغضب له، علامة ومقدمة وهي غليان دم القلب، وشهوة الانتقام وله غاية وهو إنزال العقاب بالمغضوب عليه، فإذا وصفنا الله تعالى بالغضب فليس المراد ذلك المبدأ أعني شهوة الانتقام وغليان دم القلب، بل المراد تلك النهاية وهو إنزال العقاب، فهذا هو القانون الكلي في هذا الباب.
9. التأويل الثاني: يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا: أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلًا بالذباب والعنكبوت، فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال، وهذا فن بديع من الكلام.
10. ما لا يجوز على الله من هذا الجنس إثباتاً يجب أن لا يطلق على طريق النفي أيضاً عليه، وإنما يقال إنه لا يوصف به، فأما أن يقال لا يستحي ويطلق عليه ذلك فمحال، لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه وما ذكره الله تعالى من كتابه في قوله: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255] وقوله: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: 3] فهو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة وكذلك قوله: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ﴾ [المؤمنون: 91] وكذلك قولك: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: 14]، فليس كل ما ورد في القرآن إطلاقه جائزاً أن يطلق في المخاطبة، فلا يجوز أن يطلق ذلك إلا مع بيان أن ذلك محال.
11. سؤال وإشكال: لا شك في أن هذه الصفات منفية عن الله سبحانه فكان الإخبار عن انتفائها صدقاً فوجب أن يجوز، بقي أن يقال إن الإخبار عن انتفائها يدل على صحتها عليه، والجواب: هذه الدلالة ممنوعة، وذلك لأن تخصيص هذا النفي بالذكر لا يدل على ثبوت غيره، بل لو قرن باللفظ ما يدل على انتفاء الصحة أيضاً كان ذلك أحسن من حيث أنه يكون مبالغة في البيان وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحاً.
12. أطبق العجم على أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول، ويدل عليه (كتاب كليلة ودمنة) وأمثاله، وفي بعضها: قالت البعوضة، وقد وقعت على نخلة عالية وأرادت أن تطير عنها، يا هذه استمسكي فإني أريد أن أطير، فقالت النخلة: والله ما شعرت بوقوعك فكيف أشعر بطيرانك.
13. ورد ضرب الأمثال في إنجيل عيسى عليه السلام بالأشياء المستحقرة:
أ. قال مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة، فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان، فقال عبيد الزراع، يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك؟ قال بلى، قالوا: فمن أين هذا الزوان؟ قال لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان فتقلعوا معه الحنطة فدعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرقوه بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن، وأفسر لكم ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة هو أبو البشر، والقرية هي العالم، والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذي يعملون بطاعة الله تعالى، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس، والزوان هو المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه، والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنوا آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله، وأهل الشر إلى الهاوية وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار كذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين، وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنا لك البكاء، وصريف الأسنان، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم، من كانت له أذن تسمع فليسمع.
ب. وأضرب لكم مثلًا آخر يشبه ملكوت السماء: لو أن رجلًا أخذ حبة من خردل وهي أصغر الحبوب وزرعها في قريته، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول وجاء طير من السماء فعشش في فروعها فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله أجره وعظمه ورفع ذكره، ونجى من اقتدى به.
ج. وقال: لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة، وكذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم.
د. وقال: قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح.
هـ. وقال: لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها، ولا في البرية حيث السموم اللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ولكن ادخروا ذخائركم عند الله.
و. وقال: نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك بلباسهن وأرزاقهن إلا الله؟ أفلا تعقلون.
ز. وقال: لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ولا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم.
14. دل العقل على أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة، وذلك:
أ. لأن من طبع الخيال المحاكاة والتشبه، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل، ولكن مع منازعة الخيال، وإذا ذكر معه الشبه أدركه العقل مع معاونة الخيال، ولا شك أن الثاني يكون أكمل.
ب. وأيضاً فنحن نرى أن الإنسان يذكر معنى ولا يلوح له كما ينبغي فإذا ذكر المثال اتضح وصار مبيناً مكشوفاً.
15. إن كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح، وجب ذكره في الكتاب الذي لا يراد منه إلا الإيضاح والبيان.
16. اعتقاد أن ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى، جهل، لأن:
أ. الله تعالى هو الذي خلق الصغير والكبير وحكمه في كل ما خلق وبرأ عام لأنه قد أحكم جميعه، وليس الصغير أخف عليه من الكبير والعظيم أصعب من الصغير، وإذا كان الكل بمنزلة واحدة لم يكن الكبير أولى أن يضربه مثلًا لعباده من الصغير.
ب. بل المعتبر فيه ما يليق بالقصة، فإذا كان الأليق بها الذباب والعنكبوت يضرب المثل بهما لا بالفيل والجمل، فإذا أراد تعالى أن يقبح عبادتهم الأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن صلح أن يضرب المثل بالذباب، ليبين أن قدر مضرتها لا يندفع بهذه الأصنام، ويضرب المثل لبيت العنكبوت ليبين أن عبادتها أوهن وأضعف من ذلك وفي مثل ذلك كل ما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح.
17. اختلف في اشتقاق البعوض:
أ. من البعض وهو القطع كالبضع والعضب، يقال بعضه البعوض، ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه، والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت اسميته.
ب. اشتقاقه من بعض الشيء سمي به لقلة جرمه وصغره، ولأن بعض الشيء قليل بالقياس إلى كله.
18. البعوض من عجائب خلق الله تعالى فإنه صغير جداً وخرطومه في غاية الصغر، ثم إنه مع ذلك مجوف ثم ذلك الخرطوم مع فرط صغره وكونه جوفاً يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته كما يضرب الرجل إصبعه في الخبيص، وذلك لما ركب الله في رأس خرطومه من السم.
19. في قوله تعالى: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أن يكون المراد فما هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب، فإن القوم أنكروا تمثيل الله تعالى بكل هذه الأشياء.
ب. الثاني: أراد بما فوقها في الصغر أي بما هو أصغر منها.
4. احتج القائلون بأنه أراد بما فوقها في الصغر، أي بما هو أصغر منها بـ:
أ. أحدها: أن المقصد من هذا التمثيل تحقير الأوثان، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود في هذا الباب أكمل حصولًا.
ب. ثانيها: أن الغرض هاهنا بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير، وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون المذكور ثانياً أشد حقارة من الأول، يقال إن فلاناً يتحمل الذل في اكتساب الدينار، وفي اكتساب ما فوقه، يعني في القلة لأن تحمل الذل في اكتساب أقل من الدينار أشد من تحمله في اكتساب الدينار.
ج. ثالثها: أن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب، فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله تعالى، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير.
20. احتج القائلون بأنه أراد بما هو أعظم منها بـ:
أ. الأول: بأن لفظ (فوق) يدل على العلو، فإذا قيل هذا فوق ذاك، فإنما معناه أنه أكبر منه ويروى أن رجلًا مدح علياً والرجل متهم فيه، فقال علي: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك، أراد بهذا أعلى مما في نفسك.. وقد أجيب عنه بأن كل شيء كان ثبوت صفة فيه أقوى من ثبوتها في شيء آخر كان ذلك الأقوى فوق الأضعف في تلك الصفة يقال إن فلاناً فوق فلان في اللؤم والدناءة. أي هو أكثر لؤماً ودناءة منه، وكذا إذا قيل هذا فوق ذلك في الصغر وجب أن يكون أكثر صغراً منه.
ب. الثاني: كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر؟.. وقد أجيب عنه بأن جناح البعوضة أقل منها وقد ضربه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مثلًا للدنيا.
21. اختلف في (ما) في قوله ﴿مَثَلًا﴾ :
أ. قال الأصم: ما صلة زائدة كقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 159]
ب. قال أبو مسلم: معاذ الله أن يكون في القرآن زيادة ولغو، وهو الأصح لأن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وبياناً وكونه لغواً ينافي ذلك.
22. قوله تعالى: ﴿مَاذَا﴾ فيه وجهان:
أ. أن يكون ذا اسماً موصولًا بمعنى الذي فيكون كلمتين.
ب. وأن يكون ذا مركبة مع ما مجعولين اسماً واحداً فيكون كلمة واحدة.
23. هو على الوجهين:
أ. على الأول: مرفوع المحل على الابتداء وخبره ذا مع صلته.
ب. وعلى الثاني: منصوب المحل في حكم ما وحده كما لو قلت ما أراد الله.
24. اختلف في الإرادة:
أ. قيل إنها ماهية يجدها العاقل من نفسه، ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجاً إلى التعريف.
ب. وقال المتكلمون إنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر، لا في الوقوع، بل في الإيقاع، واحترزنا بهذا القيد الأخير عن القدرة.
25. اختلفوا في كونه تعالى مريداً مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى:
أ. منهم من قال: إنه معنى سلبي، ومعناه أنه غير مغلوب ولا مستكره.
ب. ومنهم من قال: إنه أمر ثبوتي، وهؤلاء اختلفوا:
• قال بعضهم(2).: معناه علمه تعالى باشتماله الفعل على المصلحة أو المفسدة، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف.
• قال بعضهم(3).: إنه صفة زائدة على العلم ثم القسمة في تلك الصفة، إما أن تكون ذاتية، وإما أن تكون معنوية، وذلك المعنى إما أن يكون قديماً وهو قول الأشعرية، أو محدثاً وذلك المحدث إما أن يكون قائماً بالله تعالى، وهو قول الكرامية، أو قائماً بجسم آخر وهذا القول لم يقل به أحد، أو يكون موجوداً لا في محل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما.
26. الضمير في (أنه الحق) للمثل أو لأن يضرب، وفي قولهم ماذا أراد الله بهذا استحقار كما قالت عائشة في عبد الله بن عمرو بن العاص: يا عجبا لابن عمرو هذا.
27. (مثلًا) نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث ماذا أراد بهذا جواباً؟ ولمن حمل سلاحاً رديئاً كيف تنتفع بهذا سلاحاً؟ أو على الحال كقوله: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً﴾ [الأعراف: 73].
28. لما حكى الله تعالى عنهم كفرهم واستحقارهم كلام الله بقوله: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ أجاب عنه بقوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾
29. الهمزة تارة:
أ. تجيء لنقل الفعل من غير المتعدي إلى المتعدي كقولك خرج فإنه غير متعد، فإذا قلت أخرج فقد جعلته متعدياً.
ب. وقد تجيء لنقل الفعل من المتعدي إلى غير المتعدي كقولك كببته فأكب.
ج. وقد تجيء لمجرد الوجدان، حكي عن عمرو بن معديكرب أنه قال لنبي سليم: قاتلناكم فما أجبناكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم، وسألناكم فما أبخلناكم، أي فما وجدناكم جبناء ولا مفحمين ولا بخلاء، ويقال أتيت أرض فلان فأعمرتها أي وجدتها عامرة قال المخبل:
تمنى حصين أن يسود خزاعة... فأمسى حصين قد أذل وأقهرا
أي وجد ذليلًا مقهوراً.
30. بناء على هذا؛ فإن قولنا: أضله الله لا يمكن حمله إلا على وجهين: أحدهما: أنه صيره ضالًا، والثاني: أنه وحده ضالًا، أما التقدير الأول وهو أنه صيره ضالًا فليس في اللفظ دلالة على أنه تعالى صيره ضالًا عماذا، وفيه وجهان: أحدهما: أنه صيره ضالًا عن الدين، والثاني: أنه صيره ضالًا عن الجنة.
31. أما أنه تعالى صيره ضالًا عن الدين، فاعلم أن معنى الإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى ترك الدين وتقبيحه في عينه وهذا هو الإضلال الذي أضافه الله تعالى إلى إبليس فقال: ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ [القصص: 15]، وقال: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ [النساء: 119]، و﴿ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ﴾ [فصلت: 29]، وقال: ﴿ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ﴾ [النمل: 24، العنكبوت: 38]، وقال الشيطان إلى قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: 22]، وأيضاً أضاف الله تعالى هذا الإضلال إلى فرعون فقال: ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ [طه: 79]
32. الأمة مجمعة على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله تعالى، لأنه تعالى ما دعا إلى الكفر، وما رغب فيه، بل نهى عنه وزجر وتوعد بالعقاب عليه، وإذا كان المعنى الأصلي للإضلال في اللغة ليس إلا هذا، وهذا المعنى منفي بالإجماع ثبت انعقاد الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللفظ على ظاهره.
33. عند هذا افتقر أهل الجبر والقدر إلى التأويل:
أ. أما أهل الجبر فقد حملوه على أنه تعالى خلق الضلال والكفر فيهم، وصدهم عن الإيمان وحال بينهم وبينه، وربما قالوا هذا هو حقيقة اللفظ في أصل اللغة، لأن الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالًا كما أن الإخراج والإدخال عبارة عن جعل الشيء خارجاً وداخلًا.
ب. أما أهل القدر، فقد ذكروا أن هذا التأويل غير جائز لا بحسب الأوضاع اللغوية ولا بحسب الدلائل العقلية.
34. استدلّ القدرية على فساد قول الجبرية بوجوه من الأوضاع اللغوية:
أ. أحدها: أنه لا يصح من طريق اللغة أن يقال لمن منع غيره من سلوك الطريق كرهاً وجبراً أنه أضله، بل يقال منعه منه وصرفه عنه، وإنما يقولون إنه أضله عن الطريق، إذا لبس عليه وأورد من الشبهة ما يلبس عليه الطريق فلا يهتدي له.
ب. ثانيها: أنه تعالى وصف إبليس وفرعون بكونهما مضللين، مع أن فرعون وإبليس ما كان خالقين للضلال في قلوب المستجيبين لهما بالاتفاق، وأما عند الجبرية فلأن العبد لا يقدر على الإيجاد، وأما عند القدرية فلأن العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد، فلما حصل اسم المضل حقيقة مع نفي الخالقية بالاتفاق، علمنا أن اسم المضل غير موضوع في اللغة لخالق الضلال.
ج. ثالثها: أن الإضلال في مقابلة الهداية، فكما صح أن يقال هديته فما اهتدى وجب صحة أن يقال أضللته فما ضل، وإذا كان كذلك استحال حمل الإضلال على خلق الضلال
35. استدلّ القدرية على فساد قول الجبرية بوجوه من الدلائل العقلية:
أ. أحدها: أنه تعالى لو خلق الضلال في العبد ثم كلفه بالإيمان لكان قد كلفه بالجمع بين الضدين وهو سفه وظلم، وقال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46] وقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286] وقال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]
ب. ثانيها: لو كان تعالى خالقاً للجهل وملبساً على المكلفين لما كان مبيناً لما كلف العبد به، وقد أجمعت الأمة على كونه تعالى مبيناً.
ج. ثالثها: أنه تعالى لو خلق فيهم الضلال وصدهم عن الإيمان لم يكن لإنزال الكتب عليهم وبعثة الرسل إليهم فائدة لأن الشيء الذي لا يكون ممكن الحصول كان السعي في تحصيله عبثاً وسفهاً.
د. رابعها: أنه على مضادة كبيرة من الآيات نحو قوله: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الانشقاق: 20]، ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: 49]، ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 94]، فبين أنه لا مانع لهم من الإيمان ألبتة، وإنما امتنعوا لأجل إنكارهم بعثة الرسل من البشر، وقال: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ﴾ [الكهف: 55] وقال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: 28] وقال: ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ وقال: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ فلو كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين وصرفهم عن الإيمان لكانت هذه الآيات باطلة.
هـ. خامسها: أنه تعالى ذم إبليس وحزبه ومن سلك سبيله في إضلال الناس عن الدين وصرفهم عن الحق وأمر عباده ورسوله بالاستعاذة منهم بقوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ إلى قوله: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾ و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾، ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ [المؤمنين: 97]، ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98] فلو كان الله تعالى يضل عباده عن الدين كما تضل الشياطين لاستحق من المذمة مثل ما استحقوه، ولوجب الاستعاذة منه كما وجب منهم، ولوجب أن يتخذوه عدواً من حيث أضل أكثر خلقه كما وجب اتخاذ إبليس عدواً لأجل ذلك، بل خصيصية الله تعالى في ذلك أكثر إذ تضليل إبليس سواء وجوده وعدمه فيما يرجع إلى حصول الضلال بخلاف تضليل الله فإنه هو المؤثر في الضلال فيلزم من هذا تنزيه إبليس عن جميع القبائح وإحالتها كلها على الله تعالى فيكون الذم منقطعاً بالكلية عن إبليس وعائداً إلى الله سبحانه وتعالى عن قول الظالمين.
و. سادسها: أنه تعالى أضاف الإضلال عن الدين إلى غيره وذمهم لأجل ذلك، فقال: ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ [طه: 79]، ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾ [طه: 85]، ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: 116]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26] وقوله تعالى حاكياً عن إبليس: ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ﴾ [النساء: 119] فهؤلاء إما أن يكونوا قد أضلوا غيرهم عن الدين في الحقيقة أو يكون الله هو الذي أضلهم أو حصل الإضلال بالله وبهم على سبيل الشركة، فإن كان الله تعالى قد أضلهم عن الدين دون هؤلاء فهو سبحانه وتعالى قد تقول عليهم إذ قد رماهم بدأبه وعابهم بما فيه وذمهم بما لم يفعلوه، والله متعالٍ عن ذلك وإن كان الله تعالى مشاركاً لهم في ذلك فكيف يجوز أن يذمهم على فعل هو شريك فيه ومساو لهم فيه وإذا فسد الوجهان صح أن لا يضاف خلق الضلال إلى الله تعالى.
ز. سابعها: أنه تعالى ذكر أكثر الآيات التي فيها ذكر الضلال منسوباً إلى العصاة على ما قال ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: 26]، ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾ [إبراهيم: 27]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67]، ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34]، ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 28] فلو كان المراد بالضلال المضاف إليه تعالى هو ما هم فيه كان كذلك إثباتاً للثابت وهذا محال.
ح. ثامنها: أنه تعالى نفى إلهية الأشياء التي كانوا يعبدونها من حيث إنهم لا يهدون إلى الحق قال: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾ [يونس: 35]، فنفى ربوبية تلك الأشياء من حيث إنها لا تهدي وأوجب ربوبية نفسه من حيث إنه سبحانه وتعالى يهدي فلو كان سبحانه وتعالى يضل عن الحق لكان قد ساواهم في الضلال وفيما لأجله نهى عن اتباعهم، بل كان قد أربى عليهم، لأن الأوثان كما أنها لا تهدي فهي لا تضل، وهو سبحانه وتعالى مع أنه إله يهدي فهو يضل.
ط. تاسعها: أنه تعالى يذكر هذا الضلال جزاء لهم على سوء صنيعهم وعقوبة عليه، فلو كان المراد ما هم عليه من الضلال كان ذلك عقوبة وتهديداً بأمرهم له ملابسون، وعليه مقبولون، وبه ملتذون ومغتبطون، ولو جاز ذلك لجازت العقوبة بالزنا على الزنا وبشرب الخمر على شرب الخمر، وهذا لا يجوز.
ي. عاشرها: أن قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ [البقرة: 26، 27] صريح في أنه تعالى إنما يفعل به هذا الإضلال بعد أن صار هو من الفاسقين الناقضين لعهد الله باختيار نفسه، فدل ذلك على أن هذا الإضلال الذي يحصل بعد صيرورته فاسقاً وناقضاً للعهد مغاير لفسقه ونقضه.
ك. حادي عاشرها: أنه تعالى فسر الإضلال المنسوب إليه في كتابه، إما بكوه ابتلاءً وامتحاناً، أو بكونه عقوبة ونكالًا، فقال في الابتلاء: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي امتحاناً إلى أن قال ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [المدثر: 31]، فبين أن إضلاله للعبد يكون على هذا الوجه من إنزاله آية متشابهة أو فعلًا متشابهاً لا يعرف حقيقة الغرض فيه، والضال به هو الذي لا يقف على المقصود ولا يتفكر في وجه الحكمة فيه، بل يتمسك بالشبهات في تقرير المجمل الباطل كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: 7] وأما العقوبة والنكال فكقوله: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾ [غافر: 71] إلى أن قال ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ فبين أن إضلاله لا يعدو أحد هذين الوجهين.
36. إذا كان الإضلال مفسراً بأحد هذين الوجهين وجب أن لا يكون مفسراً بغيرهما دفعاً للاشتراك، فثبت أنه لا يجوز حمل الإضلال على خلق الكفر والضلال، وإذا ثبت ذلك فإن الإضلال ـ إن كان المراد منه ـ في أصل اللغة الدعاء إلى الباطل والترغيب فيه والسعي في إخفاء مقابحه، وذلك لا يجوز على الله تعالى فوجب المصير إلى التأويل، والتأويل الذي ذهبت الجبرية إليه قد أبطلناه فوجب المصير إلى وجوه أخر من التأويلات:
أ. أحدها: أن الرجل إذا ضل باختياره عند حصول شيء من غير أن يكون ذلك الشيء أثر في إضلاله فيقال لذلك الشيء أنه أضله:
• قال تعالى في حق الأصنام ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: 36] أي ضلوا بهن، وقال: ﴿وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ [نوح: 23، 24] أي ضل كثير من الناس بهم.
• وقال: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ [المائدة: 64]، وقال: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ [نوح: 6] أي لم يزدادوا بدعائي لهم إلا فراراً.
• وقال: ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ [المؤمنون: 110] وهم لم ينسوهم في الحقيقة، بل كانوا يذكرونهم الله ويدعونهم إليه، ولكن لما كان اشتغالهم بالسخرية منهم سبباً لنسيانهم أضيف الإنساء إليهم.
• وقال في براءة: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: 124، 125] فأخبر سبحانه أن نزول السورة المشتملة على الشرائع يعرف أحوالهم فمنهم من يصلح عليها فيزداد بها إيماناً، ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كفراً، فإذن أضيفت الزيادة في الإيمان والزيادة في الكفر إلى السورة، إذ كانوا إنما صلحوا عند نزولها وفسدوا كذلك أيضاً، فكذا أضيف الهدى والإضلال إلى الله تعالى إذا كان إحداثهما عند ضربه تعالى الأمثال لهم.
• وقال في سورة المدثر: ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر: 31] فأخبر تعالى أن ذكره لعدة خزنة النار امتحان منه لعباده ليتميز المخلص من المرتاب فآلت العاقبة إلى أن صلح عليها المؤمنون وفسد الكافرون وأضاف زيادة الإيمان وضدها إلى الممتحنين فقال ليزداد وليقول ثم قال بعد قوله: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [المدثر: 31] فأضاف إلى نفسه إضلالهم وهداهم بعد أن أضاف إليهم الأمرين معاً، فبين تعالى أن الإضلال مفسر بهذا الامتحان.
• ويقال في العرف أيضاً، أمرضني الحب أي مرضت به: ويقال قد أفسدت فلانة فلاناً وهي لم تعلم به، وقال الشاعر: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء.. أي يغري الملوم باللوم.
والإضلال على هذا المعنى يجوز أن يضاف إلى الله تعالى على معنى أن الكافرين ضلوا بسبب الآيات المشتملة على الامتحانات، ففي هذه الآية الكفار لما قالوا: ما الحاجة إلى الأمثال وما الفائدة فيها واشتد عليهم هذا الامتحان حسنت هذه الإضافة.
ب. ثانيها: أن الإضلال هو التسمية بالضلال، فيقال أضله أي سماه ضالًا وحكم عليه به وأكفر فلان فلاناً إذا سماه كافراً، وأنشدوا بيت الكميت:
وطائفة قد أكفروني بحبكم... وطائفة قالوا مسيء ومذنب
وقال طرفة:
وما زال شربي الراح حتى أضلني... صديقي وحتى ساءني بعض ذلكا
أراد سماني ضالًا، وهذا الوجه مما ذهب إليه قطرب وكثير من المعتزلة، ومن أهل اللغة من أنكره وقال: إنما يقال ضللته تضليلًا إذا سميته ضالًا، وكذلك فسقته وفجرته إذا سميته فاجراً فاسقاً، وأجيب عنه بأنه متى صيره في نفسه ضالًا لزمه أن يصير محكوماً عليه بالضلال، فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم مجاز مشهور وأنه مستعمل أيضاً لأن الرجل إذا قال لآخر: فلان ضال جاز أن يقال له لم جعلته ضالًا ويكون المعنى لم سميته بذلك ولم حكمت به عليه فعلى هذا الوجه حملوا الإضلال على الحكم والتسمية.
ج. ثالثها: أن يكون الإضلال هو التخلية وترك المنع بالقهر والجبر، فيقال أضله إذا خلاه وضلاله قالوا: ومن مجازه قولهم: أفسد فلان ابنه وأهلكه ودمر عليه إذا لم يتعهده بالتأديب، ومثله قول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا... ليوم كريهة وسداد ثغر
ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية حتى فسد وصدئ: أفسدت سيفك وأصدأته.
د. رابعها: الضلال والإضلال هو العذاب والتعذيب بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ [القمر: 47، 48] فوصفهم الله تعالى بأنهم يوم القيامة في ضلال وذلك لا يكون إلا عذابهم، وقال تعالى: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ﴾ [غافر: 71 ـ 74] فسر ذلك الضلال بالعذاب.
هـ. خامسها: أن يحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال كقوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 1] قيل أبطلها وأهلكها، ومن مجازه قولهم: ضل الماء في اللبن إذا صار مستهلكاً فيه، ويقال: أضللته أنا إذا فعلت ذلك به فأهلكته وصيرته كالمعدوم، ومنه يقال أضل القوم ميتهم إذا واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يرى، قال النابغة:
وآب مضلوه بعين جلية... وغودر بالجولان حزم ونائل
وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [السجدة: 10] أي أإذا اندفنا فيها فخفيت أشخاصنا، فيحتمل على هذا المعنى يضل الله إنساناً أي يهلكه ويعدمه فتجوز إضافة الإضلال إليه تعالى على هذا الوجه.
و. سادسها: ذكر القدرية أنه إذا حملنا الإضلال على الإضلال عن الجنة، فإن هذا في الحقيقة ليس تأويلًا بل حملًا للفظ على ظاهره فإن الآية تدل على أنه تعالى يضلهم وليس فيها دلالة على أنه عما ذا يضلهم، فنحن نحملها على أنه تعالى يضلهم عن طريق الجنة، ثم حملوا كل ما في القرآن من هذا الجنس على هذا المحمل وهو اختيار الجبائي قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج: 4] أي يضله عن الجنة وثوابها، هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية.
ز. سابعها: أن نحمل الهمزة لا على التعدية بل على الوجدان، حيث يقال: أضل فلان بعيره أي ضل عنه، فمعنى إضلال الله تعالى لهم أنه تعالى وجدهم ضالين.
ح. ثامنها: أن يكون قوله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ من تمام قول الكفار فإنهم قالوا ماذا أراد الله بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه، ثم قالوا: يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً، وذكروه على سبيل التهكم، فهذا من قول الكفار، ثم قال تعالى جواباً لهم: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ أي ما أضل به إلا الفاسق.
37. الفاسق أصله من قولهم: فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت، فكأن الفاسق هو الخارج عن الطاعة، وتسمى الفأرة فويسقة لخروجها لأجل المضرة.
38. اختلف أهل القبلة في أنه هل هو مؤمن أو كافر: فقيل: إنه مؤمن.. وقيل إنه كافر، وقيل: إنه لا مؤمن ولا كافر، واحتج المخالف بقوله تعالى: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ [الحجرات: 11] وقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 17] وقال: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ [الحجرات: 7]
39. اختلفوا في المراد، من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ وذكروا وجوهاً:
أ. أحدها: أن المراد بهذا الميثاق حججه القائمة على عباده الدالة لهم على صحة توحيده وصدق رسله، فكان ذلك ميثاقاً وعهداً على التمسك بالتوحيد إذا كان يلزم بهذه الحجج التمسك بالتوحيد وغيره، ولذلك صح قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40]
ب. ثانيها: ما دل عليه بقوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا﴾ [فاطر: 42] فلما لم يفعلوا ما حلفوا عليه وصفهم بنقض عهده وميثاقه.
ج. ثالثها: يحتمل أن يكون المقصود بالآية قوماً من أهل الكتاب قد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته.. قاله القفال.
د. ورابعاً: إنه عنى به ميثاقاً أخذه من الناس وهم على صورة الذر وأخرجهم من صلب آدم كذلك، وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172]، قال المتكلمون هذا ساقط لأنه تعالى لا يحتج على العباد بعهد وميثاق لا يشعرون به كما لا يؤاخذهم بما ذهب علمه عن قلبهم بالسهو والنسيان فكيف يجوز أن يعيبهم بذلك؟
هـ. خامسها: عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود:
• العهد الذي أخذه على جميع ذرية آدم وهو الإقرار بربوبيته وهو قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾ [الأعراف: 172]
• وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه وهو قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ﴾ [الأحزاب: 7]
• وعهد خص به العلماء، وهو قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]
40. التأويل الأول يمكن فيه العموم فيه كل من ضل وكفر، والثاني: لا يمكن إلا فيمن اختص بهذا القسم، إذا ثبت هذا ظهر، ومن أدلة رجحان التأويل الأول، وهو أن المراد بهذا الميثاق حججه القائمة:
أ. الأول: أن على التقدير الأول يمكن إجراء الآية على عمومها، وعلى الثاني يلزم التخصيص.
ب. الثاني: أن على التقدير الأول يلزمهم الذم لأنهم نقضوا عهداً أبرمه الله وأحكمه بما أنزل من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وأوضحها وأزال التلبيس عنها، ولما أودع في العقول من دلائلها وبعث الأنبياء وأنزل الكتب مؤكداً لها، وأما على التقدير الثاني فإنه يلزمهم الذم لأجل أنهم تركوا شيئاً هم بأنفسهم التزموه ومعلوم أن ترتيب الذم على الوجه الأول أولى.
41. الضمير في ميثاقه للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله ويجوز أن يكون بمعنى توثيقه كما أن الميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى من بعد ما وثق به عهده من آياته وكتبه ورسله.
42. اختلفوا في المراد من قوله تعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ فذكروا وجوهاً:
أ. أحدها: أراد به قطيعة الرحم وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها، وهو كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [محمد: 22]، وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من القرابة، وعلى هذا التأويل تكون الآية خاصة.
ب. ثانيها: أن الله تعالى أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل المؤمنين فهم انقطعوا عن المؤمنين واتصلوا بالكفار، فذاك هو المراد من قوله: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾
ج. ثالثها: أنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن وهم كانوا مشتغلين بذلك.
43. قوله تعالى: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ الأظهر أن يراد به الفساد الذي يتعدى دون ما يقف عليهم، والأظهر أن المراد منه الصد عن طاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن تمام الصلاح في الأرض بالطاعة لأن بالتزام الشرائع يلتزم الإنسان كل ما لزمه، ويترك التعدي إلى الغير، ومنه زوال التظالم وفي زواله العدل الذي قامت به السموات والأرض، قال تعالى فيما حكى عن فرعون أنه قال: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر: 26]
44. أخبر الله تعالى أن من فعل هذه الأفاعيل خاسر، فقال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ وفي هذا الخسران وجوه:
أ. أحدها: أنهم خسروا نعيم الجنة لأنه لا أحد إلا وله في الجنة أهل ومنزل، فإن أطاع الله وجده، وإن عصاه ورثه المؤمنون، فذلك قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: 10 ـ 11]، وقال: ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الشورى: 45]
ب. ثانيها: أنهم خسروا حسناتهم التي عملوها لأنهم أحبطوها بكفرهم، فلم يصل لهم منها خير ولا ثواب، والآية في اليهود ولهم أعمال في شريعتهم، وفي المنافقين وهم يعملون في الظاهر ما يعمله المخلصون فحبط ذلك كله.
ج. ثالثها: أنهم إنما أصروا على الكفر خوفاً من أن تفوتهم اللذات العاجلة، ثم إنها تفوتهم إما عندما يصير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مأذوناً في الجهاد أو عند موتهم.
45. بالجملة(4). الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملًا لا يجزي عليه، فيقال له خاسر، كالرجل الذي إذا تعنى وتصرف في أمر فلم يحصل منه على نفع قيل له خاب وخسر لأنه كمن أعطى شيئاً ولم يأخذ بإزائه ما يقوم مقامه، فسمى الكفار الذين يعملون بمعاصي الله خاسرين قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [العصر: 2، 3] وقال: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: 103، 104]
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/362.
(2) نسبه للجاحظ والكعبي وأبو الحسن البصري.
(3) نسبه لأصحابه وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهما .
(4) نسبه للقفال، تفسير الفخر الرازي: 2/375.
ابن حمزة:
روي عن الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ المعنى في ذلك: أن الكفار ومن ينكر الحكيم ينفي عنه سبحانه خلق المنفرات، كالثنوية ومن يقول بقولهم، فبين سبحانه أن ذلك خلقه، وأنه لا يستحي من التمثيل بالبعوضة؛ لأن فيها من أنواع الخلقة، والتوصيل والتفصيل ـ ما لا يقدر عليه إلا القادر لذاته ومن تجب عبادته.
2. ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ معناه: يعذب به كثيرا، ويثيب به كثيرا، وكذلك يكون الحال في الآخرة؛ وإنما يعذبهم بذنوبهم، كما قال تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ [العنكبوت: 40]، ويثيبهم على أفعالهم، كما قال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: 60]
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/30.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. البعوضة: فعولة من بعض إذا قطع اللحم، يقال: بضع وبعض بمعنى، وقد بعضته تبعيضا، أي جزأته فتبعض، والبعوض: البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها. قاله الجوهري وغيره.
2. قوله تعالى: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ ما دونها، أي إنها فوقها في الصغر. قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام: أتراه قصيرا؟ فيقول القائل: أو فوق ذلك، أي هو أقصر مما ترى، وقال قتادة وابن جريج: المعنى في الكبر.
3. قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً):
أ. قيل: هو من قول الكافرين، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى.
ب. وقيل: بل هو خبر من الله عز وجل، وهو أشبه، لأنهم يقرون بالهدى أنه من عنده، فالمعنى: قل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا، أي يوفق ويخذل.
4. عليه يكون فيه رد على من تقدم ذكرهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم: إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى، قالوا: ومعنى ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ التسمية هنا، أي يسميه ضالا، كما يقال: فسقت فلانا، يعني سميته فاسقا، لان الله تعالى لا يضل أحدا، هذا طريقهم في الإضلال، وهو خلاف أقاويل المفسرين، وهو غير محتمل في اللغة، لأنه يقال: ضلله إذا سماه ضالا، ولا يقال: أضله إذا سماه ضالا، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أهل التأويل من أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم، ولا خلاف أن قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ أنه من قول الله تعالى.
5. ﴿الْفَاسِقِينَ﴾ نصب بوقوع الفعل عليهم، والتقدير: وما يضل به أحدا إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم، ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لان الاستثناء لا يكون إلا بعد تمام الكلام.
6. قال نوف البكالي: قال عزير فيما يناجي ربه عز وجل: إلهي تخلق خلقا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء، قال فقيل: يا عزير أعرض عن هذا! لتعرضن عن هذا أو لأمحونك من النبوة، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون.
7. الضلال أصله الهلاك، يقال منه: ضل الماء في اللبن إذا استهلك، ومنه قوله تعالى: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ [السجدة: 10]
8. الفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، والفأرة من جحرها، والفويسقة: الفأرة، وفي الحديث: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا)، روته عائشة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أخرجه مسلم، وفي رواية (العقرب) مكان (الحية)، فأطلق صلّى الله عليه وآله وسلّم عليها اسم الفسق لإذيتها، وفسق الرجل يفسق ويفسق أيضا ـ عن الأخفش ـ فسقا وفسوقا، أي فجر، فأما قوله تعالى: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ فمعناه خرج، وزعم ابن الاعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق، قال وهذا عجب، وهو كلام عربي حكاه عنه ابن فارس والجوهري، قلت: قد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب) الزاهر) له لما تكلم على معنى الفسق قول الشاعر:
يذهبن في نجد وغورا غائرا... فواسقا عن قصدها جوائرا
والفسيق: الدائم الفسق، ويقال في النداء: يا فسق ويا خبث، يريد: يا أيها الفاسق، ويا أيها الخبيث.
9. الفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان.
10. النقض: إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد، والنقاضة، ما نقض من حبل الشعر، والمناقضة في القول: أن تتكلم بما تناقض معناه، والنقيضة في الشعر: ما ينقض به، والنقض: المنقوض.
11. اختلف الناس في تعيين هذا العهد:
أ. فقيل: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره.
ب. وقيل: هو وصية الله تعالى إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به.
ج. وقيل: بل نصب الادلة على وحدانيته بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد، ونقضهم ترك النظر في ذلك.
د. وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا يكتموا أمره، فالآية على هذا في أهل الكتاب، قال أبو إسحاق الزجاج: عهده عز وجل ما أخذه على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ودليل ذلك: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) [آل عمران: 81] إلى قوله تعالى: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) [آل عمران: 81] أي عهدي.
وظاهر ما قبل وما بعد يدل على أنها في الكفار، فهذه خمسة أقوال، والقول الثاني يجمعها.
12. الميثاق: العهد المؤكد باليمين، مفعال من الوثاقة والمعاهدة، وهي الشدة في العقد والربط ونحوه، والجمع المواثيق على الأصل، لان أصل ميثاق موثاق، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها ـ والمياثق والمياثيق أيضا، وأنشد ابن الاعرابي:
حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا... ولا نسأل الأقوام عهد المياثق
والموثق: الميثاق، والمواثقة: المعاهدة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ﴾
13. في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله تعالى من نقض عهده، وقد قال: ﴿أَوْفُوا﴾ ﴾ بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1] وقد قال لنبيه عليه السلام: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنفال: 85 [فنهاه عن الغدر، وذلك لا يكون إلا بنقض العهد.
14. قوله تعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ﴾ القطع معروف، والمصدر ـ في الرحم ـ القطيعة، يقال: قطع رحمه قطيعة فهو رجل قطع وقطعة، مثال همزة، وقطعت الحبل قطعا، وقطعت النهر قطوعا، وقطعت الطير قطوعا وقطاعا وقطاعا إذا خرجت من بلد إلى بلد، وأصاب الناس قطعة: إذا قلت مياههم، ورجل به قطع: أي انبهار.
15. قوله تعالى: ﴿مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ (ما) في موضع نصب بـ (يقطعون)، و(أن) إن شئت كانت بدلا من (ما) وإن شئت من الهاء في (به) وهو أحسن، ويجوز أن يكون لئلا يوصل، أي كراهة أن يوصل.
16. اختلف ما الشيء الذي أمر بوصله:
أ. فقيل: صلة الأرحام.
ب. وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا.
ج. وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم.
د. وقيل: الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده، فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل، هذا قول الجمهور، والرحم جزء من هذا.
قوله تعالى: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الافعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا غاية الفساد.
17. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ ابتداء وخبر، و ﴿هُمْ﴾ زائدة، ويجوز أن تكون ﴿هُمْ﴾ ابتداء ثان، ﴿الْخَاسِرُونَ﴾ خبره، والثاني وخبره خبر الأول كما تقدم.
18. الخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز، والخسران: النقصان، كان في ميزان أو غيره، قال جرير:
إن سليطا في الخسار إنه... أولاد قوم خلقوا أقنه
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم، قال الجوهري: وخسرت الشيء (بالفتح) وأخسرته نقصته، والخسار والخسارة والخيسري: الضلال والهلاك، فقيل للهالك: خاسر، لأنه خسر نفسه واهلة يوم القيامة ومنع منزله من الجنة.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/244.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي: يذكر مثلا ما.. يقال: ضرب مثلا، ذكره، فيتعدّى لمفعول واحد. أو صيّر، فلمفعولين.. قال أبو إسحاق في قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا﴾ [الكهف: 32] أي: اذكر لهم، وعبارة الجوهريّ: ضرب الله مثلا أي وصف وبيّن، وفي شرح نظم الفصيح: ضرب المثل: إيراده ليمتثل به، ويتصوّر ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب.. يقال: ضرب الشيء مثلا، وضرب به، وتمثّله، وتمثّل به. ثم قال وهذا معنى قول بعضهم: ضرب المثل اعتبار الشيء بغيره، وتمثيله به.
2. (ما) هذه اسميّة إبهاميّة، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما، وزادته شياعا وعموما ـ كقولك: أعطني كتابا مّا، تريد أيّ كتاب كان ـ كأنه قيل: مثلا ما من الأمثال أيّ مثل كان. فهي صفة لما قبلها. أو حرفية مزيدة لتقوية النسبة وتوكيدها ـ كما في قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: 155] ـ كأنه قيل: لا يستحيي أن يضرب مثلا حقّا، أو البتّة.
3. ﴿بَعُوضَةً﴾ بدل من ﴿مَثَلًا﴾ . أو هما مفعولا (يضرب) لتضمنّه معنى الجعل والتصيير، ومعنى الآية: إنه تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة، ترك من يستحيي أن يتمثّل بها لحقارتها.. أي لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا ـ ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة ـ
4. كما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: 73]، وقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 41]، وغير ذلك من أمثال الكتاب العزيز.
5. فما استنكره السّفهاء وأهل العناد والمراء، واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء ومضروبا بها المثل ـ ليس بموضع للاستنكار والاستغراب ـ من قبل أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، وإدناء المتوهّم من المشاهد.. فإن كان المتمثّل له عظيما، كان المتمثّل به مثله، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك.. فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إذا، إلّا أمرا تستدعيه حال المتمثّل له وتستجرّه إلى نفسها، فيعمل الضارب للمثل على حسب تلك القضيّة.. ألا ترى إلى الحقّ لما كان واضحا، جليا أبلج. كيف تمثّل له بالضياء والنور؟ وإلى الباطل لما كان بضدّ صفته، كيف تمثل له بالظلمة؟
6. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه تعالى ـ أي: فأمّا المؤمنون ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ـ كسائر ما ورد منه تعالى ـ
7. الحق هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وذلك لأن التمثل به مسوق على قضيّة مضربه، ومحتذى على مثال ما يستدعيه ـ كما جعل بيت العنكبوت مثل الآلهة التي جعلها الكفّار أندادا لله تعالى ـ وجعلت أقل من الذباب، وأخسّ قدرا، وضربت لها البعوضة فما دونها مثلا، لأنه لا حال أحقر من تلك الأنداد وأقلّ..! فالمؤمنون ـ الذين عادتهم الإنصاف، والعمل على العدل والتسوية، والنظر في الأمور بناظر العقل ـ إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحقّ الذي لا تمرّ الشبهة بساحته، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله.
8. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ممّن غلبهم الجهل على عقولهم، وغشيهم على بصائرهم ـ فلا يتفطّنون، ولا يلقون أذهانهم. أو عرفوا أنّه الحق، إلّا أنّ حب الرياسة، وهوى الإلف والعادة، لا يخليهم أن ينصفوا ﴿فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ أي: فإذا سمعوه عاندوا، وكابروا، وقضوا عليه بالبطلان، وقابلوه بالإنكار.
9. لا خفاء في أنّ التمثيل بالبعوضة وبأحقر منها ـ مما لا تخفى استقامته وصحته على من به أدنى مسكة، ولكنّ ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل، ولا متشبّث بأمارة ولا إقناع، أن يرمي لفرط الحيرة، والعجز عن إعمال الحيلة، بدفع الواضح، وإنكار المستقيم، والتعويل على المكابرة والمغالطة ـ إذا لم يجد سوى ذلك معوّلا.
10. ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ جواب عن تلك المقالة الباطلة، وردّ لها ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة، وغاية جميلة، هي كونه ذريعة إلى هداية المستعدّين للهداية، وإضلال المنهمكين في الغواية.
11. قدّم الإضلال على الهداية ـ مع تقدّم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعا يسوؤهم، ويفت في أعضادهم، وهو السرّ في تخصيص هذه الفائدة بالذكر.
12. ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ﴾ أي بالمثل أو بضربه ﴿إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ تكملة للجواب والردّ، وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم، ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له.
13. ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ صفة للفاسقين، للذم، و(العهد) الذي وصفوا بنقضه: هو وصيّة الله إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عمّا نهاهم عنه من معصيته ـ في كتبه، وعلى لسان رسله ـ ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.
14. ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ عامّ في كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى: كقطع الرحم، والإعراض عن موالاة المؤمنين، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ، فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كلّ وصل وفصل.
15. ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ بالمنع عن الإيمان، والاستهزاء بالحقّ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه.
16. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ لأنّهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح، وعقابها بثوابها، وهذه الصفات المسوقة في الآية صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين، كما قال تعالى في سورة الرعد: ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَأَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أولو الْأَلْبابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ولا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ والَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ويَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ﴾ [الرعد: 19 ـ 20 ـ 21] الآيات إلى أن قال: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [الرعد: 25]
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/279.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. قيل: لَمَّا مثَّل الله حال المنافقين بالذي استوقد نارًا أو بالصيِّب من السماء قال المنافقون: الله أجلُّ وأعلى من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله تعالى : ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَّضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً﴾
2. (ما) نعت لـ (مثلا) ولو كان جامدًا؛ لأنَّ معناه: حقير، أو كائن ما كان، وهو مشهور بذلك مستعمل فيه كثيرًا، بخلاف (بعوضة) فلا يكون نعتًا لأنَّه جامد ولو قصد به الوصف؛ لأنَّه لم يشهر أو لم يَرِدْ، لا يقال: جاء رجل بعوضة، بل (بعوضةً) مفعول أوَّل لِـ (ضَرَبَ)، و(مثلاً) مفعول ثانٍ له؛ لأنَّه بمعنى صيَّر؛ وإن عُدِّي لواحد فـ (مثلاً) مفعولٌ، و(بعوضةً) بدلٌ، أو مفعول، و(مثلاً) حال.
3. ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ إلى قوله: ﴿هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ للدنيا وأهلها، فإنَّ البعوضة تَحيَى ما جاعت، وإذا امتلأت ماتت، ومن امتلأ من الدنيا هلك، أو لأعمال العباد، يجازى عن القليل منها.
4. والصحيح ما ذكر عن ابن عبَّاس أنَّه ذكر الله سبحانه أصنام المشركين فقال: ﴿وَإِنْ يَّسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ [الحج: 73]، وذكر كيدها وجعله كَبَيْت العنكبُوتِ: ﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ﴾ [العنكبوت: 41]، فقالوا: كيف ينزل الله ذكر الذباب والعنكبوت!؟ فنزلت الآية: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾، وعن الحسن: لَمَّا نزل: ﴿يَآ أَيـُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ [الحج: 73]، قال المشركون: ما هذا من الأمثال!؟ فنزل: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ وفيه أنَّ ذكر المشركين لا يلائم كون الآية مدنيَّة، ويجاب بأنَّهم منافقون في المدينة يقولون ذلك فيما بينهم وهم مشركون في قلوبهم، وعن ابن عبَّاس لَمَّا ضرب المثل بالذباب والعنكبوت ـ قيل: ومستوقد النار ـ قال اليهود: ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة! فنزل: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾، أي لا يترك لقول اليهود والمشركين تصيير البعوضة فما فوقها في الصغر كجناحها مثلاً أو في الكِبَر كائنًا ما كان، أو يصير المثل شيئًا ما بعوضة فما فوقها؛ وإذا ضرب ما زاد على البعوضة في الصغر فأولى أن يضربه لما فوقها في الكبر كالذباب والعنكبوت.
5. والحياء: انكسار وانقباض عن عيب، والله منزَّه عن ذلك فيحمل في حقِّه على لازم ذلك وهو الترك، فالاستحياء من الله الترك، تعبيرًا باللازم؛ لأنَّ حقيقته يُنزَّه الله عنها، وهي انكسار يعتري الإنسان لخوفه من أن يعاب بما فعل، أو أراد فعله، وهو مشتقٌّ من معنى الحياة؛ لأنَّه يؤثِّر في القوَّة، ولا يحسن أن يبقى على ظاهره، ويوكل أمره إلى الله تعالى ـ ألهمنا تأويلاً صحيحًا بلا تكلُّف ـ ولا أن يقال: هو بظاهره بلا كيف لأنَّه كفر، والخجل حيرة النفس لشدَّة الحياء، وقيل: قبلَ الفعلِ والخجل بعده.
6. ﴿فَأمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾ أي المثل، هذا أولى؛ لأنَّه أقرب، أو الضرب؛ لأنَّه مصدر لفعل مقرون بـ (أن)، وليس من باب: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]، ويبعد عوده لترك الاستحياء، وأبعد منه عوده للقرآن، ﴿الْحَقُّ﴾ الثابت، أو خلاف الباطل حال كونه ﴿مِن رَّبِّهِمْ﴾، أو الحقُّ الصادر من ربِّهم.
7. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يهود وغيرهم، ﴿فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً﴾ من حيث التمثيل، إنكارًا وتعجُّبًا من صحَّته مثلاً، وهذا برهان على أنَّهم لا يعلمون، إذ لا يقوله من يعلم، فهو أبلغ من قولك: وَأَمَّا الذين كفروا فلا يعلمونه حقًّا، وأجابهم الله تعالى ، ونصب (مثلاً) على التمييز، كما رأيت من اسم الإشارة لجواز تمييزه وتمييز الضمير إذا كانا مبهمين أو حال منه.
8. ﴿يُّضِلُّ بِهِ﴾ بالمثَل ﴿كَثِيرًا﴾ من الناس، يصيِّرهم ضالِّين لكفرهم به ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ لتصديقهم، فإنَّ التصديق هداية من الله تعالى ، ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ من سبق القضاء عليه بأن يموت على فسقه الذي هو شرك، ومن لم يؤمن به وسيؤمن فإنكاره فسقٌ يتوب منه، والسعيد في حال فسقه فاسق عند الله تعالى بما فعل لكنَّه في ولاية الله تعالى بما علم أنَّه يتوب؛ فهو فاسق في الحال بفعله، ومسلم في الأزل وما بعده لسعادته، وليس المراد أنَّه مسلم كافر عند الله باعتبار واحد؛ لأنَّه اجتمع فيه إيمان وكفر في حال واحد، ولا تقدر أن تقول: هو في حال فعله للكبيرة أنَّ فعله هذا مباح، ولا أنَّه طاعة ولا غير ذنب ولا غير فسق ولا غير كفر، وكلُّ خروج عن الشيء فهو فسق، إلَّا أنَّه لا يطلق حيث يُوهِم، والهداية والإضلال يتجدَّدان ويزدادان، فإن شئت فقل: يزيد به هدًى وإضلالاً، وقدَّمه لأنَّ الكلام في الردِّ على الضالِّين، وقولهم: ﴿مَاذَآ أَرَادَ اللهُ﴾ ناشئ عن الضلال، وما في القرآن سبب له؛ ولذلك أكَّده بقوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ فيكون بدأ به وختم به.
9. ﴿الذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ﴾ يُبطِلون ـ إبطالاً شبيهًا بفكِّ طاقات الحبل ـ العهدَ الشبيه بالحبل في التوصُّل به إلى المراد، من نجاة من مكروه وفوز بما يحبُّ، وهو ما أنزل الله تعالى في كتبه ـ القرآن وما قبله ـ من الإيمان به صلّى الله عليه وآله وسلّم فإنَّ ذلك كالمعلوم، ولو لم يُعلم لقوَّة حُجَجِه كأنَّه معلوم ولو لمن لم يعلمه، وزاد أهل الكتاب بما في كتبهم من أخذ الميثاق عليهم وعلى أنبيائهم وأمَمهم أن يؤمنوا بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم .
10. وقد أخذ الله العهد بالإيمان على بني آدم يوم ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172]، وأخذ الله العهد على الأنبياء أن يقيموا الدين، ويؤمنوا بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأخذوا العهد على أنفسهم أن يؤمنوا به، وأخذ العهد على العلماء وعلى من علم أن يبيِّنوا الحقَّ، والآية في الكفَّار عمومًا.
11. شبَّه العهد ـ وهو ما عهد الله تعالى إلى الخلق من الدين ـ بالحبل لجامع التوصُّل إلى المقصود والارتباط، ولم يذكره، ودلَّ له بذكر مناسِبِه وهو النقض، فالحبل استعارة بالكناية، وقرينتها تصريحيَّة تبعيَّة وهي (ينقض)، فهنا استعارة مكنيَّة قرينتها استعارة تحقيقيَّة لا تخييليَّة، شبَّه إبطال العهد بقطع الحبل أو فكِّ طاقاته فسمِّي الإبطال نقضًا، واشتقَّ منه (ينقض).
12. ﴿مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ تأكيد الله وإبرامه للعهد بالأدلَّة العقليَّة والنقليَّة كالكتب من الله؛ فالهاء للمضاف إليه وهو (الله)، ولا إشكال فيه إذا كانت الإضافة لفظيَّة، كالإضافة إلى الفاعل كما رأيت، أو المفعول كما ستراه إن شاء الله، فإنَّها في منزلة عدم الإضافة، أو من بعد ميثاق العهد، أي: إبرامه كذلك، أو تأكُّده وتقوِّيه من الله، أو منهم بالقبول والالتزام، فالهاء للعهد، والميثاق: التوثُّق أو التوثيق، أو آلة؛ أي ما وثَّق الله تعالى به عهده من الآيات.
13. ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُّوصَلَ﴾ أي بأن يوصل، أي: بوصله، وهو الإيمان بالنبيء صلّى الله عليه وآله وسلّم والأنبياء، وعدم التفرقة بين رسول وآخر، وكتاب وآخر، والرحمِ والمؤمنين والجهاد وسائر الدين، وما ذكر من العموم أولى من تفسير ما أمر الله به بمحمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإطلاق ما عليه، ومن تفسيره بالقرآن أو بالرَّحِمِ، ومن تفسيره بوصل القول بالعمل، ومن تفسيره بالأنبياء، و(أَنْ يُّوصَلَ) بدل اشتمال من الهاء كما رأيت، والأمر: طلب الفعل جزمًا ولو ندبًا، أو بشرط العلوِّ ولو ادِّعاءً، أو بشرط تحقُّق العلوِّ.
14. ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الَارْضِ﴾ بالمعاصي مطلقًا أو بالمنع عن الإسلام وقطع الطريق عمَّن يهاجر وهو أولى، ﴿أُوْلَئِكَ﴾ البعداء عن مقام الخير بصفاتهم الخبيثة ﴿هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ المبطلون لمصالح أنفسهم، إذ صاروا للنار إذ لم ينتفعوا للآخرة بعقولهم وأموالهم وأبدانهم وأولادهم وجاههم، وأبطلوا نساءهم في الجنَّة ومنازلهم فيها فلا رأس مال ولا ربح.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/65.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الآيات متصلة بما قبلها لم يختلف النظم ولم يخرج الكلام عن الموضوع الأصلى وهو الكتاب الذي لا ريب فيه، وحال الناس في الإيمان به وعدم الإيمان، ولا فصل في صحة هذا الوصل بين أن يكون الكلام:
أ. ردا على اليهود الذين أنكروا ضرب الأمثال بالمحقرات كالذباب والعنكبوت كما يروى عن ابن عباس.
ب. أوردا على المنافقين الذين أنكروا الأمثال في الآيات السابقة بمستوقد النار والصيب من السماء زاعمين أنه لا يليق بالله ضرب الأمثال.
ج. أو يكون المراد بالمثل القدوة نقريرا لنبوة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
2. أما على الأول فيقال: إنه إنما نص هنا على نفى الاستحياء من ضرب أي مثل، ولم يذكر ذلك هناك عند تمثيل الأولياء الذين اتخذوهم من دون الله بالذباب والعنكبوت لأن المقام هنا مقام ذكر الاعتراض الموجه على القرآن، فيكون هذا مقام رد شبه المكابرين عنه، وأما على الثاني والثالث فهو أظهر، على أنه لا حاجة في فهم الآية إلى ما قالوه في سببها، فان لم تكن ردا لما قيل فهي رد لما قد يقال. أو يجول في خواطر أهل المكابرة والجدال، والمجاحدة والمحال.
3. الاستحياء ـ كما قال صاحب الكشاف ـ إنه من الحياء وهو انكسار وتغير في النفس يلم بها إذا نسب إليها أو عرض لها فعل تعتفد قبحه، وفى الحالة الثانية يكون مانعا من الفعل الذي يعرض، يقال: فلان يستحى أن يفعل كذا، أي إن نفسه تنكسر فتنقض عن فعله، ويقال إنه استحيا من عمل كذا، أي إن نفسه انفعلت وتألمت عندما عرض عليه عمله فرآه شينا أو نقصا، ويقال حيي بهذا المعنى، كأنه أصيب في حياته، كما يقال: نسى إذا أصيب في نساه ـ وهو عرق يسمونه عرق النسا بفتح النون ـ وحشى إذا أصيب في حشاه، وقالوا: إن الحياء ضعف في الحياة بما يصيب موضعها وهو النفس.
4. معنى عدم استحياء الله تعالى أنه لا يعرض له ذلك الانكسار والانفعال، ولا يعتريه ذلك التأثر والضعف فيمتنع من ضرب المثل، بل هو يضرب من الأمثال الهادية والمطابقة لحال الممثل به ما يعلم أنه يجلى الحقائق ويؤثر في القلوب، ولكن صاحب الكشاف وغيره أرادوا أن يجعلوا الآية دليلا على اتصاف الله تعالى بالحياء، فقالوا إن النفي خاص ومثله إذا ورد على شيء يدل على أن ذلك الشيء قابل للاتصاف بالمنفى، فمن لا قدرة له على شيء لا ينفى عنه، لا تقول: إن عيني لا تسمع وأذنى لا ترى، وقالوا: إن معنى نفى الاستحياء هو أن الله تعالى لا يرى من النقص أن يضرب مثلا بعوضة فما دونها، لأنه خالق كل شيء، وقد ورد في الحديث نسبة الحياء إلى الله تعالى، والنافون له يؤولون ما ورد بأثره وغايته.
5. الحديث في وصفه تعالى بالحياء مروى عن يعلى بن أمية وعن سلمان الفارسي أخرجهما أحمد وأبو داوود والأول النسائي والثاني الترمذي وابن ماجه والحاكم وحسنوهما، والتحقيق: أن الحياء انفعال النفس وتألمها من النقص والقبيح بالغريزة الفضلى غريزة حب الكمال فهو كمال لها خلافا لأولى الوقاحة الذين يعدونه ضعفا ونقصا، وإنما النقص الافراط في هذه الصفة بحيث تضعف عن الاقدام على الشيء الحسن النافع اتقاء لذم من لا يعرف حسنه أو لا يعترف به.
6. المثل في اللغة الشبه والشبيه، وضربه عبارة عن إيقاعه وبيانه، وهو في الكلام أن يذكر لحال من الأحوال ما يناسبها ويشابهها ويظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا، ولما كان المراد به بيان الأحوال كان قصة وحكاية.
7. اختير له لفظ الضرب لأنه يأتي عند إرادة التأثير وهيج الانفعال، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعا ينفذ أثره إلى قلبه، وينتهى إلى أعماق نفسه.
8. في الكلام قلب حيث جعل المثل هو المضروب وإنما هو مضروب به.. هذا أبلغ في المعنى من جعل الضرب للمثل كضرب القبة والخيمة أو ضرب النقود.
9. إذا كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضى بأن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره والتنفير عنه بحال الأشياء التي جرى العرف بتحقيرها، واعتادت النفوس النفور منها، ومثل هذا لا يخفى على بليغ، ولا على عاقل أيضا، ولذلك قال بعضهم: إن المنكرين لم يروا في القرآن شيئا يعاب، فتمحلوا بقولهم هذا:
كضرائر الحسناء قلن لوجهها... حسدا وبغضا إنه لدميم
10. جروا في ذلك على عادة المتحذلقين المتكيسين إذ يتحامون ذكر الألفاظ التي مدلولاتها حقيرة في العرف، وإذا اضطروا لذكرها شفعوها بما يشفع لها كقولهم: أجلكم الله)
11. إذا كان شأن المثل ما ذكرنا وكان ذكر الأشياء التي ينفر منها من ذكرنا في الأمثال التي يراد منها التنفير، هو الأبلغ في التأثير الذي هو روح البلاغة وسرها، كان قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ مبينا لشأن من شؤون كماله عز وجل في كتابه العزيز، وقاضيا على الذين يتحامون ذكر البعوضة وأمثالها بنقص العقل، وخسران ميزان الفضل.
12. ذكر بعضهم أن المراد بالمثل في الآية القدوة الذي يؤتم به ويهتدى بهديه؛ وهذا المعنى للمثل معروف، وقد نطق به القرآن في قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾، وقوله ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾، وقال فيه: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾
13. هذه الآية تهدينا إلى فهم قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا﴾ أن المراد به دحض شبهة الذين أنكروا نبوة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وصلاحيته لأن يكون مثلا يقتدى به، وهى أنه بشر يأكل الطعام ويمشى في الأسواق، وهم المشركون، والذين أنكروا أن يكون من العرب وهم اليهود.. وقد حكى هذه الشبهة عنهم في آيات كثيرة، كأنهم يقولون: إذا كان بشرا مثلنا فكيف يدعى أنه رسول من الله يجب اتباعه، ومثل كامل ضرب للاقتداء به؟ ﴿ أأنزل الذكر عليه من بيننا ﴾ ولأى شيء لم يرسل الله ملكا؟ ومنهم من قال ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾
14. أقام الله الحجة على هؤلاء بقوله ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ الخ، وأتبعها بوعيد من أعرض عن الايمان بعد قيام البرهان وهم الكافرون، وبشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم المؤمنون، وبعد تقرير الحجة وهى تحديهم بسورة من مثله ـ كرّ على شبهتهم بالنقض وهى استبعاد أن يكون بشر رسولا من عنده.
15. لذلك يمكن فهم المثل جميعا على هذا الوجه، فالله تعالى خالق كل شيء، فيجعل ما شاء من المنفعة والفائدة فيما شاء ومن شاء من خلفه ويضربه مثلا للناس يهتدون به، وليس هذا نقصا في جانب الالوهية فيستحى من ضربها مثلا، بل من الكمال والفضل أن يجعل في المخلوقات الضعيفة والمحتقرة في العرف كالبعوض فوائد ومنافع، فكيف يستنكر أن يجعل من الانسان الكامل الذي كرمه وخلقه في أحسن تقويم مثلا وإماما يقتدى به قومه ويهتدون بهديه؟ فإن الذين آمنوا يعلمون أن هذا الامام الذي نصبه للناس مهما يكن ضعيفا قبل أن يقويه ببرهانه هو الحق الذي ثبت تأييده من ربهم، والكافرون يقولون لم لم يبعث إلى الناس من هو خير منه في نظرهم؟ وما ذا يريد بأن يجعل لهم قدوة في أضعفهم وأهونهم، وهكذا تقول في قوله: يضل به كثيرا.
16. المراد بما فوق البعوضة ما علاها وفاقها في مرتبة الصغر ومنها جنة النسم (الميكروبات) التي لا ترى إلا بالنظارات المكبرة (ميكروسكوب) وكانوا يضربون المثل بمخ النملة، وفى كلام بلغائهم: أسمع من قراد، وأطيش من فراشة، وأعز من مخ البعوضة.. والمعنى أن الله تعالى لا يترك ضرب مثل مّا من الأمثال حياء منه سواء كان بعوضة أو أصغر منها حجما، وأقل عند الناس شأنا.
17. عهد من أهل البصيرة الاقتداء بالحيوانات والاستفادة من خصالها وأعمالها، ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه قال تعلمت المراقبة من القط، وعن بعض حكماء المسلمين أنه قرأ كتابا نحوا من ثلاثين مرة فلم يفهمه، فيئس منه وتركه فرأى خنفسة تتسلق جدارا وتقع فعدّ عليها الوقوع فزاد على ثلاثين مرة ولم تيأس حتى تمكنت بعد ذلك من تسلقه والانتهاء إلى حيث أرادت، فقال: لن أرضى أن تكون هذه الخنفساء أثبت منى وأقوى عزيمة، فرجع إلى الكتاب فقرأه حتى فهمه.
18. ويقال إن (تيمور لنك) كانت تحدثه نفسه بالملك من أول نشأته، على ما كان من فقره ومهانته. فسرق مرة غنما (وكان لصا) ففطن له الراعي فرماه بسهمين أصابا كتفه ورجله فعطلاهما، فآوى إلى خربة وجعل يفكر في مهانته ويوبخ نفسه على طمعها في الملك، ولكنه رأى نملة تحمل تبنة وتصعد إلى السقف وعند ما تبلغه تقع ثم تعود وظلت على ذلك عامة الليل حتى نجحت في الصباح، فقال في نفسه والله لا أرضى بأن أكون أضعف عزيمة وأقل ثباتا من هذه النملة، وأصرّ على عزمه حتى صار ملكا وكان من أمره ما كان.
19. ذكر تعالى أن الناس في ذلك فريقان ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ لأنه ليس نقصا في حد ذاته؛ وقد جاء في كلامه تعالى فهو ليس نقصا في جانبه، وإنما هو حق لأنه مبين للحق ومقرر له، وسائق إلى الأخذ به، بما له من التأثير في النفس.
20. ذلك أن المعاني الكلية تعرض للذهن مجملة مبهمة فيصعب عليه أن يحيط بها وينفذ فيها فيستخرج سرها، والمثل هو الذي يفصل إجمالها، ويوضح إيهامها، فهو ميزان البلاغة وقسطاسها، ومشكاة الهداية ونبراسها.
21. رحم الله تعالى عبد القاهر الجرجاني إمام البلاغة والواضع الأول لعلمي المعاني والبيان، ومؤلف أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لتحقيق اعجاز القرآن، حيث قال في كتابه الأول: واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، وكسبها منقبة؛ ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أفاصى الأفئدة ضبابا وكلفا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفا:
أ. فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهز للعطف وأسر للألف، وأجلّب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح؛ وأقضى بغرر المواهب والمنائح، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر.
ب. وإن كان ذما كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحده أحد.
ج. وإن كان حجاجا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر.
د. وإن كان افتخارا كان شأوه أبعد، وشرفه أجد، ولسانه ألد.
هـ. وإن كان اعتذارا كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسل، ولغرب الغضب أفلّ، وفى عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث.
و. وإن كان وعظا كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر؛ وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يجلى الغياية، ويبصر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفى الغليل.
22. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فيجادلون في الحق بعد ما تبين، ويمارون بالبرهان وقد تعين؛ فيخرجون من الموضوع؛ ويعرضون عن الحجة؛ ويتتبعون الكلم المفردة؛ حتى إذا ظفروا بكلمة لا يستعذبها ذوق المتظرفين، ولا تدور على السنة المتكلفين، أظهروا العجب منها، وطفقوا يتساءلون عنها ﴿فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ ولو أنصفوا لعرفوا، ولكنهم ارتابوا في الحق فانصرفوا ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ يذهب به جدله إلى قياس رب العالمين، بمتنطعي المتأدبين، وينكر على ربه المثل والقياس، ولا ينكره على نفسه وعلى الناس.
23. قال تعالى في جوابهم ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ أي يضل بالمثل أو بالكلام المضروب فيه المثل أولئك الذين يجعلونه شبهة على الإنكار والريب، ويهدى به الذين يقدرون الأشياء بغاياتها، ويحكمون عليها بحسب فائدتها، وأنفع الكلام ما جلى الحقائق، وهدى إلى أقصد الطرائق، وساق النفوس بقوة التأثير، إلى حسن المصير: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ فهؤلاء العالمون هم المؤمنون الذين يعلمون أنه الحق من ربهم وهم المهديون به، وأما الذين قالوا ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ﴾ الخ، أي الذين ينكرون المثل لكفرهم فهم الضالون به.
24. الآية تشعر بأن المهتدين في الكثرة كالضالين مع أن هؤلاء أكثر وكأن الحكمة في التسوية إفادة أن المؤمنين المهتدين على قلتهم أجل فائدة وأكثر نفعا وأعظم آثارا من أولئك الكفار الفاسقين الضالين على كثرتهم، لأن المؤمنين كما قيل قليل إذا عدوا كثير إذا شدّوا ولذلك جعل الواحد في القتال بعشرة في حال القوة والعزيمة، وباثنين في حال الضعف، قيل هو ضعف البدن، وقيل: بل ضعف البصيرة، ولقد كان من أثر ذلك العدد القليل من المؤمنين الأولين أن سادوا جميع العالمين
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا... إلى المجد حتى عدّ ألف بواحد
إن الكرام كثير في البلاد وإن... قلوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا
25. وجه تقديم الاضلال على الهداية لأن سببه ومنشأه من الكفر متقدم في الوجود.
26. إنما جاءت الآيات المبينة بالأمثال لإخراجهم مما كانوا فيه من ظلمات الباطل إلى نور الحق، فزادت الفاسقين رجسا على رجسهم، لأن نور الفطرة قد انطفأ من أنفسهم، بتماديهم في نقض العهد، وقطع الوصل والافساد في الارض، كما في الآية التالية لهذه.
27. في الآية لف ونشر غير مرتب فان الضلال ذكر أولا، وهو للفريق الثاني، والهدى ذكر آخرا، وهو للفريق الاول.
28. بين الله تعالى شأنهم بقوله ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ فعرفت علة ضلالهم وهى الفسوق أي الخروج عن هداية الله تعالى في سننه في خلقه التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر، وبكتابه بالنسبة إلى الذين أوتوه، وليس المراد بالفاسقين ما هو معروف في الاصطلاحات الشرعية وهم العصاة بما دون الكفر من المعاصي فإنه لا يصح هنا، وتلك الاصطلاحات حادثة بعد التنزيل، وقد كان التعبير بيضل مشعرا بأن المثل هو منشأ الاضلال والهداية بذاته، فنفى ذلك بهذه الجملة ليبين أن منشأ الصلال راسخ فيهم وفى أعمالهم وأحوالهم.
29. وصف الضالين بالفسوق، ثم بين من حال فسوقهم نقض العهد الموثق، وقطع ما يجب أن يوصل، والإفساد في الأرض، وسجل بذلك عليهم الخسران وحصرهم في مضيقه، بحيث لا يسلم منه إلا من رجع عن فسوقه، فعلم بهذا أن المراد بإسناد الاضلال إليه تعالى في الآية السابقة بيان سنته تعالى في أصحاب هذه الأعمال من الفساق وهو أنهم يضلون حتى بما هو سبب من أشد أسباب الهداية تأثيرا وهو المثل المذكور بسبب رسوخهم في الفسق ونقضهم للعهد.. وليس المعنى أنه تعالى خلق الضلال فيهم خلقا وأجبرهم عليه إجبارا.
30. العهد هنا لفظ مجمل لم يتقدم الآيات ما يشعر به، ولم يتل فيما تلاها ما يبينه، وكذلك ما أمر الله به أن يوصل، ليس في سابق الآيات ولا في لاحقها ما يفسره ويبين المراد منه، فما المعنى الذي يتبادر منهما إلى أفهام المخاطبين، ويصح أن يؤخذ من حال أولئك الفاسقين، الذين أنكروا على الله أن يضرب مثلا يقتدى به من البشر أو من العرب، أو الذين أنكروا الوحى لمجيء الأمثال القولية فيه بما يعد حقيرا من المخلوقات في عرف المتكبرين والمتظرفين منهم؟
31. دل ذكر العهد والسكوت عما يفسره، وإطلاق ما أمر الله به أن يوصل بدون بيان ما يفصله، على أن الله تعالى ما وصفهم إلا بما هم متصفون به، ولا حاجة إلى بيان المجمل بالقول إذا كان الوجود قد تكفل ببيانه، والواقع قد فسره بلسانه، ويرشد إلى فهم العهد الإلهي هنا ما قلناه في معنى الفسوق فإن الفاسقين هم ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ فإذا كان معنى الفسوق الخروج عن سنن الله تعالى في خلقه التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر، وعن هداية الدين بالنسبة إلى الذين أوتوه خاصة، فعهد الله تعالى هو ما أخذهم به بمنحهم ما يفهمون به هذه السنن المعهودة للناس بالنظر والاعتبار، والتجربة والاختبار، أو العقل والحواس المرشدة إليها، وهى عامة، والحجة بها قائمة على كل من وهب نعمة العقل وبلغ سن الرشد سليم الحواس، ونقضه عبارة عن عدم استعمال تلك المواهب استعمالا صحيحا حتى كأنهم فقدوها وخرجوا من حكمها، كما قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ وكما قال فيهم أيضا: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾
32. هذا هو القسم الأول من العهد الإلهي، وهو العام الشامل، والأساس للقسم الثاني المكمل الذي هو الدين، فالعهد فطرى خلقي، وديني شرعي، فالمشركون نقضوا الأول؛ وأهل الكتاب الذين لم يقوموا بحقه نقضوا الأول والثاني جميعا، وأعنى بالناقضين من أنكر المثل من الفريقين.
33. والميثاق اسم لما يوثق به الشيء ويكون محكما يعسر نقضه، والله تعالى قد وثق العهد الفطري بجعل العقول بعد الرشد قابلة لادراك السنن الالهية في الخلق، ووثق العهد الديني بما أيد به الأنبياء من الآيات البينات، والأحكام المحكمات، وقد وثق العهد الأول بالعهد الثاني أيضا، فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم فهو ناقض لعهد الله فاسق عن سننه في تقويم البنية البشرية وإنمائها، وإبلاغ قواها وملكاتها حد الكمال الإنساني الممكن لها.
34. الأمر نوعان:
أ. أمر تكوين وهو ما عليه الخلق من النظام والسنن المحكمة، وقد سمى الله تعالى التكوين أمرا بما عبر عنه بقوله (كن)
ب. وأمر تشريع وهو ما أوحاه إلى أنبيائه وأمر الناس بالأخذ به.
35. من النوع الأول ترتيب النتائج على المقدمات، ووصل الأدلة بالمدلولات، وإفضاء الأسباب إلى المسببات، ومعرفة المنافع والمضار بالغايات.
36. قوله ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ فيه من الاجمال نحو ما في نقض العهد، وليس هو بمعناه على طريق التأكيد، وإنما هو وصف مستقل جاء متمما لما سبقه.
37. من أنكر نبوة النبيّ بعد ما قام الدليل على صدقه، أو أنكر سلطان الله على عباده بعد ما شهدت له بها آثاره في خلقه، فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل بمقتضى التكوين الفطري ـ وكذلك من أنكر شيئا مما علم أنه جاء به الرسول، لأنه إن كان من الأصول الاعتقادية ففيه القطع بين الدليل والمدلول، وإن كان من الأحكام العملية ففيه القطع بين المبادئ والغايات، لأن كل ما أمر الدين به قطعا فهو نافع ومنفعته تثبتها التجربة والدليل، وكل ما نهى عنه حتما فلا بد أن تكون عاقبته مضرة.
38. الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه هم الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل بغايته، أما بالنسبة إلى الايمان بالله تعالى وبالنبوة فيقطعون ما أمر به بمقتضى التكوين والنظام الفطري، وأما بالنسبة إلى الأحكام فيقطعون ما أمر به في كتبه أمر تشريع وتكليف، وصلة الأرحام تدخل في كل من القسمين.
39. إذا كان مشركو العرب قد نقضوا عهد الفطرة وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل بمقتضاها بتكذيبهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإيذائه وهو ذو رحم بهم، فالمكذبون من أهل الكتابين قد قطعوا صلات الأمرين كما نقضوا العهدين: فإن الله تعالى قد بشرهم في الكتب المنزلة على أنبيائهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه ذكر للمبشر به صفات وأعمالا وأحوالا تنطبق عليه أتم الانطباق فحرفوا وأولو واجتهدوا في صرفها عنه وهم متعمدون ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، ومنهم من يحمل تلك الصفات والعلامات على غيره، ومنهم ينتظر مبعوثا آخر يجيء الزمان به.
40. التعبير بالقطع هنا أبلغ من التعبير بالنقض، ولذلك جاء بعده متمما له، كأن عهد الله تعالى إلى الناس حبل محكم الطاقات، موثق الفتل، وكأن هذا الحبل قد وصل بحكمة أمر التكوين وحكم أمر التشريع بين جمع المنافع التي تنفع الناس فلم يكتف أولئك الفاسقون المنكرون للمثل الذي ضربه الله لعباده بنقض حبل العهد الالهي، وحل طاقاته ونكث فتله حتى قطعوه قطعا، وأفسدوا بذلك نظام الفطرة ونظام الهداية الدينية أصلا وفرعا.
41. لذلك عقب هذا الوصف بقوله ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ وأى إفساد أكبر من إفساد من أهمل هداية العقل وهداية الدين، وقطع الصلة بين المقدمات والنتائج، وبين المطالب والأدلة والبراهين.
42. من كان هذا شأنه فهو فاسد في نفسه ووجوده في الأرض مفسد لأهلها لأن شره يتعدى كالأجرب يعدى السليم، ولذلك ورد في السنة النهى عن قرناء السوء، والمشاهدة والتجربة مؤيدة للسنة ومصدقة لها، خصوصا إذا قعدوا في سبيل الله يصدون عنها ويبغونها عوجا، فإن إفسادهم يكون أشد انتشارا وأشمل خسارا.
43. لما كان إفساد هؤلاء عاما للعقائد والأخلاق والأعمال لأن علته فقد الهدايتين هداية الفطرة وهداية الدين ـ سجل عليهم الخسران وحصره فيهم بقوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة.
44. خسرانهم في الدنيا ظاهر لأرباب البصائر الصافية، والفضائل السامية، ولكنه يخفى على الأكثرين، بالنسبة إلى الأغنياء من أولئك الخاسرين، يرونهم متمتعين بلذات الدنيا وشهواتها، فيحسبون أنهم مغبوطون سعداء بها، فيكون هذا الحسبان من آلات الافساد، ولو سبروا أغوارهم، وبلوا أخبارهم، لأدركوا أن ما هم فيه من ظلمة النفس وضيق العطن وفساد الأخلاق بنغص عليهم أكثر لذاتهم ويقذف بهم إلى الافراط الذي يولد الأمراض الجسدية والنفسية، ويثير في نفوسهم كوامن الوساوس، ويجعل عقولهم كالكرة تتقاذفها صوالجة الأوهام، وأن حب الراحة يوقعهم في تعب لا نهاية له، وهو تعب البطالة والكسل أو العمل الاضطراري ومن لا يذوق لذة العمل الاختياري لا يذوق لذة الراحة الحقيقية، لأن الله تعالى لم يضع الراحة في غير العمل، وإنما سعادة الدنيا بصحة الجسم والعقل وأدب النفس الذي يرشد إليه الدين، فمن فقد هذه الأشياء فقد خسر الدنيا والآخرة و﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾
__________
(1) تفسير المنار: 1/236.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي إن الله جلت قدرته لا يرى من النقص أن يضرب المثل بالبعوضة فما دونها، لأنه هو الخالق لكل شيء جليلا كان أو حقيرا.
2. الحياء تغيّر وانكسار يعترى الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذمّ، يقال فلان يستحى أن يفعل كذا، أي إن نفسه تنقبض عن فعله، وكأن الحياء ضعف في الحياة، لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهى قوة الحس والحركة، وفعله استحى واستحيا، ويقال استحييته واستحييت منه.
3. المثل في اللغة: الشبيه والنظير، وضرب المثل في الكلام أن بذكر لحال ما يناسبها فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم، وهو إحداث أثر خاصّ فيها، كأن ضارب المثل يقرع به أذن السامع قرعا ينفذ أثره إلى قلبه، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلا بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه.
4. المراد بما فوق البعوضة ما زاد عليها وفاقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلا بالمنظار المكبر، وكانوا قديما يضربون المثل في الصّغر بمخّ النملة والبعوضة، فقد قالوا: أعز من مخ البعوضة، وجاء في الحديث: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة ماء).
5. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أي فالمؤمنون يقولون ما ضرب الله هذا المثل إلا لحكم ومصالح اقتضت ضربه لها، وهى تقرير الحق والأخذ به، فهو إنما يضرب لإيضاح المبهم بجعل المعقولات تلبس ثوب المحسوسات، أو تفصيل المجمل لبسطه وإيضاحه.
6. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ الذين كفروا هم اليهود والمشركون وكانوا يجادلون بعد أن استبانت لهم الحجة وحصحص الحق، ويقولون ماذا أراد الله بهذه المثل الحقيرة التي فيها الذباب والعنكبوت، ولو أنصفوا لعرفوا وجه الحكمة في ذلك وما أعرضوا وانصرفوا ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ .
7. الحق: هو الشيء الذي يحقّ ويجب ثبوته، ولا يجد العقل سبيلا إلى إنكاره، والفسق لغة: الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت، والنقض: فكّ الحبل والغزل ونحوهما، والميثاق ما يوثق به الشيء ويكون محكما يعسر نقضه، وعهد الله ما أخذه على عباده من فهم السنن الكونية بالنظر والاعتبار بما أوتوه من نعمة العقل والحواس المرشدة إلى الفهم، ونقضه عدم استعمال تلك المواهب فيما خلقت له حتى كأنهم فقدوها.
8. ثم أجاب عن سؤالهم بقوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ أي إن من غلب عليهم الجهل إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقابلوه بالإنكار، فكان ذلك سببا في ضلالهم، ومن عادتهم الإنصاف والنظر بثاقب الفكر إذا سمعوه اهتدوا به، لأنهم يقدرون الأشياء بحسب فائدتها.
9. من المعلوم أن أنفع الكلام ما تجلّت به الحقائق، واهتدى به السامع إلى سواء السبيل، وأجلّه في ذلك الأمثال كما قال ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ والعالمون هم المؤمنون المهتدون بهدى الحق.
10. جعل الله المهتدين في الكثرة كالضالين، مع أن هؤلاء أكثر كما قال: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ إشارة إلى أن المؤمنين المهتدين على قلتهم أكثر نفعا وأجلّ فائدة من أولئك الكفرة الفاسقين.
إن الكرام كثير في البلاد وإن... قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا
11. أكمل الله تعالى الجواب وزاد في البيان فقال: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ أي وما يضلّ بضرب المثل إلا الذين خرجوا عن سنة الله في خلقه وعما هداهم إليه بالعقل والمشاعر والكتب المنزلة على من أوتوها.
12. وفي هذا إيماء إلى أن علّة إضلالهم ما كانوا عليه من الخروج عن السنن الكونية التي جعلها عبرة لمن تذكر، فقد انصرفت أنظارهم عن التدبر في حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه.
13. ثم زاد في ذم الفاسقين بذكر أوصاف مستقبحة لهم فقال: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ أي الذين يستعملون المواهب التي خلقها الله لعباده من عقل ومشاعر وحواسّ ترشدهم إلى النظر والاعتبار في غير ما خلقت له حتى كأنهم فقدوها كما قال: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ .
14. هذا العهد الذي نقضوه هو العهد الفطري، وهناك عهد آخر جاءت به الشرائع وهو العهد الديني، وقد وثق الله الأول بجعل العقول قابلة لإدراك السنن الإلهية التي في الكون، كما وثق الثاني بما أيّد به الأنبياء من الحجج والبراهين الدالة على صدقهم، فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم فهو ناقض لعهد الله، فاسق عن سننه في إبلاغ القوى البشرية والنفسية حد الكمال الإنساني الممكن لها.
15. أمر الله ضربان:
أ. أمر تكوين وهو ما عليه الكون من بديع الصنع ودقيق النظام كإفضاء الأسباب إلى مسبباتها والمقدمات إلى نتائجها، ومعرفة المنافع والمضار بغاياتها.
ب. وأمر تشريع وهو ما جاء به الأنبياء من الشرائع لتبليغه للناس ليعملوا به.
16. من أنكر الإله وصفاته بعد أن شهدت بوجوده الآثار المنبثّة في الكون، أو أنكر نبوة نبيّ بعد أن أقام الدليل على صدقه فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل بمقتضى العهد الفطري، لأنه قطع الصلة بين الدليل والمدلول.
17. من أنكر شيئا مما علم أن الرسول قد جاء به من الأوامر والنواهي، فقد قطع ما أمر الله به في كتبه أمر تشريع وتكليف، وهو لا يأمر إلا بما أثبتت التجربة منفعته، ولا ينهى إلا عما ثبتت مضرته.
18. مشركو العرب بتكذيبهم النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نقضوا عهد الفطرة، وأهل الكتاب نقضوا العهدين معا، فإن الله بشرهم في الكتب المنزلة على أنبيائهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بذكر صفاته، فحرّفوا وأوّلوا متعمدين كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ .
19. ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ بصدهم عن سبيل الله يبغونها عوجا، وبالاستهزاء بالحق بعد ما تبين، وبإهمالهم هداية العقل وهداية الدين، فوجودهم في الأرض مفسدة لأنفسهم ومفسدة لأهلها.
20. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ لأن إفسادهم لما عمّ العقائد والأخلاق بفقد هداية الفطرة وهداية الدين، استحقوا الخزي في الدنيا بحرمان السعادة الجسمية والعقلية والخلقية، والعذاب الأليم في الآخرة، ومن خسر السعادتين كان في خسران مبين.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/72.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآيات تشي بأن المنافقين الذين ضرب الله لهم مثل الذي استوقد نارا ومثل الصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ـ وربما كان اليهود كذلك والمشركون ـ قد اتخذوا من ورود هذه الأمثال في هذه المناسبة، ومن وجود أمثال أخرى في القرآن المكي الذي سبق نزوله وكان يتلى في المدينة، كالذي ضربه الله مثلا للذين كفروا بربهم ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ .. وكالذي ضربه الله مثلا لعجز آلهتهم المدعاة عن خلق الذباب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ قد وجدوا في هذه المناسبة منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن، بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله، وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه!
2. كان هذا طرفا من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة، كما كان يقوم بها المشركون في مكة.. فجاءت هذه الآيات دفعا لهذا الدس، وبيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال، وتحذيرا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها، وتطمينا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانا.
3. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ .. فالله رب الصغير والكبير، وخالق البعوضة والفيل، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل.. إنها معجزة الحياة. معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله.
4. العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل، إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير، وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره.
5. الله ـ جلت حكمته ـ يريد بها اختبار القلوب، وامتحان النفوس: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ .. ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله؛ وبما يعرفون من حكمته، وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم، وحساسية في أرواحهم، وتفتحا في مداركهم، واتصالا بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله.
6. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ .. وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته، المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره. ثم هو سؤال من لا يرجو لله وقارا، ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب. يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار، أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله!
7. هنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ .
8. الله ـ سبحانه ـ يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها، ويتلقاها عباده، كل وفق طبيعته واستعداده، وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه، والابتلاء واحد.. ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق.. الشدة تسلط على شتى النفوس.
9. أما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعا وخشية، وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا، وتخرجه من الصف إخراجا، والرخاء يسلط على شتى النفوس، فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكرا، وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء.. وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس.. ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ .. ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله، ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ ممن يدركون حكمة الله.
10. ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ .. الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق، فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه.. ويفصل السياق صفة الفاسقين هؤلاء، كما فصل في أول السورة صفة المتقين؛ فالمجال ما يزال ـ في السورة ـ هو مجال الحديث عن تلك الطوائف، التي تتمثل فيها البشرية في شتى العصور.
11. أي عهد من عهود الله هو الذي ينقضون؟ وأي أمر مما أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون؟ وأي لون من الفساد في الأرض هو الذي يفسدون؟.. لقد جاء السياق هنا بهذا الإجمال، لأن المجال مجال تشخيص طبيعة، وتصوير نماذج، لا مجال تسجيل حادثة، أو تفصيل واقعة.. إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها، فكل عهد بين الله وبين هذا النموذج من الخلق فهو منقوض؛ وكل ما أمر الله به أن يوصل فهو بينهم مقطوع؛ وكل فساد في الأرض فهو منهم مصنوع.. إن صلة هذا النمط من البشر بالله مقطوعة، وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة ولا تتورع عن فساد، إنهم كالثمرة الفجة التي انفصلت من شجرة الحياة، فتعفنت وفسدت ونبذتها الحياة.. ومن ثم يكون ضلالهم بالمثل الذي يهدي المؤمنين؛ وتجيء غوايتهم بالسبب الذي يهتدي به المتقون.
12. ننظر في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر الذي كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة اليهود والمنافقين والمشركين؛ والذي ظلت تواجهه وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعنوانات! ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ .
13. عهد الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة: إنه عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي.. أن يعرف خالقه، وأن يتجه إليه بالعبادة، وما تزال في الفطرة هذه الجوعة للاعتقاد بالله، ولكنها تضل وتنحرف فتتخذ من دون الله أندادا وشركاء.. وهو عهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله على آدم ـ كما سيجيء ـ: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ .. وهو عهوده الكثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده، وأن يحكموا في حياتهم منهجه وشريعته.. وهذه العهود كلها هي التي ينقضها الفاسقون.
14. إذا نقض عهد الله من بعد ميثاقه، فكل عهد دون الله منقوض، فالذي يجرؤ على عهد الله لا يحترم بعده عهدا من العهود.
15. الله أمر بصلات كثيرة.. أمر بصلة الرحم والقربى، وأمر بصلة الإنسانية الكبرى، وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية، التي لا تقوم صلة ولا وشيجة إلا معها.. وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى، وانحلت الروابط، ووقع الفساد في الأرض، وعمت الفوضى.
16. الفساد في الأرض ألوان شتى، تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله، ونقض عهد الله، وقطع ما أمر الله به أن يوصل.
17. رأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها.. هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتما، فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض، ومنهج الله بعيد عن تصريفها، وشريعة الله مقصاة عن حياتها، وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال، وللحياة والمعاش؛ وللأرض كلها وما عليها من ناس وأشياء.. إنه الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله.. ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما يهدي به عباده المؤمنين.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/51.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الكائنات كلها ـ صغيرها وكبيرها ـ صنعة الله، خلقها بحكمته، وأبدعها بقدرته.. فهي في معرض ملكه سواء في الإعلان عن تلك الحكمة وهذه القدرة، ففي كل ذرة من ذرات هذا الكون العظيم آية تحدّث عن جلال الله وعظمته! فلله ـ سبحانه ـ أن يضرب المثل بأيّ من مخلوقاته، وأن يقيم منه شاهدا لما يريد.. فأما الذين آمنوا، فيجدون في هذا المثل هدى إلى هدى، ونورا إلى نور، وأما الذين كفروا فلا تزيدهم الأمثال الكاشفة إلا ضلالا إلى ضلال، وإلا عمى إلى عمى.
2. قوله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ هو جواب عن سؤال أولئك الذين في قلوبهم مرض، الذين استخفّوا بالأمثال التي يضربها الله، ويتخذ مادتها من مخلوقات ضئيلة من خلقه.. فيقولون في عجب واستنكار: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فكان جواب الحق جلّ وعلا: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً، ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).
3. سؤال وإشكال: كيف يفتح الله لعباده بابا إلى الضلال، ويسوقهم إليه.. ثم يحاسبهم عن هذا الضلال، ويأخذهم بالعذاب الأليم؟ والجواب: قد كثر حوله الخلاف، وتعددت فيه المذاهب:
أ. هل الإنسان حرّ مختار فيما يأتي من خير وشر، فيكون حسابه جزاء وفاقا لما عمل بحريته واختياره؟
ب. أم هو مجبر مضطر، مسوق إلى قدره المقدور، فيكون عمله غير محسوب عليه، ويكون حسابه على ما عمل، ظلم له، وعدوان عليه؟
ج. أم أن الإنسان مزيج من الجبر والاختيار، له إرادة، وله قدرة على فعل ما يريد، ولكنّ إرادته وقدرته مرتبطتان بإرادة فوق إرادته وبقدرة فوق قدرته؟ فهو يريد، ولكن وفق ما تريد تلك الإرادة العليا، ويفعل، ولكن داخل فعل تلك القدرة المهيمنة على قدرته.. فالإنسان في هذا التصور أشبه بترس في آلة (مكانيكية).. يتحرك بحركة تلك الآلة، ويسكن بسكونها، فهو متحرك، وغير متحرك معا!
4. الرأي ـ عندنا ـ أن الإنسان صنعة الله، ولله سبحانه أن يضعه حيث يشاء، ليأخذ مكانه واتجاهه في هذا الوجود، ومع هذا فإن الإنسان ـ بما أودع الله فيه من عقل ـ مطالب بأن يستعمل هذا العقل وما فيه من قوى، في وزن الأمور وتقديرها.. فيتقدم أو يتأخر، ويقدم أو يحجم؛ ويؤمن أو يكفر، ويهتدى أو يضل.. وهو في كل هذا سائر في الطريق المرسوم له، والذي هو مستور في الغيب عنه، إلى أن يستوى عليه، وذلك هو قدره المقدور، يرى وكأنه من صنعة يده، وهو في الحقيقة صنعة يد فوق يده.. يد القدرة القادرة الباهرة: ﴿بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا﴾ .. ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ .. ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾
5. في قوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ عدول عن الكافرين، والتعبير عنهم بالفاسقين، إذ سياق الكلام يقضى بأن يكون الإضلال للكافرين الذين وقفوا من المثل هذا الموقف اللئيم، فقالوا في استهزاء واستنكار: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ فكان المتوقع أن يكون الجواب هكذا: يضلّ به كثيرا، ويهدى به كثيرا وما يضلّ به إلّا الكافرين).. لكن لكلام الله حساب غير هذا الحساب، وتقدير فوق هذا التقدير، فجاءت فاصلة الآية هكذا: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾
6. الفسق معناه في اللغة: الخروج، يقال: فسق، وفسق أي خرج عن طريق الهدى والصلاح، وانفسق الرّطب عن قشره: أي خرج.
7. الكافر فاسق، لأنه خرج عن طريق الهدى والإيمان، وركب طريق الضّلال والكفر، خرج عن فطرته التي فطره الله عليها، ونقض الميثاق الذي واثقه الله عليه، في قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/45.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قد يبدو في بادئ النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هاته الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه والتحدي به مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ والزواجر النافعة والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة، إذا بالكلام قد جاء يخبر بأن الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلا بشيء حقير أو غير حقير، فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر له المناسبة لهذا الانتقال.
2. ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين.
3. روى الواحدي في (أسباب النزول) عن ابن عباس أن الله تعالى لما أنزل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾ [الحج: 73]، وقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ [العنكبوت: 41] قال المشركون أرأيتم أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ وروي عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله فأنزل الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾
4. الوجه أن نجمع بين الروايتين، ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في التشاور في شأن نبوءة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وخاصة بعد أن هاجر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، فيتلقون منهم صورا من الكيد والتشغيب فيكون قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب فلما أنزل الله تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد نارا وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاف خناقهم فاختلقوا هذه المطاعن، فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين، ونزلت الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين.
5. يحتمل أن ذلك قاله علماء اليهود، للأسباب التالية:
أ. لأنهم لا حظ لهم في البلاغة، أو قد قالوه مع علمهم بفنون ضرب الأمثال مكابرة وتجاهلا.
ب. هو الموافق لكون السورة نزلت بالمدينة، وكان أشد المعاندين فيها هم اليهود.
ج. لأنه الأوفق بقوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ وهذه صفة اليهود.
د. لأن اليهود قد شاع بينهم التشاؤم والغلو في الحذر من مدلولات الألفاظ حتى اشتهروا باستعمال الكلام الموجه بالشتم والذم كقولهم ﴿رَاعِنَا﴾ [البقرة: 104]، قال تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة: 59] كما ورد تفسيره في (الصحيح) ولم يكن ذلك من شأن العرب.
6. وإما أن يكون قائله المشركون من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثله في كلام بلغائهم كقولهم أجرأ من ذبابة، وأسمع من قراد، وأطيش من فراشة، وأضعف من بعوضة، وهذا الاحتمال أدلّ، على أنهم ما قالوا هذا التمثيل إلا مكابرة ومعاندة فإنهم لما غلبوا بالتحدي وعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف، والمكابر يقول ما لا يعتقد، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح، وإلى هذا الثاني ينزع كلام صاحب (الكشاف) وهو أوفق بالسياق، والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم يزالوا يلقون الشبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين، وقد دل على هذا المعنى قوله بعده: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى قوله: ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾
7. سؤال وإشكال: لم لم يكن الرد عقب نزول الآيات الواقع فيها التمثيل الذي أنكروه، فإن البدار بالرد على من في مقاله شبهة رائجة يكون أقطع لشبهته من تأخيره زمانا، والجواب: الوجه في تأخير نزولها أن يقع الرد بعد الإتيان بأمثال معجبة اقتضاها مقام تشبيه الهيئات، فذلك كما يمنع الكريم عدوه من عطاء فيلمزه الممنوع بلمز البخل، أو يتأخر الكمي عن ساحة القتال مكيدة فيظنه ناس جبنا فيسرها الأول في نفسه حتى يأتيه القاصد فيعطيه عطاء جزلا، والثاني حتى يكر كرة تكون القاضية على قرنه. فكذلك لما أتى القرآن بأعظم الأمثال وأروعها وهي قوله: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ﴾ [البقرة: 17] ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: 19] الآيات وقوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: 18] أتى إثر ذلك بالرد عليهم فهذا يبين لك مناسبة نزول هذه الآية عقب التي قبلها وقد غفل عن بيانه المفسرون.
8. الاستحياء والحياء واحد، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب، والحياء هو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يفعل.
9. الاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفا لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله، والتعلل لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعلل غير مسلم.
10. المراد بالمثل هنا الشبه مطلقا لا خصوص المركب من هيئة، بخلاف قوله فيما سبق ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ لأن المعنىّ هنا ما طعنوا به في تشابيه القرآن مثل قوله: ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾ [الحج: 73] وقوله: ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ [العنكبوت: 41]
11. الضرب في قوله: ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا﴾ مستعمل مجازا في الوضع والجعل من قولهم ضرب خيمة وضرب بيتا قال عبدة بن الطبيب:
إنّ التي ضربت بيتا مهاجرة... بكوفة الجند غالت ودّها غول
وقول الفرزدق:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها... وقضى عليك به الكتاب المنزل
أي جعل شيئا مثلا أي شبها، قال تعالى: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل: 74] أي لا تجعلوا له مماثلا من خلقه فانتصاب مَثَلًا على المفعول به، وجوز بعض أئمة اللغة أن يكون فعل ضرب مشتقا من الضرب بمعنى المماثل فانتصاب مَثَلًا على المفعولية المطلقة للتوكيد لأن مثلا مرادف مصدر فعله على هذا التقدير، والمعنى لا يستحي أن يشبّه بشيء ما.
12. تنكير ﴿مَثَلًا﴾ للتنويع بقرينة بيانه بقوله بَعُوضَةً فَما فَوْقَها.. وما إبهامية تتصل بالنكرة فتؤكد معناها من تنويع أو تفخيم أو تحقير، نحو لأمر ما وأعطاه شيئا ما، والأظهر أنها مزيدة لتكون دلالتها على التأكيد أشد، وقيل اسم بمعنى النكرة المبهمة.
13. اختير أن يكون المسند خصوص فعل الاستحياء زيادة في الرد عليهم، لأنهم أنكروا التمثيل بهاته الأشياء لمراعاة كراهة الناس، ومثل هذا ضرب من الاستحياء، فنبهوا على أن الخالق لا يستحي من ذلك إذ ليس مما يستحي منه، ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها، وقد يكون ذكر الاستحياء هنا محاكاة لقولهم أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت.
14. سؤال وإشكال: إذا كان استعمال هذه الألفاظ الدالة على معان حقيرة غير مخل بالبلاغة فما بالنا نرى كثيرا من أهل النقد قد نقدوا من كلام البلغاء ما اشتمل على مثل هذا كقول الفرزدق:
من عزّهم حجرت كليب بيتها... زربا كأنهم لديه القمّل
وقول أبي الطيب:
أماتكم من قبل موتكم الجهل... وجركم من خفة بكم النمل
وقول الطرمّاح:
ولو أن برغوثا على ظهر قملة... يكرّ على ضبعي تميم لولّت
والجواب: أصول الانتقاد الأدبي تؤول إلى بيان ما لا يحسن أن يشتمل عليه كلام الأديب من جانب صناعة الكلام، ومن جانب صور المعاني، ومن جانب المستحسن منها والمكروه وهذا النوع الثالث يختلف باختلاف العوائد ومدارك العقول وأصالة الأفهام بحسب الغالب من أحوال أهل صناعة الأدب، ألا ترى أنه قد يكون اللفظ مقبولا عند قوم غير مقبول عند آخرين، ومقبولا في عصر مرفوضا في غيره، ألا ترى إلى قول النابغة يخاطب الملك النعمان:
فإنك كالليل الذي هو مدركي... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
فإن تشبيه الملك بالليل لو وقع في زمان المولدين لعدّ من الجفاء أو العجرفة، وكذلك تشبيههم بالحية في الإقدام وإهلاك العدو في قول ذي الإصبع:
عذير الحي من عدوا... ن كانوا حيّة الأرض
وقول النابغة في رثاء الحارث الغسّاني:
ماذا رزئنا به من حيّة ذكر... نضناضة بالرزايا صلّ أصلال
وقد زعم بعض أهل الأدب أن عليّا بن الجهم مدح الخليفة المتوكل بقوله:
أنت كالكلب في وفائك بالعه... د وكالتيس في قراع الخطوب
وأنه لما سكن بغداد وعلقت نضارة الناس بخياله قال في أول ما قاله:
عيون المها بين الرصافة والجسر... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وقد انتقد بشار على كثيّر قوله:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة... إذا لمسوها بالأكف تلين
فقال: لو جعلها عصا مخ أو عصا زبد لما تجاوز من أن تكون عصا، على أن بشارا هو القائل:
إذا قامت لجارتها تثنت... كأن عظامها من خيزران
وشبّه بشار عبدة بالحيّة في قوله: وكأنها لما مشت أيم تأود في كثيب
15. ﴿بَعُوضَةً﴾ بدل أو بيان من قوله: ﴿مَثَلًا﴾، والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها، وتعرف في لغة هذيل بالخموش، وأهل تونس يسمونه الناموس واحدته الناموسة، وقد جعلت هنا مثلا لشدة الضعف والحقارة.
16. قوله: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ عطف على ﴿بَعُوضَةً﴾ :
أ. أصل فوق اسم للمكان المعتلي على غيره فهو اسم مبهم فلذلك كان ملازما للإضافة لأنه تتميز جهته بالاسم الذي يضاف هو إليه فهو من أسماء الجهات الملازمة للإضافة لفظا أو تقديرا.
ب. ويستعمل مجازا في المتجاوز غيره في صفة تجاوزا ظاهرا تشبيها بظهور الشيء المعتلي على غيره على ما هو معتل عليه، ففوق في مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة سواء كانت من المحامد أو من المذام يقال: فلان خسيس وفوق الخسيس وفلان شجاع وفوق الشجاع، وتقول: أعطى فلان فوق حقه أي زائدا على حقه.
17. الفوق في هذه الآية صالح للمعنيين، أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجما، ونظيره قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة) رواه مسلم، يحتمل أقل من الشوكة في الأذى مثل نخبة النملة كما جاء في حديث آخر، أو ما هو أشد من الشوكة مثل الوخز بسكين وهذا من تصاريف لفظ فوق في الكلام، ولذلك كان لاختياره في هذه الآية دون لفظ أقل ودون لفظ أقوى مثلا موقع من بليغ الإيجاز.
18. الفاء عاطفة ﴿ ما فوقها ﴾ على ﴿بَعُوضَةً﴾ أفادت تشريكهما في ضرب المثل بهما، وحقها أن تفيد الترتيب والتعقيب، ولكنها هنا لا تفيد التعقيب، وإنما استعملت في معنى التدرج في الرتب بين مفاعيل ﴿أَنْ يَضْرِبَ﴾ ولا تفيد أن ضرب المثل يكون بالبعوضة ويعقبه ضربه بما فوقها، بل المراد بيان المثل بأنه البعوضة وما يتدرج في مراتب القوة زائدا عليها درجة تلي درجة، فالفاء في مثل هذا مجاز مرسل علاقته الإطلاق عن القيد لأن الفاء موضوعة للتعقيب الذي هو اتصال خاص، فاستعملت في مطلق الاتصال، أو هي مستعارة للتدرج لأنه شبيه بالتعقيب في التأخر في التعقل كما أن التعقيب تأخر في الحصول ومنه: رحم الله المحلقين فالمقصرين)، والمعنى أن يضرب البعوضة مثلا فيضرب ما فوقها أي ما هو درجة أخرى أي أحقر من البعوضة مثل الذرة وأعظم منها مثل العنكبوت والحمار.
19. الفاء للتعقيب الذكري دون الحصولي أي لتعقيب الكلام المفصل على الكلام المجمل عطفت المقدر في قوله: ﴿لَا يَسْتَحْيِي﴾ لأن تقديره لا يستحي من الناس كما تقدم، ولما كان في الناس مؤمنون وكافرون وكلا الفريقين تلقى ذلك المثل واختلفت حالهم في الانتفاع به، نشأ في الكلام إجمال مقدر اقتضى تفصيل حالهم، وإنما عطف بالفاء لأن التفصيل حاصل عقب الإجمال.
20. (أما) حرف موضوع لتفصيل مجمل ملفوظ أو مقدر، ولما كان الإجمال يقتضي استشراف السامع لتفصيله كان التصدي لتفصيله بمنزلة سؤال مفروض، كأن المتكلم يقول: إن شئت تفصيله فتفصيله كيت وكيت، فلذلك كانت (أما) متضمنة معنى الشرط، ولذلك لزمتها الفاء في الجملة التي بعدها لأنها كجواب شرط، وقد تخلو عن معنى التفصيل في خصوص قول العرب (أما بعد) فتتمحض للشرط وذلك في التحقيق لخفاء معنى التفصيل لأنه مبني على ترقب السامع كلاما بعد كلامه الأول، وقدرها سيبويه بمعنى مهما يكن من شيء، وتلقفه أهل العربية بعده، وهو تقدير معنى لتصحيح دخول الفاء في جوابها وفي النفس منه شيء لأن دعوى قصد عموم الشرط غير بينة، فإذا جيء بأداة التفصيل المتضمنة معنى الشرط دل ذلك على مزيد اهتمام المتكلم بذلك التفصيل فأفاد تقوية الكلام التي سماها الزمخشري توكيدا وما هو إلا دلالة الاهتمام بالكلام، على أن مضمونه محقق ولولا ذلك لما اهتم به وبهذا يظهر فضل قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ إلخ على أن يقال فالذين آمنوا يعلمون بدون أما والفاء.
21. جعل تفصيل الناس في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان ابتداء مؤمن وكافر، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتأييس الذين أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك.. والمراد بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالبا، وإما ما يشملهم ويشمل اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية.
22. إنما عبر في جانب المؤمنين بيعلمون تعريضا بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عنادا ومكابرة وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان، ولكن شأن المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد حسدا وعنادا.
23. ضمير (أنه) عائد إلى المثل.. و(الحق) ترجع معانيه إلى موافقة الشيء لما يحق أن يقع وهو هنا الموافق لإصابة الكلام وبلاغته، و(من ربهم) حال من (الحق) و(من) ابتدائية أي وارد من الله لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب فهو مؤذن بأنه من كلام من يقع منه الخطأ.
24. أصل (ماذا) كلمة مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإشارة، ولذلك كان أصلها أن يسأل بها عن شيء مشار إليه كقول القائل ماذا مشيرا إلى شيء حاضر بمنزلة قوله ما هذا، غير أن العرب توسعوا فيه فاستعملوه:
أ. اسم استفهام مركبا من كلمتين، وذلك حيث يكون المشار إليه معبرا عنه بلفظ آخر غير الإشارة حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد، نحو ماذا التواني.
ب. أو حيث لا يكون للإشارة موقع نحو: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ﴾ [النساء: 39]، ولذلك يقول النحاة إن ذا ملغاة في مثل هذا التركيب.
ج. وقد يتوسعون فيها توسعا أقوى فيجعلون ذا اسم موصول، وذلك حين يكون المسئول عنه معروفا للمخاطب بشيء من أحواله فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو: ﴿مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ [النحل: 24]
د. وعلى هذين الاحتمالين يصح إعرابه مبتدأ، ويصح إعرابه مفعولا مقدما إذا وقع بعده فعل.
25. الاستفهام هنا إنكاري أي جعل الكلام في صورة الاستفهام كناية به عن الإنكار لأن الشيء المنكر يستفهم عن حصوله، فاستعمال الاستفهام في الإنكار من قبيل الكناية، ومثله لا يجاب بشيء غالبا لأنه غير مقصود به الاستعلام، وقد يلاحظ فيه معناه الأصلي فيجاب بجواب لأن الاستعمال الكنائي لا يمنع من إرادة المعنى الأصلي كقوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ [النبأ: 1، 2]
26. الإشارة بقوله: بِهذا مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله: ﴿أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء: 36]
27. انتصب قوله: ﴿مَثَلًا﴾ على التمييز من (هذا) لأنه مبهم فحقّ له التمييز وهو نظير التمييز للضمير في قولهم (ربّه رجلا).
28. قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ بيان وتفسير للجملتين المصدرتين بأما على طريقة النشر المعكوس لأن معنى هاتين الجملتين قد اشتمل عليهما معنى الجملتين السالفتين إجمالا فإنّ علم المؤمنين أنه الحق من ربهم هدى، وقول الكافرين ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ﴾ ضلال.
29. الأظهر أن لا يكون قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ جوابا للاستفهام في قول الذين كفروا ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ لأن ذلك ليس استفهاما حقيقيا، ويجوز أن يجعل جوابا عن استفهامهم تخريجا للكلام على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على ظاهره تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا عن حكمة ما أراد الله بتلك الأمثال فيكون قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ جوابا لهم وردا عليهم وبيانا لحال المؤمنين، وهذا لا ينافي كون الاستفهام الذي قبله مكنى به عن الإنكار من عدم المانع من جمع المعنيين الكنائي والأصلي، وكون كلا الفريقين من المضلّل والمهدى كثيرا في نفسه، لا ينافي نحو قوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13] لأن قوة الشكر التي اقتضاها صيغة المبالغة، أخصّ في الاهتداء.
30. إسناد الإضلال إلى الله تعالى مراعى فيه أنه الذي مكن الضالين من الكسب والاختيار بما خلق لهم من العقول، وما فصل لهم من أسباب الخير وضده.
31. في اختيار إسناده إلى الله تعالى مع صحة إسناده لفعل الضال إشارة إلى أنه ضلال متمكن من نفوسهم حتى صار كالجبلة فيهم فهم مأيوس من اهتدائهم كما قال تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: 7]، فإسناد الإضلال إلى الله تعالى منظور فيه إلى خلق أسبابه القريبة والبعيدة وإلا فإنّ الله أمر الناس كلهم بالهدى وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام.
32. هذه الآية ظاهرة في أنها موجهة إلى اليهود لما علمت عند قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ ولما علمت من كثرة إطلاق وصف الفاسقين على اليهود، وإن كان الذين طعنوا في أمثال القرآن فريقين: المشركين واليهود، وكان القرآن قد وصف المشركين في سورة الرعد وهي مكية بهذه الصفات الثلاث في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ فالمراد بهم المشركون لا محالة فذلك كله لا يناكد جعل آية سورة البقرة موجهة إلى اليهود إذ ليس يلزم المفسر حمله آي القرآن على معنى واحد كما يوهمه صنيع كثير من المفسرين حتى كان آي القرآن عندهم قوالب تفرغ فيها معان متحدة.
33. وصف الله تعالى المؤمنين بضد هذه الصفات في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ الآية في سورة الرعد [25].
34. نزول هذه الآيات ونحوها في بعض أهل الكتاب أو المشركين هو وعيد وتوبيخ للمشركين وأهل الكتاب، وهو أيضا موعظة وذكرى للمؤمنين ليعلم سامعوه أن كل من شارك هؤلاء المذمومين فيما أوجب ذمهم وسبب وعيدهم هو آخذ بحظ مما نالهم من ذلك على حسب مقدار المشاركة في الموجب.
35. الفاسق لفظ من منقولات الشريعة، أصله اسم فاعل من الفسق بكسر الفاء، وحقيقة الفسق خروج الثمرة من قشرها وهو عاهة أو رداءة في الثمر فهو خروج مذموم يعد من الأدواء مثل ما قال النابغة:
صغار النوى مكنوزة ليس قشرها... إذا طار قشر التمر عنها بطائر
قالوا: ولم يسمع في كلامهم في غير هذا المعنى حتى نقله القرآن للخروج عن أمر الله تعالى الجازم بارتكاب المعاصي الكبائر، فوقع بعد ذلك في كلام المسلمين، قال رؤية يصف إبلا:
فواسقا عن قصدها جوائرا... يهوين في نجد وغور غائرا
36. الفسق مراتب كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر، وقد أطلق الفسق في الكتاب والسنة على جميعها لكن الذي يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو أن الفسق غير الكفر، وأن المعاصي، وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق، وقد لقب الله اليهود في مواضع كثيرة من القرآن بالفاسقين وأحسب أنه المراد هنا وعزاه ابن كثير لجمهور من المفسرين.
37. قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ إما:
أ. مسوق لبيان أن للفسق تأثيرا في زيادة الضلال لأن الفسق يرين على القلوب ويكسب النفوس ظلمة فتتساقط في الضلال المرة بعد الأخرى على التعاقب، حتى يصير لها دربة، وهذا الذي يؤذن به التعليق على الوصف المشتق إن كان المراد به هنا المعنى الاشتقاقي، فكأنه قيل هؤلاء فاسقون وما من فاسق إلا وهو ضال، فما ثبت الضلال إلا بثبوت الفسق على نحو طريقة القياس الاقتراني.
ب. وإما مسوق لبيان أن الضلال والفسق أخوان، فحيثما تحقق أحدهما أنبأ بتحقق الآخر على نحو قياس المساواة إذا أريد من الفاسقين المعنى اللقبي المشهور فلا يكون له إيذان بتعليل.
ج. وإما لبيان أن الإضلال المتكيف في إنكار الأمثال إضلال مع غباوة، فلا يصدر إلا من اليهود، وقد عرفوا بهذا الوصف.
38. إن كان محمل الفاسقين:
أ. على ما يشمل المشركين واليهود الذين طعنوا في ضرب المثل كان القصر في قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ﴾ بالإضافة إلى المؤمنين ليحصل تمييز المراد من المضلل والمهتدى.
ب. وإن كان محمل الفاسقين على اليهود كان القصر حقيقيا ادعائيا أي يضل به كثيرا وهم الطاعنون فيه وأشدهم ضلالا هم الفاسقون.
ووجه ذلك أن المشركين أبعد عن الاهتداء بالكتاب لأنهم في شركهم، وأما اليهود فهم أهل كتاب وشأنهم أن يعلموا أفانين الكتب السماوية وضرب الأمثال فإنكارهم إياها غاية الضلال فكأنه لا ضلال سواه.
39. جملة ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ﴾ إلى آخره صفة للفاسقين لتقرير اتصافهم بالفسق لأن هاته الخلال من أكبر أنواع الفسوق بمعنى الخروج عن أمر الله تعالى، وجوز أن تكون مقطوعة مستأنفة على أن (الذين) مبتدأ وقوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ خبر وهي مع ذلك لا تخرج عن معنى توصيف الفاسقين بتلك الخلال، إذ الاستئناف لما ورد إثر حكاية حال عن الفاسقين تعين في حكم البلاغة أن تكون هاته الصلة من صفاتهم وأحوالهم للزوم الاتحاد في الجامع الخيالي وإلا لصار الكلام مقطعا منتوفا فليس بين الاعتبارين إلا اختلاف الإعراب، وأما المعنى فواحد فلذلك كان إعرابه صفة أرجح أو متعينا إذ لا داعي إلى اعتبار القطع.
40. مجيء الموصول هنا للتعريف بالمراد من الفاسقين، أي الفاسقين الذين عرفوا بهذه الخلال الثلاث، فالأظهر أن المراد من الفاسقين اليهود، وقد أطلق عليهم هذا الوصف في مواضع من القرآن، وهم قد عرفوا بما دلت عليه صلة الموصول كما سنبينه هنا، بل هم قد شهدت عليهم كتب أنبيائهم بأنهم نقضوا عهد الله غير مرة، وهم قد اعترفوا على أنفسهم بذلك، فناسب أن يجعل النقض صلة لاشتهارهم بها.
41. وجه تخصيصهم بذلك أن الطعن في هذا المثل جرهم إلى زيادة الطعن في الإسلام، فازدادوا بذلك ضلالا على ضلالهم السابق في تغيير دينهم وفي كفرهم بعيسى، فأما المشركون فضلالهم لا يقبل الزيادة، على أن سورة البقرة نزلت بالمدينة وأكثر الرد في الآيات المدنية متوجه إلى أهل الكتاب.
42. النقض في اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب، وإنما زدت قولي بفعل إلخ ليخرج القطع والحرق فيقال نقض الحبل إذا حل ما كان أبرمه، ونقض الغزل ونقض البناء، وقد استعمل النقض هنا مجازا في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى ﴿عَهْدُ اللَّهِ﴾ وهي استعارة من مخترعات القرآن بنيت على ما شاع في كلام العرب في تشبيه العهد وكل ما فيه وصل بالحبل وهو تشبيه شائع في كلامهم، ومنه قول مالك بن التيهان الأنصاري للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم بيعة العقبة: يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها فنخشى إن أعزك الله وأظهرك أن ترجع إلى قومك) يريد العهود التي كانت في الجاهلية بين قريش وبين الأوس والخزرج، وكان الشائع في الكلام إطلاق لفظ القطع والصرم وما في معناهما على إبطال العهد أيضا في كلامهم، قال امرؤ القيس: وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وقال لبيد:
أو لم تكن تدري نوار بأنّني... وصّال عقد حبائل جذّامها
وقال:
بل ما تذكّر من نوار وقد نأت... وتقطّعت أسبابها ورمامها
وقال:
فاقطع لبانة من تعرّض وصله... فلشرّ واصل خلّة صرّامها
43. وجه اختيار استعارة النقض الذي هو حل طيّات الحبل إلى إبطال العهد أنها تمثيل لإبطال العهد رويدا رويدا وفي أزمنة متكررة ومعالجة، والنقض أبلغ في الدلالة على الإبطال من القطع والصرم ونحوهما لأن في النقض إفسادا لهيئة الحبل وزوال رجاء عودها وأما القطع فهو تجزئة.
44. في النقض رمز إلى استعارة مكنية لأن النقض من روادف الحبل فاجتمع هنا استعارتان مكنية وتصريحية وهذه الأخيرة تمثيلية، وقد تقرر في علم البيان أن ما يرمز به للمشبه به المطروح في المكنية قد يكون مستعملا في معنى حقيقي على طريقة التخييل، وذلك حيث لا يكون للمشبه المذكور في صورة المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المطروح مثل إثبات الأظفار للمنية في قولهم أظفار المنية وإثبات المخالب والناب للكماة في قول أبي فراس الحمداني:
فلما اشتدت الهيجاء كنّا... أشدّ مخالبا وأحدّ نابا
وإثبات اليد للشمال في قول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرّة... إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها
وقد يكون مستعملا في معنى مجازي إذا كان للمشبه في المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المضمر نحو ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾، وقد زدنا أنها تمثيلية أيضا والبليغ لا يفلت هاته الاستعارة مهما تأت له ولا يتكلف لها مهما عسرت فليس الجواز المذكور في قرينة المكنية إلا جوازا في الجملة أي بالنظر إلى اختلاف الأحوال.
45. العهد في الآية الذي أخذه الله على بني آدم أن لا يعبدوا غيره: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس: 60] الآية، فنقضه يشمل الشرك وقد وصف الله المشركين بنقض العهد في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ الآية في سورة الرعد، [25]، وفسر بالعهد الذي أخذه الله على الأمم على ألسنة رسلهم أنهم إذا بعث بعدهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ [آل عمران: 81] الآيات لأن المقصود من ذلك أخذ العهد على أممهم، وفسر بالعهد الذي أخذه الله على أهل الكتاب ليبننه للناس: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 187] الآية في تفاسير أخرى بعيدة.
46. الصحيح أن المراد بالعهد هو العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل غير مرة من إقامة الدين وتأييد الرسل وأن لا يسفك بعضهم دماء بعض وأن يؤمنوا بالدين كله:
أ. وقد ذكرهم القرآن بعهود الله تعالى ونقضهم إياها في غير ما آية من ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: 40]، ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ إلى قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ﴾ [المائدة: 12 ـ 13] وقوله: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا﴾ [المائدة: 70] إلى قوله: ﴿فَعَمُوا وَصَمُّوا﴾ [المائدة: 70، 71]، ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 80 ـ 84] إلى قوله: ﴿وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 85]
ب. بل إن كتبهم قد صرحت بعهود الله تعالى لهم وأنحت عليهم نقضهم لها وجعلت ذلك إنذارا بما يحل بهم من المصائب كما في كتاب أرميا ومراثي أرميا وغير ذلك، بل قد صار لفظ العهد عندهم لقبا للشريعة التي جاء بها موسى.
47. ولما كان قوله: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ الآية وصفا للفاسقين وكان المراد من الفاسقين اليهود كما علمت كان ذكر العهد إيماء إلى أن الفاسقين هنا هم، وتسجيلا على اليهود بأنهم قد حق عليهم هذا الوصف من قبل اليوم بشهادة كتبهم وعلى ألسنة أنبيائهم فكان لاختيار لفظ العهد هنا وقع عظيم يتنزل منزلة المفتاح الذي يوضع في حل اللغز ليشير للمقصود فهو العهد الذي سيأتي ذكره في قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي﴾ [البقرة: 40]
48. الميثاق مفعال، وهو يكون للآلة كثيرا كمرقاة ومرآة ومحراث، قال الخفاجي كأنه إشباع للمفعل، وللمصدر أيضا نحو الميلاد والميعاد وهو الأظهر هنا، والضمير للعهد أي من بعد توكيد العهد وتوثيقه، ولما كان المراد بالعهد عهدا غير معيّن، بل كل ما عاهدوا عليه كان توكيد كل ما يفرضه المخاطب بما تقدمه من العهود وما تأخر عنه فهو على حد: ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: 91] فالميثاق إذن عهد آخر اعتبر مؤكدا لعهد سبقه أو لحقه.
49. اختلف في معنى قوله: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾
أ. قيل: ما أمر الله به أن يوصل هو قرابة الأرحام، وحيث ترجح أن المراد به بعض عمل اليهود فذلك إذ تقاتلوا وأخرجوا كثيرا منهم من ديارهم ولم تزل التوراة توصي بني إسرائيل بحسن معاملة بعضهم لبعض.
ب. وقيل: الإعراض عن قطع ما أمر الله به أن يوصل هو موالاة المؤمنين.
ج. وقيل: اقتران القول بالعمل.
د. وقيل: التفرقة بين الأنبياء في الإيمان ببعض والكفر ببعض.
هـ. وقيل: يعني بما أمر الله به أن يوصل الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبجميع الرسل.
50. مراد الله تعالى مما شرع للناس منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد وهو إبلاغ البشر إلى الغاية التي خلقوا لها، وحفظ نظام عالمهم، وضبط تصرفاتهم فيه على وجه لا يعتوره خلل، وإنما اختلفت الشرائع على حسب مبلغ تهيئ البشر لتلقي مراد الله تعالى، ولذلك قلما اختلفت الأصول الأساسية للشرائع الإلهية، قال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾ [الشورى: 13] الآية، وإنما اختلفت الشرائع في تفاريع أصولها اختلافا مراعى فيه مبلغ طاقة البشر لطفا من الله تعالى بالناس ورحمة منه بهم حتى في حملهم على مصالحهم ليكون تلقيهم لذلك أسهل، وعملهم به أدوم، إلى أن جاءت الشريعة الإسلامية في وقت راهق فيه البشر مبلغ غاية الكمال العقلي وجاءهم دين تناسب أحكامه وأصوله استعدادهم الفكري، وإن تخالفت الأعصار وتباعدت الأقطار، فكان دينا عاما لجميع البشر، فلا جرم أن كانت الشرائع السابقة تمهيدا له لتهييء البشر لقبول تعاليمه وتفاريعها التي هي غاية مراد الله تعالى من الناس، ولذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، فما من شريعة سلفت إلا وهي حلقة من سلسلة جعلت وصلة للعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهي عروة الإسلام، فمتى بلغها الناس فقد فصوا ما قبلها من الحلق وبلغوا المراد، ومتى انقطعوا في أثناء بعض الحلق فقد قطعوا ما أراد الله وصله، فاليهود لما زعموا أنهم لا يحل لهم العدول عن شريعة التوراة قد قطعوا ما أمر الله به أن يوصل ففرقوا مجتمعه.
51. من الفساد في الأرض عكوف قوم على دين قد اضمحل وقت العمل به، وأصبح غير صالح لما أراد الله من البشر، فإن الله ما جعل شريعة من الشرائع خاصة، وقابلة للنسخ إلا وقد أراد منها إصلاح طائفة من البشر معينة في مدة معينة في علمه، وما نسخ دينا إلا لتمام وقت صلوحيته للعمل به، فالتصميم على عدم تلقي الناسخ، وعلى ملازمة المنسوخ هو عمل بما لم يبق فيه صلاح للبشر، فيصير ذلك فسادا في الأرض، لأنه كمداواة المريض بدواء كان وصف له في حالة تبدلت من أحوال مرضه حتى أتى دين الإسلام عاما دائما لأنه صالح للكل.
52. قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ قصر قلب لأنهم ظنوا أنفسهم رابحين وهو استعارة مكنية تمثيلية تقدمت في قوله تعالى: ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ [البقرة: 16]، وذكر الخسران تخييل مراد منه الاستعارة في ذاته على نحو ما قرر في ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/357.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الاستحياء انقباض النفس عن أن يكون منها ما يستقبحه الناس الذين يسيطر عليهم عرف قويم، وهو أساس من أسس الأخلاق؛ ولذا قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: الحياء خير كله)، ولكن هذا المعنى يليق بالناس، ولا يليق بالذات العلية؛ ولذلك بالنسبة لله تعالى أريد لازمه، لأن من لوازم ذلك الانقباض الترك، إذ من استحيا من عمل شيء يتركه.
2. المعنى أن الله تعالت كلماته، وتسامى قرآنه، لا يترك خاشيا لومة لائم أن يضرب مثلا، بأن يمثل أمرا ثابتا محققا بأمر واقع محسوس، تقريبا للمعاني إلى ما هو محسوس، وتوضيحا للأمور، لتكون بينة للجميع أو لمن يصغون إلى تلقى البيان بقلب سليم، وإدراك مستقيم.
3. بين الله تعالى حال المنافقين، وضرب مثلين يبينان حالهم التي يبدو فيها النور لهم ولا ينتفعون منه، فشبههم سبحانه بحال الذي يستوقد نارا، وما إن يتم له أن ينتفع حتى تنطفئ، ويذهب الله تعالى بنورهم فلا يبصرون، وشبههم ثانيا بحال قوم أصابهم صيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، من حيث إن ماء الحياة يجيء إليهم، ولكن لسوء حالهم وفساد قلوبهم تنعكس بين أيديهم الأمور، فلا يدركون.. إلى آخر ما بين سبحانه وتعالى.
4. من منهاج الذكر الحكيم ضرب الأمثال تقريبا للأفهام، وتصويرا للمعاني التي تسمو بها المدارك بالأمور المحسوسة القريبة لكل من عنده لب، والأمثال تضرب لذى اللب الحكيم، فيعتبر بها، ويكون المغيب غير المحسوس كأنه المحسوس الذي يرى ويشاهد.
5. لقد ضرب الله الأمثال بالذباب في بديع تكوينه وسر خلقه الذي تعجز العقول عن أن يخلقوا مثله، وشبه الأوثان التي يعبدونها وهى لا تضر ولا تنفع، ولا تملك من أمرها شيئا بأنها أوهام توهموها، وأخيلة من القدرة تخيلوها، لقد قال تعالى في الذباب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، فهو في هذا المثل بين أنهم لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابا، ولو اجتمعوا له هم وآلهتهم، وأنهم لا يستطيعون أن يتغلبوا عليه إن سلبهم شيئا.
6. وفى سورة العنكبوت شبه آلهتهم التي يتوهمون فيها سلطانا، كمثل بيت العنكبوت أي الخيوط التي ينسجها، فقال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾
7. أكثر الله تعالى من ضرب الأمثال لتقريب المعاني السامية للعقول التي لا تدرك إلا المحسوسات الدانية، ولكن المعاند الجاحد، والعاجز الحسود يقلب الحسنات، ويتهكم على الحقائق الرائعة، فتكلموا متعجبين مستغربين من ضرب الأمثال بالبعوض والذباب، وكأنهم إذ لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله وعجزوا عجزا صارخا أخذوا يثيرون الشك حول بعض أجزائه وما اشتمل عليه، فاختاروا الأمثال موضعا لإثارة الاستغراب والعجب يتوهمون أن ذلك يضعف من تأثيره.
8. لذا رد الله تعالى أمرهم وإثارة العجب بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، ضرب معناها ذكر، والمثل هو الحال التي تشبه حالا قائمة قدرت أو وقعت، فمعنى ضرب المثل بيان الحال التي تشبه وتمثل بحال واقعة ثابتة.
9. يقول علماء البلاغة، إن للمثل مضربا وموردا، فالمورد هو الحال التي تشبه بها القول، والتي صدر فيها، والمضرب هو الحال التي يشبه الحال التي وقعت أو هي ثابتة.
10. المثل تشبيه حال غير منظورة ولكن تدركها العقول بحال أمر واقع ثابت.
11. البعوضة أصغر من الذبابة، ﴿مَا﴾ هي التي تسمى في عرف النحاة نكرة تامة بمعنى شيء، فهي شيء مبهم، وإذا جاء بعد نكرة كانت للدلالة على إيقاعها في الإبهام، فالمعنى بعوضة أيا كانت هذه البعوضة صغيرة أو كبيرة حقيرة أو خطيرة، فالله سبحانه وتعالى لا يترك ضرب الأمثال بالبعوضة أو ما دونها.
12. الكلام البليغ يضرب المثل للحقير، بحقير، والمثل للعظيم بعظيم، فيضرب فيه أوهامهم في آلهتهم من حيث إنها لا تقوى على النظر، ولا يمكن أن تكون معقولة، وحالها يناقض كل معقول بأنها كمسكن العنكبوت الذي تهدمه الرياح لأنه أوهن البيوت، وإن كان نسجها محكما، يدل على حكمة اللطيف الخبير، ولكن موضع المشابهة هو الوهن فقط.
13. قد يكون ضرب المثل للبعوضة، ببيان إحكام تكوينها، وبديع خلقها، كما كان مثل الذباب من حيث خلقه وتكوينه، وعجز الآلهة ولو اجتمعوا له أن يخلقوه.
14. التمثيل بالبعوضة يكون فيه تشبيه حال الضعف، ببعض الضعف في نواحيها، كما رأينا في تشبيه أوهامهم حول الأصنام التي يعبدونها، من حيث إنها لا تقوى على نظر مستقيم في أمرها، ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت.
15. هذا النص الكريم يدل على أن ضرب الأمثال بصغير الأشياء وكبيرها يليق بالبيان الحكيم، وذكر الله تعالى في كتابه الحميد المجيد.
16. قوله تعالى: ﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ يراد بالفوقية:
أ. الزيادة في القوة على توجيه بعض المفسرين، ويكون المؤدى أن البعوضة أضعف الحيوان، وأنها يصح أن تكون ابتداء لضرب الأمثال من أدنى الأحياء إلى أعلاها، وهذا تخريج بعض المفسرين، وهو صحيح في ذاته.
ب. ويفسر بعضهم الفوقية بمعنى الزيادة في الصغر، وكأنه يتصور أن في الأحياء ما هو أصغر من البعوضة ويقر أن الفوقية في كل شيء بما سبقه، فإن كان ضرب المثل للصغر، فالفوقية في الصغر أي أكثر صغرا منها.
17. الأول هو الأظهر، ولكن يجب التنبيه إلى أن ذلك لا يقتضى أن يضرب المثل بما دونها فإن مؤدى القول أنه سبحانه لا يترك المثل الأكبر أو الأصغر لصغر عقولهم أو عنادهم، فإن القرآن أعلى البيان عند الله، ولا يترك سبحانه البيان السامي لاستغرابهم أو إعجابهم.
18. ﴿فَأَمَّا﴾ هي للتفصيل، أي تفصيل حال الذين يتلقون الأمثال المضروبة لهداية المتقين، وهى في معنى أداة الشرط بمعنى مهما يكن من شيء.
19. المعنى مهما يكن من الأمر في المثل الذي ساقه الله تعالى، فالذين آمنوا وأذعنوا للحق إذا بدا لهم يعلمون أي يعرفون جازمين بالدليل القاطع أنه الحق أي الأمر الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، ويرشحون لذلك الإيمان المذعن والعلم الجازم بأنه من ربهم أي من الله العلى القدير الذي يربهم، ويدبر أمور الوجود بحكمته، وقوته، وبذلك يزدادون إيمانا.
20. الأمر الجدير بالاعتبار والتقدير يختلف تلقى الناس له، فالقلب الذاكر الطاهر الذي يطلب الحقائق ويتقبلها ويدركها معتبرا متعظا مؤمنا يزداد إيمانا، والقلب المضطرب الذي يعاند، ويكابر ويثير الاستغراب والعجب، وكأنه يحاول بذلك أن يثير غبارا حول الحقائق الثابتة.
21. الذين كفروا يظهرون استغرابهم بل استنكارهم، فيقولون: ﴿فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾؟ فهم يستفهمون استغرابا أو إنكارا ما الذي يريده تعالى بهذا المثل، والتجاهل يؤدى إلى الجهل، وعمى البصيرة يؤدى إلى العمى في طرق الإدراك.. إنهم يعرفون المثل ومضربه، وما تشبه به من حالهم، فإذا ضرب مثل ما يعبدون من آلهة ببيت العنكبوت فهم يعرفون أن الله تعالى بين وهن الأسباب التي يقيمون عليها، ولكن لاعتقادهم الواهم في أصنامهم يثير المثل استغرابا ثم إنكارا، وذلك من رسوخ الضلال في نفوسهم، فلا يزيدهم المثل إلا إمعانا في الضلال.
22. (ما) الاستفهامية، و(ذا) موصول بمعنى الذى، والمعنى على ذلك ما الذي أراد الله تعالى بهذا المثل، أو نقول: إن ماذا كلها للاستفهام، وهى مركب يراد به الاستفهام، والفرق إعرابي، ولا مؤدى له، فالمعنى واحد.
23. هذا الاستغراب أو الإنكار الذي سبق إليهم، سببه أمران:
أ. الأول: ضلال اعتقادهم في أوثانهم كما أثر.
ب. الثاني: غطرستهم وعنادهم، وحبهم لبقاء سلطانهم، وإن المعاند يزداد إصرارا وينفض رأسه كلما زاد الدليل وضوحا.
24. أُسند الإضلال إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي ضرب المثل، وقد تسبب ضرب المثل في نفوسهم التي أصابها الفجور والعناد في أن استكبرت وزادت نفورا عن الحق، وإيغالا في الباطل، وإن الله تعالى يسن طريق الهدى، ويبينه فمن عاند وجحد، وسار في طريق الضلال، وكلما سار فيه أوغل، حتى يزداد ضلالا ـ كالذي يضرب في الأرض؛ إن سار في الطريق الجد وصل، وإن سار في الطريق المعوج تاه وكلما سار زاد في التيه.
25. أما الذين آمنوا فإنهم يجدون في المثل الحق وازدادوا إيمانا بالحق وتصديقا به؛ ولذلك حق عليهم أن يقول الله تعالى فيهم: ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ هديا كثيرا فيزيدهم إيمانا بعد إيمانهم.
26. إن أولئك المؤمنين سلمت مداركهم، واستقامت عقولهم، فأدركوا معنى الحقيقة، فكلما جاء ما يؤكدها ويبينها ازدادوا هداية، وساروا على الجدد، وأما الآخرون فهم يخرجون عن سنن الفطرة، وما يوجه إليه الإدراك الصحيح؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ أي الخارجين عما توجبه الفطرة، الذين شاهت عقولهم، وانعكست الحقائق أمامها، فصاروا يدركون الأمور عكس حقيقتها.
27. إن المثل الذي يسوؤهم لأنه تنزيل لمكان ما يقدسون في زعمهم، يستغربون ثم ينكرون فيزيد ضلالهم؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾، أي أن ضرب المثل يضل الله تعالى به كثيرا من الضلال، وكثيرا من الناس، وكثرة الضلال بالإيغال فيه حيث يقوم الدليل على بطلان ما يعتقدون، فيلوون رؤوسهم فيزدادون ضلالا، وكثرة الضالين لكثرة المفاسد.
28. الفاسق في أصل معناه اللغوي الخارج عن الطاعة، ويقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها، ويقال للفأرة فويسقة لخروجها من جحرها للفساد، ويطلق على الحشرات والمؤذيات فواسق، ولقد روى عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور).
29. الفاسق في هذه الآية هو الكافر سواء أكان يجمع الكفر والنفاق أم يكون كافرا من غير نفاق؛ وذلك لأنه خرج عن مقتضى الفطرة، والعقل المستقيم، فهو قد كفر بالله ورسوله، وبالأوامر والنواهي وإنها دين الفطرة، كما قال تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
30. بين تعالى أولئك الفاسقين الخارجين عن سنن الفطرة، فقال: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾، ذكر الله تعالى أوصافا ثلاثة هي التي تتقطع بها أوصال الجماعة الإنسانية، ويكون بها التدابر، وأن يكون بها ابن الإنسان على أخيه الإنسان أشد من الوحوش، وأقسى من كل ما في الوجود.
31. النقض فك ما أبرمه الشخص ووثقه وأكده من بناء أو وثيقة أو عهد، وإن الميثاق الذي يعقد بين الناس يوثقه بيمين الله تعالى؛ ولذلك يسمى اليمين، ويقول تعالى: ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل] ويسمى عهد الله تعالى؛ لأنه إذا أكده بيمين فكأنه عاهد الله تعالى على الوفاء بها، وعدم النكث فيها فكأنه عاهد الله تعالى.
32. ﴿مِيثَاقِهِ﴾ معناه العهد الموثق باليمين، والمراد منه ميثاق الفطرة الإنسانية، فقد خلق الله الناس، وأخذ منهم ميثاقهم بمقتضى الفطرة بالعبودية لله رب العالمين، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾
33. أولئك الفاسقون الذين خرجوا على الفطرة قد نقضوا ذلك العهد التكويني الذي كون الله تعالى بنى آدم على أساسه؛ ولذلك فإن معرفة الله بدهية لذوي العقول المستقيمة المدركة، وكانت الرسالة للتذكير بهذه الفطرة، وإيقاظها، إذا غفلت، ولحسابها إذا نبهت ولم تنتبه؛ ولذلك قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، هذا معنى واضح جيد مستقيم تؤيده نصوص الكتاب الحكيم.
34. قد يراد نقض العهود الموثقة بالأيمان وعدم الوفاء بالمواثيق التي تنظم العلاقات بين الناس آحادا وجماعات؛ لأن ذلك من سمات الكفر، وخصوصا الذي يصحبه نفاق، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الكفار بذلك في أكثر من آية، فقال تعالى: ﴿مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾
35. الوفاء بالعهود والمواثيق شأن من يراقب الله تعالى، ويحس برقابة الله تعالى، وهو لذلك خاصة من خواص المؤمنين، وكرر الله الأمر بالوفاء بالعهد مثل قوله تعالى: ﴿ وأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُولًا ﴾، وإن الكافر لا يحس بمسئولية أمام الله تعالى؛ لذلك كان أول وصف من أوصاف الفاسقين أنهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.. وإن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عقد ميثاقا لليهود فنقضوه، وعقد صلح الحديبية، فنقضوه.
36. القطع فصل المتصل، وجعله أجزاء متفرقة، وقطعهم الذي كان الله تعالى أمرهم بوصله:
أ. قيل: قطع الأرحام، فلا يصل ذا رحمه، ولا يعمل بالمودة بين ذوى قرباه، والإنسانية كلها رحم واحدة، كما قال تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً ونِساءً واتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ والْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء]، فالرحم الإنسانية ثابتة بين الناس، وقطعها يكون بأساليب شتى، وسبل مختلفة، وكلها سبل الشيطان كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾
ب. ومن قطعها أن يتحكم القوى في الضعيف، وأن ينظر إلى الناس على أنهم طبقات منهم غنى ومنهم فقير، وأن يكون لكلّ قانون ونظام، وأن تختلف المعاملة، وأن تتنافر الشعوب، ولا تتضافر ولا تتعارف كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
ج. ومن قطعها أن ينقطع التعاون بين الناس فلا يكون التعاون على البر والتقوى، ويحل محله التعاون على الإثم والعدوان.
د. وفى كل ما يكون فيه قطع للعلاقات الإنسانية يكون قطعا لما أمر الله تعالى به أن يوصل.
37. وصل ما أمر الله به أن يوصل هو اتباع أوامره تعالى واجتناب نواهيه، فهي كلها لربط الناس بعضهم ببعض بالمودة والعمل الصالح، وبسيادة الفضيلة والبعد عن الرذيلة، وإذا كانت ثمة حروب فلدفع أذى المفسدين، وتقويم الظالمين ﴿ ولَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ولكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ ﴾
38. في الجملة كل قطع بين عباد الله تعالى هو قطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل وقطع للأرحام؛ لأن الناس جميعا رحم واحدة، من قطع ما بينهم فقد قطع الأرحام.
39. الوصف الثالث من أوصاف الفاسقين، بينه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ والفساد في الأرض يشمل فساد العقائد إذ إن سلامة العقيدة فيها سلامة النفس، وفساد العقيدة بألا يؤمنوا بالله وحده، ولا يعبدوه وحده، ويتعلقون بالأوهام حول الأصنام، وأى فساد أعظم من أن يحقر الإنسان نفسه وعقله، وإدراكه فيسجد لصنم لا يضر ولا ينفع، وقد رآه يصنع بين يديه، إنه ضلال العقل، وضلال النفس، وسيطرة الوهم.
40. يشمل الفساد بث روح النزاع المستمر بين الناس قبائل وشعوبا، وكلما أطفأ الله نار الحرب أوقدوها باسم العصبية القبلية، أو العصبية الوطنية، أو بالرغبة في أن تربو أمة عن أمة، أو التنافس الاقتصادي، حتى ينظر الإنسان للإنسان نظرة من يتربص به الدوائر.
41. يشمل الفساد في الأرض ألا يكون الحكم المرضى الحكومة هو الحق، وأن يكون الحكم للغلب، وأن يسود قانون الغابة لا قانون الفضيلة بين الناس، وأن يكون ذلك في كل العلاقات الإنسانية، القوى يأكل الضعيف، والغنى يحق الفقير، والعالم لا يعلّم الجاهل، بل يتخذه مطية لأهوائه وشهواته.
42. يشمل الفساد في الأرض ألا يكون تعاون في استخراج ينابيع الثروة من باطن الأرض، بل يستبد بها القادر عليه، ويشمل الفساد ألا يوزع بين أهل الأرض خيراتها، بل يلقيه بعضهم في البحار، ولو جاع الباقون، ضنا به على فيّ أخيه الإنسان.
43. حكم الله تعالى على من كانت هذه أوصافهم فقال تعالت كلماته: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
44. اسم الإشارة إلى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات، والإشارة إلى المتصفين بصفة أو صفات تومئ إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم، فنقض العهود والمواثيق، وقطع الصلات الإنسانية، وإشاعة الفساد في الأرض هو السبب في الخسران الذي لا ينجو منه أولئك الفاسقون.
45. الخاسر هو الذي نقص حظه من الغاية التي كان يبتغيها، وكذلك الذين اتصفوا بهذه الصفات:
أ. فالناقض للعهد يحسب أنه كسب من نكثه في عهده، ولكنه خسر؛ لأن الناس لا يثقون بعهده من بعد.
ب. والذى يقطع أرحام الإنسانية يحسب أنه كسب بالانفراد، ولكنه خسر المعاونة والمودة، والأخوة الإنسانية.
ج. والمفسد في الأرض يحسب أنه كسب أرضا أو خيرا من وراء ما يفعل، وقد خسر الناس جميعا، فهو كمن أراد ربحا بالغش والخديعة فخسر كل ماله.
د. وهكذا كل الفساق الآثرون الذين يحسبون بأثرتهم أنهم الكاسبون، وهم الخاسرون.
هـ. فمن كسب بغدر وخيانة وقطع الأرحام، ومن أفسد في الأرض بالحروب الظالمة، والغدر في العهود، فهو خسران دائما، فإن انتصر في حرب ونال ثمرة انتصاره ظلما، وإزهاقا وإفسادا، فإن المهزومين يتأهبون، وهو يترقب متوجسا خائفا حذرا، وسيكون منهم الانتقام، ويكون الشر المستطير، بين الغالب والمغلوب، ولا سلام، بل خسران.
46. أكد سبحانه وتعالى الخسران في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ بمؤكدات ثلاثة:
أ. أولها: التعبير بالجملة الاسمية، ففي التعبير بها تعبير بأكمل القول الدال على الاستمرار.
ب. ثانيها: التأكيد بكلمة (هم)، وهى تدل على انفرادهم بالخسارة دون المؤمنين الطائعين، فهم الرابحون دائما.
ج. ثالثها: تعريف المسند والمسند إليه الدال على القصر؛ أي أنهم مقصورون على الخسارة، فلا يربحون أبدا ما داموا على الأخلاق التي تفسد الجماعات وتقطع العلاقات، والربح للإيمان وأهله.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/176.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. محصل معنى الآيتين ان الله لا يترك ضرب الأمثال بما يراه الجهلة والسفلة حقيرا كالعنكبوت والذباب والبعوضة، وغيرها، لأن الله خالق كل شيء، ورب كل شيء، يستوي لديه جناح البعوضة، والكون بكامله.
2. ضرب الأمثال موجود في جميع اللغات، والغاية منه جلاء الأفكار المجردة بمقارنتها بشيء محسوس، فكل ما يحقق هذه الغاية يصح جعله مثلا، صغيرا كان أو كبيرا، وبه تتم الحجة على كل من خالف وعاند.
3. امتحن الله الناس بهذه الأمثال كما امتحنهم وابتلاهم بغيرها من الدلائل والآيات، فعمل بها كثير، وأعرض عنها كثير، والذين عملوا بها هم الطيبون المؤمنون، والذين أعرضوا هم الفاسقون الضالون، وصحت اضافة الهداية والضلال اليه سبحانه بالنظر الى أنه هو الذي ضرب الأمثال التي كانت رحمة على من اتعظ بها، ونقمة على من لم يتعظ.
4. إذا نسب الحياء الى الإنسان فمعناه تغير حاله الطبيعية الى حال أخرى، لسبب من الأسباب، وحياء الإنسان حسن وقبيح:
أ. الحسن منه أن يستحي المرء من فعل القبائح والرذائل، ولذا يقال لمن يفعلها دون مبالاة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.. وقال الإمام الصادق (ع): لا حياء لمن لا إيمان له.
ب. أما القبيح من هذا الحياء فهو أن يترك المرء فعل ما ينبغي فعله تخوفا وتهيبا، كالاستحياء من التعلم وطلب المعرفة، وما إلى ذاك، قال الإمام أمير المؤمنين (ع): قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والفرص تمر مر السحاب.. وقديما قيل: لا حياء في الدين.
5. هذا إذا نسب الحياء الى الإنسان، أما إذا نسب اليه سبحانه فيراد به ترك الفعل، ومن ذلك ما جاء في الأخبار: ان الله يستحي من الشيخ الكبير، أي يترك عذابه وعقابه.
6. من المفيد ان نقدم مثالا لتوضيح هذه الفكرة: عالم ارتفع به علمه إلى أعلى المناصب، فحسده من حسده، حتى بلغ الحسد منه مبلغا أودى بجسمه وعقله ـ ملحوظة قال أمير المؤمنين: صحة الجسد من قلة الحسد ـ فيصح أن نقول تجوزا: العالم هو الذي أدّى بالحاسد الى هذه النتيجة السيئة، تماما كما تقول: أفسدت فلانة الحسناء فلانا، وأذهبت عقله، وربما لم تكن تعرف عنه شيئا ولكن لما فسد عقله من أجلها أضيف الفساد اليها، وبهذا الاعتبار ساغت نسبة الضلال الى الله مجازا، لأنه هو الذي أبان الحجة الدامغة وأعلنها، وترتب على اعلانها مخالفة المبطل وضلاله، ولو سكت الله عن بيان الحجة لانتفى موضوع الطاعة والعصيان، ولم يكن هناك ضال ومهتد.
7. الضلال يطلق على معان:
أ. منها: التلبيس والتشكيك والإيقاع في الفساد والمنع عن الدين والحق، وهذا لا يضاف الى الله بحال، بل ينسب الى إبليس وأتباعه ومنه قوله تعالى حكاية عن إبليس: ﴿ لَأُضِلَّنَّهُمْ ولَأُمَنِّيَنَّهُمْ ﴾، وقوله: ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ﴾، وقوله: ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ﴾
ب. ومنها العقاب، وفي القرآن آيات كثيرة بهذا المعنى، منها: ﴿يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ﴾ .. ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾ .. و﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾، أي يعاقب الكذاب والكافرين والظالمين.
ج. ومنها ان يراد به الحكم والتسمية بالضال، كقولك: أضله فلان إذا أردت انه نسبه الى الضلال، واعتبره من الضالين، ويجوز هذا المعنى عليه سبحانه.
د. ومنها التخلية بين المرء ونفسه.. فمن أهمل ولده من غير عناية وتربية يصح أن يقال: أضلّه أبوه.
هـ. ومنها الضياع، تقول: أضلّ فلان ناقته، أي ضاعت منه، وهذا أيضا لا يضاف إلى الله.
و. ومنها الابتلاء والامتحان، بحيث يحصل الضلال عند البيان الذي يمتحن الله به عباده، قال صاحب مجمع البيان: المعنى ان الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده، فيضل بها قوم كثير، ويهتدى بها قوم كثير)
8. يطلق الهدى على معان:
أ. منه البيان والإرشاد، وأكثر آيات الهدى في القرآن، والكثير منها تحمل ذلك، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى﴾، وقوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾، أي البيان، ولا بيان لله الا ما جاءت به الرسل، أو حكم به حكما بديهيا لا يتطرق اليه الشك والاحتمال.
ب. ومنها ان يتقبل الإنسان النصيحة، وينتفع بها، ومنه قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ ـ يونس 108).
ج. ومنها التوفيق والعناية من الله بوجه خاص، كقوله سبحانه: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ .. وقوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ﴾ ـ الحج 16)، أي يوفقه الى العمل بالهداية، ويمهد له السبيل اليها.. وبديهة ان الهداية بمجرد البيان لا تلازم التوفيق الى العمل، ومن ذلك قوله عز من قائل: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾، أي لا عليك ان يعملوا بهداك، أو لا يعملوا، وإنما عليك البيان.
د. ومنها الثواب، كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ ـ يونس 9)، أي يثيبهم بسبب ايمانهم، وكذلك قوله: ﴿ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ﴾.
هـ. ومنها ان يراد بالهدى المرشد والمبين بالنظر الى ان الهداية حصلت بسببه، وهذا هو المقصود هنا بقوله تعالى: ﴿ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾، قال صاحب مجمع البيان: قوله يهدي به كثيرا يعني الذين آمنوا به، وقالوا هذا في موضعه، فلما حصلت الهداية بسبب الله أضيفت اليه).
و. ومنها ان يراد به الحكم والتسمية بالمهتدي تماما كقولهم عدّله القاضي، أي حكم بعدالته، وهذا المعنى تصح نسبته الى الله سبحانه.
9. وصف الله من لا يتعظ بالأمثال، وصفه بالفسق، ونقض العهد، وقطع ما أمر الله بصلته من متابعة الأخيار، وملازمة الجماعة، وغير ذلك مما فيه التعاطف والتعاون على الخير.
10. لله سبحانه ارادتان:
أ. ارادة الخلق والتكوين، ويعبر عنها (بكن فيكون)، وبهذه الارادة يوجد الشيء من لا شيء.
ب. والارادة الثانية ارادة الطلب والتشريع التي يعبر عنها بالأمر والنهي، والدعوة الى فعل الخير، وترك الشر.
11. إن فعل العبد الخير فعله بملء ارادته واختياره بلا جبر وإكراه، وكذلك ان فعل الشر وترك الخير.. وإذا كان تنفيذ الأحكام الدينية بكاملها منوطا بإرادة المكلفين واختيارهم، ولا رقيب عليهم الا من أنفسهم فمن الخطأ أن يقال بأن للدين تأثيرا على انحطاط أتباعه والمنتمين اليه، بحيث نكتشف من تأخرهم عدم صلاحية الدين للحياة.. أجل، لو عملوا به، وطبقوه تطبيقا كاملا على أفعالهم لصح ان يتخذ الدين مقياسا لرقيهم وانحطاطهم.
12. بهذا يتبين الحقد والدس على الإسلام في قول من قال: ان ضعف المسلمين دليل على ضعف الإسلام وتعاليمه).. وعلى منطق هذا المتجني يجوز لنا أن ننسب الى الديانة المسيحية كل فسق وفجور وتهتك في أمريكا واوروبا، وان ننسب اليها أيضا الخراب والدمار وجميع الحروب التي أثارتها الدول المسيحية في شرق الأرض وغربها، حتى إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، وقنابل النابالم في فييتنام، وحتى الانحلال الخلقي، وارتفاع عدد الجرائم يوما بعد يوم في أمريكا واوروبا، وحتى اباحة اللواط في انكلترا قانونا وكنيسة، كل ذلك وما اليه كثير وكثير ينبغي أن ينسب الى السيد المسيح عليه السلام حاشا الأبرار من هذه الأقذار.
13. هذا، ولو أخذنا بفرية ذاك المفتري لكان اليهودي في اليمن تماما كاليهودي في نيويورك تحضرا ورقيا، والمسيحي في مصر كالمسيحي في باريس.. ان لتأخر البلدان أسبابا كثيرة غير الدين، وأهمها الجهل ورواسب التاريخ، وظروف البيئة وملابساتها، وعدم اختلاط البلد المتأخر بالبلد المتقدم، ولولا اختلاط المسلمين في صدر الإسلام بغيرهم من الشعوب والأمم المتحضرة لم يكن لحضارة المسلمين عين ولا أثر.. أجل، لقد كان الإسلام هو الحافز على ذاك الاختلاط.. وبالاختصار ان أسباب التقدم أو التأخر ليست كامنة في طبيعة المسلمين، ولا في طبيعة المسيحيين، ولا في طبيعة اللادينيين، بل للظروف والأحوال الاجتماعية تأثير بالغ.
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/70.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الآية تشهد على أن من الضلال والعمى ما يلحق الإنسان عقيب أعماله السيئة غير الضلال والعمى الذي له في نفسه ومن نفسه حيث يقول تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾، فقد جعل إضلاله في تلو الفسق لا متقدما عليه هذا.
2. الهداية والإضلال كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة والخذلان التي ترد منه تعالى على عباده السعداء والأشقياء، فإن الله تعالى وصف في كلامه حال السعداء من عباده بأنه يحييهم حياة طيبة، ويؤيدهم بروح الإيمان، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويجعل لهم نورا يمشون به، وهو وليهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهو معهم يستجيب لهم إذا دعوه ويذكرهم إذا ذكروه، والملائكة تنزل عليهم بالبشرى والسلام إلى غير ذلك.
3. وصف الله تعالى حال الأشقياء من عباده بأنه يضلهم ويخرجهم من النور إلى الظلمات ويختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ويطمس وجوههم على أدبارهم ويجعل في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، ويجعل من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فيغشيهم فهم لا يبصرون، ويقيض لهم شياطين قرناء يضلونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون، ويزينون لهم أعمالهم، وهم أولياؤهم، ويستدرجهم الله من حيث لا يشعرون، ويملي لهم إن كيده متين، ويمكر بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.
4. هذه نبذة مما ذكره سبحانه من حال الفريقين وظاهرها:
أ. أن للإنسان في الدنيا وراء الحياة التي يعيش بها فيها حياة أخرى سعيدة أو شقية ذات أصول وأعراق يعيش بها فيها، وسيطلع ويقف عليها عند انقطاع الأسباب وارتفاع الحجاب.
ب. ويظهر من كلامه تعالى أيضا أن للإنسان حياة أخرى سابقة على حياته الدنيا يحذوها فيها كما يحذو حذو حياته الدنيا فيما يتلوها.
وبعبارة أخرى إن للإنسان حياة قبل هذه الحياة الدنيا وحياة بعدها، والحياة الثالثة تتبع حكم الثانية والثانية حكم الأولى، فالإنسان وهو في الدنيا واقع بين حياتين: سابقة ولاحقة، فهذا هو الذي يقضي به ظاهر القرآن.
5. جمهور من المفسرين حملوا القسم الأول من الآيات، وهي الواصفة للحياة السابقة على ضرب من لسان الحال واقتضاء الاستعداد، والقسم الثاني منها وهي الواصفة للحياة اللاحقة على ضروب المجاز والاستعارة هذا، إلا أن ظواهر كثير من الآيات يدفع ذلك، أما القسم الأول وهي آيات الذر والميثاق فستأتي في مواردها، وأما القسم الثاني فكثير من الآيات دالة على أن الجزاء يوم الجزاء بنفس الأعمال وعينها كقوله تعالى: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾، وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
6. لو لم يكن في كتاب الله تعالى إلا قوله: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾، لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلا عن معلوم حاضر، وكشف الغطاء لا يستقيم إلا عن مغطى موجود فلو لم يكن ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجودا حاضرا من قبل لما كان يصح أن يقال للإنسان إن هذه أمور كانت مغفولة لك، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء، مزالة منها الغفلة.
7. لو سألت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز لما أجابتك إلا بنفس هذه البيانات والأوصاف التي نزل بها القرآن الكريم.
8. محصل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين:
أ. أحدهما: وجه المجازاة بالثواب والعقاب، وعليه عدد جم من الآيات، تفيد: أن ما سيستقبل الإنسان من خير أو شر كجنة أو نار إنما هو جزاء لما عمله في الدنيا من العمل.
ب. ثانيهما: وجه تجسم الأعمال وعليه عدة أخرى من الآيات، وهي تدل على أن الأعمال تهيء بأنفسها أو باستلزامها وتأثيرها أمورا مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيرا أو شرا هي التي سيطلع عليه الإنسان يوم يكشف عن ساق.
و إياك أن تتوهم أن الوجهين متنافيان فإن الحقائق إنما تقرب إلى الأفهام بالأمثال المضروبة، كما ينص على ذلك القرآن.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/92.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ قال الشرفي في (المصابيح) في تفسير هذه الآية: قال المرتضى عليه السلام: الاستحياء من الله ـ عزَّ وجل ـ ليس من طريق الخجل ولا الحصر، ولا يتوهم ذلك من له دين أو معرفة بالله أو يقين، وإنما المعنى في ذلك: أنه لا يرى في التمثيل للحق والصواب والصدق بما صح من الأمثال عيباً ولا خطأ ولا مقالاً لأحد من أهل الكفر والضلال، بل ذلك عند الله ـ تبارك وتعالى ـ صواب وصدق حسن، وذكر مثل هذا سواءً الهادي عليه السلام)
2. المعنى: أنه ليس عيباً عند الله أن يضرب المثل بالبعوضة فما فوقها، ولا هو مما يتعلق به الحياء في نفس الأمر، قال في (الكشاف) بعد إيراد كلام حسن في تفسير الآية: ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة، فقالوا: أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت؟، فجاءت على سبيل المقابلة، وإطباق الجواب على السؤال، وهو فنّ من كلامهم بديع وطراز عجيب)
3. ﴿مَا﴾ هذه:
أ. إبهامية، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شياعاً وعموماً، كقولك: أعطني كتاباً مَّا، تريد أي كتاب كان.
ب. أو صلة للتأكيد، كالتي في قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: 155].
4. الأول أحسن لأنه مطابق للمقصود؛ لأن المراد أيّ مثل أراده سبحانه ولأي معنى صحيح ضربه، مع أن كونها صلة في هذا الموضع لا يعرف له نظير، ولم يمثل له في (مغنى اللبيب).
5. قال في (الكشاف): وضرب المثل اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم، وقال: وانتصب بعوضةً بأنها عطف بيان لِمثلاً أو مفعولٌ ليضرب، ومثلاً حال عن النكرة مقدمة عليه، أو انتصبا مفعولين فجرى ضرب مجرى جعل)
6. هذا الآخر أظهر؛ لأن المعنى في هذه الآية وأمثالها جعل الشيء مثلاً، كقوله تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً ﴾ [النحل: 112]، وقوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾ [النحل: 76]، ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا﴾ [النحل: 75]، ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ﴾ [الزمر: 29]
7. لا يصح عطف البيان في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا﴾ [الزخرف: 57]، ولا الحال في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ [العنكبوت: 43]، وقد جاء التصريح بجعل في قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ [الزخرف: 56].
8. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ لأنه صواب في نفسه لا موجب للحياء منه، ولأنه من الله العزيز الحكيم الذي لا يقول ما هو عيب ونقص ـ سبحانه وتعالى ـ فلو لم يعرفوا وجه صحته لآمنوا بأنه الحق من الله؛ لعلمهم أن هذا القرآن كلام الله لا ريب فيه ولا اشتباه وإيمانهم به.
9. ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ استنكاراً لجعله مثلاً، وتجاهلاً بالحكمة فيه، والغرض من ذلك الجدل في القرآن، وإن نسبوه إلى الله، كقول فرعون: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: 27] وجاء الجواب عنهم: إن الله أراد به الفتنة والاختبار.
10. ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ باختباره لهم المؤدي إلى كشف ما كان مستوراً منهم، والذي ازدادوا عنده رجساً إلى رجسهم ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ باختبارهم المسبب لزيادة إيمانهم لما فيه من توضيح الحق والحكمة.
11. ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ الذين هم بفسقهم مستعدون للضلال به، مستحقون للخذلان، والفسق: الخباثة والفجور، ألا ترى إلى هذه الآية الكريمة.
12. قوله تعالى: ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ﴾، والمقابلة بين المؤمن والفاسق في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾ [السجدة: 18]، وقال في أصحاب القرية الذين اعتدوا في السبت: ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [الأعراف: 165]، وقال تعالى: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6]، وقال تعالى: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾ [الحجرات: 11]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 67] يظهر: أن الفاسقين: هم الخبثة الفجار بأي سبب.
13. يناسب ذلك قول العرب للعاهرة: فَسَاقِ، وإن كان ما يعد خباثة قبل الإسلام أقبح من بعض ما يعد خباثة بعد الإسلام، كسباب المؤمن، ونبزه باللقب السيء، ومضارة الكاتب أو الشهيد.
14. العهد: الوعد المؤكد باليمين، قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ [النحل: 91] وقال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]
15. هذا المعنى هو الذي ينسب إليه الوفاء أو النقض، فأما العهد بمعنى التوصية فينسب إليه الطاعة أو المعصية أو نحو ذلك، ونقض العهد إهماله وترك اعتباره بالحنث كأنه كان عقدة محكمة فنقضها بمخالفة العهد كأنه جعلها في اعتباره لها وصيرها منقوضة، والميثاق توثيق الوعد وتقويته ليوثق به، قال ﴿ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ﴾ [يوسف: 66]، قال الشرفي في (المصابيح): قال إمامنا المنصور بالله عليه السلام: تدل على تحريم نقض عهود الله، وعلى تحريم قطع ما أمر الله به أن يوصل من صلة الأرحام، وإيتاء ذي القربى، وأداء الأمانة إلى أهلها، ومودة ذوي القربى، والاجتماع على الحق، وترك التفرق في الدين إلى غير ذلك، وعلى تحريم الفساد في الأرض)
16. ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ فسره في (الكشاف): بقطع الأرحام، وقطع موالاة المؤمنين، ولا إشكال أنها عامة في كل ما أمر الله به أن يوصل.
17. ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ وهو الفساد الذي من شأنه أن ينتشر في الأرض، كمحاربة الدين، ومحاربة اقتصاد أهله ليغلبوا، وإيراد الشبهات ضد الحق، ونشر الدعايات التي يعم فسادها ونحو ذلك، فهذا الفساد هو الفساد في الأرض.
18. ومنه كل ما يعم ضره كتحريق كتب الهداية وإضاعتها عن طلابها، وقتل علماء الدين.. ونحو ذلك، فهو كله إفساد في الأرض، ينسب الإفساد في الأرض إلى من فعل خصلة منه.
19. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ قد استحقوا الإضلال بهذه الجرائم كانوا قد اشتروا الضلالة بالهدى، وتلك الصفقة الخاسرة لما تؤدي إليه من سوء العاقبة وعذاب الآخرة وفوات فائدة ثواب أهل الهدى الذي هو جنات النعيم، وهذا لأن هذه الآية مرتبطة بالتي قبلها بقوله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ وقوله: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ﴾ إلى آخر الثلاث، صفة للفاسقين الذين يضلهم بضرب المثل المذكور، أي يبتليهم به ويفتنهم ويختبرهم به فيضلوا.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/79.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إنّ الآية توحي بوجود حالة نفسية تحاول أن تفصح عما في داخلها من حالة ريب أو اعتراض على ما يورده الله من الأمثلة المتعلقة بصغار الأمور وكبارها، وربما أمكن للإنسان أن يستوحي منها وجود موقف مضادّ، على أساس فكرة خاطئة تربط بين عظمة المتكلم وحجم القضايا التي يتحدث عنها.
2. لذلك كانت هذه الآية التي ترفض هذه الفكرة، وتقرر مبدأ ضرب المثل، في صغير الأمور وكبيرها، بطريقة حاسمة، كأسلوب قرآني بارز في أغلب السور، بعيدا عن كل وهم يعتبر ذلك بعيدا عن مقام الله وعظمته، لأن دور المثل هو أن يقرّب الصورة للناس مما يعيشونه في حياتهم، وفيما يمارسونه من أعمالهم، لتقترب بذلك الفكرة التي يراد بها هدايتهم للحق من غير فرق في ذلك بين الصغير والكبير، لأن القضية ليست قضية صاحب المثل، بل هي قضية الفكرة التي يثيرها في حياة الناس، وفي أفكارهم، مما يدعو المتكلم إلى أن يتلمّس كل الأشياء التي تشارك في توضيح الصورة وتقريب الفكرة.
3. لم يكن أسلوب ضرب الأمثال بدعا من الأساليب، بل هو نموذج من الأساليب العامة التي يتداولها المتكلّمون في الإقناع والهداية والتوجيه للناس، من أجل أن تجد الكلمة مجالا في وجدانهم إذا واجهوها من موقع المسؤولية، فترى المؤمنين يتقبّلونها بإيمان وإذعان، لأنهم يعرفون كيف تتحرك الكلمة، وكيف تتجه من موقع الفكر المتأمل، فلا يخالجهم شك في طبيعتها وفي عطائها.
4. أما الكافرون الذين لم تنفتح قلوبهم للحق، ولم يعيشوا مسئولية الكلمة في حياتهم، فلا يحاولون أن يتفهموا وجه الحق في ذلك؛ بل يعملون على التهرب من مواجهة المسؤولية بإثارة الاعتراضات والتساؤلات التي لا يريدون بها إلا المشاغبة والتشكيك بعيدا عن أية رغبة في المعرفة، أو نزوع إلى الإيمان، فيثيرون القضية في سؤال يوحي للآخرين بأنهم لم يفهموا ماذا أراد الله بهذا المثل.
5. وقد نستوحي من خلال هذا التساؤل أنهم يريدون التهرب من الحقائق الصارخة التي يجسّدها المثل لا سيما في النيل من معتقداتهم وتضليلاتهم وكفرهم ونفاقهم، فيواجهونه مواجهة عدم الفهم إمعانا في الهروب من تحديات الحق ـ الذي تمثله الرسالة ـ للباطل المتمثل في خطواتهم الكافرة والضالة، تماما كما نشاهده في بعض الجماعات الكافرة التي تثير الضباب أمام الحقائق الدامغة بطرح الأسئلة التي تجعل القضية تتحرك في أجواء بعيدة عن الحوار الجديّ العميق.
6. لكن الله، سبحانه وتعالى، يواجه هذا التساؤل بالجواب الحاسم، فيوحي ـ من خلال الآية ـ بأن دور المثل هو إقامة الحجة للحق على الناس، باعتباره أسلوبا حيا من أساليب الاحتجاج للفكرة، فأمّا المؤمنون فيتقبلونها بوعي لأنهم ينفذون إلى أعماقها، فتنفتح لهم منها آفاق المعرفة والإيمان، فيهتدون بها، وأما الكافرون فيهربون منها فيضلّون بها. ثم حدد لنا هؤلاء الذين يتجهون إلى الضلال أمام هذه الأمثال، فوصفهم بالفاسقين الذين يتجاوزون الحق إلى غيره.
7. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي: لا يدع ضرب المثل استحياء من حقارة الموضوع الذي يتعلق به لعدم تناسبه مع موقع العظمة في ذاته، لأن طبيعة المثل، في موضوعه، تتصل بالفكرة التي يراد تقريبها للذهن الإنساني، من خلال الصورة الحسية المتمثلة في وجدانه؛ فقد تفرض حديثا عن الأشياء الحقيرة لأنها أكثر تمثيلا للفكرة، كما هي البعوضة التي ضربها الله مثلا لعجز المستكبرين الذين يضعون أنفسهم في موقع الآلهة، فلا يملكون أن يخلقوا الذباب، أو يسترجعوا ما يسلبهم الذباب من الأشياء المتصلة بحياتهم مما يحافظون عليه، وكما هي الحال في العنكبوت الذي ضرب الله مثلا ببيته تمثيلا للبيوت التي لا ترتكز على أساس، وقد تفرض حديثا عن الأشياء الكبيرة كما في مثال ﴿كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ .
8. ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وانفتحوا على آياته وتدبّروا معانيها، وعرفوا مقاصدها وإيحاءاتها، وانطلقوا في وعيهم الفكري إلى أعماقها، فلم يتوقفوا، فقد ورد الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع): إنما ضرب الله المثل بالبعوضة، لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل، مع كبره، وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله تعالى أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه عند البعد السطحي لها، ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾، من خلال ما يستوحونه منها فيما يريد الله لهم أن يفهموه ويؤمنوا به، لأن إيمانهم يربطهم بالحقائق الإلهية التي توحي بها آياته التي أنزلها في كتابه.
9. قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وابتعدوا عن وعي الحق، واتخذوا من الرسالة والرسول موقفا سلبيا متمردا، وواجهوا الموقف بالسخرية والعبث وأساليب اللعب، وحرّفوا الكلمة عن موضعها، وأبعدوا الآيات عن معانيها العميقة، ﴿فَيَقُولُونَ﴾، تعليقا على الأمثال المتعلقة بالأشياء الحقيرة كالبعوضة والعنكبوت، ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ أي: ما الذي يريده الله بهذا المثل، وكيف يتناسب مع عظمته؟ مما يؤدي إلى التشكيك بصدوره منه، لتنتهي المسألة إلى الشك بالنبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
10. نسبة الضلال والهدى إلى المثل الذي ضربه الله للناس، وأراد أن يضل به الكثير ويهدي به الكثير، على حسب مضمون الآية، فلعل الوجه فيه هو أن وجود الحجة يحدد للناس الموقف الذي يقفونه من قضايا الكفر والإيمان والهدى والضلال، فيهتدي به من ينسجم معه، ويضلّ به من يبتعد عنه.
11. تماما كما يقول الناس إن التجربة والامتحان يسقطان الناس أو ينجحانهم، مع أن القضية هي أن الناس يسقطون أمام التجربة بالابتعاد عن أسس النجاح، وينجحون معها بالاقتراب من ذلك، فهي السبب لكلا الموقفين، باعتبار أنها القاعدة التي أطلقت الموقف هنا وهناك، وبذلك تبتعد الآية عن ملامح الفكرة الجبرية التي تربط الضلال بالله بشكل مباشر.
12. ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ من الذين لا يقفون منه موقف المتدبر الواعي الذي يواجه القضايا من خلال عناصرها الطبيعية في مداليلها وإيحاءاتها، بل يقف منها موقف المعقّد الجاحد المتمرّد الذي يحاول أن يجد في الإيجاب سلبا، وفي القوّة ضعفا، وفي الحق باطلا، فيتحرك في درب الضلال الذي سلكه بسوء اختياره وعدم تفاعله مع الخط الذي يقوده نحو الهدى.
13. ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ من المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله ورسالاته وكتبه، فاهتدوا بآياته التي فهموها كما يجب أن يفهموها، واستوحوها في كل ما تختزنه من إيحاءات الهدى في كل دروب الحياة وآفاقها وتطلعاتها؛ ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ الخارجين عن عبوديتهم لله والتاركين طاعته، والمنحرفين عن خط الاستقامة في دروب هداه.
14. نسبة الضلال والهدى إلى الله من خلال ضربه المثل، قد يكون الأساس فيه هو أن المثل الذي ضربه الله كان السبب الحيّ لحركة التجربة الإنسانية في طبيعة الاختيار الخيّر أو الشرّير، فلو لم يطلق الله سبحانه هذا المثل الذي يوحي بالمعاني التي يريد للإنسان أن يفهمها ويؤمن بها، لما انطلق الضالّ نحو الضلال بإرادته، ولما تحرك المهتدي نحو الهدى باختياره، وفي ضوء ذلك، فإن علاقة الله بالضلالة والهدى، لا تعطل الإرادة الإنسانية في الاختيار المسؤول، كما أن حركة الإنسان في المسألة لا تبعد الله عن حياة عباده في أقوالهم وأفعالهم على أساس القاعدة العقيدية الواردة، وعن أئمة أهل البيت عليهم السّلام: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين)
15. هناك عهد بين الله وبين عباده بأن يوحّدوه ولا يشركوا به شيئا وأن يطيعوه ولا يعصوه، وأن يستقيموا على خطه وشريعته التي تمثل الاستقامة على خط توحيده، ليرعاهم ويرزقهم ويرحمهم ويمنحهم ثوابه وجنته، وهذا ما نتمثله في:
أ. قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يس: 60 ـ 61]، وقال تعالى: ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ [الأحزاب: 15]، وقال تعالى: ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾ [الأنعام: 152]، وقال: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ [الرعد: 20] فدعا إلى الوفاء بعهده في شمولية الالتزام بخط العبودية المنطلق مع التوحيد في كل خطوات الإنسان وتطلّعاته في الحياة.
ب. ذكر الله تعالى الذين ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 27]، وعن الذين ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ [البقرة: 100]
ج. تحدث الله تعالى عن نفسه أنه الإله الذي لا يفي أحد بعهوده كما يفي بعهده: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 111]، وقال تعالى: ﴿فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ﴾ [البقرة: 80].
د. دعا الله تعالى الناس إلى الوفاء بالعهد بقول مطلق: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]
هـ. تحدث عن الصفات الإيجابية في الناس الذين يرضى عنهم، فقال: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ [البقرة: 177]، وقال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23].
16. هكذا نجد أن الله يريد جعل حركة الإنسان في الحياة، حركة التزام بينه وبين خالقه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين الحياة، ليتحرك الإنسان من موقع الإحساس بالمسؤولية المنفتحة على كل خير في الحياة، ليجد أمامه عهدا من الله بأن يتعهده بكل رحمته ولطفه ورعايته في الدنيا والآخرة، مما يجعل لديه الطمأنينة الروحية والسكينة الحياتية، ويبتعد عن الشعور باللامبالاة، فهو الإنسان الملتزم بأن يقدم طاقاته كلها للناس وللحياة، وأن يخضعها لإرادة الله تعالى الذي سخر الحياة له، وعاهده بأن يحقق له ما يشاء في خط الحكمة، والرعاية الربوبية، في الدنيا والآخرة.
17. حاول المفسرون البحث في تحديد عهد الله:
أ. بين قائل بأنه ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد والعدل وتصديق الرسل.
ب. وقائل بأنه وصية الله إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته ونهاهم عن معصيته.
ج. وقد يتجه بعضهم إلى تحديد موضوع الآية بأهل الكتاب ليكون المراد بعهد الله ما أخذه عليهم في التوراة من اتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. وقد يبتعد بعض بالآية عن ذلك كله، فيعتبره إشارة إلى العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم مثل الذرّ، كما وردت به القصة المعروفة.. وردّه بعضهم بأنه ـ تعالى ـ لا يجوز أن يحتجّ على عباده بعهده لا يذكرونه، ولا يعرفونه، ولا يكون عليه دليل.
18. الأرجح ترك الإفاضة في هذه التفاصيل، لأننا نستوحي من الآية التركيز على الملامح العامة للسلبيات التي ينتجها الفسق في تشوية شخصية الإنسان في الحياة، بعيدا عن التفاصيل، لأن القضية هي قضية الفارق بين نتائج الإيمان ونتائج الكفر في معطياتهما العامّة التي ترسم الصورة من بعيد.
19. ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ الذي يتمثل في إبداع وجودهم بالطريقة التي يتحمل فيها الإنسان مسئولية الخلافة في الأرض، ممّا تحتاجه الحياة في نموّها وحركتها وتطوّرها، بحسب حجمه، الأمر الذي يجعل إفاضة الخلق عليه بهذه الطريقة عهدا تكوينيا أخذه الله عليه، مع وعي الإنسان للحقائق التوحيدية من خلال العناصر الذاتية، وانفتاحه على ما أوحى به الله إليه على لسان رسله من أوامره ونواهيه.
20. ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ في نسيانهم لله، وابتعادهم عن خطه المستقيم الذي يؤدي إلى السير في دروب الفساد، بما يثيرونه في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم من عوامل الفساد في الأرض:
أ. على مستوى الواقع الاقتصادي الذي يفسدون به حركة المال في الإنسان.
ب. والواقع الاجتماعي الذي يتحرك فسادهم فيه، ليؤدي إلى تمزيق المجتمع، وتحلّله الأخلاقي، وانهياره.
ج. والواقع السياسي الذي يسقط تحت تأثير الظلم والعدوان الذي يعيش فيه الناس من خلال هؤلاء الأمن في حياتهم الخاصة والعامة، فتدبّ الفوضى عندهم، ويسود الاضطراب وجودهم.
د. وهكذا ينطلق هؤلاء ليتحولوا إلى جهة مفسدة للحياة كلها، وللإنسان كله.
21. النزعة الإصلاحية التي تعمل على إصلاح ما فسد من حياة الناس، ومحاربة تجدد الفساد وانطلاقه في المجتمع، سواء في ذلك فساد العقيدة أو فساد السلوك والوجدان، وهذا هو سر الإيمان في حياة المؤمنين عندما ينطلق في حياتهم ليقوّي هذه الركائز؛ فهم يحفظون عهده الله في كل التزاماتهم ومواثيقهم في العقيدة والحياة، ويصلون ما أمر الله به أن يوصل في علاقة الإيمان والقرابة والجوار وغيرها، ويصلحون ما فسد في الأرض، ويقفون ضد المفسدين، وبذلك يتحول الإيمان والفسق إلى عنصرين فاعلين في بناء المجتمع أو تهديمه بدلا من أن يكونا عنصرين ذاتيين يحكمان النوازع الفردية للإنسان.
22. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ الذين خسروا أنفسهم في الدنيا، عندما أبعدوها عن خط الاستقامة، فعاشوا التخبط في خطواتهم العملية في السير على غير هدى، وواجهوا المتاعب المتنوعة في ذلك، وخسروا مصيرهم في الآخرة، في عصيانهم لله وتمردهم عليه، مما يستوجب دخولهم في النار وبئس القرار.
23. ربما كان في تأكيد جانب الخسارة الأسلوب الإيحائي، بأن على الإنسان أن يحسب حساب الربح والخسارة، من خلال النتائج الواقعية النهائية للأعمال، لا من خلال النتائج الحسية الأولية لها، ليدرس القضايا التي يتحرك فيها من موقع الربط بين البدايات والنهايات، والانفتاح على العمق، لا على السطح، هذا مع ملاحظة أن التعبير بالخسارة، ينطلق من خسارة الوجود في خسارة الفرص السعيدة التي كان من الممكن أن يبلغها الإنسان إذا أخذ بأسباب الخير في الإيمان والعمل الصالح، فلا يرد السؤال: كيف يتحدث الله عن خسارة ما لا يملكه الإنسان، باعتبار أن مفهومها يعني فقدان ما لديه؟ لأن الجواب عن ذلك بأن المقصود هو أن ما يملكه الإنسان قد يكون على مستوى الفعلية، وقد يكون على مستوى امتلاك الإنسان للفرصة التي يحصل عليها.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/198.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الحياء عارض نفسي يحدث للإنسان لصدور ما يعاب منه أو وقوعه عليه، ويظهر أثره على الوجه، وفعله حَيِيَ أو حيَّ (بالإدغام) والأصل فيه إصابة الحياة، كما يقال حشى إذا أصيب حشاه، ونسى إذا أصيب نساه، وشظى الفرس إذا أصيب شظاه، وهذا لأن القوة الحيوانية تتضاءل في الإنسان إذا وقع منه أو عليه ما يستلزم الحياء.
2. العوارض مستحيلة على الله سبحانه؛ فلذلك لزم تفسيره هنا بلازمه وهو الترك، فإن من شأن المستحيي أن يترك ما يستحيي منه، وفسره ابن جرير بالخشية، وعزا إلى بعض من سبقوه أن الحياة والخشية يتعاقبان بدليل قوله تعالى: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾، أي وتستحي الناس والله أحق أن تستحيه وتفسيره بالامتناع أولى.
3. ذهبت طائفة إلى أنه لا داعي إلى تأويله هنا، نظرا إلى أنه منفي عن الله وليس مثبتا له، ورد بأن المنفي هو استحياء مقيد بضرب البعوضة فما فوقها مثلا، وليس الاستحياء المطلق، على أن هذا التقييد قد يوهم إذا فسر الاستحياء بحقيقة معناه؛ أن الله يستحيي مما عداه، فلذلك دعت الضرورة إلى تأويله، ويؤيده ما جاءت به الأحاديث من وصف الله بالحياء بمعنى الامتناع، ومنه ما أخرجه أحمد، وأبو داوود والنسائي بإسناد حسن عن يعليَ بن أمية أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا)، وأخرجه أحمد، وأبو داوود، والترمذي، وابن ماجه والحاكم من حديث سلمان، ومعنى الاستحياء في الحديث الامتناع من تخييب العبد الداعي.
4. مما يستغرب أن ممن قال بعدم الداعي إلى تأويل الاستحياء في الآية لكونه منفيا من قال في موضع آخر من تفسيره: إن القاعدة أن ينظر إلى إثبات الفعل لمن أسند إليه هل يحمل على الحقيقة أو المجاز؟ فإن كان إثباته من باب المجاز فكذلك نفيه.
5. لفظه (ما) كثيرا ما تلي الاسم النكرة:
أ. لتأكيد تنكيره وإشاعة إبهامه، وهي مزيدة عند ابن هشام لهذا الغرض، وعزاه الزجاج إلى البصريين ووصفها بالزيادة اصطلاحي، وإلا فالمزيد ما أمكن الاستغناء عنه من غير خلل في المعنى، وهي هنا تفيد ظاهرة لا يمكن حصولها بدونها، إذ التنكير وحده لا يسد مسدها.
ب. وذهب آخرون إلى أنها صفة للنكرة لإفادتها مفاد المشتق، وقيل: هي بدل من النكرة وهو (مثلا)، هنا.
ج. وقيل: هي عطف بيان بناء على القول بجوازه بعد النكرة.
د. وذهب ابن جرير وآخرون إلى أنها اسم موصول، واستشكل بأن صلتها منصوبة.
6. الراجح من هذه الأقوال الأول؛ لأن إسميتها مفتقرة إلى دليل ولا دليل، إذ لا تلابس شيئا من علامات الاسم ولا ينطبق عليها حده بل انطباق حد الحرف عليها هو الظاهر فيها، فإنها دالة على مزيد الشيوع والإبهام في غيرها.
7. فسر بعضهم ضرب هنا بجعل على طريق التضمين فعداها إلى مفعولين، وهما مثلا، وبعوضة وجعلهما آخرون بمعنى بين، وعليه فمفعولها واحد وهو بعوضة، و(مثلا) حال منها، وإنما سوغ مجيء الحال من النكرة تقدمه عليها كقوله: لمية موحشا طلل
8. جوز الزمخشري أن تكون استفهامية؛ وذلك أنهم لما استنكروا ضرب الله الأمثال لأصنامهم بالمحقرات قيل لهم: عن الله لا يستحيي أن يمثلها بما يشاء من الأشياء المهنية، دعوا البعوضة فما فوقها، كما يقال: إن فلانا يهب المئين والألوف ما دينار وديناران.
9. ضرب المثل هو صوغه مأخوذ من ضرب الخاتم ونحوه، وقيل هو تطبيقه مأخوذ من ضرب الطين في الجدار، ومنه قولهم ضربة لازب، ولم يكن ضرب الأمثال خاصا بالقرآن من بين الكتب السماوية، فالتوراة والإنجيل والزبور وردت فيها أمثال مختلفة، منها بأشياء مهينة كالنخالة والقملة، كما بينه الواقفون عليها.
10. تفسير المثل الذي ذكرته هو الذي عول عليه جمهور أهل التفسير ولم أجد خلافا في ذلك عن أحد منهم إلا ما ذكره صاحب المنار عن بعضهم ـ ولم يسمه ـ وهو أن المثل في الآية ليس مثلا يقال بل هو مثل يحتذى أي القدوة الذي يؤتم به ويهتدى بهديه، وعليه فالمراد بقولهم (بهذا) رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك أنهم استنكروا أن يرسله الله من بينهم إليهم وإلى الناس، لعدم تميزه عنهم بكونه من جنس آخر غير جنس البشر، كما يستفاد من قولهم فيما حكى الله عنهم: أأنزل عليه الذكر من بيننا)، وقولهم: لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا)، وقد أيد صاحب المنار هذا التفسير للمثل بوروده بهذا المعنى في القرآن، في قوله تعالى: فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين)، وقوله: ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون)، وقوله: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل)، فمن هذه الآيات انتزع الشاهد بصحة تفسير المثل بالذي ذهب إليه، وحمل هذه الآية على دحض شبهة الذين أنكروا نبوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وصلاحيته لأن يكون مثلا يقتدى به، وهي أنه بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ـ وهم مشركو العرب ـ والذين أنكروا أن يكون نبيا مع كونه عربيا ـ وهم اليهود ـ.. وقد أقام الله عليهم الحجة بقوله: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)، وأتبعه بوعيد من أعرض عن الإيمان بعد قيام البرهان ـ وهم الكافرون ـ وبشارة الذين آمنوا وعملوا الصالحات ـ وهم المؤمنون ـ وبعد أن قرر عليهم حجته ـ وهي تحديهم بسورة من مثله ـ كر على شبهتهم بالنقض وهي استبعاد أن يكون بشرا رسولا من عنده.
11. البعوضة واحدة البعوض وهو معروف عند أهل عُمان باسمه العربي فلا يحتاج إلى تفسير، وذكر ابن عاشور أنه يعرف في لغة هذيل بالخموش، وأن أهل تونس يسمونه الناموس واحدته ناموسه، وهذه التسمية معروفة الآن في كثير من البلاد العربية، وهو مأخوذ من بعض اللحم بمعنى قطعة.
12. يحتمل قوله ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ وجهين:
أ. أولهما: الفوقية في الوصف الذي ضرب به المثل؛ وهو الحقارة والمهانة، وذلك كما لو وصف أحد غيره ممن يعرف بسقوط القدر وخمول الهمة ورداءة الطبع بالصفات الدالة على المهانة، فقال له آخر ممن خبر أحوال الموصوف وأحاط بدناياه هو فوق ذلك، أي هو أبلغ مما وصفت في الضعة والانحدار، وبناء عليه فالمعنى أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا بالبعوضة فما هو أحقر منها؛ كجناحها الذي أخبر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الدنيا لا تسواه عند الله فجعله مثلا لها، وكالميكروبات التي لا تتسلط عليها العين إلا إن استعانت بأشعة المجهر، وهذا الوجه هو الذي اعتمده الفخر في مفاتيح الغيب والقطب في الهيميان ونسباه إلى المحققين.
ب. ثانيهما: أن يكون المراد به ما هو أكبر منها حجما وأعظم منها قوة؛ كالحشرات التي تفوقها في ذلك، وهذا هو الذي عول عليه ابن جرير في تفسيره وبالغ في تضعيف الوجه الأول.
13. مثل الآية في جواز الوجهين حديث عائشة عند مسلم: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت بها عنه خطيئة)، فيجوز أن يراد بالفوق فيه مجاوزتها في القلة كنخبة النملة أو في الكثرة كالسقوط من السقف ولدغة الأفعى، ومن غريب التفسير قول الربيع بن أنس الذي رواه عنه ابن جرير؛ وهو أن الله ضرب البعوضة مثلا للدنيا فإنها تحيا إذا ما جاعت فإذا سمنت ماتت، وهكذا شأن الذين يغترون بالدنيا فيركنون إليها إذا ما امتلأوا أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ثم تلا: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾، وهو أقرب إلى الوعظ والتذكير منه إلى تفهيم معاني التنزيل.
14. هذا وإذا كانت سنة الله في كلامه أن يضرب الأمثال لعباده؛ فإن الناس يختلفون في تلقي هذه الأمثال باختلاف استعدادهم الذهني وصفائهم الفطري:
أ. فالذين اتقدت أذهانهم بوقود الإيمان وصفت فطرهم بعامل اليقين، يتلقون هذه الأمثلة بالوعي التام والإدراك الشامل، فهم العالمون بحقائقها، المدركون لغاياتها كما قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾
ب. بخلاف أولئك الذي أظلمت أفكارهم وتلوثت فطرهم وانسدت أذهانهم، فإنهم لا أثر لهذه الأمثال على نفوسهم، بل يزدادون بها كفرا وضلالا، إذ لا يواجهونها إلا بالعتو والاستكبار، والسخرية والاستخفاف، وقد بين ذلك تعالى في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ فهو تصوير لحال الطائفتين، وموقفهما من ضرب الله المثل.
15. الفاء هنا تفيد الترتيب الذكري لا الوقوعي، لأنها عاطفة للتفصيل على الإجمال، ومن شأن المفصل أن يذكر بعد المجمل وهذا التفصيل بعدما تقدم، لأن الناس بعد سماعهم أن الله لا يستحيي من ضرب الأمثال بأي شيء كان، تستشرف نفوسهم على ما يترتب على ضربها من قبل المخاطبين بها، فكان هذا التفصيل بمثابة الإجابة على تساؤلهم.
16. يستفاد ما ذكرته من التفصيل من أداته الموضوعة له وهي (أما) كما يستفاد منها التأكيد فإنها مقترنة به دائما مع التفصيل وعدمه، فقد يفارقها التفصيل ولكن لا يفارقها التأكيد، كما إذا أردت أن تؤكد اتصاف محمد بالعلم، فقلت أما محمد فعالم؛ فهي هنا خالصة للتأكيد.
17. الحق من حق يحق إذا ثبت، ومنه قوله تعالى: ﴿ كذلك حقت كلمة ربك ﴾، وأصله المطابقة والموافقة، وهو شرعا ما طابق حكم الله من قول أو فعل أو اعتقاد فهو أعم من الصدق، لأن الصدق ينحصر في القول وحده، ويطلق على ذات الله سبحانه، كما في قوله: ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾، لأن معرفة الحق لا تكون إلا به، وحقيقته لا تصدر إلا عنه، ولأنه لا تصدر أفعاله إلا عن حكمة سواء علمها الناس أو جهلوها.
18. علم الذين آمنوا أن هذه الأمثال حق من عند ربهم يعني معرفتهم بأنها مطابقة للواقع والحكمة، وأنها صادرة عن الله سبحانه فهي تزيد إيمانهم قوة، ويقينهم رسوخا، وفي هذا:
أ. تنويه بهم أنهم أصحاب البصائر وأولو العلم، وتيئيس للذين يحاولون غرس بذور الشك في نفوسهم.
ب. ومن ناحية أخرى فإن في ذلك تنبيها على أن عقيدتهم قائمة على العلم، وليست تقليدية كعقائد الكفار التي ليست لها أساس من المعرفة، ولا تنبني إلا على التقليد الأعمى.
19. اختلف في قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ هل هو من مقول الله تعالى، أو من مقول الذين كفروا.. والأول هو الأرجح نظرا إلى قوله من بعد ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ إذ ليس من المعقول أن يقول ذلك الكفار.
20. وعليه فهاتان الجملتان مبنيتان على الجملتين المصدرتين بأما:
أ. لتفسير ما فيهما على طريقة النشر المعكوس، فإن الذين آمنوا هم المهديون، وقد تقدم ذكرهم هناك، وتأخر هنا، والعكس في الذين كفروا.
ب. وقيل: هما جواب للاستفهام في قولهم: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ فكأنهم أجيبوا أن الله سبحانه أراد به ازدياد هداية المؤمنين فيغنموا، وضلال الكافرين فيخسروا، وإنما ذكر المراد ـ وهو الهداية والإضلال ـ بدلا من الإرادة لأنه الغاية منها، ولم ير ابن عاشور جعله جوابا للاستفهام، لأنه ليس استفهاما حقيقيا بل هو انكاري، ولا جواب لاستفهام الانكار اللهم إلا أن يخرج الكلام على الأسلوب الحكيم بأن يحمل الاستفهام على ظاهره، تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا عن الحكمة في ذلك فيكون قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ جوابا عنه.
21. وصف الله المهديين وغيرهم بالكثرة ـ مع أن الصالحين أقل من غيرهم في جميع العصور ـ وهو الذي تقتضيه المشاهدة، ويدل عليه قوله تعال: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾، وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾، لأن كثرتهم معنوية وليست عددية، ولذلك أمر الله بادئ الأمر أن يثبت الواحد منهم للعشرة من أعدائهم، ثم خفف عنهم فأمرهم أن يثبتوا لضعف عددهم أو لأنهم كثيرون في حقيقتهم وإن كانوا قلة بالنسبة لأعدائهم.
22. بناء على رأي من يقول إن هاتين الجملتين من قول الكفار فهما داخلتان في ضمن ما استنكروه، ومعنى ذلك أنهم استنكروا ما في المثل من تفريق الناس إلى طائفتين ونسبة الهداية إلى طائفة والضلالة إلى أخرى.
23. أبعد ابن عطية النجعة حيث أجاز أن يكون ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾ من قول الذين كفروا، و﴿ يهدي به كثيرا ﴾ من قول الله ردا عليه، واستبعد ذلك غيره من المفسرين، وما أحراه بالاستبعاد.
24. معنى كون المثل سببا للهداية والضلال أن أصحاب النفوس الصافية والفطرة السليمة لا يرون فيه ما يعاب ويستنكر فيتلقونه بالقبول ويدركون أبعاده، فإن كانوا على إيمان من قبل ازدادوا فيه رسوخا، وإن لم يكونوا على هدى فإنهم بتأملهم في الغاية المرادة من المثل ينجذبون إلى الهدى فيكونون في عداد المؤمنين فهو على كلا الحالين سبب للهدى بالنظر إلى هذه الطائفة، وأما الذين في قلوبهم مرض فلا يكاد يقرع مسامعهم حتى تستنكره قلوبهم المأفونة، وترفضه عقولهم المريضة، فيزدادون به غيا إلى غيهم، ولذا كان سببا لضلالهم.
25. إسناد الهدى والضلال إلى الله إسناد حقيقي لأنه تعالى الخالق للضلال والهدى، خلافا للمعتزلة، ولذلك اضطروا إلى التأويل فعدوه من باب المجاز العقلي، فمن حيث إن الله تعالى هو ضارب المثل الذي ضل به قوم واهتدى به آخرون كان السبب لضلالهم وهداهم فصح إسناد الفعلين إليه.
26. أصل الفسق الخروج، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، ولذا سميت فويسقة.
27. أطلق في الشرع على الخروج عن أمر الله بارتكاب ما حظر أو ترك ما فرض، سواء كان خروجا يؤدي إلى الانسلاخ من الملة أم لا، وهذا الذي تدل عليه الآيات القرآنية نحو قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾، فإن تكذيبهم بعذاب الله المدلول عليه بالنصوص القاطعة مخرج لهم عن ملة الإسلام، ومثله ما في هذه الآية بدليل أنها سيقت لوصف الذين يكفرون بما يضربه الله من الأمثال، وقد واطأ الفسق النفاق في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وجاء مقابلا للإيمان في قوله سبحانه: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾، وقوله: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾
28. خصته المعتزلة بما دون الشرك من الكبائر، وهو اصطلاح خاص بهم كالمنزلة بين المنزلتين، وهي منزلة الفسق بين الإيمان والكفر، لأنهم لا يقولون بكفر النعمة، وأول من حدَّ له هذا الحد منهم إمامهم وَاصل ابن عطاء حسبما ذكر الزمخشري، ولا مشاحة في الاصطلاح غير أنه لا ينبغي أن يقصر مفهوم لفظ عما أطلقه فيه القرآن.
29. النقض حل ما أبرم بطريقة معاكسة للإبرام، وأصله في المحسوس كنقض الحبل لفسخ فتلة، ونقض الجدار لهدم بنائه، واستعمل في الأمور المعقولة كنقض العهود للجامع بين المحسوس والمعقول كالحبل والعهد فإن كلا منهما موصل بين طرفين.
30. في استعارة النقض لترك العهد وعدم الاكتراث بميثاقه كما في هذه الآية الكريمة إيماء إلى أن الحبل يستعار للعهد كما في قول مالك بن التيهان لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بيعة العقبة الثانية: إن بيننا وبين القوم حبالا وإنا لقاطعوها)، فإن مراده بالحبال ما كان بينهم وبين غيرهم من العهود السابقة في الجاهلية، وبهذا تدرك أن الاستعارة هنا مرموز بها إلى استعارة مطوية لم تذكر في الكلام؛ ولكن يقتضيها المعنى.
31. العهد يطلق على الإدراك، كعهدت فلانا بمعنى أدركته، ويطلق على الوصية كعهد إليه بكذا بمعنى وصاه، ويطلق على معان فيها ملاحظة التوثيق والربط، واختلف في المراد بعهد الله في هذه الآية:
أ. قيل هو عهد فطري، وهو ما أودعه الله في فطرة كل إنسان من معرفة أن لهذا الكون مكونا، وقاهرا يدبره، وأن الإنسان مفتقرا إلى الصلة بهذا الكون من طريق العبادة والطاعة والإذعان، فإذا ما عكس هذه الفطرة فهو ناقض لعهده تعالى.
ب. وقيل: هو ما أخذه الله على الأمم من طريق أنبيائهم من عهد الإيمان بالنبي الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
ج. وقيل: هو العهد المأخوذ على أهل الكتاب بأن يبينوا الحق ولا يكتموه؛ وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾، وعلى ذلك فالمقصودون اليهود الذين كانوا يشككون الناس في القرآن، وفي نبوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بما كانوا يلقونه من الشبه ويلفقونه من الأكاذيب.
د. وقيل: العهود ثلاثة؛ عهد خاص بالنبيين، وعهد خاص بالعلماء، وعهد لجميع الناس:
• فالأول هو المراد بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾
• والثاني هو المعني بقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾
• والثالث ما دل عليه قوله: ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست ربكم قالوا بلى ﴾
هـ. وقيل: المراد في الآية هو هذا العهد البشري العام الذي أخذه الله على جميع بني آدم.
32. لصاحب المنار في معنى العهد كلام خلاصته أن العهد قسمان:
أ. القسم الأول من العهد الإلهي وهو العام الشامل: وذكر هنا مجملا لم يسبقه ولم يتله ما يبينه، لأن الواقع هو الذي يكشف عن المراد به، وفي ذلك غنى عن التفصيل القولي، ويرشد إلى فهم العهد الإلهي هنا معنى الفسوق المتقدم بيانه، فإن الفاسقين هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه(2).، فعهد الله تعالى هو ما أخذهم به بمنحهم مما يفهمون به هذه السنن المعهودة للناس للنظر والاعتبار، والتجربة والاختبار، أو العقل والحواس المرشدة إليها وهي عامة والحجة بها قائمة، على كل من وهب نعمة العقل وبلغ سن الرشد سليم الحواس، ونقضه عبارة عن عدم استعمال تلك المواهب استعمالا صحيحا حتى كأنهم فقدوها وخرجوا من حكمها كما قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وكما قال فيهم أيضا: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾، هذا هو القسم الأول من العهد الإلهي وهو العام الشامل.
ب. والأساس للقسم الثاني الذي هو الدين، فالعهد فطري خلقي وديني شرعي، فالمشركون نقضوا الأول وأهل الكتاب الذين لم يقوموا بحقه نقضوا الأول والثاني جميعا، ومن هذا النقض إنكارهم ضرب المثل.
33. هذا رأي صاحب المنار في العهد ونقضه وهو صادر عن فرط تقديره لمواهب الإنسان كالعقل والوجدان، ومأخذه قوي غير أني لا أجد داعيا إلى التفرقة بين العهد الفطري والعهد الديني:
أ. فالدين ما هو إلا توجيه إلهي لهذه الفطرة، ولذلك يأتلف معها ولا يختلف، وصدق الله ﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ﴾
ب. ومهما يكن فإن الدين هو الصلة بين الخلق وربهم، والعقل البشري لا يُصدر عنه في الأحكام التعبدية وإن جاز استلهام بعض الحقائق منه فإن مصدر الأحكام التعبدية ـ وإن جاز استلهام بعض الحقائق منه ـ فإن مصدر الأحكام وحي الله تعالى.
34. الأرجح هو أن المراد بالعهد دين الله سبحانه، وأن نقضه كل مخالفة له، وفي هذا ما يدل على عموم الذين كفروا، وشموله أهل الكتاب وغيرهم ممن كذب برسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وخرج عن دعوته، ولا داعي إلى التفريق بين أهل الكتاب والمشركين باعتبار الأولين ناقضين لعهدين والآخرين لعهد واحد، فإن حجة الله بما أبدع وما شرع قائمة على كلا الفريقين.
35. مع ذلك فإن أهل الكتاب أولى بالحفاظ على هذا العهد لتأكده عليهم بتكراره على ألسنة رسلهم، وقد حكى الله ذلك في قوله: ﴿ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله ﴾، وقوله بعدها: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾، وغيرها من الآيات الدالة على أن بني إسرائيل كانوا أثقل حملا وأعظم مسئولية لتكرر النبوات فيهم، وتعدد المواثيق عليهم.
36. الميثاق إما مصدر كالميعاد والميلاد، وإما اسم مصدر بمعنى الوثق أو الإيثاق أو التوثيق، والمؤدي واحد، ويراد به توثيق عهد الله الذي جاءهم على ألسنة رسله بما أيد به الرسل من المعجزات، ويصح أن يكون ما بثه الله تعالى في هذا الكون من آياته الباهرة داخلا في هذا التوثيق لدلالته على وحدانية الله، وقدرته وإحسانه.
37. الأمر هنا واحد الأوامر لا الأمر، وهو طلب فعل من غيره تعالى، واشتراط بعضهم علو الطالب، وآخرون استعلاءه ولم يشترط ذلك آخرون.
38. يخرج بقيد كون الطلب من غير الله الدعاء فإنه وإن اتفق مع الأمر في صيغة الطلب فلا يجوز أن يسمى أمرا، لتعذر أن يكون المخلوق آمرا للخالق تعالى.
39. يطلق الأمر على واحد الأمور لأنها لا تكون إلا لداع وهو شبيه بالآمر، فلذ أطلق عليه المصدر من هذا اللفظ وهو من باب إطلاق المصدر على المفعول فإنه مأمور به، ومثله الشأن لأنه مأخوذ من شأنت شأنه بمعنى قصدت قصده.
40. اختلف في المراد بقوله: ﴿مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾
أ. قيل هو: الأرحام التي قطعوها، ورجحه ابن جرير ورواه عن قتادة وقال به جماعة من العلماء، واستدلوا له بقوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾، وعليه فالمراد قطعهم صلة رحمهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإيذائه وإلجائه إلى الهجرة، وهو مبني على أن المعنيين هم كفار قريش الذين لم يرعوا قرابته صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو قطع اليهود لأرحامهم كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ﴾، أو قطع المنافقين لأولي القربى منهم من المؤمنين إذ لم يبالوا بالدس عليهم والمكر بهم، أو أن المراد ما يشمل كل ذلك.
ب. وقيل هو التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه إذ آمنوا ببعض وكفروا ببعض، واستدل له بقوله تعالى فيهم: ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾، وعليه فهو خاص باليهود.
ج. وقيل: هو القول والعمل أمروا بوصلهما فقالوا ولم يعملوا، وعليه فهو خاص بالمنافقين.
41. ذهب السيد محمد رشيد رضا إلى أن الأمر هنا شامل لأمر التكوين وهو ما عليه الخلق من النظام والسنن المحكمة، لأن الله سمى التكوين أمرا حيث عبر عنه بـ (كن) في قوله: ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول كن فيكون ﴾، وأمر التشريع وهو ما أوحاه إلى أنبيائه وأمر الناس بالأخذ به، ومن النوع الأول ترتيب النتائج على المقدمات، ووصل الأدلة بالمدلولات، وإفضاء الأسباب إلى المسببات ومعرفة المنافع والمضار بالغايات.. فمن أنكر نبوة النبي بعد ما قام الدليل على صدقه أو أنكر سلطان الله على عباده بعد ما شهدت له آثاره في خلقه، فقد قطع ما أمر الله به أن يوصل بمقتضى التكوين الفطري، وكذلك من أنكر شيئا مما علم أنه جاء به الرسول لأنه إن كان من الأصول الاعتقادية ففيه القطع بين الدليل والمدلول، وإن كان من الأحكام العملية ففيه القطع بين المبادئ والغايات لأن ما أمر به الدين قطعا فهو نافع، ومنفعته تثبتها التجربة والدليل، وكل ما نهى عنه حتما فلابد أن تكون المضرة عاقبته فالذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه هم الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل بغايته، أما بالنسبة إلى الإيمان بالله تعالى وبالنبوة فيقطعون ما أمر الله به في كتبه أمر تشريع وتكليف، وصلة الأرحام تدخل في كلا القسمين.
42. ذهب قطب الأئمة في التيسير إلى أن المقصود به هو الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأنبياء وعدم التفرقة بين رسول وآخر، وكتاب وآخر، وأداء حق الرحم والمؤمنين، والجهاد وسائر الدين، قال: وما ذكر من العموم أولى من تفسير ﴿مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ﴾ بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإطلاق (ما) عليه، ومن تفسيره بالقرآن أو الرحم ومن تفسيره بوصل القول بالعمل، ومن تفسيره بالأنبياء)، وقال في الهيميان بعد حكايته الخلاف: والذي عندي أن المعنى أنهم يتركون ما أمر الله به أن يترك فيدخل فيه الإيمان بالأنبياء كلهم، والكتب، وصلة الرحم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وقراءة القرآن، ونحو ذلك من أحكام الدين، ووصل كل شيء من ذلك هو فعله، وقطعه هو تركه، وأما فعل المحرمات فداخل في قوله: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾، فالوصلة بين المكلف والنهي عن المحرمات أن يتبع النهي فيترك المحرمات، فإذا طرح النهي وراء ظهره واقتحم المحرمات فقد قطعه)
43. التماس الترجيح في ذلك إنما يكون بالرجوع إلى طبيعة الإنسان والتأمل في علاقاته مع بني جنسه وغيرهم، فحياته حياة اجتماعية بحيث لا يمكن لأي فرد من أفراد نوعه أن يستقل في حياته بمنافعه ومصالحه، وبهذا يتضح أن ما أمر الله به أن يوصل يراد به كل علاقة بين شخص وآخر، أو بين فرد ومجموعة، فالعلاقات البشرية يجب أن تكون قائمة على أسس تعاليم الله عز وجل، ومراعاة هذه التعاليم هو وصل لها، والانحراف عنها هو قطع لها، فتدخل في ذلك العلاقات بين الأصول والفروع، وهي صلات الآباء والأمهات من جهة بالأبناء والبنات من جهة أخرى، وما لكل من الجهتين من حقوق على غيرها، والعلاقات التي تكون بين شركاء الحياة وهم الأزواج والزوجات، وعلاقات الفروع الباسقة من دوحة واحدة، وهم الإخوة والأخوات، وعلاقات الجنس البشري، وعلاقة الإنسان بسائر الكائنات، فهي جميعا يجب وصلها حسب تعاليم الله سبحانه التي أنزلها في كتبه أو لقنها رسله فتلقيت عنهم، ويدل على شمول ذلك كله التعبير بـ (ما) التي هي من صيغ العموم.
44. اختلف في المراد بالإفساد في الأرض:
أ. ذهب فريق إلى أنه قطعهم الطرق على المهاجرين إلى الله ورسوله.
ب. وذهب آخرون إلى أنه مطلق ارتكاب المعاصي لأنها أعظم أسباب الفساد في الأرض، وأمحق لخيراتها، وأسحق لبركاتها: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾، فالمعصية لا تلبث أن تحول المنافع إلى مضار والمصالح إلى مفاسد خصوصا عندما تتفشى في أوساط الناس ولا تجد لها مقاوما، فلا تقف آثارها عند الراكبين لها بل تشمل الساكتين عنها، فيعم الجميع سخط الله المؤدي إلى هوان الدنيا وعذاب الآخرة والعياذ بالله، أولم تسمعوا إلى قوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾
45. من أخطر المعاصي على الناس، وأعمها ضررا وأشدها بلاء هجران الأمة لكتاب ربها الذي ينير لها البصائر، ويوضح لها المسالك، ويقف بها على أسباب الخير، ويبين لها أسباب الشر، فإن هذا الإعراض عنه واستبدال تعاليم الطاغوت بتعاليمه، وأحكامه بأحكامه هو أقطع المدى لأوصال الأمة، وأخطر الأسباب المؤدية بها إلى المهانة والذلة، وهذا الذي وقع فيه المسلمون عندما هجروا القرآن وصدقت عليهم شكوى الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام: ﴿يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾، فما أحراهم بالخسران إلا إذا ارعووا عن غيهم وثابوا إلى رشدهم، وأنابوا إلى ربهم، وحطموا أغلال الجاهلية وقيودها فصاروا بدينهم أحرارا أعزة، أسأل الله أن يكون ذلك قريبا.
46. قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ بيان لعاقبة فسقهم ونقضهم العهد وقطعهم ما أمر الله بوصله وإفسادهم في الأرض، فإن مآل أمرهم خسران الدنيا والآخرة، ﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ أما خسران الآخرة فبينَّ، كيف وهم المحرومون من رضوان الله سبحانه ورحمته في جنة عرضها السموات والأرض، وليس لهم في الآخرة إلا النار؟
47. ما أعظم خسارة من لم تسعه جنة عرضها السموات والأرض وكان قراره في عذاب لا ينتهي في نار حامية ليست لأحد طاقة بعذابها، واما في الدنيا فإنهم لا يبارحهم فيها القلق ولا يفارقهم الاضطراب، فلا يذوقون فيها طعم الطمأنينة ولا يعرفون راحة الاستقرار بخلاف المؤمنين المتقين المطمئنة قلوبهم بذكر الله: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
__________
(1) تفسير الخليلي: 2/401.
(2) وقد سبق أن الفسوق ـ على رأي صاحب المنار ـ هو الخروج عن سنن الله تعالى في خلقه التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر، وعن هداية الدين بالنسبة إلى الذين أوتوه خاصة.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. المثال يجب أن ينسجم مع المقصود، بعبارة أخرى، المثال وسيلة لتجسيد الحقيقة حين يقصد المتحدث بيان ضعف المدّعي وتحقيره فإنّ بلاغة الحديث تستوجب انتخاب موجود ضعيف للتمثيل به، كيما يتضح ضعف أولئك.
2. في سورة الحج مثلا يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾، يلاحظ في هذا المثال أن الذباب وأمثاله أحسن وسيلة لتجسيد ضعف هؤلاء.
3. وهكذا في سورة العنكبوت، حين يريد القرآن أن يجسد ضعف المشركين في انتخابهم أولياء من دون الله، يشبههم بالعنكبوت التي تتخذ لنفسها بيتا، وهو أضعف البيوت وأوهنها: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ﴾ ﴿الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ .
4. من المؤكد أن القرآن لو ساق الأمثلة في هذه المجالات على الكواكب والسماوات لما أدّى الغرض في التصغير والتحقير، ولما كانت أمثلته متناسبة مع أصول الفصاحة والبلاغة، فكأن الله تعالى يريد بهذه الامثلة القول: بأنه لا مانع من التمثيل بالبعوضة أو غيرها لتجسيد الحقائق العقلية في ثياب حسّيّة وتقديمها للناس.
5. الهدف هو إيصال الفكرة، والأمثلة يجب أن تتناسب مع موضوع الفكرة، ولذلك فهو سبحانه يضرب الأمثلة بالبعوضة فما فوقها.
6. الأمثلة المناسبة لها دور حساس وعظيم في التوضيح والإقناع والإفهام.. فالمثال المناسب قد يقرّب طريق الفهم إلى الأذهان بحيث نستعيض به عن الاقتحام في الاستدلالات الفلسفية المعقدة.
7. وأهم من ذلك، نحن لا نستطيع أن نستغني عن الأمثلة المناسبة في تعميم ونشر الموضوعات العلمية الصعبة بين عامة النّاس.. ولا يمكننا أن ننكر دور المثال في إسكات الأفراد المعاندين اللجوجين المتعنّتين.
8. تشبيه (المعقول) ب (المحسوس) أحد الطرق المؤثرة في تفهيم المسائل العقلية، على أن يكون المثال ـ كما قلنا ـ مناسبا، وإلّا فهو مضلّ وخطر.
9. من هنا نجد في القرآن أمثلة كثيرة رائعة شيقة مؤثّرة، ذلك لأنه كتاب لجميع البشر على اختلاف عصورهم ومستوياتهم الفكرية، إنه كتاب في غاية الفصاحة والبلاغة.
10. المقصود من ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ للمفسرين رأيان:
أ. الأوّل: فوقها) في الصغر، لأن المقام مقام بيان صغر المثال، وهذا مستعمل في الحوار اليومي، نسمع مثلا رجل يقول لآخر: ألا تستحي أن تبذل كل هذا الجهد من أجل دينار واحد!؟ فيجيب الآخر: لا، بل أكثر من ذلك أنا مستعد لأبذل هذا الجهد من أجل نصف دينار! فالزيادة هنا في الصغر.. وهذا الرأي يبدو أنسب.
ب. الثّاني: فوقها) في الكبر. أي إن الله يضرب الأمثال بالصغير وبالكبير، حسب مقتضى الحال.
11. المعاندون اتخذوا من صغر البعوضة والذبابة ذريعة للاستهزاء بالأمثلة القرآنية، لكنّهم لو أنصفوا وأمعنوا النظر في هذا الجسم الصغير، لرأوا فيه من عجائب الخلقة وعظيم الصنع والدّقة ما يحيّر العقول والألباب.. يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير: إنّما ضرب الله المثل بالبعوضة لأنّ البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله سبحانه أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطف (لطيف) خلقه وعجيب صنعته)
12. يريد الله سبحانه بهذا المثال أن يبين للمؤمنين دقّة الصنع في الخلق، التفكير في هذا الموجود الضعيف على الظاهر، والشبيه بالفيل في الواقع، يبيّن للإنسان عظمة الخالق.. خرطوم هذا الحيوان الصغير يشبه خرطوم الفيل، أجوف، ذو فتحة دقيقة جدا، وله قوّة ماصة تسحب الدم.. منح الله هذا الحيوان قوة هضم وتمثيل ودفع، كما منحه أطرافا وأذنا وأجنحة تتناسب تماما مع وضع معيشته. هذه الحشرة تتمتع بحساسية تشعر فيها بالخطر بسرعة فائقة وتفرّ عندما يداهمها عدوّ بمهارة عجيبة، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات.
13. أمير المؤمنين علي عليه السّلام يقول في هذا الصدد: كيف ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها وما كان من مرحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أممها وأكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت كيف السّبيل إلى إيجادها، ولتحيّرت عقولها في علم ذلك وتاهت، وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنّها مقهورة، مقرّة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضّعف عن إفنائها)
14. ثم تقول الآية: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ . فهؤلاء، بإيمانهم وتقواهم، بعيدون عن اللجاجة والعناد والحقد للحقيقة، ويستطيعون أن يروا الحق بجلاء ويدركوا أمثلة الله بوضوح.
15. ظاهر عبارة الآية المذكورة يوحي بأن الهداية والضلال جبريان ومرتبطان بإرادة الله تعالى، بينما العبارة الأخيرة من الآية توضح أن الهداية والضلال مترتبان على أعمال الإنسان نفسه.
16. أعمال الإنسان وتصرفاته لها نتائج وثمار معيّنة، لو كان العمل صالحا فنتيجته مزيد من التوفيق والهداية في السير نحو الله ومزيد من أداء الأعمال الصالحة، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾، وإن جنح الإنسان نحو المنكرات، فان الظلمات تتراكم على قلبه، ويزداد نهما لارتكاب المحرمات، وقد يبلغ به الأمر إلى أن ينكر خالقه، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أساؤوا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وكانُوا بِها يستهزئون ﴾، وقال أيضا: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾، والآية شاهد آخر على ذلك حيث يقول تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ .
17. الإنسان حرّ في انتخاب الطريق في بداية الأمر، وهذه حقيقة يقبلها ضمير كل إنسان، ثم على الإنسان بعد ذلك أن ينتظر النتائج الحتمية لأعماله.
18. الهداية والضلالة ـ في المفهوم القرآني ـ لا يعنيان الإجبار على انتخاب الطريق الصحيح أو الخاطئ، بل إن الهداية ـ المفهومة من الآيات المتعدّدة ـ تعني توفّر سبل السعادة، والإضلال: يعني زوال الأرضية المساعدة للهداية، دون أن يكون هناك إجبار في المسألة.
19. توفّر السبل (الذي نسميه التوفيق)، وزوال هذه السبل (الذي نسميه سلب التوفيق)، هما نتيجة أعمال الإنسان نفسه، فلو منح الله فردا توفيق الهداية، أو سلب من أحد هذا التوفيق، فإنما ذلك نتيجة الأعمال المباشرة لهذا الفرد أو ذاك.
20. يمكن التمثيل لهذه الحقيقة بمثال بسيط: حين يمرّ الإنسان قرب هاوية خطرة، فإنه يتعرّض لخطر الانزلاق والسقوط فيها كلّما اقترب منها أكثر.. كما أن احتمال سقوطه في الهاوية يقلّ كلما ابتعد عنها أكثر، والحالة الاولى هداية والثانية ضلال.
21. إنهم ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ هؤلاء لهم مع الله عهود ومواثيق، مثل عهد التوحيد، وعهد الرّبوبية، وعهد عدم اتّباع الشيطان وهوى النفس، لكنهم نقضوا كل هذه العهود، وتمرّدوا على أوامر الله، واتبعوا أهواءهم وما أراده الشيطان لهم.
22. سؤال وإشكال: يثار سؤال حول العهد المبرم بين الله والإنسان، فالعهد عقد ذو جانبين، وقد يقول قائل: متى أبرمت مع الله عهدا من العهود المذكورة؟ والجواب: لو عرفنا أن الله سبحانه أودع في أعماق النفس الإنسانية شعورا خاصا وقوى خاصة يستطيع بها أن يهتدي إلى الطريق الصحيح، ويتجنب مزالق الشيطان وأهواء النفس، ويستجيب لداعي الله:
أ. هذه القوى الفطرية يعبّر عنها القرآن بالعهد الإلهي، وهو في الحقيقة (عهد تكويني) لا تشريعي أو قانوني، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾!؟.. وواضح أنّ الآية تشير إلى فطرة التوحيد العبودية والميل إلى الاتجاه نحو التكامل في النفس الإنسانية.
ب. الدليل الآخر على هذا الاتجاه في فهم العهد الإلهي ما جاء في أول خطب نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام: حيث قال: فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته).
23. نتيجة هذا العهد هو أن كل موهبة يمنحها الله للإنسان يصحبها عهد طبيعي بين الله والإنسان، موهبة العين يصحبها عهد يفرض على الإنسان أي يرى الحقائق، وموهبة الاذن تنطوي على عهد مدوّن في ذات الخلقة يفرض الاستماع إلى نداء الحق.. وبهذا يكون الإنسان قد نقض العهد متى ما غفل عن استثمار القوى الفطرية المودعة في نفسه، أو استخدم الطاقات الموهبة له في مسير منحرف.
24. الصفة الأخرى لهؤلاء الفاسقين هي أنهم ﴿ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾، وأكثر المفسرين ذهبوا إلى أن القطع المذكور في الآية يعني قطع الرحم، لكن مفهوم الآية ـ في نظرة أعمق ـ أعم من ذلك، وما قطع الرحم إلّا أحد مصاديقها، لأن الآية تتحدث عن قطع الفاسقين لكل ارتباط أمر الله به أن يوصل، بما في ذلك رابطة الرحم، رابطة الصداقة، والروابط الاجتماعية، والرابطة بهداة البشرية إلى الله، والارتباط بالله، ولا دليل على حصر الآية برابطة الرحم.
25. بعض المفسرين ذهبوا إلى أن الآية تشير إلى قطع الارتباط بالأنبياء والمؤمنين، وبعضهم فسّرها بالارتباط بأئمة أهل البيت عليهم السّلام، وواضح أن هذه التفاسير تبيّن جزء من المفهوم الكلي للآية.
26. الآية الكريمة وإن تحدثت عن كل ارتباط أمر الله به أن يوصل، إلّا أن الارتباط الرحمي دون شك أحد مصاديقها البارزة، فقد أعار الإسلام اهتماما بالغا بصلة الرحم وبالتودّد إلى الأهل والأقارب، ونهى بشدّة عن قطع الارتباط بالرحم.. رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصوّر أهمية صلة الرحم بقوله: صلة الرّحم تعمر الدّيار وتزيد في الأعمار، وإن كان أهلها غير أخيار)، والإمام علي بن الحسين السّجاد عليه السّلام يحذّر ولده من صحبة خمس مجموعات، إحداها قطاع الرحم، ويقول: وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه فإنّي وجدته ملعونا في كتاب الله)، ويقول سبحانه: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾
27. السبب في كل هذا التأكيد الإسلامي على الرحم هو أن عملية إصلاح المجتمع وتقوية بنيته وصيانة مسيرة تكامله وعظمته في الحقول المادية والمعنوية، تفرض البدء بتقوية اللّبنات الأساسية التي يتكون منها البناء الاجتماعي، وعند استحكام اللّبنات وتقويتها يتم إصلاح المجتمع تلقائيّا.
28. الإسلام مارس هذه العملية على النحو الأكمل في بناء المجتمع الإسلامي القوي الشامخ، وأمر بإصلاح الوحدات الاجتماعية، والكائن الإنساني لا يأبى عادة أن ينصاع إلى مثل هذه الأوامر اللازمة لتقوية ارتباط أفراد الأسرة، لاشتراك هؤلاء الأفراد في الرحم والدم.
29. واضح أن المجتمع يزداد قوة وعظمة كلّما ازداد التماسك والتعاون والتعاضد في الوحدات الاجتماعية الصغيرة المتمثلة بالأسرة، وإلى هذه الحقيقة قد يشير الحديث الشريف: صلة الرحم تعمر الديار).
30. المقصود بالوصل استمرار الروابط التي أقرّها الله سبحانه بينه وبين عباده، أو بين عباده مع بعضهم بشكل طبيعي وفطري.. بعبارة أخرى، إن الله سبحانه أمر بالحفاظ على هذه الروابط الفطرية والطبيعية وبصيانتها، لكنّ المذنبين يقطعونها.
31. علامة الفاسقين الثالثة هي الفساد: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾، ومن الواضح أن يكون هؤلاء مفسدين، لأنهم نسوا الله وعصوه، وخلت نفوسهم من كل عاطفة إنسانية حتى تجاه أرحامهم، هؤلاء لا يتحركون إلّا على خط مصالحهم وأهدافهم الذاتية الدنيّة، ولا يهمّهم على هذا الطريق أن يعيثوا في الأرض فسادا، ويرتكبوا كل لون من الانحراف.
32. تؤكد الآية في الخاتمة أن ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾، وأي خسران أكبر من تبديد كل القوى المادية والمعنوية المودعة في الإنسان الرّامية لإسعاده، وإهدارها على طريق الشقاوة والتعاسة والانحراف!؟ نعم، هؤلاء الفاسقون الذين خرجوا عن خط إطاعة الله ليس لهم مصير سوى الخسران.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/135.
10. قدرة الله والبعث والتدبير
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈10⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 28 ـ 29]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
ابن مسعود:
روي عن عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ لم تكونوا شيئا، فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ هي مثل الآية التي في أول المؤمن: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١](2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٤٣.
(2) سفيان الثوري: ص٤٣.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ في أصلاب آبائكم، لم تكونوا شيئا، حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم، قال وهي مثل قوله: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١](1).
2. روي أنّه قال: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١]: كنتم ترابا قبل أن يخلقكم؛ فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم؛ فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور؛ فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة؛ فهذه حياة؛ فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾، يعني: صعد أمره إلى السماء(3).
4. روي أنه قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم ـ مثل: خاسر، ومسرف، وظالم، وفاسق ـ فإنما يعني به: الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به: الذنب(4).
5. روي أنّه قال: إن الله كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا، فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسماه سماء، ثم أيبس الماء، فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها، فجعلها سبع أرضين في يومين؛ في الأحد والاثنين، فخلق الأرض على حوت، وهو الذي ذكره: ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ [القلم: ١]، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكرها لقمان، ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت، فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال، فقرت، فالجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥]، وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها، وشجرها، وما ينبغي لها في يومين؛ في الثلاثاء والأربعاء، وذلك قوله: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ﴾ [فصلت: 9] إلى قوله: ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾ [فصلت: ٩ ـ ١٠]، يقول: أنبت شجرها، ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾ يقول: أقواتها لأهلها، ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ يقول: من سأل فهكذا الأمر، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: ١١]، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها، فجعلها سبع سموات في يومين؛ في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض، ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ [فصلت: ١٢]قال: خلق في كل سماء خلقها؛ من الملائكة، والخلق الذي فيها من البحار، وجبال البرد، ومما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، فذلك حين يقول: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾
6. روي أنّه قال: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾، يعني: خلق سبع سموات، قال أجرى النار على الماء، فبخر البحر، فصعد في الهواء، فجعل السماوات منه(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٤٤ مُقتصِرًا على آخره: وابن أبي حاتم: ١/٧٣.
(2) ابن جرير: ١/٤٤٥.
(3) البيهقي في الأسماء والصفات.
(4) ابن جرير: ١/٤٤٢.
أبو العالية:
روي عن أبي العالية الرّياحيّ (ت 93 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: حين لم يكونوا شيئا، ثم أحياهم حين خلقهم، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، ثم رجعوا إليه بعد الحياة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ سوى خلقهن(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٤٤.
(2) البخاري: ٦/٢٦٩٨.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: لم تكونوا شيئا حتى خلقكم، ثم يميتكم الموتة الحق، ثم يحييكم، وقوله: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: ١١] مثلها(1).
2. روي أنّه قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ سخر لكم ما في الأرض جميعا(2).
3. روي أنّه قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾، قال خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٤٤.
(2) الدرّ المنثور: عبد الرزاق: وعبد بن حميد: وابن جرير: وابن أبي حاتم: وأبي الشيخ.
(3) عبد الرزاق: ١/٤٢.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله فأخرجهم، ثم أماتهم الموتة التي لابد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة؛ فهما حياتان وموتتان(1).
2. روي أنّه قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ سخر لكم ما في الأرض جميعا؛ كرامة من الله، ونعمة لابن آدم؛ متاعا وبلغة ومنفعة إلى أجل(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٤٦، وابن أبي حاتم: ١/٧٣.
(2) ابن جرير: ١/٤٥٤.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) أنّه قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ من شيء، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ فبدأ بخلقهن وخلق الأرض(1).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٩٦.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أنّه قال: كان أول ما خلق الله تبارك وتعالى النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا، ثم سمك السماوات السبع من دخان، يقال ـ والله أعلم ـ: من دخان الماء، حتى استقللن، ولم يحبكن، وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها، وأخرج ضحاها، فجرى فيها الليل والنهار، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم، ثم دحى الأرض فأرساها بالجبال، وقدر فيها الأقوات، وبث فيها ما أراد من الخلق، ففرغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام، ثم استوى إلى السماء وهي دخان ـ كما قال ـ فحبكهن، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها، وأوحى في كل سماء أمرها، فأكمل خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى في اليوم السابع فوق سماواته، ثم قال للسماوات والأرض: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [فصلت: ١١] لما أردت بكما، فاطمئنا عليه طوعا أو كرها، ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٦٠.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ يحتمل وجوها:
أ. من أين ظهرت لكم الحجة أن تعبدوا من دون الله من الأصنام وغيرها أنه حق، ولم يظهر لكم منها الإنشاء بعد الموت، ولا الإماتة بعد الإحياء؟
ب. وقيل: كيف تكفرون بالبعث بعد الموت ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ يعنى نطفا ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾، وأنتم لا تنكرون إنشاء الأول فكيف تنكرون البعث والإحياء بعد الموت؟
ج. وقيل: كيف تكفرون بالإحياء والبعث بعد الموت، وفى العقل أن خلق الخلق للإفناء والإماتة من غير قصد العاقبة عبث ولعب؛ لأن كل بان بنى للنقض فهو عابث، وكذلك كل ساع فيما لا عاقبة له فهو عابث هازل، فكيف تجعلون فعله عزّ وجل؛ إذ لو لم يجعل للخلق دارا للجزاء، والعقاب كان في خلقه إياهم عابثا هازلا خارجا من الحكمة!؟ تعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
2. في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ قولان:
أ. أحدهما: أنه خارج مخرج التوبيخ.
ب. والثاني: أنه خارج مخرج التعجب، وتقديره: اعجبوا لهم، كيف يكفرون!
3. اختلف في معنى قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ :
أ. أي تعلمون أنكم ترجعون إليه، وكذلك المصير والمآب.
ب. ترجعون إلى ما أعدّ لكم من العذاب، احتج عليهم بما أخبرهم الله أنه أنشأهم بعد الموتة الأولى، وأنه يبعثهم بعد الموتة الأخرى ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ كأنه يقول: ثم اعلموا أنكم إليه ترجعون.
4. قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾:
أ. قيل: إنه صلة قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾، أي كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأرض ما يدلكم على وحدانيته؛ لأنه ليس شيء من الأرض إلا وفيه دلالة وحدانيته.
ب. ويحتمل: كيف تكفرون بالذي خلق لكم ما في الأرض نعيما من غير أن كان وجب لكم عليه حق من ذلك لتشكروا له عليها، فكيف وجّهتم أنتم الشكر فيها إلى غيره؟
ج. ويحتمل ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ محنة يمتحنكم بها في الدنيا؛ كقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2] ثم لتجزون في دار أخرى فكيف أنكرتم البعث!؟
5. في بيان حكمة خلق الخلق في الدنيا للفناء، والإحياء للآخرة ـ حكمة، وفى إنكارها ذهاب الحكمة.
6. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ قيل فيه بوجوه:
أ. قيل: استوى إلى الدخان؛ كقوله: ﴿اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: 11].
ب. وقيل: استوى: تمّ؛ كقوله: ﴿بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ [الأحقاف: 15] أي تمّ.
ج. وقيل: استوى: أي استولى.
7. الأصل عندنا في قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [فصلت: 11] و ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: 54]، وغيرها من الآيات من قوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر: 22]، وقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ الآية [البقرة: 210] من الآيات التي ظنت المشبّهة أن فيها تحقيق وصف الله تعالى بما يستحق كثير من الخلق الوصف به على التشابه.
8. في الحقيقة إنها تحتمل وجوها:
أ. أحدها: أن نصفه بالذي جاء به التنزيل على ما جاء، ونعلم أنه لا يشبه على ما ذكر من الفعل فيه بغيره؛ لأنك بالجملة تعتقد أن الله ليس كمثله شيء، وأنه لا يجوز أن يكون له مثل في شيء إذ لا يوجد حدثه فيه، أو قدم ذلك الشيء من الوجه الذي أشبه الله، وذلك مدفوع بالعقل والسمع جميعا، مع ما لم يجز أن يقدر الصانع عند الوصف بالفعل كغيره، وأنه حي، قدير، سميع، بصير، نفى ما عليه أمر الخلق لما يصير بذلك أحد الخلائق.. وإذا بطل هذا بطل التشابه وانتفى، ولزم أمر السمع والتنزيل على ما أراد الله، وبالله التوفيق.
ب. الثاني: أن يمكن فيه معان تخرج الكلام مخرج الاختصار والاكتفاء بمواضع إفهام في تلك المواضع على إتمام البيان، وذلك نحو:
• قوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ﴾ [الفجر: 22] أي بالملك.
• وذلك كقوله: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ﴾ [المائدة: 24] أي بربك ﴿فَقَاتِلَا﴾؛ إذ معلوم أنّه يقاتل بربه؛ ففهم منه ذلك.
• وكذلك معلوم أن الملائكة يأتون، فكأنه بين ذلك، يدل عليه قوله: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 27]، وكذلك ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾ الآية [البقرة: 210].. ومما يوضح أنه لم يكن أحد اعتقد أو تصوّر في وهمه النظر لإتيان الربّ ومجيئه، ولا كان بنزوله وعد بنظر، وكان بنزول الملائكة؛ كقوله: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى﴾ الآية [الفرقان: 22]، وقوله: ﴿مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ﴾ [الحجر: 8]، فيما ذكرنا عظيم أمرهم، وجليل شأنهم.
9. في قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] وجهان:
أ. أحدهما: أن يكون معنى العرش الملك والاستواء التام الذي لا يوصف بنقصان في ملك، أو الاستيلاء عليه، وألا سلطان لغيره، ولا تدبير لأحد فيه.
ب. والثاني: أن يكون العرش أعلى الخلق وأرفعه.. وكذلك تقدره الأوهام؛ فيكون موصوفا بعلوه على التعالى عن الأمكنة، وأنه على ما كان قبل كون الأمكنة، وهو فوق كل شيء أي بالغلبة، والقدرة، والجلال عن الأمكنة، ولا قوة إلا بالله.
10. أصله: ألا نقدّر فعله بفعل الخلق، ولا وصفه بوصف الخلق؛ لأنه أخبر أنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11].
11. قوله تعالى: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ مرة قال: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ [الطلاق: 12]، ومرة قال: ﴿خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [الملك: 3]، ومرة قال: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ الآية [فصلت: 12]، ومرة قال: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 117]، وكله يرجع إلى واحد.
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/410.
العياني:
قال الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ): معنى قوله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ : اي استوى تدبيره إلى الهوى فسوى، وخلق سبع سماوات وهو بكل شيء عليم(1)..
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 272.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ :
أ. كنتم أمواتاً في أصلاب آبائكم فأحياكم، أي أخرجكم من بطون أمهاتكم.
ب. ويحتمل أن يكون: كنتم خاملي الذكر دارسي الأثر فأحياكم بالظهور والذكر ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة واستشهد لهذا التأويل بقول الشاعر:
فأحييت من ذكري وما كان خاملاً... ولكن بعض الذكر أبين من بعض
2. ( ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾ أي استوى أمره وصنعه الذي صنع به الأشياء ﴿إِلَى السَّمَاءِ﴾ وخلقها.
ويحتمل أن يكون الاستواء بمعنى الاستيلاء والعلو والرفعة، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق... من غير سيف ودم مهراق
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/37.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ ستة تأويلات:
أ. أحدها: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ أي لم تكونوا شيئا، ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ أي خلقكم، ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاء آجالكم، ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ يوم القيامة، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
ب. الثاني: أن قوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ يعني في القبور ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ للمساءلة، ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ في قبوركم بعد مساءلتكم، ثم يحييكم عند نفخ الصور للنشور، لأن حقيقة الموت ما كان عن حياة، وهذا قول أبي صالح.
ج. الثالث: أن قوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ يعني في أصلاب آبائكم، ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ أي أخرجكم من بطون أمهاتكم، ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ الموتة التي لا بد منها، ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ للبعث يوم القيامة، وهذا قول قتادة.
د. الرابع: أن قوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ يعني: أن الله عزّ وجل حين أخذ الميثاق على آدم وذريته، أحياهم في صلبه وأكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم بعد أخذ الميثاق عليهم، ثم أحياهم وأخرجهم من بطون أمهاتهم، وهو معنى قوله تعالى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ﴾، [الزمر: 6] فقوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ يعني بعد أخذ الميثاق، ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ بأن خلقكم في بطون أمهاتكم ثم أخرجكم أحياء، ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ بعد أن تنقضي آجالكم في الدنيا، ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ بالنشور للبعث يوم القيامة، وهذا قول ابن زيد.
هـ. الخامس: أن الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة، فهي ميّتة من حين فراقها من جسده إلى أن ينفخ الروح فيها، ثم يحييها بنفخ الروح فيها، فيجعلها بشرا سويّا، ثم يميته الموتة الثانية بقبض الروح منه، فهو ميت إلى يوم ينفخ في الصور، فيرد في جسده روحه، فيعود حيا لبعث القيامة، فذلك موتتان وحياتان.
و. السادس: أن قوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ خاملي الذكر دارسي الأثر، ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ بالظهور والذكر، ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاء آجالكم، ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ للبعث، واستشهد من قال هذا التأويل بقول أبي بجيلة السّعديّ:
وأحييت من ذكري وما كان خاملا... ولكنّ بعض الذّكر أنبه من بعض
2. في قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ تأويلان:
أ. أحدهما: إلى الموضع الذي يتولى الله الحكم بينكم.
ب. والثاني: إلى المجازاة على الأعمال.
3. قوله عزّ وجل: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ فيه ستة أقاويل:
أ. أحدها: أن معنى قوله: ﴿اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ أي أقبل عليها، وهذا قول الفراء.
ب. الثاني: معناه: عمد إليها، وقصد إلى خلقها.
ج. الثالث: أنّ فعل الله تحوّل إلى السماء، وهو قول المفضل.
د. الرابع: معناه: ثم استوى أمره وصنعه الذي صنع به الأشياء إلى السماء، وهذا قول الحسن البصري.
هـ. الخامس: معناه ثم استوت به السماء.
و. السادس: أن الاستواء والارتفاع والعلوّ:
• أحدهما: أنه خالقها ومنشئها.
• الثاني: أنه الدخان، الذي جعله الله للأرض سماء.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/92.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. تلخيص معنى الآية ان الله تعالى هو الذي خلق لكم الأرض وما فيها من الجبال والمياه والأشجار، وما قدر فيها من الأقوات، ثم قضى خلق السماء بعد خلقه الأرض.
2. قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ يدل انه تعالى ما أراد الكفر منهم، لأنه لو اراده منهم وخلقه فيهم لما قال ذلك، كما لا يحسن أن يقول: لم كنتم سوداً وبيضاً وطوالا وقصاراً.
3. معنى ﴿وَكُنْتُمْ﴾ أي وقد كنتم، الواو واو الحال، وإضمار قد جائز إذا كان في الكلام ما يدل عليها، كما قال: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ أي قد حصرت صدورهم وكما قال: ﴿ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ﴾ أي قد قُدّ من دبر، ومن قال هو توبيخ قال هو مثل قوله: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾
4. في قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ تأويلات:
أ. قال قتادة: وكنتم أمواتاً فأحياكم كما كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم يعني نطفاً، فأحياهم الله بأن أخرجهم ثم أماتهم الله الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم بعد الموت، وهما حياتان وموتان.
ب. عن ابن عباس وابن مسعود أن معناه لم تكونوا شيئاً فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة.
ج. روى ابو الأحوص عن عبد الله في قوله: ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ قال: هي كالتي في (البقرة): ﴿ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين.
د. روي عن أبي صالح أنه قال كنتم أمواتاً في القبور فأحياكم فيها، ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة.
هـ. قال قوم: كنتم أمواتاً يعني خاملي الذكر، دارسي الأثر، فأحياكم بالطهور والذكر ثم يميتكم عند تقضي آجالكم ثم يحييكم للبعث قال ابو نخيلة السعدي:
فأحييت من ذكري وما كان خاملا... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
وهذا وجه مليح غير أن الأليق بما تقدم قول ابن عباس وقتادة.
و. قال قوم: معناه أن الله تعالى أحياهم حين أخذ الميثاق منهم وهم في صلب آدم وكساهم العقل ثم أماتهم ثم أحياهم وأخرجهم من بطون أمهاتهم، وهذا الوجه ضعيف في نظائره، لأن الخبر الوارد بذلك ضعيف.
5. الأقوى في معنى الآية أن يكون المراد بذلك تعنيف الكفار واقامة الحجة عليهم بكفره وجحودهم ما أنعم الله تعالى عليهم وانهم كانوا أمواتاً قبل ان يخلقوا في بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم يعني نطفاً والنطفة موات، ثم أحياهم فأخرجهم الى دار الدنيا احياء، ثم يحييهم في القبر للمساءلة، ثم يبعثهم يوم القيامة للحشر والحساب.
6. سؤال وإشكال: لم يذكر الله احياء في القبر فكيف تثبتون عذاب القبر؟ والجواب:
أ. قوله: ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ المراد به احياؤهم في القبر للمساءلة، وقوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ معناه احياؤهم يوم القيامة، وحذف ثم يميتكم بعد ذلك لدلالة الكلام عليه.
ب. على ان قوله: ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ لو كان المراد به يوم القيامة، لم يمنع ذلك من احياء في القبر، واماتة بعده كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ ولم يذكر حياة الذين أحيوا في الدنيا بعد ان ماتوا، وقال في قوم موسى ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ولم يذكر حياتهم في الدنيا، ولم يدل ذلك على أنهم لم يحييوا في الدنيا بعد الموت.
ج. كذلك ايضاً لا تدل هذه الآية على ان المكلفين لا يحيون في قبورهم للثواب والعقاب على ما أخبر به الرسول عليه السلام وقول من قال لم يكونوا شيئاً، ذهب الى قول العرب للشيء الدارس الخامل: إنه ميت يريد خموله ودرسه وفي ضد ذلك يقال: هذا أمر حي يراد به، كأنه متعالم في الناس ومن أراد الاماتة التي هي خروج الروح من الجسد، فإنه أراد بقوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ انه خطاب لأهل القبور بعد احيائهم فيها وهذا بعيد لأن التوبيخ هنالك انما هو توبيخ على ما سلف، وفرط من اجرامهم لا استعتاب واسترداع.
7. قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ توبيخ مستعتب، وتأنيب مسترجع من خلقه من المعاصي الى الطاعة، ومن الضلالة الى الانابة ولا انابة في القبر ولا توبة فيها بعد الوفاة، واحسن الوجوه مما قدمنا ما ذكر ابن عباس وبعده قول قتادة.
8. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ معناه ترجعون للمجازاة على الاعمال كقول القائل: طريقك عليّ ومرجعك الي، يريد اني مجازيك ومقتدر عليك.
9. سمى الحشر رجوعاً الى الله، لأنه رجوع الى حيث لا يتولى الحكم فيه غير الله، فيجازيكم على أعمالكم، كما يقول القائل: امر القوم الى الأمير أو القاضي، ولا يراد به الرجوع من مكان الى مكان، وإنما يراد به ان النظر صار له خاصة دون غيره.
10. معنى قوله: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ هو الذي بينه بقوله: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا﴾ الآية) وجعل ذكره لذلك في الآية الأولى تأكيد الحجة على عباده لئلا يكفروا به، ولأن يؤمنوا به ويشكروه.
11. معنى استوى أي عمد لها وقصد الى خلقها، وسواها سبع سماوات فبناهن وركبهن كذلك ونظير ذلك قوله: ﴿ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾ يعني يومين بعد اليومين الأولين حتى صار بذلك اربعة ايام ثم استوى الى السماء.
12. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ فيه وجوه:
أ. ما قاله الفراء: من ان معناه اقبل عليها، كما يقول القائل: كان فلان مقبلا على فلان يشتمه، ثم استوى الي يشتمني، واستوى عليّ يشاتمني قال الشاعر:
أقول وقد قطعن بنا شروري... ثواني واستوين من الضجوع
بمعنى استقمن عليه.
ب. قال قوم: معنى استوى: قصدها لتسويتها، كقول القائل: قام الخليفة يدبر أمر بني تميم، ثم استوى وتحول الى بني ربيعة، فأعطاهم وقسم لهم اي قصد اليه، ويقال مر فلان مستوياً الى موضع كذا ولم يعدل اى قصد اليها.
ج. وقال قوم: معنى استوى اى استولى على السماء بالقهر كما قال ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ أي تقهروه ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ أي تمكن من أمره وقهر هواه بعقله، فقال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ في تفرده بملكها، ولم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه ومنه قول الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم... تركناهم صرعى لنسر وكاسر
وقال آخر:
ثم استوى بشر على العراق... من غير سيف ودم مهراق
د. قال الحسن: ثم استوى أمره وصنعه الى السماء، لأن أوامره وقضاياه تنزل من السماء الى الأرض وقال بعضهم استوى بمعنى استوت به السماء كما قال الشاعر:
أقول له لما استوى في تراثه... على أي دين قتّل الناس مصعب
13. أحسن هذه الوجوه:
أ. أن يحمل على أنه علا عليها فقهرها، وارتفع فدبرها بقدرته، وخلقهن سبع سماوات، فكان علوه عليها علو ملك وسلطان. لا علو انتقال وزوال.
ب. بعد ذلك قول من قال قصد اليها فخلقها.
ولا يقدح في الأول علوه تعالى على الأشياء فيما لم يزل، لأنه وان كان كذلك لم يكن قاهراً لها بحلقها، لأن ذلك متجدد.
14. إنما قال الى السماء ولا سماء هناك:
أ. كما يقول القائل: اعمل هذا الثوب وإنما معه غزل.
ب. وقال قوم: انما سواهن سبع سماوات بعد ان كانت دخانا.
والاول أملح.
15. قال الرماني: السموات غير الأفلاك، لأن الأفلاك تتحرك وتدور، واما السماوات لا تتحرك ولا تدور لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾، وهذا ليس بصحيح، لأنه لا يمتنع ان تكون السماوات هي الأفلاك وان كانت متحركة، لأن قوله تعالى: ﴿يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ معناه لا تزول عن مراكزها التي تدور عليها، ولولا إمساكه لهوت بما فيها من الإعمالات سفلا.
16. معنى (سواهن) أي هيأهن وخلقهن وقومهن ودبرهن، والتسوية: التقويم والإصلاح، يقال: سوى فلان لفلان هذا الأمر أي قومه وأصلحه.
17. اختلف في السماء:
أ. قال بعضهم: السماء واحدة تدل على الجمع فلذلك قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ فذكرها بلفظ الواحد، ثم اخبر عنها بلفظ الجمع في قوله: فسواهن) وقال الأخفش: السماء اسم جنس يدل على القليل والكثير كقولهم: أهلك الناس الدينار والدرهم.
ب. وقال بعضهم: السماء جمع واحده سماوة: مثل بقرة وبقر، ونخلة ونخل، وثمرة وثمر ولذلك أنثت فقيل هذه سماء، وذكرت أخرى فقيل: ﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾ كما يفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها فيقال: هذا نخل، وهذه نخل وهذا بقر وهذه بقر.
ج. من قال بالأول قال إذا ذكرت فإنما هو على مذهب من يذكر المؤنث، كقول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها... ولا أرض ابقل ابقالها
18. المعنى أن كل ناحية منها كذلك، فجمع على هذا، ولا ينافي ذلك قول من قال إن السماء كانت دخاناً قبل أن يسويها سبع سماوات، ثم سبعاً بغير استوائه عليها، وذلك أنه يقول: كن سبعاً غير مستويات، فسواها الله تعالى.
19. قوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ معناه عالم وفيه مبالغة، وإنما أراد اعلامهم أنه لا يخفى عليه شيء من أفعالهم الظاهرة والباطنة، والسر والعلانية.
20. سؤال وإشكال: أي نسبة بين قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ وبين قوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ وكان يجب ان يقول: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، والجواب: انما جاز ذلك:
أ. لأن الله لما وصف نفسه بما يدل على القدرة والاستيلاء وصل ذلك بما يدل على العلم، إذ بهما يصح وقوع الفعل على وجه الأحكام، والإتقان.
ب. أراد أن يبين انه عالم بما يؤول اليه حاله، وحال المنعم به عليه، فيستحق بذلك النعمة.
21. سؤال وإشكال: قوله ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ ظاهره يوجب أنه خلق الأرض قبل السماء، لأن (ثم) للتعقيب، وللتراخي، وقال في موضع آخر: ﴿ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ﴾، ثم قال ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ هذا ظاهر التناقض، والجواب:
22. المعنى في ذلك خلق الأرض قبل السماء غير أنه لم يدحها، فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك ودحوها: بسطها، ومدها ومنه ادحية لنعام، سميت بذلك، لأنها تبسطها لتبيض فيها.
23. يجوز أن لا يكون معنى (ثم) و(بعد) في هذه الآيات الترتب في الأوقات والتقدم والتأخر فيها، انما هو على جهة تعداد النعم والاذكار لها، كما يقول القائل لصاحبه: أليس قد أعطيتك، ثم حملتك، ثم رفعت في منزلتك، ثم بعد ذلك كله خلطتك بنفسي وفعلت بك وفعلت.
24. ربما يكون بعض الذي ذكره في اللفظ متقدما، كان متأخرا، لأن المراد لم يكن الاخبار عن اوقات الفعل، وإنما المراد الذكر والتنبيه عليها.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/128.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الموت ضد الحياة، وهما يتعاقبان على الجملة، ولا خلاف أن الحياة عَرَضٌ يحيا به الإنسان وسائر الحيوانات، ولا يقدر عليه إلا اللَّه تعالى، فأما الموت فالأكثر على أنه عرض يضاد الحياة؛ ولذلك قال: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ وقيل: ليس بمعنى، عن أبي هاشم.
ب. الرجوع في الشيء: هو العود اليه.
ج. الجمع والضم نظائر، ونقيض الجمع الفرق، ويقال: جمعه جمعًا، وَفَرَقَهُ فرقًا، ومنه الجمعة؛ لاجتماع الناس في ذلك اليوم، وَجَمُعَ موضع بمكة سمي لاجتماع الناس فيه. والاجتماع والافتراق عرضان من جنس الألوان، يدلان على حَدَثِ الجسم.
د. الاستواء والاعتدال والاستقامة نظائر، ونقيضه الاعوجاج، والاستواء في اللغة ينصرف على أربعة أوجه: استوى: استقام، وهو الأصل، واستوى: قصد، واستوى:
هـ. استولى، واستوى: صعد وعلا، أما الأول: فيقال: استوى أمره، أي استقام، ويُقال: دبر أمر العراق، ثم استوى الشام، أي قصد، كأنه مر على الاستقامة، وفي الاستيلاء يقال: استوت له الأمور كأنه استقام له واستوى على سريره، أي علا كأنه استقام عليه، والتسوية: التقويم، وحقيقتها جعل الشيء على الاستواء.
و. السبع للمؤنث، والسبعة للمذكر، وقد جاء التأنيث والتذكير على خلاف الأصل.
ز. عليم: فَعِيل من عَلِمَ، ومعناه عالم، غير أن في (عليم) مبالغة ليست في (عالم).
2. ثم عاد في الاحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث، فقال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ :
أ. قيل: هو توبيخ.
ب. وقيل: تعجيب، تقديره: عجبًا منهم أُدخلوا محل من يتعجب منه أو عُجِّبُوا منهم.
ج. وقيل: فيه معنى التوبيخ والتعجيب بِاللهِ.
3. احتج تعالى حجة بالغة، وَعَدَّ عليهم نعمًا سابغة، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ الخطاب للمكلفين؛ لأنه تعالى خلقهم للعبادة وتعريضًا للثواب، وخلق سائر الحيوانات والجمادات لمنافعهم إما في الدين وإما في الدنيا.
4. جميع ما في الدنيا لهم، وهو نعمة من الله تعالى عليهم فمنه ما فيه منافع الدنيا والدين كالخلق والإحياء، والشهوة والقدرة والعقل ونحوها، ومنه ما ينتفع به في الدنيا كالأطعمة والأغذية والحيوانات، وإن كان إذا نظر فيه وَعَلِمَ أن له صانعًا تحصل له منافع الدين، ومنه ما فيه منفعة دينية كالنعمة والديانات، ومنه ما فيه منفعة من حيث الاعتبار كالسباع والحيات، فإذا كان جميع هذه النعم منه وجب أن نشكره بأقصى ما نقدر عليه
5. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ :
أ. قيل: نطفا فأحياكم في الدنيا، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة، عن قتادة والأصم والأخفش وأبي علي.
ب. وقيل: لم تكونوا شيئًا فخلقكم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة، عن ابن عباس وابن مسعود.
ج. وقيل: يحتمل قوله: ﴿يُحْيِيكُمْ﴾ الحياة في القبر، فتدل على عذاب القبر، عن أبي علي، وتقديره: كنتم نطفا فأحياكم في الدنيا، (ثمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في القبر، (ثُمَّ إِلَيهِ تُرْجَعُونَ) في الحشر.
6. سؤال وإشكال: لِمَ ذكر حياتين، وهي ثلاث؟ والجواب:
أ. لم ينف الثالثة فهي مسكوت عنها.
ب. وقيل: ﴿تُرْجَعُونَ﴾ كناية عن الحياة الثالثة؛ ولذلك عطف بحرف ﴿ثُمَّ﴾
ج. وقيل: لم يذكر حياة القبر لقلتها بالإضافة إلى غيرها في الحياة، كما لم يذكر من أحياه في الدنيا في قوله: ﴿وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ كأنه لم يعتد بها لقلتها.
د. وقيل: لأنه لم يعتد بها؛ لأنها في حكم الحياة الأولى.
هـ. وقيل: لأنه ذكر هذا على سبيل الحجاج، فذكر ما اقتضاه الحجاج دون التطويل من غير فائدة.
و. وقيل: أراد بالموتة الأولى بعد الحياة، وأحياكم في القبر، ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة، عن أبي علي.
7. سؤال وإشكال: كيف عدّ الموت من النعم، وهو يقطع النعم؟ والجواب:
أ. لأنه يقطع التكليف، فيصل المكلف إلى الثواب الدائم، فهو نعمة من هذا الوجه.
ب. وقيل: ذكر الموت لتمام الاحتجاج.
8. سؤال وإشكال: لِمَ قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ على لفظ الواحد، ثم قال: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ على لفظ الجمع؟ والجواب: فيه قولان:
أ. أحدهما: أن معنى السماء معنى الجمع، وإن كان مخرجها مخرج الواحد؛ لأنها اسم للجنس كقولك: أهلك الناسَ الدينارُ والدرهمُ.
ب. والثاني: قيل: هي جمع، واحدها سماوة وسماة، وذكر قطرب ما لفظه لفظ الواحد ومعناه معنى الجمع، نحو قوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾، وقال: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .
9. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ :
أ. قيل: قصد وعمد عن أكثر أهل العلم.. وهو الأوجه؛ لأن عليه أكثر أهل العلم، ولأن ﴿ثُمَّ﴾ تدل على أمر حادث.
ب. عن ابن عباس صعد أمره.
ج. وقيل: ارتفع أمره على جهة علو وملك وسلطان، عن ابن زيد.
10. ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ أي خلق سبع سموات.
11. سؤال وإشكال: متى قيل: هل السماء غير الأفلاك أم هي الأفلاك؟ والجواب: الأفلاك سبع تحت السماء، وفوقها سبع سماوات مقر الملائكة، عن أبي علي وغيره من أهل العلم.
12. سؤال وإشكال: قد قال تعالى في موضع: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ ثم قال في موضع آخر: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ بسطها فكيف يجمع بينهما؟ والجواب: قلنا: إنه تعالى خلق الأرض كشبه كرة، ثم خلق سبع سماوات، ثم دحا الأرض، ومعنى دحاها أي بسطها، عن الحسن وعمرو بن عبيد.
13. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾:
أ. قيل: لما بين قدرته بين كونه عالمًا؛ لأن بمجموعهما يتم خلق الأشياء.
ب. وقيل: لعلمه بكل شيء خلق العالم وما فيه لأغراض عظيمة.
ج. وقيل: خلق لكم منافع الأرض على علم بكم وبهم.
14. تدل الآيات الكريمة على:
أ. يدل قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ على أن الكفر فِعْلهُمُ لذلك ذمهم به ووبخهم عليه.
ب. يدل قوله: ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ على عذاب القبر من الوجه الذي بينا؛ لأنه لو حمل على الحياة في الجنة لم يستقم قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾؛ لأن تلك الحياة يقترن بها الرجوع.
ج. يدل قوله ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ على إثبات المعاد.
د. على أنه تعالى أنعم على الكفار؛ لذلك عد عليهم ما عَدَّ بخلاف قول الْمُجْبِرَة: إنه لا نعمة له على الكفار، ولا يُحْمَلُ على نعم الدنيا؛ لأنه إذا كان خلقه للنار لم يعتد بنعم الدنيا؛ لأنه كالخبيص المسموم، ولأن تلك النعمة تنحط بالإساءة العظيمة.
هـ. على أن الله تعالى قادر على الإحياء الثاني من حيث قَدَرَ على الإحياء الأول.
و. على أن عِظَمَ النعمة يوجب عظم معصية المنعم، لذلك قال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾
ز. على أنه تعالى خلق الأرض لعباده فدل على أنه تعالى يفعل الفعل لغرض مقصود.
ح. أن له على الكفار نعمًا يجب شكره خلاف منِ يقول: لا نعمة عليهم.
ط. أن صانع السماء والأرض قادر عالم.
ي. أن الأصل في الأشياء أنها على الإباحة؛ لأنه ذكر أنه خلقها لمنفعتهم، ثم صار حظا لكل واحد، وما تفرد به يحتاج إلى سبب ودليل، وقد قال قوم: جميع ذلك على الحظر، وقال بعضهم: على التوقف، والآية تدل على صحة ما قلنا.
ك. أنه تعالى عالم بكل شيء، فيبطل قول هشام بن الحكم: إنه عالم بالكائنات بعلم محدث.
ل. على البعث؛ لأن من قدر على خلق سبع سماوات من دخان قادر على البعث بعد الموت.
15. مسائل نحوية:
أ. ﴿كَيْفَ﴾ في الأصل سؤال عن الحال يوضح ذلك الجواب إذا قيل: كيف رأيت زيدًا؟ فتجيب بأحواله: مسرورًا أو مهمومًا وما أشبهه، و(كيف) ينتظم جميع الأحوال، كما أن (كم) ينتظم جميع الأعداد، و(ما) ينتظم جميع الأجناس، و(أين) ينتظم جميع الأماكن، و(من) ينتظم جميع ما يعقل.
ب. (كان): شبيه فعل ماض، وعمله أن يرفع الاسم وينصب الخبر، تقول: كان زيد قائمًا، وتصريفه: كان يكون كونًا فهو كائن، و(كان) على أربعة أوجه: تامة، وناقصة، وزائدة، ومضمنة، فالتامة هي المكتفية باسمها دون خبرها، كقولك: كان القتال، يعني حَدَثَ ووقع، والناقصة: هي التي لا تتم دون خبرها كقولك: كان زيد أميرًا، والزائدة: ما يكون دخولها كخروجها إلا بمقدار ما توجبه من التوكيد، كقولك: ما كان أَحْسَنَ زيدًا!، ومنه: ﴿مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴾ أي كيف نكلم من في المهد صبيًّا، والمضمنة: هي التي يُضَمَّنُ فيها ضَمِيرٌ يُفَسِّرُهُ ما بعده، وسمي ضمير المجهول؛ لأنه يضمن عن الذِّكر على شريطة التفسير. حكى سيبويه: كان أنت خير منه، كأنه قال: الأمر والقصة، ثم فسره فقال: أنت خير منه، وهو إن كان يتصرف تصرف الفعل فليس بفعل على الحقيقة وإنما يدل على الزمان، ويدخل على الابتداء والخبر، قلت: زيد مسرور، ثم تقول: كان زيد مسرورا، كأنك تريد فيما مضى من الزمان، وتدخل زائدة للتأكيد، وتعمل كقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾
ج. جاز تقديم خبر (كان) دون (ليس) لأن (كان) تتصرف فجاز تقديم خبره، تقول: راكعًا كان زيد، و(ليس) لا يتصرف.
د. الواو في قوله: ﴿وَكُنْتُمْ﴾ : قيل: واو الحال، عن الفراء والزجاج، وقالا: لا بد من إضمار، كأنه قيل: وقد كنتم أمواتًا، كقوله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ أي قد حصرت، وموضع الواو على هذا القياس نصب، كأنه قيل: كيف تكفرون بِاللَّهِ كائنين أمواتًا مرة وأحياءً مرة.
هـ. اختلف لم قال: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ على لفظ الواحد، ثم قال: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ على لفظ الجمع:
• قيل: أن معنى السماء معنى الجمع، وإن كان مخرجها مخرج الواحد؛ لأنها اسم للجنس كقولك: أهلك الناسَ الدينارُ والدرهمُ.
• وقيل: هي جمع، واحدها سماوة وسماة، وذكر قطرب ما لفظه لفظ الواحد ومعناه معنى الجمع، نحو قوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾، وقال: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي﴾ وقال تعالى: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/303.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. أصل الخلق التقدير والجمع الضم، ونقيضه الفرق، وسميت الجمعة جمعة لاجتماع الناس.
ب. الاستواء: الاعتدال والاستقامة، ونقيضه الاعوجاج.
ج. السبع للمؤنث، والسبعة للمذكر.. والسبع مشتق من ذلك، لأنه مضاعف القوى كأنه ضوعف سبع مرات.
د. العليم في معنى العالم.. قال سيبويه: إذا أرادوا المبالغة عدوا إلى فعيل، نحو: عليم، ورحيم.
هـ. التسوية: جعل الشيئين أو الأشياء على استواء، يقال: سويت الشيئين فاستويا، وإنما قال: فسواهن، فجمع الضمير العائد إلى السماء، لأن السماء اسم جنس يدل على القليل والكثير، كقولهم أهلك الناس الدينار والدرهم.
و. السماء جمع سماوة وسماءة، ولذلك يؤنث مرة، ويذكر أخرى، فقيل: السماء منفطر به، كما يفعل ذلك بالجمع الذي بينه وبين واحده الهاء نحو: نخل ونخلة، وبقر وبقرة.. وقيل: إن السماوات كانت سماء فوق سماء، فهي في التقدير واحدة، وتكون الواحدة جماعة كما يقال ثوب أخلاق وأسمال، وبرقة أعشار، وأرض أعقال.. إن كل ناحية منها كذلك، فجمع على هذا المعنى، جعلهن سبع سماوات مستويات بلا فطور، ولا أمت.
2. ثم عاد الله تعالى إلى الاحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث، وجحودهم لرسله وكتبه، بما أنعم به عليهم، فقال ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ :
أ. ومن قال هو توبيخ قال: معناه ويحكم كيف تكفرون؟ كما يقال: كيف تكفر نعمة فلان وقد أحسن إليك؟
ب. ومن قال هو تعجب قال: تقديره عجبا منكم على أي حال يقع منكم الكفر بالله، مع الدلائل الظاهرة على وحدانيته، والمعجزات القاهرة على صدق من اختصه برسالته، وقيام الحجج الباهرة على وجوب طاعته، وشكر نعمته.
3. ثم ذكر سبحانه بعض نعمه عليهم، فقال ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ أي: وحالكم أنكم كنتم أمواتا وفيه وجوه:
أ. أحدها: إنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، يعني نطفا، فأحياهم الله، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم بعد الموت، فهما حياتان وموتتان، عن قتادة.
ب. ثانيها: إن معناه لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة، عن ابن عباس، وابن مسعود.
ج. ثالثها: إن معناه كنتم أمواتا يعني خاملي الذكر، فأحياكم بالظهور، ثم يميتكم عند تقضي آجالكم، ثم يحييكم للبعث، والعرب تسمي كل امرئ خامل ميتا، وكل امرئ مشهور حيا، كما قال أبو نخيلة السعدي:
فأحييت من ذكري، وما كان خاملا... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
د. رابعها: إن معناه: كنتم نطفا في أصلاب آبائكم، وبطون أمهاتكم، والنطفة موات، فأخرجكم إلى دار الدنيا أحياء.
4. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ في القبر للمسألة ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي: يبعثكم يوم الحشر للحساب والمجازاة على الأعمال.
5. سمى الحشر رجوعا إلى الله تعالى، لأنه رجوع إلى حيث لا يكون أحد يتولى الحكم فيه غير الله، كما يقال رجع أمر القوم إلى الأمير، ولا يراد به الرجوع من مكان إلى مكان، وإنما يراد به أن النظر صار له خاصة دون غيره.
6. إنما بدأ الله تعالى بذكر الحياة من بين سائر النعم التي أنعم بها على العبد، لأن أول نعمة أنعم الله بها عليه، خلقه إياه حيا، لينفعه، وبالحياة يتمكن الانسان من الانتفاع والالتذاذ.
7. إنما عد الموت من النعم، وهو يقطع النعم في الظاهر:
أ. قيل: لأن الموت يقطع التكليف، فيصل المكلف بعده إلى الثواب الدائم، فهو من هذا الوجه نعمة.
ب. وقيل: إنما ذكر الموت لتمام الاحتجاج، لا لكونه نعمة.
8. في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من عباده الكفر، ولا خلقه فيهم، لأنه لو أراده منهم، أو خلقه فيهم، لم يجز أن يضيفه إليهم بقوله ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ كما لا يجوز أن يقول لهم كيف، أو لم كنتم طوالا، أو قصارا، وما أشبه ذلك مما هو من فعله تعالى فيهم.
9. لما استعظم المشركون أمر الإعادة، عرفهم الله تعالى خلق السماوات والأرض، ليدلهم بذلك على قدرته على الإعادة، فقال ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ﴾ أي: لأجلكم ﴿مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ ما في موضع نصب بأنه مفعول بها، ومعناه: إن الأرض وجميع ما فيها نعم من الله تعالى، مخلوقة لكم، إما دينية فتستدلون بها على معرفته، وإما دنياوية فتنتفعون بها بضروب النفع عاجلا.
10. في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ وجوه:
أ. أحدها: إن معناه قصد للسماء ولتسويتها، كقول القائل: كان الأمير يدبر أمر الشام، ثم استوى إلى أهل الحجاز أي: تحول تدبيره وفعله إليهم.
ب. ثانيها: إنه بمعنى استولى على السماء بالقهر، كما قال ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ أي: تقهروه، ومنه قوله ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ أي تمكن من أمره، وقهر هواه بعقله، فعلى هذا يكون معناه: ثم استوى إلى السماء في تفرده بملكها، ولم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه، ومنه قول الشاعر:
فلما علونا، واستوينا عليهم... تركناهم صرعى لنسر، وكاسر
وقال آخر:
ثم استوى بشر على العراق... من غير سيف، ودم مهراق
ج. ثالثها: إن معناه: ثم استوى أمره، وصعد إلى السماء، لأن أوامره وقضاياه تنزل من السماء إلى الأرض، عن ابن عباس.
د. رابعها: ما روى عن ثعلب أحمد بن يحيى أنه سئل عن معنى الاستواء في صفة الله عز وجل فقال: الاستواء الإقبال على الشيء يقال: كان فلان مقبلا على فلان [يشتمه] ثم استوى علي وإلي يكلمني، على معنى أقبل إلي، وعلي.
11. قال علي بن عيسى: إن السماوات غير الأفلاك، تتحرك وتدور، والسماوات لا تتحرك ولا تدور، لقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ وهذا قول ضعيف، لأن قوله: أن تزولا معناه: لا تزول عن مراكزها التي تدور عليها، ولولا إمساكه لزالت عنها.
12. سؤال وإشكال: ظاهر قوله تعالى ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ يوجب أنه خلق الأرض قبل السماء، لأن ﴿ثُمَّ﴾ للتعقيب والتراخي، وقوله في سورة أخرى ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ بخلافه، فكيف يجمع بينهما؟ والجواب:
أ. معناه إن الله خلق الأرض قبل السماء، غير أنه لم يدحها، فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك.. ودحوها: بسطها ومدها، عن الحسن، وعمرو بن عبيد.
ب. وقد يجوز أيضا أن لا يكون معنى (ثم) و ﴿بَعْدِ﴾ في هذه الآيات الترتيب في الأوقات، وإنما هو على جهة تعداد النعم، والتنبيه عليها، والأذكار لها، كما يقول القائل لصاحبه: أليس قد أعطيتك، ثم رفعت منزلتك، ثم بعد هذا كله فعلت بك وفعلت.
ج. وربما يكون بعض ما ذكره متقدما في اللفظ كان متأخرا، لأن المراد لم يكن الإخبار عن أوقات الفعل، وإنما المراد التذكير كما ذكره.
13. قال تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ولم يقل قدير، لأنه:
أ. لما وصف نفسه بالقدرة والاستيلاء، وصل ذلك بالعلم، إذ بهما يصح وقوع الفعل على وجه الإتقان والإحكام.
ب. وأيضا فإنه أراد أن يبين أنه عالم بما يؤول إليه حاله، وحال المنعم به عليه، فتتحقق بذلك النعمة.
14. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن صانع السماء والأرض قادر وعالم، وأنه تعالى إنما يفعل الفعل لغرض، وأن له تعالى على الكفار نعما يجب شكره عليهم بها.
ب. أن الأصل في الأشياء الإباحة، لأنه ذكر أنه خلق ما في الأرض لمنفعة العباد، ثم صار حظا لكل واحد منهم، فما يتفرد كل منهم بالتصرف فيه، يحتاج إلى دليل.
15. مسائل نحوية:
أ. كيف: في الأصل سؤال عن الحال، ويتضح ذلك في الجواب إذا قيل: كيف رأيت زيدا، فتقول: مسرورا، أو مهموما، وما أشبه ذلك، فتجيب بأحواله، فكيف ينتظم جميع الأحوال، كما أن كم ينتظم جميع العدد، وما ينتظم جميع الجنس، وأين ينتظم جميع الأماكن، ومن ينتظم جميع العقلاء.. ومعناه في الآية: التوبيخ، وتقديره أمتعلقين بحجة تكفرون، فيكون منصوب الموضع على الحال.. والعامل فيه ﴿تَكْفُرُونَ﴾ .. وقال الزجاج: هو استفهام في معنى التعجب، وهذا التعجب إنما هو للخلق، أو للمؤمنين أي: أعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون، وقد ثبتت حجة الله عليهم.
ب. وكنتم: وقد كنتم، والواو واو الحال.. وإضمار قد جائز إذا كان في الكلام دليل عليه، ومثله قوله تعالى ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ أي: قد حصرت صدورهم.. وهي جملة في موضع الحال، وإنما وجب إظهار قد في مثل هذا، أو تقديرها، لأن الماضي لا يكون حالا.
ج. قد: إنما يكون لتقريب العهد، ولتقريب الحال، فبدخوله يصلح أن يكون الفعل الماضي حالا.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/172.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في (كيف) قولان:
أ. أحدهما: أنه استفهام في معنى التعجّب، وهذا التعجّب للمؤمنين، أي: اعجبوا من هؤلاء كيف يكافرون، وقد ثبتت حجة الله عليهم، قاله ابن قتيبة والزّجّاج.
ب. الثاني: أنه استفهام خارج مخرج التقرير والتوبيخ، تقديره: ويحكم كيف تكفرون بالله! قال العجّاج:
أطربا وأنت قنّسريّ... والدّهر بالإنسان دواريّ
أراد: أتطرب وأنت شيخ كبير!؟
2. قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾، أي: وقد كنتم أمواتا، ومثله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾، أي: قد حصرت، ومثله: ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ﴾، فقد كذبت، ولولا إضمار (قد) لم يجز مثله في الكلام.
3. في الحياتين، والموتتين أقوال: أصحها: أن الموتة الأولى، كونهم نطفا وعلقا ومضغا، فأحياهم في الأرحام، ثم يميتهم بعد خروجهم إلى الدنيا، ثم يحييهم للبعث يوم القيامة، وهذا قول ابن عباس وقتادة ومقاتل والفرّاء وثعلب، والزّجّاج، وابن قتيبة، وابن الأنباريّ.
4. قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾، أي: لأجلكم، فبعضه للانتفاع، وبعضه للإتباع.
5. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾، أي: عمد إلى خلقها، والسماء: لفظها لفظ الواحد، ومعناها معنى الجمع، بدليل قوله: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ .
6. اختلف في أيّهما أسبق في الخلق: الأرض، أم السماء؟ فيه قولان:
أ. أحدهما: الأرض، قاله مجاهد.
ب. والثاني: السماء، قاله مقاتل.
7. اختلفوا في كيفية تكميل خلق الأرض وما فيها:
أ. فقال ابن عبّاس: بدأ بخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماوات في يومين، ثم دحا الأرض وبينها الجبال، وقدّر فيها أقواتها في يومين.
ب. وقال الحسن ومجاهد: جمع خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام متوالية، ثم خلق السماء في يومين.
__________
(1) زاد المسير: 1/49.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لما تكلم الله تعالى في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد إلى هذا الموضع فمن هذه الموضع إلى قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 40] في شرح النعم التي عمت جميع المكلفين.
2. قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ وإن كان بصورة الاستخبار، فالمراد به التبكيت والتعنيف، لأن عظم النعمة يقتضي عظم معصية المنعم، يبين ذلك أن الوالد كلما عظمت نعمته على الولد بأن رباه وعلمه وخرجه وموله وعرضه للأمور الحسان، كانت معصيته لأبيه أعظم، فبين سبحانه وتعالى بذلك عظم ما أقدموا عليه من الكفر، بأن ذكرهم نعمه العظيمة عليهم ليزجرهم بذلك عما أقدموا عليه من التمسك بالكفر ويبعثهم على اكتساب الإيمان، فذكر تعالى من نعمه ما هو الأصل في النعم وهو الإحياء، فهذا هو المقصود الكلي.
3. سؤال وإشكال: لم كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم؟ والجواب: لأن الإحياء الأول قد يعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النور تراخياً ظاهرا.
4. ذكر المعتزلة ومن وافقهم أن هذه الآية تدل على أن الكفر من قبل العباد من وجوه:
أ. أحدها: أنه تعالى لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز أن يقول: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ موبخاً لهم، كما لا يجوز أن يقول كيف تسودون وتبيضون وتصحون وتسقمون لما كان ذلك أجمع من خلقه فيهم.
ب. ثانيها: إذا كان خلقهم أولًا للشقاء والنار وما أراد بخلقهم إلا الكفر وإرادة الوقوع في النار، فكيف يصح أن يقال موبخاً لهم كيف تكفرون؟
ج. ثالثها: أنه كيف تعقل من الحكيم أن يقول لهم: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ حال ما يخلق الكفر فيهم ويقول: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا﴾ [الإسراء: 94] حال ما منعهم عن الإيمان ويقول: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الانشقاق: 20]، ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: 49] وهو يخلق فيهم الإعراض ويقول: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ .. ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ ويخلق فيهم الإفك والصرف ومثل هذا الكلام بأن يعد من السخرية أولى من أن يذكر في باب إلزام الحجة على العباد.
د. رابعها: أن الله تعالى إذا قال للعبيد: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ :
• فهل ذكر هذا الكلام توجيهاً للحجة على العبد وطلباً للجواب منه أو ليس كذلك؟
• فإن لم يكن لطلب هذا المعنى لم يكن في ذكره فائدة فكان هذا الخطاب عبثاً.
وإن ذكره لتوجيه الحجة على العبد، فللعبد أن يقول حصل في حقي أمور كثيرة موجبة للكفر:
• فالأول: أنك علمت بالكفر مني والعلم بالكفر يوجب الكفر.
• الثاني: أنك أردت الكفر مني وهذه الإرادة موجبة له.
• الثالث: أنك خلقت الكفر في وأنا لا أقدر على إزالة فعلك.
• الرابع: أنك خلقت في قدرة موجبة للكفر، في إرادة موجبة للكفر.
• الخامس أنك خلقت في إرادة موجبة للكفر.
• السادس: أنك خلقت في قدرة موجبة للكفر.
ثم لما حصلت هذه الأسباب الستة في حصول الكفر والإيمان يوقف على حصول هذه الأسباب الستة في طرف الإيمان، وهي بأسرها كانت مفقودة، فقد حصل لعدم الإيمان اثنا عشر سبباً كل واحد منها مستقل بالمنع من الإيمان، ومع قيام هذه الأسباب الكثيرة كيف يعقل أن يقال ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾؟
د. خامسها: أنه تعالى قال لرسوله: قل لهم كيف تكفرون بالله الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة، أعني نعمة الحياة، وعلى قول أهل الجبر لا نعمة له تعالى على الكافر، وذلك لأن عندهم كل ما فعله الله تعالى بالكافر فإنما فعله ليستدرجه إلى الكفر ويحرقه بالنار، فأي نعمة تكون لله على العبد على هذا التقدير، وهل يكون ذلك إلا بمنزلة من قدم إلى غيره صحفة فالوذج مسموم فإن ظاهره وإن كان لذيذاً ويعد نعمة لكن لما كان باطنه مهلكاً فإن أحداً لا يعده نعمة، ومعلوم أن العذاب الدائم أشد ضررًا من ذلك السم فلا يكون لله تعالى نعمة على الكافر، فكيف يأمر رسوله بأن يقول لهم كيف تكفرون بمن أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة.
5. ما ذكره المعتزلة من هذه الوجوه عند البحث يرجع حاصلها إلى التمسك بطريقة المدح والذم والأمر والنهي والثواب والعقاب، ويمكن مقابلتها بالكلام المعتمد في هذه الشبهة:
أ. وهو أن الله سبحانه وتعالى علم أنه لا يكون، فلو وجد لانقلب علمه جهلًا، وهو محال ومستلزم المحال محال، فوقوعه محال مع أنه قال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾
ب. وأيضاً فالقدرة على الكفر إن كانت صالحة للإيمان امتنع كونها مصدراً للإيمان على التعيين إلا لمرجح، وذلك المرجح إن كان من العبد عاد السؤال، إن كان من الله فما لم يحصل ذلك المرجح من الله امتنع حصول الكفر، وإذا حصل ذلك المرجح وجب.
وعلى هذا كيف لا يعقل قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾، واعلم أن المعتزلي إذا طول كلامه وفرع وجوهه في المدح والذم فعليك بمقابلتها بهذين الوجهين فإنهما يهدمان جميع كلامه ويشوشان كل شبهاته.
6. الآية الكريمة دالة على أنه لا يقدر على الإحياء والإماتة إلا الله تعالى فيبطل به قول أهل الطبائع من أن المؤثر في الحياة والموت كذا وكذا من الأفلاك والكواكب والأركان والمزاجات كما حكى عن قوم في قوله: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: 24]
7. تدل الآية الكريمة على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل العقلي الدال عليه، لأنه تعالى بين أنه أحيا هذه الأشياء بعد موتها في المرة الأولى فوجب أن يصح ذلك في المرة الثانية.
8. اتفقوا على أن قوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ المراد به وكنتم تراباً ونطفاً، لأن ابتداء خلق آدم من التراب وخلق سائر المكلفين من أولاده إلا عيسى عليه السلام من النطف، لكنهم اختلفوا في أن إطلاق اسم الميت على الجماد حقيقة أو مجاز:
أ. الأكثرون على أنه مجاز، لأنه شبه الموات بالميت، وليس أحدهما من الآخر بسبيل، لأن الميت ما يحل به الموت ولا بد وأن يكون بصفة من يجوز أن يكون حياً في العادة فيكون اللحمية والرطوبة.
ب. وقال الأولون هو حقيقة فيه، وهو مروي عن قتادة، قال: كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى، ثم أخرجهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم بعد الموت، فهما حياتان وموتتان واحتجوا بقوله: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ [الملك: 2]، والموت المقدم على الحياة هو كونه مواتاً، فدل على أن إطلاق الميت على الموات ثابت على سبيل الحقيقة.
9. إطلاق اسم الميت على الجماد مجاز هو الأقرب، لأنه يقال في الجماد إنه موات وليس بميت فيشبه أن يكون استعمال أحدهما في الآخر على سبيل التشبيه، وهو كقوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان: 1] فبين سبحانه وتعالى أن الإنسان كان لا شيء يذكر فجعله الله حياً وجعله سميعاً بصيراً.
10. مجاز الميت من قولهم فلان ميت الذكر، وهذا أمر ميت، وهذه سلعة ميتة، إذا لم يكن لها طالب ولا ذاكر قال المخبل السعدي:
وأحييت لي ذكرى وما خاملا... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
فكذا معنى الآية: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ أي خاملين، ولا ذكر لكم لأنكم لم تكونوا شيئاً ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ أي فجعلكم خلقاً سميعاً بصيراً.
11. احتج قوم بهذه الآية على بطلان عذاب القبر، قالوا: لأنه تعالى بين أنه يحييهم مرة في الدنيا وأخرى في الآخرة: ولم يذكر حياة القبر: ويؤكده قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 15، 16] ولم يذكر حياة فيما بين هاتين الحالتين، قالوا ولا يجوز الاستدلال بقوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: 11] لأنه قول الكفار، ولأن كثيراً من الناس أثبتوا حياة الذر في صلب آدم عليه السلام حين استخرجهم وقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172] وعلى هذا التقدير حصل حياتان وموتتان من غير حاجة إلى إثبات حياة في القبر.
12. الرد على من استدلّ بهذه الآية على بطلان عذاب القبر هو:
أ. أنه لا يلزم من عدم الذكر في هذه الآية أن لا تكون حاصلة.
ب. وأيضاً فلقائل أن يقول: إن الله تعالى ذكر حياة القبر في هذه الآية، لأن قوله في يحييكم ليس هو الحياة الدائمة وإلا لم صح أن يقول: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ لأن كلمة ثم تقتضي التراخي، والرجوع إلى الله تعالى حاصل عقب الحياة الدائمة من غير تراخ، فلو جعلنا الآية من هذا الوجه دليلًا على حياة القبر كان قريباً.
13. قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ يعني به العامة، وأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات نحو ما حكى في قوله: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: 259] إلى قوله: ﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ وكقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: 243] وكقوله: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ [البقرة: 55، 56] وكقوله: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ [البقرة: 73] وكقوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ [الكهف: 21] وكقوله في قصة أيوب عليه السلام: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ [الأنبياء: 84] فإن الله تعالى رد عليه أهله بعد ما أماتهم.
14. تمسك المجسمة بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ على أنه تعالى في مكان وهذا ضعيف، والمراد أنهم إلى حكمة يرجعون لأنه تعالى يبعث من في القبور ويجمعهم في المحشر، وذلك هو الرجوع إلى الله تعالى.
15. إنما وصف بذلك لأنه رجوع إلى حيث لا يتولى الحكم غيره كقولهم رجع أمره إلى الأمير، أي إلى حيث لا يحكم غيره.
16. هذه هي النعمة الثانية التي عمت المكلفين بأسرهم وما أحسن ما رعى الله سبحانه وتعالى هذا الترتيب فإن الانتفاع بالأرض والسماء إنما يكون بعد حصول الحياة، فلهذا ذكر الله أمر الحياة أولًا، ثم أتبعه بذكر السماء والأرض.
17. قوله: ﴿لَكُمْ﴾ يدل على أن المذكور بعد قوله خلق لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا:
أ. أما في الدنيا فليصلح أبداننا، ولنتقوى به على الطاعات.
ب. وأما في الدين فللاستدلال بهذه الأشياء والاعتبار بها.
3. جمع الله تعالى بقوله: ﴿مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ جميع المنافع، فمنها ما يتصل بالحيوان والنبات والمعادن والجبال، ومنها ما يتصل بضروب الحرف والأمور التي استنبطها العقلاء، وبين تعالى أن كل ذلك إنما خلقها كي ينتفع بها كما قال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجاثية: 13]، فكأنه سبحانه وتعالى قال: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم: وكيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً.. أو يقال كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة: وقد أحياكم بعد موتكم: ولأنه خلق لكم ما في الأرض جميعاً: فكيف يعجز عن إعادتكم.
18. ثم إنه تعالى ذكر تفاصيل هذه المنافع في سور مختلفة كما قال: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا﴾ [عبس: 25] وقال في أول سورة أتى أمر الله: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾ [النحل: 5] إلى آخره.
19. قيل إن الآية الكريمة تدل على حرمة أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض، ولقائل أن يقول في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جمعاً للموضعين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى بعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه.
20. قوله: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ يقتضي أنه لا تصح الحاجة على الله تعالى وإلا لكان قد فعل هذه الأشياء لنفسه أيضاً لا لغيره.
21. قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ مفسر بقوله: ﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ [فصلت: 9، 10] بمعنى تقدير الأرض في يومين، وتقدير الأقوات في يومين آخرين كما يقول القائل من الكوفة إلى المدينة عشرون يوماً، وإلى مكة ثلاثون يوماً يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر، ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ومجموع ذلك ستة أيام على ما قال ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [الأعراف: 54].
22. الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب وضده الاعوجاج، ولما كان ذلك من صفات الأجسام، فالله تعالى يجب أن يكون منزهاً عن ذلك، ولأن في الآية ما يدل على فساده لأن قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾ يقتضي التراخي، ولو كان المراد من هذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلًا أولًا، ولو كان حاصلًا أولًا لما كان متأخراً عن خلق ما في الأرض، لكن قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾ يقتضي التراخي، ولما ثبت هذا وجب التأويل.
23. تقرير هذا هو أن الاستواء هو الاستقامة، يقال: استوى العود إذا قام واعتدل: ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلتفت إلى شيء آخر، ومنه استعير قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ أي خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زماناً ولم يقصد شيئاً آخر بعد خلقه الأرض.
24. اختلف في الضمير في ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ :
أ. ضمير مبهم، وسبع سموات تفسير له، كقوله ربه رجلًا، وفائدته أن المبهم إذا تبين كان أفخم وأعظم من أن يبين أولًا لأنه إذا أبهم تشوفت النفوس إلى الاطلاع عليه، وفي البيان بعد ذلك شفاء لها بعد التشوف.
ب. وقيل: الضمير راجع إلى السماء، والسماء في معنى الجنس، وقيل جمع سماءة، والوجه العربي هو الأول.
25. معنى تسويتهن تعديل خلقهن وإخلاؤه من العوج والفطور وإتمام خلقهن.
26. دل القرآن الكريم هاهنا على وجود سبع سموات، وقال أصحاب الهيئة: أقربها إلينا كرة القمر، وفوقها كرة عطارد، ثم كرة الزهرة، ثم كرة الشمس، ثم كرة المريخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زحل(2)..
27. قوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ يدل على أنه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يكون خالقاً للأرض وما فيها وللسموات وما فيها من العجائب والغرائب إلا إذا كان عالماً بها محيطاً بجزئياتها وكلياتها.
28. قوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ يدل على فساد قول الفلاسفة الذين قالوا إنه لا يعلم الجزئيات وصحة قول المتكلمين، وذلك لأن المتكلمين استدلوا على علم الله تعالى بالجزئيات بأن قالوا:
أ. إن الله تعالى فاعل لهذه الأجسام على سبيل الإحكام والإتقان، وكل فاعل على هذا الوجه فإن لا بد وأن يكون عالماً بما فعله.
ب. هذه الدلالة بعينها ذكرها الله تعالى في هذا الموضع لأنه ذكر خلق السموات والأرض، ثم فرع على ذلك كونه عالماً، فثبت بهذا أن قول المتكلمين في هذا المذهب وفي هذا المذهب وفي هذ الاستدلال مطابق للقرآن
29. قوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ يدل على فساد قول المعتزلة، وذلك لأنه سبحانه وتعالى بين أن الخالق للشيء على سبيل التقدير والتحديد لا بد وأن يكون عالماً به وبتفاصيله لأن خالقه قد خصه بقدر دون قدر، والتخصيص بقدر معين لا بد وأن يكون بإرادة، وإلا فقد حصل الرجحان من غير مرجح، والإرادة مشروطة بالعلم، فثبت أن خالق الشيء لا بد وأن يكون عالماً به على سبيل التفصيل، فلو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بها وبتفاصيلها في العدد والكمية والكيفية، فلما لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجد نفسه.
30. قالت المعتزلة: إذا جمعت بين هذه الآية وبين قوله: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ ظهر أنه تعالى عالم بذاته، والجواب: قوله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 76] عام وقوله: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ [النساء: 166] خاص والخاص مقدم على العام.
31. سؤال وإشكال: قال بعض الملحدة هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء وكذا قوله: ﴿ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [فصلت: 9 ـ 11] وقال في سورة النازعات: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 27 ـ 30] وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء، والجواب: ذكر العلماء في الجواب عنه وجوهاً:
أ. أحدها: يجوز أن يكون خلق الأرض قبل خلق السماء إلا أنه ما دحاها حتى خلق السماء لأن التدحية هي البسط.
ب. وهو الجواب الصحيح أن قوله: (ثم) ليس للترتيب هاهنا وإنما هو على جهة تعديد النعم، مثاله قول الرجل لغيره: / أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ثم رفعت قدرك ثم دفعت الخصوم عنك، ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فكذا هاهنا والله أعلم.
32. سؤال وإشكال: القول بأن خلق الأرض قبل خلق السماء إلا أنه ما دحاها حتى خلق السماء مشكل من وجهين:
أ. الأول: أن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية وإذا كانت التدحية متأخرة عن خلق السماء كان خلقها أيضاً لا محالة متأخراً عن خلق السماء.
ب. الثاني: أن قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ يدل على أن خلق الأرض وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء لكن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة فهذه الآية تقتضي تقدم كونها مدحوة قبل خلق السماء وحينئذ يتحقق التناقض.
والجواب: أن قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 30] يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض، وعلى هذا التقدير يزول التناقض.
33. لا يفعل الله تعالى فعلًا لغرض، للأدلة التالية:
أ. أنه لو كان كذلك كان مستكملًا بذلك الغرض، والمستكمل بغيره ناقص بذاته، وذلك على الله تعالى محال.. فإن قيل: هل يجوز أن نذكر أن فعله تعالى معلل بغرض غير عائد إليه، بل إلى غيره؟ والجواب: عود ذلك الغرض إلى ذلك الغير، هل هو أولى لله تعالى من عود ذلك الغرض إليه أو ليس أولى؟
• فإن كان أولى فهو تعالى قد انتفع بذلك الفعل، فيعود المحذور المذكور.
• وإن كان الثاني لم يكن تحصيل ذلك الغرض المذكور لذلك الغير غرضاً لله تعالى، فلا يكون مؤثراً فيه.
ب. أن من فعل فعلًا لغرض كان عاجزاً عن تحصيل ذلك الغرض إلا بواسطة ذلك الفعل والعجز على الله تعالى محال.
ج. أنه تعالى لو فعل فعلًا لغرض لكان ذلك الغرض إن كان قديماً لزم قدم الفعل وإن كان محدثاً كان فعله لذلك الغرض لغرض آخر ويلزم التسلسل وهو محال.
د. أنه تعالى لو كان يفعل لغرض لكان ذلك الغرض هو رعاية مصلحة المكلفين ولو توقفت فاعليته على ذلك لما فعل ما كان مفسدة في حقهم لكنه قد فعل ذلك حيث كلف من علم أنه لا يؤمن.
34. اللام في قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ وفي قوله: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] لأنه تعالى لما فعل ما لو فعله غيره لكان فعله لذلك الشيء لأجل الغرض لا جرم أطلق الله عليه لفظ الغرض بسبب هذه المشابهة.
35. احتج أهل الإباحة بقوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ على أنه تعالى خلق الكل للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلًا، وهو ضعيف، لأنه تعالى قابل الكل بالكل، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، والتعيين يستفاد من دليل منفصل والفقهاء رحمهم الله استدلوا به على أن الأصل في المنافع الإباحة.
36. تدل الآية الكريمة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال ﴿فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ فبين أنه لا بد من الموت ثم بين أنه لا يترك على هذا الموت، بل لا بد من الرجوع إليه.
37. أما أنه لا بد من الموت، فقد بين سبحانه وتعالى أنه بعد ما كان نطفة فإن الله أحياه وصوره أحسن صورة وجعله بشراً سوياً وأكمل عقله وصيره بصيراً بأنواع المنافع والمضار وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور، ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئاً ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ويبقى مدة طويلة في اللحود كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ﴾ [المؤمنون: 100] ينادى فلا يجيب ويستنطق فلا يتكلم ثم لا يزوره الأقربون، بل ينساه الأهل والبنون، كما قال يحيى بن معاذ الرازي:
يمر أقاربي بحذاء قبري... كأن أقاربي لم يعرفوني
38. قال يحيى بن معاذ: إلهي كأني بنفسي وقد أضجعوها في حفرتها، وانصرف المشيعون عن تشييعها، وبكى الغريب عليها لغربتها، وناداها من شفير القبر ذو مودتها، ورحمتها الأعادي عند جزعتها، ولم يخف على الناظرين عجز حيلتها، فما رجائي إلا أن نقول: ما تقول ملائكتي انظروا إلى فريد قد نأى عنه الأقربون، ووحيد قد جفاه المحبون، أصبح مني قريباً وفي اللحد غريباً، وكان لي في الدنيا داعياً ومجيباً، ولإحساني إليه عند وصوله إلى هذا البيت راجياً، فأحسن إلى هناك يا قديم الإحسان، وحقق رجائي فيك يا واسع الغفران.
39. أما أنه لا بد من الرجوع إلى الله فلأن سبحانه يأمر بأن ينفخ في الصور ﴿فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ .. ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: 68] وقال: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾ [المعارج: 43] ثم يعرضون على الله كما قال: ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا﴾ [الكهف: 48] فيقومون خاشعين خاضعين كما قال: ﴿وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ﴾ [طه: 108]
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/376.
(2) ثم فصل في ذلك بحسب ما كان عليه العلم في عصره، ولا حاجة لذكر ما ذكره هنا، ولمن شاء أن يطلع عليه يجده هنا: تفسير الفخر الرازي: 2/382.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في ﴿كَيْفَ﴾ :
أ. قيل: سؤال عن الحال، وهي اسم في موضع نصب بـ ﴿تَكْفُرُونَ﴾، وهي مبنية على الفتح وكان سبيلها أن تكون ساكنة، لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب فأشبهت الحروف، واختير لها الفتح لخفته، أي هؤلاء ممن يجب أن يتعجب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجة.
ب. وقيل: ﴿كَيْفَ﴾ لفظه لفظ الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون نعمه عليكم وقدرته هذه! قال الواسطي: وبخهم بهذا غاية التوبيخ، لان الموات والجماد لا ينازع صانعه في شي، وإنما المنازعة من الهياكل الروحانية.
2. سؤال وإشكال: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا بالله؟ والجواب: ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أمر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يصدقوه فيما جاء به فقد أشركوا، لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله، ومن زعم أن القرآن كلام البشر فقد أشرك بالله وصار ناقضا للعهد.
3. ﴿خَلَقَ﴾ معناه اخترع وأوجد بعد العدم، وقد يقال في الإنسان: ﴿خَلَقَ﴾ عند إنشائه شيئا، ومنه قول الشاعر:
من كان يخلق ما يقو... ل فحيلتي فيه قليله
4. اختلف في قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ﴾ :
أ. قيل: أي من أجلكم.
ب. وقيل: المعنى أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم.
ج. وقيل: إنه دليل على التوحيد والاعتبار، وهذا هو الصحيح.
ويجوز أن يكون عني به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء.
5. الصحيح في معنى قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ الاعتبار، يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على أحيائكم وخلقكم وخلق السموات والأرض، لا تبعد منه القدرة على الإعادة.
6. سؤال وإشكال: لم لا يصح أن يكون معنى ﴿لَكُمْ﴾ الانتفاع، أي لتنتفعوا بجميع ذلك؟ والجواب: المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا، والاعتبار يشمل كل شيء حتى في العقارب والحيات، فقد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك المعاصي، وذلك أعظم الاعتبار.
7. ليس في الاخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة ولا وقفا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته.
8. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾ ثم لترتيب الاخبار، لا لترتيب الامر في نفسه.
9. الاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشيء، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾ [المؤمنون: 28]، وقال ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ [الزخرف: 13]، وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة... وقد حلق النجم اليماني فاستوى
أي ارتفع وعلا، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قمة رأسي، بمعنى علا.
10. هذه الآية من المشكلات، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه:
أ. قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وذهب إليه كثير من الأئمة، وهذا كما روى عن مالك أن رجلا سأله عن قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] قال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، واراك رجل سوء! أخرجوه.
ب. وقال بعضهم: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة، وهذا قول المشبهة.
ج. وقال بعضهم: نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها.
11. الاستواء في كلام العرب على وجوه(2).:
أ. أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته.
ب. أو يستوي عن اعوجاج.
ج. أن تقول: كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي وإلي يشاتمني، على معنى أقبل إلي وعلي.
د. قال ابن عباس: ثم استوى إلى السماء صعد، وهذا كقولك: كان قاعدا فاستوى قائما، وكان قائما فاستوى قاعدا، وكل ذلك في كلام العرب جائز.
12. قال بعضهم(3).: قوله تعالى: ﴿اسْتَوَى﴾ بمعنى أقبل صحيح، لان الإقبال هو القصد إلى خلق السماء، والقصد هو الإرادة، وذلك جائز في صفات الله تعالى، ولفظة ﴿ثُمَّ﴾ تتعلق بالخلق لا بالإرادة، وأما ما حكى عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي، والكلبي ضعيف، وقال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ : قصد إليها، أي بخلقه واختراعه، فهذا قول، وقيل: على دون تكييف ولا تحديد، واختاره الطبري، ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال: استوى بمعنى أنه ارتفع، قال البيهقي: ومراده من ذلك ـ والله أعلم ـ ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء، وقيل: إن المستوي الدخان، وقال ابن عطية: وهذا يأباه وصف الكلام، وقيل: المعنى استولى، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق... من غير سيف ودم مهراق
13. اختلف في قوله تعالى: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ :
أ. قيل: ومن الأرض مثلهن أي في العدد، لان الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والاخبار، فتعين العدد.
ب. وقيل: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ أي في غلظهن وما بينهن.
ج. وقيل: هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض.
14. الصحيح ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ أي في العدد، وأنها سبع كالسماوات سبع:
أ. روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين)، وعن عائشة مثله، إلا أن فيه (من) بدل (إلى)
ب. ومن حديث أبي هريرة(4).: لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين [يوم القيامة] خمسمائة سنة، ثم قال كذلك حتى عد سبع سموات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين ـ ثم قال ـ هل تدرون ما الذي تحتكم) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها الأرض ـ ثم قال ـ هل تدرون ما تحت ذلك) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة) حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ـ ثم قرأ ـ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شي عليم)، قال أبو عيسى: قراءة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، [علم الله وقدرته وسلطانه] في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه، قال هذا حديث غريب، والحسن لم يسمع من أبي هريرة.
ج. الآثار بأن الأرضين سبع كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية، وقد روى أبو الضحى ـ واسمه مسلم ـ عن ابن عباس أنه قال ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12] قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى، قال البيهقي: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لابي الضحى عليه دليلا، والله أعلم.
15. قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ ابتداء وخبر، (ما) في موضع نصب، ﴿جَمِيعًا﴾ عند سيبويه نصب على الحال ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾ أهل نجد يميلون ليدلوا على أنه من ذوات الياء، وأهل الحجاز يفخمون، و ﴿سَبْعَ﴾ منصوب على البدل من الهاء والنون، أي فسوى سبع سموات، ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوي بينهن سبع سموات، كما قال الله عز وجل: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا﴾ [الأعراف: 155] أي من قومه، قال النحاس، وقال الأخفش: انتصب على الحال.
16. قوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ أي بما خلق وهو خالق كل شي، فوجب أن يكون عالما بكل شي، وقد قال ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ ) [الملك: 14] فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته.
17. وافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية، وقالت الجهمية: عالم بعلم قائم لا في محل، تعالى الله عن قول أهل الزيغ والضلالات، والرد على هؤلاء في كتب الديانات.
18. وصف الله تعالى نفسه سبحانه بالعلم فقال: ﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ ) [النساء: 166]، وقال: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ﴾ [هود: 14]، وقال: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ﴾ [الأعراف: 7]، وقال: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ [فاطر: 11]، وقال: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا﴾ ﴾ إِلَّا هُوَ ﴾ [الانعام: 59] الآية.
19. يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء، وكذلك في (حم السجدة)، وقال في النازعات: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ ) [النازعات: 27] فوصف خلقها، ثم قال ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 30]، فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وقال تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ) [الانعام: 1] وهذا قول قتادة: إن السماء خلقت أولا، حكاه عنه الطبري، وقال مجاهد وغيره من المفسرين: إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه فجعله أرضا وثار منه دخان فارتفع، فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وكانت إذ خلقها غير مدحوة.
20. قول قتادة يخرج على وجه صحيح، وهو أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء ثم خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها، ثم دحا الأرض بعد ذلك.
21. مما يدل على أن الدخان خلق أولا قبل الأرض:
أ. ما رواه(4). السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [البقرة: 29] قال إن الله تبارك وتعالى ﴿ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ﴾ ولم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين، في الأحد والاثنين، فجعل الأرض على حوت ـ والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله: ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ [القلم: 1] والحوت في الماء و[الماء، والصفاة على ظهر ملك، والملك على الصخرة، والصخرة في الريح ـ وهي الصخرة التي ذكر لقمان: ليست في السماء ولا في الأرض ـ فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسل عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الأرض، وذلك قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ ) [النحل: 15] وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها وشجرها، وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: ﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ﴾) [فصلت: 9، 10] يقول: من سأل فهكذا الامر، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض، ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ [فصلت: 12] قال خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، قال فذلك حين يقول: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [الحديد: 4] ويقول: ﴿كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ ) [الأنبياء: 30] وذكر القصة في خلق آدم عليه السلام.
ب. ما رواه(4). وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: إن أول ما خلق الله عز وجل من شيء القلم فقال له اكتب، فقال: يا رب وما اكتب؟ قال اكتب القدر، فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة، قال ثم خلق النون فدحا الأرض عليها، فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات، واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال تفخر على الأرض إلى يوم القيامة، ففي هذه الرواية خلق الأرض قبل ارتفاع بخار الماء الذي هو الدخان، خلاف الرواية الاولى، والرواية الاولى عنه وعن غيره أولى، لقوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 30] والله أعلم بما فعل، فقد اختلفت فيه الأقاويل، وليس للاجتهاد فيه مدخل.
ج. ما رواه(5).، وذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها، فألقى في قلبه، فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال! لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع، قال فهم لوثيا بفعل ذلك، فبعث الله دابة فدخلت في منخره، فعج إلى الله منها فخرجت، قال كعب: والذي نفسي بيده، إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت حيث كانت.
22. أصل خلق الأشياء كلها من الماء لما:
أ. رواه ابن ماجة في سننه، وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبى هريرة قال قلت: يا رسول الله، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، أنبئني عن كل شي، قال: كل شي خلق من الماء) فقلت: أخبرني عن شي إذا عملت به دخلت الجنة، قال: أطعم الطعام وأفش السلام وصل الأرحام وقم الليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام)، قال أبو حاتم قول أبي هريرة: أنبئني عن كل شي) أراد به عن كل شي خلق من الماء، والدليل على صحة هذا جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال: كل شي خلق من الماء) وإن لم يكن مخلوقا.
ب. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن أول شي خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شي يكون) ويروى ذلك أيضا عن عبادة بن الصامت مرفوعا، قال البيهقي: وإنما أراد ـ والله أعلم ـ أول شي خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش (القلم)، وذلك بين في حديث عمران بن حصين، ثم خلق السموات والأرض.
ج. ذكر عبد الرزاق بن عمر بن حبيب المكي عن حميد بن قيس الأعرج عن طاووس قال جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله: مم خلق الخلق؟ قال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب، قال الرجل: فمم خلق هؤلاء؟ قال لا أدري، قال ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو، قال فأتى الرجل عبد الله بن عباس فسأله، فقال: مم خلق الخلق؟ قال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب، قال الرجل: فمم خلق هؤلاء؟ فتلا عبد الله بن عباس: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ ) [الجاثية: 13] فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه، أي من خلقه وإبداعه واختراعه، خلق الماء أولا، أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق، ثم جعله أصلا لما خلق بعد، فهو المبدع وهو البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه، سبحانه عز وجل.
23. استدلّ من قال إن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها، كقوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ حتى يقوم الدليل على الحظر، وعضدوا هذا بأن قالوا: إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثا، فلا بد لها من منفعة، وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته، فهي راجعة إلينا، ومنفعتنا إما في نيل لذتها، أو في اجتنابها لنختبر بذلك، أو في اعتبارنا بها، ولا يحصل شي من تلك الأمور إلا بذوقها، فلزم أن تكون مباحة.
24. رد عليهم المخالفون لهم بأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة، بل هو الموجب، ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق، بل قد يستدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين، ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر.
25. توقف آخرون وقالوا: ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه، ولا معين قبل ورود الشرع، فتعين الوقف إلى ورود الشرع.
26. هذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة، وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف، ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء، وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه، قال ابن عطية: وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال لم يخل العقل قط من السمع، ولا نازلة إلا وفيها سمع، أو لها تعلق به، أو لها حال تستصحب، قال فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف.
27. قال أرباب المعاني في قوله: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ لتتقووا به على طاعته، لا لتصرفوه في وجوه معصيته.
28. قال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد.
29. روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب، أن رجلا أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله أن يعطيه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما عندي شي ولكن ابتع علي فإذا جاء شي قضينا) فقال له عمر: هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر، فكره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: بذلك أمرت)
30. خوف الإقلال من سوء الظن بالله، لان الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم، وقال في تنزيله: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾، و﴿ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾ [الجاثية: 13]، فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه، ليكون له عبدا كما خلقه عبدا، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39] وقال: ﴿فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40]، وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: قال الله تعالى: سبقت رحمتي غضبي يا بن آدم أنفق أنفق عليك يمين الله ملأى فيوعى عليك)، وروى النسائي عن عائشة قالت: دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أما تريدين ألا يدخل بيتك شي ولا يخرج إلا بعلمك) قلت: نعم، قال: مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك).
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/249.
(2) نسبه للفراء.
(3) نسبه للبيهقي.
(4) هذا الحديث ظاهر الوضع، وهو معارض للقرآن من نواح متعددة.
(5) هذا الأثر من الإسرائيليات، وهو معارض للقرآن من نواح متعددة.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الاستواء في اللغة: الاعتدال والاستقامة، قاله في الكشاف، ويطلق على الارتفاع والعلوّ على الشيء، قال تعالى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾، وقال: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية.
2. قيل: إن هذه الآية من المشكلات، وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها وترك التعرض لتفسيرها، وخالفهم آخرون.
3. الضمير في قوله: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ مبهم يفسره ما بعده كقولهم: زيد رجلا؛ وقيل: إنه راجع إلى السماء لأنها في معنى الجنس، والمعنى: أنه عدل خلقهنّ فلا اعوجاج فيه.
4. استدلّ بقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾ على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء، وكذلك الآية التي في حم السجدة، وقال في النازعات: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا﴾ فوصف خلقها، ثم قال ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾، فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وكذلك قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ .
5. قيل: إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء ودحوها متأخر، وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد لا بدّ من المصير إليه، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو.
6. الآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء، وهذا يقتضي بقاء الإشكال وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع.
7. قوله تعالى: ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ فيه التصريح بأن السماوات سبع، وأما الأرض فلم يأت في ذكر عددها إلا قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ :
أ. فقيل: أي في العدد.
ب. وقيل: أي في غلظهنّ وما بينهنّ.
ج. وقال الداودي: إن الأرض سبع، ولكن لم يفتق بعضها من بعض.
د. الصحيح أنها سبع كالسماوات، وقد ثبت في الصحيح قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوّقه الله من سبع أرضين) وهو ثابت من حديث عائشة وسعيد بن زيد.
8. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ :
أ. سوّى سطوحهن بالإملاس.
ب. وقيل: جعلهنّ سواء.
9. سؤال وإشكال: هل يدل التنصيص على سبع سماوات، أي: فقط؟ والجواب:
أ. قيل: الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد، وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع.
ب. وقيل: إنه لم يأتنا عن الله ولا عن رسوله إلا السبع فنقتصر على ذلك، ولا نعمل بالزيادة إلا إذا جاءت من طريق الشرع ولم يأت شيء من ذلك، وإنما أثبت لنفسه سبحانه أنه بكل شيء عليم، لأنه يجب أن يكون عالما بجميع ما ثبت أنه خالقه.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/73.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ التفات إلى خطاب المذكورين، مبنيّ على إيراث ما عدّد من قبائحهم السابقة، لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع.
2. الاستفهام إنكاريّ بمعنى إنكار الواقع، واستبعاده، والتعجيب منه، لأن معهم ما يصرف عن الكفر، ويدعو إلى الإيمان تمكّنهم من العلم بهما ـ لما نصب لهم من الدلائل ـ منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر، سيّما وفي الآية تنبيه على ما يدلّ على صحتهما، وهو أنّه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا، قدر على أن يحييهم ثانيا، فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته..!
3. ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ أجساما لا حياة لها عناصر، وأغذية، ونطفا، ومضغا مخلّقة وغير مخلّقة.
4. إطلاق الأموات على تلك الأجسام الجمادية:
أ. إمّا حقيقة ـ بناء على أنّ الميت عادم الحياة مطلقا، كما في قوله تعالى: ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾ [الفرقان: 49] و ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ﴾ [يس: 33]
ب. أو استعارة، جريا على أن إطلاق الميت فيما تصح فيه الحياة، لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس.
5. ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ بخلق الأرواح، ونفخها فيكم، وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه، غير متراخ عنه، بخلاف البواقي ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عندما تقضى آجالكم ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ بالنشور، والبعث، للحساب والجزاء
6. سؤال وإشكال: إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم، لم يعلموا أنّه يحييهم ثم إليه يرجعون، فيكف نظم ما ينكرونه، من الإحياء الأخير والرجع، في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول والإماتة..؟ والجواب:
أ. تمكنهم من العلم بهما ـ لما نصب لهم من الدلائل ـ منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر.. سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما، وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا، قدر على أن يحييهم ثانيا.. فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته..!
ب. أو الخطاب، مع أهل الكتابين.
7. إنكار اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله تعالى إما لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر، أو على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر، أو لإرادة الأمرين جميعا، فإن ما عدده آيات، وهي مع كونها آيات من أعظم النعم.
8. ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى، فإنّها خلقهم أحياء قادرين مرّة بعد أخرى، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم، ويتمّ به معاشهم.
9. معنى ﴿لَكُمْ﴾ لأجلكم، ولانتفاعكم، وفيه دليل على أنّ الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها، مما ينتفع به من غير ضرر، وفي التأكيد بقوله ﴿جَمِيعًا﴾ أقوى دلالة على هذا.
10. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ قال أبو العالية الرياحي: استوى إلى السماء أي: ارتفع، نقله عنه البخاريّ في صحيحه، ورواه محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن الربيع بن أنس، وقال البغويّ: قال ابن عباس وأكثر المفسّرين: ارتفع إلى السماء، وقال الخليل ابن أحمد في ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ : ارتفع، رواه أبو عمرو ابن عبد البر في شرح الموطأ، نقله الذهبيّ في كتاب العلوّ ـ.
11. قال بعض علماء الفلك: السموات السبع ـ المذكورة كثيرا في القرآن ـ هي هذه السيارات السبع، وإنما خصّت بالذكر ـ مع أن السيارات أكثر من ذلك ـ لأنها أكبر السيارات وأعظمها، على أنّ القرآن الكريم لم يذكرها في موضع واحد ـ على سبيل الحصر ـ فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع.
12. قال بعض علماء اللغة: إن العرب تستعمل لفظ سبع، وسبعين، وسبعمائة للمبالغة في الكثرة، فالعدد إذن غير مراد، ومنه آية ﴿سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ [البقرة: 261] وآية ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ [لقمان: 27] وآية ﴿سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ [التوبة: 80]
13. ذهب بعض علماء الفلك(2). إلى أن الحصر في السبع حقيقيّ، وأن المراد به العالم الشمسيّ وحده دون غيره، وعبارته: إن قيل: إن كلّ ما يعلو الأرض ـ من الشمس والقمر والكواكبـ هو سماء، فلما ذا خصّص تعالى عددا هو سبع؟ فالجواب: لا شكّ أنه يشير إلى العالم الشمسيّ ـ الذي أحطنا الآن به علما ـ وأنّ حصر العدد لا يدل على احتمال وجود زيادة عن سبع:
أ. لأن القول بذلك، يخرج تطبيق القرآن على الفلك، لأنّ العلم أثبتها سبعا كالقرآن الذي لم يوجد فيه احتمال الزيادة ـ لأن الجمع يدخل فيه جميع العوالم التي لا نهاية لها ـ حتى يمكن أن يقال: إنّ سبعا للمبالغة ـ كسبعين وسبعمائة ـ ولا يصحّ أن يكون العدد سبعة للمبالغة لأنه قليل جدا بالنسبة إلى العوالم التي تعد بالملايين ـ مثل العالم الشمسيّ ـ
ب. يؤيد الحصر في هذا العدد آية: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [نوح: 15 ـ 16] فأخرج الشمس لأنها مركز وأخرج القمر لأنه تابع للأرض، ولم يبق بعد ذلك إلا سبع.
ج. قال: وبذلك تتجلّى الآن معجزة واضحة جليّة، لأنه في عصر التقدّم والمدنية العربية، حينما كان العلم ساطعا على الأرض بعلماء الإسلام، كان علماء الفلك لا يعرفون من السيارات إلّا خمسا ـ بأسمائها العربية إلى اليوم ـ وهي: عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل، وكانوا يفّسرونها بأنها هي السموات المذكورة في القرآن، ولمّا لم يمكنهم التوفيق بين السبع والخمس، أضافوا الشمس والقمر لتمام العدد، مع أنّ القرآن يصرّح بأنّ السموات السبع غير الشمس والقمر، وذلك في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الرعد: 2]، فلفظ (وسخر) دليل يفصل تعداد الشمس والقمر عن السبع السموات، ولذلك كان المفسّرون ـ الذين لا يعرفون الهيئة ـ لا يرون أن تعدّ الشمس سماء، ولا القمر، لعلمهم أن السموات السبع مسكونة، وأمّا الشمس فنار محرقة، فذهبوا ـ في تفسير السموات ـ على تلك الظنون، ولمّا اكتشف بعد (بالتلسكوب) سيّار لم يكن معلوما، دعوه (أورانوس) ثم سيّر آخر سمّوه (نبتون) ـ صارت مجاميع السيارات سبعا، فهذا الاكتشاف ـ الذي ظهر بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بألف ومائتي سنة ـ دلّ على معجزة القرآن، ونبوّة المنزل عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
د. ثم قال وأمّا كون السموات هي السيارات السبع بدون توابعها، فلا يفهم من الآية، لأن الأقمار التي نثبتها، والنجوم الصغيرة التي مع المريخ، يلزم أن تكون تابعة للسموات السبع ـ لأنها تعلونا ـ وهي في العالم الشمسيّ، وحينئذ، فالسماوات السبع هي مجاميع السيارات السبع، بمعنى: أن مجموعة زحل ـ بما فيها هو نفسه أي مع أقماره الثمانية ـ تعد سماء، لأن فلكها طبقة فوق طبقة فلك مجموعة المشتري، ويدل على هذا التطبيق قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 5] يشير إلى أن السماء الدنيا ـ أي السماء التي تلي الأرض ـ فلك المرّيخ، فهو وما حوله من النجوم العديدة التي تسمى مصابيح، وتعتبر كلها سماء وليس السيّار نفسه.
14. قوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ اعتراض تذييليّ مقرر لما قبله، من خلق السموات والأرض وما فيها ـ على هذا النمط البديع المنطوي على الحكم الفائقة، والمصالح اللائقة، فإن علمه عز وجل بجميع الأشياء يستدعي أن يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق.
15. استدلّ بقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾ على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء، وكذلك الآية التي في (حم السجدة)، وقوله تعالى في سورة (والنازعات) ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 30] إنما يفيد تأخّر دحوّها، لا خلق جرمها، فإنّ خلق الأرض وتهيئتها ـ لما يراد منها ـ قبل خلق السماء، ودحوّها بعد خلق السماء.
16. الدحوّ هو البسط، وإنبات العشب منها، وغير ذلك، مما فسّره قوله تعالى ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾ [النازعات: 31] الآية ـ وكانت قبل ذلك خربة وخالية، على أنّ (بعد) تأتى بمعنى (مع) كقوله ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم: 13] أي: مع ذلك، فلا إشكال، وتقديم الأرض ـ هنا ـ لأنها أدل لشدّة الملابسة والمباشرة، ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ أي: صيّرهن، كما في آية أخرى ﴿فَقَضَاهُنَّ﴾ [فصلت: 12].
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/282.
(2) ذكر ذلك بحسب ما كان عليه العلم في عصره.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ﴾ وبَّخهم الله على ما مضى من كفر واستمراره، وأنكر عليهم لياقته بحال صحَّة ومرض، ويسر وعسر، وعزٍّ وذلٍّ، وغير ذلك من الأحوال، أو ذلك تعجيب، وذلك لقيام البرهان.
2. والخطاب لأهل مكَّة، ونزلت الآيتان فيها، وجعلتا هنا على ترتيب اللوح، أو خطاب لهم من المدينة بعد غيبة تأكيدًا عليهم، كما يغتاب ثمَّ يخاطب مخافة ألَّا يصل الكلام، حاشا لله تعالى ، أو خطاب لكلِّ من كفر، كيف يكفر كافر والحال أنَّه غير موجود ثمَّ وجد كما قال: ﴿وَكُنتُمُ أمْوَاتًا﴾ المراد بالموت نفي الحياة، بقطع النظر عن أن تكون قد تقدَّمت، لا نفيها بعد أن كانت؛ لأنَّ الإنسان لم يكن حيًّا ثمَّ مات، أو أراد أنَّهم كانوا نطفًا والنطفة كانت حيَّة في الإنسان وماتت بالانفصال وحييت في الرحم، أو كنتم كأموات، وعلى كلِّ حال لا يشكل أنَّهم في الجماد لا يوصفون بموت ولا حياة، ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ في الأرحام ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ لآجالكم ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ في قبوركم ويخرجكم ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ للجزاء.
3. ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم﴾ أي: لأجْلِكم، أو ملَّك لكم ﴿مَّا فِي الَارْضِ جَمِيعًا﴾ حتَّى العقارب والحيَّات والسباع، فإنَّكم تنتفعون بها اعتبارًا أو انزجارًا عن عقاب الله، كما تنتفعون بالثمار والمعادن والماء والحيوان، وما في السمِّ نفع لقتل المؤذيات، ولا ينتفع بسمِّ الميتة ولا يباع ولا يشترى بل بسمِّ غيرها وسمِّ المعدن، أو أراد بالأرض ما في جهة السفل، فيشمل الأرض نفسها وما فيها، استدلَّ المعتزلة والفخر بالآية على أنَّ الأشياء قبل ورود الشرع على الحلِّ إن كانت نافعة، وعليه كثير من الشافعيَّة والحنفيَّة، ولا تحتمل الآية أنَّ اللام للضرر مثل: ﴿وَإِنَ اَسَأْتـُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: 7]، ولا دليل على أنَّ المراد بالآية الإباحة على شرط نزول الوحي بها، وقيل: إنَّها قبل الشرع على الحظر، وقيل بالوقف، والأوَّل أولى.
4. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾ بعد خلق الأرض المدلول عليه بخلق ما في الأرض، واستواؤه هنا توجُّه إرادته، واختارَ الجهلَ على العلم مَن وكِل أمرَه إلى الله وقد وجد له تأويلاً، وهلك من قال: إنَّه على ظاهره ولكن بلا كيف، ولا يتمُّ هنا تفسير (استوى) بِمَلَكَ لقوله: ﴿إِلَى﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ﴾ إلَّا بتكلُّف أنَّ (إلى) بمعنى (على)، وقد ملكها قبل، ولا بـ (استولى) لتكلُّف توجيه الغلبة على الجماد، و(ثمَّ) لتراخي الوقت، وإن قلنا: للرتبة فلا نقض بها، والصحيح أنَّ السماء أفضل من الأرض من حيث إنَّها محلُّ الطاعة التي لا معصية معها، والأرض أفضل من حيث إنَّها للأنبياء والرسل، والمؤمن أفضل من الملائكة، والأرض أسبق خلقًا على الصحيح.
5. ﴿إِلَى السَّمَآءِ﴾ أي: إلى إيجادها كما أوجد الأرض، وخلقُ ما في الأرض متأخِّر عن خلق السماء تشخيصًا، لكنَّه متقدِّم ضمنًا بخلق ما يخلق منه الحيوانات ـ مثلاً ـ خَلْقٌ لها، فإنَّ الله جلَّ وعلا خلق الأرض بلا بسط في يومين وخلق السماوات وبسطها في يومين، وبسط الأرض وخلق ما فيها في يومين.
6. ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ أي: صيَّر السماء، أتى بضمير الجماعة لإرادة الجنس ولتعدُّد ما بعده في قوله: ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ كقوله تعالى: ﴿فَإِن كُنَّ نِسَآءً﴾ [النساء: 11]، فمقتضى الظاهر: (وإن كانت)، أي: الأولاد، ولكن قال: ﴿كُنَّ﴾ لقوله: ﴿نِسَآءً﴾، وقدَّم هنا وفي (حم السجدة) ما أخَّر في (النازعات)؛ لأنَّ المقام فيهما للامتنان على المخاطبين، وفي النازعات للقدرة.
7. ومعنى تسويتهنَّ سبعًا: خلقهنَّ من أوَّلٍ مستوياتٍ، كقولك: وسِّع الدار، أي: ابنِها واسعة، و(سَبْعَ) بدل من الهاء عائدة إلى (السَّمَاءِ) أو إلى مبهم مفسَّر به، أو مفعول ثان، لتضمُّن [سَوَّى] معنى صيَّر، وهو ضعيف، أو حال مقدَّرة.
8. ﴿وَهُوَ بِكلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ إجمالاً وتفصيلاً وذواتًا وأحوالاً؛ فمَن قدرتُه وعلمُه ذلك كيف يُجحَدُ؟ أو كيف يُنسب إليه العجز عن إعادة الخلق مع أنَّه خلق السماوات الأرض، وخلق الدخان من الماء قبل الأرض؟ وَلَمَّا خلق الأرض استوى إلى السماء وهي دخان وسوَّاها سبعًا، ثمَّ بسط الأرض وفتقها سبعا، وكان بسطها وفتقها في الأحد والاثنين، وهنَّ بعض فوق بعض كالسماوات، وقيل: بعض بجنب بعض يفصل بينهنَّ البحار وتظِلُّ السماء عليهنَّ.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/69.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الكلام متصل بما قبله ومرتبط به ارتباطا محكما، والخطاب للفاسقين الذين يضلون بالمثل، فإنه وصفهم أولا بنقص العهد الالهي الموثق، وقطع ما أمر به سبحانه أن يوصل، سواء كان الأمر أمر تكوين وهو السنن الكونية، أو أمر تشريع وهو الديانة السماوية.
2. بعد بيان بعض آياته في أنفسهم بذكر المبدأ والمنتهى ذكرهم بآياته في الآفاق، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾، فالكلام على اتصاله وترتيبه وانتظام جواهره في سلك أسلوبه، فليس في قوله كيف تكفرون الخ انتقال لاثبات البعث، كما قال بعض المفسرين، غفلة عن هذا الاتصال المتين، ولعمرى إن وجوه الاتصال بين الآيات، وما فيها من دقائق المناسبات، لهى ضرب من ضروب البلاغة، وفن من فنون الإعجاز، إذا أمكن للبشر الاشراف عليه، فلا يمكنهم البلوغ اليه، والكلام في البعث في القرآن كثير جدا فلا حاجة إلى الاسراع إليه هنا.
3. ثم بعد هذا البيان جاء بهذا الاستفهام التعجيبي عن صفة كفرهم مقترنا بالبرهان الناصع على أنه لا وجه له، ولا شبهة تسوغ الاقامة عليه، فقال ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ أي بأي صفة من صفات الكفر بالله تعالى تأخذون، وعلى أية شبهة فيه تعتمدون، وحالكم في موتتيكم وحياتيكم تأبى عليكم ذلك ولا تدع لكم عذرا فيه؟
4. ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ أي والحال انكم كنتم قبل هذه النشأة الأولى من حياتكم الدنيا أمواتا منبثة اجزاؤكم في الأرض، بعضها في طبقتها الجامدة، وبعضها في طبقتها السائلة، وبعضها في طبقتها الغازية (الهوائية) لا فرق في ذلك بينها وبين أجزاء سائر الحيوان والنبات، فخلقكم أطوارا من سلالة من طين، فكنتم بالطور الأخير في أحسن تقويم، وفضلكم على غيركم بما وهبكم من العقل والادراك، وما سخر لكم من الكائنات.
5. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ بقبض الروح الحى الذي به نظام حياتكم هذه، فتنحل أبدانكم بمفارقته إياها، وتعود إلى أصلها الميت، وتنبث في طبقات الأرض وتدغم في عوالمها، حتى ينعدم هذا الوجود الخاص بها.
6. ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ حياة ثانية كما أحياكم بعد الموتة الأولى بلا فرق الا ما تكون به الحياة الثانية أرقى في مرتبة الوجود وأكمل لمن يزكون أنفسهم في تلك، وأدنى منها وأسفل فيمن يدسونها ويفسدون فطرتها ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
7. لا يقال كيف يحتج عليهم بالحياة الثانية قبل الإيمان بالوحى الذي هو دليلها ومثبتها، لأنه احتجاج على مجموع الناس بما عليه الأكثرون منهم، ولا عبرة بالشذاذ المنكرين للبعث في هذا المقام لأن الاحتجاج بالحياة الأولى بعد الموتة الأولى كاف للتعجب من كفرهم بالله وانكارهم عليه أن يضرب مثلا ما لهداية الناس زعما أن هذا لا يليق بعظمته، فان من أوجد هذا الانسان الكريم، وجعله في أحسن تقويم، وركب صورته من تلك الذرات الصغيرة، والنطفة المهينة الحقيرة، والعلقة الدموية أو الدودية، والمضغة اللحمية.
8. الكلام مسوق لأبطال شبه منكري المثل ﴿لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ والقرآن الذي جاء به، لا لإبطال شبه منكري البعث بلوا مع شهبه، ثم إن تمثيل احدى الحياتين بعد الموت بالأخرى داحض لحجة من يزعم عدم إمكان الثانية، لأن ما جاز في أحد المثلين جاز في الآخر، والكلام في اثبات الوحى الالهي للنبي المرسل من البشر والإيمان بالبعث تابع له.
9. ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فينبئكم بما عملتم، ويحاسبكم على ما قدمتم، ويجازيكم به.. وتراخى الارجاع إلى الله تعالى عن حياة البعث عبارة عن تأخير الحساب والجزاء وطول زمن الوقوف والانتظار كما ورد في حديث الشفاعة العظمى وغيره.
10. فاذا كان هذا شأنكم معه وهذا فضله عليكم، وهذا مبدأ كم وذلك منتهاكم، فكيف تكفرون به وتنكرون عليه أن يضرب لكم مثلا تهتدون به، ويبعث فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من قيام مصالحكم في حياتكم الأولى، وسعادتكم في حياتكم الأخرى؟
11. يصور لنا قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ﴾ قدرته الكاملة، ونعمه الشاملة، وأى قدرة أكبر من قدرة الخالق؟ وأى نعمة أكمل من جعل كل ما في الأرض مهيئا لنا، ومعدا لمنافعنا؟
12. للانتفاع بالأرض طريقان:
أ. أحدهما، الانتفاع بأعيانها في الحياة الجسدية.
ب. ثانيهما، النظر والاعتبار بها في الحياة العقلية.
13. الأرض هي ما في الجهة السفلى، أي ما تحت أرجلنا، كما أن المراد بالسماء كل ما في الجهة العليا أي فوق رؤوسنا وإننا ننتفع بكل ما في الأرض برها وبحرها من حيوان ونبات وجماد، ومالا تصل إليه أيدينا ننتفع فيه بعقولنا بالاستدلال به على قدرة مبدعه وحكمته.
14. التعبير بفي يتناول ما في جوف الأرض من المعادن بالنص الصريح.
15. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ يقال استوى إلى الشيء إذا قصد إليه قصدا مستويا خاصا به لا يلوى على غيره، وقال الراغب إذا تعدى استوى بإلى اقتضى الانتهاء إلى الشيء إما بالذات وإما بالتدبير، والمراد أن إرادته توجهت إلى مادة السماء كما قال في سورة فصلت ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾
16. ثم ختم الآية سبحانه وتعالى بقوله وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي فهو المحيط بكيفية التكوين وحكمته، وبما ينفع الناس بيانه، وإذا كان العاقل يدرك أن هذا النظام المحكم لا يكون إلا من عليم حكيم فكيف يصح له أن ينكر عليه أن يرسل من يشاء من خلقه لهداية من شاء من عباده؟
17. هذا الآخر يتصل بأول الآية في تقرير رسالة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإبطال شبه الذين أنكروا أن يكون البشر رسولا؛ والذين أنكروا أن يكون من العرب رسول، لأن قصارى ذلك كله اعتراض الجاهلين، على من هو بكل شيء عليم.
18. ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ فأتم خلقهن من تلك المادة الدخانية، فجعلهن سبع سموات تامات منتظمات الخلق، وهذا الترتيب يوافق ما كان معروفا عند اليهود عن سيدنا موسى عليه السّلام من أن الله تعالى خلق الأرض أولا، ثم خلق السموات والنور.
19. لا مانع من الأخذ بظاهر الآية، فان الخلق غير التسوية ألا ترى أن الإنسان في طور النطفة والعلقة يكون مخلوقا، ولكنه لا يكون بشرا سويا في أحسن تقويم كما يكون عند انشائه خلقا آخر.
20. قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ يشير إلى أن العالم كان شيئا واحدا ثم فصله الله تعالى بالخلق تفصيلا، وقدره تقديرا، فلا مانع إذن من أن يكون خلق الأرض وما فيها سابقا على تسوية السماء سبعا.
21. هذا من أسرار الخلقة التي لا نعرفها، وربما يتوهم أن هذه الآية تناقض أو تخالف قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء وأنوارها ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ والجواب عنه من وجهين:
أ. أحدهما، أن البعدية ليست بعدية الزمان ولكنها البعدية في الذكر وهى معروفة في كلام العرب وغيرهم فلا بعد في أن تقول فعلت كذا لفلان وأحسنت عليه بكذا، وبعد ذلك ساعدته في عمل كذا كما تقول وزيادة على ذلك ساعدته في عمله، تريد نوعا آخر من أنواع الإحسان، من غير ملاحظة التأخر في الزمان.
ب. ثانيهما، أن الذي كان بعد خلق السماء هو دحو الأرض أي جعلها ممهدة مدحوة قابلة للسكنى والاستعمار لا مجرد خلقها وتقدير أقواتها فيها، وخلق الله وتقديره لم ينقطع من الأرض ولا ينقطع منها مادامت وكذلك يقال في غيرها
22. الدحو في أصل اللغة دحرجة الأشياء القابلة للدحرجة كالجوز والكرى والحصا ورميها، ويسمون المطر الداحي لأنه يدحو الحصى وكذا اللاعب بالجوز، وفى حديث أبى رافع كنت ألاعب الحسن والحسين رضوان الله عليهما بالمداحي وهى أحجار أمثال القرصة كانوا يحفرون ويدحون فيها بتلك الأحجار، فان وقع الحجر فيها غلب صاحبها وان لم يقع غلب، ذكره في اللسان وقال بعده الدحو هو رمى اللاعب بالحجر والجوز وغيره، وأقول إن ما ذكره وأعاد القول فيه من لعبة الدحو بالحجارة المستديرة كالقرصة لا يزال مألوفا عند الصبيان في بلادنا ويسمونه لعب الأكرة، ويحرفها بعضهم فيقول الدكرة، وقال الراغب في مفردات القرآن قال تعالى ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ أي أزالها عن مقرها كقوله ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾ وهو من قولهم دحا المطر الحصى الخ، ولكن فرقا بين دحو الأرض ودحرجتها من مكانها عند التكوين، ورجفها قبيل خرابها عند قيام الساعة، وقد يكون المراد به ـ والله أعلم ـ أنه دحاها عندما فتقها هي والسموات من المادة الدخانية التي كانت رتقا وفيه دلالة أو إشارة ـ على الأقل ـ إلى أنها كرة أو كالكرة في الاستدارة، ولا يبعد أن يكون المراد بدحوها ودحرجتها حركتها بقدرته تعالى في فلكها ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ وهذا لا ينافى ما قيل من أن معناه بسطها أي وسعها ومد فيها؛ وأنه سطحها أي جعل لها سطحا واسعا يعيش عليه الناس وغيرهم، فمن جعل مسألة كرويتها وسطحها أمرين متعارضين يقول بكل منهما قوم يطعنون في الآخرين فقد ضيقوا من اللغة والدين واسعا بقلة بضاعتهم فيهما معا.
23. حاصل القول أن الله تعالى خلق هذه الأرض وهذه السموات التي فوقنا بالتدريج وما أشهدنا خلقهن، وإنما ذكر لنا ما ذكره للاستدلال على قدرته وحكمته وللامتنان علينا بنعمته، لا لبيان تاريخ تكوينهما بالترتيب، لأن هذا ليس من مقاصد الدين، فابتداء الخلق غير معروف ولا ترتيبه إلا أن تسوية السماء سبع سماوات يظهر أنه كان بعد تكوين الأرض، ويظهر أن السماء كانت موجودة إلا أنها لم تكن سبعا، ولذلك ذكر الاستواء إليها وقال: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ فنؤمن بأنه فعل ذلك لحكم يعلمها، وقد عرض علينا ذلك لنتدبر ونتفكر، فمن أراد أن يزداد علما فليطلبه من البحث في الكون، وعليه بدراسة ما كتب الباحثون فيه من قبل، وما اكتشف المكتشفون من شؤونه وليأخذ من ذلك بما قام عليه الدليل الصحيح لا بما يتخرص به المتخرصون، ويخترعونه من الأوهام والظنون، وحسبه أن الكتاب أرشده إلى ذلك وأباحه له.
24. هذه الاباحة للنظر والبحث في الكون بل هذا الإرشاد إليها بالصيغ التي تبعث الهمم وتشوق النفوس ككون كل ما في الأرض مخلوقا لنا محبوسا على منافعنا هو مما امتاز به الاسلام في ترقية الإنسان، فقد خاطبنا القرآن بهذا على حين أن أهل الكتاب كانوا متفقين في تقاليدهم وسيرتهم العملية على أن العقل والدين ضدان لا يجتمعان، والعلم والدين خصمان لا يتفقان، وأن جميع ما يستنتجه العقل خارجا عن نص الكتاب فهو باطل.
25. ولذلك جاء القرآن يلحّ أشد الإلحاح بالنظر العقلي والتفكر والتدبر والتذكر، فلا تقرأ منه قليلا إلا وتراه يعرض عليك الأكوان ويأمرك بالنظر فيها واستخراج أسرارها، واستجلاء حكم اتفاقها واختلافها: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا.
26. إكثار القرآن من شيء دليل على تعظيم شأنه ووجوب الاهتمام به، ومن فوائد الحث على النظر في الخليقة للوقوف على أسرارها بقدر الطاقة، واستخراج علومها لترقية النوع الإنساني الذي خلقت هي لأجلهـ مقاومة تلك التقاليد الفاسدة التي كان عليها أهل الكتاب فأودت بهم وحرمتهم من الانتفاع بما أمر الله الناس أن ينتفعوا به.
27. كانت أوروبا المسيحية في غمرة من الجهل، وظلمات من الفتن، تسيل الدماء فيها أنهارا لأجل الدين، وباسم الدين وللإكراه على الدين، ثم فاض طوفان تعصبها على المشرق ورجعت بعد الحروب الصليبية تحمل قبسا من دين الإسلام وعلوم أهله، فظهر فيهم بعد ذلك قوم قالوا إن لنا الحق في أن نتفكر، وأن نعلم وأن نستدل، فحاربهم الدين ورجاله حربا عوانا انتهت بظفر العلم ورجاله بالدين ورجاله، وبعد غسل الدماء المسفوكة قام منذ مائتي سنة إلى اليوم رجال منهم يسمون هذه المدنية القائمة على دعائم العلم: المدنية المسيحية، ويقولون بوجوب محق سائر الأديان ومحوها بعد انهزامها من امام الدين المسيحي لأنها لا تتفق مع العلم وفى مقدمتها الدين الإسلامي، وحجتهم على ذلك حال المسلمين، نعم إن المسلمين أمسوا وراء الأمم كلها في العلم حتى سقطوا في جاهلية أشد جهلا من الجاهلية الأولى، فجهلوا الأرض التي هم عليها، وضعفوا عن استخراج منافعها، فجاء الأجنبي يتخطفها من بين أيديهم وهم ينظرون؛ وكتابهم قائم على صراطه يصيح بهم ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ـ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ﴾ الآية وأمثال ذلك، ولكنهم ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ إلا من رحم الله، ولو عقلوا لعادوا، ولو عادوا لاستفادوا، وبلغوا ما أرادوا، وها نحن أولاء نذكرهم بكلام الله لعلهم يرجعون، ولا نيأس من روح الله ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾
28. قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ﴾ نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء (ان الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة)، والمراد إباحة الانتفاع بها أكلا وشربا ولباسا وتداويا وركوبا وزينة، وبهذا التفصيل تدخل الأشياء التي يضر استعمالها في بعض الأشياء وينفع في بعض، كالسموم التي يضر أكلها وشربها وينفع التداوي بها.
29. ليس لمخلوق حق في تحريم شيء أباحه الرب لعباده تدينا به إلا بوحيه وإذنه ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ وما يحظره الطبيب على المريض من طعام حلال في نفسه وما يمنع الحاكم العادل الناس من التصرف فيه من المباحات لدفع مفسدة أو رعاية مصلحة ـ فليس من التحريم الديني للشيء ولا يكون دائما، وإنما يتبعان في ذلك كما يأمران به بحق وعدل مادامت علته قائمة.
__________
(1) تفسير المنار: 1/246.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. وجه سبحانه الخطاب في هاتين الآيتين إلى أولئك الفاسقين الذين ضلوا بالمثل بعد أن وصفهم بالصفات الشنيعة من نقض العهد الموثّق، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض.
2. جاء به على طريق التوبيخ والتعجيب من صفة كفرهم بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان الصادّة عن الكفر، وهى النعم المتظاهرة الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، وتركيب صورهم من الذرات المتناثرة، والنطف الحقيرة المهينة، وخلق لهم ما في الأرض جميعا ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها على فنون شتى وطرق مختلفة، وخلق سبع سماوات مزينة بمصابيح ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.. أفبعد هذا كله يكفرون به وينكرون عليه أن يبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويضرب لهم الأمثال ليهتدوا بها في إيضاح ما أشكل عليهم مما فيه أمر سعادتهم في دينهم ودنياهم؟
3. ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ أي على أي حال تكفرون بالله، وعلى أي شبهة تعتمدون وحالكم في موتتيكم وحياتيكم لا تدع لكم عذرا في الكفران به، والاستهزاء بما ضربه من المثل وإنكار نبوة نبيه.
4. ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ أي والحال أنكم كنتم قبل هذه النشأة في الحياة الدنيا أمواتا، أجزاؤكم متفرقة في الأرض، بعض منها في الطبقات الجامدة، وأخرى في الطبقات السائلة، وقسم في الطبقات الغازية، تشركون سائر أجزاء الحيوان والنبات في ذلك، ثم خلقكم في أحسن تقويم وفضلكم على غيركم بنعمة العقل والإدراك والفهم، وتسخير جميع الكائنات الأرضية لكم.
5. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ حين انقضاء آجالكم بقبض الأرواح التي بها نظام حياتكم، وحينئذ تنحل أبدانكم وتعود سيرتها الأولى، وتنبثّ في طبقات الأرض وينعدم هذا الوجود الخاص الذي لها.
6. ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ حياة أخرى أرقى من هذه الحياة، وأكمل لمن زكىّ نفسه وعمل صالحا، ودونها لمن أفسد فطرته، وأهمل التدبر في سنن الكون، وأنكر الإله والرسل وفسق عن أمر ربه.
7. بعد أن عدد سبحانه آياته في الأنفس بذكر المبدأ والمنتهى ـ ذكر آياته في الآفاق الدالة على قدرته المحيطة بكل شيء، وعلى نعمه المتظاهرة على عباده بجعل ما في الأرض مهيأ لهم ومعدّا لمنافعهم فقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ وهذا الانتفاع يكون بإحدى وسيلتين:
أ. إما بالانتفاع بأعيانه في الحياة الجسدية ليكون غذاء للأجسام أو متعة لها في الحياة المعيشية.
ب. وإما بالنظر والاعتبار فيما لا تصل إليه الأيدي فيستدل به على قدرة مبدعه ويكون غذاء للأرواح.
8. بهذا نعلم أن الأصل إباحة الانتفاع بكل ما خلق في الأرض، فليس لمخلوق حق في تحريم شيء أباحه الله إلا بإذنه كما قال ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ .
9. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ السماء كل ما في الجهة العليا فوق رؤوسنا، واستوى إليها أي قصدها قصدا مستويا بلا عاطف يثنيه من إرادة خلق شيء آخر في أثناء خلقها.
10. ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ أي إن هذا النظام المحكم لا يكون إلا من لدن حكيم عليم بما خلق، فلا عجب أن يرسل رسولا يوحى إليه بكتاب لهداية من يشاء من عباده يضرب فيه الأمثال بما شاء من مخلوقاته، جل أو حقر، عظم أو صغر.
11. في الآية إيماء إلى أن خلق الأرض وما فيها كان سابقا على تسوية السموات سبعا، وهذا لا يخالف قوله تعالى: ﴿ أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ؟ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها، وأَغْطَشَ لَيْلَها وأَخْرَجَ ضُحاها، والْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ﴾ لأن كلمة (بعد) فيها بعدية في الذكر لا في الزمان، فمن استعمالاتهم أن يقولوا: أحسنت إلى فلان بكذا، وقدمت إليه المعونة وبعد ذلك ساعدته في عمله، على معنى وزيادة على ذلك ساعدته، أو أن الذي كان بعد خلق السماء هو دحو الأرض: أي تمهيدها للسكنى والاستعمار، لا مجرد خلقها وتقدير الأقوات فيها.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/75.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. عند هذا البيان الكاشف لآثار الكفر والفسوق في الأرض كلها يتوجه إلى الناس باستنكار كفرهم بالله المحيي المميت الخالق الرازق المدبر العليم: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
2. الكفر بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء كفر قبيح بشع، مجرد من كل حجة أو سند.. والقرآن يواجه البشر بما لا بد لهم من مواجهته، والاعتراف به، والتسليم بمقتضياته، يواجههم بموكب حياتهم وأطوار وجودهم، لقد كانوا أمواتا فأحياهم، كانوا في حالة موت فنقلهم منها إلى حالة حياة ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة التي لا تفسير لها إلا بالقدرة الخالقة، إنهم أحياء، فيهم حياة، فمن الذي أنشأ لهم هذه الحياة؟ من الذي أوجد هذه الظاهرة الجديدة الزائدة على ما في الأرض من جماد ميت؟ إن طبيعة الحياة شيء آخر غير طبيعة الموت المحيط بها في الجمادات، فمن أين جاءت؟
3. إنه لا جدوى من الهروب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على العقل والنفس؛ ولا سبيل كذلك لتعليل مجيئها بغير قدرة خالقة ذات طبيعة أخرى غير طبيعة المخلوقات، من أين جاءت هذه الحياة التي تسلك في الأرض سلوكا آخر متميزا عن كل ما عداها من الموات؟.. لقد جاءت من عند الله.. هذا هو أقرب جواب.. وإلا فليقل من لا يريد التسليم: أين هو الجواب! وهذه الحقيقة هي التي يواجه بها السياق الناس في هذا المقام.
4. ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ كنتم أمواتا من هذا الموات الشائع من حولكم في الأرض؛ فأنشأ فيكم الحياة ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ .. فكيف يكفر بالله من تلقى منه الحياة؟
5. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ .. ولعل هذه لا تلقى مراء ولا جدلا، فهي الحقيقة التي تواجه الأحياء في كل لحظة، وتفرض نفسها عليهم فرضا، ولا تقبل المراء فيها ولا الجدال.
6. ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ .. وهذه كانوا يمارون فيها ويجادلون؛ كما يماري فيها اليوم ويجادل بعض المطموسين، المنتكسين إلى تلك الجاهلية الأولى قبل قرون كثيرة، وهي، حين يتدبرون النشأة الأولى، لا تدعو إلى العجب، ولا تدعو إلى التكذيب.
7. ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ .. كما بدأكم تعودون، وكما ذرأكم في الأرض تحشرون، وكما انطلقتم بإرادته من عالم الموت إلى عالم الحياة، ترجعون إليه ليمضي فيكم حكمه، ويقضي فيكم قضاءه.
8. وهكذا في آية واحدة قصيرة يفتح سجل الحياة كلها ويطوى، وتعرض في ومضة صورة البشرية في قبضة البارئ: ينشرها من همود الموت أول مرة، ثم يقبضها بيد الموت في الأولى، ثم يحييها كرة أخرى، وإليه مرجعها في الآخرة، كما كانت منه نشأتها في الأولى.. وفي هذا الاستعراض السريع يرتسم ظل القدرة القادرة، ويلقي في الحس إيحاءاته المؤثرة العميقة.
9. إن كلمة ﴿لَكُمْ﴾ هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق، إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم، خلقه ليكون مستخلفا في الأرض، مالكا لما فيها، فاعلا مؤثرا فيها، إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض؛ والسيد الأول في هذا الميراث الواسع، ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول.
10. الإنسان هو سيد الأرض وسيد الآلة! إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم، وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه، فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه؛ وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان، مهما يحقق من مزايا مادية، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني، فكرامة الإنسان أولا، واستعلاء الإنسان أولا، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة.
11. النعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا ـ وهو يستنكر كفرهم به ـ ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا، ولكنها ـ إلى ذلك ـ سيادتهم على ما في الأرض جميعا، ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعا، هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم.
12. لا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة، والقصد بإرادة الخلق والتكوين.
13. كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا، وتحديد أشكالها وأبعادها، اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص، وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون، الذي سخر لهم الأرض بما فيها، ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة.
14. ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ بما أنه الخالق لكل شيء، المدبر لكل شيء، وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير، حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد، والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد، وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل.
15. يعقب السياق بومضة أخرى مكملة للومضة الأولى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.. ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء، يتحدثون عن القبلية والبعدية، وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود.. ولا يزيدان.
16. ما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية، إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية، وللعقلية الإسلامية الناصعة.. وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة، فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام!
17. نخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعا للإنسان، ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني، وعلى دوره العظيم في الأرض، وعلى قيمته في ميزان الله، وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي؛ وفي نظام المجتمع الإسلامي.
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/53.
الخطيب:
ذكر عبد الكريم الخطيب (ت 1390 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه مواجهة فاضحة مخزية، لأولئك الذين لجّ بهم العناد والضلال، فاستحبّوا العمى على الهدى، وجعلوا لله أندادا، يعبدونهم من دونه.
2. وهذا أمر لا يقيم عليه إلا سفيه، ولا يرضى به إلا سقيم القلب، أعمى البصر والبصيرة.. فالله وحده هو الذي خلق الإنسان من الموات، ثم سوّاه بشرا سويا، ثم يردّه إلى الموات، ثم يعيده مرة أخرى إلى الحياة.. للحساب والجزاء.. فكيف يكون لإنسان أن يتنكر لخالقه، ويعدل وجهه عنه إلى عبادة المخلوقين.. من جماد وغير جماد؟ ذلك ضلال بعيد، وخسران مبين!
3. من ألطاف الخالق العظيم ورحمته بالناس، أن أقام الإنسان على هذه الأرض، ومكّن له من أسباب الحياة فيها، والسيادة، عليها فجعل يده مبسوطة على كل شيء شيء فيها، بما وهبه الله من قوة عاقلة، انفرد بها من بين ما على الأرض من مخلوقات.. وذلك من شأنه ألّا يجعل سبيلا لعاقل أن يعطى ولاءه لغير الله رب العالمين.
4. قد يفهم من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ بعد قوله سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ من هذا أن خلق السموات، جاء تاليا لخلق الأرض، لكن، مع قليل من النظر، يتضح أن ذلك كان بعد خلق السموات والأرض.. فالأرض كانت مخلوقة، ثم خلق الله بعد ذلك، ما فيها من مخلوقات.. وكذلك السماء، كانت قائمة، فجعلها الله سبحانه سبع سماوات، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة، في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾
5. هذا لا يصادم ما يقول به العلم الحديث، من أن الأرض وليدة انفجار في الشمس، تسبب عنه انفصال أجرام منها، وكانت الأرض واحدة من تلك الأجرام! فعوالم السماء مخلوقة قبل الأرض، والأرض مولود من مواليدها!
6. ما جاء في القرآن الكريم عن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، لا مدخل له في تكييف قدرة الله سبحانه وتعالى، وأن ذلك الخلق قد احتاج إلى عمل هذه القدرة ستة أيام، فذلك تحديد لقدرة الله، التي لا يحدّها شيء، ولا يعلق بها قيد من قيود الزمان والمكان ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وأما الأيام الستة التي ذكرها القرآن الكريم في أكثر من موضع زمنا لخلق السموات والأرض، فهي الوعاء الزمنى الذي استكملت فيه السموات والأرض تمام خلقهما، شأنهما في ذلك شأن كل مخلوق.. من حيوان أو نبات أو جماد.. الإنسان ﴿ حَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ﴾ وبعض الحيوانات يتخلق في ساعة أو ما دون الساعة، وبعضها يتخلق في عام أو أكثر من عام، والحبة تكون نبتة في كذا، وشجرة في كذا من الزمن، وهكذا.
7. قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ يشير إلى أن الوعاء الزمنى الذي تم فيه خلق السموات والأرض هو ستة أيام، فقد تخلّفا في هذه الأيام الستة كما تتخلق الكائنات، وتستكمل وجودها، في زمن مقدور لها، تعيش فيه، متنقلة من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، حتى تأخذ الوضع الذي تبلغ به تمامها.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن: 1/48.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ثني عنان الخطاب إلى الناس الذين خوطبوا بقوله آنفا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 21]، بعد أن عقب بأفانين من الجمل المعترضة من قوله: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي﴾ [البقرة: 25] إلى قوله: ﴿الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 27]
2. ليس في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ تناسب مع قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا﴾ [البقرة: 26] وما بعده مما حكى عن الذين كفروا في قولهم: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ [البقرة: 26] حتى يكون الانتقال إلى الخطاب في قوله: ﴿تَكْفُرُونَ﴾ التفاتا، فالمناسبة بين موقع هاته الآية بعد ما قبلها هي مناسبة اتحاد الغرض، بعد استيفاء ما تخلل واعترض.
3. من بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات أن كانت العلل التي قرن بها الأمر بعبادة الله تعالى في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: 21].. هي العلل التي قرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر به تعالى في قوله هنا: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾، فقال فيما تقدم: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21].. ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ [البقرة: 22] الآية، وقال هنا: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [البقرة: 29]، وكان ذلك مبدأ التخلص إلى ما سيرد من بيان ابتداء إنشاء نوع الإنسان وتكوينه وأطواره.
4. الخطاب في قوله: ﴿تَكْفُرُونَ﴾ متعين رجوعه إلى (الناس) وهم المشركون لأن اليهود لم يكفروا بالله ولا أنكروا الإحياء الثاني.
5. (كيف) اسم لا يعرف اشتقاقه يدل على حالة خاصة، وهي التي يقال لها الكيفية نسبة إلى كيف، ويتضمن معنى السؤال في أكثر موارد استعماله، فلدلالته على الحالة كان في عداد الأسماء لأنه أفاد معنى في نفسه إلا أن المعنى الاسمي الذي دل عليه لما كان معنى مبهما شابه معنى الحرف، فلما أشربوه معنى الاستفهام قوي شبهه بالحروف لكنه لا يخرج عن خصائص الأسماء.. فلذلك لا بد له من محلّ إعراب، وأكثر استعماله اسم استفهام فيعرب إعراب الحال، ويستفهم بكيف عن الحال العامة، والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والإنكار بقرينة قوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ أي إن كفركم مع تلك الحالة شأنه أن يكون منتفيا لا تركن إليه النفس الرشيدة لوجود ما يصرف عنه وهو الأحوال المذكورة بعد فكان من شأنه أن ينكر فالإنكار متولد من معنى الاستفهام، ولذلك فاستعماله فيهما من إرادة لازم اللفظ، وكأن المنكر يريد أن يقطع معذرة المخاطب فيظهر له أنه يتطلب منه الجواب بما يظهر السبب فيبطل الإنكار والعجب حتى إذا لم يبد ذلك كان حقيقا باللوم والوعيد.
6. الكفر بضم الكاف مصدر سماعي لكفر الثلاثي القاصر وأصله جحد المنعم عليه نعمة المنعم، اشتق من مادة الكفر بفتح الكاف، وهو الحجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها، وضده الشكر، ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشّكر، وقالوا أيضا كفران على وزن شكران.
7. أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة بناء على أنه أشد صور كفر النعمة إذ الذي يترك عبادة من أنعم عليه في وقت من الأوقات قد كفر نعمته في تلك الساعة إذ توجّه بالشكر لغير المنعم وترك المنعم حين عزمه على التوجه بالشكر، ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة وإن لم يتفطن لذلك، فكان أكثر إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله ولم يرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله، وقل ورود فعل الكفر أو وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: 105]، وقوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44] يريد اليهود.
8. إطلاق الكفر في السنة وفي كلام أئمة المسلمين على الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام وما يدل على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالة لا تحتمل غير ذلك.
9. ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقا على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر، لكن بعض فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله.
10. فرق المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر وفي أن إثبات بعض الصفات الله تعالى أو نفي بعض الصفات عنه تعالى داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى.. وذهب السلف والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين، والقول بتكفير العصاة خطر على الدين لأنه يؤول إلى انحلال جامعة الإسلام ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشدا (أنا الغريق فما خوفي من البلل)
11. لا يكفر أحد بإثبات صفة لله لا تنافي كماله ولا نفي صفة عنه ليس في نفيها نقصان لجلاله فإن كثيرا من الفرق نفوا صفات ما قصدوا بنفيها إلا إجلالا لله تعالى، وربما أفرطوا في ذلك كما نفى المعتزلة صفات المعاني وجواز رؤية الله تعالى، وكثير من الفرق أثبتوا صفات ما قصدوا من إثباتها إلا احترام ظواهر كلامه تعالى كما أثبت بعض السلف اليد والإصبع مع جزمهم بأن الله لا يشبه الحوادث.
12. ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ جملة حالية، وهي تخلص إلى بيان ما دلت عليه (كيف) بطريق الإجمال وبيان أولى الدلائل على وجوده وقدرته وهي ما يشعر به كل أحد من أنه وجد بعد عدم.
13. دل قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ أن هذا الإيجاد على حال بديع، وهو أن الإنسان كان مركب أشياء موصوفا بالموت أي لا حياة فيه، إذ كان قد أخذ من العناصر المتفرقة في الهواء والأرض فجمعت في الغذاء وهو موجود ثان ميت، ثم استخلصت منه الأمزجة من الدم وغيره وهي ميتة، ثم استخلص منه النطفتان للذكر والأنثى، ثم امتزج فصار علقة ثم مضغة كل هذه أطوار أولية لوجود الإنسان وهي موجودات ميتة، ثم بثت فيه الحياة بنفخ الروح، فأخذ في الحياة إلى وقت الوضع فما بعده، وكان من حقهم أن يكتفوا به دليلا على انفراده تعالى بالإلهية.
14. إطلاق الأموات هنا مجاز شائع بناء على أن الموت هو عدم اتصاف الجسم بالحياة سواء كان متصفا بها من قبل كما هو الإطلاق المشهور في العرف أم لم يكن متصفا بها إذا كان من شأنه أن يتصف بها، فعلى هذا يقال للحيوان في أول تكوينه نطفة وعلقة ومضغة ميت لأنه من شأنه أن يتصف بالحياة، فيكون إطلاق الأموات في هذه الآية عليهم حين كانوا غير متصفين بالحياة إطلاقا شائعا، والمقصود به التمهيد لقوله: ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ ثم التمهيد والتقريب لقوله: ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾
15. قال كثير من أئمة اللغة الموت انعدام الحياة بعد وجودها، وهو مختار الزمخشري والسكاكي وهو الظاهر، وعليه فإطلاق الأموات عليهم في الحالة السابقة على حلول الحياة استعارة، واتفق الجميع على أنه إطلاق شائع في القرآن، فإن لم يكن حقيقة فهو مجاز مشهور قد ساوى الحقيقة وزال الاختلاف.
16. الحياة ضد الموت، وهي في نظر الشرع نفخ الروح في الجسم، وقد تعسر تعريف الحياة أو تعريف دوامها على الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين تعريفا حقيقيا بالحد، وأوضح تعاريفها بالرسم أنها قوة ينشأ عنها الحس والحركة وأنها مشروطة باعتدال المزاج والأعضاء الرئيسية التي بها تدوم الدورة الدموية، والمراد بالمزاج التركيب الخاص المناسب مناسبة تليق بنوع ما من المركبات العنصرية، وذلك التركيب يحصل من تعادل قوى وأجزاء بحسب ما اقتضته حالة الشيء المركب مع انبثاث الروح الحيواني، فباعتدال ذلك التركيب يكون النوع معتدلا ولكل صنف من ذلك النوع مزاج يخصه بزيادة تركيب، ولكل شخص من الصنف مزاج يخصه ويتكون ذلك المزاج على النظام الخاص تنبعث الحياة في ذي المزاج في إبان نفخ الروح فيه وهي المعبر عنها بالروح النفساني.
17. أشار إلى هذا التكوين حديث الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح)، فأشار إلى حالات التكوين التي بها صار المزاج مزاجا مناسبا حتى انبعثت فيه الحياة.
18. بدوام انتظام ذلك المزاج تدوم الحياة، وباختلاله تزول الحياة، وذلك الاختلال هو المعبر عنه بالفساد، ومن أعظم الاختلال فيه اختلال الروح الحيواني وهو الدم إذا اختلت دورته فعرض له فساد، وبعروض حالة توقف عمل المزاج وتعطل آثاره يصير الحي شبيها بالميت كحالة المغمى عليه وحالة العضو المفلوج، فإذا انقطع عمل المزاج فذلك الموت، فالموت عدم والحياة ملكة وكلاهما موجود مخلوق قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾
19. ليس المقصود من قوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ الامتنان بل هو استدلال محض ذكر شيئا يعده الناس نعمة وشيئا لا يعدونه نعمة وهو الموتتان فلا يشكل وقوع قوله: ﴿أَمْوَاتًا﴾ وقوله: ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ في سياق الآية.
20. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ :
أ. تفريع عن الاستدلال، وليس هو بدليل إذ المشركون ينكرون الحياة الآخرة فهو إدماج وتعليم وليس باستدلال.
ب. أو يكون ما قام من الدلائل على أن هناك حياة ثانية قد قام مقام العلم بها، وإن لم يحصل العلم فإن كل من علم وجود الخالق العدل الحكيم، ورأى الناس لا يجرون على مقتضى أوامره ونواهيه فيرى المفسد في الأرض في نعمة والصالح في عناء علم أن عدل الله وحكمته ما كان ليضيع عمل عامل وأن هنا لك حياة أحكم وأعدل من هذه الحياة تكون أحوال الناس فيها على قدر استحقاقهم وسمو حقائقهم.
21. قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أي يكون رجوعكم إليه، شبّه الحضور للحساب برجوع السائر إلى منزله باعتبار أن الله خلق الخلق فكأنهم صدروا من حضرته فإذا أحياهم بعد الموت فكأنهم أرجعهم إليه وهذا إثبات للحشر والجزاء.
22. تقديم المتعلّق على عامله مفيد القصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطبين لإفادتهم ذلك إذ كانوا منكرين ذلك وفيه تأييس لهم من نفع أصنامهم إياهم إذ كان المشركون يحاجون المسلمين بأنه إن كان بعث وحشر فسيجدون الآلهة ينصرونهم.
23. قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ إما استدلال ثان على شناعة كفرهم بالله تعالى وعلى أنه مما يقضي منه العجب فإن دلائل ربوبية الله ووحدانيته ظاهرة في خلق الإنسان وفي خلق جميع ما في الأرض فهو ارتقاء في الاستدلال بكثرة المخلوقات.
24. فصل الجملة السابقة:
أ. يجوز أن يكون لمراعاة كمال الاتصال بين الجملتين لأن هذه كالنتيجة للدليل الأول لأن في خلق الأرض وجميع ما فيها وفي كون ذلك لمنفعة البشر إكمالا لإيجادهم المشار إليه بقوله: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: 28] لأن فائدة الإيجاد لا تكمل إلا بإمداد الموجود بما فيه سلامته من آلام الحاجة إلى مقومات وجوده.
ب. يجوز أن يكون ترك العطف لدفع أن يوهم العطف أن الدليل هو مجموع الأمرين، فبترك العطف يعلم أن الدليل الأول مستقل بنفسه.
في الأول بعد، وفي الثاني مخالفة الأصل، لأن أصل الفصل أن لا يكون قطعا على أنه توهم لا يضير.
ج. وإما أن يكون قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ﴾ امتنانا عليهم بالنعم لتسجيل أن إشراكهم كفران بالنعمة أدمج فيه الاستدلال على أنه خالق لما في الأرض من حيوان ونبات ومعادن استدلالا بما هو نعمة مشاهدة كما أشار إليه قوله: ﴿لَكُمْ﴾ فيكون الفصل بين الجملتين كما قرر آنفا، ولم يلتفت إلى ما في هذه الجملة من مغايرة للجملة الأولى بالامتنان لأن ما أدمج فيها من الاستدلال رجح اعتبار الفصل.
25. الأرض اسم للعالم الكروي المشتمل على البر والبحر الذي يعمره الإنسان والحيوان والنبات والمعادن، وهي المواليد الثلاثة، وهذه الأرض هي موجود كائن هو ظرف لما فيه من أصناف المخلوقات.
26. حيث إن العبرة كائنة في مشاهدة الموجودات من المواليد الثلاثة، علق الخلق هنا بما في الأرض مما يحتويه ظرفها من ظاهره وباطنه، ولم يعلق بذات الأرض لغفلة جل الناس عن الاعتبار ببديع خلقها إلا أن خالق المظروف جدير بخلق الظرف، إذ الظرف إنما يقصد لأجل المظروف، فلو كان الظرف من غير صنع خالق المظروف للزم إما تأخر الظرف عن مظروفه، وفي ذلك إتلاف المظروف، والمشاهدة تنفي ذلك، وإما تقدم الظرف وذلك عبث، فاستفادة أنه خلق الأرض مأخوذة بطريق الفحوى، فمن البعيد أن يجوّز صاحب (الكشاف) أن يراد بالأرض الجهة السفلية كما يراد بالسماء الجهة العلوية، وبعده من وجهين:
أ. أحدهما أن الأرض لم تطلق قط على غير الكرة الأرضية إلا مجازا، كما في قول شاعر أنشده صاحب (المفتاح) في بحث التعريف باللام ولم ينسبه هو ولا شارحوه:
الناس أرض بكل أرض... وأنت من فوقهم سماء
بخلاف السماء أطلقت على كل ما علا فأظل، والفرق بينهما أن الأرض شيء مشاهد والسماء لا يتعقل إلا بكونه شيئا مرتفعا.
ب. الثاني على تسليم القياس فإن السماء لم تطلق على الجهة العليا حتى يصح إطلاق الأرض على الجهة السفلى، بل إنما تطلق السماء على شيء عال لا على نفس الجهة.
27. جملة: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ﴾ صيغة قصر، وهو قصر حقيقي سيق للمخاطبين من المشركين الذين لا شك عندهم في أن الله خالق ما في الأرض، ولكنهم نزلوا منزلة الجاهل بذلك، فسيق لهم الخبر المحصور لأنهم في كفرهم وانصرافهم عن شكره والنظر في دعوته وعبادته كحال من يجهل أن الله خالق جميع الموجودات، ونظير هذا قوله: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 17]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج: 73]، فإن المشركين ما كانوا يثبتون لأصنامهم قدرة على الخلق، وإنما جعلوها شفعاء ووسائط وعبدوها وأعرضوا عن عبادة الله حق عبادته ونسوا الخلق الملتصق بهم وبما حولهم من الأحياء.
28. المقصود من الكلام فيما أراه موافقا للبلاغة التذكير بأن الله هو خالق الأرض وما عليها وما في داخلها وأن ذلك كله خلقه بقدر انتفاعنا بها وبما فيها في مختلف الأزمان والأحوال فأوجز الكلام إيجازا بديعا بإقحام قوله: ﴿لَكُمْ﴾ فأغنى عن جملة كاملة، فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة وإظهار عظيم المنة على البشر وإظهار عظيم منزلة الإنسان عند الله تعالى، وكل أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم.
29. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ انتقال من الاستدلال بخلق الأرض وما فيها وهو مما علمه ضروري للناس، إلى الاستدلال بخلق ما هو أعظم من خلق الأرض، وهو أيضا قد يغفل عن النظر في الاستدلال به على وجود الله، وذلك خلق السماوات، ويشبه أن يكون هذا الانتقال استطرادا لإكمال تنبيه الناس إلى عظيم القدرة.
30. الاستواء أصله الاستقامة وعدم الاعوجاج، يقال صراط مستو، واستوى فلان وفلان واستوى الشيء مطاوع سواء، ويطلق مجازا على القصد إلى الشيء بعزم وسرعة كأنه يسير إليه مستويا لا يلوي على شيء فيعدى بإلى فتكون (إلى) قرينة المجاز وهو تمثيل، فمعنى استواء الله تعالى إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها تعلقا يشبه الاستواء في التهيؤ للعمل العظيم المتقن.
31. وزن استوى افتعل لأن السين فيه حرف أصلي وهو افتعال مجازي، وفيه إشارة إلى أنه لما ابتدأ خلق المخلوقات خلق السماوات ومن فيها ليكون توطئة لخلق الأرض، ثم خلق الإنسان وهو الذي سيقت القصة لأجله.
32. السماء إن أريد بها الجو المحيط بالكرة الأرضية، فهو تابع لها متأخر عن خلقها، وإن أريد بها الكواكب العلوية، وذلك هو المناسب لقوله: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ فالكواكب أعظم من الأرض فتكون أسبق خلقا، وقد يكون كل من الاحتمالين ملاحظا في مواضع من القرآن غير الملاحظ فيها الاحتمال الآخر.
33. قوله تعالى: ﴿ سواهن ﴾ أي خلقهن في استقامة، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا ثلم، وبين استوى وسواهن الجناس المحرف.
34. السماء مشتقة من السمو وهو العلو، واسم السماء يطلق على الواحد وعلى الجنس من العوالم العليا التي هي فوق العالم الأرضي والمراد به هنا الجنس بقرينة قوله: ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ إذ جعلها سبعا، والضمير في قوله: ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ عائد إلى (السماء) باعتبار إرادة الجنس لأنه في معنى الجمع وجوز صاحب (الكشاف) أن يكون المراد من السماء هنا جهة العلو، وهو وإن صح لكنه لا داعي إليه كما قاله التفتازانيّ.
35. عد الله تعالى في هذه الآية وغيرها السماوات سبعا وهو أعلم بها، وبالمراد منها إلا أن الظاهر الذي دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السماوات الأجرام العلوية العظيمة، وهي الكواكب السيارة المنتظمة مع الأرض في النظام الشمسي ويدل لذلك أمور(2).:
أ. أحدها: أن السماوات ذكرت في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض وذكر خلقها هنا مع ذكر خلق الأرض فدل على أنها عوالم كالعالم الأرضي وهذا ثابت للسيارات.
ب. ثانيها: أنها ذكرت مع الأرض من حيث إنها أدلة على بديع صنع الله تعالى فناسب أن يكون تفسيرها تلك الأجرام المشاهدة للناس المعروفة للأمم الدال نظام سيرها وباهر نورها على عظمة خالقها.
ج. ثالثها: أنها وصفت بالسبع وقد كان علماء الهيئة يعرفون السيارات السبع من عهد الكلدان وتعاقب علماء الهيئة من ذلك العهد إلى العهد الذي نزل فيه القرآن فما اختلفوا في أنها سبع.
د. رابعها: أن هاته السيارات هي الكواكب المنضبط سيرها بنظام مرتبط مع نظام سير الشمس والأرض، ولذلك يعبر عنها علماء الهيئة المتأخرون بالنظام الشمسي فناسب أن تكون هي التي قرن خلقها بخلق الأرض.
36. فسر بعضهم السماوات بالأفلاك وهو تفسير لا يصح لأن الأفلاك هي الطرق التي تسلكها الكواكب السيارة في الفضاء، وهي خطوط فرضية لا ذوات لها في الخارج.
37. ذكر الله تعالى السماوات سبعا هنا وفي غير آية، وقد ذكر العرش والكرسي بما يدل على أنهما محيطان بالسماوات، وجعل السماوات كلها في مقابلة الأرض، وذلك يؤيد ما ذهب إليه علماء الهيئة من عد الكواكب السيارة تسعة، وهذه أسماؤها على الترتيب في بعدها من الأرض: نبتون، أورانوس، زحل، المشتري، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، بلكان.. والأرض في اصطلاحهم كوكب سيار، وفي اصطلاح القرآن لم تعد معها لأنها التي منها تنظر الكواكب وعد عوضا عنها القمر وهو من توابع الأرض فعده معها عوض عن عد الأرض تقريبا لأفهام السامعين.. وأما الثوابت فهي عند علماء الهيئة شموس سابحة في شاسع الأبعاد عن الأرض وفي ذلك شكوك، ولعل الله لم يجعلها سماوات ذات نظام كنظام السيارات السبع فلم يعدها في السماوات أو أن الله إنما عد لنا السماوات التي هي مرتبطة بنظام أرضنا.
38. قوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ نتيجة لما ذكره من دلائل القدرة التي لا تصدر إلا من عليم، فلذلك قال المتكلمون: إن القدرة يجري تعلقها على وفق الإرادة، والإرادة على وفق العلم، وفيه تعريض بالإنكار على كفرهم والتعجيب منه فإن العليم بكل شيء يقبح الكفر به.
39. هذه الآية دليل على عموم العلم وقد قال بذلك جميع الملّيّين كما نقله المحقق السلكوتي في (الرسالة الخاقانيّة) وأنكر الفلاسفة علمه بالجزئيات، وزعموا أن تعلق العلم بالجزئيات لا يليق بالعلم الإلهي، وهو توهم لا داعي إليه.
40. عطفت (ثمّ) جملة (استوى) على جملة ﴿خَلَقَ لَكُمْ﴾، ولدلالة (ثمّ) على الترتيب والمهلة في عطف المفرد على المفرد كانت في عطف الجملة على الجملة للمهلة في الرتبة وهي مهلة تخييلية في الأصل تشير إلى أن المعطوف بثم أعرق في المعنى الذي تتضمنه الجملة المعطوف عليها حتى كأنّ العقل يتمهل في الوصول إليه بعد الكلام الأول فينتبه السامع لذلك كيلا يغفل عنه بما سمع من الكلام السابق، وشاع هذا الاستعمال حتى صار كالحقيقة، ويسمى ذلك بالترتيب الرتبي وبترتب الإخبار (بكسر الهمزة) كقوله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد: 11 ـ 13] إلى أن قال ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: 17] فإن قوله: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ خبر مبتدأ محذوف ولما كان ذكر هاته الأمور التي يعز إيفاؤها حقها مما يغفل السامع عن أمر آخر عظيم نبه عليه بالعطف بثم للإشارة إلى أنه آكد وأهم، ومنه قول طرفة بن العبد يصف راحلته:
جنوح دفاق عندل ثم أفرعت... لها كتفاها في معالى مصعّد:
لا يكشف الغمّاء إلّا ابن حرّة... يرى غمرات الموت ثم يزورها
إن ثم وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذلك، وذكر قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وإفادة التراخي الرتبي هو المعتبر في عطف ثم للجمل سواء وافقت الترتيب الوجودي مع ذلك أو كان معطوفها متقدما في الوجود.
41. جاء في الكلام الفصيح ما يدل على معنى البعدية مرادا منه البعدية في الرتبة وإن كان عكس الترتيب الوجودي فتكون البعدية مجازية مبنية على تشبيه البون المعنوي بالبعد المكاني أو الزماني ومنه قوله تعالى: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم: 11 ـ 13] فإن كونه عتلا وزنيما أسبق في الوجود من كونه همّازا مشاء بنميم لأنهما صفتان ذاتيتان بخلاف هماز مشاء بنميم، وكذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: 4]، فإذا تمحضت ثم للتراخي الرتبي حملت عليه وإن احتملته مع التراخي الزمني فظاهر قول المرزوقي: فإنه في عطف الجملة ليس كذلك) إنه لا يحتمل حينئذ التراخي الزمني، ولكن يظهر جواز الاحتمالين وذلك حيث يكون المعطوف بها متأخرا في الحصول على ما قبلها وهو مع ذلك أهم كما في بيت جعفر بن علبة، قلت وهو إما مجاز مرسل أو كناية، فإن ألقت (ثم) وأريد منها لازم التراخي وهو البعد التعظيمي كما أريد التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للبعيد، والعلاقة وإن كانت بعيدة إلا أنها لشهرتها في كلامهم واستعمالهم ومع القرائن لم يكن هذا الاستعمال مردودا.
42. هذا الاستعمال أكثر ما يرد فيما إذا كانت الجمل إخبارا عن مخبر عنه واحد بخلاف ما إذا اختلف المخبر عنه فإن (ثم) تتعين للمهلة الزمنية كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 84، 85] أي بعد أن أخذنا الميثاق بأزمان صرتم تقتلون أنفسكم ونحو قولك: مرت كتيبة الأنصار ثم مرت كتيبة المهاجرين، فأما هذه الآية فإنه إذا كانت السماوات متأخرا خلقها عن خلق الأرض فثم للتراخي الرتبي لا محالة مع التراخي الزمني وإن كان خلق السماوات سابقا فثم للترتيب الرتبي لا غير، والظاهر هو الثاني.
43. جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض:
أ. قال الجمهور منهم مجاهد والحسن ونسب إلى ابن عباس إن خلق الأرض متقدم على خلق السماء لقوله تعالى هنا: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ وقوله في سورة حم السجدة [9 ـ 11]: ﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ إلى أن قال ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾
ب. وقال قتادة والسدي ومقاتل إن خلق السماء متقدم واحتجوا بقوله تعالى: ﴿بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ إلى قوله: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 27 ـ 30]، وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولا ثم خلقت السماء ثم دحيت الأرض فالمتأخر عن خلق السماء هو دحو الأرض، على ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتى جمدت وتكونت منها قشرة جامدة ثم تشققت وتفجرت وهبطت منها أقسام وعلت أقسام بالضغط إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة متناهية الطول وقدرة الله صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه.
44. أرجح القولين هو أن السماء خلقت قبل الأرض لأن لفظ ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ أظهر في إفادة التأخر من قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي، وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض، وأحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات أسلوب الإجمال في هذا الغرض لقطع الخصومة بين أصحاب النظريتين.
45. لام التعليل دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس، وفي هذا تعليل للخلق، وبيان لثمرته وفائدته فتثار عنه مسألة تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض، والمسألة مختلف فيها بين المتكلمين.
46. الخلاف في مسألة تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض اختلاف يشبه أن يكون لفظيا، فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار، وعلى وفق علمه، وأن جميعها مشتمل على حكم ومصالح، وأن تلك الحكم هي ثمرات لأفعاله تعالى ناشئة عن حصول الفعل، فهي لأجل حصولها عند الفعل تثمر غايات، هذا كله لا خلاف فيه وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضا وعللا غائية أم لا:
أ. فأثبت ذلك جماعة استدلالا بما ورد من نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]
ب. ومنع من ذلك أصحاب الأشعري مستدلين بأن الذي يفعل لغرض يلزم أن يكون مستفيدا من غرضه ذلك ضرورة أن وجود ذلك الغرض أولى بالقياس إليه من عدمه، فيكون مستفيدا من تلك الأولوية ويلزم من كون ذلك الغرض سببا في فعله أن يكون هو ناقصا في فاعليته محتاجا إلى حصول السبب.. وقد أجيب بأن لزوم الاستفادة والاستكمال إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل، وأما إذا كانت راجعة للغير كالإحسان فلا، فردّه الفخر بأنه إذا كان الإحسان أرجح من غيره وأولى لزمت الاستفادة، وهذا الرد باطل لأن الأرجحية لا تستلزم الاستفادة أبدا بل إنما تستلزم تعلق الإرادة، وإنما تلزم الاستفادة لو ادعينا التعين والوجوب.
47. الحاصل أن الدليل الذي استدلوا به يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين(3).:
أ. أولاهما قولهم إنه لو كان الفعل لغرض للزم أن يكون الفاعل مستكملا به، وهذا سفسطة شبّه فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل، والراجع إلى ما يناسبه من الكمال لا توقف كماله عليه.
ب. الثانية قولهم إذا كان الفعل لغرض كان الغرض سببا يقتضي عجز الفاعل وهذا شبه فيه السبب الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم وكلاهما يطلق عليه سبب.
48. من العجائب أنهم يسلمون أن أفعال الله تعالى لا تخلو عن الثمرة والحكمة ويمنعون أن تكون تلك الحكم عللا وأغراضا مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضا لأنها تكون داعيا للفعل ضرورة تحقق علم الفاعل وإرادته، ولم أدر أي حرج نظروا إليه حين منعوا تعليل أفعال الله تعالى وأغراضها.
49. هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة، فإن الأشاعرة لما أنكروا وجوب فعل الصلاح والأصلح أورد عليهم المعتزلة أو قدّروا هم في أنفسهم أن يورد عليهم أن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لغرض وحكمة ولا تكون الأغراض إلا المصالح فالتزموا أن أفعال الله تعالى لا تناط بالأغراض ولا يعبر عنها بالعلل وينبئ عن هذا أنهم لما ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة.
50. وهنالك سبب آخر لفرض المسألة وهو التنزه عن وصف أفعال الله تعالى بما يوهم المنفعة له أو لغيره وكلاهما باطل لأنه لا ينتفع بأفعاله ولأن الغير قد لا يكون فعل الله بالنسبة إليه منفعة.
51. هذا وقد نقل أبو إسحاق الشاطبي في (الموافقات) عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن أحكام الله تعالى معللة بالمصالح ودرء المفاسد، وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في (تفسيره) فقال: هذا هو تعليل أفعال الله تعالى وفيه خلاف وأما أحكامه فمعللة)
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/368.
(2) ذكر ذلك بحسب ما أتيح له من المعلومات الفلكية.
(3) التحرير والتنوير: 1/375.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إن الكافرين يتعجبون من ضرب الأمثال، ويقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ وحالهم عجب لأنهم يرون المحسوس الذي يدفعهم إلى الإيمان بالله الذي خلق السموات والأرض ومن فيهن، ومع ذلك يكفرون ولا يؤمنون، ولقد وبخهم الله سبحانه وتعالى أبلغ توبيخ.
2. ﴿كَيْفَ﴾ يستفهم بها للحال، والمعنى كيف حالكم وبعدكم عن الإدراك والحق وأنتم تكفرون بالله الذي أنشأكم وأخرجكم من الموت إلى الحياة!؟ إنكم ترون أن الطفل يولد، ويجيء من غيب الله تعالى، وترونه يشب غلاما فصبيا فشابا فكهلا فشيخا فيموت ثم يقبر ثم تكون الحياة بعد ذلك، ترون الأمور الثلاثة؛ الأولى موت، ثم حياة، ثم موت، أفلا يكون بالقياس على البدء بالموت ثم الحياة ثم الموت أن نحييكم تارة أخرى؟ وقد قدر سبحانه على الأمور الأولى، أفلا يقدر على الأخيرة؟
3. الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لا لإنكار الوقوع، والفرق بينهما أن إنكار الوقوع معناه النفي وهو لا يصلح هنا، وأما إنكار الواقع فمعناه التوبيخ أبلغ التوبيخ على ما وقع، فقد وقع ذلك الأمر الغريب، وهو أنهم يكفرون أو يجحدون بالله بألا يعبدوه وحده، وهو الذي خلقهم، فأحياهم، وقد كانوا أمواتا، وذلك محسوس مرئي، وأوثانهم لم تصنع شيئا من هذا ولا يمكن أن تفعل.
4. معنى الموت الأول الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ هو أنهم كانوا عدما ليست فيهم حياة، أو كانوا أجساما جامدة هي الطين، أو نطفا في بطون الأمهات ثم مضغا مخلّقة وغير مخلّقة، فجعلكم أحياء.
5. سؤال وإشكال: كيف يطلق على الجماد أنه ميت، مع أن الموت أمر نسبى تكون قبله حياة، ثم تسلب هذه الحياة فيكون الموت، والجماد لم تسبقه حياة، حتى يكون من بعدها موت؟ والجواب: إن الموت لا يقتضى وجود حياة سابقة، بل يطلق على الجماد ذاته، فيقال: أرض موات، وأرض ميتة، وإحياؤها يكون بوجود الغيث وإنباتها النبات بإذن الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾، فقوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ أَمْواتاً ﴾، أي كنتم لا حياة فيكم فأحياكم فخلق التراب ثم أنشأكم منه، فأحياكم فأفاض عليكم بالحياة، وهم قبل هذا الإحياء لم يكونوا شيئا مذكورا كما قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾
6. قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ خطاب لهم بالانتقال من الغيبة إلى الخطاب، وهو دال على أن ذلك يعلمونه بالعيان والحس، لا بمجرد التصور والتفكر، ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾
7. ﴿ثُمَّ﴾ هنا للتراخي لأنه بعد الإحياء يعيش أجلا محدودا، ثم يموت، و ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾، ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ بالبعث والنشور، ثم تكون القيامة، ثم إليه سبحانه ترجعون، وذلك هو مدلول قوله تعالى في آية أخرى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا﴾، وإنه أخذ من الواقع الذي يحسونه، دليلا على وقوع ما ينتظرهم، وينتظرونه، وهو البعث، فإذا كان سبحانه وتعالى أنشأ من العدم حياة ثم سلبها، فإنه قادر على إعادتها، ولكنهم يؤمنون بالحس وحده، ولا يؤمنون بالغيب الذي لا يحسّون.
8. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ثم هنا للتراخي أي بعد أن يقضوا حياتهم، ويموتوا ويدفنوا في قبورهم يرجعون ليحاسبهم على ما قدموا من عمل، فإن خيرا فخير، وإن شرا فالعذاب.
9. تقديم ﴿إِلَيْهِ﴾ على ﴿تُرْجَعُونَ﴾ للإشارة إلى أنه وحده هو الذي إليه يرجعون، لا إلى آلهتهم التي يتوهمون بأوهامهم فيها قدرة، ولا قدرة، فالرجوع إليه سبحانه وتعالى.
10. إن الله تعالى خلق الخلق، وأحياهم بعد العدم، ولم يتركهم، بل أنعم عليهم بالأرض وخيراتها، وكل ثمراتها، وسخر لهم ما في السموات والأرض، ومع ذلك كفروا بربهم الذي أولاهم الحياة، وأولاهم نعم الوجود؛ ولذلك قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾، أي أنه سبحانه وتعالى خلق لكم معشر بنى آدم الأرض، وما فيها جميعا، خلق لكم كل ما في الأرض من ثمرات وزروع تنبت بإذن الله تعالى، وما يستنبطون من فلزات، ومعادن سائلة وجامدة، خلق لكم جميعا، كل ما في الأرض مما حوت بطونها، وجرت به أنهارها، ونزّل من السماء ماءها.
11. معنى ﴿لَكُمْ﴾ اللام فيه للاختصاص أو التمليك، خلقه مملوكا لكم بتمليك ربكم، وهذا من آلائه ونعمه عليكم، أو نقول خلق وقدّر وأنشأ كل ما في الأرض جميعه، لأجل أن تنتفعوا به؛ تستطيبون طيباته، وتتركون خبائثه، وجاءكم بالشرائع التي تبين لكم الطيب فتتناولونه مباحا لكم حلالا طيبا، وتبين الخبائث لتجتنبوها، فأنتم في نعم الله دائما في هذه الأرض، جعلها فراشا، وملأها بالنعم على ظاهرها، وفيما اكتنزته بطونها، وبين الطيب ليميز عنه الخبيث.
12. قوله تعالى: ﴿جَمِيعًا﴾ متعلقة بما في الأرض أي أنه جميعه لكم معشر الناس، فليس لكم بعضه دون بعضه، بل هو لكم كله، لأجلكم، تنعمون به، وتعبدون الله تعالى على آلائه، فهو يؤدى إلى أن تكون هذه الملكية التي منحها الله تعالى لكم لتشكروها، ولتعبدوه بهذا الشكر، كقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
13. قوله تعالى: ﴿جَمِيعًا﴾ ليست تأكيد لقوله تعالى: ﴿لَكُمْ﴾، أي أن الله تعالى خلق الأشياء لكم جميعا، فلا ينفرد قبيل دون قبيل، ولا جماعة دون جماعة، ولا قوم دون قوم، ولا غنى دون فقير، لأن ذلك بعيد في اللفظ لأن التأكيد يكون للقريب، والقريب هنا هو ما في الأرض كله للناس، يتخيرون منه، ولا يطلبون خبيثه، فلا يؤكد اللفظ إلا ما يقترن به من القول، فلا يفصل بين المؤكّد والمؤكّد، وعلى أي حال فإنه بمقتضى عموم قوله تعالى: ﴿لَكُمْ﴾ أن الخلق لكم كلكم، وهذه الكلية التي تعم الناس أجمعين ثابتة بعموم الخطاب، لا بلفظ ﴿جَمِيعًا﴾
14. ليس معنى أن ما في الأرض لهم كلهم، أن يتقاسموه، وأن يأخذوا الخير جميعهم مقسما، من غير تمييز بين عامل وخامل، ولا بين موفق وغير موفق، إنما لكل امرئ عمله، ولكل امرئ ما كسب.
15. لا تقتضى الكلية أن يتساوى الناس في أرزاقهم، فإن الرزق يمنحه الله تعالى لمن يعمل ويكسب، ولكن يتساوى الناس في تمكينهم من الأرض، وكلّ وما يكسبه، والله هو الغنى الحميد.
16. كما ملّك الله تعالى عبيده كل ما في الأرض لكلّهم عاملين فيه جادين، سخر لهم ما في السموات والأرض؛ ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر نعمة الأرض عليهم بما فيها، قال تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
17. استوى معناها قصد مرتفعا، أو ارتفع إلى السماء، وهى في هذه الآية ما علا، وكان كالسقف المحفوظ، فسوى السموات سبعا أي جعلها سبعا؛ ولأن السماء، وهى الجهة العالية واحدة في لفظها متضمنة السبع التي سواهن الله سبحانه وتعالى في معناها؛ ولذا أعاد الضمير عليها بما يدل على الجمع الذي يشمل أفرادا متعددين.
18. المراد من السموات السبع التي سواهن الله تعالى أي خلقهن، أو قسمهن وجعلهن سبعا متساوية، فمعنى سواهن: قسمهن بالتسوية سبعا، وهى مجموعات النجوم المتطابقة طبقة بعد طبقة، الواحدة أعلى من الدنيا وهكذا.
19. كان الشائع بين علماء الفلك خمسا، لا سبعا، ولكن بعد عصر القرآن بنحو أربعة عشر قرنا إلا قليلا كشفوا بآلات الكشف الحديثة نجمين كوكبين دلا على أنها سبع، وهى: عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشترى، وزحل، وكشف أورانوس ثم نبتون، وكل كوكب في طبقة من السماء، والشمس والقمر ليسا من السبع، وهذا قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ فبمقتضى هذا النص تكون الشمس والقمر ليسا من السموات السبع اللائي عدهن القرآن الكريم، وإن كانتا في السماء، وتسمى السبع المجموعة الشمسية، والشمس في طبقة أعلى منهن.
20. بعض المفسرين أو كثيرين منهم قال إن كلمة سبع سماوات، لا يراد بها العدد المحدود المذكور، إنما يراد بها الكثرة من الأعداد، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، فإنه ليس المراد والله أعلم سبعة أبحر، إنما المراد عدد من الأبحر كثير.. ومثله قوله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ فالسبع، والسبعون يراد بها الكثرة، ولا يراد بها عدد محدود بالسبعة أو السبعين.. وإن لذلك القول بجوار ما قلنا مكانه من الحق، فإن السماء ذات أبراج، وإن الشمس في أعلى طبقاتها، وفوقها شموس، وفى السديم علو لا يعلمه إلا الله تعالى.
21. ختم الله تعالى الآية الكونية بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ أي أن الله تعالى خالق الكون وربه ومدبر أمره عليم به علم من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وعلم من أنشأ وكوّن وقدر ودبر، وقد ابتدأ العبارة السامية، بلفظ الجلالة لتربية المهابة في نفس التالي للكتاب، وأكد علمه السرمدي، بثلاثة مؤكدات:
أ. بالجملة الاسمية التي تدل على دوام العلم وثباته؛ لأنه علم أزلي دائم لا يجرى عليه ما يجرى على الناس.
ب. وأكده سبحانه وتعالى بذكر الإحاطة التامة بكل شيء.
ج. وأكده سبحانه بذكر صفة من صفاته فقال: ﴿عَلِيمٌ﴾، سبحان من أحاط بكل شيء علما، وسبحان من عنت له الوجوه.
22. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ﴾، يدل بظاهره في العطف بثم على أن السموات سويت سبعا بعد خلق الأرض، ولكن لا يدل على ذلك دلالة قاطعة، فإن التعبير بثم يدل على الترتيب البياني في الذكر ولا يدل على الترتيب الواقعي، فإن الآيات قد تدل على غيره، وإنا نقرر أن الزمن لا يحكم أفعال الله تعالى؛ فكما أنه تعالى لا يكون في مكان، فأفعاله تعالى فوق الأزمان.
23. جاء النص الكريم بأن الأرض أخذت من السماء، وكانتا رتقا، أو شيئا واحدا، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾، وقال تعالى في بيان خلق السماء والأرض: ﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها ولِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾.
24. سؤال وإشكال: قد يقال: أنك نفيت الزمان عن أفعال الله تعالى، وقد ذكر سبحانه أنه خلق الأرض في يومين، وأنه جعلها على ما هي عليه في أربعة أيام، وأنه قضى السموات في يومين، فكيف تنفى الزمان عن خالق الزمان والليل والنهار؟ والجواب: إن اليوم ليس هو اليوم الذي نعده بالغروب والشروق بأن تدور الأرض حول الشمس دورة تبتدئ بشروق الشمس، وتنته بغروبها أو العكس، فإن ذلك تقدير نسبى بين الأرض والشمس، وما كانتا قد خلقتا، كما يدل صريح القرآن، إنما اليوم هنا المراد به الدور التكويني، وإذا أردنا أن نتصور الدور التكويني، فإننا نتصور على ضوء العلم أن الأرض انفصلت عن الكتلة الشمسية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء] فهذا يوم، أي دور تكويني، هو دور انفصال الأرض عن الكتلة الشمسية، وعند هذا الانفصال تكونت بإرادة الله تعالى وقدرته القاهرة، وإرادته المسيطرة القشرة الأرضية، وهذا هو اليوم الثاني، أو الدور الثاني، وقد بين سبحانه وتعالى، الأدوار الأربعة بعد ذلك.
25. ما قرره العلماء من أن هذه الآية تدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ثبت بالدليل منعه، فكل شيء مباح بحكم الإباحة الأصلية التي ثبتت بأن الله تعالى خلق للناس ما في الأرض جميعا لينتفعوا به، وما كانوا لينتفعوا بهذه الأشياء إلا إذا كان قد أباحها.
26. استثنى الأكثرون العلاقة بين الرجل والمرأة، فإنها على المنع إلا أن يكون السبب المبيح، وإن ذلك لا يمنع أن الأشياء مباحة في أصلها، فالتنظيم بالزواج لا يمنع الإباحة.
27. إن الأمر فيما، يطلبون متروك عند الإباحة إلى ما يجدون من متعة يستمتعون بها أو أمرا حسنا يستحسنونه، وهذا مبنى على أن الأشياء لها حسن ذاتي وقبح.. وهذا لا يستلزم أن يكون التكليف قائما على الاستحسان أو الاستهجان، إنما التكليف من أمر الله ونهيه.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/185.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الظاهر من سياق الكلام ان الخطاب في هاتين الآيتين موجه الى من لا يجدي معه ضرب الأمثال شيئا، ولكنه في واقعه يشمل كل من كفر بالله، مع وجود هذه الدلائل والبراهين التي لا يبلغها الإحصاء، منها هذا الكافر الجاحد، فإنه هو بالذات برهان واضح على وجود خالقه، وإلا فمن الذي أوجده على هذا النظام الدقيق، ووضع كل شيء منه في مكانه الخاص به من خلايا المخ والقلب، الى الأمعاء والكبد، الى السمع والبصر، الى الاطراف والشرايين، الى ما لا نهاية.. وكل يؤدي مهمته بدقة بالغة دون تعهد واشراف من مخلوق.. وأيضا من أين جاء هذا الفهم والعقل الذي به قرّب البعيد، وسهل العسير، وجمع ما في الأرض في بيت واحد، ثم ارتقى ووضع آثاره ومعالمه على سطح القمر.. فهل هذا وغير هذا جاء صدفة وعفوا؟ وهل في خصائص الأشياء ما يؤدي الى هذا التنسيق والتنظيم؟ وهل يستطيع العلم ان يجيب على ذلك؟ وبالأصح هل الاجابة عنه من اختصاص العلم التجريبي؟.. وحاول من حاول أن يجيب.. ولكن تولد من سؤاله ألف سؤال وسؤال.
2. نحن لا ننكر أبدا ان علماء الطبيعة قد توصلوا الى حقائق باهرة مذهلة في الطب والزراعة والصناعة.. ولكن علماء الحياة ما زالوا ينظرون في فراغ، وهم يبحثون عن سرها وأصلها، ولا شيء لديهم سوى ظنون لا تغني عن الحق شيئا.. وبديهة ان كل ما تعجز الطبيعة عن تفسيره يتحتم تفسيره بما وراءها.
3. إذا كان وجود الإنسان هو البرهان القاطع على وجود الله سبحانه، فكيف ساغ لهذا البرهان أن يجحد الدلالة الملازمة له؟ كيف ساغ للفصيح البليغ أن يجحد فكرة الفصاحة والبلاغة من الأساس؟ وهنا يكمن سر التعجب في قوله سبحانه: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ أي ما أعجب أمركم وكفركم بالله، وأنتم بالذات الدليل الواضح القاطع على وجوده.. ومهما أنكرتم وكابرتم، فهل تستطيعون أن تنكروا وتكابروا في انكم لم تكونوا شيئا من قبل، فصرتم شيئا يسمع ويرى، ويحس ويدرك، ويقول ويفعل؟ أليس هذا دليلا ناطقا بوجود القوة الخالقة؟.. حقا ان الإنسان لظلوم كفّار.. وما كفره بوجود الله الا كفر وجهل بوجوده هو.. ومن جهل نفسه فأولى به أن ينكر ويجهل غيره.. وبهذا نجد تفسير الحديث الشريف: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه)
4. سؤال وإشكال: أي عاقل ينكر وجود نفسه؟ وهل يعقل ذلك؟ والجواب: أن الدليل يستلزم المدلول، وانكار اللازم يستدعي حتما انكار الملزوم، فمن أنكر دلالة الألفاظ ـ مثلا ـ على ما وضعت له من المعاني فقد أنكر الألفاظ بالذات، من حيث يريد أو لا يريد، ولا يجديه أن يعترف بها في حين انه ينكر دلالتها.. وهذا هو الشأن في الجاحد، فان وجوده دليل وجود الخالق، ووجود الخالق سبحانه مدلول له، فإذا أنكر هذا المدلول فقد أنكر الدليل، وهو الجاحد بالذات من حيث لا يحس ولا يشعر.. وهكذا يفعل الجهل بصاحبه، يفصله عن نفسه، وعن الطبيعة التي يعيشها ويحياها، ويحمله من حيث لا يشعر على أن يجحد أوضح الواضحات، ويؤمن بالأساطير والسخافات.
5. المراد بالموتة الأولى المشار اليها ب ﴿ كنتم أمواتا ﴾ المراد بها العدم السابق، والمراد بالاحياء الأول ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ الخلق بعد العدم، والموت الثاني ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ هو الموت المعهود، والأحياء البعث للحساب والجزاء ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ .
6. سؤال وإشكال: هل الروح تفارق الجسد بعد نفاد قواه الموجبة للحياة، بحيث لو بقيت هذه القوى مئات السنين لبقي الإنسان معها حيا، أو انه من الممكن أن تفارق الروح الجسم، حتى مع وجود القوى بكاملها، ودون أن يطرأ أي خلل على الجسم؟ والجواب: ذهب الماديون الى الأول، وقال غيرهم بالثاني، وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ يحتمل الوجهين، لأنها لم تبين سبب الأجل: هل هو فساد الجسم، أو شيء آخر؟ أما قوله سبحانه: ﴿الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا﴾، وقوله: ﴿قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ﴾، فإنهما قضيتان في واقعتين لا تتعديانهما الى بقية الوقائع، كما هو الشأن في القواعد العامة، والمبادئ الكلية.. ومهما يكن، فلا شيء لدينا يوجب القطع والجزم، ولكن الذي نشاهده بالوجدان ان كثيرا من الناس يدركهم الموت، وهم في مقتبل العمر، وأوج الصحة والسلامة، وان كثيرا منهم يسرحون ويمرحون، وهم في سن متقدمة، وفيهم أكثر من داء.. وكم من طبيب ماهر قال لمريضه: ستموت بعد ساعات، فعاش سنوات.. وقد يحدث العكس.
7. البعث هو الأصل الثالث من أصول الإسلام بعد التوحيد والنبوة اللذين سبق الكلام عنهما، وقد أخبر الله بالمعاد في قوله: ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، واستدل أو قرّب سبحانه إمكان البعث وجوازه في العديد من الآيات، منها: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾، ومنها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ وغيرها.
8. ليس من شك ان من خلق الشيء من لا شيء يهون عليه ان يجمع أجزاءه ثانية بعد انحلالها وتفرقها، بل الجمع أهون وأيسر من الخلق والإيجاد.. ومن بنى قصرا يكون بناء الكوخ عليه أيسر.
9. بعد ان ذكّر الله سبحانه الإنسان بنعمة الوجود عليه ذكّره بكثرة النعم عليه من المأكل والمشرب والملبس والمركب والمنظر، وما الى ذاك من متع الأرض وخيراتها التي لا تدخل في حساب.
10. ربما يستدل بهذه الآية الكريمة على ان الأرض لا تملك، وان الذي يجوز تملكه هو ما تنتجه الأرض، لأنه قال عز من قائل: خلق لكم ما في الأرض ولم يقل خلق لكم الأرض.
11. ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ خلقهن، وذكر السبع بالخصوص لا يدل على الحصر بها، ولا ينفي أبدا وجود غيرها.. فلقد أثبت العلماء في علم الأصول واللغة ان العدد لا مفهوم له، فمن قال: إني أملك سبع كتب لا يدل قوله هذا على انه لا يملك غيرها، ويؤيد ذلك ان الله تعالى حين خاطب نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾، قال الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: لو أعلم ان الله يغفر لهم لو زدت على السبعين لفعلت.. وقد يكون السبب لذكر السبع ان لها خصائص لا توجد في سائر السماوات.
12. استدلّ الفقهاء بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ على ان الأشياء قبل ورود الشرع على الاباحة، وانه ليس لمخلوق أن يحرم شيئا الا بدليل: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ ـ يونس 59)
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/75.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. رجوع ثان إلى ما في بدء الكلام، فإنه تعالى بعد ما بين في أول السورة ما بين أوضحه بنحو التلخيص بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ إلى بضع آيات، ثم رجع إليه ثانيا وأوضحه بنحو البسط والتفصيل بقوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ إلى اثنتي عشرة آية، ببيان حقيقة الإنسان وما أودعه الله تعالى فيه من ذخائر الكمال وما تسعه دائرة وجوده وما يقطعه هذا الموجود في مسير وجوده من منازل موت وحياة ثم موت ثم حياة ثم رجوع إلى الله سبحانه وإن إلى ربك المنتهى.
2. وفيه ذكر جمل ما خص الله تعالى به الإنسان من مواهب التكوين والتشريع، أنه كان ميتا فأحياه، ثم لا يزال يميته ويحييه حتى يرجعه إليه، وقد خلق له ما في الأرض وسخر له السماوات وجعله خليفته في الأرض وأسجد له ملائكته وأسكن أباه الجنة وفتح له باب التوبة وأكرمه بعبادته وهدايته، وهذا هو المناسب لسياق قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾، فإن السياق سياق العتبى والامتنان.
3. قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾، الآية قريبة السياق من قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾، وهذه من الآيات التي يستدل بها على وجود البرزخ بين الدنيا والآخرة.. ذلك أنها تشتمل على إماتتين، فلو كان إحداهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بد في تصوير الإماتة الثانية من فرض حياة بين الموتين وهو البرزخ، وهو استدلال تام اعتنى به في بعض الروايات أيضا.
4. ربما ذكر بعض المنكرين للبرزخ أن الآيتين أعني قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ الآية، وقوله: ﴿قَالُوا رَبُّنَا﴾ متحدتا السياق، وقد اشتملتا على موتين وحياتين، فمدلولهما واحد، والآية الأولى ظاهرة في أن الموت الأول هو حال الإنسان قبل ولوج الروح في الحياة الدنيا، فالموت والحياة الأوليان هما الموت قبل الحياة الدنيا والحياة الدنيا، والموت والحياة الثانيتان هما الموت عن الدنيا والحياة يوم البعث، والمراد بالمراتب في الآية الثانية هو ما في الآية الأولى، فلا معنى لدلالتها على البرزخ.
5. ما ذكره بعض المنكرين للبرزخ من هذا الاستدلال خطأ، فإن الآيتين مختلفتان سياقا، إذ المأخوذ في الآية الأولى موت واحد وإماتة واحدة وإحياءان، وفي الآية الثانية إماتتان وإحياءان، ومن المعلوم أن الإماتة لا يتحقق لها مصداق من دون سابقة حياة بخلاف الموت، فالموت الأول في الآية الأولى غير الإماتة الأولى في الآية الثانية، فلا محالة في قوله تعالى، ﴿أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾، الإماتة الأولى هي التي بعد الدنيا والإحياء الأول بعدها للبرزخ والإماتة والإحياء الثانيتان للآخرة يوم البعث، وفي قوله تعالى، ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ إنما يريد الموت قبل الحياة وهو موت وليس بإماتة والحياة هي الحياة الدنيا، وفي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ حيث فصل بين الإحياء والرجوع بلفظ ثم تأييد لما ذكرنا هذا.
6. قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾، بيان حقيقة الإنسان من حيث وجوده، فهو وجود متحول متكامل يسير في مسير وجوده المتبدل المتغير تدريجا ويقطعه مرحلة مرحلة، فقد كان الإنسان قبل نشأته في الحياة الدنيا ميتا، ثم حيي بإحياء الله، ثم يتحول بإماتة وإحياء، وهكذا وقد قال سبحانه: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ﴾، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾، والآيات تدل على أن الإنسان جزء من الأرض غير مفارقها ولا مباين معها، انفصل منها، ثم شرع في التطور بأطواره حتى بلغ مرحلة أنشئ فيها خلقا آخر، فهو المتحول خلقا آخر، والمتكامل بهذا الكمال الجديد الحديث، ثم يأخذ ملك الموت هذا الإنسان من البدن نوع أخذ يستوفيه ثم يرجع إلى الله سبحانه، فهذا صراط وجود الإنسان.
7. ثم إن الإنسان صاغه التقدير صوغا يرتبط به مع سائر الموجودات الأرضية والسماوية من بسائط العناصر وقواها المنبجسة منها ومركباتها من حيوان ونبات ومعدن وغير ذلك من ماء أو هواء وما يشاكلها، وكل موجود من الموجودات الطبيعية كذلك، أي إنه مفطور على الارتباط مع غيره ليفعل وينفعل ويستبقي به موهبة وجوده غير أن نطاق عمل الإنسان ومجال سعيه أوسع.
8. نطاق عمل الإنسان ومجال سعيه أوسع لأن هذا الموجود الأعزل على أنه يخالط الموجودات الآخر الطبيعية بالقرب والبعد والاجتماع والافتراق بالتصرفات البسيطة لغاية مقاصده البسيطة في حياته، فهو من جهة ـ تجهيزه بالإدراك والفكر يختص بتصرفات خارجة عن طوق سائر الموجودات بالتفصيل والتركيب والإفساد والإصلاح، فما من موجود إلا وهو في تصرف الإنسان، فزمانا يحاكي الطبيعة بالصناعة فيما لا يناله من الطبيعة وزمانا يقاوم الطبيعة بالطبيعة، وبالجملة فهو مستفيد لكل غرض من كل شيء، ولا يزال مرور الدهور على هذا النوع العجيب يؤيده في تكثير تصرفاته وتعميق أنظاره ليحق الله الحق بكلماته، وليصدق قوله: ﴿ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾، وكون الكلام واقعا موقع بيان النعم لتمام الامتنان يعطي أن يكون الاستواء إلى السماء لأجل الإنسان فيكون تسويتها سبعا أيضا لأجله، وعليك بزيادة التدبر فيه.
9. ذاك الذي ذكرناه من صراط الإنسان في مسير وجوده، وهذا الذي ذكرناه من شعاع عمله في تصرفاته في عالم الكون هو الذي يذكره سبحانه من العالم الإنساني ومن أين يبتدي وإلى أين ينتهي.
10. القرآن الكريم كما يعد مبدأ حياته الدنيوية آخذة في الشروع من الطبيعة الكونية ومرتبطة بها (أحيانا) كذلك يربطها بالرب تعالى وتقدس، فقال تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴾، فالإنسان وهو مخلوق مربى في مهد التكوين مرتضع من ثدي الصنع والإيجاد متطور بأطوار الوجود يرتبط سلوكه بالطبيعة الميتة، كما أنه من جهة الفطر والإبداع مرتبط متعلق بأمر الله وملكوته، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، فهذا من جهة البدء.
11. من جهة العود والرجوع يعد صراط الإنسان متشعبا إلى طريقين: طريق السعادة وطريق الشقاوة، فأما طريق السعادة فهو أقرب الطرق يأخذ في الانتهاء إلى الرفيع الأعلى ولا يزال يصعد الإنسان ويرفعه حتى ينتهي به إلى ربه، وأما طريق الشقاوة فهو طريق بعيد يأخذ في الانتهاء إلى أسفل السافلين حتى ينتهي إلى رب العالمين، والله من ورائهم محيط.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/111.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ أي قبل إحيائكم في بطون أمهاتكم ﴿فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ فهو الذي يحيي ويميت، فكيف لا يقدر على إعادتكم، بل لا بد من الإعادة، فقال سبحانه: ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إليه وحده دون شركائكم، فيجازيكم بكفركم.
2. جمعت الآية الاحتجاج عليهم ووعيدهم وتوبيخهم على الكفر، مع أنه سيعيدهم ثم إليه يرجعون فيعاقبهم، ولا يجدون من يشفع لهم أو ينصرهم؛ لأنهم يرجعون إليه وحده يحكم فيهم ما يريد.
3. ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ وذلك نعمة عليكم، فحق عليكم أن تشكروا ولا تكفروا، وهو دليل على قدرته على إعادتكم، من حيث هو دليل على أنه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ و ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لأن صنع ما في الأرض من حاجات الإنسان المطابقة لحاجته المناسبة لخلقه وإتقان صنعها، وما فيها من اختلاف الصور المحكمة والألوان والطعوم والروائح وأسباب النفع، كل ذلك دليل على أنه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ و ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
4. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ تمثيل لصنعه للسماوات بصنع من يتجّه إلى المصنوع ويقبل على عمله فيه ويقصد إليه لا يلتفت إلى غيره، وذلك في المخلوقين يكون لقوة الرغبة في ذلك العمل، أو لشدة الاهتمام به لصعوبته، ولا يصح التمثيل بهذا لله سبحانه؛ لأنه لا يصعب عليه شيء، فما بقي إلاَّ التمثيل بالأول.
5. لعل المراد: التنبيه على الإرادة بلا إهمامة؛ ليدل على أنه فعال لما يريد.
6. ﴿ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ تسويتها إحكام صنعها سليمة من النقص والخلل، وهذه دلائل على قدرته وعلمه، فكيف تكفرون به وهو بكل شيء عليم، فلا يخفى عليه كيف يعيدكم إذا ضللتم في الأرض.
7. قوله تعالى: ﴿ثُمَّ﴾ يظهر: أنها هنا للترتيب بين الآيتين في الاستدلال، لا للترتيب في خلق الأرض وخلق السماء؛ لأنه تعالى قد جمعها في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11] ونظير الترتيب لغير الترتيب في الوقوع قول الشاعر:
إن من ساد ثم ساد أبوه.. ثم قد ساد قبل ذلك جده
فهو ترتيب المدح لا تعبير عن الترتب في الوقوع.
8. قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 27 ـ 30] فيظهر منه: أن دحو الأرض وتهيئتها لمعيشة البشر متأخر عن خلق الأرض والسماء؛ لأن الليل والنهار بالنسبة إلى الأرض إنما هو بعد خلقها، وكما تشير إلى ذلك الآيات في (سورة فصلت) في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ [آية: 9 ـ 10] فظهر: أن ﴿ثُمَّ﴾ في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ إنما هي للترتيب في ذكر الدليلين.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/84.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ أيها الناس، وأنتم تملكون العقل الذي يتحرك من خلال مفردات الحسّ الذي يتزوّد بعناصر الفكر، وطاقة الوعي المتحرك التي توجهه نحو التأمّل والدراسة والمقارنة بين الأشياء، والاستنتاج الحيّ المنفتح على حقائق العقيدة والحياة.
2. للعقل أكثر من طريق يؤدي بكم إلى معرفة الله من دون حاجة إلى الاستغراق في التجريد الفكري والعمق الفلسفي، لأن الواقع الحيّ الذي تعيشونه في وجودكم، وتتحسّسونه في مشاعركم، هو الذي يمنحكم الإيمان بالله من موقع الوجدان المنفتح على الفطرة، والفكر المتحرك في نطاق البديهة.
3. ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ قبل وجودكم، حيث كان العدم هو الأفق الذي يحتويكم في دائرته، فليس هناك أي شيء يربطكم بالوجود في ذاتياتكم، أو في الأسباب الطبيعية التي تفرضها طبيعة الأشياء في ذاتها، الأمر الذي جعل مسألة الحياة بحاجة إلى إرادة الخالق القادر الذي يبدع الحياة في التراب، ويحوّل الدم إلى نطفة، لتتطور النطفة في مسيرة الحياة إلى علقة، فمضغة، فعظام، فلحم، فإنسان سويّ، تتحرك فيه الروح، وينفتح فيه الإحساس.
4. ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾، وكانت الحياة هي التي تختصر تفاصيل وجودكم في الوعي والحسّ والحركة والإبداع والإنتاج، في عملية تكامل مع الوجود الذي ينسجم مع وجودكم، وتفاعل مع الحياة في تنوعاتها، ومع الإنسان الآخر في عطاءاته الكثيرة، وهي التي تنفتح على المسؤوليات التي تجعل لكل طاقة قدرا من المسؤولية في بناء الذات على الصورة التي يريدها الله، وبناء المجتمع على المنهج الذي يرضاه، لتكون الحياة حياة العقل والحس والوعي والانفتاح على الطاقات الداخلية والخارجية للحياة وللإنسان.
5. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾، لتدخلوا من جديد في غياهب الموت الذي يفصلكم عن هذه الحياة التي أبدعها الله فيكم، فيغيب وجودكم عنها، ويبتعد دوركم عن ساحاتها، وينقطع أثركم منها، ولكنه ليس الموت الأبدي الذي يموت فيه الوجود بالمطلق، بل هو الموت الذي تعقبه الحياة في أفق آخر، وبعد جديد، وعالم أوسع، هو عالم الآخرة الذي يطل على الغيب ليضعه في متناول الحس الإنساني.
6. ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾، لأن القادر على إبداع الحياة أوّلا قادر على إبداعها ثانيا، لأن القدرة على الإعادة من موقع المثال الحي أكثر سهولة من إبداع الخلق من دون مثال.
7. إذا كان الله هو الذي أطلق لكم البداية من إرادته وقدرته، فمنه المبدأ الذي يعيدكم إلى رعايته من جديد، ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ لتواجهوا مسئولياتكم أمامه، ليكون لكم الاستقرار الموعود في ثوابه أو عقابه.
8. إنها الحقيقة الوجودية الإلهية التي ينطلق الحسّ في دلالاتها، ويتحرك الإمكان العقلي في نهاياتها، وهي التي تفرض نفسها على العقل ليعرف الله.. فكيف تكفرون به وتنكرونه؟
9. لما كانت العقيدة بالله هي الأساس في كل هذا الجو الذي تتحرك فيه السورة، في حديثها عن المؤمنين والكافرين والمنافقين، ولما كان الكفر كشيء يدعو إلى التعجب والاستنكار، لا إلى التفكير والتأمل، لأن القضية أوضح من أن تخفى، لهذا، واجه الموقف بأسلوب الاستفهام الإنكاري الذي يوحي للإنسان بأن رفض الكفر لا يحتاج إلى جهد كبير، بل يكفي فيه الوقوف في حالة تأملية لمراحل وجود الإنسان؛ كيف كان ميتا لا يحمل أي مظهر من مظاهر الحياة، وكيف دبّت فيه الحياة في عملية دقيقة رائعة في طريقة النمو والتكامل والكمال، وكيف يموت بعد ذلك لينتقل إلى الحياة الواسعة.
10. وهكذا يعيش الإنسان في حياة عقب الموت الذي يعني العدم المحض، فقد وجدت الحياة من عدم، ثم تتجه إلى الموت الذي لا يغرق الإنسان في الضياع، بل يثير الحياة بقوّة لتقوم قوية جديدة بإذن الله الذي ترجع الأمور إليه جميعا.
11. هذه الفكرة البسيطة تقدم الإيمان للإنسان ببساطة وجدانية بعيدة عن تعقيدات الفلسفة ومشاكلها، فلا يحتاج معها إلى الالتفات والاستماع والوعي من دون ابتعاد عن نفسه بالذات، فمنها تنطلق العقيدة الحقّة وتنمو وتتكامل، ومن داخل الإنسان ينتقل الموقف إلى رحابة الخلق وإبداعه في رحاب الأرض وآفاق السماء، في دعوة إلى التأمل الذي يقود إلى المعرفة الواسعة بالحياة في الطريق الرحب إلى الإيمان بالله خالق ذلك كله.
12. ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ في الآية لفتة إلى جانب النعمة التي لا تجعل عظمة الخلق بعيدة عن حياة الإنسان وحاجاته، وذلك من خلال ما توحيه كلمة ﴿لَكُمْ﴾ من تسخير الأرض للإنسان بكل ما فيها من طاقات ظاهرة أو باطنة، مما يجعل من توجيهه إليها وإلى التفكير فيها عند التفكير في طبيعة الخلق، حافزا للارتباط بالله، من خلال شعوره بحاجته المطلقة إليه، إلى جانب الشعور بعظمته المبدعة.
13. قد يكون في هذا الأسلوب القرآني الرائع لفتة قرآنية تعطي قضية الإيمان بالله حيوية نابضة تتفجر بالحياة الإنسانية في كل مظاهرها وحاجاتها، الأمر الذي يبعدها عن الجفاف والجمود الذي يتمثل في أساليب البحث في العقيدة كشيء تجريدي خارج نطاق الحياة العملية للإنسان.
14. ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ فقد أراد الله للإنسان أن يعيش على هذه الأرض، وهيّأ له الوسائل المتنوعة التي تتصل بحاجاته الخاصة والعامة في أعماق الأرض وسطوحها وآفاق الفضاء المحيط بها، ليستطيع الإنسان الحياة عليها من خلال قدرته على إدارته لها في تسخير كل طاقاتها له، وفي تسخير الكون المطلّ عليها والمحيط بها، لرعاية كل أوضاعه، وهكذا، يؤكد الله أنه أبدع ما في الأرض لأجل الإنسان؛ تكريما له، وتأكيدا لقيمته المميزة لديه من بين مخلوقاته.
15. ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ أي انتهى إليها، وقد نستفيد من التعبير ب ﴿ثُمَّ﴾ ـ التي تدل على الترتيب مع التراخي ـ تأخر خلق السماء عن الأرض، ويمكن أن يكون الترتيب ذكريا حقيقيا، لأن المراد هو التركيز على طبيعة الخلق لا على الأوقات.
16. الاستواء الذي يعني القعود لا يتناسب مع تنزيه الله عن الجسمية، فلا بد من اعتبار الكلمة واردة في مورد الاستعارة لبيان خلق السموات ومشيئته لذلك بعد خلق الأرض من غير أن تتعلق إرادته فيما بين ذلك بخلق شيء آخر، والمراد بالسماء جهة العلوّ.
17. أما السماوات السبع، فلا نملك معرفة واسعة شاملة لطبيعتها في أجواء الآيات القرآنية المتفرقة، بل كل ما عندنا هو الحديث عن السماء الدنيا بأنها قد زينت بزينة الكواكب، مما يوحي بأن هذه النجوم المتناثرة في الفضاء موجودة في آفاق السماء الدنيا، وذلك في قوله سبحانه: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ [الصافات: 6].
18. ورد في بعض الآيات الإشارة إلى وجود بعض المعلومات المتعلقة بأحوال الأرض لدى أهل هذه السماء مما كان يغري بعض المخلوقات كالجن والشياطين باستراق السمع، ولكن الله يمنعهم من ذلك بواسطة الشهب التي تنطلق إليهم لتحرقهم أو لتبعدهم، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت: 12]، وقوله تعالى: ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾ [الحجر: 17 ـ 18]، وقوله تعالى في سورة الجن: ﴿وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا﴾ [الجن: 9]، ويكثر الحديث عن وجود الملائكة في السماء، وتنزّلهم منها إلى الأرض، ولكن لا يتضمن شيء من تلك الآيات أي تفصيل لذلك.
19. ترفض بعض الآيات القرآنية ـ في ظاهرها ـ اعتبار الشمس والقمر من هذه السماوات، لأنها تعتبر السماوات مكانا لهذين الكوكبين وغيرهما، وذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [نوح: 15 ـ 16].
20. تعددت الآراء حول المراد بالسماوات السبع:
أ. فهناك من قال إنها السيارات السبع في مصطلح الفلكيين القدماء، وهي عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل والقمر والشمس.
ب. وهناك من قال: إن المقصود بها هو الطبقات المتراكمة للغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية.
21. من المفسرين من رفض اعتبار السبعة عددا مقصودا بمدلوله الحرفي، بل هو أسلوب من أساليب التعبير عن الكثرة ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [لقمان: 27]، فإن من الطبيعي أن علم الله لا ينتهي بهذه الكمية، حتى لو كان هناك الآلاف من الأبحر، بل المقصود الكثرة، لكن هذا الرأي ينافيه تأكيد كلمة السماوات السبع في أكثر من آية، مما يوحي بأن للعدد خصوصية وجودية، كما أن رأي المفسرين القدماء لا شاهد له، بل إن الاكتشافات الحديثة دللت على أن هناك كواكب سيارة أخرى مثل (نبتون) و(بلوتو) و(أورانوس)، ويقول بعض الفلكيين حول مرصد (بالمور) في وصفه للمدى الذي بلغه الإنسان في اكتشاف الكون بالمستوى الذي لا مجال لتحديده بحدود معينة في طبيعة العوالم الموجودة فيه: قبل نصب مرصد بالمور، كان العالم في نظرنا لا يزيد على خمسمائة سنة ضوئية، لكن هذا الناظور وسّع عالمنا إلى ألف مليون سنة ضوئية، واكتشف على أثر ذلك ملايين المجرات الجديدة التي يبعد بعضها عنّا ألف مليون سنة ضوئية، أما بعد هذه المسافة، فيتراءى لنا فضاء عظيم رهيب مظلم لا نبصر فيه شيئا، أي أن النور لا ينفذ إليه كي يؤثر على صفحة التصوير في المرصد.. ومن دون شك، فإن هذا الفضاء المهيب المظلم يحتوي على مئات الملايين من المجرّات التي تحافظ بجاذبيتها على هذا العالم المرئي.. كل هذا العالم العظيم المرئي الحاوي على مئات آلاف الملايين من المجرات، ليس إلا جزءا صغيرا جدا من عالم أعظم، ولسنا واثقين من وجود عالم آخر غير هذا العالم الأعظم)
22. لا نشجع الخوض في مزيد من التفاصيل في هذا المجال، لأنه يدخلنا في تيه من التصورات ويحملنا على الاستسلام الساذج لكثير من الأحاديث الضعيفة التي لا تفيد علما ولا ظنا، بل تترك الإنسان يواجه المعرفة القرآنية بما لا يغذي الجوع الحقيقي للمعرفة الحقة، فيسلمنا ذلك إلى الوقوع في فخ الخرافة الذي ينصبه الوضّاعون، فلنقف حيث يريدنا الله أن نقف مما لم يكلفنا علمه، ولم يشرح لنا غوامضه، ولم يهيئ لنا السبيل لمعرفته، وهذا هو الطريق الأمثل الذي ينبغي أن تسير عليه المعرفة الإسلامية فيما تأخذ وتدع، فليس من الضروري أن نتكلف معرفة ما لا حاجة لنا لمعرفته، ولا سبيل لنا إليه مما أجمله القرآن الكريم في آياته، ولم تحاول السنّة النبوية الشريفة أن توضحه، لأن الحاجة لا تقضي إلا بالإشارة إليه في مجال الحديث عن قدرة الله وسعة مخلوقاته، ولعل هذا ما يبعدنا عن الوقوع في أحاديث الإسرائيليات التي استغلت مجملات القرآن التي أجملها الله عن حكمة، فحاولت أن تشبع نهم الفضول الذاتي لدى المسلمين، أو الذي حاولت إثارته لديهم حتى تغرقهم في الأجواء القصصية التي تبعدهم عن الأشياء الأساسية في العقيدة والتشريع نظرا إلى الطبيعة البشرية الطفولية التي تنجذب إلى أجواء القصة وتفاصيلها أكثر من أجواء الفكر والتشريع، ثم تفرض ـ من خلال ذلك ـ مفاهيمها المنحرفة عن التصور الإسلامي للتاريخ والكون والحياة.
23. ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ محيط بحقائق الأشياء، مما يجعل للخلق معنى الإتقان والإحكام إلى جانب القدرة والاستيلاء ليوحي للإنسان بأن تقدير كل هذه النعم وهذه المخلوقات، وتدبير كل شيء، منطلق من علم الله بمصالح العباد فيما يقدره لهم ويفرضه عليهم، ليحسوا بالثقة والطمأنينة في كلّ مجالات الحياة.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/205.
الخليلي:
ذكر أحمد الخليلي (ت 1440 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الآيتان مرتبطتان بما قبلهما ارتباطا وثيقا، وإنما جاء الكلام فيهما على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، لما في مواجهة الذين كفروا ـ بعد تعداد مثالبهم وتقرير كفرهم ـ بالتوبيخ والتقريع على ما صدر منهم من الكفر مع توفر دواعي الإيمان من أثر على نفوسهم، فإن للخطاب تأثيرا في نفس المخاطب أعمق وأبلغ من تأثير حديث الغيبة على الغائب، فلعل هذه النفوس المخاطبة تنزجر عن قبائحها وترتفع عن غيها، هذا بجانب الحكمة العامة في الالتفات وهي تجديد النشاط بتطرية الكلام، ونقله من أسلوب إلى آخر.
2. ذهب ابن عاشور إلى أن الخطاب هنا للناس الذين خوطبوا من قبل بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وعد الجمل من قوله: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى قوله: ﴿الْخَاسِرُونَ﴾ معترضات بين هذا الخطاب، وأنكر أن يكون تناسب بين قوله هنا: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ وقوله من قبل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ إلى آخره، وبنى عليه إنكار تخريج هذا الخطاب على أسلوب الالتفات، وإنما رأى الرابط بين الخطابين مناسبة اتحاد الغرض بعد استيفاء ما تخلل واعترض، وذكر من بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات اتحاد العلل التي قرن الله بها الأمر بعبادته في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ إلى آخره، وقرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر في قوله هنا: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ﴾ حيث قال هناك: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾، وقال هنا: ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾، وبالغ في إنكار أن يكون اليهود هم المخاطبين هنا نظرا إلى أنهم لم يكفروا بالله ولم ينكروا الإحياء الثاني، ولذلك رأى تعين أن يكون الخطاب للناس وهم قريش.
3. ما رآه ابن عاشور غير صحيح، ذلك أن عود الخطاب في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ إلى الناس المخاطبين في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ بعد العديد من الآيات التي خرجت عن الموضوع لا يتلاءم مع ما عُهد من انسجام عبارات القرآن، وترتب كلماته وتناسب آياته، وما الداعي للمصير إليه مع إمكان خلافه، فإن التقريع موجه إلى الكفار في الآية بعد ما ذكر عنهم من إنكار ضرب المثل، والتسجيل عليهم بالفسوق، ووصفهم بنقض عهد الله من بعد ميثاقه، وقطع الصلات التي أمر بها، والإفساد في الأرض، وكل من ذلك ناشئ عن كفرهم بالله واليوم الآخر، فكيف يستغرب إذا وبخوا بعد تعداد هذه المثالب على الكفر، أو ليسوا هم المكذبين بما أنزل الله، والمناوئين لمن أرسل، والناكثين لعهده؟ وقد سجل عليهم بالكفر بصريح العبارة.
__________
(1) تفسير الخليلي: 2/423.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. القرآن في الآيتين يلفت أنظار البشر إلى عظمة الخالق عن طريق ذكر بعض النعمّ الإلهية وبعض المظاهر المدهشة للخلقة، وبذلك يكمل الأدلة التي أوردها في الآيتين (21 و22) من هذه السّورة حول معرفة الله.
2. القرآن يبدأ في أدلته من نقطة لا تقبل الإنكار، ويركز على مسألة (الحياة) بكل ما فيها من تعقيد وغموض، ويقول: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ .. وفي هذه العبارة تذكير للإنسان بما كان عليه قبل الحياة.. لقد كان ميتا تماما مثل الأحجار والأخشاب ولم يكن فيه أي أثر للحياة، لكنه الآن يتمتع بنعمة الحياة، وبنعمة الشعور والإدراك.. من الذي منح الإنسان نعمة الحياة؟ هل أن الكائن البشري هو الذي منح نفسه الحياة!؟ كل إنسان منصف لا يتردد أن يجيب: أن هذه الحياة موهوبة للإنسان من لدن عالم قادر.. عالم برموز الحياة وقوانينها المعقدة.. وقادر على تنظيمها، إذن كيف يكفر هذا الإنسان بمن أحياه بعد موته!؟
3. أجمع العلماء اليوم أن مسألة الحياة أعقد مسألة في عالمنا هذا، لأن لغز الحياة لم ينحل حتى اليوم على الرغم من كل ما حققه البشر من تقدّم هائل في حقل العلم والمعرفة، قد يستطيع العلم في المستقبل أن يكتشف بعض أسرار الحياة.. لكن السؤال يبقى قائما بحاله: كيف يكفر الإنسان بالله وينسب هذه الحياة بتعقيداتها وغموضها وأسرارها إلى صنع الطبيعة العمياء الصّماء الفاقدة لكل شعور وإدراك!؟ من هنا نقول إن ظاهرة الحياة في عالم الطبيعة أعظم سند لإثبات وجود الله تعالى، والقرآن يركز في الآية المذكورة على هذه المسألة بالذات.
4. بعد التذكير بهذه النعمة، تؤكد الآية على دليل واضح آخر وهو (الموت) ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ .. وظاهرة (الموت) يراها الإنسان في حياته اليومية، من خلال وفاة من يعرفهم ومن لا يعرفهم، وهذه الظاهرة تبعث أيضا على التفكير، من الذي قبض أرواحهم؟.. ألا يدلّ سلب الحياة منهم على أن هناك من منحهم هذه الحياة؟ نعم.. إن خالق الحياة هو خالق الموت أيضا، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾
5. بعد أن ذكرت الآية هذين الدليلين الواضحين على وجود الله، تناولت المعاد والحياة بعد الموت: ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾، ويأتي ذكر المعاد في سياق هذه الآية ليبين أن مسألة الحياة بعد الموت (المعاد) مسألة طبيعية جدا لا تختلف عن مسألة إحياء الإنسان في هذه الدنيا بل إنها أيسر من الخلق الاول (مع أن السهل والصعب ليس لها مفهوم بالنسبة للقادر المطلق)، وهل بمقدور إنسان أن ينكر إمكان المعاد وهو يرى أنه خلق من عناصر ميتة!؟ وهكذا، وبعبارة موجزة رائعة يفتح القرآن أمام الإنسان سجل حياته منذ ولادته وحتى بعثه.
6. هذه الآية الكريمة من الآيات التي ترفض بوضوح فكرة التناسخ، فالمعتقدون بالتناسخ يؤمنون بأن الإنسان يعود بعد الموت ثانية إلى هذه الحياة، بعد أن تحلّ روحه في جسم آخر (ونطفة أخرى)، ويحيا في هذه الدنيا حياة أخرى، وقد تتكرر هذه العودة مرات، وتكرر هذه الحياة يسمى بالتناسخ أو عودة الأرواح.
7. الآية تصرح بعدم وجود أكثر من حياة واحدة بعد الموت، هي حياة البعث والنشور، وبعبارة أخرى توضح الآية أن للإنسان حياتين ومماتين لا أكثر، وكان الإنسان ميتا يوم كان جزءا من الطبيعة غير الحيّة، ثم أحياه الله يوم ولد، ثم يميته، ثم يعيده، ولو كان التناسخ صحيحا لكان للإنسان أكثر من مماتين وحياتين.
8. هذه الآية لا تشير إلى الحياة البرزخية (الحياة بين الموت والنشور) كما توهم البعض، بل إلى الحياة بعد الموت في هذه الدنيا (إحياء الإنسان بعد تكونه من مواد طبيعيّة ميتة)، ثم الموت بعد هذه الحياة الدنيوية، ثم الحياة الأخرى، واستمرار المسيرة التكاملية نحو الله.
9. في نهاية الآية يقول تعالى: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، والمقصود بالرجوع هو الرجوع إلى نعم الله تعالى يوم القيامة، والرجوع غير البعث، والقرآن يفصل بين الاثنين كما في قوله تعالى: ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾
10. قد يكون الرجوع في الآية الكريمة إشارة إلى معنى أدقّ، هو إن جميع الموجودات تبدأ مسيرة تكاملها من نقطة العدم التي هي نقطة (الصفر) وتواصل السير نحو (اللانهاية) التي هي ذات الله سبحانه وتعالى، من هنا فإن هذه المسيرة لا تتوقف لدى الموت، بل تستمر في الحياة الأخرى على مستوى أسمى.
11. بعد ذكر الله تعالى نعمة الحياة والإشارة إلى مسألة المبدأ والمعاد، تشير الآية إلى واحدة أخرى من النعمّ الإلهية السابقة وتقول: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾.
12. بهذا تعيّن الآية قيمة الإنسان في هذه الأرض، وسيادته على ما فيها من موجودات، ومنها نستطيع أن نفهم المهمّة العظيمة الثقلية الموكولة إلى هذا المخلوق في ساحة الوجود.
13. في القرآن آيات أخرى تؤكد على مكانة الإنسان السامية، وتوضّح أن هذا الكائن هو الهدف النهائي من خلق كل موجودات الكون، كقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وثمة آيات أخرى تحدثت عن هذا المفهوم بالتفصيل كقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ﴾، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ﴾، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾
14. الفعل (استوى) من (الاستواء) وهو التسلط والإحاطة الكاملة والقدرة على الخلق والتدبير.
15. كلمة (ثم) في الآية لا تعني لزاما التأخير الزماني، بل تعني أيضا التأخير في البيان وتوالي في ذكر الحقائق.
16. كلمة (سماء) تشير إلى جهة عليا، ولها مفهوم واسع ذو مصاديق مختلفة، ولذلك كان لها استعمالات عديدة في القرآن الكريم:
أ. أطلقت أحيانا على (الجهة العليا) المجاورة للأرض كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ .
ب. عنى بها القرآن تارة المنطقة البعيدة عن سطح الأرض: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ .
ج. عبّر القرآن بها في موضع آخر عن (الغلاف الجوي) المحيط بالأرض: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾، لأن هذا الغلاف يقي الكرة الأرضية من الصخور السماوية (النيازك) التي تتجه إلى الأرض ليلا ونهارا بفعل جاذبية الأرض، لكن اصطدام هذه الصخور بجوّ الأرض يؤدي إلى اشتعالها ومن ثم تحوّلها إلى رماد.
د. أراد القرآن بالسماء في موضع آخر (الكرات العليا): ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ .
17. اختلف في المقصود من هذا العدد (السماوات السبع):
أ. منهم من قال إنها السّيارات السّبع في اصطلاح الفلكيين القدماء: أي عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل والقمر والشمس.
ب. ومنهم من قال إن المقصود بها هو الطبقات المتراكمة للغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية.
ج. ومنهم من قال إن العدد (سبعة) لا يراد به هذا العدد المعروف، بل يراد به الكثرة، أي أن معنى (السماوات السبع) هو السماوات والكرات الكثيرة في الكون، ولهذا نظير في كلام العرب وفي القرآن، كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾، وواضح أن المقصود بالسبعة في هذه الآية ليس العدد المعروف، لأن علم الله لا ينتهي حتى ولو أن البحر يمده من بعده الآلاف المؤلفة من الأبحر.
18. الراجح هو أن المقصود بالسماوات السبع، هو وجود سبع سماوات بهذا العدد، وتكرر هذه العبارة في آيات الذكر الحكيم يدل على أن العدد المذكور في هذا الآيات لا يعني الكثرة، بل يعني العدد الخاص بالذات.
19. يستفاد من آيات أخرى أن كل الكرات والسيّارات المشهودة هي جزء من السماء الاولى، وثمة ستة عوالم أخرى خارجة عن نطاق رؤيتنا ووسائلنا العلمية اليوم، وهذه العوالم السبعة هي التي عبّر عنها القرآن بالسماوات السبع، يقول تعالى: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾، ويقول أيضا: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾، ويتضح من هاتين الآيتين أن ما نراه وما يتكون منه عالم الأفلاك هو جزء من السماء الاولى، وما وراء هذه السماء ست سماوات أخرى ليس لدينا اليوم معلومات عن تفاصيلها.
20. كلما تقدمت العلوم الناقصة للبشر اكتشفت عجائب ومجاهيل عظيمة، علم الفلك تقدّم إلى مرحلة بعيدة جدا في الرصد عن طريق التلسكوبات، ثم توقفت قدرة الرؤية إلى أكثر من ذلك.. وأبعد ما اكتشفته دوائر الأرصاد الفلكي العالمية حتى الآن مسافة في الكون تعادل ألف مليون (مليار) سنة ضوئية، والراصدون يعترفون أن أقصى ما اكتشفوه هو بداية الكون لا نهايته، وما يدريك أن العلم سيكتشف في المستقبل سماوات وعوامل أخرى.
21. المرصد ل (بالومر) يصف عظمة الكون كالآتي: قبل نصب مرصد بالومر، كان العالم في نظرنا لا يزيد على خمسمائة سنة ضوئية، لكن هذا الناظور وسّع عالمنا إلى ألف مليون سنة ضوئية، واكتشف على أثر ذلك ملايين المجرات الجديدة التي يبعد بعضها عنا ألف مليون سنة ضوئية، أما بعد هذه المسافة فيتراءى لنا فضاء عظيم مهيب مظلم لا نبصر فيه شيئا، أي أن النور لا ينفذ إليه كي يؤثر على صفحة التصوير في المرصد.. ومن دون شك أن هذا الفضاء المهيب المظلم يحتوي على مئات الملايين من المجرات التي تحافظ بجاذبيّتها على هذا العالم المرئي.. كل هذا العالم العظيم المرئي الحاوي على مئات آلاف الملايين من المجرات ليس إلا جزءا صغيرا جدا من عالم أعظم، ولسنا واثقين من عدم وجود عالم آخر غير هذا العالم الأعظم)
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/147.
11. آدم والخلافة
نتناول في هذا الفصل ما ذكره المفسّرون ـ بحسب التسلسل التاريخي، والمدارس الإسلامية المختلفة ـ حول تفسير المقطع ⌈11⌉ من سورة البقرة، وهو ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30]، مع العلم أنّا نقلنا المباحث التي لا علاقة لها ـ كبرى أو مباشرة ـ بالتفسير التحليلي إلى محالّها من كتب السلسلة.
علي:
روي عن الإمام علي (ت 40 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام من أديم الأرض، فمنه السّباخ والمالح والطّيب، ومن ذرّيته الصّالح والطّالح(1).
2. روي أنّه قال: إن الله تعالى لمّا خلق آدم عليه السلام ونفخ فيه من روحه نهض ليقوم، فقال الله تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ روي(1).
3. روي أنّه قال: إن الله تبارك وتعالى أراد أن يخلق خلقا بيده.. فقال للملائكة: انظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجن والنسناس، فلما رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحق، عظم ذلك عليهم وغضبوا وتأسفوا على أهل الأرض ولم يملكوا غضبهم، قالوا: ربنا إنك أنت العزيز القادر الجبار القاهر العظيم الشأن، وهذا خلقك الضعيف الذليل يتقلبون في قبضتك ويعيشون برزقك ويستمتعون بعافيتك، وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب العظام، لا تأسف عليهم ولا تغضب ولا تنتقم لنفسك لما تسمع منهم وترى، وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه فيك!، فلما سمع ذلك من الملائكة، قال ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ يكون حجة لي في أرضي على خلقي، فقالت الملائكة: سبحانك ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ كما فسد بنو الجان، ويسفكون الدماء كما سفك بنو الجان، ويتحاسدون ويتباغضون، فاجعل ذلك الخليفة منا، فإنا لا نتحاسد ولا نتباغض ولا نسفك الدماء، ونسبح بحمدك ونقدس لك، قال جل وعز: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ إني أريد أن أخلق خلقا بيدي، وأجعل من ذريته أنبياء ومرسلين وعبادا صالحين وأئمة مهتدين، وأجعلهم خلفاء على خلقي في أرضي، ينهونهم عن معصيتي، وينذرونهم من عذابي، ويهدونهم إلى طاعتي، ويسلكون بهم طريق سبيلي، وأجعلهم لي حجة، وعليهم عذرا ونذرا، وأبين النسناس عن أرضي، وأطهرها منهم، وأنقل مردة الجن العصاة عن بريتي وخلقي وخيرتي، وأسكنهم في الهواء وفي أقطار الأرض، ولا يجاورون نسل خلقي، وأجعل بين الجن وبين خلقي حجابا، فلا يرى نسل خلقي الجن، ولا يجالسونهم، ولا يخالطونهم، فمن عصاني من نسل خلقي الذين اصطفيتهم، أسكنتهم مساكن العصاة، وأوردتهم مواردهم ولا أبالي، فقالت الملائكة: يا ربنا، افعل ما شئت ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾(2).
4. روي أنّه قال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30] وقالوا: اجعله منا، فإنّا لا نفسد في الأرض، ولا نسفك الدّماء: قال الله تعالى: يا ملائكتي إنّي أعلم ما لا تعلمون.. إنّي أريد أن أخلق خلقا أجعل من ذرّيّته أنبياء مرسلين، وعبادا صالحين: أئمّة مهتدين.. أجعلهم خلفائي على خلقي في أرضي، ينهونهم عن معاصيّ، وينذرونهم عذابي، ويهدونهم إلى طاعتي، ويسلكون بهم طريق سبيلي.. وأجعلهم حجّة لي عذرا ونذرا(3).
5. روي أنه سئل: هل كان في الأرض خلق من خلق الله تعالى يعبدون الله قبل آدم عليه السلام وذرّيته؟ فقال: نعم قد كان في السّماوات والأرض خلق من خلق الله يقدّسون الله، ويسبّحونه، ويعظّمونه باللّيل والنّهار لا يفترون)(4).
__________
(1) قصص الأنبياء للراوندي، ص39.
(2) تفسير القمّي: 1/36.
(3) علل الشرائع، موسوعة الكلمة: 1/85.
(4) قصص الأنبياء للراوندي، ص33.
ابن عباس:
روي عن ابن عباس (ت 68 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه، ثم قرأ: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ الآية: إن الله قال للملائكة: إني خالق بشرا، وإنهم يتحاسدون، فيقتل بعضهم بعضا، ويفسدون في الأرض، فلذلك قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾(2).
3. روي أنّه قال: كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة(3).
__________
(1) سفيان الثوري: ص٤٣.
(2) ابن أبي حاتم: ١/٧٧.
(3) تفسير البغوي: ١/٧٩.
ابن جبير:
سعيد بن جبير (ت 95 هـ) أنّه قال: أتدرون لم سمي: آدم؟ لأنه خلق من أديم الأرض(1).
__________
(1) عبد الرزاق في تفسيره: ٢/٢٠.
أبو مالك:
روي عن أبي مالك غزوان الغفاري (ت 100 هـ) أنّه قال: ما كان في القرآن ﴿إِذِ﴾ فقد كان(1).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٧٥.
الضحاك:
روي عن الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) أنّه قال: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ التقديس: التطهير(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٥٠٦.
مجاهد:
روي عن مجاهد (ت 104 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ نعظمك، ونكبرك(1).
2. روي أنه قال ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، قال علم من إبليس المعصية، وخلقه لها(1).
3. روي أنه قال علم من إبليس المعصية، وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة، وخلقه لها(2).
4. روي أنه قال خلق الله آدم آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، بعد ما خلق الخلق كلهم(3).
5. روي أنه قال كان إبليس على سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان مكتوبا في الرفيع الأعلى عند الله أنه سيجعل في الأرض خليفة، وأنه سيكون دما وأحداثا، فوجد ذلك إبليس، فقرأه أو أبصره دون الملائكة، فلما ذكر أمر آدم للملائكة أخبر إبليس الملائكة أن هذا الخليفة الذي يكون ستسجد له الملائكة، وأسر إبليس في نفسه أن لن يسجد له، وأخبر الملائكة أن الله سيخلق خلقا، وأنه يسفك الدماء، وأنه سيأمر الملائكة يسجدون لذلك الخليفة، قال فلما قال الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ حفظوا ما كان قال لهم إبليس قبل ذلك، فقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(4).
__________
(1) تفسير مجاهد: ص١٩٩.
(2) ابن جرير: ١/٥٠٩.
(3) تفسير ابن أبي زمنين: ١/١٢٩.
(4) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ٧/٣٩٨.
البصري:
روي عن الحسن البصري (ت 110 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. عن خالد الحذاء: سألت الحسن، فقلت: يا أبا سعيد، آدم للسماء خلق أم الأرض؟ قال أما تقرأ القرآن: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾؟ لا، بل للأرض خلق(1).
2. روي أنّه قال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، أي: خلفاء يخلف بعضهم بعضا(2).
3. روي أنّه قال: قال الله لملائكته: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، قال لهم: إني فاعل، فعرضوا برأيهم، فعلمهم علما، وطوى عنهم علما علمه لا يعلمونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ وقد كانت الملائكة علمت من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء، ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(3).
4. روي أنّه قال: يقولون: سبحان الله وبحمده، وهو صلاة الخلق، وتسبيحهم، وعليها يرزقون(4).
__________
(1) ابن أبي حاتم: ١/٧٦.
(2) ابن جرير: ١/٤٧٩.
(3) ابن جرير: ١/٤٩٢.
(4) تفسير الثعلبي: ١/١٧٦.
الباقر:
روي عن الإمام الباقر (ت 114 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. سئل عن خلق حواء، وقيل له: إنّ أناساً عندنا يقولون: إن الله خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى، قال: سبحان الله إنّ الله لم يكن له من القدرة ما يخلق لآدم زوجته من غير ضلعه؟ ولا يكون لمتكلم أن يقول: ان آدم كان ينكح بعضه بعضاً؟)، ثم قال: إن الله تعالى لما خلق آدم وأمر الملائكة فسجدوا ألقى عليه السّبات، ثم ابتدع له خلق حوّاء، فأقبلت تتحرك فانتبه لتحركها، فلمّا نظر إليها نظر إلى خلق حسن يشبه صورته غير أنّها أنثى، فكلّمها وكلمته بلغته، فقال لها من أنت؟ فقال: أنا خلق خلقني الله تعالى كما ترى.. فقال آدم عند ذلك: يا ربّ ما هذا الخلق الحسن الّذي قد آنسني قربه والنّظر اليه؟ فقال الله تعالى: يا آدم هذه أمتي حوّاء، أفتحبّ أن تكون معك فتؤنسك وتحدّثك؟ فقال: نعم يا ربّ لك عليّ بذلك الحمد والشكر ما بقيت.(1).
2. روي أنّه قال: لمّا كان اليوم الذي أخبر الله آدم عليه السلام أنّه متوفيه تهيّأ للموت وأذعن به، فهبط ملك الموت، فقال آدم: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّي عبدالله وخليفته في أرضه، ابتدأني بإحسانه، وأسجد لي ملائكته وعلّمني الأسماء كلّها، ثم أسكنني جنته ولم يكن جعلها لي دار قرار ولا منزل استيطان، وإنما خلقني لأسكن الأرض الذي أراد من التقدير والتدبير(2).
3. روي أنه قال السجل ملك، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب، فنظر نظرة لم تكن له، فأبصر فيها خلق آدم وما فيه من الأمور، فأسر ذلك إلى هاروت وماروت وكانا من أعوانه، فلما قال ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، قالا ذلك استطالة على الملائكة(3).
__________
(1) قصص الأنبياء للراوندي، ص55.
(2) قصص الأنبياء للراوندي، ص60.
(3) ابن أبي حاتم: ١/٧٨.
قتادة:
روي عن قتادة بن دعامة (ت 117 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض، ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، فكان في علم الله ـ جل ثناؤه ـ أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء، ورسل، وقوم صالحون، وساكنو الجنة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، فذلك قوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾، يعنون: الناس(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ : التسبيح: التسبيح، والتقديس: الصلاة(2).
4. روي أنّه قال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ كان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليفة أنبياء ورسل، وقوم صالحون، وساكنو الجنة(3).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٩١.
(2) عبد الرزاق: ١/٤٢.
(3) ابن جرير: ١/٥١٠.
زيد:
روي عن الإمام زيد (ت 122 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ والتّقديس: التّطهير.. ويقال: التّقديس: الصّلاة(1).
2. روي أنّه قال: ﴿نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ معناه نصلي لك(1).
__________
(1) تفسير الإمام زيد، ص 80.
السّدّيّ:
روي عن إسماعيل السّدّيّ (ت 127 هـ) أنّه قال: لما قال الله لهم ذلك قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال تكون له ذرية، يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضا، قالوا عند ذلك: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾(1).
__________
(1) تفسير الثعلبي: ١/١٧٥.
الربيع:
روي عن الربيع بن أنس (ت 139 هـ) أنّه قال ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ الآية، قال إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، قال فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض، فتقاتلهم، فكانت الدماء، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ الآية(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٩٤.
الصادق:
روي عن الإمام الصادق (ت 148 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنه قيل له: جعلت فداك، إن الناس يزعمون أن الدنيا عمرها سبعة آلاف سنة! فقال: ليس كما يقولون، إن الله خلق لها خمسين ألف عام فتركها قاعا قفراء خاوية عشرة آلاف عام، ثم بدا لله بداء، فخلق فيها خلقا ليس من الجن ولا من الملائكة ولا من الإنس، وقدر لهم عشرة آلاف عام، فلما قربت آجالهم أفسدوا فيها، فدمر الله عليهم تدميرا، ثم تركها قاعا قفراء خاوية عشرة آلاف عام، ثم خلق فيها الجن، وقدر لهم عشرة آلاف عام، فلما قربت آجالهم أفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، وهو قول الله ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ كما سفكت بنو الجان، فأهلكهم الله، ثم بدا لله فخلق آدم، [وقدر له عشرة آلاف عام، وقد مضى من ذلك سبعة آلاف عام ومائتان؟]، وأنتم في آخر الزمان(1).
2. روي أنّه قال ما علم الملائكة بقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ لولا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء(2).
__________
(1) تفسير العيّاشي: 1/31/8.
(2) تفسير العيّاشي: 1/29/4.
مقاتل:
روي عن مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿وَإِذْ﴾، يعني: وقد(1).
2. روي أنّه قال: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ : نحن نذكرك بأمرك، كقوله سبحانه: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾ [الرعد: ١٣]، يعني: يذكره بأمره، ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ ونصلي لك، ونعظم أمرك(2).
3. روي أنّه قال ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ وذلك أن الله تعالى خلق الملائكة والجن قبل خلق الشياطين والإنس، وهو آدم عليه السلام، فجعلهم سكان الأرض، وجعل الملائكة سكان السماوات، فوقع في الجن الفتن والحسد؛ فاقتتلوا، فبعث الله جندا من أهل سماء الدنيا يقال لهم: الجن، إبليس عدو الله منهم، خلقوا جميعا من نار، وهم خزان الجنة، رأسهم إبليس، فهبطوا إلى الأرض، فلم يكلفوا من العبادة في الأرض ما كلفوا في السماء، فأحبوا القيام في الأرض، فأوحى الله تعالى إليهم: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ سواكم، ورافعكم إلي، فكرهوا ذلك؛ لأنهم كانوا أهون الملائكة أعمالا، ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ يقول: أتجعل في الأرض ﴿مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ يعني: من يعمل فيها بالمعاصي، ﴿وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ بغير حق كفعل الجن، ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ يقول: نحن نذكرك بأمرك، كقوله سبحانه: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾ [الرعد: ١٣] يعني: يذكره بأمره، ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ ونصلي لك، ونعظم أمرك، قال الله سبحانه: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ إن في علمي أنكم سكان السماء، ويكون آدم وذريته سكان الأرض، ويكون منهم من يسبح بحمدي ويعبدني، فخلق آدم عليه السلام من طين أحمر وأبيض، من السبخة والعذبة؛ فمن ثم نسله أبيض وأحمر وأسود، مؤمن وكافر، فحسد إبليس تلك الصورة، فقال للملائكة الذين هم معه: أرأيتم هذا الذي لم تروا شيئا من الخلق على خلقته، إن فضل علي ماذا تصنعون؟ قالوا: نسمع ونطيع لأمر الله، وأسر عدو الله إبليس في نفسه: لئن فضل آدم عليه لا يطيعه، وليستفزنه، فترك آدم طينا أربعين سنة مصورا، فجعل إبليس يدخل من دبره ويخرج من فيه، ويقول: أنا نار وهذا طين أجوف، والنار تغلب الطين، ولأغلبنه، فذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سبأ: ٢٠]، يعني: قوله يومئذ: لأغلبنه، وقوله: ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ﴾ يعني: لأحتوين على ﴿ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٦٢]، فقال للروح: ادخلي هذا الجسد، فقالت: أي رب، أين تدخلني هذا الجسد المظلم!؟ فقال الله ـ تبارك وتعالى ـ: ادخليه كرها، فدخلته كرها، وهي لا تخرج منه إلا كرها، ثم نفخ فيه الروح من قبل رأسه، فترددت الروح فيه حتى بلغت نصف جسده موضع السرة، فعجل للقعود، فذلك قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: ١١]، فجعلت الروح تتردد فيه، حتى بلغت أصابع الرجلين، فأرادت أن تخرج منها فلم تجد منفذا، فرجعت إلى الرأس، فخرجت من المنخرين، فعطس عند ذلك لخروجها من منخريه، فقال: الحمد لله، فكان أول كلامه، فرد ربه تعالى: يرحمك الله، لهذا خلقتك، تسبح بحمدي، وتقدس لي، فسبقت رحمته لآدم عليه السلام، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ ثم إن الله تبارك وتعالى حشر الطير، والدواب، وهوام الأرض كلها، فعلم آدم عليه السلام أسماءها، فقال: يا آدم، هذا فرس، وهذا بغل، وهذا حمار، حتى سمى له كل دابة، وكل طير باسمه، ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ ثم عرض أهل تلك الأسماء على الملائكة الذين هم في الأرض، ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي﴾ يعني: أخبروني ﴿بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ يعني: دواب الأرض كلها، ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ بأني جاعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، ﴿قَالُوا﴾ قالت الملائكة: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾، قال الله تعالى لهم: كيف تدعون العلم فيما لم يخلق بعد، ولم تروه، وأنتم لا تعلمون من ترون، قال الله تعالى لآدم: يا آدم، ﴿أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾، يقول: أخبر الملائكة بأسماء دواب الأرض والطير كلها، ففعل، قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ﴾ ما يكون في ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ﴾ يعني: ما أظهرت الملائكة لإبليس من السمع والطاعة للرب، وأعلم ﴿مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ يعني: إبليس وحده؛ ما كان أسر إبليس في نفسه من المعصية لله تعالى في السجود لآدم(2).
__________
(1) تفسير مقاتل: ١/٩٦.
(2) تفسير مقاتل: ١/٩٦ ـ: ٩٧.
ابن جريج:
روي عن ابن جريج (ت 150 هـ) أنّه قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم، فقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾(1).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٩٨.
ابن إسحاق:
روي عن محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) في تفسير هذا المقطع هذه الآثار:
1. روي أنّه قال: ﴿جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها، ليس خلقا منكم(1).
2. روي أنّه قال: ثم أخبرهم بعلمه فيهم، فقال: يفسدون في الأرض، ويسفكون الدماء، ويعملون بالمعاصي، فقالوا جميعا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾(2).
3. روي أنّه قال: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ لا نعصي، ولا نأتي شيئا تكرهه(2).
__________
(1) ابن جرير: ١/٤٧٧.
(2) ابن جرير: ١/٤٩٦.
الثوري:
روي عن سفيان الثوري (ت 161 هـ) أنّه قال: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ نمجدك، ونعظمك(1).
__________
(1) تفسير سفيان الثوري: ص٤٤.
الرضا:
ذكر الإمام الرضا (ت 203 هـ) أنّه قال: إن لله إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم، وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله، وأمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه، ولو شاء ذبحه لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى(1).
__________
(1) الكافي: 1/117/4.
المرتضى:
ذكر الإمام المرتضى بن الهادي (ت 310 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. سؤال وإشكال: في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، هل شاورهم وأخبرهم فضل علمه على علمهم؟ والجواب: لم يرد الله ـ عز وجل ـ ما ذكرت من ذلك؛ ولكن أراد: إعلامهم بما يفعل عز وجل، تكرمة لهم بذلك.
2. سؤال وإشكال: ما معنى جواب الملائكة حين قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾؛ آلخبر جاءهم من عند الله أم من عند أنفسهم؟ والجواب: هذا يخبر ـ يرحمك الله ـ خبر غيب، لا تعرفه الملائكة ولا تقع عليه إلا بإخبار الله لهم؛ ولكن الله عز وجل قد أطلعهم عليه وأخبرهم بما يكون من بني آدم من سفك الدماء، والإفساد في الأرض، وما يكون منهم من عناد؛ فكان هذا منهم استفهاما، لا معارضة، ولا شكا في أمر الله تبارك وتعالى.
3. أعلمهم سبحانه: أنه يعلم ما لا يعلمون، مما سيكون من المؤمنين والأنبياء المبعوثين إليهم، والكتب التي أنزلت عليهم، والأمر والنهي الذي بثه فيهم، وما في ذلك لهم من الصلاح، فكانت معصية الخلق من أنفسهم، اختيارا بلا جبر من الله لهم، ولا إدخال في معصية، ولا إخراج من طاعة؛ بل بصرهم هداهم، وآتاهم سبحانه تقواهم، وحذرهم الهلكة، وبين لهم الطريق والمحجة؛ فكانت معصيتهم وهلاكهم من قبلهم، لا من فعل الله بهم؛ بل خلقهم للطاعة، فقال عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
4. لم يكن فعل هؤلاء المختارين للمعصية، من بعد أن مكنهم سبحانه من الاستطاعة، وبين لهم ما فيه النجاة ـ بموجب ترك خلقهم، ورفض إظهار الحكمة فيهم، وما أراد الله سبحانه من الصنعة، وإيجاد البرية، وإظهار القدرة؛ لاختيارهم الردى، وميلهم عن طريق الهدى؛ فأهلكوا أنفسهم، واتبعوا أهواء قلوبهم، ومالوا عن قصد سبيل خالقهم؛ اختيارا منهم للمعصية، وكفرا للنعم، وتعرضا لما أعد الله لمن خالفه من النقم.. ونجا المؤمنون، الذين صدقوا الله ورسله، وعملوا بطاعته، واتبعوا أمره؛ فوصلوا بذلك إلى الجنان، وأتوا إلى الرضى والرضوان؛ بمصيرهم إلى ما خلقوا له من عبادة الرحمن، ومجانبة الشيطان، فقد علم الله عز وجل ما يكون من فعل النبيين، وطاعتهم واجتهادهم له، وما يكون من المؤمنين من الطاعة والعبادة، والتسليم لحكمة، والمجاهدة للظالمين حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويرجعوا إلى طاعته؛ فكل هذا خير كبير، وفضل جليل، علمه الله أنه سيكون من ولد آدم، ولم تعلمه الملائكة، حتى أعلمها الله بها وفهمها ذلك، ففيما ذكرنا لك، وشرحنا في جوابك كفاء وتبيان بما ألتبس عما سواه؛ فاعتمد عليه، وخذ به ـ يفسر لك ما غمض، ويوضح ما اشتبه؛ بحول الله وعونه.
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/30.
الماتريدي:
ذكر أبو منصور الماتريدي (ت 333 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ :
أ. قال قوم: يريد به آدم عليه السلام، يخلف الملائكة في الأرض ومن تقدمه من الجان، وذلك بعيد؛ كأنهم قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ ولم يكن آدم عليه السلام بالذي كان يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، بل كان يسبح بحمده ويقدس له.
ب. لكن يحتمل: أن يريد آدم وولده ـ إلى يوم القيامة ـ أن يجعل بعضهم خلفاء لبعض؛ كقوله: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾ [النمل: 62]، أو يجعلهم خلفاء من ذكروا، إن صح الذي قالوا.
ج. وجائز أن يكونوا على وجه الأرض، إذ هي مخلوقة لهم قرارا ومهادا ومعادا، وهم جعلوا سكانها وعمّارها ـ أن يكونوا خلفاء، في إظهار أحكام الله تعالى ودينه، كقوله لداود عليه السلام: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ [ص: 26] فجعله كذلك ليحكم بين أهلها بحكم الله ولا يتبع الهوى، وبذلك أمر بنو آدم.(1).
2. قوله: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ :
أ. قيل: بأمرك.
ب. وقيل: بمعرفتك.
ج. وقيل: بالثناء عليك.
3. أضافوا ذلك إلى أنفسهم دون أن يذكروا عظيم منّة الله عليهم بذلك، واختصاصه إياهم بالتوفيق له؛ إذ كيف ذكروا من نعوت البشر شرّ ما فيهم، دون أن يحمدوا الله ـ بما وفقوا له ـ أو يدعو للبشر بالعصمة والمغفرة مما ابتلوا، ولذلك ـ والله أعلم ـ صرفوا شغلهم من بعد إلى الاستغفار لمن في الأرض، ونصر أولياء الله، ولا قوة إلا بالله.
4. من الناس من أخبر في ذلك: أن إبليس سألهم: لو فضّل آدم عليهم، وأمروا بالطاعة له ما يصنعون؟ فأظهر الله عزّ وجل أنه علم ما كتم إبليس من العصيان، وما أظهروا هم من الطاعة.. وهذا شيء لا يعلم حقيقته؛ لأن المعاتبة كانت في جملة الملائكة، والمخاطبة بالإنباء، وما ألحق به وأمر بالسجود وكان في غيره.. ولم يحتمل أن يكونوا يؤاخذون بسؤال إبليس اللعين.. ولكن يحتمل وجوه العتاب الإخبار فيما لم يبلغوا العصيان.
5. القول فيما يتوجه إليه مما تضمن قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة، والكشف عما قال فيها أهل التفسير من غير شهادة لأحد منا لإصابة جميع ما فيه من الحكمة أو القطع على تحقيق شيء، ووجهوا إليه بالإحاطة، لكن الغالب مما يحتمله تدبير البشر، ويبلغه مبلغ علمنا مما يجوز أن يوصف به أهل المحنة، وإن كان تنزيه الملائكة عن كل معنى فيه وحشة أولى:
أ. بما وصفهم الله من الطاعة بقوله: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]، وقوله: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾ إلى قوله: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾ الآية [الأنبياء: 27]، وقوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ الآية [النحل: 50]، وقوله: ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء: 19]
ب. وما جاءت به الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من وصف طاعتهم لله، ومواظبتهم على العبادة.
6. ما لا يذكر عن أحد من الرسل وصف ملك بالمعصية، بل إنما ذلك يذكر عن بعض السلف مما لا لوم في مخالفته في فروع الدين، فضلا من أن يبسط اللسان في ملائكة الله سبحانه، وبالله المعونة والعصمة.
7. في قوله تعالى لملائكته: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ الآية، زعم قوم أن هذا زلة منهم:
أ. لم يكن ينبغي لهم أن يقابلوا قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ بهذا؛ لما يخرج مخرج الاستعتاب بقولهم: أتفعل ونحن نفعل كذا!؟ كالمنكرين لفعله.
ب. وأيدوا ذلك بقوله عزّ وجل: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أنه لولا كان في ذلك طرف من الجهل يحذر عن مثله قائله، لم يتبع قولهم هذا، ومعلوم عندهم أن يكون هو يعلم ما لا يعلمون.
ج. وأيدوا ذلك بما امتحنهم بالإنباء عن أسماء الأشياء، مقرونا بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ولولا أنه سبق منهم ما استحقوا عليه التوعد لم يكن لذلك الشرط عند القول: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾ فائدة مع ما يوضع موضع التوبيخ والتهدد، ومنهم من قال إن قوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ قول إبليس، هو الذي تعرض بهذا القول، وإن كان الكلام مذكورا باسم الجماعة؛ لأنه جائز خطاب الواحد على إرادة الجماعة، وذكر الجماعة على إرادة الواحد، وإن كان خطاب الله تعالى لجملة ملائكته حيث قال ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ الآية.
د. قوله: ﴿أَنْبِئُونِي﴾ بكذا، وهو يعلم أنهم لا يعلمون ذلك، ولا يحتمل أن يأمرهم بذلك وهم لا يعلمون، ولو تكلفوا الإخبار للحقهم الكذب في ذلك، ثبت أن ذلك على التوبيخ والتهدد لما فرط منهم.
هـ. ويكشف عن ذلك أيضا عند اعترافهم بأن لا علم لهم إلا ما علمهم الله ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية [البقرة: 33]، ولو لم يكن منهم ما استحقوا به التأديب والتنبيه عن غفلة سبقت منهم، لم يكن لذلك كثير معنى؛ إذ لا يخفى على الله عزّ وجل علم ما ذكر من الكفرة الأشقياء، فضلا عن الكرام البررة.
و. لكن قد يعاتب الأخيار عند الهفوة، والزلة بما يحل من خوف التنبيه والتوبيخ: نحو قوله: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 131]، وقوله لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ﴾ الآية [الإسراء: 75]، ولملائكته: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ﴾ [الأنبياء: 29].. واستجازوا إمكان العصيان عند المحنة.
ز. دليل المحنة ما بينا من الفعل بالأمن والخوف المذكورين، وما مدحوا بعبادتهم لله تعالى، وما أوعدوا لو ادّعوا الألوهية؛ ولما لم يحتمل أن يحمدوا على العبادة والطاعة فيما كان فعلهم على الخير والشر، ولا تعظم المحنة فيما لا يمكن المعصية، ولا تحتملها البنية؛ إذ الطاعة هي في اتقاء المعصية.. وقال أيضا: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ﴾ [التحريم: 6]، ولا يقال مثله لمن لا يحتمل فعل المعصية.. فثبت أن المعاصي منهم ممكنة؛ ولذلك خطر طاعاتهم، وعظم قدر عباداتهم، والممتحن مخوف منه الزّلة والهفوة، بل المعصية، وكل بلاء إلا أن يعصمه الله تعالى ويحفظه، وذلك من الله إفضال وإحسان لا يستحقّ قبله، ولا يلزمه أحد من خلقه، فجائز الابتلاء به مع ما في زلة أمثالهم من ترك الرجاء بالخلق، وقطع الإياس، والحث على الفراغ إلى الله تعالى بالعصمة والمعونة؛ إذ لم يقم لطاعته أحد وإن جل قدره عندما وكل إلى نفسه مما يعلم الله أنه يختار في شيء الخلاف، لا أنه يفزع إليه وينزع إليه.. وعلى ذلك معنى زلات الرسل عليهم الصلاة والسلام.
8. زعم قوم أن ذلك ليس منهم بالزّلة، بل الله تعالى عصمهم عنها، ولكن قوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ يخرج على وجهين:
أ. أحدهما: على السؤال بعد أن أعلمهم الله أنهم يفعلون؛ فقالوا: كيف يفعلون ذلك، وقد خلقتهم ورزقتهم وأكرمتهم بأنواع النعم، ونحن إذ خلقتنا نسبّحك بذلك، ونقدس لك!؟ أو كيف تحتمل عقولهم عصيانا ـ مع عظم نعمتك عليهم ـ ونحن معاشر الملائكة تأبى علينا العقول ذلك!؟ فقال الله عزّ وجل: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .. أي أمتحنهم مع ما ركب فيهم من الشهوات التي ـ لغلبتها على أنفسهم ـ تعتريهم أنواع الغفلة، ويصعب عليهم التيقظ؛ لكثرة الأعداء لهم، وغلبة الشهوات؛ فلما عظمت المحنة عليهم يكون منهم ذلك.. وهذا الوجه يخرج على سؤال الحكمة في خلق من يعصيه.. فأخبر أنه يعلم ما لا تعلمون؛ إذ بذلك بيان الأولياء والأعداء، وبيان أن الله لا يخلق من يخلق لحاجته له، أو لمنفعة له؛ إذ لو كان كذلك لم يخلق من يخالفه في الفعل الذي أمر به، وإنما خلق الخلق بعضهم لبعض عبرا وعظة؛ فيكون في عقوبة العصاة ووعيدهم مزجر لغيرهم وموعظة، ولغير ذلك من الوجوه.
ب. والوجه الآخر: أن يكون المعنى من قوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ على الإيجاب، أي أنت تفعل ذلك؛ إذ ليس عليك في خلق من يعصيك ضرر، ولا لك في خلق من يطيعك نفع، جل ثناؤك، من أن يكون فعلك لأحد هذين، وذلك كقوله: ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ﴾ الآية [النور: 50] على إيجاب ذلك، لا على الاستفهام.. مع ما يحتمل أن الألف زائدة؛ كقوله: ﴿أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ﴾ [القصص: 19]، وقوله: ﴿ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ [فصلت: 9] بمعنى: إنكم وتريد، وذلك يرجع إلى الأول.
9. قال المنزهة في معنى قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ : أن الله قد كان أخبرهم عن الذين يفسدون، ولم يكن أعلمهم ما فيهم من الرسل والأخيار، فهو يعلم ما لا تعلمون من الأخيار فيهم؛ ولذلك ذكّرهم عند سؤال الإنباء بما أعلمهم من عظيم امتنانه على آدم أن جعله بمعنى نبي إلى الملائكة بما علمهم الأسماء، ولم يكن بلغ توهمهم أن في البشر ما يحتاج المخلوقون من النور ـ الذي هو سبب رفع الأستار عن الأشياء، وجلاء الأشياء به ـ ثم يحتاجون في اقتباس العلم إلى من هو من جوهر التراب والماء الذي هو أصل الستر والظلمة.. فأراهم الله بذلك ليعلموا أن ليس طريق المعرفة، والعلم بالأشياء الخلقة، ولكن لطف الله وامتنانه، ولا قوة إلا بالله.
10. وقال قوم: كان منهم من استحق العتاب من طريق الخطر بالقلوب، لا من طريق الزّلة ـ التي هي العصيان ـ ولكنهم يعاتبون على أمثال ذلك ـ وإن لم تبلغ بهم المعصية ـ لعلوّ شأنهم، ولعظم قدرهم، كما قد عاتب الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم في أشياء وإن لم يكن ذلك منه معصية؛ كقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ﴾ الآية [التوبة: 43]، وقوله: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [النساء: 107]، وقوله: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ الآية [الأحزاب: 37]، ولم يكن إثم في ذلك، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ الآية [أول سورة التحريم]
__________
(1) تأويلات أهل السنة: 1/417.
العياني:
ذكر الإمام المهدي العياني (ت 404 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. معنى قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ : أي خلفاً بعد آدم، وليس يعني بالخليفة آدم، لأن الخليفة: هو الذي يخلف من سلف قبله، ويقوم بعد ذلك مقامه، وليس آدم كذلك بل الخلفاء هم الذين يخلفونه، ويقومون مقامه ويتولونه.
2. قالت الملائكة مسترشدين: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ ولم يقولوا ذلك منكرين، ولا مشيرين على الله ولا كافرين، بل سائلين لسيدهم ومتفهمين، فقال عز وجل: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، يريد إني أعلم أن فعلي وخلقي لم يسفك دماء المؤمنين، حكمة جليلة فيها من العجائب ما لا تعلمون.
__________
(1) تفسير الإمام المهدي العياني: 2/ 273.
الديلمي:
ذكر الإمام الناصر الديلمي (ت 444 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. في (إذ) وجهان:
أ. أحدهما: صلة زائدة وتقديره: وقال ربك للملائكة، ومثله قول الأسود بن يعفر:
فإذا وذلك لا نهاة لذكره... والدهر يعقب صالحاً بفساد.
ب. الثاني: كلمة مقصودة وليست بزائدة.
2. الملائكة جمع ملك واشتقاقه من المالكة وهي الرسالة قال الشاعر:
الكني إليها وخير الرسول... أعلمهم بنواحي الخبر
والألوك أيضاً الرسالة كما قال لبيد:
وغلام أرسله أمه... بألوك فبذلنا ما سأل
3. الملائكة أفضل الحيوان وأعقل الحيوان إلا أنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ولا ينسلون وهم رسل الله لا يعصونه في صغير ولا كبير، ولهم أجسام لطيفة لا يرون إلا إذا قوى الله أبصارنا على رؤيتهم.
4. الخليفة هو القائم مقام غيره لقولهم: خلف فلان فلاناً، والخلَف بتحريك اللام من الصالحين وخلْف بتسكين اللام من الطالحين، وفي التنزيل: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ [الأعراف: 169]، وفي الحديث: ينقل هذا العلم من كل خلَف عدو له)
5. في خلافة آدم في الأرض أن الله سبحانه استخلف آدم في أرضه وتخلفه ذريته بعده إذا مضى قرن جاء قرن إلى أن تقوم الساعة.
6. اختلف في معنى جاعل على وجهين:
أ. أحدهما: بمعنى خالق.
ب. الثاني: بمعنى فاعل، والجعل حقيقة نقل الشيء إلى صفته والإحداث إيجاد الشيء بعد العدم.
7. اختلف في الأرض المقصودة، قيل: إنها مكة، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: دحيت الأرض من مكة) ولذلك سميت أم القرى.
8. ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ وهذا جواب من الملائكة وفيه تأويلان:
أ. أحدهما أنه استفهام منهم لما قال الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
ب. والثاني: إيجاب وإن كان فيه ألف استفهام كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا... وأندى العالمين بطون راح
9. على اعتبار هذا في جوابهم قولان:
أ. أحدهما أنهم قالوا ظناً وتوهماً لأنهم رأوا أن الله سبحانه إن خلق خلقاً سواهم أفسدوا، وأنهم ليسوا يكونون مثلهم في العصمة والتوفيق، فأنكر الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
ب. الثاني: أنهم قالوه يقيناً، لأن الله قد كان أخبرهم أنه يجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، وفي جوابهم بهذا أرادوا بقولهم استعظاماً لفعلهم أي كيف تجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وقد أنعمت عليهم واستخلفتهم قال ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
10. السفك صب الدم خاصة دون غيره من الماء والمائع، والسفح مثله إلا أنه يستعمل في كل مائع على وجه التضييع ولهذا سمي الزنا سفاحاً لتضييع مائه فيه.
11. التسبيح في كلامهم هو التنزيه من السوء على جهة التعظيم، ومنه قول الأعشى:
أقول لما جاءني فُجْره... سبحان من علقمة الفاجر
أي براءة من علقمة، والتسبيح لفظة مختص بالله لا يجوز إطلاقه على غيره من المخلوقين.
12. في قوله: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ قولان أحدهما:
أ. نصلي لك كما في قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾، أي من المصلين.
ب. أن يكون هو التسبيح، واستشهد بقول جرير:
قبح الإله وجوه تغلب كلما... سبح الحجيج وكبروا إهلالا
13. أصل التقديس التطهير، ومنه قوله: ﴿الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ [المائدة: 21]، أي المطهرة؛ أي: إنا ننزهك عن صفات لا تجوز عليك.
14. في قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أن المراد به علم الصالحين من ذرية آدم.
ب. الثاني: ما أضمره إبليس من الامتناع بسجود آدم والخروج من طاعة الله بذلك.
__________
(1) البرهان في تفسير القرآن للديلمي: 1/38.
الماوردي:
ذكر أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. قوله عزّ وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، في قوله: ﴿وَإِذْ﴾ وجهان:
أ. أحدهما: أنه صلة زائدة، وتقدير الكلام: وقال ربك للملائكة، وهذا قول أبي عبيدة، واستشهد بقول الأسود بن يعفر:
فإذا وذلك لا مهاة لذكره... والدّهر يعقب صالحا بفساد
ب. الوجه الثاني: أن (إذ) كلمة مقصورة، وليست بصلة زائدة.
2. الملائكة فجمع ملك، وهو مأخوذ من الرسالة، يقال: ألكني إليها أي أرسلني إليها، قال الهذلي:
ألكني وخير الرّسو... ل أعلمهم بنواحي الخبر
والألوك الرّسالة، قال لبيد بن ربيعة:
وغلام أرسلته أمّه... بألوك فبذلنا ما سأل
وإنما سميت الرسالة ألوكا لأنها تؤلك في الفم، والفرس يألك اللجام ويعلكه، بمعنى يمضغ الحديد بفمه.
3. الملائكة أفضل الأحياء وأعقل الخلق، إلا أنهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينكحون، ولا يتناسلون، وهم رسل الله، لا يعصونه في صغير ولا كبير، ولهم أجسام لطيفة لا يرون إلا إذا قوّى الله أبصارنا على رؤيتهم.
4. الخليفة: هو القائم مقام غيره، من قولهم: خلف فلان فلانا، والخلف بتحريك اللام من الصالحين، والخلف بتسكينها من الطالحين، وفي التنزيل: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾ [مريم: 59]، وفي الحديث: ينقل هذا العلم من كل خلف عدو له)
5. في خلافة آدم وذريته ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أنه كان في الأرض الجنّ، فأفسدوا فيها، سفكوا الدماء، فأهلكوا، فجعل آدم وذريته بدلهم، وهذا قول ابن عباس.
ب. الثاني: أنه أراد قوما يخلف بعضهم بعضا من ولد آدم، الذين يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض، وهذا قول الحسن البصري.
ج. الثالث: أنه أراد: جاعل في الأرض خليفة يخلفني في الحكم بين خلقي، وهو آدم، ومن قام مقامه من ولده، وهذا قول ابن مسعود.
6. اختلف في معنى ﴿جَاعِلِ﴾ على وجهين:
أ. أحدهما: أنه بمعنى خالق.
ب. والثاني: بمعنى جاعل، لأن حقيقة الجعل فعل الشيء إلى صفة، وحقيقة الإحداث إيجاد الشيء بعد العدم.
7. اختلف في معنى ﴿الْأَرْضُ﴾، قيل: إنها مكة، وروى ابن سابط، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: دحيت الأرض من مكة)، ولذلك سميت أم القرى، قال وقبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب بن زمزم، والركن، والمقام.
8. قوله عزّ وجل: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، وهذا جواب من الملائكة حين أخبرهم، أنه جاعل في الأرض خليفة، واختلفوا في جوابهم هذا، هل هو على طريق الاستفهام أو على طريق الإيجاب على وجهين:
أ. أحدهما: أنهم قالوه استفهاما واستخبارا حين قال لهم: إني جاعل في الأرض خليفة، فقالوا: يا ربنا أعلمنا، أجاعل أنت في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم: إني أعلم ما لا تعلمون، ولم يخبرهم.
ب. والثاني: أنه إيجاب، وإن خرجت الألف مخرج الاستفهام، كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا... وأندى العالمين بطون راح
9. في اعتبار جواب الملائكة حين أخبرهم الله تعالى أنه جاعل في الأرض خليفة إيجابا قولان:
أ. أحدهما: أنهم قالوه ظنا وتوهّما، لأنهم رأوا الجن من قبلهم، قد أفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فتصوروا أنه إن استخلف استخلف في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، وفي جوابهم بهذا وجهان، أحدهما: أنهم قالوه استعظاما لفعلهم، أي كيف يفسدون فيها، ويسفكون الدماء، وقد أنعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال: إني أعلم ما لا تعلمون.
ب. الثاني: أنهم قالوه تعجبا من استخلافه لهم أي كيف تستخلفهم في الأرض وقد علمت أنهم يفسدون فيها ويسفكون الدماء فقال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
10. السفك صب الدم خاصة دون غيره من الماء والمائع، والسفح مثله، إلا أنه مستعمل في كل مائع على وجه التضييع، ولذلك قالوا في الزنى: إنه سفاح لتضييع مائه فيه.
11. التسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على جهة التعظيم، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
أقول لمّا جاءني فخره... سبحان من علقمة الفاجر
أي براءة من علقمة.
12. لا يجوز أن يسبّح غير الله، وإن كان منزها، لأنه صار علما في الدين على أعلى مراتب التعظيم الّتي لا يستحقها إلا الله تعالى.
13. في المراد بقولهم: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ أقاويل:
أ. أحدها: معناه نصلي لك، وفي التنزيل: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ [الصافات: 743]، أي من المصلين، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
ب. والثاني: معناه نعظّمك، وهذا قول مجاهد.
ج. والثالث: أنه التسبيح المعروف، وهذا قول المفضل، واستشهد بقول جرير:
قبّح الإله وجوه تغلب كلّما... سبّح الحجيج وكبّروا إهلالا
14. أما قوله: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ فأصل التقديس التطهير، ومنه قوله تعالى: ﴿الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ أي المطهّرة، وقال الشاعر:
فأدركنه يأخذن بالسّاق والنّسا... كما شبرق الولدان ثوب المقدّس
أي المطهّر.
15. في المراد بقولهم: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ أقاويل:
أ. أحدها: أنه الصلاة.
ب. والثاني: تطهيره من الأدناس.
ج. والثالث: التقديس المعروف.
16. في قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ثلاثة أقاويل:
أ. أحدها: أراد ما أضمره إبليس من الاستكبار والمعصية فيما أمروا به من السجود لآدم، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
ب. الثاني: من في ذرية آدم من الأنبياء والرّسل الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون، وهذا قول قتادة.
ج. الثالث: ما اختص بعلمه من تدبير المصالح.
__________
(1) تفسير الماوردي: 1/94.
الطوسي:
ذكر أبو جعفر الطوسي (ت 460 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الملائكة جمع غير أن واحدهم بغير همز أكثر فيحذفون الهمزة ويحركون اللام التي كانت ساكنة لو همّز الاسم الى اللام، فإذا اجمعوا، ردوه الى الأصل وهمزوا، كما يقولون: رأى، ثم يقولون يرى بلا همز، وذلك كثير، وقد جاء مهموزا في واحده قال الشاعر:
فلست بأنسي ولكن ملأكا... تنزل من جو السماء يصوب
يعني أبلغها رسالتي.
2. سميت الملائكة ملائكة:
أ. بالرسالة، لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسل من عباده، هذا عند من يقول: إن جميع الملائكة رسل.
ب. أما ما يذهب اليه أصحابنا أن فيهم رسلا وفيهم من ليس برسل، فلا يكون الاسم مشتقاً، بل يكون علماً أو اسم جنس، وإنما قالوا: إن جميعهم ليسوا رسل الله لقوله تعالى: ﴿يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ فلو كانوا جميعاً رسلا، لكانوا جميعاً مصطفين، لأن الرسول لا يكون إلا مختاراً مصطفى، وكما قال ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ .
3. الخليقة: الفعيلة من قولهم: خلف فلان فلاناً في هذا الأمر: إذا قام مقامه فيه بعده، لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ يعني بذلك: أبد لكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاً في الأرض من بعدهم، وسمي الخليفة خليفة من ذلك، لأنه خلف من كان قبله، فقام مقامه، والخلف ـ بتحريك اللام ـ يقال: فيمن كان صالحاً، ـ وبتسكين اللام ـ إذا كان طالحاً، قال الله تعالى ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾، وروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ينقل هذا العلم من كل خلف عدو له.
4. اختلف في في خلافة آدم وذريته:
أ. قال قوم: سمى الله تعالى آدم خليفة، لأنه جعل آدم وذريته خلفاء الملائكة، لأن الملائكة كانوا سكان الأرض.
ب. وقال ابن عباس: انه كان في الأرض الجن، فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، فاهلكوا، فجعل الله آدم وذريته بدلهم.
ج. وقال الحسن البصري: إنما أراد بذلك قوماً يخلف بعضهم بعضاً من ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض.
د. وقال ابن مسعود: أراد أني جاعل في الأرض خليفة يخلفني في الحكم بين الخلق، وهو آدم، ومن قام مقامه من ولده.
هـ. وقيل انه يخلفني في إنبات الزرع وإخراج الثمار، وشق الأنهار.
5. سؤال وإشكال: لو كان آدم قادراً على أن لا يأكل من الشجرة، لكان قادراً على نقض ما دبره الله فيه، لأنه لو لم يأكل منها للبث في الجنة، والله تعالى إنما خلقه ليجعله خليفة في الأرض فهذا يدل على أنه لم يكن بد من المخالفة، قلنا عن هذا جوابان:
أ. أحدهما ـ ان الجنة التي خلق الله تعالى فيها آدم، لم تكن جنة الخلد، وإنما كانت في الأرض حيث شاء الله، وانه حيث كان في الأرض، كان خليفة في الأرض وفي هذا سقط السؤال.
ب. والثاني ـ ان الله تعالى علم أن آدم سيخالف، وانه يهبط الى الأرض فيستخلفه فيها فأخبر الله تعالى بما علم، وقولهم: إنه لو كان قادراً على أن لا يخالف، لكان قادراً على نقض تدبيره جهل، لأن الله تعالى قد أمره بأن لا يقرب الشجرة، فهل يجب بأن يكون أمره بأن ينقض تدبيره؟ فإذا قالوا: لا، قيل: وكذلك الله قد اقدره على ألا يخالف فيلبث في الجنة، ولا يجب بذلك أن يكون أقدره على نقض تدبيره.
6. روي عن الإمام الصادق عليه السلام أن الملائكة سألت الله أن يجعل الخليفة منهم، وقالوا: نحن نقدسك ونطيعك ولا نعصيك كغيرنا، فلما أجيبوا بما ذكر الله في القرآن، علموا أنهم قد تجاوزوا ما ليس لهم فلاذوا بالعرش استغفاراً، فأمر الله آدم بعد هبوطه أن يبني لهم في الأرض بيتاً يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقربون، فقال الله تعالى: إني اعرف بالمصلحة منكم، وهو معنى قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
7. اختلف في معنى الأرض هنا:
أ. قيل: ان الأرض أراد بها مكة، روي ذلك عن ابن سارط، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال دحيت الأرض من مكة ولذلك سميت ام القرى، قال دفن نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والمقام.
ب. وقال قوم: انها الأرض المعروفة، وهو الظاهر.
8. اختلف في الملائكة المذكورين في الآية:
أ. قال قوم: هم جميع الملائكة.
ب. قال آخرون ـ وهو المروي عن ابن عباس والضحاك ـ إنه خطاب لمن اسكنه من الملائكة الأرض بعد الجان، وقبل خلق آدم، وهم الذين أجلوا الجان عن الأرض.
9. قال قتادة في قوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء عند الله أكبر من سفك الدماء والإفساد في الأرض، قال الله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من أنه سيكون من الخليفة رسل وأنبياء، وقوم صالحون وساكنون الجنة.
10. أقوى هذه الوجوه قول من قال إن الملائكة إنما قالت: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ على وجه التعجب من هذا التدبير، لا إنكاراً له ولكن على وجه التألم والتوجع والاغتمام والاستعلام لوجه التدبير فيه.
11. اختلف في سبب قول الملائكة عليهم السلام: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ :
أ. روي ان خلقاً يقال لهم الجان كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله تعالى ملائكة اجلتهم من الأرض.
ب. وقيل: ان هؤلاء الملائكة كانوا سكان الأرض بعد الجان، فقالوا: يا ربنا أتجعل في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء، على وجه الاستخبار منهم والاستعلام عن وجه المصلحة، والحكمة لا على وجه الإنكار، كأنهم قالوا: ان كان هذا كما ظننا فعرفنا وجه الحكمة فيه.
ج. وقال قوم: المعنى فيه ان الله اعلم الملائكة انه جاعل في الأرض خليفة، وان الخليفة فرقة تسفك الدماء وهي فرقة من بني آدم فأذن الله للملائكة ان يسألوه عن ذلك وكان اعلامه إياهم هذا زيادة على التثبيت في نفوسهم انه يعلم الغيب فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوماً يسفك الدماء، ويعصونك وإنما ينبغي انهم إذا عرفوا انك خلقتهم ان يسبحوا بحمدك كما نسبح ويقدسوا كما نقدس؟، ولم يقولوا: هذا إلا وقد اذن لهم، لأنهم لا يجوز ان يسألوا ما لا يؤذن لهم ما فيه، ويؤمرون به، لقوله: ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾
د. قال ابو عبيدة والزجاج: أنهم قالوا ذلك على وجه الإيجاب وإن خرج مخرج الاستفهام كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا... واندى العالمين بطون راح؟
فعلى هذا الوجه قال قوم: إنما أخبروا بذلك عن ظنهم وتوهمهم، لأنهم رأوا الجن من قبلهم قد أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فتصوروا أنه إن استخلف غيرهم، كانوا مثلهم، فقال تعالى منكراً لذلك: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وهذا قول قتادة وابن عباس وابن مسعود.
هـ. وقال آخرون: إنهم قالوه يقينا لأن الله كان أخبرهم انه يستخلف في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، فأجابوه بعد علمهم بذلك بأن قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ وانما قالوه استعظاماً لفعلهم أي كيف يفسدون فيها ويسفكون الدماء، وقد أنعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
و. وقال قوم: إنهم قالوا ذلك متعجبين من استخلافه لهم أي كيف يستخلفهم وقد علم انهم ﴿يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾؟ فقال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ .
12. سؤال وإشكال: من اين لكم أنهم كانوا علموا ذلك؟ والجواب: ذلك محذوف لدلالة الكلام عليه، لأنا علمنا أنهم لا يعلمون الغيب، وليس إذا فسد الجن في الأرض، وجب أن يفسد الانس وقوة السؤال تدل على أنهم كانوا عالمين، وجرى ذلك مجرى قول الشاعر:
فلا تدفنوني إن دفني محرم... عليكم ولكن خامري أم عامر
فحذف قوله: دعوني للتي يقال لها إذا أريد صيدها خامري أم عامر، فكأنه قال إني جاعل في الأرض خليفة يكون من ولده افساد في الأرض وسفك الدماء.
13. اختلف في قوله تعالى: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾، ومن يقصدون:
أ. يريدون من ولد آدم الذين ليسوا أنبياء، ولا أئمة معصومين، فكأنه قال تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة يكون له ولد ونسل يفعلون كيت وكيت، فقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ يريدون الولد، وقد بينا أن الخليفة من يخلف مَن تقدمه، جماعة كانوا أو واحداً فلما أخبر الله تعالى الملائكة أنه يخلق في الأرض عباداً هم آدم وولده ويكون خليفة لمن تقدمهم من الجن أو غيرهم، قالوا ما قالوا.
ب. ويحتمل أن يكون قوله: ﴿مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ يريدون البعض لا الكل، كما يقال: بنو شيبان يقطعون الطريق، ويراد بعضهم دون جميعهم.
14. السفك: صب الدماء خاصة دون غيره من الماء، وجميع المائعات، والسفح مثله لأنه مستعمل في جميع المائعات على وجه التضييع، ولذلك قالوا في الزنا انه سفاح لتضييع مائه فيه.
15. التسبيح هو التنزيه من السوء على وجه التعظيم وكل من عمل خيراً قصد به الله فقد سبح، يقال: فرغت من سبحتي أي من صلاتي، وقال سيبويه: معنى سبحان الله: براءة الله وتنزيه الله من السوء، قال اعشى بني تغلب:
أقول ـ لما جاءني فخره:... سبحان من علقمة الفاخر
أي براءة من علقمة الفاخر، وهو مشتق من السبح الذي هو الذهاب، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾
16. لا يجوز أن يسبح غير الله وان كان منزها، لأنه صار علماً في الدين على أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه، كما أن العبادة غاية في الشكر لا يستحقها سواه.
17. اختلف في معنى التسبيح:
أ. قال ابن عباس وابن مسعود: ﴿ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ﴾ بمعنى نصلي لك كما قال: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ أي من المصلين.
ب. وقال مجاهد: معناه نعظمك بالحمد والشكر على نعمك.
ج. وقال قتادة: هو التسبيح المعروف.
د. وقال المفضل: هو رفع الصوت بذكر الله، قال جرير:
قبح الاله وجوه تغلب كلما... سبح الحجيج وهللوا إهلالا
18. أصل التقديس: التطهير، ومنه قوله: الأرض المقدسة أي المطهرة، قال الشاعر:
فادركنه يأخذن بالساق والنسا... كما شبرق الولدان ثوب المقدس
أي المطهر.
19. اختلف في معنى تقديس الملائكة:
أ. قال قوم: معنى نقدس لك: نصلي لك.
ب. وقال آخرون: نقدس أنفسنا من الخطايا والمعاصي.
ج. وقال قوم: نطهرك من الأدناس أي لا نضيف اليك القبائح.
20. القَدَس: السطل الذي يتطهر منه أي يقدس، ويوصف تعالى بأنه قدوس سبوح أي سبحانه أن يكون شريكا لغيره طاهر من كل عيب.
21. ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من وجه المصلحة في خلقهم، وما يكون منهم من الخير والرشد والعلم، وحسن التدبير والحفظ، والطاعة ما لا تعلمون.
22. سؤال وإشكال: الملائكة بم عرفت ذلك، إذ لم يمكنها أن تستدرك ذلك بالنظر والفكر؟ والجواب: قد يجوز أن لا يكون خَطَر ببالها ذلك إلا عندما أعلمهم الله، فلما علموا ذلك، فزعوا الى المسألة عنه، لأن المسألة لمن يتوقع سرعة جوابه أو يوثق بعلمه وخبره يقوم مقام النظر والفكر.
23. اختلف في قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ :
أ. قال قوم: أراد ما أظهره إبليس من الكبر والعجب والمعصية لما أمر الله تعالى لآدم، ذهب اليه ابن مسعود، وابن عباس.
ب. وقال قتادة: أراد من في ذرية آدم من الأنبياء والصالحين.
ج. وقال قوم: أراد به ما اختص بعلمه من تدبير المصالح.
__________
(1) تفسير الطوسي: 1/130.
الجشمي:
ذكر الحاكم الجشمي (ت 494 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. شرح مختصر للكلمات:
أ. الملك: أصله من الرسالة، يقال: أَلِكْنِي إليه، أي أَرْسِلْنِي، والمأْلَكَةُ الرسالة، وكذلك الألُوك، وأصله الهمز؛ قال الشاعر:
فَلَسْتُ لإنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ.. تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
ثم حذفت الهمزة طلبًا للخفة لكثرة استعماله، فصار (ملك)، وهو الرسول، ووزنه مَفْعَل؛ لأن أصله مَلْأَك حذفت الهمزة، وألقيت حركتها على ما قبلها، ولا يجوز استعمالها على الأصل إلا في ضرورة الشعر، والملك إن كان أصله الرسالة فقد صار صفة غالبة على صنف من رسل اللَّه غير البشر، كما أن السماء وإن كان أصلها الارتفاع صار اسمًا غالبًا للسماوات المعروفة.
ب. الجعل والخلق والفعل والإحداث نظائر، جعل فهو جاعل، إلا أن الجعل يتعلق بالشيء لا على سبيل الإيجاد، بخلاف الفعل، والإحداث: الإيجاد، يقال: جعلته متحركًا، فحقيقة الجعل تغيير الشيء عما كان عليه، وحقيقة الفعل والإحداث الإيجاد.
ج. الخليفة والإمام واحد في الاستعمال، وبينهما فرق، والخليفة مأخوذ من أنه خلف غيره يقوم مقامه كما قيل: أبو بكر خليفة رسول اللَّه، والإمام مأخوذ من التقدم سمي به لأنه متقدم على الجماعة، ويجب طاعته. والخلَف بنصب اللام من الصالحين، وبسكون اللام من الطالحين؛ قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ والخليفة من اسْتُخْلِفَ مكان مَنْ قَبْلَهُ، ودقوم مقامه. والجن كانت عمار الأرض وسكانها فخلق اللَّه تعالى آدم وذريته خليفة منهم يعمرونها ويسكنونها.
د. السفك والسفح والصب نظائر، سفك الدم يَسْفِكُ سَفْكًا، وهو صب الدم، والدم أحد الأخلاط الأربعة في البدن التي بها قوام الأبدان فيما أجرى اللَّه تعالى العادة به في تدبير الحيوان، يقال: دَمُ ودَمَانِ ودِمَاء، ووزنه فَعْل مثل ضَرْب، وأصله دَمْيٌ، وإنما حرك لإقامة الوزن، وقيل: وزنه فَعَل كأنه دَمَيٌ في الأصل.
هـ. التسبيح التنزيه، وهو براءة اللَّه من كل سوء، وسبحان اللَّه تنزيه له عما لا يليق به من الشريك والصاحبة والأفعال القبيحة، ثم يراد بالتسبيح الصلاة، وأصله السبح وهو الجري في الشيء، فكأن المسبح يجري في تنزيه اللَّه وتعظيمه، وهو السبوح المستحق للتنزيه والتعظيم.
و. التقديس: التطهير، ونقيضه التنجيس، والقدس منه، والقدوس: المقدس أي المطهر، وتقديس اللَّه تنزيهه عن القبائح وصفات النقص قال رؤبة:
دَعَوْتُ رَبَّ العِزَّةِ القُدُّوسَا... دُعَاءَ مَنْ لاَ يَقْرَعُ النَّاقُوسَا
2. اختلف في اتصاله بما قبله:
أ. قيل: اتصاله بما قبله أنه عد النعم والحجج، فبدأ بذكر خلق الإنسان وحياته، ثم بخلق جميع ما في الأرض، ثم بخلق السماوات، ثم بخلق آدم وإسباغ نعمه على بَنِيهِ، فكأنه قال: اذكر لهم كيف تكفرون بِاللَّهِ، وقد فعل وأنعم بكذا وكذا، وقيل: احتج عليهم بالتوحيد فجمع الأدلة في الأرض والسماوات. ثم عقبه بالأدلة في ابتداء الخلق وذكر آدم.
ب. وقيل: لما ذكر كفرهم وعصيانهم أتى بقصة آدم وَظَنِّ إبليس فيهم ما ظن محذرًا من تصديق ظنه واتباعه مع ظهور عداوته.
3. ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ أي خالق في الأرض، قيل: أرض مكة، وليس بصحيح، والمراد الأرض المعروفة.
4. اختلف في ﴿خَلِيفَةً﴾ :
أ. قيل: آدم وذريته خلفوا من الجن الَّذِينَ كانوا يسكنون الأرض.
ب. وقيل: أراد مما يخلف بعضهم بعضًا، فكلما هلكت أمة خلفتها أخرى.
ج. وقيل: إن آدم يكون خليفة الله في الأرض يحكم بالحق، عن ابن عباس وابن مسعود، إلا أنه تعالى كان أعلم ملائكته أنه يكون من ذريته من يفسد بعد.
د. وقيل: لما خلق الله السماوات والأرض وخلق الملائكة أسكن الجن الأرض والملائكة السماوات فأفسدوا في الأرض واقتتلوا فبعث الله جندًا من الملائكة فطردوا الجن عن وجه الأرض وسكنوا الأرض إلى أن قال تعالى ذلك لهم: إنه أراد خلق آدم.
5. (قَالُوا) يعني الملائكة لله تعالى: أَتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيهَا) بالكفر والمعاصي (وَيَسْفِكُ الدّمَاءَ) بغير حق.
6. سؤال وإشكال: من أين علموا ذلك، وعلى أي وجه وقع السؤال؟ والجواب: فيه أقوال:
أ. الأول: أنه تعالى أعلمهم أن في ذرية آدم من يفسد ويسفك الدماء، فسألوا هذا السؤال، عن السدي، ولا يقال: فليس في القرآن ذلك؟ قلنا: إذا لم يعلموا الغيب فلا بد أن ذلك علموه بتعليم الله تعالى إياهم مع قطعهم على ذلك.
ب. الثاني: أنه ليس بقطع، ولكن لما فسد الجن قبلهم، وأراد تعالى خلق آدم وذريته قالوا: هل سبيلهم سبيل الجن في الفساد أم لا؟ فهو قياس منهم واستنباط؛ إذ رأوا أن فيهم الشهوة والقدرة وتردد الدواعي كالجن، والأول أظهر.
ج. الثالث: أن في الكلام حَذْفًا واختصارًا، وتقديره: أتجعل فيها من يفسد أم تجعل فيها من لا يفسد؟ كقوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا﴾ يعني كمن هو غير قانت، فهو سؤال استفهام.
د. الرابع: أنهم لم يعلموا أن فيهم أنبياء ومصلحين حتى أخبرهم الله تعالى بذلك بقوله: ﴿أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
هـ. الخامس: أشكل عليهم خَلْقُ مَنْ يعلم أنه يكفر ممن جميع أفعاله حسنة، ولا يجوز عليه القبيح، فسألوا عن ذلك.
و. السادس: أشكل عليهم خلق المفسدين مع الإمهال.
ز. السابع: أشكل عليهم أن خليفة الله هل يجوز أن يكون مفسدًا فاسقًا أم لا؟ فسألوا.
ح. الثامن: أنه لم يشكل عليهم شيء ولكن سؤالهم على وجه للمبالغة في إعظامه تعالى، فسألوا ألا يخلق من يعصيه، فأجاب وأخبر بأنه أعلم بالمصالح، وقيل: هو سؤال تعجيب، يعني كيف يعصي العبد خالقه؟
7. سؤال وإشكال: هل سألوا ذلك بإذن أم بغير إذن؟ والجواب: بل بإذن لهم في السؤال لما علم من مصلحتهم في ذلك فأجابهم بأني أعلم ما تعلمون.
8. اختلف في معنى ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ :
أ. قيل: ننزهك عن صفات الأجسام، ونقدسك عن قبائح الأفعال.
ب. وقيل: نسبح: المراد التسبيح المعروف، عن قتادة.
ج. وقيل: هو الصلاة، عن ابن عباس.
د. وقيل: ننزهك بإضافة النعم إليك، ونحمدك على ذلك.
هـ. وقيل: ننزهك ونحمدك على ذلك؛ لأن نفع التسبيح عائد إلينا، وهو بتوفيقك.
و. وقيل: ننزهك عما لا يجوز عليك.
9. قوله تعالى: ﴿وَنُقَدِّسُ﴾ :
أ. يرجع إلى المكلف أي كما ننزهك نطهر أنفسنا عن المعاصي ابتغاء مرضاتك، دليله ﴿ نقدّسُ لَكَ ﴾، يعني لأجلك ومرضاتك، عن أبي مسلم.
ب. وعلى المعنى الآخر اللام صلة، والتقديس يرجع إلى الله تعالى، وتقديره: نقدسك.
10. سؤال وإشكال: هل فيه دلالة على أنهم سألوا أن يجعلهم بدلاً منهم في الأرض؟ والجواب:
أ. قيل: نعم؛ لأن تكليف أهل الأرض أخف.
ب. وقيل: سألوا ذلك بأن كان لهم فيه صلاح، عن أبي علي.
ج. وقيل: لا؛ لأنه حُكْمٌ بإرادتهم، وذلك لا يصح من غير دليل.
د. وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره: نسبح ونقدس لك بحمدك، أي نفعل ذلك بهدايتك فنحمدك عليه.
11. اختلف في اللام في قوله: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ :
أ. قيل: صلة، تقديره: نقدسك.
ب. وقيل: لام الإضافة، أي نقدس لأجلك ورضاك.
12. اختلف في قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ :
أ. قيل: يعلم أن في ذريته أنبياء وعلماء وأولياء.
ب. وقيل: أعلم منهم من عظيم حالهم في عمارة الدين والدنيا، وأنهم يبلغون محلًّا من الكفاية لا يبلغه غيرهم ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فنسوا اختيار بعضهم لأبدع المصالح؛ لأن المعصية لا تعلق لها بالأرض فسواء كانوا في السماء أو في الأرض إذ كان المعلوم منهم أنهم يعصون، ولو علم أنهم لا يعصون لأسكنهم موضعًا آخر لفعل.
ج. وقيل: أعلم من المصالح، وأي موضع أصلح لهم ولكم ما لا تعلمون، عن أبي علي.
د. وقيل: ﴿أَعْلَمُ﴾ من إضمار إبليس المعصية ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وليس بالوجه؛ لأنه لم يجر له ذكر.
13. المَلَكُ حيّ معروف متميز عن سائر الخلق بالصورة، وبأنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، ولهم أجنحة، ولا نراهم للطافة التي فيهم، إلا أن يقوي الله شعاعنا، فنراهم كما يراهم المعاين، أو يحصل فيهم كثافة كما في زمن الأنبياء.
14. اختلف في الملائكة وتكليفهم:
أ. قيل: هم مكلفون ومختارون.
ب. وقال جماعة: مجبورون.
15. اختلف في عصمة الملائكة:
أ. قيل: هم معصومون لقول الله تعالى: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾
ب. وقيل: غير معصومين.
16. تدل الآيات الكريمة على:
أ. أن اللَّه تعالى منزه عن الظلم والفواحش، خلاف مذهب الجبر أنه لا ظلم ولا فاحشة ولا فساد إلا من خَلْقِهِ وإرادته، ومع هذا كيف يصح التنزيه.
ب. أن خَلْقَ مَنْ يعلم أنه يكفر يكون حكمة وصوابًا.
ج. يدل قوله: ﴿أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ على أنه لا يفعل القبيح؛ لأنه لو حسن منه كل شيء على وجه واحد لم يكن لهذا الكلام معنى، وإنما يكون مفيدًا في الجواب متى حمل على أني أعلم بالتدبير والمصالح فأفعل ما هو الأصلح.
د. على إثبات المكلف فإنه تعالى خاطبهم.
17. مسائل نحوية:
أ. اختلف في معنى: ﴿إِذِ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ :
• قال أبو عبيدة: هي زائدة، ومعناها: وقال ربك، و(إذ) حرف من حروف الزيادة، قال الشاعر:
فَإذا وذَلكِ لا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ... فالدّهرُ يُعْقِبُ صَالِحًا بفساد
يقال: ليس لعيشتنا مهة ومهاة، أي ليس له حسن أو نضارة.
واستشهد أبو عبيدة ببيت آخر، وهو قول عبد مناة بن مربع، وقيل: ابن ربع:
حَتَّى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ... شلَّا كَمَا تطْرُدُ الجَّمالَةُ الشُّرُدا
فقيل ردًّا عليه: هذا الذي ذكره ليس بصحيح، لأن (إذا) حرف يأتي بمعنى الجزاء ويدل على مجهول من الوقت، ولا يجوز إبطال حرف كان دليلًا على معنى في الكلام إلا لضرورة، وليس المعنى على ما ظن، بل لو حمل (إذا) في البيتين على البطلان بطل معنى الكلام الذي أراد الشاعر؛ لأن الأسود أراد بقوله: (وإذا) الذي نحن فيه وما مضى من عيشنا، وأراد بقوله (ذلك) الإشارة إلى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان مهاة لذكره يعني: لا طعم له ولا فضل لإعقاب الدهر ذلك بفساد، قال الزجاج والرماني: أخطأ أبو عبيدة؛ لأن كلام اللَّه لا يجوز أن يحمل على اللغو مع إمكان حمله على زيادةِ فائدةٍ، قال: ومعنى (إذ) الوقت، وهي اسم كيف يكون لغوا، قال: والتقدير الوقت.. ويُقال: (إذ) لما مضى، و(إذا) لما يستقبل، فيوضع أحدهما موضع الآخر، وقال المبرد: إذا جاء (إذ) مع المستقبل كان معناه على الماضي كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ﴾ و(إذا) متى جاء مع الماضي كان معناه المستقبل كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ﴾ و ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾
• وقال غيره: تأويلها الدلالة على الوقت الماضي، قالو: ولا تحمل على الزيادة ولها معنى صحيح، والبيت الذي استشهد به قيل معناه فإذا ما نحن فيه وذاك.
ب. العامل في ﴿وَإِذْ﴾ محذوف، تقديره: واذكر إذ قال، وقيل: لما ذكر خلق السماوات دل على ابتداء الخلق، فكأنه قال: وابتدأ خلقكم إذ قال، وقيل: وهو عليم بأحوالكم إذ قال، وفي الوجه الأول في الكلام دليل على المحذوف؛ لأن قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ تقديره: اذكر كيف تكفرون، قال الشا عر:
فَإِنَّ المنية مَنْ يَخْشَهَا... فَسَوْفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا
يعني أينما ذهب، فحذف لدلالة الكلام عليه.
ج. اختلف في الألف في قوله تعالى: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ :
• قيل: ألف إيجاب عن أبي عبيدة والزجاج، كقول جرير:
ألسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطَونَ رَاحِ
فهذا إيجاب وليس باستفهام.
• وقيل: هو ألف استفهام كأنهم قالوا: أتجعل فيها من يفسد وهذه حالنا في التسبيح أم الأمر بخلاف ذلك؟ فجاء الجواب على طريق التعريض بالمعنى من غير تصريح به في قوله: ﴿أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾، وهو الصواب، وإنما غلط من زعم أنها ألف إيجاب؛ لأنه تعالى قال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ ولا يجوز أن يَشُكُّوا ويستفهموا، وهذا لا يصح؛ لأن الاستفهام لا يوجب الشك في أنه سيجعل، وإنما يوجب الشك في أن حالهم يكون مع الجعل وترك الجعل سواء في الاستقامة والصلاح، أيضًا فإن أصله الاستفهام فلا يعدل عنه مع صحة المعنى.
د. اللام في قوله: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ قيل: صلة، تقديره: نقدسك، وقيل: لام الإضافة، أي نقدس لأجلك ورضاك.
__________
(1) التهذيب في التفسير: 1/310.
الطَبرِسي:
ذكر الفضل الطَبرِسي (ت 548 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اتصال هذه الآية بما قبلها: إن الله تعالى ذكر أول النعم له علينا، وهي نعمة الحياة، ثم ذكر بعده إنعامه علينا بخلق الأرض، وما فيها، وبخلق السماء، ثم أراد أن يذكر نعمته علينا بخلق أبينا آدم عليه السلام، وما أعطاه من الفضيلة، فكأنه قال أذكر لهم كيف تكفرون بالله، وقد فعل بكم كذا وكذا، وأنعم عليكم بكذا أو كذا.
2. شرح مختصر للكلمات:
أ. القول: موضوع في كلام العرب للحكاية، نحو قولك قال زيد: خرج عمرو.
ب. الرب: السيد، يقال: رب الدار، ورب الفرس، ولا يقال الرب بالألف واللام إلا لله تعالى، وأصله من ربيته: إذا قمت بأمره.. ومنه قيل للعالم رباني، لأنه يقوم بأمر الأمة.
ج. الملائكة: جمع ملك، واختلف في اشتقاقه:
• ذهب أكثر العلماء إلى أنه من الألوكة: وهي الرسالة، وقال الخليل: الألوك الرسالة، وهي المالكة، والمالكة على مفعلة.. وقال غيره: إنما سميت الرسالة ألوكا لأنها تولك في الفم أي: تمضغ، والفرس تألك اللجام وتعلك، قال عدي بن زيد:
أبلغا النعمان عني مألكا... أنه قد طال حبسي وانتظاري
ويروى ملائكا.
وقال لبيد: وغلام أرسلته أمه... بألوك فبذلنا ما سأل
وقال الهذلي:
ألكني إليها، وخير الرسول... أعلمهم بنواحي الخبر
فالملائكة على هذا وزنها معافلة لأنها مفاعلة مقلوبة جمع ملأك في معنى مالك.
قال الشاعر:
فلست لإنسي، ولكن لملأك... تنزل من جو السماء يصوب
فوزن ملأك معفل مقلوب مألك مفعل، ومن العرب من يستعمله مهموزا، والجمهور منهم على إلقاء حركة الهمزة على اللام وحذفها، فيقال ملك.
• وذهب أبو عبيدة إلى أن أصله من لأك إذا أرسل، فملأك على هذا القول مفعل، وملائكة مفاعلة غير مقلوبة.. والميم في هذين الوجهين زائدة.
• وذهب ابن كيسان إلى أنه من الملك، وأن وزن ملأك فعال مثل شمأل وملائكة فعائلة، فالميم على هذا القول أصلية، والهمزة زائدة.
د. الجعل، والخلق، والفعل، والإحداث، نظائر، إلا أن الجعل قد يتعلق بالشيء لا على سبيل الإيجاد، بخلاف الفعل، والإحداث.. تقول: جعلته متحركا.. وحقيقة الجعل: تغيير الشيء عما كان عليه.
هـ. حقيقة الفعل والإحداث: الإيجاد والخليفة.
و. الإمام: واحد في الاستعمال إلا أن بينهما فرقا.. والإمام: مأخوذ من التقدم فهو المتقدم فيما يقتضي وجوب الاقتداء به، وفرض طاعته فيما تقدم فيه.
ز. الخليفة: استخلف في الأمر مكان من كان قبله، فهو مأخوذ من أنه خلف غيره وقام مقامه.
ح. السفك: صب الدم.
ط. الدم: اختلف في وزنه، فقال بعضهم: دمي على وزن فعل، قال الشاعر:
فلو أنا على حجر ذبحنا... جرى الدميان بالخبر اليقين
وقيل: أصله دمي على وزن فعل، والشاعر لما رد الياء في التثنية لقلة الاسم، حركه ليعلم أنه متحركا قبل ذلك.
ي. التسبيح: التنزيه لله تعالى عن السوء، وعما لا يليق به.. والسبوح: المستحق للتنزيه والتعظيم.
ك. القدوس: المستحق للتطهير.. والتقديس: التطهير، ونقيضه التنجيس.. والقدس: السطل الذي يتطهر منه، وقد حكى سيبويه أن منهم من يقول: سبوح قدوس بالفتح، والضم أكثر في الكلام، والفتح أقيس، لأنه ليس في الكلام فعول إلا ذروح.. وسبحان: اسم المصدر.. قال سيبويه: سبحان الله معناه: براءة الله من كل سوء، وتنزيه الله، قال الأعشى:
أقول لما جاءني فخره... سبحان من علقمة الفاخر
أي: براءة منه، قال: وهو معرفة علم خاص لا ينصرف للتعريف والزيادة، وقد اضطر الشاعر فنونه، قال أمية:
سبحانه، ثم سبحانا يعود له... وقبله سبح الجودي، والجمد
وهو مشتق من السبح: الذي هو الذهاب، ولا يجوز أن يسبح غير الله، وإن كان منزها لأنه صار علما في الدين على أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه، كما أن العبادة هي غاية في الشكر لا يستحقها سواه.
3. اذكر يا محمد ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ :
أ. قيل: إنه خطاب لجميع الملائكة.
ب. وقيل: خطاب لمن أسكنه الأرض بعد الجان من الملائكة، عن ابن عباس.
4. ﴿إِنِّي جَاعِلٌ﴾ أي: خالق ﴿فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ أراد بالخليفة آدم عليه السلام:
أ. فهو خليفة الله في أرضه يحكم بالحق، إلا أنه تعالى كان أعلم ملائكته أنه يكون من ذريته من يفسد فيها، عن ابن عباس، وابن مسعود.
ب. وقيل: إنما سمى الله تعالى آدم خليفة، لأنه جعل آدم وذريته خلفاء للملائكة، لأن الملائكة كانوا من سكان الأرض.
ج. وقيل: كان في الأرض الجن فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء فأهلكوا، فجعل آدم وذريته بدلهم، عن ابن عباس.
د. وقيل: عنى بالخليفة ولد آدم يخلف بعضهم بعضا، وهم خلفوا أباهم آدم في إقامة الحق، وعمارة الأرض، عن الحسن البصري.
5. اختلف في الأرض التي أراد:
أ. قيل: أراد بالأرض مكة، لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: دحيت الأرض من مكة، ولذلك سميت أم القرى.. وروي أن قبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب، بين زمزم والركن والمقام.
ب. والظاهر أنها الأرض المعروفة وهو الصحيح.
6. ﴿قَالُوا﴾ يعني الملائكة لله تعالى ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ أي: في الأرض ﴿مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ بالكفر والمعاصي، ﴿وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ بغير حق، وذكر فيه وجوه:
أ. أحدها: إن خلقا يقال لهم الجان، كانوا في الأرض، فأفسدوا فيها، فبعث الله ملائكة أجلتهم من الأرض، وكان هؤلاء الملائكة سكان الأرض من بعدهم، فقالوا يا ربنا ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ كما فعل بنو الجان.. قاسوا بالشاهد على الغائب، وهو قول كثير من المفسرين.
ب. ثانيها: إن الملائكة إنما قالت ذلك على سبيل الاستفهام، وعلى وجه الاستخبار والاستعلام عن وجه المصلحة والحكمة، لا على وجه الانكار، ولا على سبيل الإخبار، فكأنهم قالوا: يا الله إن كان هذا كما ظننا فعرفنا ما وجه الحكمة فيه.
ج. ثالثها: إن الله تعالى أخبر الملائكة بأنه سيكون من ذرية هذا الخليفة من يعصي، ويسفك الدماء على ما روي، عن ابن عباس، وابن مسعود.
7. اختلف في الغرض في إعلامه إياهم:
أ. قيل: أن يزيدهم يقينا على وجه علمه بالغيب، لأنه وجد بعد ذلك على ما أخبرهم به.
ب. وقيل: ليعلم آدم أنه خلق للأرض لا للجنة، فقالت الملائكة: أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا على وجه التعرف لما في هذا من التدبير والاستفادة لوجه الحكمة فيه.. وهذا الوجه يقتضي أن يكون في أول الكلام حذف، ويكون التقدير: إني جاعل في الأرض خليفة، وإني عالم بأنه سيكون في ذريته من يفسد فيها، ويسفك الدماء، فحذف اختصارا.
8. قوله تعالى: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ في ضمنه اختصار شديد أي: فنحن على ما نظنه ويظهر لنا من الأمر أولى بالخلافة في الأرض، لأنا نطيع، وغيرنا يعصي وفي قوله ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ اختصار أيضا، لأنه يتضمن أني أعلم من مصالح المكلفين ما لا تعلمونه، وما يكون مخالفا لما تظنونه على ظواهر الأمور.. ومثل هذه الحذوف العجيبة، والاختصارات البديعة، كثيرة في القرآن، والحذف معدود في أنواع الفصاحة، إذا كان فيما أبقي دليل على ما ألقي، ومما جاء منه في الشعر قول الشنفري:
ولا تقبروني، إن قبري محرم... عليهم، ولكن خامري أم عامر
أي: لا تدفنوني، بل دعوني تأكلني التي يقال لها خامري أم عامر، يعني الضبع، وقول أبي داوود:
إن من شيمتي لبذل تلادي... دون عرضي، فإن رضيت فكوني
أي: فكوني على ما أنت عليه، وإن سخطت فبيني، فحذف، وقال عنترة:
هل تبلغني دارها شدنية... لعنت بمحروم الشراب مصرم
أي: دعي عليها بانقطاع لبنها، وجفاف ضرعها، فصارت كذلك، والناقة إذا كانت لا تنتج كانت أقوى على السير.
9. إنما أرادت الملائكة بقولهم ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ ولد آدم الذين ليسوا بأنبياء ولا معصومين، لا آدم نفسه، ومن يجري مجراه من الأنبياء والمعصومين.
10. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ :
أ. قيل: نتكلم بالحمد لك، والنطق بالحمد لله تسبيح له كقوله تعالى ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ .. وإنما يكون حمد الحامد سبحانه تسبيحا لأن معنى الحمد لله: الثناء عليه، والشكر له، وهذا تنزيه له، واعتراف بأنه أهل لأن ينزه ويعظم ويثنى عليه، عن مجاهد.
ب. وقيل: معنى نسبح بحمدك نصلي لك كقوله ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ أي من المصلين، عن ابن عباس، وابن مسعود.
ج. وقيل: هو رفع الصوت بذكر الله عن المفضل، ومنه قول جرير:
قبح الإله وجوه تغلب كلما... سبح الحجيج، وكبروا إهلالا
11. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ :
أ. قيل: أي: ننزهك عما لا يليق بك من صفات النقص، ولا نضيف إليك القبائح.. فاللام على هذا زائدة.
ب. وقيل: نقدس لك أي: نصلي لأجلك.
ج. وقيل: نطهر أنفسنا من الخطايا والمعاصي.
12. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿ في أعلم ما لا تعلمون ﴾:
أ. قيل: أراد ما أضمره إبليس من الكبر والعجب والمعصية لما أمره الله سبحانه بالسجود لآدم، عن ابن عباس، وابن مسعود.
ب. وقيل: أراد أعلم من في ذرية آدم من الأنبياء والصالحين، عن قتادة.
ج. وقيل: أراد به ما اختص الله تعالى بعلمه من تدبير المصالح.
د. وروي عن أبي عبد الله قال: إن الملائكة سألت الله تعالى أن يجعل الخليفة منهم، وقالوا: نحن نقدسك ونطيعك ولا نعصيك كغيرنا، قال: فلما أجيبوا بما ذكر في القرآن، علموا أنهم تجاوزوا ما لهم، فلاذوا بالعرش استغفارا، فأمر الله تعالى آدم بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون، كما لاذ بالعرش الملائكة المقربون، فقال الله تعالى للملائكة: إني أعرف بالمصلحة منكم وهو معنى قوله ) أعلم ما لا تعلمون ) وهذا يدل على أنه تعالى لا يفعل القبيح، لأنه لو كان يحسن منه كل شيء، لم يكن لهذا الكلام معنى، لأنه إنما يفيد في الجواب متى حمل على أنه أراد إني أعلم بالمصالح فأفعل ما هو الأصلح.
13. الملك، وإن كان أصله الرسالة، فقد صار صفة غالبة على صنف من رسل الله غير البشر، كما أن السماء وإن كان أصله الارتفاع، فقد صار غالبا على السماوات المعروفة.. وقال أصحابنا: إن جميع الملائكة ليسوا برسل الله، بدلالة قوله تعالى ﴿يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ فلو كانوا كلهم رسلا، لكان جميعهم مصطفين، فعلى هذا يكون الملك اسم جنس، ولا يكون من الرسالة.
14. مسائل نحوية:
أ. إذ: قال أبو عبيدة: إذ ههنا زائدة، وأنكر الزجاج وغيره عليه هذا القول، وقالوا: إن الحرف إذا أفاد معنى صحيحا لم يجز إلغاؤه.. قال الزجاج: ومعناه الوقت، ولما ذكر الله تعالى خلق الناس وغيرهم، فكأنه قال ابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة.. وقال علي بن عيسى: تقديره أذكر إذ قال ربك للملائكة، فموضع (إذ) نصب على اضمار فعل، والواو عاطفة جملة على جملة، و ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ جملة في موضع نصب بقال.
ب. ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ إلى قوله ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ في موضع نصب بقالوا: والواو في قوله (ونحن) واو الحال، وتسمى واو القطع، وواو الاستئناف، وواو الابتداء، وواو إذ، كذا كان يمثلها سيبويه.. ومثله الواو في قوله (يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) أي: إذ طائفة.. وكذا ههنا إذ نحن نسبح.. والعامل في الحال ههنا ﴿أَتَجْعَلُ﴾ كأنه قال أتجعل فيها من يفسد فيها، وهذه حالنا.
ج. الباء في ﴿بِحَمْدِكَ﴾ تتعلق بنسبح.. واللام من (لك) تتعلق بنقدس.. وما موصولة، وصلته ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾ والعائد: ضمير المفعول، حذف لطول الكلام أي: لا تعلمونه، وهو في موضع النصب بأعلم.
__________
(1) تفسير الطبرسي: 1/175.
ابن الجوزي:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ :
أ. كان أبو عبيدة يقول: (إذ) ملغاة، وتقدير الكلام: وقال ربك، وتابعه ابن قتيبة، وعاب ذلك عليهما الزّجّاج وابن القاسم.
ب. وقال الزّجّاج: إذ: معناها: الوقت، فكأنه قال ابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة.
2. الملائكة: من الألوك، وهي الرسالة، قال لبيد:
وغلام أرسلته أمّه... بألوك فبذلنا ما سأل
وواحد الملائكة: ملك، والأصل فيه: ملأك، وأنشد سيبويه:
فلست لإنسيّ ولكن لملأك... تنزّل من جوّ السماء يصوب
قال أبو إسحاق: ومعنى ملأك: صاحب رسالة، يقال: مألكة ومألكة وملأكة، ومآلك: جمع مألكة، قال الشاعر:
أبلغ النّعمان عنّي مالكا... أنه قد طال حبسي وانتظاري
3. في هؤلاء الملائكة قولان:
أ. أحدهما: أنهم جميع الملائكة، قاله السّدّيّ عن أشياخه.
ب. الثاني: أنهم الذين كانوا مع إبليس حين أهبط إلى الأرض، ذكره أبو صالح عن ابن عباس، ونقل أنه كان في الأرض خلق قبل آدم، فأفسدوا، فبعث الله إبليس في جماعة من الملائكة فأهلكوهم.
4. الخليفة: هو القائم مقام غيره، يقال: هذا خلف فلان وخليفته، قال ابن الأنباريّ: والأصل في الخليفة خليف، بغير هاء، فدخلت الهاء للمبالغة بهذا الوصف، كما قالوا: علّامة ونسّابة.
5. في معنى خلافة آدم قولان:
أ. أحدهما: أنه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه، ودلائل توحيده، والحكم في خلقه، وهذا قول ابن مسعود ومجاهد.
ب. الثاني: أنه خلف من سلف في الأرض قبله، وهذا قول ابن عباس والحسن.
6. اختلفوا ما المقصود في إخبار الله عزّ وجلّ الملائكة بخلق آدم على ستة أقوال:
أ. أحدها: أن الله تعالى علم في نفس إبليس كبرا، فأحبّ أن يطلع الملائكة عليه، وأن يظهر ما سبق عليه في علمه، رواه الضّحّاك عن ابن عباس، والسّدّيّ عن أشياخه.
ب. الثاني: أنه أراد أن يبلو طاعة الملائكة، قاله الحسن.
ج. الثالث: أنه لما خلق النار خافت الملائكة، فقالوا: ربنا لمن خلقت هذه؟ قال لمن عصاني، فخافوا وجود المعصية منهم، وهم لا يعلمون بوجود خلق سواهم، فقال لهم: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، قاله ابن زيد.
د. الرابع: أنه أراد إظهار عجزهم عن الإحاطة بعلمه، فأخبرهم حتى قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾؟ فأجابهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
هـ. الخامس: أنه أراد تعظيم آدم بذكره بالخلافة قبل وجوده، ليكونوا معظّمين له إذ أوجده.
و. السادس: أنه أراد إعلامهم بأنه خلقه ليسكنه الأرض، وإن كان ابتداء خلقه في السماء.
7. قوله تعالى: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾، فيه ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن ظاهر الألف للاستفهام، دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق، ومعناها الإيجاب، تقديره: ستجعل فيها من يفسد فيها، قاله أبو عبيدة، قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا... وأندى العالمين بطون راح
معناه: أنتم خير من ركب المطايا.
ب. الثاني: أنهم قالوه لاستعلام وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض، ذكره الزّجّاج.
ج. الثالث: أنهم سألوا عن حال أنفسهم، فتقديره: أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبّح بحمدك، أم لا؟
8. سؤال وإشكال: هل علمت الملائكة أنهم يفسدون بتوقيف من الله تعالى، أم قاسوا على حال من قبلهم؟ والجواب: فيه قولان:
أ. أحدهما: أنه بتوقيف من الله تعالى، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وابن زيد وابن قتيبة، وروى السّدّيّ عن أشياخه: أنهم قالوا: ربّنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال يكون له ذريّة يفسدون في الأرض ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضا، فقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾
ب. والثاني: أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم، روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية ومقاتل.
9. قوله تعالى: ﴿وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، قرأ الجمهور بكسر الفاء، وضمّها طلحة بن مصرف وإبراهيم بن أبي عبلة، وهما لغتان، وروي عن طلحة وابن مقسم (ويسفّك): بضم الياء وفتح السين وتشديد الفاء مع كسرها، وهي لتكثير الفعل وتكريره.
10. وسفك الدم: صبّه وإراقته وسفحه، وذلك مستعمل في كل مضيّع، إلا أن السفك يختصّ الدم، والصّب والسّفح والإراقة يقال في الدّم وفي غيره.
11. في معنى تسبيحهم أربعة أقوال:
أ. أحدها: أنه الصلاة، قاله ابن مسعود وابن عباس.
ب. الثاني: أنه قول: سبحان الله، قاله قتادة.
ج. الثالث: أنه التعظيم والحمد، قاله أبو صالح.
د. الرابع: أنه الخضوع والذل، قاله محمد بن القاسم الأنباريّ.
12. القدس: الطهارة، وفي معنى تقديسهم ثلاثة أقوال:
أ. أحدها: أن معناه: نتطهّر لك من أعمالهم، قاله ابن عباس.
ب. والثاني: نعظّمك، ونكبّرك، قاله مجاهد.
ج. والثالث: نصلّي لك؛ قاله قتادة.
13. قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، فيه أربعة أقوال:
أ. أحدها: أن معناه: أعلم ما في نفس إبليس من البغي والمعصية، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسّدّيّ عن أشياخه.
ب. الثاني: أعلم أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، قاله قتادة.
ج. الثالث: أعلم أني أملأ جهنّم من الجنّة والنّاس، قاله ابن زيد.
د. الرابع: أعلم عواقب الأمور، فأنا أبتلي من تظنّون أنه مطيع، فيؤدّيه الابتلاء إلى المعصية كإبليس، ومن تظنّون به المعصية فيطيع، قاله الزّجّاج.
__________
(1) زاد المسير: 1/50.
الرَّازي:
ذكر الفخر الرازي (ت 606 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. هذه الآية دالة على كيفية خلقة آدم عليه السلام وعلى كيفية تعظيم الله تعالى إياه فيكون ذلك إنعاماً عاماً على جميع بني آدم فيكون هذا هو النعمة الثالثة من تلك النعم العامة التي أوردها في هذا الموضع.
2. في إذ قولان:
أ. أحدهما: أنه صلة زائدة إلا أن العرب يعتادون التكلم بها والقرآن نزل بلغة العرب.
ب. الثاني: وهو الحق أنه ليس في القرآن ما لا معنى له وهو نصب بإضمار اذكر، والمعنى أذكر لهم قال ربك للملائكة فأضمر هذا الأمرين:
• أحدهما: أن المعنى معروف.
• والثاني: أن الله تعالى قد كشف ذلك في كثير من المواضع كقوله: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف: 21] وقال: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ﴾ [ص: 17]، ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ﴾ [يس: 13، 14] والقرآن كله كالكلمة الواحدة ولا يبعد أن تكون هذه المواضع المصرحة نزلت قبل هذه السورة فلا جرم ترك ذلك هاهنا اكتفاء بذلك المصرح.
3. الملك أصله من الرسالة، يقال ألكني إليه أي أرسلني إليه، والمألكة والألوكة الرسالة، وأصله الهمزة من (ملأكة) حذفت الهمزة، وألقيت حركتها على ما قبلها طلباً للخفة لكثرة استعمالها، قال صاحب (الكشاف): الملائك جمع ملأك على الأصل كالشمائل في جمع شمأل وإلحاق التاء لتأنيث الجمع.
4. الخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ﴾ [يونس: 14]، ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ﴾ [الأعراف: 69]
5. في المراد بالخليفة قولان:
أ. أحدهما: أنه آدم عليه السلام، وقوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ المراد ذريته لا هو.
ب. الثاني: أنه ولد آدم، وقالوا: إنما سماهم خليفة لأنهم يخلف بعضهم بعضاً وهو قول الحسن ويؤكده قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ﴾ والخليفة اسم يصلح للواحد والجمع كما يصلح للذكر والأنثى وقرئ خليفة بالقاف.
6. الذين قالوا المراد آدم عليه السلام اختلفوا في أنه تعالى لم سماه خليفة، وذكروا فيه وجهين:
أ. الأول: بأنه تعالى لما نفى الجن من الأرض وأسكن آدم الأرض كان آدم عليه السلام خليفة لأولئك الجن الذين تقدموه، يروى ذلك عن ابن عباس.
ب. الثاني: إنما سماه الله خليفة لأنه يخلف الله في الحكم بين المكلفين من خلقه، وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والسدي، وهذا الرأي متأكد بقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [ص: 26]
7. جاعل من جعل الذي له مفعولان دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله: ﴿فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ فكانا مفعولين ومعناه مصير في الأرض خليفة.
8. الظاهر أن الأرض التي في الآية جميع الأرض من المشرق إلى المغرب، وروى عبد الرحمن بن سابط عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال دحيت الأرض من مكة، وكانت الملائكة تطوف بالبيت وهم أول من طاف به وهو في الأرض التي قال الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، والأول أقرب إلى الظاهر.
9. اختلفوا في أن المراد من قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ كل الملائكة أو بعضهم:
أ. روى الضحاك عن ابن عباس أنه سبحانه وتعالى إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً بعث الله إبليس في جند من الملائكة فقتلهم إبليس بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر فقال تعالى لهم: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
ب. قال الأكثرون من الصحابة والتابعين أنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص لأن لفظ الملائكة يفيد العموم فيكون التخصيص خلاف الأصل.
10. سؤال وإشكال: ما الفائدة في أن قال الله تعالى للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ مع أنه منزه عن الحاجة إلى المشورة؟ الجواب من وجهين:
أ. الأول: أنه تعالى علم أنهم إذا اطلعوا على ذلك السر أوردوا عليه ذلك السؤال فكانت المصلحة تقتضي إحاطتهم بذلك الجواب فعرفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السؤال ويسمعوا ذلك الجواب.
ب. الوجه الثاني: أنه تعالى علم عباده المشاورة.
11. الواو في ﴿وَنَحْنُ﴾ للحال، كما تقول: أتحسن إلى فلان، وأنا أحق بالإحسان.
12. التسبيح: تبعيد الله تعالى من السوء، وكذا التقديس، من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد، والتبعيد:
أ. إن أريد به التبعيد عن السوء فهو التسبيح.
ب. وإن أريد به التبعيد عن الخيرات فهو اللعن.
13. التبعيد عن السوء يدخل فيه التبعيد عن السوء في الذات والصفات والأفعال:
أ. أما في الذات فأن لا تكون محلًا للإمكان، فإن منع السوء وإمكانه هو العدم ونفي الإمكان يستلزم نفي الكثرة، ونفيها يستلزم نفي الجسمية والعرضية، ونفي الضد والند، وحصول الوحدة المطلقة، والوجوب الذاتي.
ب. وأما في الصفات فأن يكون منزهاً عن الجهل، فيكون محيطاً بكل المعلومات، وقادراً على كل المقدورات، وتكون صفاته منزهة عن التغييرات.
ج. وأما في الأفعال فأن لا تكون أفعاله لجلب المنافع ودفع المضار، وأن لا يستكمل بشيء منها ولا ينتقص بعدم شيء منها فيكون مستغنياً عن كل الموجودات والمعدومات مستولياً بالإعدام والإيجاد على كل الموجودات والمعدومات.
14. قوله: ﴿بِحَمْدِكَ﴾ في موضع الحال، أي نسبح لك حامدين لك ومتلبسين بحمدك، وأما المعنى ففيه وجهان:
أ. الأول: أنا إذا سبحانك فنحمدك سبحانك يعني ليس تسبيحنا تسبيحاً من غير استحقاق بل تستحق بحمدك وجلالك هذا التسبيح.
ب. الثاني: أنا نسبحك بحمدك فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك كما قال داوود عليه السلام: يا رب كيف أقدر أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكر نعمتك إلا بنعمتك إلا بنعمتك، فأوحى الله تعالى إليه: الآن قد شكرتني حيث عرفت أن كل ذلك مني)
15. اختلف العلماء في المراد من هذا التسبيح:
أ. روي أن أبا ذر دخل بالغداة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بالعكس، فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي: أي الكلام أحب إلى الله، قال: ما اصطفاه الله لملائكته: سبحان الله وبحمده رواه مسلم، وروى سعيد بن جبير(2). قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي، فمر رجل من المسلمين على رجل من المنافقين فقال له رسول الله: يصلي وأنت جالس لا تصلي، فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل، فقال: ما أظن إلا سيمر بك من ينكر عليك فمر عليه عمر بن الخطاب قال يا فلان إن رسول الله يصلي وأنت جالس، فقال له مثلها فوثب عليه فضربه، وقال هذا من عملي ثم دخل المسجد وصلى مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلما فرغ رسول الله من صلاته قام إليه عمر فقال يا نبي الله مررت آنفاً على فلان وأنت تصلي وهو جالس فقلت له: نبي الله يصلي وأنت جالس فقال لي مر إلى عملك فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم هلا ضربت عنقه، فقام عمر مسرعاً ليلحقه فيقتله فقال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا عمر ارجع فإن غضبك عز ورضاك حكم إن لله في السموات ملائكة له غنى بصلاتهم عن صلاة فلان، فقال عمر يا رسول الله وما صلاتهم، فلم يرد عليه شيئاً فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله سألك عمر عن صلاة أهل السماء قال نعم قال أقرئه مني السلام وأخبره بأن أهل سماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون، سبحان الحي الذي لا يموت، فهذا هو تسبيح الملائكة).
ب. الثاني: أن المراد بقوله: ﴿نُسَبِّحُ﴾ أي نصلي والتسبيح هو الصلاة، وهو قول ابن عباس وابن مسعود.
16. التقديس التطهير، ومنه الأرض المقدسة ثم اختلفوا على وجوه:
أ. أحدها: نطهرك أي نصفك بما يليق بك من العلو والعزة.
ب. ثانيها: قول مجاهد نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء لمرضاتك.
ج. ثالثها: قول أبي مسلم نطهر أفعالنا من ذنوبنا حتى تكون خالصة لك.
د. رابعها: نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقة في أنوار معرفتك.
17. ذكر المعتزلة ومن وافقهم على أن هذه الآية تدل على العدل من وجوه:
أ. أحدها: قولهم: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ أضافوا هذه الأفعال إلى أنفسهم فلو كانت أفعالًا لله تعالى لما حسن التمدح بذلك، ولا فضل لذلك على سفك الدماء إذ كل ذلك من فعل الله تعالى.
ب. ثانيها: لو كان الفساد والقتل فعلًا لله تعالى لكان يجب أن يكون الجواب أن يقول إني مالك أفعل ما أشاء.
ج. ثالثها: أن قوله: ﴿أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يقتضي التبري من الفساد والقتل لكن التبري من فعل نفسه محال.
د. رابعها: إذا كان لا فاحشة ولا قبح ولا جور ولا ظلم ولا فساد إلا بصنعه وخلقه ومشيئته فكيف يصح التنزيه والتقديس؟
هـ. خامسها: أن قوله: ﴿أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يدل على مذهب العدل لأنه لو كان خالقاً للكفر لكان خلقهم لذلك الكفر فكان ينبغي أن يكون الجواب نعم خلقهم ليفسدوا وليقتلوا، فلما لم يرضى بهذا الجواب سقط هذا المذهب.
و. سادسها: لو كان الفساد والقتل، من فعل الله تعالى لكان ذلك جارياً مجرى ألوانهم وأجسامهم وكما لا يصح التعجب من هذه الأشياء فكذا من الفساد والقتل.
والجواب عن هذه الوجوه المعارضة بمسألة الداعي والعلم.
18. سؤال وإشكال: كيف يصلح قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أن يكون جواباً عن السؤال الذي ذكروه؟ والجواب: السؤال يحتمل وجوهاً:
أ. أحدها: أنه للتعجب، فيكون قوله: ﴿أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ جواباً له من حيث إنه قال تعالى لا تتعجبوا من أن يكون فيهم من يفسد ويقتل، فإني أعلم مع هذا بأن فيهم جمعاً من الصالحين والمتقين وأنتم لا تعلمون.
ب. ثانيها: أنه للغم فيكون الجواب لا تغتموا بسبب وجود المفسدين، فإني أعلم أيضاً أن فيهم جمعاً من المتقين، ومن لو أقسم علي لأبره.
ج. ثالثها: أنه طلب الحكمة فجوابه أن مصلحتكم فيه أن تعرفوا وجه الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل، بل ربما كان ذلك التفصيل مفسدة لكم.
د. رابعها: أنه التماس لأن يتركهم في الأرض وجوابه إني أعلم أن مصلحتكم أن تكونوا في السماء لا في الأرض.
هـ. وجه خامس: وهو أنهم لما قالوا: ﴿نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ قال تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، وهو أن معكم إبليس، وأن في قلبه حسداً وكبراً ونفاقاً.
و. وجه سادس: وهو أني أعلم ما لا تعلمون فإنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فقد استعظمتم أنفسكم فكأنكم أنتم بهذا الكلام في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي، ولكن اصبروا حتى يظهر البشر فيتضرعون إلى الله بقولهم: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ [الأعراف: 44] وبقوله: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾ [الشعراء: 82] وبقوله: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19]
19. اتفق الجمهور الأعظم من علماء الدين على عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب، ومن الحشوية من خالف في ذلك.
20. من الأدلة التي استدلّ بها القائلون بعصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب:
أ. الأول: قوله تعالى: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6] إلا أن هذه الآية مختصة بملائكة النار، فإذا أردنا الدلالة العامة تمسكنا بقوله تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: 50]، فقوله ويفعلون ما يؤمرون يتناول جميع فعل المأمورات، وترك المنهيات، لأن المنهي عن الشيء مأمور بتركه.. والدليل على أن قوله ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ يفيد العموم هو أنه لا شيء من المأمورات إلا ويصح الاستثناء منه، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل.
ب. الثاني: قوله تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 26 ـ 27] فهذا صريح في براءتهم عن المعاصي وكونهم متوقفين في كل الأمور إلا بمقتضى الأمر والوحي.
ج. الثالث: أنه تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في البشر بالمعصية ولو كانوا من العصاة لما حسن منهم ذلك الطعن.
د. الرابع: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ومن كان كذلك امتنع صدور المعصية منه.
21. من الأدلة التي استدلّ بها القائلون بعدم عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ وهذا يقتضي صدور الذنب عنهم، ويدل على ذلك وجوه:
أ. أحدها: أن قولهم: أتجعل فيها، هذا اعتراض على الله تعالى وذلك من أعظم الذنوب.
ب. ثانيها: أنهم طعنوا في بني آدم بالفساد والقتل وذلك غيبة، والغيبة من كبائر الذنوب.
ج. ثالثها: أنهم بعد أن طعنوا في بني آدم مدحوا أنفسهم بقولهم: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ وأنهم قالوا: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾ [الصافات: 165، 166]، وهذا للحصر فكأنهم نفوا كون غيرهم كذلك، وهذا يشبه العجب والغيبة، وهو من الذنوب المهلكة، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: (ثلاث مهلكات، وذكر فيها إعجاب المرء بنفسه)، وقال تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النجم: 32]
د. رابعها: أن قولهم ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ يشبه الاعتذار، فلولا تقدم الذنب، وإلا لما اشتغلوا بالعذر.
هـ. خامسها: أن قوله: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 31] يدل على أنهم كانوا كاذبين فيما قالوه أولًا.
و. سادسها: أن قوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: 33] يدل على أن الملائكة ما كانوا عالمين بذلك قبل هذه الواقعة وأنهم كانوا شاكين في كون الله تعالى عالماً بكل المعلومات.
ز. سابعها: أن علمهم يفسدون ويسفكون الدماء، إما أن يكون قد حصل بالوحي إليهم في ذلك أو قالوه استنباطاً والأول بعيد لأنه إذا أوحى الله تعالى ذلك إليهم لم يكن لإعادة ذلك الكلام فائدة فثبت أنهم قالوه عن الاستنباط والظن والقدح في الغير على سبيل الظن غير جائز لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36] وقال: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [يونس: 36]
ح. ثامنها: روي عن ابن عباس أنه قال: إن الله سبحانه وتعالى قال للملائكة الذين كانوا جند إبليس في محاربة الجن ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ فقالت الملائكة مجيبين له سبحانه: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ ثم علموا غضب الله عليهم: فـ ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا﴾ ﴿فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 31] في أني لا أخلق خلقاً إلا وأنتم أفضل منه ففزع القوم عند ذلك إلى التوبة وقالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا وفي بعض الروايات أنهم لما قالوا أتجعل فيها، أرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم.
22. أجاب القائلون بعصمة الملائكة عن هذه الشبهة، بأن قولهم أن الملائكة عليهم السلام اعترضوا على الله تعالى، وأن هذا من أعظم الذنوب بأنه ليس غرضهم من ذلك السؤال تنبيه الله على شيء كان غافلًا عنه، فإن من اعتقد ذلك في الله فهو كافر، ولا الإنكار على الله تعالى في فعل فعله، بل المقصود من ذلك السؤال أمور:
أ. أحدها: أن الإنسان إذا كان قاطعاً بحكمة غيره، ثم رأى أن ذلك الغير يفعل فعلًا لا يقف على وجه الحكمة فيه، فيقول له: أتفعل هذا! كأنه يتعجب من كمال حكمته وعلمه.. ويقول: إعطاء هذه النعم لمن يفسد من الأمور التي لا تهتدي العقول فيها إلى وجه الحكمة، فإذا كنت تفعلها، وأعلم أنك لا تفعلها إلا لوجه دقيق وسر غامض أنت مطلع عليه، فما أعظم حكمتك، وأجل علمك، فالحاصل أن قوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ كأنه تعجب من كمال علم الله تعالى وإحاطة حكمته بما خفي على كل العقلاء.
ب. ثانيها: أن إيراد الإشكال طلباً للجواب غير محذور فكأنهم قالوا إلهنا أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه ألبتة، ونحن نرى في العرف أن تمكين السفيه من السفه سفه، فإذا خلقت قوماً يفسدون ويقتلون وأنت مع علمك أن حالهم كذلك خلقتهم ومكنتهم وما منعتهم عن ذلك، فهذا يوهم السفه وأنت الحكيم المطلق، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين، فكأن الملائكة أوردوا هذا السؤال طلباً للجواب، وهذا جواب المعتزلة قالوا: وهذا يدل على أن الملائكة لم يجوزوا صدور القبيح من الله تعالى، وكانوا على مذهب أهل العدل، قالوا: والذي يؤكد هذا الجواب وجهان:
• أحدهما: أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق.
• الثاني: أنهم قالوا: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ لأن التسبيح تنزيه ذاته عن صفة الأجسام، والتقديس تنزيه أفعاله عن صفة الذم ونعت السفه.
ج. ثالثها: أن الشرور وإن كانت حاصلة في تركيب هذا العالم السفلي إلا أنها من لوازم الخيرات الحاصلة فيه، وخيراتها غالبة على شرورها، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير، فالملائكة ذكروا تلك الشرور، فأجابهم الله تعالى بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يعني أن الخيرات الحاصلة من أجل تراكيب العالم السفلي أكثر من الشرور الحاصلة فيها والحكمة تقتضي إيجاد ما هذا شأنه لا تركه وهذا جواب الحكماء.
د. رابعها: أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه.
هـ. خامسها: أن قول الملائكة: ﴿ أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ﴾ مسألة منهم أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحاً فكأنهم قالوا: يا إلهنا اجعل الأرض لنا لا لهم كما قال موسى عليه السلام: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾ [الأعراف: 155]، والمعنى لا تهلكنا، فقال تعالى: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من صلاحكم وصلاح هؤلاء الذين أجعلهم في الأرض، فبين ذلك أنه اختار لهم السماء خاصة، ولهؤلاء الأرض خاصة لعلمه بصلاح ذلك في أديانهم ليرضى كل فريق بما اختاره الله له.
و. سادسها: أنهم طلبوا الحكمة التي لأجلها خلقهم مع هذا الفساد والقتل.
ز. سابعها: يحتمل أن الله تعالى لما أخبرهم أنه يجعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها، أي ستفعل ذلك فهو إيجاب خرج مخرج الاستفهام قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا... وأندى العالمين بطون راح
أي أنتم كذلك، ولو كان استفهاماً لم يكن مدحاً، ثم قالت الملائكة إنك تفعل ذلك، ونحن مع هذا نسبح بحمدك ونقدس، لما أنا نعلم أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة، فلما قالوا ذلك قال الله تعالى لهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ كأنه قال والله أعلم نعم ما فعلتم حيث لم تجعلوا ذلك قادحاً في حكمتي فإني أعلم ما لا تعلمون فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل وما علمتم باطنهم، وأنا أعلم ظاهرهم وباطنهم فأعلم من بواطنهم أسراراً خفية وحكماً بالغة تقتضي خلقهم وإيجادهم.
23. أجاب القائلون بعصمة الملائكة عن أن الملائكة عليهم السلام ذكروا بني آدم بما لا ينبغي وهو الغيبة، بأن محل الإشكال في خلق بني آدم إقدامهم على الفساد والقتل، ومن أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال لا لغيره، فلهذا السبب ذكروا من بني آدم هاتين الصفتين وما ذكروا منهم عبادتهم وتوحيدهم لأن ذلك ليس محل الإشكال.
24. أجاب القائلون بعصمة الملائكة عن أنهم مدحوا أنفسهم وذلك يوجب العجب وتزكية النفس، بأن:
أ. مدح النفس غير ممنوع منه مطلقاً لقوله: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 11]
ب. وأيضاً يحتمل أن يكون قولهم: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ ليس المراد مدح النفس، بل المراد بيان أن هذا السؤال ما أوردناه لنقدح به في حكمتك يا رب فإنا نسبح بحمدك ونعترف لك بالإلهية والحكمة، فكأن الغرض من ذلك بيان أنهم ما أوردوا السؤال للطعن في الحكمة والإلهية، بل لطلب وجه الحكمة على سبيل التفصيل.
25. أجاب القائلون بعصمة الملائكة عن أن قولهم: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ يشبه الاعتذار فلا بد من سبق الذنب، بأنّا نسلم أن الأولى للملائكة أن لا يوردوا ذلك السؤال، فلما تركوا هذا الأولى كان ذلك الاعتذار اعتذاراً من ترك الأولى.. فإن قيل أليس أنه تعالى قال ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾ [الأنبياء: 27] فهذا السؤال وجب أن يكون بإذن الله تعالى، وإذا كانوا مأذونين في هذا السؤال فكيف اعتذروا عنه؟ والجواب: العام قد يتطرق إليه التخصيص.
26. أجاب القائلون بعصمة الملائكة عن أن إخبار الملائكة عن الفساد وسفك الدماء، إما أن يكون حصل عن الوحي أو قالوه استنباطاً وظناً، وقد اختلف العلماء فيه:
أ. فمنهم من قال إنهم ذكروا ذلك ظناً، ثم ذكروا فيه وجهين:
• الأول: وهو مروي عن ابن عباس والكلبي أنهم قاسوه على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض.
• الثاني: أنهم عرفوا خلقته وعرفوا أنه مركب من هذه الأخلاط الأربعة فلا بد وأن تتركب فيه الشهوة والغضب فيتولد الفساد عن الشهوة وسفك الدماء عن الغضب.
ب. ومنهم من قال إنهم قالوا ذلك على اليقين وهو مروي عن ابن مسعود وناس من الصحابة ثم ذكروا فيه وجوهاً:
• أحدها: أنه تعالى لما قال للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً، فعند ذلك قالوا: ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء.
• ثانيها: أنه تعالى كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء.
• ثالثها: قال ابن زيد لما خلق الله تعالى النار خافت الملائكة خوفاً شديداً فقالوا: ربنا لمن خلقت هذه النار؟ قال: لمن عصاني من خلقي ولم يكن لله يومئذ خلق إلا الملائكة ولم يكن في الأرض خلق ألبتة، فلما قال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ عرفوا أن المعصية تظهر منهم.
• رابعها: لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك.
• خامسها: إذا كان معنى الخليفة من يكون نائباً لله تعالى في الحكم والقضاء، والاحتجاج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع والتظالم كان الإخبار عن وجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشر بطريق الالتزام، قال أهل التحقيق: والقول بأنه كان هذا الإخبار عن مجرد الظن باطل لأنه قدح في الغير بما لا يأمن أن يكون كاذباً فيه، وذلك ينافي العصمة والطهارة.
• أما الوجه السادس: هو الإخبار التي ذكروها فهي من باب أخبار الآحاد فلا تعارض الدلائل التي ذكرناها.
27. من الأدلة التي استدلّ بها القائلون بعدم عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب قصة هاروت وماروت، حيث زعموا:
أ. أنهما كانا ملكين من الملائكة وأنهما لما نظرا إلى ما يصنع أهل الأرض من المعاصي أنكرا ذلك وأكبراه ودعوا على أهل الأرض فأوحى الله تعالى إليهما إني لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم من الشهوات لعصيتماني، فقالا: يا رب لو ابتليتنا لم نفعل فجربنا فأهبطهما إلى الأرض، وابتلاهما الله بشهوات بني آدم، فمكثا في الأرض، وأمر الله الكوكب المسمى بالزهرة، والملك الموكل به فهبطا إلى الأرض، فجعل الزهرة في صورة امرأة صورة امرأة، والملك في صورة رجل، ثم إن الزهرة اتخذت منزلًا، وزينت نفسها، ودعتهما إلى نفسها، ونصف الملك نفسه في منزلها في مثال صنم، فأقبلا إلى منزلها ودعواها إلى الفاحشة، فأبت عليهما إلا أن يشربا خمراً، فقالا: لا نشرب الخمر، ثم غلبت الشهوة عليهما، فشربا ثم دعواها إلى ذلك، فقالت: بقيت خصلة، لست أمكنكما من نفسي حتى تفعلاها، قالا: وما هي؟ قالت: تسجدان لهم الصنم، فقالا: لا نشرك بالله، ثم غلبت الشهوة عليهما، فقالا: نفعل، ثم نستغفر، فسجدا للصنم، فارتفعت الزهرة وملكها إلى موضعهما من السماء، فعرفا حينئذ أنه إنما أصابهما ذلك بسبب تعيير بني آدم.
ب. وفي رواية أخرى أن الزهرة كانت فاجرة من أهل الأرض، وإنما واقعاها بعد أن شربا الخمر وقتلا النفس، وسجدا للصنم، وعلماها الاسم الأعظم الذي كانا به يعرجان إلى السماء، فتكلمت المرأة بذلك الاسم، وعرجت إلى السماء، فمسخها الله تعالى وصيرها هذا الكوكب المسمى بالزهرة، ثم إن الله تعالى عرف هاروت وماروت قبيح ما فيه وقعا، ثم خيرهما بين عذاب الآخرة آجلًا وبين عذاب الدنيا عاجلًا، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة، وهما يعلمان الناس السحر، ويدعوان إليه، ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع لتعلم السحر خاصة، وتعلقوا في ذلك بقوله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ﴾ [البقرة: 102]
28. أجاب القائلون بعصمة الملائكة عن هذه الشبهة، بأن القصة التي ذكروها باطلة من وجوه:
أ. أحدها: أنهم ذكروا في القصة أن الله تعالى قال لهما لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني فقالا لو فعلت ذلك بنا يا رب لما عصيناك، وهذا منهم تكذيب لله تعالى وتجهيل له وذلك من صريح الكفر، والحشوية سلموا أنهما كانا قبل الهبوط إلى الأرض معصومين.
ب. ثانيها: في القصة أنهما خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وذلك فاسد، بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة وبين العذاب، والله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره وبالغ في إيذاء أنبيائه.
ج. ثالثها: في القصة أنهما يعلمان السحر حال كونهما معذبين، ويدعوان إليه، وهما معاقبان على المعصية.
د. رابعها: أن المرأة الفاجرة كيف يعقل أنها لما فجرت صعدت إلى السماء، وجعلها الله تعالى كوكباً مضيئاً وعظم قدره بحيث أقسم به حيث قال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ [التكوير: 15]
فهذه القصة قصة ركيكة يشهد كل عقل سليم بنهاية ركاكتها.
29. من الأدلة التي استدلّ بها القائلون بعدم عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب أن إبليس كان من الملائكة المقربين، ثم إنه عصى الله تعالى وكفر، وذلك يدل على صدور المعصية من جنس الملائكة.
30. أجاب القائلون بعصمة الملائكة عن هذه الشبهة، بأن إبليس ما كان من الملائكة.
31. من الأدلة التي استدلّ بها القائلون بعدم عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً﴾ [المدثر: 31] قالوا: فدل هذا على أن الملائكة يعذبون لأن أصحاب النار لا يكونون إلا ممن يعذب فيها كما قال: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
32. أجاب القائلون بعصمة الملائكة عن هذه الشبهة، بأن قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً﴾ [المدثر: 31] لا يدل على كونهم معذبين في النار وقوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 39] لا يدل أيضاً على كونهم معذبين بالنار بمجرد هذه الآية، بل إنما عرف ذلك بدليل آخر فقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً﴾ يريد به خزنة النار والمتصرفين فيها والمدبرين لأمرها.
33. اختلفوا في أن الملائكة هل هم قادرون على المعاصي والشرور أم لا(3).
أ. قال جمهور الفلاسفة وكثير من أهل الجبر: إنهم خيرات محض ولا قدرة لهم ألبتة على الشرور والفساد.
ب. قال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء: إنهم قادرون على الأمرين واحتجوا على ذلك بوجوه:
أ. أحدها: أن قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ إما أن يكون معصية أو ترك الأولى، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل.
ب. ثانيها: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: 29] وذلك يقتضي كونهم مزجورين ممنوعين، وقال أيضاً: ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأعراف: 206]، والمدح بترك الاستكبار إنما يجوز له كان قادراً على فعل الاستكبار.
ج. ثالثها: أنهم لو لم يكونوا قادرين على ترك الخيرات لما كانوا ممدوحين بفعلها، لأن الملجأ إلى الشيء ومن لا يقدر على ترك الشيء لا يكون ممدوحاً بفعل ذلك الشيء، وقد استدلّ بهذا بعض المعتزلة فقلت له: أليس أن الثواب والعوض واجبان على الله تعالى، ومعنى كونه واجباً عليه أنه لو تركه للزم من تركه إما الجهل وإما الحاجة وهما محالان والمفضي إلى المحال محال، فيكون ذلك الترك محالًا من الله تعالى، وإذا كان الترك محالًا كان الفعل واجباً فيكون الله تعالى فاعلًا للثواب والعوض واجب وتركه محال مع أنه تعالى ممدوح على فعل ذلك، فثبت أن امتناع الترك لا يقدح في حصول المدح فانقطع وما قدر على الجواب.
__________
(1) تفسير الفخر الرازي: 2/384.
(2) هذا الحديث ظاهر الوضع، وهو معارض للقرآن من نواح متعددة.
(3) تفسير الفخر الرازي: 2/394.
ابن حمزة:
قال الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ): ما حكى من قصة الملائكة في قولهم: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ ـ فإن المراد بذلك: الغيوب، وأصول العلم التي لا تصح إلا من جهته سبحانه؛ لأن العلوم كلها لو كانت من قبله تعالى، فمنها: القبيح الذي لا يجوز أن يفعله الحكيم تعالى كالسحر، والشعبذة، وترتيب أنواع الملاهي، وكيفية إيراد الشبهة لهدم قواعد الإسلام ـ حرسه الله تعالى ـ، إلى غير ذلك، والحسن الذي يثاب عليه العبد؛ فلا يجوز إضافة القبيح إلى الله تعالى لتعاليه عنه، ولا إضافة الحسن منها إليه؛ لإثابته عليه، وهو لا يثيبنا على فعله كما لا يثيبنا على ألواننا وأجسامنا؛ لما كانت فعله، فتفهم ما ذكرت لك موفقا إن شاء الله(1)..
__________
(1) الأنوار البهية المنتزع من كتب أئمة الزيدية: 1/32.
القرطبي:
ذكر محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. إذ وإذا حرفا توقيت، فإذ للماضي، وإذا للمستقبل، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى، وقال المبرد: إذا جاء (إذ) مع مستقبل كان معناه ماضيا، نحو قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ﴾ [الأنفال: 30] ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 37] معناه إذ مكروا، وإذ قلت، وإذا جاء (إذا) مع الماضي كان معناه مستقبلا، كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ﴾ [النازعات: 34] ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾ [عبس: 33] و ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾ [النصر: 1] أي يجئ.
2. قال معمر بن المثنى أبو عبيدة: إذ) زائدة، والتقدير: وقال ربك، واستشهد بقول الأسود بن يعفر:
فإذ وذلك لا مهاة لذكره... وـ الدهر يعقب صالحا بفساد
وأنكر هذا القول الزجاج والنحاس وجميع المفسرين، قال النحاس: وهذا خطأ، لان (إذ) اسم وهي ظرف زمان ليس مما تزاد، وقال الزجاج: هذا اجترام من أبي عبيدة، ذكر الله عز وجل خلق الناس وغيرهم، فالتقدير وابتدأ خلقكم إذ قال فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام، كما قال:
فإن المنية من يخشها... فسوف تصادفه أينما
يريد أينما ذهب.
3. يحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال وقيل: هو مردود إلى قوله تعالى: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة: 21]، فالمعنى الذي خلقكم، إذ قال ربك للملائكة.
4. الملائكة واحدها ملك، قال ابن كيسان وغيره: وزن ملك فعل من الملك، وقال أبو عبيدة، هو مفعل من لاك إذا أرسل، والألوكة والمالكة والمالكة: الرسالة، قال لبيد:
وغلام أرسلته أمه... بألوك فبذلنا ما سأل
وقال آخر:
أبلغ النعمان عني مألكا... إنني قد طال حبسي وانتظاري
ويقال: الكنى أي أرسلني، فأصله على هذا مالك، الهمزة فاء الفعل فإنهم قلبوها إلى عينه فقالوا: ملاك، ثم سهلوه فقالوا ملك، وقيل أصله ملاك من ملك يملك، نحو شمال من شمل، فالهمزة زائدة عن ابن كيسان أيضا، وقد تأتي في الشعر على الأصل، قال الشاعر:
فلست لإنسي ولكن لملأك... تنزل من جو السماء يصوب
وقال النضر بن شميل، لا اشتقاق للملك عند العرب، والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع، ومثله الصلادمة، والصلادم: الخيل الشداد، واحدها صلدم، وقيل: هي للمبالغة، كعلامة ونسابة.
5. اختلف في ﴿خَلِيفَةً﴾ :
أ. قيل: يكون بمعنى فاعل، أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض، أو من كان قبله من غير الملائكة على ما روى.
ب. يجوز أن يكون ﴿خَلِيفَةً﴾ بمعنى مفعول أي مخلف، كما يقال: ذبيحة بمعنى مفعولة.
6. الخلف (بالتحريك) من الصالحين، وبتسكينها من الطالحين، هذا هو المعروف.
7. المعنى بالخليفة هنا ـ في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل ـ آدم عليه السلام، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره، لأنه أول رسول إلى الأرض، كما في حديث أبي ذر، قال قلت: يا رسول الله انبئا كان مرسلا؟ قال: نعم) الحديث.
8. قوله تعالى: ﴿جَاعِلِ﴾ هنا بمعنى خالق، ذكره الطبري عن أبي روق، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد.
9. الأرض قيل: إنها مكة، روى ابن سابط عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: دحيت الأرض من مكة)، ولذلك سميت أم القرى، قال وقبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام.
10. قول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم، وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وهو الذي ارتضاه أبو المعالي.
11. سؤال وإشكال: علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعلمت ولا تسبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة، لان قوله: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾ خرج على جهة المدح لهم، فكيف قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾؟ والجواب المعنى:
أ. أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد، إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية، فجاء قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ على جهة الاستفهام المحض: هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟ وهذا القول حسن جدا، لان فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء.
ب. إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء(2).، فقالوا لذلك هذه المقالة:
• إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك.
• وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا: الاستخلاف والعصيان.
ج. وقال قتادة: كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقا أفسدوا وسفكوا الدماء، فسألوا حين قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ أهو الذي أعلمهم أم غيره، وهذا قول حسن، رواه عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ قال: كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فلذلك قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾، وفي الكلام حذف على مذهبه، والمعنى إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا ويفعل كذا، فقالوا: أتجعل فيها الذي أعلمتناه أم غيره؟.
12. قد قيل: إن سؤاله تعالى للملائكة بقوله: كيف تركتم عبادي) ـ على ما ثبت في صحيح مسلم وغيره ـ إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال أتجعل فيها، وإظهار لما سبق في معلومة إذ قال لهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
13. قوله: ﴿مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ (من) في موضع نصب على المفعول بتجعل والمفعول الثاني يقوم مقامه (فيها).
14. (يفسد) على اللفظ، ويجوز في غير القرآن يفسدون على المعنى، وفي التنزيل: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ [الانعام: 25] على اللفظ، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ﴾ على المعنى.
15. ﴿وَيَسْفِكُ﴾ عطف عليه، ويجوز فيه الوجهان، وروى أسيد عن الأعرج أنه قرأ: ويسفك الدماء) بالنصب، يجعله جواب الاستفهام بالواو كما قال:
ألم أك جاركم وتكون بيني... وـ بينكم المودة والإخاء
16. السفك: الصب، سفكت الدم أسفكه سفكا: صببته، وكذلك الدمع، حكاه ابن فارس والجوهري، والسفاك: السفاح، وهو القادر على الكلام، قال المهدوي: ولا يستعمل السفك إلا في الدم، وقد يستعمل في نثر الكلام، يقال سفك الكلام إذا نثره.
17. وواحد الدماء دم، محذوف اللام، وقيل: أصله دمي، وقيل: دمي، ولا يكون اسم على حرفين إلا وقد حذف منه، والمحذوف منه ياء وقد نطق به على الأصل، قال الشاعر:
فلو أنا على حجر ذبحنا... جرى الدميان بالخبر اليقين
18. قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ أي ننزهك عما لا يليق بصفاتك، والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على وجه التعظيم، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
أقول لما جاءني فخره... سبحان من علقمة الفاخر
أي براءة من علقمة.. روى طلحة بن عبيد الله قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن تفسير سبحان الله فقال: هو تنزيه الله عز وجل عن كل سوء)، وهو مشتق من السبح وهو الجري والذهاب، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾ [المزمل: 7] فالمسبح جار في تنزيه الله تعالى وتبرئته من السوء.
19. اختلف أهل التأويل في تسبيح الملائكة:
أ. قال ابن مسعود وابن عباس: تسبيحهم صلاتهم، ومنه قول الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ [الصافات: 143] أي المصلين.
ب. وقيل: تسبيحهم رفع الصوت بالذكر، قاله المفضل، واستشهد بقول جرير:
قبح الإله وجوه تغلب كلما... سبح الحجيج وكبروا إهلالا
ج. قال قتادة: تسبيحهم: سبحان الله، على ما عرفه في اللغة، وهو الصحيح لما رواه أبو ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته [أو لعباده] سبحان الله وبحمده)، أخرجه مسلم، وعن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسرى به سمع تسبيحا في السموات العلا: سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى، ذكره البيهقي.
20. قوله تعالى: ﴿بِحَمْدِكَ﴾ أي وبحمدك نخلط التسبيح بالحمد ونصله به، والحمد: الثناء.
21. يحتمل أن يكون قولهم: ﴿بِحَمْدِكَ﴾ اعتراضا بين الكلامين، كأنهم قالوا: ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضوا على جهة التسليم، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك.
22. اختلف في معنى قوله تعالى: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ :
أ. قيل: أي نعظمك ونمجدك ونطهر ذكرك عما لا يليق بك مما نسبك إليه الملحدون، قال مجاهد وأبو صالح وغيرهما.
ب. وقال الضحاك وغيره: المعنى نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك.
ج. وقال قوم منهم قتادة: ﴿ نُقَدِّسُ لَكَ ﴾ معناه نصلي، والتقديس: الصلاة، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، بل معناه صحيح، فإن الصلاة تشتمل على التعظيم والتقديس والتسبيح، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، روته عائشة أخرجه مسلم.
23. بناء (قدس) كيفما تصرف فإن معناه التطهير، ومنه قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾ [المائدة: 21] أي المطهرة، وقال: ﴿الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ﴾ [الحشر: 23] يعني الطاهر، ومثله: ﴿بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ﴾ ﴾ طُوىً ﴾ [طه: 12]، وبيت المقدس سمي به لأنه المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب أي يتطهر، ومنه قيل للسطل: قدس، لأنه يتوضأ فيه ويتطهر، ومنه القادوس، وفي الحديث: لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها)، يريد لا طهرها الله، أخرجه ابن ماجة في سننه، فالقدس: الطهر من غير خلاف، وقال الشاعر:
فأدركنه يأخذن بالساق والنسا... كما شبرق الولدان ثوب المقدس
أي المطهر، فالصلاة طهرة للعبد من الذنوب، والمصلي يدخلها على أكمل الأحوال لكونها أفضل الأعمال.
24. لما بين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد قال تطييبا لقلوبهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ﴾، وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء، وكشف لهم عن مكنون علمه.
25. ﴿أَعْلَمُ﴾ فيه تأويلان:
أ. قيل: إنه فعل مستقبل.
ب. وقيل: إنه اسم بمعنى فاعل، كما يقال: الله أكبر، بمعنى كبير، وكما قال:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل... على أينا تعدو المنية أول
26. على أنه فعل تكون (ما) في موضع نصب بأعلم، ويجوز إدغام الميم في الميم، وإن جعلته اسما بمعنى عالم تكون (ما) في موضع خفض بالإضافة، قال ابن عطية: ولا يصح فيه الصرف بإجماع من النحاة، وإنما الخلاف في (أفعل) إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والأخفش يصرفه، قال المهدوي: يجوز أن تقدر التنوين في (أعلم) إذا قدرته بمعنى عالم، وتنصب (ما) به، فيكون مثل حواج بيت الله، قال الجوهري: ونسوة حواج بيت الله، بالإضافة إذا كن قد حججن، وإن لم يكن حججن، حواج بيت الله، فتنصب البيت، لأنك تريد التنوين في حواج.
27. اختلف علماء التأويل في المراد بقوله تعالى: ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ :
أ. قال ابن عباس: كان إبليس ـ لعنه الله ـ قد أعجب ودخله الكبر لما جعله خازن السماء وشرفه، فاعتقد أن ذلك لمزية له، فاستخف الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام، وقالت الملائكة: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: 30] وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك، فقال الله تعالى لهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30]
ب. قال قتادة: لما قالت الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ [البقرة: 30] وقد علم الله أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة قال لهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
ج. ويحتمل أن يكون المعنى إني أعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون ومما هو كائن، فهو عام.
__________
(1) تفسير القرطبي: 1/262.
(2) نسبه لأحمد بن يحيى ثعلب، وابن زيد وغيره.
الشوكاني:
ذكر محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿إِذِ﴾ من الظروف الموضوعة للتوقيت وهي للماضي، وإذا للمستقبل، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى، وقال المبرّد: هي مع المستقبل للمضيّ وإذا مع الماضي للاستقبال، وقال أبو عبيدة: إنها هنا زائدة، وحكاه الزجاج وابن النحاس وقالا: هي ظرف زمان ليست مما يزاد، وهي هنا في موضع نصب بتقدير اذكر أو بقالوا؛ وقيل هو متعلق بخلق لكم، وليس بظاهر.
2. الملائكة جمع ملك بوزن فعل، قاله ابن كيسان، وقيل: جمع ملأك، بوزن مفعل قاله أبو عبيدة، من لأك: إذا أرسل، والألوكة: الرسالة، قال لبيد:
وغلام أرسلته أمّه... بألوك فبذلنا ما سأل
وقال عديّ بن زيد:
أبلغ النّعمان عنّي مالكا... أنه قد طال حبسي وانتظاري
ويقال ألكني: أي أرسلني، وقال النضر بن شميل: لا اشتقاق لملك عند العرب، والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع، ومثله الصلادمة، والصلادم: الخيل الشداد واحدها صلدم، وقيل: هي للمبالغة كعلامة ونسابة
3. الخليفة هنا:
أ. معناه الخالف لمن كان قبله من الملائكة.
ب. ويجوز أن يكون بمعنى المخلوف: أي يخلفه غيره؛ قيل هو آدم؛ وقيل كل من له خلافة في الأرض.
ويقوي الأوّل قوله خليفة دون خلائف، واستغنى بآدم عن ذكر من بعده.
4. سبب خطاب الله تعالى الملائكة عليهم السلام بهذا الخطاب:
أ. قيل: خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب لا للمشورة، ولكن لاستخراج ما عندهم.
ب. وقيل: خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال فيجابون بذلك الجواب.
ج. وقيل: لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم.
5. ﴿جَاعِلِ﴾ هنا من جعل المتعدي إلى مفعولين، وذكر المطرزي أنه بمعنى خالق، وذلك يقتضي أنه متعدّ إلى مفعول واحد.
6. ﴿الْأَرْضُ﴾ هنا:
أ. هي هذه الغبراء، ولا يختص ذلك بمكان دون مكان.
ب. وقيل: إنها مكة.
7. اختلف في قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ :
أ. ظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض؛ لكونهم مظنة للإفساد في الأرض؛ وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن يتقدم لهم معرفة ببني آدم، بل قبل وجود آدم فضلا عن ذريته، لعلم قد علموه من الله سبحانه بوجه من الوجوه لأنهم لا يعلمون الغيب؛ قال بهذا جماعة من المفسرين.
ب. وقال بعض المفسرين: إن في الكلام حذفا، والتقدير: إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا، فقالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ وقوله: ﴿يُفْسِدُ﴾ قائم مقام المفعول الثاني.
8. جملة ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ حالية، والتسبيح في كلام العرب: التنزيه والتبعيد من السوء على وجه التعظيم، قال الأعشى:
أقول لمّا جاءني فخره... سبحان من علقمة الفاخر
9. ﴿بِحَمْدِكَ﴾ في موضع الحال: أي حامدين لك.
10. التقديس: التطهير؛ أي ونطهرك عما لا يليق بك مما نسبه إليك الملحدون وافتراه الجاحدون، وذكر في الكشاف أن معنى التسبيح والتقديس واحد وهو تبعيد الله من السوء، وأنهما من سبح في الأرض والماء، وقدّس في الأرض: إذا ذهب فيها وأبعد، وفي القاموس وغيره من كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه، والتأسيس خير من التأكيد خصوصا في كلام الله سبحانه، ولما كان سؤالهم واقعا على صفة تستلزم إثبات شيء من العلم لأنفسهم.
11. أجاب الله سبحانه عليهم بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل، لأن من علم ما لا يعلم المخاطب له كان حقيقا بأن يسلم له ما يصدر عنه، وعلى من لا يعلم أن يعترف لمن يعلم بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم وتقتضيه المصلحة الراجحة والحكمة البالغة.
12. لم يذكر متعلق قوله ﴿تَعْلَمُونَ﴾ ليفيد التعميم، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب ويعترف بالعجز ويقر بالقصور.
__________
(1) تفسير الشوكاني: 1/75.
أَطَّفِّيش:
ذكر محمد أَطَّفِّيش (ت 1332 هـ) في تفسير هذا المقطع ما يلي(1):
1. ﴿وَإِذْ قَالَ﴾ واذكر إذ قال، وقيل: ظرف لـ (قالوا)، ﴿رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ﴾ كلِّهم، وقيل: لطائفة هم خُزَّان الجنان يسمَّون الجانَّ، أرسلهم إلى الأرض ليطردوا الجنَّ منها، إلى البحار والجزائر والجبال، ولا يصحُّ هذا، ولا يصحُّ أنَّ إبليس مَلَكٌ منهم، وأقرب من هذا أنَّه ولد من الجنِّ قبله، وليسوا ملائكة، قاتلهم الملائكة وأسروه، فتعبَّد مع الملائكة، والمشهور أنَّه أوَّل الجنِّ، وقيل: ملائكة الأرض؛ لأنَّ الكلام في خلافة الأرض.
2. والمفرد: (مَلأََكٌ) ـ بهمزة مفتوحة بعد اللَّام ـ وهو مقلوب (مَأْلَك) ـ بهمزة ساكنة قبل اللام ـ من الألوكة وهي الرسالة، وهم رسل الله إلى الأنبياء وإلى ما شاء الله، وأخطأ من قال: إنَّ ملائكة الأرض يعصون كبني آدم، والملائكة أجسام نورانيَّة قادرة على التشكُّل بأشكال مختلفة، وعلى الظهور.
3. ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الَارْضِ خَلِيفَةً﴾ ينفِّذ الأحكام عنِّي وهو آدم، إذ لا يقدر أهل الأرض على تلقِّي الأحكام عن الله ولا عن الملائكة.
4. ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُّفْسِدُ فِيهَا﴾ بالذنوب الكبار والصغار، والمكروهات، كالعُجْب، والكِبْر، والبغي، والحسد، ﴿وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ﴾ يريقها، كناية عن القتل ولو بلا إراقة دم، فلعلَّهم علموا ذلك من فِعْلِ الجنِّ الذين سكنوا الأرض قبل آدم ـ في القول به ـ وقاسوا عليه آدم وأولادَه، أو علموا ذلك من اللوح، أو بإخبار الله لهم، كما روي أنَّهم قالوا: (يا ربَّنا، ما تفعل ذرِّية هذا الخليفة؟) فقال: (يفسدون فيها ويسفكون الدماء)، أو بإلهام، أو لفهمهم أنَّ من خالف الخلقة الملَكيَّة لا يخلو عن ذلك، وقولهم ذلك تعجُّبٌ وطلبٌ للعلم بحكمة اقتضت جعل الخليفة، مع أنَّه يحصل الفساد والسفك، ولعلَّهم بالغوا في التعجُّب والطلب، فعاقبهم بقطع الوحي عنهم، إلى أن أوحى إليهم: ﴿إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30]، وقيل: استفهام حقيقيٌّ، أي: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء أم من يُصلح؟
5. ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ نسبِّحك مصاحبين بحمدك، نقول: (سبحان الله والحمد لله)، أو (سبحان الله وبحمده)، أي: وبحمده نسبِّح، سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أيُّ الكلام أفضل؟ قال: (ما اصطفى الله تعالى لملائكته، سبحان الله وبحمده)، ويقال: تسبيح الملائكة: (سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العظمة والجبروت، سبحان الحيِّ الذي لا يموت)، أو: (نسبِّحك مثْنين عليك وشاكرين لك على توفيقك لنا للحمد)، أو كقولك: كان كذا بحمد الله، أي: بفضله وإذنه.
6. ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ نطهِّرك عن صفات النقص، أي: نعتقد خلوَّك عنها، وجاز هذا لأنَّ التسبيح المذكور مراد به لفظ (سبحان)، وإذا كان ذلك حالنا فنحن أحقُّ بالاستخلاف لأنَّا أحفظ لعهدك، ولا ندري ما الحكمة في العدول عنَّا إلى مَن ذلك صفتُه، وذلك عجيب عندنا متعجِّبون نحن منه! فأخبرنا بها.
7. يقال: قدَّس اللهَ وقدَّس للهِ، وشكر اللهَ وشكر للهِ، وسبَّح اللهَ وسبَّح للهِ، ونصح اللهَ ونصح للهِ، أو نذكر ألفاظ التقديس لأجلك، أو التسبيح: التنزيه عمَّا لا يليق به، فالتقديس تنزيه ذاته عمَّا لا يراه لائقا به، أو نقدِّس لك: نطهِّر أنفسنا عمَّا لا يجوز من الأدناس والمعاصي فلا نماثلهم.
8. ﴿قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا﴾ تبدون وما تكتمون وأعلم ما ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾ من غيوب السماوات والأرض، ومن إرادتي إظهار حكمتي وقدرتي، وأنَّ المطيع الواحد منهم أفضل من الملائكة، وأنَّهم أشدُّ عبادة وأشقُّ؛ لأنِّي أخلق لهم موانع كالنفوس والهوى والشياطين منهم ومن الجنِّ، والشهوات، ولهم جهادٌ وقراءةٌ لَيْسَا لكم، وصلاتهم تشمل عبادتَكم، وعباداتٌ لهم ليست لكم، كالصوم والصدقة، وأُظهِرُ العدلَ فيهم ولا أبالي، وأدخل العاصي منهم النار عدلاً ولا أبالي، ويُحيون من الدين ما لا تُحيون بالتعلُّم والتعليم، والأمرِ والنهي، عَلِمَ الله ذلك، ولم يعلمه الملائكة، وقالوا سرًّا فيما بينهم: لن يخلق الله خلقًا أكرم عليه منَّا، ولا أعلمَ، لتقدُّمنا ورؤيتنا بعض ما في اللوح، وأنَّ آدم يطيع وإبليس يعصي وأنَّ منهم أنبياء ورسلاً، و(أَعْلَمُ) مضارع، لا اسم تفضيل؛ لأنَّه لا يضاف للمفعول.
__________
(1) تيسير التفسير، أطفيش: 1/73.
القاسمي:
ذكر جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف في المراد بالخلافة هنا:
أ. ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ أي قوما يخلف بعضهم بعضا، قرنا بعد قرن، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 165]، وقال ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾ [النمل: 62]، وقال: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ [الزخرف: 60]، وقال ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ [مريم: 59]
ب. ويجوز أن يراد: خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض، فخلفهم فيها آدم وذريّته.
ج. وأن يراد: خليفة مني، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبيّ ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ [ص: 26]
2. الغرض من إخبار الملائكة بذلك:
أ. هو أن يسألوا ذلك السؤال، ويجابوا بما أجيبوا به، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم.
ب. أو الحكمة: تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم ـ وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيّا عن المشاورة ـ أو تعظيم شأن المجعول، وإظهار فضله، بأن بشّر بوجود سكّان ملكوته، ونوّه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده، ولقّبه بالخليفة.
3. ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ هذا تعجب من أن يستخلف ـ لعمارة الأرض وإصلاحها ـ من يفسد فيها، واستعلام عن الحكمة في ذلك، أي: كيف تستخلف هؤلاء، مع أنّ منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبّح بحمدك، ونقدّس لك ـ أي ولا يصدر عنا شيء من ذلك ـ وهلّا وقع الاقتصار علينا..؟ فقال تعالى مجيبا لهم ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي: إنّ لي حكمة ـ في خلق الخليفة ـ لا تعلمونها.
4. سؤال وإشكال: من أين عرف الملائكة ذلك حتى تعجّبوا منه، وإنما هو غيب؟ والجواب: عرفوه:
أ. ما بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف ﴿مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: 26]
ب. أو فهموا من (الخليفة) أنه الذي يفصل بين الناس، ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم.
ج. ما يقال من أنّه كان قبل آدم، عليه السلام، في الأرض خلق يعصون، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام ـ كلام لا أصل له، بل آدم أوّل ساكنيها بنفسه(2)..
5. قوله تعالى: ﴿نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ أي: ننزّهك عن كل ما لا يليق بشأنك، ملتبسين بحمدك ـ على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة.
6. قوله ﴿ نُقَدِّسُ لَكَ ﴾:
أ. أي: نصفك بما يليق بك ـ من العلوّ والعزّة ـ وننزّهك عمّا لا يليق بك.
ب. وقيل: المعنى نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد، الذي أعظمه الإشراك، بالتسبيح، وسفك الدماء، الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم، بتطهير النفس عن الآثام، لا تمدحا بذلك، ولا إظهارا للمنّة، بل بيانا للواقع.
__________
(1) تفسير القاسمي: 1/285.
(2) نقله عن برهان الدين البقاعيّ في تفسيره.
رضا:
ذكر محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. اختلف الحديث عن الملائكة وحقيقتهم بين السلف والخلف، حيث قال السلف عنهم:
أ. إنهم خلق أخبرنا الله تعالى بوجودهم وببعض عملهم فيجب علينا الايمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم، فنفوض علمها إلى الله تعالى، فاذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك، ولكننا نقول إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطيور إذ لو كانت كذلك لرأيناها، وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار فإننا نستدل بذلك على أن في الكون عالما آخر ألطف من هذا العالم المحسوس وأن له علاقة بنظامه وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا بل يحكم بإمكانه لذاته، ويحكم بصدق الوحى الذي أخبر به
ب. ذكر محمد عبده أن هناك من بحث في جوهر الملائكة وحاولوا معرفتهم ولكن من وقفهم الله تعالى على هذا السر قليلون، والدين إنما شرع للناس كافة، فكان الصواب الاكتفاء بالإيمان بعالم الغيب من غير بحث عن حقيقته لأن تكليف الناس هذا البحث أو العلم يكاد يكون من تكليف ما لا يطاق، ومن خصه الله تعالى بزيادة في العلم فذلك فضله يؤتيه من يشاء، فقد ورد في الصحيح عن أمير المؤمنين على كرم الله وجهه في هذا العلم اللدني الخاص وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بشيء من العلم؟ فقال: لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يؤتى الله عبدا فهما في القرآن.
ج. ذلك الحوار في الآيات فهو شأن من شؤون الله تعالى مع ملائكته صوره لنا في هذه القصة بالقول والمراجعة والسؤال والجواب ونحن لا نعرف حقيقة ذلك القول ولكننا نعلم أنه ليس كما يكون منا، وأن هناك معانى قصدت إفادتها بهذه العبارات وهى عبارة عن شأن من شؤونه تعالى قبل خلق آدم وأنه كان يعدّ له الكون، وشأن مع الملائكة يتعلق بخلق نوع الانسان، وشأن آخر في بيان كرامة هذا النوع وفضله.
2. أما الخلف فمنهم من تكلم في حقيقة الملائكة ووضع لهم تعريفا، ومنهم من أمسك عن ذلك، وقد اتفقوا على أنهم يدركون ويعلمون، والقصة على مذهبهم وردت مورد التمثيل لتقرب من أفهام الخلق ما تفيدهم معرفته من حال النشأة الآدمية، ومالها من المكانة والخصوصية: أخبر الله الملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة، ففهموا من ذلك أن الله يودع في فطرة هذا النوع الذي يجعله خليفة أن يكون ذا إرادة مطلقة واختيار في عمله غير محدود، وأن الترجيح بين ما يتعارض من الأعمال التي تعن له تكون بحسب علمه، وأن العلم إذا لم يكن محيطا بوجوه المصالح والمنافع فقد يوجه الارادة إلى خلاف المصلحة والحكمة وذلك هو الفساد، وهو متعين لازم الوقوع، لأن العلم المحيط لا يكون إلا لله تعالى، فعجبوا كيف يخلق الله هذا النوع من الخلق وسألوا الله تعالى بلسان المقال إن كانوا ينطقون، أو بلسان الحال والتوجيه اليه لاستفاضة المعرفة بذلك وطلب البيان والحكمة، وعبر الله عن ذلك بالقول لأنه هو المعهود بالاستعلام والاستفهام عند البشر الذين أنزل القرآن لهدايتهم، كما نسب القول إلى السموات والأرض في قوله ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، فأول ما ألقى اليهم من الالهام أو غيره من طرق الإعلام هو وجوب الخضوع والتسليم، لمن هو بكل شيء عليم، لأن ما يضيق عنه علم أحد ويحار في كيفيته يتسع له علم من هو أعلم منه.
3. من شأن الانسان أن يسلم لمن يعتقد أنه فوقه في العلم ما يتصدى له مهما يكن بعيد الوقوع في اعتقاده، وذلك مثل مشايخ الصوفية مع مريديهم.. ومن ذلك اعتقاد جماهير الناس في بلاد الحضارة والصناعات في هذا العصر إمكان أمور وأعمال لم يكن أحد يتصور إمكانها من قبل إلا بعض كبار علماء النظر، فاذا قيل إنهم يحاولون عمل كذا فانهم يصدقونهم، وإن لم يعقلوا كيف يعملونه فان الذين يصنعون سلكا لنقل الأخبار بالكهرباء إلى الأماكن البعيدة في دقيقة أو دقائق قليلة يصدقون بأنهم يوصلون تلك الأخبار من غير سلك، وقد كان، ويصدقون بامكان إيجاد آلة تجمع بين نقل الصوت ورؤية المتكلم وهو ما يحاولون الآن، وإذا قال لنا أهل هذه الصناعة إن ذلك ممكن الحصول صدقناهم فيما يقولون من غير تردد، وليس تصديقنا تقليدا ولا تسليما أعمى كما يقال بل هو تصديق عن دليل ركنه قياس ما يكون على ما قد كان بعد العلم بوحدة الوسائل، والملائكة أعلم منا بشأن الله في أفعاله وأنه العليم الحكيم، فهم وإن فاجأهم العجب من خلق الخليفة يردهم إلى اليقين أدنى التنبيه، ولذلك كان قوله تعالى ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ جوابا مقنعا أي اقناع.
4. هذا النوع من التسليم للعالم القادر ربما لا يذهب بالحيرة ولا يزيل الاضطراب من نفس المتعجب، وإنما تسكن النفس ببروز ذلك الأمر الذي كانت تعجب من بروزه إلى عالم الوجود ووقوفها على أسراره وحكمه بالفعل، ولذلك تفضل الله تعالى على الملائكة بإكمال علمهم بحكمته في خلق هذا الخليفة الإنساني وسره عند طلوع فجره، فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة كما سيأتي فعلموا أن في فطرة هذا الخليفة واستعداده علم ما لم يعلموا، وتبين لهم وجه استحقاقه لمقام الخلافة في الأرض، وأن كل ما يتوقع من الفساد وسفك الدماء لا يذهب بحكمة الاستخلاف وفائدته ومقامه، وناهيك بمقام العلم وفائدته، وسر العالم وحكمته، فعلمنا أن السلف والخلف متفقون على تنزيه الله تعالى عما لا يليق به من شؤون المخلوقين، وعصمة ملائكته عما لا يليق بهم من الاعتراض أو الانكار.. فلا فرق في هذه النتيجة بين تفويض وتسليم، وتأويل وتفهيم؛ والله بكل شيء عليم.
5. من المفسرين من ذهب إلى هذا اللفظ (الخليفة) يشعر بأنه كان في الأرض صنف أو أكثر من نوع الحيوان الناطق، وأنه انقرض، وأن هذا الصنف الذي أخبر الله الملائكة بأن سيجعله خليفة في الأرض سيحل محله ويخلفه، كما قال تعالى بعد ذكر إهلاك القرون: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾، وقالوا: إن ذلك الصنف البائد قد أفسد في الأرض وسفك الدماء، وأن الملائكة استنبطوا سؤالهم بالقياس عليه، لأن الخليفة لا بد أن يناسب من يخلفه ويكون من قبيله كما يتبادر إلى الفهم؛ ولكن لما لم يكن دليل على أنه يكون مثله من كل وجه وليس ذلك من مقتضى الخلافة؛ أجاب الله الملائكة بأنه يعلم مالا يعلمون مما يمتاز به هذا الخليفة على من قبله، وما له سبحانه في ذلك من الحكمة البالغة.
6. علق الأستاذ محمد عبده على هذا القول بأنه إذا صح هذا القول فليس آدم أول الصنف العاقل من الحيوان على هذه الأرض، وإنما كان أول طائفة جديدة من الحيوان الناطق تماثل الطائفة أو الطوائف البائدة منه في الذات والمادة، وتخالفها في بعض الأخلاق والسجايا، هذا أحسن ما يجلى فيه هذا المذهب.
7. أكثر ما قاله هذا الصنف من المفسرين سرى إلى المسلمين من أساطير الفرس وخرافاتهم، ومنه أنه كان في الأرض قبل آدم خلق يسمون بالحن والبن، أو الطم والزم، والأكثرون على أن الخلق الذين كانوا في الأرض قبل آدم مباشرة كانوا يسمون الجن، والقائلون منهم بالحن (بالمهملة) والبن قالوا إنهم كانوا قبل الجن، وقالوا: إن هؤلاء عاثوا في الأرض فسادا، فأبادهم الله، وقالوا: إن الله تعالى أرسل إليهم إبليس في جند من الملائكة فحارب الجن فدمرهم وفرقهم في الجزائر والبحار، وليس لهم في الاسلام سند يحتج به على هذه القصص، ولكن تقاليد الأمم الموروثة في هذه المسألة تنبئ بأمر ذي بال، وهى متفقه فيه بالإجمال ألا وهو ما قلناه من أن آدم ليس أول الأحياء العاقلة التي سكنت الأرض.
8. هذا هو المذهب الأول في تفسير الخليفة، وذهب الآخرون إلى أن المراد: إني جاعل في الأرض خليفة عنى، ولهذا شاع أن الانسان خليفة الله في أرضه، وقال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾
9. الظاهر والله أعلم أن المراد بالخليفة آدم ومجموع ذريته، لكن ما معنى هذه الخلافة، وما المراد من هذا الاستخلاف هل هو استخلاف بعض الانسان على بعض؛ أم استخلاف البعض على غيره؟
10. جرت سنة الله في خلقه بأن تعلم أحكامه للناس وتنفذ فيهم على ألسنة أناس منهم يصطفيهم ليكونوا خلفاء عنه في ذلك، وكما أن الإنسان أظهر أحكام الله وسننه الوضعية (أي الشرعية لأن الشرع وضع إلهى)، كذلك أظهر حكمه وسننه الخلقية الطبيعية، فيصح أن يكون معنى الخلافة عاما في كل ما ميّز الله به الإنسان على سائر المخلوقات، نطق الوحى ودل العيان والاختبار على أن الله تعالى خلق العالم أنواعا مختلفة، وخص كل نوع غير نوع الانسان بشيء محدود معين لا يتعداه:
أ. فأما مالا نعرفه إلا من طريق الوحى كالملائكة فقد ورد فيها من الآيات والأحاديث ما يدل على أن وظائفه محدودة، قال تعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾، وقال: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ﴾، وقال: ﴿وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا﴾، وقال: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ على قول من قال إن المراد بها الملائكة إلى غير ذلك مما يدل على أنهم طوائف لكل طائفة وظيفة محدودة، وورد في الأحاديث أن منهم الساجد دائما، والراكع دائما إلى يوم القيامة، وأما ما نعرفه بالنظر والاختبار فهو حال المعدن والجماد ولا علم له ولا عمل.
ب. وحال النبات وإنما تأثير حياته في نفسه، فلو فرض أن له علما وإرادة فهما لا أثر لهما في جعل عمل النبات مبينا لحكم الله وسننه في الخلق، ولا وسيلة لبيان أحكامه وتنفيذها، فكل حي من الأحياء المحسوسة والغيبية فان له استعدادا محدودا، وعلما إلهاميا محدودا، وعملا محدودا، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون خليفة عن الذي لاحد لعلمه وإرادته، ولا حصر لأحكامه وسننه، ولا نهاية لأعماله وتصرفه
11. أما الإنسان فقد خلقه الله ضعيفا، كما قال في كتابه: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾، وخلقه جاهلا كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾، ولكنه على ضعفه وجهله عبرة لمن يعتبر، وموضع لعجب المتعجب، لأنه مع ضعفه يتصرف في الأقوياء، ومع جهله في نشأته يعلم جميع الاسماء، يولد الحيوان عالما بالإلهام ما ينفعه وما يضره، وتكمل له قواه في زمن قليل، ويولد الإنسان وليس له من الإلهام إلا الصراخ بالبكاء، ثم يحس ويشعر بالتدريج البطيء بالنسبة إلى غيره من الحيوان ويعطى قوة أخرى تتصرف بشعوره وإحساسه تصرفا يكون له به السلطان على هذه الكائنات، فيسخرها ويذللها بعد ذلك كما تشاء تلك القوة الغريبة هي التي يسمونها العقل ولا يعقلون سرها، ولا يدركون حقيقتها وكنهها، فهي التي تغنى الإنسان عن كل ما وهب للحيوان في أصل الفطرة من الكساء الذي يقيه البرد والحر، والاعضاء التي يتناول بها غذاءه والتي يدافع بها عن نفسه ويسطو بها على عدوه، وغير ذلك من المواهب التي يعطاها الحيوان بلا كسب، حتى كان له بها من الاختراعات العجيبة ما كان، وسيكون له من ذلك ما لا يصل إليه التقدير والحسبان.
12. الإنسان بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود العلم ولا محدود العمل، فهو على ضعف أفراده يتصرف بمجموعه في الكون تصرفا لا حد له بإذن الله وتصريفه، وكما أعطاه الله تعالى هذه المواهب والأحكام الطبيعية ليظهر بها أسرار خليقته، وملكه الأرض وسخر له عوالمها ـ أعطاه أحكاما وشرائع حدّ فيها لأعماله وأخلاقه حدا يحول دون بغى أفراده وطوائفه بعضهم على بعض، فهي تساعده على بلوغ كماله لأنها مرشد ومرب للعقل الذي كان له كل تلك المزايا فلهذا كله جعله خليفته في الأرض وهو أخلق المخلوقات بهذه الخلافة
13. ظهرت آثار الإنسان في هذه الخلافة على الأرض ونحن نشاهد عجائب صنعه في المعدن والنبات، وفى البر والبحر والهواء، فهو يتفنن ويبتدع، ويكتشف ويخترع ويجدّ ويعمل، حتى غير شكل الأرض فجعل الحزن سهلا، والماحل خصبا.. والخراب عمرانا، والبراري بحارا أو خلجانا، وولد بالتلقيح أزواجا من النبات لم تكن كالليمون المسمى (يوسف أفندى) فان الله تعالى خلقه بيد الإنسان وأنشأه بكسبه، وقد تصرف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية والتوليد، حتى ظهر التغير في خلقتها وخلائقها وأصنافها، فصار منها الكبير والصغير، ومنها الأهلي والوحشي، وهو ينتفع بكل نوع منها ويسخره لخدمته كما سخر القوى الطبيعية وسائر المخلوقات، أليس من حكمة الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، أن جعل الانسان بهذه المواهب خليفته في الأرض، يقيم سننه: ويظهر عجائب صنعه، وأسرار خليقته، وبدائع حكمه، ومنافع أحكامه وهل وجدت آية على كمال الله تعالى وسعة علمه أظهر من هذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم؟
14. ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ بادروا إلى السؤال واستفهام الاستغراب و ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ فيغفل بذلك عن تسبيحك وتقديسك ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ بلا غفلة ولا فتور؟ لا شك أن هذا السؤال نشأ من فهم المعنى المراد من الخليفة وما يقتضيه من العلم غير المحدود والارادة المطلقة، وكون هذا العلم المصرف للإرادة لا يحصل إلا بالتدريج، وكون عدم الاحاطة مدعاة للفساد، والتنازع المفضي إلى سفك الدماء كما تقدم.
15. نعم إن هذا العلم الواسع لا يعطاه فرد من أفراد الإنسان ولا مجموع النوع دفعة واحدة فيشابه علمه علم الله تعالى، وكلما أوتى نصيبا منه ظهر له من جهله ما لم يكن يعلم، وكلما أعطى حظا من الأدب والعقل ظهر له ضعف عقله، ولله در الشافعي حيث قال:
كلما أدبني الده... ر أراني نقص عقلى
وإذا ما ازددت علما... زادني علما بجهلى
16. فهو على سعة علمه لم يؤت من العلم الالهي إلا قليلا، وهو مع ذلك أوسع مظاهر العلم الالهي، ولذلك أجاب الله الملائكة بالعلم: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، فأثبت لذاته العلم بحكمة هذه الخلافة ونفاه عنهم، ثم أظهر لهم أن الانسان يكون خليفة بالعلم وما يتبعه.
__________
(1) تفسير المنار: 1/255.
المراغي:
ذكر أحمد بن مصطفى المراغي (ت 1371 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. (وإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أي واذكر لقومك مقال ربك للملائكة: إني جاعل آدم خليفة عن نوع آخر كان في الأرض، وانقرض بعد أن أفسد في الأرض وسفك الدماء وسيحل هو محله، يرشد إلى ذلك قوله تعالى بعد ذكر إهلاك القرون ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾، ومن ثمّ استنبط الملائكة سؤالهم بالقياس عليه، وعلى هذا فليس آدم أوّل أصناف العقلاء من الحيوان في الأرض.
2. يرى جمع من المفسرين أن المراد بالخلافة الخلافة عن الله في تنفيذ أوامره بين الناس، ومن ثم اشتهر (الإنسان خليفة الله في الأرض) ويشهد له قوله تعالى: ﴿ يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ﴾
3. هذا الاستخلاف يشمل استخلاف بعض أفراد الإنسان على بعض، بأن يوحى بشرائعه على ألسنة أناس منهم يصطفيهم ليكونوا خلفاء عنه، واستخلاف هذا النوع على غيره من المخلوقات بما ميزه به من قوة العقل، وإن كنا لا نعرف سرها ولا ندرك كنهها، وهو بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود العلم، يتصرف في الكون تصرفا لا حدّ له، فهو يبتدع ويفتنّ في المعدن والنبات، وفي البرّ والبحر والهواء، ويغيّر شكل الأرض فيجعل الماحل خصبا، والحزن سهلا، ويولّد بالتلقيح أزواجا من النبات لم تكن، ويتصرّف في أنواع الحيوان كما شاء بضروب التوليد، ويسخر كل ذلك لخدمته.
4. لا أدلّ على حكمة الله من جعل الإنسان الذي اختصّ بهذه المواهب خليفة في الأرض يظهر عجائب صنعه وأسرار خليقته.
5. ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ أي أتجعل من يقتل النفوس المحرمة بغير حق خليفة في الأرض؟
6. ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ أي أتستخلف من هذه صفته ونحن المعصومون؟
7. (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي قال لهم ربهم: إني أعلم من المصلحة في استخلافه ما هو خفىّ عليكم، وفي هذا إرشاد للملائكة أن يعلموا أن أفعاله تعالى كلها بالغة غاية الحكمة والكمال وإن عمّى ذلك عليهم.
__________
(1) تفسير المراغي: 1/81.
سيّد:
ذكر سيّد قطب (ت 1385 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ها نحن أولاء ـ بعين البصيرة في ومضات الاستشراف ـ في ساحة الملأ الأعلى؛ وها نحن أولاء نسمع ونرى قصة البشرية الأولى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ .. وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود، زمام هذه الأرض، وتطلق فيها يده، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كله ـ بإذن الله ـ في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه.. إذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات؛ ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية.. وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض ـ وتحكم الكون كله ـ والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته، كيلا يقع التصادم بين هذه التصادم بين هذه النواميس وتلك؛ وكيلا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة!.. وإذن فهي منزلة عظيمة، منزلة هذا الإنسان، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة، وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم.
2. هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ .. حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض!
3. يوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال، أو من تجارب سابقة في الأرض، أو من إلهام البصيرة، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق، أو من مقتضيات حياته على الأرض؛ وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض، وأنه سيسفك الدماء.
4. ثم هم ـ بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق، وإلا السلام الشامل ـ يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له، هو وحده الغاية المطلقة للوجود، وهو وحده العلة الأولى للخلق.. وهو متحقق بوجودهم هم، يسبحون بحمد الله ويقدسون له، ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته!
5. لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا، في بناء هذه الأرض وعمارتها، وفي تنمية الحياة وتنويعها، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها، على يد خليفة الله في أرضه، هذا الذي قد يفسد أحيانا، وقد يسفك الدماء أحيانا، ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل، خير النمو الدائم، والرقي الدائم، خير الحركة الهادمة البانية، خير المحاولة التي لا تكف، والتطلع الذي لا يقف، والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير.
6. عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء، والخبير بمصائر الأمور: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/57.
ابن عاشور:
ذكر محمد الطاهر بن عاشور (ت 1393 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. (إذ) من أسماء الزمان المبهمة تدل على زمان نسبة ماضية وقعت فيه نسبة أخرى ماضية قارنتها، ف (إذ) تحتاج إلى جملتين جملة أصلية وهي الدالة على المظروف وتلك هي التي تكون مع جميع الظروف، وجملة تبين الظرف ما هو، لأن (إذ) لما كانت مبهمة احتاجت لما يبين زمانها عن بقية الأزمنة، فلذلك لزمت إضافتها إلى الجمل أبدا.
2. الأكثر في الكلام أن تكون إذ في محل ظرف لزمن الفعل فتكون في محل نصب على المفعول فيه، وقد تخرج (إذ) عن النصب على الظرفية إلى المفعولية كأسماء الزمان المتصرفة على ما ذهب إليه صاحب (الكشاف) وهو مختار ابن هشام خلافا لظاهر كلام الجمهور، فهي تصير ظرفا مبهما متصرفا، وقد يضاف إليها اسم زمان نحو يومئذ وساعتئذ فتجر بإضافة صورية ليكون ذكرها وسيلة إلى حذف الجملة المضافة هي إليها، وذلك أن (إذ) ملازمة للإضافة فإذا حذفت جملتها علم السامع أن هنالك حذفا، فإذا أرادوا أن يحذفوا جملة مع اسم زمان غير (إذ) خافوا أن لا يهتدي السامع لشيء محذوف حتى يتطلب دليله فجعلوا إذ قرينة على إضافة وحذفوا الجملة لينبهوا السامع فيتطلب دليل المحذوف.
3. هي في هذه الآية يجوز أن تكون ظرفا، وكذلك أعربها الجمهور وجعلوها متعلقة بقوله: ﴿قَالُوا﴾ وهو يفضي إلى أن يكون المقصود من القصة قول الملائكة، وذلك بعيد لأن المقصود من العبرة هو خطاب الله لهم، وهو مبدأ العبرة، وما تضمنته من تشريف آدم وتعليمه بعد الامتنان بإيجاد أصل نوع الناس الذي هو مناط العبرة من قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: 28] الآيات، ولأنه لا يتأتى في نظيرها وهو قوله الآتي: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ [البقرة: 34] إذ وجود فاء التعقيب يمنع من جعل الظرف متعلقا بمدخولها، ولأن الأظهر أن قوله: ﴿قَالُوا﴾ حكاية للمراجعة والمحاورة على طريقة أمثاله كما سنحققه، فالذي ينساق إليه أسلوب النظم فيه أن يكون العطف على جملة: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29] أي خلق لكم ما في الأرض، وقال للملائكة إني خالق أصل الإنسان لما قدمناه من أن ذكر خلق ما في الأرض وكونه لأجلنا يهيئ السامع لترقب ذكر شأننا بعد ذكر شأن ما خلق لأجلنا من سماء وأرض، وتكون (إذ) على هذا مزيدة للتأكيد قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى وأنشد قول الأسود بن يعفر:
فإذ وذلك لا مهاه لذكره... والدهر يعقب صالحا بفساد
4. لا يشكل عليه أن شأن الزيادة أن تكون في الحروف لأن إذ وإذا ونحوهما عوملت معاملة الحروف، أو أن يكون عطف القصة على القصة ويؤيده أنها تبتدأ بها القصص العجيبة الدالة على قدرة الله تعالى، ألا ترى أنها ذكرت أيضا في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ ولم تذكر فيما بينهما وتكون (إذ) اسم زمان مفعولا به بتقدير اذكر، ونظيره كثير في القرآن، والمقصود من تعليق الذكر والقصة بالزمان إنما هو ما حصل في ذلك الزمان من الأحوال، وتخصيص اسم الزمان دون اسم المكان لأن الناس تعارفوا إسناد الحوادث التاريخية والقصص إلى أزمان وقوعها.
5. الملائكة جمع ملك، وأصل صيغة الجمع ملائكة والتاء لتأكيد الجمعية لما في التاء من الإيذان بمعنى الجماعة، والظاهر أن تأنيث ملائكة سرى إلى لغة العرب من كلام المتنصرين منهم إذ كانوا يعتقدون أن الأملاك بنات الله واعتقده العرب أيضا قال تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ﴾ [النحل: 57] فملائك جمع ملأك كشمائل وشمأل، ومما يدل عليه أيضا قول بعض شعراء عبد القيس أو غيره:
ولست لإنسيّ ولكن لملأك... تنزّل من جوّ السّماء يصوّب
ثم قالوا ملك تخفيفا.
6. اختلف في اشتقاقه:
أ. فقال أبو عبيدة هو مفعل من لأك بمعنى أرسل، ومنه قولهم في الأمر بتبليغ رسالة ألكني إليه أي كن رسولي إليه، وأصل ألكني ألئكني وإن لم يعرف له فعل، وإنما اشتق اسم الملك من الإرسال لأن الملائكة رسل الله إما بتبليغ أو تكوين كما في الحديث: ثم يرسل إليه (أي للجنين في بطن أمه) الملك فينفخ فيه الروح)، فعلى هذا القول هو مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول.
ب. وقال الكسائي هو مقلوب ووزنه الآن معفل، وأصله مألك من الألوك والألوكة وهي الرسالة ويقال مألك ومألكة (بفتح اللام وضمها) فقلبوا فيه قلبا مكانيا فقالوا ملأك فهو صفة مشبهة.
ج. وقال ابن كيسان هو مشتق من الملك (بفتح الميم وسكون اللام) والملك بمعنى القوة قال تعالى: ﴿عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾ [التحريم: 6] والهمزة مزيدة فوزنه فعأل بسكون العين وفتح الهمزة كشمأل، ورد بأن دعوى زيادة حرف بلا فائدة دعوى بعيدة، ورد مذهب الكسائي بأن القلب خلاف الأصل، فرجح مذهب أبي عبيدة.
د. ونقل القرطبي عن النضر بن شميل أنه قال لا اشتقاق للملك عند العرب يريد أنهم عرّبوه من اللغة العبرانية ويؤيده أن التوراة سمت الملك ملاكا بالتخفيف، وليس وجود كلمة متقاربة اللفظ والمعنى في لغتين بدال على أنها منقولة من إحداهما إلى الأخرى إلا بأدلة أخرى.
7. الملائكة مخلوقات نورانية سماوية مجبولة على الخير قادرة على التشكل في خرق العادة لأن النور قابل للتشكل في كيفيات، ولأن أجزاءه لا تتزاحم ونورها لا شعاع له فلذلك لا تضيء إذا اتصلت بالعالم الأرضي، وإنما تتشكل إذا أراد الله أن يظهر بعضهم لبعض رسله وأنبيائه على وجه خرق العادة، وقد جعل الله تعالى لها قوة التوجه إلى الأشياء التي يريد الله تكوينها فتتولى التدبير لها، ولهذه التوجهات الملكية حيثيات ومراتب كثيرة تتعذر الإحاطة بها وهي مضادة لتوجهات الشياطين، فالخواطر الخيرية من توجهات الملائكة وعلاقتها بالنفوس البشرية وبعكسها خواطر الشر.
8. الخليفة في الأصل الذي يخلف غيره، أو يكون بدلا عنه في عمل يعمله، فهو فعيل بمعنى فاعل والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالعلّامة، والمراد من الخليفة هنا:
أ. إما المعنى المجازي وهو الذي يتولى عملا يريده المستخلف مثل الوكيل والوصي، أي جاعل في الأرض مدبرا يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل، وليس بحقيقة:
• لأن الله تعالى لم يكن حالا في الأرض ولا عاملا فيها العمل الذي أودعه في الإنسان وهو السلطنة على موجودات الأرض.
• ولأن الله تعالى لم يترك عملا كان يعمله فوكله إلى الإنسان، بل التدبير الأعظم لم يزل لله تعالى.
فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلاف غيره من الحيوان.
ب. وإما أن يراد من الخليفة معناه الحقيقي إذا صح أن الأرض كانت معمورة من قبل بطائفة من المخلوقات يسمّون الحن والبن ـ بحاء مهملة مكسورة ونون في الأول، وبموحدة مكسورة ونون في الثاني ـ وقيل اسمهم الطّم والرّم ـ بفتح أولهما ـ، وأحسبه من المزاعم، وأن وضع هذين الاسمين من باب قول الناس: هيّان بن بيّان إشارة إلى غير موجود أو غير معروف، ولعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان، فإن الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطّم والرّم، كان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى التيتان وأن زفس وهو المشتري كبير الأرباب في اعتقادهم جلاهم من الأرض لفسادهم.
2، كل هذا ينافيه سياق الآية، فإن تعقيب ذكر خلق الأرض ثم السماوات بذكر إرادته تعالى جعل الخليفة دليل على أن جعل الخليفة كان أول الأحوال على الأرض بعد خلقها فالخليفة هنا الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف في مملوكاته ولا يلزم أن يكون المخلوف مستقرا في المكان من قبل، فالخليفة آدم وخلفيّته قيامه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقين ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم.
9. كلام الله تعالى للملائكة أطلق على:
أ. ما يفهمون منه إرادته، وهو المعبر عنه بالكلام النفسي، فيحتمل أنه كلام سمعوه، فإطلاق القول عليه حقيقة، وإسناده إلى الله لأنه خلق ذلك القول بدون وسيلة معتادة.
ب. ويحتمل أنه دال آخر على الإرادة، فإطلاق القول عليه مجاز لأنه دلالة للعقلاء والمجاز فيه أقوى من المجاز الذي في نحو قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: اشتكت النار إلى ربها)، وقوله تعالى: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11] وقول أبي النجم: إذ قالت الآطال للبطن الحق)
ولا طائل في البحث عن تعين أحد الاحتمالين.
10. الظاهر أن خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ الروح فيه، أو قبل النفخ والأول أظهر، فيكون المراد بالمخبر عن جعله خليفة هو ذلك المخلوق كما يقول الذي كتب كتابا بحضرة جليس إني مرسل كتابا إلى فلان، فإن السامع يعلم أن المراد أن ذلك الذي هو بصدد كتابته كتاب لفلان، ويجوز أن يكون خطابهم بذلك قبل خلق آدم، وعلى الوجوه كلها يكون اسم الفاعل في قوله: ﴿جَاعِلِ﴾ للزمن المستقبل لأن وصف الخليفة لم يكن ثابتا لآدم ساعتئذ.
11. قول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس، وليكون كالاستشارة لهم تكريما لهم فيكون تعليما في قالب تكريم مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب وليسنّ الاستشارة في الأمور، ولتنبيه الملائكة على ما دقّ وخفي من حكمة خلق آدم كذا ذكر المفسرون.
12. هاته الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق أول البشر حتى تكون ناموسا أشربته نفوس ذريته لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء ما، تؤثر تآلفا بين ذلك الكائن وبين المقارن، ولعل هذا الاقتران يقوم في المعاني التي لا توجد إلا تبعا لذوات مقام أمر التكوين في الذوات فكما أن أمره إذا أراد شيئا أي إنشاء ذات أن يقول له كن فيكون، كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدر حصول مبدأ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس أو عند تكوين الذات، ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يكون قبول العلم من خصائص الإنسان علّم آدم الأسماء عندما خلقه.
13. هذا هو وجه مشروعية تسمية الله تعالى عند الشروع في الأفعال ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه تعالى مفيضا للبركة على جميع أجزاء ذلك الفعل، ولهذا أيضا طلبت منا الشريعة تخيّر أكمل الحالات وأفضل الأوقات للشروع في فضائل الأعمال ومهمات المطالب.
14. أسندت حكاية هذا القول إلى الله سبحانه بعنوان الرب لأنه قول منبئ عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في الأرض، ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف وصلاح وذلك من معاني الربوبية كما تقدم في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، ولما كانت هذه النعمة شاملة لجميع النوع أضيف وصف الرب إلى ضمير أشرف أفراد النوع وهو النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع تكريمه بشرف حضور المخاطبة.
15. ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ هذا جواب الملائكة عن قول الله لهم: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، فالتقدير، فقالوا على وزان قوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ [البقرة: 34]، وفصل الجواب ولم يعطف بالفاء أو الواو جريا به على طريقة متبعة في القرآن في حكاية المحاورات وهي طريقة عربية قال زهير:
قيل لهم ألا اركبوا ألا تا... قالوا جميعا كلهم ألا فا
أي فاركبوا ولم يقل فقالوا، وقال رؤبة بن العجاج:
قالت بنات العم يا سلمى وإن... كان فقيرا معدما قالت وإن
16. إنما حذفوا العاطف في أمثاله كراهية تكرير العاطف بتكرير أفعال القول، فإن المحاورة تقتضي الإعادة في الغالب، فطردوا الباب فحذفوا العاطف في الجميع، وهو كثير في التنزيل، وربما عطفوا ذلك بالفاء لنكتة تقتضي مخالفة الاستعمال، وإن كان العطف بالفاء هو الظاهر والأصل:
أ. ومما عطف بالفاء قوله تعالى: ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ﴾
ب. وقد يعطف بالواو أيضا كما في قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ﴾
ج. وذلك إذا لم يكن المقصود حكاية التحاور بل قصد الإخبار عن أقوال جرت أو كانت الأقوال المحكية ممّا جرى في أوقات متفرّقة أو أمكنة متفرّقة، ويظهر ذلك لك في قوله تعالى: ﴿قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [غافر: 25] إلى قوله: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾، ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾، ثم قال ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾، وليس قوله: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ﴾ جوابا لإذ عاملا فيها لما قدمناه آنفا من أنه يفضي إلى أن يكون قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ هو المقصود من القصة وأن تصير جملة (إذ) تابعة له إذ الظرف تابع للمظروف.
17. الاستفهام المحكي عن كلام الملائكة محمول على حقيقته، مضمن معنى التعجب والاستبعاد من أن تتعلق الحكمة بذلك، فدلالة الاستفهام على ذلك هنا بطريق الكناية مع تطلب ما يزيل إنكارهم واستبعادهم، فلذلك تعين بقاء الاستفهام على حقيقته خلافا لمن توهم الاستفهام هنا لمجرد التعجب.
18. الذي أقدم الملائكة على هذا السؤال أنهم علموا أن الله لما أخبرهم أراد منهم إظهار علمهم تجاه هذا الخبر لأنهم مفطورون على الصدق والنزاهة من كل مؤاربة، فلما نشأ ذلك في نفوسهم أفصحت عنه دلالة تدل عليه يعلمها الله تعالى من أحوالهم لا سيما إذا كان من تمام الاستشارة أن يبدي المستشار ما يراه نصحا وفي الحديث: المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم)، يعني إذا تكلم فعليه أداء أمانة النصيحة.
19. عبر بالموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الكلام وهو الاستفهام والتعجب لأن من كان من شأنه الفساد والسفك لا يصلح للتعمير لأنه إذا عمر نقض ما عمره.
20. عطف سفك الدماء على الإفساد للاهتمام به، وتكرير ضمير (الأرض) للاهتمام بها والتذكير بشأن عمرانها وحفظ نظامها ليكون ذلك أدخل في التعجب من استخلاف آدم وفي صرف إرادة الله تعالى عن ذلك إن كان في الاستشارة ائتمار.
21. إنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية إما بوصف الله لهم هذا الخليفة أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده.
22. الأظهر أن الملائكة رأوه بعد نفخ الروح فيه، فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب، وعن الامتثال إلى العصيان، فإن العقل يشتمل على شاهية وغاضبة وعاقلة ومن مجموعها ومجموع بعضها تحصل تراكيب من التفكير نافعة وضارة، ثم إن القدرة التي في الجوارح تستطيع تنفيذ كل ما يخطر للعقل وقواه أن يفعله، ثم إن النطق يستطيع إظهار خلاف الواقع وترويج الباطل، فيكون من أحوال ذلك فساد كبير ومن أحواله أيضا صلاح عظيم وإن طبيعة استخدام ذي القوة لقواه قاضية بأنه سيأتي بكل ما تصلح له هذه القوى خيرها وشرها فيحصل فعل مختلط من صالح وسيئ.
23. مجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منها في الخارج لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة، وإذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات، وفي توجه نورانية النفوس إلى المعلومات، وفي التوسم والتفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية واكتسابية ولدنية التي أعلاها النبوة، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة؟
24. في القول بهذا:
أ. ما يغني عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه من توقيف واطلاع على ما في اللوح أي علم الله، أو قياس على أمة تقدمت وانقرضت، أو قياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق آدم كما في سفر التكوين من التوراة.
ب. وبه أيضا نعلم أن حكم الملائكة هذا على ما يتوقع هذا الخلق من البشر لم يلاحظ فيه واحد دون آخر، لأنه حكم عليهم قبل صدور الأفعال منهم وإنما هو حكم بما يصلحون له بالقوة، فلا يدل ذلك على أن حكمهم هذا على بني آدم دون آدم حيث لم يفسد.
25. قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ دليل على أنهم علموا أن مراد الله من خلق الأرض هو صلاحها وانتظام أمرها وإلا لما كان للاستفهام المشوب بالتعجب موقع، وهم علموا مراد الله ذلك من تلقيهم عنه سبحانه أو من مقتضى حقيقة الخلافة أو من قرائن أحوال الاعتناء بخلق الأرض وما عليها على نظم تقتضي إرادة بقائها إلى أمد، وقد دلت آيات كثيرة على أن إصلاح العالم مقصد للشارع قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ [محمد: 22، 23] وقال: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205].
26. ولا يرد هنا أن هذا القول غيبة وهم منزهون عنها لأن ذلك العالم ليس عالم تكليف ولأنه لا غيبة في مشورة ونحوها كالخطبة والتجريح لتوقف المصلحة على ذكر ما في المستشار في شأنه من النقائص، ورجحان تلك المصلحة على مفسدة ذكر أحد بما يكره، ولأن الموصوف بذلك غير معين إذ الحكم على النوع، فانتفى جميع ما يترتب على الغيبة من المفاسد في واقعة الحال فلذلك لم يحجم عنها الملائكة.
27. السفك الإراقة وقد غلب في كلامهم تعديته إلى الدماء، وأما إراقة غير الدم فهي سفح بالحاء، وفي المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد والسفك من هذا المخلوق.
28. أوثر التعبير بالفعل المضارع في قوله: ﴿ مَنْ يُفْسِدُ ويَسْفِكُ ﴾ لأن المضارع يدل على التجدد والحدوث دون الدوام أي من يحصل منه الفساد تارة وسفك الدماء تارة لأن الفساد والسفك ليسا بمستمرين من البشر.
29. ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ الواو متعينة للحالية، إذ لا موقع للعطف هنا، وإن كان ما بعد الواو من مقولهم ومحكيا عنهم، لكن الواو من المحكي، وليست من الحكاية، لأن قولهم: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ يحتمل معنيين:
أ. أحدهما: أن يكون الغرض منه تفويض الأمر إلى الله تعالى، واتهام علمهم فيما أشاروا به.
ب. الثاني: أن يكون الغرض من قولهم ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ التعريض بأنهم أولى بالاستخلاف.
30. الاحتمال الأول، وهو أن يكون الغرض منه تفويض الأمر إلى الله تعالى، واتهام علمهم فيما أشاروا به:
أ. هو كما يفعل المستشار مع من يعلم أنه أسدّ منه رأيا وأرجح عقلا، فيشير ثم يفوّض، كما قال أهل مشورة بلقيس، إذ قالت: ﴿أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أي الرأي أن نحاربه ونصده عما يريد من قوله ﴿وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 31]، ﴿وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ [النمل: 32، 33]، وكما يفعل التلميذ مع الأستاذ في بحثه معه، ثم يصرح بأنه مبلغ علمه، وأن القول الفصل للأستاذ.
ب. أو هو إعلان بالتنزيه للخالق عن أن يخفى عليه ما بدا لهم من مانع استخلاف آدم، وبراءة من شائبة الاعتراض، والله تعالى وإن كان يعلم براءتهم من ذلك إلا أن كلامهم جرى على طريقة التعبير عما في الضمير من غير قصد إعلام الغير.
ج. أو لأنّ في نفس هذا التصريح تبركا وعبادة، أو إعلان لأهل الملإ الأعلى بذلك.
فإذا كان كذلك كان العطف غير جائز لأن الجملة المحكية بالقول إذا عطفت عليها جملة أخرى من القول فالشأن أن لا يقصد العطف على تقدير عامل القول إلا إذا كان القولان في وقتين كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173] على أحد الوجوه في عطف جملة ﴿ نِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ عند من لا يرون صحة عطف الإنشاء على الخبر وإن كان الحق صحة عطف الإنشاء على الخبر وعكسه وأنه لا ينافي حسن الكلام، فلذلك لم يكن حظ للعطف، ألا ترى أنهم إذا حكوا حادثا ملمّا أو مصابا جمّا أعقبوه بنحو حسبنا الله ونعم الوكيل أو إنا لله وإنا إليه راجعون أو نحو ذلك ولا يعطفون
أتعدل أحسابا كراما حماتها... بأحسابكم إنّي إلى الله راجع
مثل ذلك فكانت الواو واو الحال للإشارة إلى أن هذا أمر مستحضر لهم في حال قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ﴾ وليس شيئا خطر لهم بعد أن توغلوا في الاستبعاد والاستغراب.
31. الاحتمال الثاني، وهو أن يكون الغرض من قولهم ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ التعريض بأنهم أولى بالاستخلاف، لأن الجملة الاسمية دلت على الدوام وجملة ﴿مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ دلت على توقع الفساد والسفك فكان المراد أن استخلافه يقع منه صلاح وفساد والذين لا يصدر منهم عصيان مراد الله هم أولى بالاستخلاف ممن يتوقع منه الفساد فتكون حالا مقررة لمدلول جملة ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ﴾ تكملة للاستغراب، وعاملها هو ﴿تَجْعَلْ﴾ وهذا الذي أشار إليه تمثيل (الكشاف)، والعامل في الحال هو الاستفهام لأنه مما تضمن معنى الفعل لا سيما إذا كان المقصود منه التعجب أيضا إذ تقدير ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا﴾ إلخ نتعجب من جعله خليفة.
32. التسبيح قول أو مجموع قول مع عمل يدل على تعظيم الله تعالى وتنزيهه، ولذلك سمى ذكر الله تسبيحا، والصلاة سبحة، ويطلق التسبيح على قول سبحان الله لأن ذلك القول من التنزيه، وقد ذكروا أن التسبيح مشتق من السبح، وهو الذهاب السريع في الماء إذ قد توسع في معناه إذ أطلق مجازا على مر النجوم في السماء قال تعالى: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 40]، وعلى جري الفرس قالوا: فلعل التسبيح لوحظ فيه معنى سرعة المرور في عبادة الله تعالى، وأظهر منه أن يكون سبح بمعنى نسب للسبح أي البعد وأريد البعد الاعتباري وهو الرفعة أي التنزيه عن أحوال النقائص وقيل سمع سبح مخففا غير مضاعف بمعنى نزه، ذكره في (القاموس).
33. كون التسبيح مأخوذا من السبح على وجه المجاز بعيد، والوجه أنه مأخوذ من كلمة سبحان ولهذا التزموا في هذا أن يكون لوزن فعّل المضاعف فلم يسمع مخففا.
34. إذا كان التسبيح هو قول أو قول وعمل يدل على التعظيم فتعلق قوله: ﴿بِحَمْدِكَ﴾ به هنا وفي أكثر المواضع في القرآن ظاهر لأن القول يشتمل على حمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه، فالباء للملابسة، أي نسبح تسبيحا مصحوبا بالحمد لك، وبذلك تنمحي جميع التكلفات التي فسروا بها هنا.
35. التقديس التنزيه والتطهير:
أ. وهو إما بالفعل كما أطلق المقدس على الراهب في قول امرئ القيس يصف تعلق الكلاب بالثور الوحشي:
فأدركنه يأخذن بالساق والنسا... كما شبرق الولدان ثوب المقدس
ب. وإما بالاعتقاد كما في الحديث: لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها) أي لا نزهها الله تعالى وطهرها من الأرجاس الشيطانية.
36. فعل قدس يتعدى بنفسه، فالإتيان باللام مع مفعوله في الآية لإفادة تأكيد حصول الفعل نحو شكرت لك ونصحت لك، وفي الحديث عند ذكر الذي وجد كلبا يلهث من العطش: فأخذ خفه فأدلاه في الركية فسقاه فشكر الله له)، أي شكره مبالغة في الشكر لئلا يتوهم ضعف ذلك الشكر من أنه عن عمل حسنة مع دابة، فدفع هذا الإيهام بالتأكيد باللام، وهذا من أفصح الكلام، فلا تذهب مع الذين جعلوا قوله: ﴿لَكَ﴾ متعلقا بمحذوف تقديره حامدين أو هو متعلق بنسبح واللام بمعنى لأجلك على معنى حذف مفعول ﴿نُسَبِّحُ﴾ أي نسبح أنفسنا أي ننزهها عن النقائص لأجلك أي لطاعتك، فذلك عدول عن فصيح الكلام، ولك أن تجعل اللام لام التبيين التي سنتعرض لها عند قوله تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152].
37. معنى ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ نحن نعظمك وننزهك، والأول بالقول والعمل، والثاني باعتقاد صفات الكمال المناسبة للذات العلية، فلا يتوهم التكرار بين (نسبح) و(نقدس)
38. أوثرت الجملة الاسمية في قوله: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ﴾ لإفادة الدلالة على الدوام والثبات أي هو وصفهم الملازم لجبلتهم، وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي دون حرف النفي يحتمل أن يكون للتخصيص بحاصل ما دلت عليه الجملة الاسمية من الدوام أي نحن الدائمون على التسبيح والتقديس دون هذا المخلوق والأظهر أن التقديم لمجرد التقوى نحو هو يعطي الجزيل.
39. ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ جواب لكلامهم فهو جار على أسلوب المقاولة في المحاورات، أي أعلم ما في البشر من صفات الصلاح ومن صفات الفساد، وأعلم أن صلاحه يحصل منه المقصد من تعمير الأرض، وأن فساده لا يأتي على المقصد بالإبطال، وأن في ذلك كله مصالح عظيمة ومظاهر لتفاوت البشر في المراتب، واطلاعا على نموذج من غايات علم الله تعالى وإرادته وقدرته بما يظهره البشر من مبالغ نتائج العقول والعلوم والصنائع والفضائل والشرائع وغير ذلك، كيف ومن أبدع ذلك أن تركب الصفتين الذميمتين يأتي بصفات الفضائل كحدوث الشجاعة من بين طرفي التهور والجبن.
40. هذا إجمال في التذكير بأن علم الله تعالى أوسع مما علموه فهم يوقنون إجمالا أن لذلك حكمة.
41. من المعلوم أن لا حاجة هنا لتقدير وما تعلمون بعد ﴿مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ لأنه معروف لكل سامع ولأن الغرض لم يتعلق بذكره وإنما تعلق بذكر علمه تعالى بما شذ عنهم.
42. قد كان قول الله تعالى هذا تنهية للمحاورة وإجمالا للحجة على الملائكة بأن سعة علم الله تحيط بما لم يحط به علمهم، وأنه حين أراد أن يجعل آدم خليفة كانت إرادته عن علم بأنه أهل للخلافة.
43. تأكيد الجملة بأن لتنزيل الملائكة في مراجعتهم وغفلتهم عن الحكمة منزلة المترددين.
44. الآية الكريمة من هذا الوجه إيماء إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم، إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك.
45. بعث الله الرسل وبين الشرائع فربما اجتمعت الرسالة والخلافة، وربما انفصلتا بحسب ما أراد الله من شرائعه إلى أن جاء الإسلام فجمع الرسالة والخلافة لأن دين الإسلام غاية مراد الله تعالى من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة ولأن امتزاج الدين والملك هو أكمل مظاهر الخطتين قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: 64] ولهذا أجمع أصحاب رسول الله بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، من جفاة الأعراب ودعاة الفتنة فالمناظرة مع أمثالهم سدىً.
__________
(1) التحرير والتنوير: 1/383.
أبو زهرة:
ذكر محمد أبو زهرة (ت 1394 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. أعلم الله تعالى الملائكة ـ وهم جمع ملك ـ بأنه سيجعل في الأرض من يسكن ظاهرها، ويحكم فيها، وينسل فقال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، أي يكون ساكنا فيها بالخلافة عمن كانوا فيها، ولم يذكر سبحانه وتعالى من كانوا فيها أهم كانوا من الملائكة أم كانوا من الجن، أم كانوا خلقا آخر، ولقد ترك الله سبحانه وتعالى ذكر من خلفهم، فلنسكت عما ترك، ولا نرجم بالغيب، حتى لا نطلب ما ليس لنا به علم.
2. قد يقال:
أ. إن ﴿خَلِيفَةً﴾ معناها الخلافة عن الله تعالى في الأرض، بمعنى أن الله تعالى بما أعطاه من قوة العقل والتفكير والتدبير، والسيطرة على نفسه، وعلى ما في الوجود، في الأرض، التي خلفه الله تعالى عليها ليكون خليفة خلافة نسبية عن الله تعالى، والله تعالى غالب على كل أمره، وأموره، قد يكون هذا هو الظاهر.
ب. أو أن ﴿خَلِيفَةً﴾ معناه أنه وجنسه خلائف يخلف بعضهم بعضا، كما قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فيما آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ﴾
3. الأرجح هو أنه خليفة عن الله تعالى وهي خلافة نسبية، ترك الله تعالى له الخلافة، ليبلوه فيما ملكه من منافع الأرض التي خلقها جميعا له.
4. ذكر الله تعالى لملائكته أنه جعل له تعالى خليفة في هذه الأرض، ويظهر أن الله تعالى أعلمهم بطبيعة هذا العالم الثالث في هذا الوجود من أنه أوتى عقلا مدركا، وشهوة قد تكون طاغية، وأنها إن طغت أفسدت، وأهلكت، ولذلك قالوا لربهم مستغربين: أتجعل فيها من يفسد فيها، لأنه ركبت فيه الشهوة وإذا غلبت أفسدت؛ وإن الشهوات إذا تحكمت كانت الأثرة، وكان التنازع، ومع التنازع سفك الدماء، ولذا قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء!؟
5. كان الملائكة عليهم السلام مع اعتقادهم في الإنسان ذلك الاعتقاد أشاروا إلى أنهم أولى منه بالخلافة في الأرض من غير أن يعترضوا على الله تعالى في حكمه، بل أبدوا استغرابهم من أن الله تعالى يتركهم إلى المفسد السافك للدماء، وهم المسبحون بحمد الله المقدسون له.. فقالوا مقابلين بين حالهم وحال الإنسان، ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ أي نحن نذكرك مديمين بحمدك على ما أنعمت، لأن ذاته العلية تستحق الحمد في ذاته، ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ أي نعظمك وننزهك لك أنت، أي لأجل ذاتك العلية.
6. يبين الله تعالى لهم، أن الله يعلم ذلك، فيعلم أحوالهم وأنهم في تسبيح دائم، وتقديس ملازم، ولكن في الإنسان ما يجعله جديرا بالخلافة في الأرض ليبلوه فيما آتاه الله تعالى من خيرها، فهو يعلمه ويعلمهم، ويعلم الجدير منهم بأن يجعله في الأرض؛ ولذلك قال تعالى ردا لاستغرابهم بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أعلم الجدير بما أعطى وغير الجدير.
7. بيّن الله تعالى ما أودعه نفس الإنسان من العلم بالأشياء أو الاستعداد للعلم بها، أو أودع نفسه الاستعداد بعلمه بالأشياء كلها مما لا يعلمون هم.
__________
(1) زهرة التفاسير: 1/195.
مُغْنِيَّة:
ذكر محمد جواد مُغْنِيَّة (ت 1400 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. لا وسيلة إلى معرفة الملائكة وحقيقتهم بالحس والتجربة، ولا بالعقل والأقيسة، ولا بشيء إلا بطريق الوحي من الله على لسان أنبيائه ورسله، فمن يؤمن بالوحي يلزمه حتما أن يؤمن بالملائكة بعد أن أخبر الوحي عنهم بوضوح لا يقبل التأويل، ومن ينكر الوحي من الأساس فلا يجوز الحديث معه عن الملائكة بحال، لأنهم فرع، والوحي أصل.. فان كان ولا بد من الكلام والنقاش معه فينبغي أن يكون حول فكرة الوحي وصحتها فقط.
2. لا نريد هنا نقاش من ينكر الوحي، وإنما نقول للمنكر: لا يحق لك أن تفرض رأيك على من يؤمن بالوحي، وإلا جاز له أيضا أن يفرض رأيه عليك.. وإذا قلت ـ الحطاب للمنكر ـ لمن يؤمن بالوحي: إن إيمانك هو باطل، لأنه لا يستند الى التجربة أجابك بأن قطعك وإيمانك بأن الوحي باطل أيضا لا يستند الى التجربة، لأن النفي منك، والثبوت من المؤمن موضوعه واحد، وهو الوحي، فإذا كانت التجربة لا تثبت الوحي فهي أيضا لا تنفيه، والتفكيك محال.. وبكلمة ان الإيمان بعدم صحة الغيب تماما كالإيمان بصحته كلاهما غيب في غيب، وبديهة ان الغيب لا يصح نقده بغيب مثله.. قال سارتر الأديب والفيلسوف الفرنسي الشهير، وهو يرد على الماديين: (انكم إذ تنكرون وجود الله تسترسلون في الغيب تماما كالمثاليين الذين يسلمون بوجود الله.. ان يقين المادي بنفي الغيب يعتمد على نفس الدليل الذي اعتمده المؤمن ليقينه بصحة الغيب.. وبهذا يتبين ان المادي يناقض نفسه بنفسه)
3. المراد من الخليفة في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ هو آدم أبو البشر، وكل انسان وجد، أو سيوجد من نسله في كل زمان ومكان.. ووجه تسميته بالخليفة ان الله سبحانه أو كل للإنسان زمام هذه الأرض، والكشف عما فيها من قوى ومنافع، والاستفادة منها.
4. يظهر من قول الملائكة: ﴿ أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ﴾ ان الله سبحانه قد أعلم ملائكته بطريق من الطرق، وقبل أن يخلق آدم، أعلمهم بأن الإنسان لو وجد في هذه الأرض لعصى بالفساد وسفك الدماء ومن هذا عظم الأمر عليهم، وتعجبوا كيف يوجد الله من يعصيه، وهم يسبحون بحمده، ويقدسون له.. فأبان لهم سبحانه الحكمة من خلق الإنسان، وان فيه استعدادا لعلم ما لم يعلموا، وان فساده في الأرض لا يذهب بالفائدة من وجوده، وعندها اقتنع الملائكة وأذعنوا.
5. هذا، الى ان الله سبحانه لم يخلق الإنسان، ليرتكب المعاصي والرذائل، بل خلقه للعلم والعمل النافع، ونهاه عن الإفساد والإضرار، فان خالف وعصى عوقب بما يستحق.
6. الدرس البليغ الذي يجب أن نستفيده من هذه المحاورة بين الله وملائكته ان الإنسان بالغ ما بلغ من العلم ونزاهة القصد، والقوة والسلطان ليس بفوق ان يجادل ويناقش، ويشار عليه.. فالله سبحانه علا جلاله وعظمته قد فسح لملائكته مجال الحوار والمقال الذي هو أشبه بالاعتراض، وهم بدورهم لم يحجموا عن ذلك، بل أقدموا على علم منهم بعظمة الله وحكمته، وقد تلطف سبحانه في جوابهم، وأبان لهم برفق الدليل المحسوس الملموس، وأخذ اعترافهم بالرضى، والاقتناع، لا بالزجر والغلبة، بل ان الله سبحانه قد فتح باب الحوار معه لإبليس اللعين الذي راجعه بقوله: خلقتني من نار، وخلقته من طين.
7. على الذين يرون أنفسهم فوق الاعتراضات ان يتعظوا ويستفيدوا من هذا الدرس البليغ.. انهم إذ ينزهون أنفسهم عن الرد والمراجعة يرتفعون بها فوق مكانة العزيز الجبار، من حيث لا يشعرون.. قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: لا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق ان يقال له، أو العدل ان يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل)
__________
(1) التفسير الكاشف: 1/80.
الطباطبائي:
ذكر محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. السياق القرآني يشعر بأن الخلافة المذكورة إنما كانت خلافة الله تعالى لا خلافة نوع من الموجود الأرضي كانوا في الأرض قبل الإنسان وانقرضوا ثم أراد الله تعالى أن يخلفهم بالإنسان كما احتمله بعض المفسرين، وذلك لأن الجواب الذي أجاب سبحانه به عنهم وهو تعليم آدم الأسماء لا يناسب ذلك.
2. على هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدم عليه السلام، بل بنوه يشاركونه فيها من غير اختصاص، ويكون معنى تعليم الأسماء إيداع هذا العلم في الإنسان بحيث يظهر منه آثاره تدريجا دائما ولو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل.
3. يؤيد عموم الخلافة قوله تعالى ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾، وقوله تعالى ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ﴾، وقوله تعالى ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾ .
4. لم ينف الله تعالى عن خليفة الأرض الفساد وسفك الدماء، ولا كذّب الملائكة في دعواهم التسبيح والتقديس، وقررهم على ما ادعوا، بل إنما أبدى شيئا آخر، وهو أن هناك أمرا لا يقدر الملائكة على حمله ولا تتحمله، ويتحمله هذا الخليفة الأرضي، فإنه يحكي عن الله سبحانه أمرا ويتحمل منه سرا ليس في وسع الملائكة، ولا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد وسفك الدماء، وقد يدل سبحانه قوله: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، ثانيا بقوله: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، والمراد بهذا الغيب هو الأسماء لا علم آدم بها فإن الملائكة ما كانت تعلم أن هناك أسماء لا يعلمونها، لا أنهم كانوا يعلمون وجود أسماء كذلك، ويجهلون من آدم أنه يعلمها، وإلا لما كان لسؤاله تعالى إياهم عن الأسماء وجه وهو ظاهر، بل كان حق المقام أن يقتصر بقوله: قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم حتى يتبين لهم أن آدم يعلمها لا أن يسأل الملائكة عن ذلك.
5. هذا السياق يعطي أنهم ادعوا الخلافة وأذعنوا انتفاءها عن آدم، وكان اللازم أن يعلم الخليفة بالأسماء، فسألهم عن الأسماء فجهلوها وعلمها آدم، فثبت بذلك لياقته لها وانتفاؤها عنهم، وقد ذيل سبحانه السؤال بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وهو مشعر بأنهم كانوا ادعوا شيئا كان لازمه العلم بالأسماء.
6. قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾، إلى قوله ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ مشعر بأنهم إنما فهموا وقوع الإفساد وسفك الدماء من قوله سبحانه: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، حيث إن:
أ. الموجود الأرضي بما أنه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية، والدار دار التزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مركباتها في معرض الانحلال، وانتظاماتها وإصلاحاتها في مظنة الفساد ومصب البطلان، لا تتم الحياة فيها إلا بالحياة النوعية، ولا يكمل البقاء فيها إلا بالاجتماع والتعاون، فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء، ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة لا تقع في الأرض إلا بكثرة من الأفراد ونظام اجتماعي بينهم يفضي بالآخرة إلى الفساد والسفك.
ب. والخلافة ـ وهي قيام شيء مقام آخر لا تتم إلا بكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شئونه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف، والله سبحانه في وجوده مسمى بالأسماء الحسنى متصف بالصفات العليا، من أوصاف الجمال والجلال، منزه في نفسه عن النقص ومقدس في فعله عن الشر والفساد جلت عظمته، والخليفة الأرضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف ولا يحكي بوجوده المشوب بكل نقص وشين الوجود الإلهي المقدس المنزه عن جميع النقائص وكل الأعدام، فأين التراب ورب الأرباب.
7. هذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما جهلوه، واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، وليس من الاعتراض والخصومة في شيء، والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ حيث صدر الجملة بأنّ التعليلية المشعرة بتسلم مدخولها.
8. ملخّص قولهم يعود إلى أن جعل الخلافة إنما هو لأجل أن يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده، والأرضية لا تدعه يفعل ذلك، بل تجره إلى الفساد والشر، والغاية من هذا الجعل وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الذي مر من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك، فنحن خلفاؤك أو فاجعلنا خلفاء لك، فما فائدة جعل هذه الخلافة الأرضية لك؟ فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾
9. في تفسير العياشي، عن الصادق عليه السلام، قال: ما علم الملائكة بقولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، لولا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء).. يمكن أن يشير بها إلى دورة في الأرض سابقة على دورة بني آدم هذه كما وردت فيه الأخبار ولا ينافي ذلك أن الملائكة فهمت ذلك من قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، بل لا يتم الخبر بدون ذلك، وإلا كان هذا القول قياسا من الملائكة مذموما كقياس إبليس.
10. في تفسير العياشي، أيضا عنه عليه السلام قال زرارة: دخلت على أبي جعفر عليه السلام، فقال: أي شيء عندك من أحاديث الشيعة ـ فقلت: إن عندي منها شيئا كثيرا ـ فقد هممت أن أوقد لها نارا فأحرقها ـ فقال عليه السلام: وارها تنس ما أنكرت منها ـ فخطر على بالي الآدميون ـ فقال: ما كان علم الملائكة حيث قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾؟ قال وكان يقول أبو عبد الله عليه السلام: إذا حدث بهذا الحديث هو كسر على القدرية، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: إن آدم عليه السلام كان له في السماء خليل من الملائكة، فلما هبط آدم من السماء إلى الأرض استوحش الملك ـ وشكى إلى الله تعالى وسأله أن يأذن له، فأذن له فهبط عليه فوجده قاعدا في قفرة من الأرض، فلما رآه آدم وضع يده على رأسه وصاح صيحة، قال أبو عبد الله عليه السلام: يروون أنه أسمع عامة الخلق ـ فقال له الملك: يا آدم ما أراك إلا وقد عصيت ربك ـ وحملت على نفسك ما لا تطيق، أتدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه؟ قال: لا، قال: قال ﴿ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قلنا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ﴾؟ فهو خلقك أن تكون في الأرض ـ أيستقيم أن تكون في السماء؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: والله عزى بها آدم ثلاثا.. ويستفاد من الرواية أن جنة آدم كانت في السماء وسيجيء فيه روايات أخر أيضا.
__________
(1) الميزان في تفسير القرآن: 1/116.
الحوثي:
ذكر بدر الدّين الحوثي (ت1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ واذكر في شأن علمه تعالى بكل شيء، إذ قال ربك ﴿لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ والخليفة: هو الإنسان، كأنه خليفة لله سبحانه؛ لأنه يظهر مكنون آياته المخبوءة في الأرض ولأمور غير ذلك.
2. ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ نقول تنزيهاً وتبرئة من العيوب وتبعيداً عن النقائص حامدين لك ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ نقول تنزيهاً لك وتبعيداً عن العيوب عابدين لك بالتقديس، فالتسبيح: تنزيه عن العيوب وعما هو نقص من العظمة والجلال.
3. والتقديس: تنزيه عن القبائح، وفائدة الجمع بينهما؛ التصريح بالتنزيه عن القبائح، قد أعلمهم الله سابقاً أن الإنسان سيكون منه من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فسألوه أن يجعلهم هم الخليفة في الأرض ليسبحوا بحمده ويقدسوا له في الأرض؛ لأنهم يحبون الله، ويكرهون أن يستخلف من يعصي، ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فأنا أعلم حكمة لا تعلمونها في جعل الإنسان خليفة، وإن كان منه من ذكرتم.
4. ومن فوائد إيجاد الخليفة: اختبار الملائكة بأمرهم بالسجود لآدم ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [الأنفال: 37] ولا نحصر فوائد ذلك لقصور علمنا.
__________
(1) التيسير في التفسير: 1/85.
فضل الله:
ذكر محمد حسين فضل الله (ت 1431 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الملائكة: جمع ملك، واختلف في اشتقاقه، فذهب أكثر العلماء إلى أنه من الألوكة وهي الرسالة.. وذهب أبو عبيدة إلى أن أصله من لاك إذا أرسل.. وذهب ابن كيسان إلى أنه من الملك.
2. غلب إطلاق الاسم على مخلوقات سماوية مخصوصة موجودة في عالم الغيب، قد يصطفي الله منهم رسلا، وقد يوكل إلى بعضهم مهمات خاصة تتصل بالكون في ظواهره وحركاته، وهم: ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 26 ـ 27].
3. معنى الخلافة التي جعلها الله للإنسان فيما تدل عليه الآية، ربما يذكر معنيان:
أ. أولهما: الخلافة عن الموجودات السابقة على خلق الإنسان، انطلاقا من بعض الأحاديث المروية التي تذكر أن هناك فصائل حية عاشت في الأرض قبل الإنسان، وعاثت فيها فسادا، وسفكت الدماء، ثم انقرضت بعد ذلك، وجاء الإنسان ليخلفها على هذه الأرض، وهناك أحاديث تعطي لتلك الموجودات الصفة الإنسانية أو الآدمية باعتبار وجود آلاف من الآدميين قبل آدم أبي البشر.
ب. ثانيهما: الخلافة عن الله، وقد وردت عدة آيات بهذا المضمون، كما في قوله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [ص: 26]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 14]، وعلى هذا يكون معنى الخلافة عن الله هو إدارة الأرض وبناؤها وإعمارها على وفق إرادة الله.
4. لعل الرأي الثاني أوفق بظاهر الآيات، لأن سياقها يوحي بأن الملائكة لم يطرحوا سؤالهم انطلاقا من إفساد الإنسان في الأرض وسفكه الدماء فقط، بل باعتبار أنفسهم مؤهلين لذلك، وكان وحي الله إليهم في إطار بيان الخصائص التي يملكها هذا المخلوق ولا يملكونها هم، مما يؤهله للقيام بالمهمة الموكولة للخليفة، فكأن القضية هي قضية الدور الذي يراد للخليفة أن يقوم به، لا مجرد خلق موجود جديد يخلف الكائن القديم، ولهذا كان الحوار منطلقا من موقع الخصائص الموضوعية للخلافة الموجودة في الإنسان المفقودة في غيره، ولو كانت القضية كما يتوهم في المعنى الأول، لما كان هناك أيّة حاجة لكل هذه التفاصيل، فإن الخلافة عن الموجودات السابقة لا تحتاج إلى ميزة ذاتية أو ميزة عن الملائكة.
5. في ترجيحنا للمعنى الثاني، لا ننكر ما ورد في الأحاديث من وجود خلق آخر، فإن قضية وجوده وعدمه لا ترتبط بخلافته عنه وعدمها كما هو واضح، وقد تصلح هذه الأحاديث لأن تكون تفسيرا للسؤال المطروح في أكثر من مجال أمام هذا الحوار القرآني، وهو من أين عرف الملائكة أن هذا المخلوق الجديد يسفك الدماء ويفسد في الأرض مع أنه لم يدخل مجال التجربة بعد؟
6. تنوّعت الأجوبة حول سر معرفة الملائكة أن هذا المخلوق الجديد يسفك الدماء ويفسد في الأرض مع أنه لم يدخل مجال التجربة بعد، فهناك:
أ. من فسر ذلك بدراستهم للخصائص المادية التي يتميز بها الإنسان من حيث إنه مخلوق أرضي تتوفر فيه كل سلبيات العنصر الأرضي في محدوديته وماديته، مما يفسح في المجال لمثل هذه الممارسات السلبية.
ب. من تحدث عن تجربة إنسانية سابقة من خلال بعض الموجودات السابقة المنقرضة.
ج. من طرح القضية في اتجاه آخر لا يتحدث عن معلومات ذاتية حسية أو استنتاجية، كما في الجوابين السابقين، بل يتحدث عن إمكانية أن يكون الحوار ـ لو كان هناك حوار حقيقي ـ غير مذكور بتمامه، بل يمكن أن تكون هناك جوانب أخرى للحوار لم يتعلق غرض بيانها في القصة على أساس الطريقة القرآنية التي تختصر القصة فلا تذكر كل التفاصيل، بل تقتصر على الأشياء التي تتصل بالهدف الأساس فيها، فربما كان الملائكة قد سألوا بعد إخبار الله لهم بجعل الخليفة، عن خصائصه وأعماله وأدواره، فأجابهم الله بما يحدث منه من قضايا لا تنسجم مع إرادته كقضايا الإفساد في الأرض وسفك الدماء، فاستغربوا ذلك، وسألوا عن الحكمة في ذلك، فكانت معرفتهم مستمدة من تعريف الله لهم بذلك في إطار القصة، وهذا ما نستقربه على أساس دراسة طبيعة الأشياء.
د. إذا صحّت الأحاديث المأثورة من جهة السند، فإننا نتبناها ـ في تفسير السؤال ـ باعتبارها الحجة على التفسير بعيدا عن الآراء والظنون، ولا بأس من الإشارة إلى بعض هذه الأحاديث، فمنها ما جاء في تفسير العياشي عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام قال: ما علم الملائكة بقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ لولا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء.
7. طبيعة الخلافة عن الله تتجلى في نواح متعددة:
أ. لعل المراد منها إدارة ما يحتاج إلى الإدارة والرعاية والتدبير في بناء الحياة في الأرض على أساس النظام الذي جعله الله واختاره، وبهذا يظهر الدور الكبير الذي أعده الله للإنسان، بما أودعه فيه من قوة المعرفة التي يستطيع من خلالها استيعاب كل ما حوله من الظواهر والموجودات، وما أعطاه من طاقة العقل الذي يدرك به الخير والشر، والصلاح والفساد، ويوازن به بين الأمور التي يواجهها ليستنتج منها أفكارا جديدة، ويثير منها الحلول الصحيحة لمشاكل الحياة وقضاياها، ولعل هذا الدور هو الذي عبر الله عنه بالأمانة في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]
ب. وربما كان هذا التصوير الكنائي لمواجهة هذه المخلوقات الضخمة بالمسؤولية تدليلا على عظمة الدور الذي يمثله الإنسان عندما يقوم به.
ج. قد نفهم من الإشارة إلى تعليم آدم الأسماء كلها ـ في معرض تبرير صلاحيته للخلافة ـ أن للعلم دورا كبيرا في هذا المجال، وأن الطاقات التي أودعها الله في الإنسان دون أي مخلوق آخر هي الأساس في هذا الدور، فمن خلالها يستطيع أن ينتج علما، وأن يتحول إلى شيء نام متحرك في كل اتجاه يبلغه الفكر، أو تقود إليه التجربة، كمظهر من مظاهر الخلق والإبداع.
8. بهذا انطلقت مسئولية الإنسان للقيام بدوره بالانسجام بين طبيعة الحياة وبين إرادة الله وتسخير القوى التي بين يديه في سبيل الخير لا في سبيل الشر، وهذا ما يرفعه إلى المستوى الكبير لدى الله، فيكون أفضل من الملائكة الذين يمارسون الخير بشكل تكويني، فلا فضل لهم في ذلك، أمّا إذا ابتعد عن ممارسة دوره من موقع المسؤولية، فإنه يتنزل إلى أسفل من درجة الحيوان الذي يعيش الشهوة ونتائجها بشكل غريزي، فلا إثم عليه في ذلك.
9. إن سرّ الإنسان هو علمه وعقله وإرادته، فهو الذي يميزه عن سائر الموجودات من ناحية ذاتية، وهو الذي يؤهله لأن يتسلم زمام الأمور في الحياة الدنيا من خلال تسخير القوى الطبيعية له، أمّا من الناحية العملية، فإن عمله هو الذي يحدد قيمته وموقعه على أساس ما أنزله الله في قرآنه: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]
10. الظاهر من الآية الكريمة أن الخليفة هو النوع الإنساني:
أ. لأن آدم الشخص محدود بفترة زمنية معينة ينتهي عمره بانتهائها، فكيف يمكنه القيام بهذا الدور الكبير الذي يشمل الأرض كلها ويتسع لكل هذه المرحلة الممتدة من الحياة، هذا أولا.
ب. وثانيا: إن الملائكة قد وصفوا هذا الخليفة بأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وهذا الوصف لا ينطبق على آدم بل ينطبق على بعض الجماعات التي يتمثل فيها النوع الإنساني في مدى الحياة.
11. نلاحظ في هذا المجال أن هذا اللفظ (الخليفة) قد استخدم في خطاب بعض الأنبياء والناس في أكثر من آية، وربما نستطيع من هذا، أن نستوحي الفكرة القائلة بأن تعليم آدم الأسماء ليس تعليما دفعيا، بل هو تعليم القابلية والإعداد بالشكل التدريجي الذي تواجهه البشرية في السلّم التطوري للعلم، والله العالم.
12. سؤال وإشكال: إن الله حدّد في بعض الآيات الكريمة الاستخلاف بالمؤمنين كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور: 55]، فكيف يكون المراد بالخليفة النوع الإنساني كله؟ والجواب(2).: الخلافة على قسمين، عامة وخاصة:
أ. أما العامة فهي التي جعلها الله للنوع الإنساني بشكل عام في مقابل الفصائل الأخرى من الموجودات الحية من خلال ما منحه من الطاقات والخصائص العامة التي يستطيع أن يستخدمها فيما يريده الله، أو فيما يمكن أن يصل به إلى رضى الله.
ب. أما الخاصة فهي الولاية والسيطرة على الآخرين بشكل مباشر، وهو ما تعبر عنه هذه الآية التي توحي بأن الله سيمكن المؤمنين في الأرض ويمنحهم السلطة الفعلية، كما منح من قبلهم، فلا تنافي ما ذكرناه في معنى الآية.
13. الشعور بخلافة الإنسان عن الله، هو الذي يجدد للإنسان ـ في كل يوم ـ حياته من خلال تجديد طاقاته وتحويلها إلى قوة فاعلة متجددة تلاحق كل خطوات الواقع من أجل تركيزها على الطريق المستقيم.. وهذا ما يجب على العاملين في سبيل الله أن يعمّقوه في داخل نفوس الناس كجزء من أساليب التربية الروحية التي يراد منها إيجاد الشخصية المسلمة الفاعلة المتعاطفة مع كل مجالات العمل في الحياة، المتطلعة في كل صباح جديد إلى واقع جديد ومسئولية جديدة تنطلق أبدا في الآفاق الواسعة الشاملة التي تشرق بنور الله.. ولعل هذا ما يحقق للإنسان الشعور العميق بوجوده الحر في داخل أعماقه بعيدا عن كل نوازع الضعف، وتهاويل الضغوط المنطلقة من القوى الموجودة خارج ذاته، لأنه يخلق في هذه الذات القوة الهائلة المستمدة من شعوره بسيطرته على الكون كله من خلال دوره الكبير الممنوح له من الله خالق كل قوة في الكون، لأنه خالق الكون، فليست هناك قوة تتحدى دوره، أو تدمر له إنسانيته في ضغوطها الطاغية، بل هو القوة التي تتحكم في الضغوط الخارجية كلها، من خلال قوته الداخلية.
14. ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ في حوار تثقيفي حول الواقع الجديد الذي أراد الله إبداعه في الأرض التي لم يكن لها أيّ دور في الوجود الحركيّ آنذاك، وربما كان للملائكة فيها بعض الدور في مهمّاتها التي أوكلها الله إليها في النظام الكوني.
15. ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ يملك العقل، والإرادة، وحرية الحركة، وإمكانات الإبداع، وتنوّع الإنتاج، لينظم لها حركتها، وليدبر أوضاعها، ويصنع فيها مجتمعاتها التي تمتلئ بها ساحاتها، فيكون الإنسان في الأرض تماما كما الملائكة في السماء، مع فارق نوعي، أن الإنسان مخلوق حر بينما الملائكة مجبولون على الطاعة.
16. هذا الحوار الذي أجراه الله سبحانه وتعالى مع الملائكة يحتمل أن يكون:
أ. قصة حقيقة جرت بين الله وبين الملائكة.
ب. أو هو أسلوب قرآني لتقريب الفكرة بطريقة الحوار لأنه أقرب إلى فهم الفكرة من الأسلوب التقريري، إذ إن أسلوب الحوار متحرك يوحي بالحركة في الفكرة عندما تتوزع تفاصيلها على عدة أشخاص بين السؤال والجواب، بينما نشعر في الأسلوب التقريري، بأن الفكرة تسير بشكل رتيب هادئ لا يثير في النفس أي شعور غير عادي إلا من خلال طبيعة الفكرة؟
17. كون القصة أسلوبا قرآنيا لتقريب الفكرة بطريقة الحوار ليس بدعا في الأساليب القرآنية، فنحن نجد في كثير من آيات القرآن حوارا يدور بين الله وبين ما لا يعقل ولا ينطق من مخلوقاته، كما فيما حكاه الله سبحانه في خلق السماوات والأرض إذ قال لهما: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11]، لتقريب فكرة خضوعهما التكويني لله بما أودعه فيهما من قوانين طبيعية تسير بهما وفق إرادته وحكمته.
18. الطريقة العقلائية في المفاهيم تقضي بأن الظواهر الكلامية حجة ما لم يكن هناك دليل عقلي يمنعنا من الأخذ بها، وقد جرى القرآن على هذه الطريقة في أسلوبه، فلا بد لنا من السير عليها فيما نأخذ منه أو ندع، فإذا أخبرنا بوجود حوار ضمن قصة ولم يكن هناك مانع عقلي من الإقرار به، فيلزمنا الإقرار به واعتباره حقيقة واقعة، أما إذا كان هناك مانع عقلي فلا بد من حمله على ما ينسجم معه على أساس قواعد المجاز والكناية والاستعارة، كما في الآيات التي تحدثت عن وجه الله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88]، أو عن يد الله كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64]، وكذلك في قوله عزّ من قائل: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10]، مما قد يوحي بأنه تعالى جسم كالأجسام.. ولما قام الدليل العقلي على امتناع الجسمية عن الله، حملنا هذه الآيات وأمثالها أنها واردة مورد الاستعارة للتعبير عن الذات في كلمة الوجه، وعن عطائه وقوّته في كلمة اليد، لمناسبات لغوية تقتضي ذلك.
19. يستحيل أن يكون الله سبحانه، في مقام استشارة الملائكة فيما يريده من خلق هذا الخليفة لأن الاستشارة تنطلق من محاولة الوصول إلى الرأي الأصوب الذي يستتبع الجهل بالواقع مما يستحيل نسبته إليه تعالى.
20. إذا كانت القضية إخبارا عما يريد الله فعله، يمكن أن تكون القضية:
أ. جوابا عن سؤال أثاره الملائكة لكشف الموضوع.
ب. ويمكن أن تكون جوابا عن سؤال تفرضه طبيعة القضية، بعيدا عن أجواء الحوار الحقيقي.
وقد نستطيع أن نتبنى الفكرة الثانية، لأن الآيات، بمجموعها، توحي بأن في القضية نوعا من التحدي الذي يوجه نحو الملائكة، بإثارة محدودية علمهم من جهة، وبتوجيه السؤال إليهم لإظهار عجزهم وتكليف آدم بالإجابة عنه.
21. قد يقرّب هذه الفكرة، أننا لا نفهم الوجه في إدارة هذا الحوار مع الملائكة، فإن حوار الله مع مخلوقاته ينطلق غالبا من القضايا التي تتعلق بمسؤولياتهم وتكاليفهم، أمّا أن يكون متمثلا في الأمور التكوينية التي يريد إيجادها، فهذا ما لا نعرف له وجها.
22. من الطبيعي، أن هذا لا يعتبر مانعا عقليا عن حمل اللفظ على ظاهره، ولا سيما أننا لا نملك الكثير من المعرفة لعالم ما وراء الطبيعة، فنحن لا نعرف كيف يقولون، وكيف هم، وما هي العلاقة بينهم وبين الله سبحانه، وما هو الجو الذي يمكن أن يعيش فيه هذا الحوار، كل هذا لا نملك له سبيلا للمعرفة، فإن هذه القضايا مما نعرف وجودها بشكل ضبابي، لأننا لا نجد وسائل الإيضاح التي تجعلنا نتمثل الفكرة بوضوح.
23. إننا نستقرب اعتبار الموضوع أسلوبا قرآنيا لتوضيح الفكرة، ولكننا لا نجزم بذلك، لأن المعطيات التي قدمناها لا تدع مجالا للجزم، بل ربما نلتقي ببعض الأحاديث المأثورة التي تدعم الفرضية الأولى.. فيما سبق أو يمكن أن يلي من حديث.
24. سؤال وإشكال: كيف يسوّغ الإخبار بحدوث حوار لم يحدث، وبحكاية قول لم يقل؟ والجواب: إننا نعرف من الأبحاث التي تحدثت عن الصدق والكذب، في أبواب الكناية وفي غيرها، أنهما يخضعان ـ في مقياسهما ـ لما يقصد حكايته، فإن قصد المتكلم الإخبار بما يحكيه عن الواقع، أمكن الحكم عليه بالصدق إن كان مطابقا له، وبالكذب إن لم يكن مطابقا، أما إذا لم يقصد الإخبار عن الواقع في مضمون الحكاية، بل قصد اعتبارها وسيلة للإخبار عن شيء آخر، فإن الاعتبار يكون به لا بها.
25. ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ من هذا النوع الإنساني الذي يعيش الصراع بين العقل والغريزة في شخصيته، ويتخزن عناصر النزاع والخلاف، والرغبة في التدمير، والأنانية في التملك والتسلط في ذاته، مما يؤدي إلى الإفساد المادي والمعنوي، وإلى سفك الدماء، فتعيش الأرض، من خلال هذه التعقيدات والاهتزازات، في جوّ من الحروب المفسدة والمدمرة للمدر والبشر معا، مما يبعدها عن السلام الموحي بالخير والمحبة والصفاء، والمساعد على الحق في روحانية الإيمان، وحركية التقوى، والقرب منك، فيحل محل ذلك الحقد والعداوة والبغضاء والتنازع والتقاطع، وينفتح الواقع على الباطل في ضراوة الشرّ، وقسوة الجريمة، وقذارة الشعور، وسقوط العقل.
26. إذا كانت حكمتك ـ والكلام في معناه للملائكة ـ من استخلاف الإنسان في الأرض أن يسبّحك ويقدّس لك ويعبدك، باعتبار أن العبادة هي غاية الخلق في من تخلقه، فإننا لن نبلغ كنه الحقيقة العميقة فيها، لأن الكون لا يعيش الفراغ من هذه الجهة، ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ في الأرض والسماء، حتى يتحول الكون من حولنا إلى تسبيح وتقديس وانفتاح عليك في كل مواقع القرب إليك، وربما خيّل إلينا أننا أقرب إلى الخلافة من هذا المخلوق الجديد، لأننا نطيعك ولا نعصيك، وهو يخلط الطاعة بالمعصية، والاستقامة بالانحراف، مما يجعل النتائج سلبية في حركته، بينما هي إيجابية في وجودنا.
27. ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ لأنكم تعرفون من الأشياء ظواهرها، ولا تنفذون إلى بواطنها، فقد تكون هناك بعض المفاسد في التقديرات الوجودية المتصلة بالكون والإنسان، ولكن المصالح الكامنة فيها، والحاصلة منها، أكثر أهمية، وأقوى تأثيرا، وأفضل إنتاجا، بحيث تذوب المفاسد في سلبياتها أمام المصالح في إيجابياتها، وذلك من خلال النظام الكوني المحدود الذي لا تجد فيه خيرا إلا ومعه شر، كما لا تجد فيه شرا إلا وهناك خير في داخله، لتكون المعادلة غلبة هذا الجانب على ذاك في مسألة أفضلية الوجود على العدم، أو أفضلية العدم على الوجود.
28. إن مشكلتكم هي أنكم لا تملكون الوعي الكامل الشامل المنفتح على كل حقائق الكون في حركة الخلق والوجود، ولذلك فإنكم تعرفون جانبا واحدا من الصورة، ولا تعرفون الجوانب كلها، وسوف تعلمون من نتائج هذا الخلق كثيرا من الأشياء التي تضيف إلى عملكم علما وإلى وعيكم سعة وشمولا.
__________
(1) من وحي القرآن: 1/216.
(2) من وحي القرآن: 1/232.
الشيرازي:
ذكر ناصر مكارم الشيرازي (ت 1446 هـ) في تفسيره لهذا المقطع ما يلي(1).:
1. الخليفة هو النائب عن الغير، أما هذا الغير الذي ينوب الإنسان عنه فاختلفت فيه أقوال المفسرين:
أ. منهم من قال: إنه خليفة الملائكة الذين كانوا يسكنون من قبل على ظهر الأرض.
ب. ومنهم من قال: إنه خليفة بشر آخرين أو موجودات أخرى كانت تعيش قبل ذلك على الأرض.
ج. ومنهم من قال: إنه إشارة إلى أن كل جيل من البشر يخلف الجيل السابق.
2. الحق أن المقصود بالخليفة هو خليفة الله ونائبه على ظهر الأرض، كما ذهب إلى ذلك كثير من المحققين، لأن سؤال الملائكة بشأن هذا الموجود الذي قد يفسد في الأرض ويسفك الدماء يتناسب مع هذا المعنى، لأن نيابة الله في الأرض لا تتناسب مع الفساد وسفك الدماء.
3. الملائكة كانوا عالمين ـ كما يبدو من تساؤلهم ـ أن هذا الإنسان موجود يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فكيف عرفوا ذلك!؟
أ. قيل: إن الله سبحانه أوضح للملائكة من قبل على وجه الإجمال مستقبل الإنسان.
ب. وقيل: إن الملائكة فهموا ذلك من خلال عبارة (في الأرض)، لأنهم علموا أن هذا الإنسان يخلق من التراب، والمادة لمحدوديتها هي حتما مركز للتنافس والنزاع، وهذا العالم المحدود المادي لا يستطيع أن يشبع طبيعة الحرص في الإنسان، وهذه الدنيا لو وضعت بأجمعها في فم الإنسان فقد لا تشبعه، وهذا الوضع ـ إن لم يقترن بالالتزام والشعور بالمسؤولية ـ يؤدي إلى الفساد وسفك الدماء.
ج. بعض المفسرين ذهب إلى أنّ تنبؤ الملائكة يعود إلى تجربتهم السابقة مع مخلوقات سبقت آدم، وهذه المخلوقات تنازعت وسفكت الدماء وخلفت في الملائكة انطباعا مرّا عن موجودات الأرض.
4. هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها، وقد يكون موقف الملائكة من استخلاف آدم ناشئا عن هذه الأسباب الثلاثة معا.
5. الملائكة بيّنوا حقيقة من الحقائق، ولذلك لم ينكر الله عليهم قولهم، بل أشار إلى أن ثمة حقائق أخرى إلى جانب هذه الحقيقة، حقائق ترتبط بمكانة الإنسان في الوجود؛ وهذا ما لم تعرفه الملائكة.
6. الملائكة يعلمون أن الهدف من الخلقة هو العبودية والطاعة، وكانوا يرون في أنفسهم مصداقا كاملا لذلك، فهم في العبادة غارقون، ولذلك فهم ـ أكثر من غيرهم ـ للخلافة لائقون، غير عالمين أن بين عبادة الإنسان المليء بألوان الشهوات، والمحاط بأشكال الوساوس الشيطانية والمغريات الدنيوية وبين عبادتهم ـ وهم خالون من كل هذه المؤثرات ـ بون شاسع، فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية، من عبادة تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن!؟ ماذا تعرف الملائكة من أبناء آدم أمثال محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وابراهيم ونوح وموسى وعيسى والأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام وعباد الله الصالحين والشهداء والمضحّون من الرجال والنساء الذين قدّموا وجودهم على مذبح العشق الإلهي، والذين تساوي ساعة من تفكّرهم سنوات متمادية من عبادة الملائكة.
7. الملائكة ركنوا في بيان فضلهم إلى ثلاثة امور: التسبيح والحمد، والتقديس، أمّا التسبيح والحمد فمعنا هما واضح، وهو تنزيه الله عزّ وجلّ من كل نقص والاعتراف له بكل كمال وجمال، أمّا ما هو معنى التقديس:
أ. البعض يرى أنه عبارة عن تنزيه الله عزّ وجلّ عن كل نقص، وهو معنى التسبيح المتقدم.
ب. لكن آخرين ذهبوا إلى ان التقديس من مادة (قدس) أي تطهير الأرض من الفاسدين والمفسدين، أو تطهير النفس من كل رذيلة، أو تطهير الجسم والروح لله، والشاهد على ذلك كلمة (لك)، في جملة (نقدس لك) لأن الملائكة لم يقولوا (نقدسك) بل (نقدس لك)، أي تطهر المجتمع والأرض لك.
8. في الحقيقة أن مرادهم هو القول بأن الهدف إذا كان هو الطاعة و العبودية فنحن على أتمّ الاستعداد، ولو كان هو العبادة فنحن في هذه الحالة دائما، وإذا كان المقصود هو تطهير النفس أو تطهير الأرض فسوف ننفذ هذا الأمر، في حين أن الإنسان المادي مضافا إلى فساده، فإنّه يفسد الأرض.
__________
(1) تفسير الأمثل: 1/156.