الكتاب: إيران.. نظام وقيم
الناشر: مؤسسة العرفان للثقافة الإسلامية
الطبعة: الأولى، 1439 هـ
عدد الصفحات: 487
ISBN: 978-620-3-85918-8
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
يحاول هذا الكتاب التعريف بالقيم الكبرى التي يقوم عليها النظام الإيراني، وذلك من خلال العناوين التالية:
ولاية الفقيه.. والحكومة الإلهية: ويتناول الأسس التي تقوم عليها نظرية الحكم في إيران، والتي يطلق عليها [ولاية الفقيه]، والتي تستند إلى مبدأ [الحاكمية الإلهية]
ولاية الفقيه.. وقيم الجمهورية: وفيه حديث مفصل عن الآليات التي وفرها النظام الإيراني حتى يعبر بها الشعب عن إرادته ومواقفه، حتى لا يصطدم النظام الشرعي بالرفض الشعبي.
ولاية الفقيه.. والحرية المنضبطة: وفيه حديث مفصل عن مدى الحرية المتاحة للإيرانين، كما ذكرنا القيود المفروضة على الحرية السلبية حفاظا على السلم والقيم الاجتماعية.
ولاية الفقيه.. والأخوة الإنسانية: وتناولنا فيه اهتمام النظام الإسلامي الإيراني بقيمة [الأخوة]، سواء الأخوة الداخية، أو الأخوة الخارجية مع جميع شعوب العالم.
ولاية الفقيه.. والمساواة العادلة: وتناولنا في قيمة [المساواة] باعتبارها من القيم التي قام عليها النظام الإسلامي الإيراني، وهي قيمة تجعل المواطنين في درجة واحدة، ودون تفريق بينهم، لا في الحقوق، ولا في الواجبات، إلا ما اقتضته العدالة.
ولاية الفقيه.. والقيم التربوية: وتناولنا فيه اهتمام النظام الإيراني بالقيم التربوية بجميع أصنافها، وفي جميع مجالاتها، ذلك أن هدف هذا النظام هو بناء الإنسان، وتحقيق ما يطلق عليه [التقوى الاجتماعية]
ولاية الفقيه.. والقيم الحضارية: وتناولنا فيه اهتمام النظام الإيراني بالدعوة لقيام حضارة إسلامية جديدة، تستند إلى القيم الإسلامية، والمصادر الدينية، في نفس الوقت الذي لا تغفل فيه المكتسبات المادية، والخبرات البشرية.
إيران.. نظام وقيم (8)
لا يمكن لمن يريد أن يتعرف على إيران، أو على مشروعها الحضاري الجديد أن يمر مرور الكرام على نظامها الذي اعتمدته منذ انطلاقة الثورة الإسلامية قبل ما يقرب من أربعين سنة، ذلك أن كل الهجمات السياسية والعسكرية والإعلامية والدينية التي تعرضت لها كانت بسبب ذلك النظام الذي أسسه قادة ثورتها، ورضيه شعبها، وعبر عن رضاه بوسائل مختلفة.
وهو نظام متفرد من نواح كثيرة جدا؛ فلا هو بالنظام الديني المحض، ولا هو بالنظام العلماني والديمقراطي المحض، ولا هو مزيج ملفق من كليهما، بل هو نظام له خصوصياته التي تستدعي البحث الدقيق والموضوعي والهادئ بعيدا عن شغب المشاغبين وجدل المجادلين.
ولذلك اهتممنا في هذا الجزء بالتعرف على أسرار هذا النظام، والأسس الفكرية التي يقوم عليها، ومثل ذلك الآليات التي استخدمها لتحقيق تلك الأسس النظرية على أرض الواقع.
وقد دعانا إلى هذه الاهتمام مجموعة أمور:
أولها: أن هذا النظام تعرض منذ انطلاقته لحملة تشويه كبيرة جدا، لا من أمريكا وإسرائيل فحسب، وإنما من طرف الكثير من المسلمين الذين نهض ساستهم وإعلاميوهم ورجال دينهم لتشويهه وشيطنته وإلصاق كل أنواع التهم به.
ولذلك كان الواجب على كل باحث صادق إنصافه، لا بنصرته عاطفيا؛ فهو لا يحتاج إلى ذلك، وإنما بوصفه وصفا دقيقا وموضوعيا من خلال المصادر التي أُسس عليها، أو التطبيقات التي خرج بها إلى أرض الواقع.
ثانيا: أن هذا النظام متفرد في كل شيء، ابتداء من الأسس الفلسفية التي يقوم عليها، وانتهاء بالمؤسسات التي يتكون منها، ولذلك يعتبر تجربة فريدة يتطلع كل عاقل للاطلاع
إيران.. نظام وقيم (9)
عليها، ليستفيد من مزاياها، ويتجنب عيوبها، ولذلك كان البحث الموضوعي في هذا الجانب مهما جدا، حتى نتقي تلك الطروحات التي لا هم لها إلا تشويه الحقائق، وعرضها بصورة لا تتناسب مع الواقع.
ثالثها: أن هذا النظام يُصنف ضمن نماذج الإسلام السياسي، والتي نجد لها صورا كثيرة تحققت عبر التاريخ، وقد لقي الكثير منها ردود فعل سلبية بسبب الأخطاء التي وقع فيها، ولذلك كان لدراسة هذا النموذج دوره المهم في عرض صورة أخرى، ربما تكون أحسن تمثيلا لنظام الحكم في الإسلام، أو ربما لا تكون كذلك.. والمؤمن الصادق هو الذي لا يحكم على شيء قبل أن يطلع عليه، ومن أهله، لا من أعدائه.
رابعها: أن هذا النظام صمد فترة طويلة جدا، مع الحروب الكثيرة التي تعرض لها، بل نراه يقوى يوما بعد يوم، ويتحول من مجرد نظام لدولة من الدول إلى محور قائم بذاته تهابه إسرائيل وأمريكا وكل من يحلق في فلكهما، وذلك يستدعي البحث عن أسرار ذلك الصمود والاستقرار على الرغم من كل تلك الزلازل التي تحيط به.
خامسها: أن الكثير من الأخطاء التي يقع فيها السياسيون أو الإعلاميون أو رجال الدين في فهم المواقف الرسمية الإيرانية ناتج من عدم فهمهم للأسس الفلسفية والدينية التي يقوم عليها نظام الحكم في إيران، ولذلك كان البحث في هذا الجانب وقاية من الوقوع في تلك الأخطاء؛ فالمواقف السياسية تنبع في كل دولة تحترم نفسها من المبادئ والنظريات التي تقوم عليها.
هذه بعض الاعتبارات التي جعلتنا نخصص هذا الجزء للحديث عن النظام الإيراني، والمبادئ والقيم التي تحكمه، وقد دعتنا القراءة الموضوعية له إلى اعتماد المصادر التي ينطلق منها، وأهمها كتب قادة ثورته وخطبهم وبياناتهم، ومن أهمها كتب الخميني والخامنئي ومطهري وغيرهم، والتي يستند إليها الدستور الإيراني، وكل القوانين الإيرانية.
إيران.. نظام وقيم (10)
بالإضافة إلى المواقع الخاصة بالمؤسسات الإيرانية المختلفة، والتي نجد فيها التجليات والمظاهر التي طبقت بها تلك المبادئ النظرية.
وقد ألزمتنا القراءة الموضوعية لهذا النظام الاطلاع على ما كتبه أعداؤه من العرب وغيرهم، حتى نتبين صدق ما ذكروه أو تهافته، وحتى نعرض للقارئ الحقيقة من جوانبها المختلفة، ليبت فيها بعد ذلك بما يرشده إليه دينه والقيم الأخلاقية التي تحكمه.
وقد قسمنا الكتاب مثلما سبقه إلى سبعة فصول، تحاول أن تعرف بالأسس التي يقوم عليها هذا النظام وما ينبع منه من قيم ومؤسسات وقوانين، وهي كما يلي:
1 ـ ولاية الفقيه.. والحكومة الإلهية: وتناولنا فيه الأسس التي تقوم عليها نظرية الحكم في إيران، والتي يطلق عليها [ولاية الفقيه]، والتي تستند إلى مبدأ [الحاكمية الإلهية] الذي نص عليه قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، وقد عرضنا فيه الأدلة التي اعتمدها مؤسسو هذا النظام، وما ناقشوا به مخالفيهم.
2 ـ ولاية الفقيه.. وقيم الجمهورية: وتناولنا فيه الآليات التي وفرها النظام الإيراني حتى يعبر بها الشعب عن إرادته ومواقفه، حتى لا يصطدم النظام الشرعي بالرفض الشعبي، وحتى يتخلص من سلبيات الحكومة الدينية التي شوهتها الكنيسة وبعض أنظمة الحكم الاستبدادي في التاريخ الإسلامي.
3 ـ ولاية الفقيه.. والحرية المنضبطة: وتناولنا فيه [الحرية] باعتبارها قيمة من القيم الكبرى التي ناضل من أجلها الشعب الإيراني ليتخلص من قيود الطواغيت والمستبدين، ويسترد ممتلكاته من مغتصبيها، ويمارس حياته بعيدا عن كل الضغوط، وقد ذكرنا فيه بتفصيل مدى الحرية المتاحة للإيرانين تحت ظل ولاية الفقيه على عكس ما يشيع المغرضون، كما ذكرنا فيه أيضا القيود المفروضة على الحرية السلبية حفاظا على السلم والقيم الاجتماعية والهوية الدينية للشعب الإيراني.
إيران.. نظام وقيم (11)
4 ـ ولاية الفقيه.. والأخوة الإنسانية: وتناولنا فيه اهتمام النظام الإسلامي الإيراني بقيمة [الأخوة]، سواء الأخوة الداخية مع جميع الأعراق والأديان والمذاهب، أو الأخوة الخارجية مع جميع شعوب العالم، وخصوصا المستضعفين منهم.
5 ـ ولاية الفقيه.. والمساواة العادلة: وتناولنا في قيمة [المساواة] باعتبارها من القيم التي قام عليها النظام الإسلامي الإيراني، وهي قيمة تجعل المواطنين في درجة واحدة، ودون تفريق بينهم، لا في الحقوق، ولا في الواجبات، إلا ما اقتضته العدالة.
6 ـ ولاية الفقيه.. والقيم التربوية: وتناولنا فيه اهتمام النظام الإيراني بالقيم التربوية بجميع أصنافها، وفي جميع مجالاتها، ذلك أن هدف هذا النظام ليس توفير حاجيات الشعب الحسية فقط، وإنما يهدف فوق ذلك إلى بناء الإنسان، وتحقيق ما يطلق عليه [التقوى الاجتماعية]
7 ـ ولاية الفقيه.. والقيم الحضارية: وتناولنا فيه اهتمام النظام الإيراني بالدعوة لقيام حضارة إسلامية جديدة، تستند إلى القيم الإسلامية، والمصادر الدينية، في نفس الوقت الذي لا تغفل فيه المكتسبات المادية، والخبرات البشرية، بل تحاول أن تزاوج بينها لتحقق القفزة الحضارية، وتكون نموذجا عن الحضارة الإلهية التي تخلص البشرية من الحضارة المادية.
ونحب أن ننبه إلى أنه مع اجتهادنا في أن نكون موضوعيين قدر الإمكان، إلا أننا لم نستطع أن نخفي إعجابنا ببعض مظاهر الجمال في هذا النظام، ولا أن نخفي نقدنا لبعض سلبياته؛ فالذاتية شيء لا مفر منه، لكنا لا ندخل ذواتنا في بيان الحقائق، أو وصف الوقائع، وإنما نذكرها تعليقا على تلك الحقائق والوقائع، وقد يوافقنا القارئ على ذلك، وقد يخالفنا فيه.
ونحن ـ مع احترامنا للقراء الكرام ـ إلا أنه لا تهمنا موافقتهم ولا مخالفتهم؛ فالحق أحق أن يتبع، وقد طولبنا بالشهادة بالحق، لا بما يرغب به الذين نصبوا أنفسهم قضاة على الخلق.
ونريد بهذه المناسبة أن نطلب من الذين يذكرون منتقدين بأننا بهذا الكتاب وغيره نقوم بنوع من الإشهار لإيران أو مشروعها، لأن ينكروا أولا على ما في مكتباتنا ورسائلنا الجامعية
إيران.. نظام وقيم (12)
من الكتب التي تتحدث عن المشروع الشيوعي والاشتراكي، والكتب التي تتحدث عن الثورة الصينية والبلشفية والسوفياتية، والكتب التي تمدح الظاهرة اليابانية والماليزية والتركية، وينكروا قبل ذلك على الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والليبرالية.. والتي تتبنى مشاريع لا علاقة لها بالدين، ولا بأي قيم أخلاقية.. وبعدها يمكنهم أن ينكروا علينا هذا الطرح الموضوعي المتعلق ببلد كريم من بلاد الإسلام أجمع الجميع على تشويهه وظلمه وخذلانه واحتقاره.
وواجبنا الشرعي يحتم علينا توضيح الحقائق التي تزيل الشبهات، وترفع الأوهام؛ فنصرة المظلوم واجب الشرعي، والساكت عن الظلم شيطان أخرس، ولا ينفع الحياد عندما تحتدم المعارك، ذلك أن المحايد ليس سوى متول عن الزحف، وقد حرم علينا التولي عن الزحف، والتثاقل إلى الأرض والهوى.
إيران.. نظام وقيم (13)
ولاية الفقيه.. والحكومة الإلهية
يتربع على عرش القيم والمبادئ التي تتحكم في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية مبدأ [الحكومة الإلهية]، أو مبدأ [الحاكمية]، وهو المبدأ الذي ينص على أن الله تعالى هو الحكم بين عباده، وأن شريعته هي المرجع في كل القوانين التي تحكمهم في شؤونهم جميعا، ابتداء من حياتهم الشخصية، وانتهاء بحياتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، واعتبار الحياة بذلك كله معبدا لله، تؤدى فيه أوامره، مثلما تؤدى في الصلاة تماما، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]
وهذا، وإن كان من المتفق عليه بين المسلمين في الكثير من النواحي، لكنهم يختلفون اختلافا شديدا في تطبيقه في المجالات السياسية وما يرتبط بها، حيث نرى فريقا من المسلمين، أو أكثر فقهاء المسلمين عبر التاريخ، يرون أن ذلك يمكن أن يتحقق عن طريق الخلفاء والملوك والأمراء الذين قد يستشيرون الفقهاء، ويرجعون إليهم للتعرف على أحكام الشريعة في المسائل المختلفة، وبذلك تتحقق حاكمية الشريعة عبر تلك الاستشارات، التي يكون فيها الفقهاء وسائط للتعريف بمراد الله من عباده.
وهم يستدلون لذلك بالدول الكثيرة التي حكمت بلاد المسلمين ابتداء من الدولة الأموية، وانتهاء بالدولة العثمانية، والتي نرى نموذجا معاصرا لها في المملكة العربية السعودية، والتي شكلت هيئة كبار العلماء، واعتبرتها، واعتبرت مفتيها من المستشارين لدى الملوك والأمراء والسعوديين، وقد زكى الفقهاء ذلك، واعتبروا النظام السعودي بسببه نظاما إسلاميا.
بينما يرى فريق آخر أن تطبيق الشريعة، وتحقيق الحاكمية الإلهية، لا يكون إلا عن طريق
إيران.. نظام وقيم (14)
الفقيه العدل المجتهد الذي لا توكل إليه مهام الاستشارة فقط، بل توكل إليه قبل ذلك وبعده، جميع الصلاحيات التي يستطيع من خلالها أن يطبق الشريعة، باعتباره أكثر الناس فهما لها، وأكثرهم ودراية لكيفية تنفيذها.
وقد تبنى قادة الثورة الإسلامية الإيرانية هذا النوع من الحاكمية، وأطلقوا عليه اصطلاح [ولاية الفقيه]، وهي تعني أن الشريعة لا تُطبق كقوانين فقط، وإنما تضيف إلى ذلك وجوب إشراف الفقهاء على ذلك التطبيق وفق استراتيجية تعمل على تحكيم شرع الله في جميع مناحي الحياة.
وبما أن هذا النوع من الأنظمة لم يتحقق وقوعه على مدار التاريخ، وفي جميع الدول الإسلامية؛ فقد تعرض ـ منذ بداية الدعوة إليه ـ إلى ردود فعل كثيرة من أطراف متعددة، يمكن حصرها في أربع جهات:
الأولى: العلمانيون والليبراليون الذين تصوروا أن الشريعة لا يمكنها أن تحقق التقدم والرفاه، وأن تطبيقها سيؤخر المسلمين عن ركب الأمم، وهؤلاء من يطلقون على أنفسهم لقب [التنويريين]، وهم ـ عادة ـ ليس لديهم أي مشروع سياسي أصيل، بل هم تبع للمشاريع الغربية، ويستندون إلى التراث السياسي الغربي الذي تشكل من أدبيات الثورة الفرنسية والثورة الأميركية والانتفاضة البريطانية، أو من أدبيات الشرق الأوربي المؤسس على تراث الثورة البلشفية أو الفكر ماركسي بمدارسه المختلفة الصينية والكوبية واليوغسلافية والشيوعية الأوربية.
وقد عانت الثورة الإسلامية في إيران في بدايتها الكثير من شغبهم، حيث تحولوا إلى إرهابيين يستعملون كل الوسائل لضرب بلدهم ومؤسساته، بحجة مواجهة نظام الملالي، ولا يزال الغرب يمد هؤلاء بمدده، ويستعملهم وسائل لتشويه الجمهورية الإسلامية الإيرانية ونظامها.
إيران.. نظام وقيم (15)
بل إن انطلاقة الثورة الإسلامية كانت رد فعل على هذا التيار الذي كان يحكم إيران، واستعمل معها كل الوسائل التي استعملها أتاترك بغية تحويلها إلى دولة أوروبية علمانية لا علاقة لها بالدين، أو لا يشكل الدين فيها إلا الجانب الطقوسي.
ومن قرأ رسائل وبيانات وخطب الخميني في ذلك الحين، يجد الكثير من الطروحات التي يطرحها هذا الفريق ليرد بها على مشروع الحكومة الإلهية، ومن تلك البيانات قوله في خطاب وجهه لجمع من العلماء وطلبة العلوم الدينية والجامعيين وغيرهم بعد إطلاق سراحه من السجن، وبعد انتفاضة حصلت حينها: (لقد قالوا للعالم بأننا رجعيون، ونسبوا علماء الإسلام الى الرجعية السوداء! وتعتبرنا الصحف الصادرة في الخارج، وهي تُدار بميزانية ضخمة لضربنا، بأننا معارضون للإصلاحات، ويقولون: إن العلماء يريدون أن يتخذوا من الحمير وسيلة لرحلاتهم من ناحية إلى أخرى، ولا يريدون الكهرباء والطائرة، فهم رجعيون يبغون العودة إلى القرون الوسطى!) (1)
وهي كلمة تختصر ذلك التشويه الذي يواجه به هذا الفريق الدعوة للحكم الإسلامي، وقد رد الخميني عليهم بقوله: (إن علماء الدين يرفضون هذه الأيام الحالكة التي أصابت البلد، ويرفض العلماء الأعلام ممارسات الضرب والقتل والعجرفة والاستبداد، فهل هذه رجعية؟! وقد وقف علماء الإسلام في بداية مرحلة الحركة الدستورية بوجه الاستبداد الأسود وحققوا الحرية للشعب بدمائهم، وسنّوا بأنواع العذاب والمصائب التي رأوها وتحملوها قوانين لمصلحة الشعب واستقلال البلد والإسلام، واليوم انتفض الشعب أيضاً تبعاً للعلماء، وما يطلبه العلماء هو العمل بقوانين الإسلام، فهل هذه رجعية؟! وهل كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم رجعياً؟! وهل الدعوة إلى القوانين السماوية رجعية؟! وهل كان- تبارك وتعالى- رجعياً؟! وهل جبريل الأمين واسطة الوحي الإلهي رجعي؟! وهل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم رجعي؟! وهل أئمة الهدى
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 1، ص: 275.
إيران.. نظام وقيم (16)
رجعيون؟!) (1)
ثم بين أن أحكام الشريعة لا تنطوي إلا على العدالة والرحمة والتحضر الحقيقي، ولذلك لا معنى لردها باعتبارها رجعية، بل الرجعية في الاستبداد والظلم ومصادرة الحريات، والذي مارسه الذين يدعون التنوير، ومثلوه أحسن تمثيل، يقول معبرا عن ذلك: (إن علماء الإسلام منذ صدر الإسلام إلى اليوم لم يطرحوا ولا يطرحون من أنفسهم شيئاً، بل يبلغون قوانين الإسلام والوحي إلى الناس، فهل تبليغ القوانين الإلهية رجعية؟! وإذا كنتم تعتقدون بأحكام الإسلام، فإن الإسلام يحترم حرية الإنسان وسيطرته على ماله وحياته وعرضه، وقال بأن كل إنسان حر في كل ما لا يخالف القوانين الإلهية، وإذا هاجم أحد دار أحد فإن الإسلام يجيز لمن عُرِّض للهجوم أن يقتُل ذلك المهاجم، إلى هذا الحد يؤيد الإسلام الحريات! إن علماء الإسلام لا يأتون بشي ء من أنفسهم، فكل ما نقوله هو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل ما يقول الرسول أيضاً هو قول الله، فلو كنا رجعيين فإن ذلك يعني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجعي، إذن أنتم تعتبرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجعياً! تباً لهذا التجدد! فإذا كنتم تقبلون القوانين، وتقبلون الإسلام الذي نحن أتباعه فإن الإسلام هو مصدر جميع الحريات والتحرر والسيادة والاستقلال) (2)
ويقول: (إننا لسنا رجعيين، ولا نرفض آثار الحضارة، والإسلام لا يرفض آثار الحضارة، بل يتوق الى أن تتحكموا في جميع مقدرات العالم، والإسلام هو ذلك الذي أخضع هذه البلدان التي أصبحتم أسرى لها! وليست هذه الأفكار النيرة التي يحملها الرجال العظماء وعلماء الإسلام ومراجعنا العظام إلا من نور الإسلام. وأما الرجعية، فهي الأفكار المتهرئة والبالية التي يحملها السادة والتبعية العشواء للجميع وتقديم ثروات بلد للآخرين. وليسود
__________
(1) المرجع السابق، ج 1، ص: 275.
(2) المرجع السابق، ج 1، ص: 276.
إيران.. نظام وقيم (17)
وجه هذه الرجعية!) (1)
هذه نماذج عن خطابات الخميني التي وجهها لهذا الفريق من الناس، والذي ظل يحارب الجمهورية الإسلامية إلى اليوم، وللأسف وجد من المسلمين والعرب خصوصا من يقف في صفه، ويمد يده إليه، مع أنه لم يكن سوى خادم ذليل لأمريكا وإسرائيل، وجميع المحور الإمبريالي.
وقد اعتبره الخميني عميلا للاستعمار؛ فهو يفعل نفس ما يفعله المستعمر، يقول في الخطاب السابق: (إن جميع صحفنا ومجلاتنا بيد الاستعمار، وهو الذي يجعل الصحف بهذا الشكل من الابتذال لكي يسمم أفكار شبابنا. والاستعمار هو الذي ينظم برامجنا الثقافية بنحو لا يكون به شباب أقوياء في هذا البلد يضحون في سبيل إنقاذ الشعب. والاستعمار هو الذي ينظم برامج الراديو والتلفزيون تنظيماً يرهق أعصاب الناس ويجعلهم يفقدون معه القوة والطاقة، ونحن نعارض هذه المظاهر الاستعمارية، فهل نحن رجعيون، وأنتم تقدميون؟ ليس في كلامنا خصام وجدال وسباب، فتعالوا لنرى أية حضارة نعارضها؟ نحن نعارض الفساد، وإسرائيل هي التي تنظم مشاريعكم الإصلاحية وأنتم تجلبون الخبراء العسكريين من إسرائيل، وتبعثون الطلاب من هنا إلى إسرائيل، ونحن نعارض هذه الأعمال، نحن نقول: إن جميع البلاد الإسلامية وقفت صفاً واحداً مقابل الكفر وإسرائيل، فيما تقفون أنتم وتركيا مع إسرائيل في الطرف المقابل. ونقول: ليس هذا عملًا جيداً، فلا تتجاهلوا عواطف الشعب إلى هذه الدرجة، فيقف المسلمون في طرف، وإيران في طرف! فوالله إن هذا مضر، وعندئذ يظن الإخوة من أهل السنة أن الشيعة هم عبدة اليهود!) (2)
الثانية: الإسلاميون من أبناء الحركات الإسلامية، وخاصة من ذوي التوجهات
__________
(1) المرجع السابق، ج 1، ص: 278.
(2) المرجع السابق، ج 1، ص: 280.
إيران.. نظام وقيم (18)
التقدمية، والذين راحوا ينتقدون تولي الفقهاء لشؤون السلطة، ورأوا أن ذلك ليس شأنهم، بل تصوروه نوعا من الاستبداد، وراحوا يصفونه بما يصفون به الدولة الدينية التي مثلتها الكنيسة، وأساءت تمثيلها.
وقد كان هؤلاء في بدايتهم يمثلون نفس الخط الذي كان يسير عليه قادة الثورة الإسلامية الإيرانية، بل كان التواصل بينهم كبيرا إلى درجة أن بعضهم اعتبر الخميني مجدد هذا العصر، بل اعتبره الخليفة الشرعي الذي يجب على المسلمين جميعا اتباعه.
وقد ورد في كتاب [الإخوان المسلمون وإيران: الخميني – خامنئي]، أنه بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، بادرت الجماعة وعدة جماعات إسلامية سنية أخرى إلى تهنئة الخميني، ومد يد التعاون للعمل المشترك وفق مرجعية الثورة الإسلامية.
وذكر أن وفدا من الإخوان زار طهران، وعارضوا استضافة الشاه في مصر، وناصروا إيران في حربها ضد العراق، خاصة في بداية المواجهات، وبعد وفاة الخميني، سنة 1989، نعته الجماعة واحتسبته (فقيد الإسلام الذي فجر الثورة ضد الطغاة)
لكنهم ـ وبعد الحملة الشديدة التي قادتها السعودية ومصر ودول الخليج ضد إيران ـ تحولوا تحولا جذريا، وصاروا ينتقدون هذا النظام، مع كونه يعبر عن طموحاتهم وأهدافهم.
ولم يكن ذلك الانتقاد وليد بحث علمي، ولا تحقيق موضوعي، بل كان مجرد ردة فعل لا مسوغ لها، ذلك أنهم كانوا يريدون من الخميني أن يتخلى عن تشيعه ومذهبه الذي ربي عليه، ويصبح مالكيا أو شافعيا حتى يتحقق رضاهم عنه.
وقد عبر عن ذلك سعيد حوى ـ زعيم الإخوان المسلمين في سورية حينها ـ حين قال: (عندما أنتصر الخميني ظن المخلصون في هذه الأمة أن الخمينية إرجاع للأمر إلى نصابه في حب آل بيت رسول الله وتحرير التشيع من العقائد الزائفة والمواقف الخائنة، خاصة وأن الخميني أعلن في الايام الأولى من انتصاره أن ثورته إسلامية وليست مذهبية، وأن ثورته لصالح
إيران.. نظام وقيم (19)
المستضعفين ولصالح تحرير شعوب الأمة الإسلامية عامة ولصالح تحرير فلسطين خاصة، ثم بدأت الأمور تتكشف للمخلصين، فإذا بالخميني هذا يتبنى كل العقائد الشاذة للتشيع عبر التاريخ، وإذا بالمواقف الخائنة للشذوذ الشيعي تظهر بالخميني والخمينية، فكانت نكسة كبيرة وخيبة أمل خطيرة) (1)
مع أن المواقف التي ذكرها الخميني بعد الثورة هي نفسها التي ذكرها بعد الثورة، ولم يكن فيها أي غلو ولا شطط، وقد تطرقنا إلى ذلك بتفصيل في الجزء السابق من هذه السلسلة.
وهكذا كان الحال في الجزائر، حيث تأثر الحركيون الجزائريون بدعوة الخميني ومنهجه وانتصاراته، لكنهم ـ للأسف ـ وبتأثير من السعودية والخليج انقلبوا على ذلك.
ومن باب الشهادة لله، نذكر أن بعضهم، بل من كبارهم من بقي على نظرته للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولنظامها، ولم يتأثر بذلك الضخ الإعلامي الكبير، ويتربع على رأسهم شيخ الحركة الإسلامية في الجزائر الشيخ أحمد سحنون، الذي قال: (إنّ الإمام الخميني عاش في المجد والفخار، وكان صادق العزم وصانع الصحوة الإسلامية) (2)
بل رثاه بقصيدة قال فيها:
غاب الخميني تباًّ لدنيا... تصاب بالموت والدَّمار
لكن مجد الإمام يبقى... بلا زوال ولا اندثار
ما مات من كان كالخميني... قد عاش للمجد والفخار
يا قاهر الشاه يا مجيدا... طرد العدوّ من الديار
يا صادق العزم يا محيلا... ضعف الشعوب إلى انتصار
يا صانعاً صحوة أحالت... عزّ الطغاة إلى اندحار!
عش في قلوب الشعوب حياًّ... يبقى مدى الليل والنهار!
ودُمْ مناراً إلى المعالي... أعظم بذكراك من منار!
طهران بعدك سوف تمضي... تقفو خطاك بلا عثار
يا رب لا تحرم الخميني... من خير دار وخير جار
ولا تعذّبه يا إلهي... بزمهرير ولا بنار
فإنّه عاش في جهاد... بلا هدوء ولا قرار
أما موقف قادة الثورة الإسلامية الإيرانية من هذا الاتجاه خصوصا؛ فقد كان موقفا طيبا، لاشتراكهم معهم في الدعوة لحاكمية الشريعة، ولهذا نرى اهتماما كبيرا بكتب سيد قطب، وترجمتها للفارسية، بل تولى الترجمة القائد الحالي للجمهورية الإسلامية، السيد علي الخامنئي.
ومن تلك الكتب التي ترجمها الخامنئي كتاب [المستقبل لهذا الدين]، وجعل عنوانه: [بيان ضد الحضارة الغربية]، وقد أثنى في مقدمته كثيرا على سيد قطب ووصفه بـ[المفكر المجاهد]، وذكر أن كتبه تشكل خطوة على طريق توضيح معالم الرسالة الإسلامية.
ونحب أن نرد هنا على من يصورون الخميني أو قادة الثورة الإسلامية بمثابة التلاميذ والأتباع للفكر الإخواني، وأنهم تأثروا في قولهم بالحاكمية بسيد قطب أو أبي الأعلى المودودي، أو جماعات الإسلام السياسي، بأن ذلك غير صحيح.
فكتابات الخميني وبياناته وفتاواه في هذا المجال سبقت سيد قطب وأبي الأعلى المودودي بكثر، ومن الأمثلة على ذلك تلك الرسالة التي كتبها الخميني سنة 1944 م، وفسر فيها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ: 46]؛ فقال: (لقد بين الله تعالى في هذا الكلام الشريف مسير البشرية، منذ المنزل الأول المظلم للطبيعة وحتى نهاية هذا المسير. وهو أفضل موعظة اختارها إله العالم من بين جميع المواعظ، واقترح على البشر هذه الكلمة الواحدة التي ينحصر فيها طريق إصلاح الدارين وهي: القيام لله الذي بلغ بإبراهيم
__________
(1) الخميني: شذوذ في العقائد شذوذ في المواقف، سعيد حوى، ص 3.
(2) موقع رابطة الحوار الديني للوحدة.
إيران.. نظام وقيم (20)
خليل الرحمن منزل الخلّة، وأطلقه من المظاهر المختلفة لعالم الطبيعة. لقد خاض إبراهيم في علم اليقين حتى قال لا أحب الآفلين.. والقيام لله هو الذي سلّط موسى الكليم بعصاه على آل فرعون، ودمّر عروشهم وتيجانهم، وأوصله إلى لقاء المحبوب ومقام الصحو.. والقيام لله هو الذي جعل خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم يتغلب ـ لوحده ـ على جميع العادات والعقائد الجاهلية، وأزال الأصنام من بيت الله، ووضع مكانها التوحيد والتقوى، وأوصل ذاته المقدسة إلى قاب قوسين أو أدنى.. وحب الذات وترك القيام لله أوصلانا إلى هذه الأيام السود، وسلطا أهل العالم ـ جميعاً ـ علينا، وجعلا البلاد الإسلامية تحت نفوذ الآخرين.. فالقيام للمصالح الشخصية هو الذي خنق روح الوحدة والأخوّة بين الشعب المسلم، والقيام للنفس هو الذي فرق أكثر من عشرة ملايين شيعي وفصلهم عن بعضهم، فأصبحوا لقمة (في أفواه) حفنة من عباد الشهوة الجالسين وراء الموائد) (1)
ثم راح يخاطب الأمة بأن تنهض لتعيد الحاكمية لله، فقال: (فيا أيها العلماء المسلمون الربانيون، أيها العلماء المتدينون، أيها المتحدثون الذين تحبون الشريعة، أيها المتدينون المحبون لله، أيها المحبون لله الطالبون للحق، أيها الطالبون للحق الشرفاء، أيها الشرفاء الوطنيون، أيها الوطنيون أصحاب الكرامة، اقرأوا موعظة إله العالم، واسلكوا طريق الإصلاح الوحيد الذي اقترحه، واتركوا المصالح الشخصية كي تنالوا سعادة الدارين جميعها، وتتمتعوا بالحياة الشريفة فيهما.. اليوم يوم هب فيه النسيم الروحي الإلهي، وهو أفضل يوم للقيام الإصلاحي؛ فإذا فقدتم الفرصة، ولم تقوموا لله، ولم تعيدوا المراسم الدينية، فسلّط عليكم غداً حفنة من التائهين الراكضين وراء شهواتهم، ويجعلون شريعتكم وشرفكم عرضة لأغراضهم الباطلة، وما هو عذركم اليوم أمام إله العالم؟!.. إنكم إذا لم تقوموا من أجل حقكم المشروع، نهض الحمقى الفاقدون للدين، وبدأوا في كل ناحية يضربون على وتر عدم التدين، ولسوف يتسلطون عليكم
__________
(1) صحيفة الإمام: ج 1، ص 46.
إيران.. نظام وقيم (21)
ـ أيها المتفرقون ـ قريباً تسلطاً يجعل أيامكم أصعب من زمان رضا خان) (1)
الثالثة: الإسلاميون من ذوي التوجهات السلفية، والذين وقفوا منه موقفا سلبيا منذ البداية، مع كونهم لم يعارضوا الشاه، ولا إيران في فترة علمانيتها، ولعل من أسباب ذلك تلك المواقف الشديدة من قادة الثورة الإسلامية من النظام الملكي، واعتباره بدعة لا علاقة لها بالإسلام، على عكس ما يذهب إليه فقهاؤهم الذين تحالفوا مع كل الأنظمة الملكية.
ومن أمثلة ذلك قول الخميني في أوائل كتبه السياسية: (إنّ الله تعالى يشير في هذه الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] إلى تشكيل الحكومة الإسلامية حتى يوم القيامة. وواضح جداً أنه لم يوجب حاكمية أحد غير هؤلاء الثلاثة، ولأنه أوجب على جميع أفراد الأمة طاعة أولي الأمر فإنه يجب البحث حول من هم أولو الأمر.. إن بعضهم يقول: إنهم الملكوك والأمراء! وإن الله أوجب على الناس طاع سلاطينهم وملوكهم! وها نحن نحتكم إلى العقل الذي وهبه الله لنا.. إن إله العالم أرسل نبي الإسلام بآلاف الأحكام السماوية، ووضع أسس حكومته على مبدئي التوحيد والعدل. هذا الإله نفسه الذي قوى أساس العدل في العالم بتضحيات المسلمين، ومنع المظالم وانتهاك العفة؛ فهل يأمر الناس بأن يطيعوا أتاتورك الذي يعرف جميع الناس ماذا فعل بأصحاب الدين وكيف ظلم الناس؟! أو يأمر بطاعة بهلوي الذي رأيتم جميعاً ماذا صنع؟! والذي لو أراد أحد أن يعد مخالفاته الصريحة لله والقرآن فإنه قد يحتاج إلى كتاب.. إن هذا الإله الذي وضع أسس الدين والعدل ويأمر بنفسه بهدم هذا البناء، لن يقبله العلماء إلهاً عادلاً وقاسطاً، وإن مقام الألوهية منزه عن هذه الأعمال التافهة) (2)
ونحب أن نذكر هنا أن هذا الكتاب [كشف الأسرار]، وربما بسبب مواقفه الشديدة من
__________
(1) المرجع السابق، ج 1، ص 47.
(2) كشف الأسرار، ص 138..
إيران.. نظام وقيم (22)
هذا النوع من الأنظمة ترجم ترجمات مشوهة من طرف الاتجاه السلفي، وصارت تلك الترجمة هي المصدر الذي يعتمدون عليه في تشويه إيران ونظامها (1).
وهكذا أعلن في كتابه [الحكومة الإسلامية] عن موقفه من هذا النوع من الأنظمة بقوله: (فالملكية والحكم الوراثي هي مما أبطله الإسلام وألغاه في صدر الإسلام في ايران وبلاد الروم الشرقية ومصر واليمن. ولقد دعا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في رسائله المباركة امبراطورية الروم الشرقيين (هراكليوس) وملك ايران إلى التخلي عن نمط الحكومة الملكية والامبراطورية، وعن إلزام عباد الله بالطاعة والعبودية المطلقة لهم، وليتركوهم ليعبدوا الله الواحد الذي لا شريك له، الذي هو السلطان الحقيقي.. الملكية والحكم الوراثي هي ذلك الطراز من الحكم المشؤوم والباطل الذي ثار سيد الشهداء صلى الله عليه وآله وسلم واستشهد من أجل المنع من إقامته، فلقد ثار ودعا جميع المسلمين للثورة لكي لا يخضع لولاية عهد يزيد، ولكي لا يعترف رسمياً بسلطنته، فهذه الأمور ليست من الإسلام، الإسلام ليس فيه ملكية وحكم وراثي) (2)
الرابعة: بعض مدارس الشيعة ومراجعهم، والذين تصوروا أن بناء دولة يحكمها الفقيه الشيعي، يتنافى مع مبدأ انتظار الإمام المهدي، بل تصوروا أن ذلك سيلغي دوره، ويرفع الحاجة لظهوره.
وقد رد عليهم قادة الثورة الإسلامية ردودا كثيرة، منها قول الخميني مخاطبا لهم: (من
__________
(1) أثبت زيف تلك الترجمة بالأدلة الكثيرة د. إبراهيم الدسوقي شتا رئيس قسم اللغات الشرقية وآدابها في كلية الآداب بجامعة القاهرة في كتيب بعنوان (كشف الأسرار بين أصله الفارسي والترجمة الأردنية)، نشر كمقال في (مجلة الراصد - تموز 1991 م) ونشر في الترجمة الجديدة للكتاب من ص 13 - 29، وقد كشف المقال عن تحريف خطير ومغرض في الترجمة (الأردنية) بغية تشويه صورة الخميني، وتشويه صورة الشيعة والطعن فيهم، وقد تم ترجمة كتاب [كشف الأسرار] ترجمة صحيحة معرّبة.
وقد اشترك في الترجمة الأردنية المحرّفة بشار عواد معروف، ومعه أستاذ الشريعة محمد أحمد الخطيب، ومعهم سليم الهلالي، ومعهم الشخصية الوهمية محمد البنداري التي اخترعوها ليكون في واجهة الغلاف بأنه المترجم للكتاب، وقد تم هذا بمباركة الألباني الذي ألحق فتواه في آخر الطبعة المذكورة بكفر الخميني.
(2) الحكومة الإسلامية، ص 11.
إيران.. نظام وقيم (23)
البديهي أن ضرورة تنفيذ الأحكام التي استلزمت تشكيل حكومة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليست منحصرة ومحدودة بزمانه صلى الله عليه وآله وسلم، فهي مستمرة أيضاً بعد رحلته صلى الله عليه وآله وسلم. وفقاً للآيات القرآنية الكريمة، فإن أحكام الإسلام ليست محدودة بزمان ومكان خاصين، بل هي باقية وواجبة التنفيذ إلى الأبد؛ فلم تأت لأجل زمان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لتترك بعده ولا تنفّذ أحكام القصاص، أي القانون الجزائي للإسلام. أو لا تؤخذ الضرائب المقررة، أو يتعطل الدفاع عن الأراضي والأمة الإسلاميتين، والقول بأن قوانين الإسلام قابلة للتعطيل، أو أنها منحصرة بزمان أو مكان محددين خلاف الضروريات العقائدية في الإسلام، وعليه فبما أن تنفيذ الأحكام ضرورة بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الأبد، فإن تشكيل الحكومة وإقامة السلطة التنفيذية الإدارية يصبح ضرورياً، فبدون تشكيل الحكومة، وبدون السلطة التنفيذية والادارية ـ والذي يجعل جميع تصرفات وأنشطة أفراد المجتمع خاضعاً لنظام عادل، وذلك عن طريق تنفيذ الأحكام ـ بدون ذلك تلزم الفوضى، ويتفشى الفساد الاجتماعي والعقائدي والأخلاقي، إذن لا مفر من تشكيل الحكومة، وتنظيم جميع الأمور التي تحصل في البلاد منعاً للفوضى والتفسخ. وعليه فما كان ضرورياً في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين بحكم العقل والشرع، من إقامة الحكومة والسلطة التنفيذية والادارية، فهو ضروري بعدهم، وفي زماننا أيضاً) (1)
ثم راح يسألهم قائلا: (هل يجب أن تبقى الأحكام الإسلامية طيلة فترة ما بعد الغيبة الصغرى إلى اليوم حيث مضى أكثر من ألف عام، ومن الممكن أن تمر مائة ألف عام أخرى دون أن تقتضي المصلحة ظهور صاحب الأمر ـ فهل يجب أن تبقى مطروحة وبلا تطبيق، وليعمل كل امرئ ما يشاء؟ ولتعم الفوضى؟ فهل كانت القوانين التي جهد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل بيانها وإبلاغها ونشرها وتطبيقها مدة ثلاث وعشرين سنة، هل كانت لمدة محدودة فقط؟ وهل حدَّد الله تعالى تنفيذ أحكامه بمدة مئتي سنة فقط؟ وهل ترك الإسلام كل ما فيه بعد الغيبة
__________
(1) الحكومة الإسلامية، ص.
إيران.. نظام وقيم (24)
الصغرى؟)
ثم أجاب على ذلك بقوله: (الاعتقاد بأمور كهذه أو إظهارها أسوأ من الاعتقاد أو الإظهار للقول بنسخ الإسلام... لا أحد يستطيع القول أنه لم يعد من الواجب الدفاع عن حدود وثغور جميع أراضي الوطن الإسلامي.. أو أنه يجب تعطيل قانون الإسلامي العقوبات والديات والقصاص. فكل من يقول أنه لا ضرورة لتشكيل الحكومة الإسلامية، فهو منكر لضرورة تطبيق الأحكام الإسلامية، ولجامعيتها، ولخلود دين الإسلام المبين)
ونحب أن نذكر هنا أن ما قرره الخميني في هذا المجال لا يعني ثورة على التشيع، أو تصحيحا له، كما ذهب بعض الباحثين، وإنما هو فرع أصيل في التشيع، لم تتح له الظروف التي تبرزه للواجهة ليؤدي دوره في التغيير السياسي؛ فقد كانت الحكومات المستبدة تمنع الشيعة من الحديث في السياسة، وهذا ما جعلهم يمارسون التقية حرصا على بقاء مذهبهم.
ومثل ذلك حصل في المدرسة السنية، والتي اتفق فقهها السياسي القديم على عرض الفقه السياسي، أو السياسة الشرعية انطلاقا من الواقع السياسي، لا من حقيقة الإسلام ذاته.
بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل التعرف على الأدلة التي اعتمدها الخميني وقادة الثورة الإسلامية في هذه النظرية السياسية، وكيف ردوا على مخالفيهم، أما الآليات التي نفذت بها هذه النظرية، والضوابط التي تحكمها، فسنتعرض لها في الفصل الثاني.
وبما أ هناك اتفاقا بين قادة الثورة الإسلامية في إيران مع الحركات الإسلامية ذات التوجه السياسي على مواجهة العلمانية والدعوة لتحكيم الشريعة الإسلامية؛ فقد ظهرت الكتابات الكثيرة التي تخدم الشق الأول من حاكمية الشريعة، وهو حاكمية الفقه الإسلامية، وكونه الإطار المرجعي الذي يُعتمد عليه في جميع القوانين التي تسنها الدولة.
أما الشق الثاني، وهو المرتبط بحاكمية الفقيه، ولزوم كونه المشرف على تطبيق الشريعة، بل المنفذ لذلك؛ فإن الكتابة فيه ـ حسبما أعلم ـ بقيت محصورة في قادة الثورة الإسلامية في إيران،
إيران.. نظام وقيم (25)
الذين ألفوا المؤلفات الكثيرة التي تؤصل لهذا الجانب، بل تجعل من حاكمية الشريعة دليلا على حاكمية الفقيه، ذلك أنه لا يمكن عزل الفقيه، أو التهوين من شأنه في الوقت الذي يراد فيه تطبيق الشريعة، مثلما لا يعزل الطبيب أو المهندس عن مجالهما.
ومن المؤلفات التي ألفت في ذلك، وكانت مصدرا من مصادر التأصيلات والتنظيرات المرتبطة بولاية الفقيه، وما يصحبها من حاكمية الشريعة كتاب [الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه] للإمام الخميني، والذي كان عبارة عن دروس فقهية ألقاها على طلاب العلوم الدينية في النجف، وتحدث فيه بتفصيل عن الأدلة الكثيرة على ولاية الفقيه، وعلى التحريقات التي حاولت أن تزيل الجانب السياسي من الدين، وذكر فيه الأدلة العقلية والشرعية الموجبة لتشكيل الحكومة، كما تحدث فيه عن نظام الحكم الإسلامي، وشروط الحاكم المسلم، والدور الذي يجب على العلماء القيام به لتحقيق ذلك في الواقع.
وقد لاقى الكتاب ـ منذ صدوره ـ ردود فعل مختلفة من الإيرانيين وغيرهم، حيث أنه في الوقت الذي استقبل فيه استقبالا طيبا من العلماء وطلبة العلم الذين شكلوا فيما بعد الأساس الذي قامت عليه الثورة الإسلامية الإيرانية، استقبل استقبالا قاسيا من المعارضين سواء كانوا من السياسيين أو رجال الدين التقليديين الذين يرون أنه ليس على الفقيه أن يتحدث في السياسة، ولا أن يمارسها.
وقد ذكر نجل الخميني السيد أحمد بعض تلك المواقف، فقال: (أما [الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه] فهو مجموعة تضم (16) درساً من دروس الإمام التي ألقاها في الحوزة العلمية في النجف، وعندما شرع الإمام في بحث ولاية الفقيه بدأ اعتراض الرجعيين في تلك الحوزة، فحركوا بعض الأشخاص لكي يترك الدرس عدد من الذين يحضرون هذه الدروس، وقد نجحوا في ذلك مع الأسف، إذ قال الإمام: إن بعضهم لم يحضر منذ بداية هذا الدرس وحتى نهايته لأنهم كانوا يعتقدون ـ حتماً ـ بأنه يجب أن يحكم الشاه وصدام، وليس الإمام والمجتهد
إيران.. نظام وقيم (26)
الجامع للشرائط، فكانوا يقولون: إن الحكومة ليست من شأن الفقيه! وكم لاقى منهم أصحاب الإمام الخلَّص من عذاب ومتاعب، وبدأت النزاعات فضايقوا الإمام وآذوه، ولكنه لو كان يمكن للإمام أن يعطل أعماله بسبب هذه الأمور لما انتهى به الأمر إلى النجف، ولترك الجهاد ضد الشاه ونظامه وهو في قم) (1)
وقد ذكر موقف الخميني من تلك التشنجات التي أبداها المخالفون له؛ فقال: (لقد سمع الإمام مثل هذا الكلام كثيراً، ولذلك فعندما كان أصحابه القليلون الصابرون والصامدون المخلصون ينفد صبرهم وتتعبهم الشتائم، كانوا يأتون الإمام ليستلهموا منه روحاً جديدة، فيقول لهم: عليكم بالاستمرار في عملكم ولا تنصتوا لهذه الأقوال. إنكم مسؤولون، وواجبكم العمل وفقاً لمسؤوليتكم وتحمل الصعاب والشتائم بصدر رحب، من أجل خلاص المسلمين، وعليكم أن لا تتركوا عملكم الصالح مهما قالوا لكم ومهما ضايقوكم؛ فلن يكون ذلك بمقدار يوم واحد من الصعاب التي تحملها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أصحابنا القليلون يعالجون قلة عددهم برفع عزائمهم، ويغادرون الإمام بإرادة من حديد) (2)
وذكر السيد أحمد كيف استقبل الكتاب في إيران، وموقف السلطات الحاكمة منه؛ فقال: (وفي الوقت نفسه قام أصحاب الإمام الموجودون بالآلاف في حوزة قم العلمية بطبع هذه الكتب وتوزيعها بكل قدرتهم، وحتى إن السيد لاجوردي مدعي عام طهران (سابقاً) باع الكراسات التي تحتوي على هذه الدروس (دروس الإمام في الحكومة الإسلامية) في محلّه علناً، واعتُقل بعد ذلك.. لقد انتشرت هذه الكتب بسرعة البرق في جميع الحوزات العلمية والمحافل الدينية، وبذل المرحوم آية الله الرباني الشيرازي جهداً كبيراً في نشر هذا الكتاب، وما أحسن ما
__________
(1) لمحة عن عبادة الإمام ومؤلفاته، السيد أحمد الخميني، مقال من كتاب: الإمام الخميني قدوة، ص 6.
(2) المرجع السابق، ص 7.
إيران.. نظام وقيم (27)
أدى أنصار الإمام في إيران رسالتهم مع وجود التعذيب والسجن والنفي) (1)
ويمكننا اعتبار هذا الكتاب هو المصدر الأكبر الذي ضم أكثر الأدلة وأقواها على مشروعية ولاية الفقيه، ولذلك كان له تأثيره كبيرا في الأوساط الإيرانية خصوصا، بل كان السبب الأكبر في جعلها مستعدة لتقبل هذا النظام الجديد، وهو ما يرد بقوة على تلك الأطروحات التي تصور قادة الثورة الإسلامية في إيران منقلبين على الشعب الذي وقف معهم، ذلك أن أطروحاتهم واضحة من خلال هذا الكتاب وغيره من الكتب والبيانات التي كانت تصدر على كل حين، وسنرى تفاصيل ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب.
ومن الكتب التي أصلت لهذا النظام كتاب [الإمامة والولاية: قيادة المجتمع الإسلامي ومسؤولية المسلم] للقائد الحالي للثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي، وقد ذكر فيه الكثير من المسائل المؤصلة لهذا النظام انطلاقا من القرآن الكريم، بالإضافة إلى ذكره لشروط الولي الفقيه وصفاته وغير ذلك.
ومنها كتاب [أساس الحكومة الإسلامية] للسيد كاظم الحائري، وهو عبارة عن دراسة استدلالية مقارنة بين الديمقراطية والشورى وولاية الفقيه، وقد ذكر فيه ولاية الفقيه، وأثبتها من خلال ذكر شروط الولاية، ثم إجراء مقارنة بين الشورى وولاية الفقيه.
ومنها كتاب [الأسس المهمة في النظام الإسلامي] للشيخ محمد علي التسخيري، وقد تطرق فيه إلى الكثير من التأصيلات لهذا النظام ابتداء من الرؤية الكونية، وانتهاء بتطبيقاته العملية.
ومنها كتاب [الإرشاد إلى ولاية الفقيه] للسيد يوسف المدني التبريزي، وهو بحث استدلالي حول ولاية الفقيه، تحدث فيه عن أهمية الفقيه في الروايات، ثم عن ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت؛ ثم تحدث عن ولاية الفقيه، والاستدلال عليها من الروايات، وفي الكتاب
__________
(1) المرجع السابق، ص 7.
إيران.. نظام وقيم (28)
مباحث تفصيلية مهمة كمسألة القضاء، والفرق بين الحكم والفتوى، والتصرف بأموال الخمس، ومسألة الحدود والتعزيرات، إلى غير ذلك من المباحث المهمة.
ومنها كتاب [الدولة الإسلامية] للشيخ عبد المنعم مهنا، وهو بحث في ولاية الفقيه، تحدث فيه عن ولاية الفقيه في تاريخ الفقه الشيعي وتطوره، وفي كتب أهل السنة، ثم تحدث عن أدلة ولاية الفقيه في الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ثم عن شروط الولي، مع مسائل أخرى مهمة مثل الفرق بين الحكم والفتوى، وحالة تساوي الفقهاء هل تنتج الشورى، ورأي الأكثرية، هل يلزم مشاورة الفقيه للعلماء؟ وغيرها من المسائل.
ومنها كتاب [ولاية الفقيه والنظام الدستوري الإسلامي] للشيخ جعفر حسن عتريسي، وبحث فيه عن صفات الولي، وكون الإسلام مشروع حكم في ظل ولاية الفقيه، وعن صلاحيات الولي، وضرورة الدستور، وخصائص الدولة المعاصرة عبر أوجهها المختلفة، كالنظام البرلماني والرئاسي والماركسي والديمقراطي، وتحدث عن مبدأ الفصل بين السلطات، مشيراً إلى السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية في النظام الإسلامي، ومبدأ فصل السلطات من وجهة النظر الإسلامية، ومتحدثاً عن الديمقراطية والشريعة الإسلامية.
وغيرها من الكتب الكثيرة (1)، والتي حاولنا الاستفادة منها جميعا في التعرف على حقيقة ولاية الفقيه، والأدلة الشرعية عليها، وإن كان تركيزنا خصوصا على كتاب [الحكومة الإسلامية] للخميني باعتباره المصدر الذي رجع إليه كل من تحدث عن ولاية الفقيه.
بناء على هذا سنلخص هنا مجمل الأدلة على كلا الفرعين في حاكمية الشريعة الإسلامية: حاكمية قوانين الشريعة، وحاكمية الفقيه من خلال طروحات قادة الثورة الإسلامية الإيرانية، وخصوصا الإمام الخميني.
أولا ـ التأصيل الشرعي للحكومة الإلهية
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: كتب في ولاية الفقيه، عباس رشيد، مجلة بقية الله، السنة الثالثة عشر، العدد 145.
إيران.. نظام وقيم (29)
عند استقراء ما كتب حول البراهين الدالة على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال السياسي، وما يرتبط به من مجالات، نجد صنفين من الأدلة:
أولها ـ أدلة عقلية وواقعية تحاول أن تخاطب جماهير الناس بمختلف مشاربهم حتى العلمانيين منهم، لتثبت لهم أن الشريعة ـ في حال تطبيقها الصحيح ـ لا تتعارض مع أي مصلحة، ولا تتسبب في أي مفسدة، بل هي تضمن تحقيق جميع المصالح، وبأقل التكاليف، وبأجمل الصور.
ثانيها ـ الأدلة النصية، وهي الأدلة الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة وما يفسرها من الروايات والشروح وأقوال الفقهاء، وهي تتوجه للمسلمين الملتزمين خصوصا، لتبين لهم أن الشريعة التي آمنوا بها شريعة شاملة لجميع مناحي الحياة، ولذلك لا يصح أن يتوجه المؤمنون لله بالعبادة في صلاتهم وصومهم، في نفس الوقت الذي يضيعون فيه أوامر الله المرتبطة بالثقافة والاقتصاد والسياسة وسائر شؤون الحياة.
وقد استعمل قادة الثورة الإسلامية الإيرانية كلا الأسلوبين في البرهنة على وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، واعتبار أحكامها قوانين قطعية تخضع لها كل المؤسسات، ولا خيار لها في تطبيقها، باعتبارها أوامر الله ورسوله، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]
وسنحاول هنا ـ باختصار أن نورد كلا الصنفين من الأدلة ـ من خلال المصادر التي سبق ذكرها.
1 ـ البراهين العقلية والواقعية على شرعية الحكومة الإلهية
تنطلق كل القوانين الوضعية، والفلسفات التي تقوم عليها من محاولة الوصول بالمجتمعات إلى تحقيق النظام والسعادة والرفاه، وتحاول أن تبحث عن أقرب السبل التي
إيران.. نظام وقيم (30)
يمكنها تحقيق ذلك، من غير أن تصطدم بأي عقبة، لكنها لم تفلح في تحقيق ذلك في الواقع، نتيجة تنوع البشر واختلاف مصالحهم وأذواقهم وطبائعهم وتصوراتهم للحياة، بحيث يستحيل أن يرضى الجميع بنظام واحد.
وقد نقل العلامة الكبير وحيد الدين خان في كتابه [الإسلام يتحدى] عن فلاسفة القانون الغربي الاعتراف بهذا الإشكال الكبير، وقدم لذلك بقوله: (السؤال الأساسي الذي يفرض نفسه عند البحث في المشكلات الحضارية يكون دائما عن التشريع أو الدستور، فهذه المشكلات تنشأ عن علاقة الفرد بغيره، والتشريع هو الذي يحدد هذه العلاقة على أساس من العدل والانصاف، ولكن من المذهل أن أقول: إن الانسان لم يفلح إلى الآن في الكشف عن دستور حياته! صحيح أن جميع الدول في العالم قائمة على أسس الدستور؛ ولكن هذه الدساتير مخفقة تماما في الوصول الى أهدافها، بل لايوجد هناك مايسوغ وجود هذه الدساتير سوى أنها تنفذ بالقوة والاجبار، ومن الحقائق المعروفة لرجال القانون أن جميع الدساتير الرائجة في هذا العصر تفقد أية أسس علمية أو نظرية تجيز بقاءها) (1)
وهو ينقل من المصادر الغربية اعترافها بالعجز عن الوصول إلى القانون الحقيقي المبني على أصول نظرية وفلسفية مسلّم بها، حتى أن الأستاذ (فولر) مؤلف كتاب (القانون يبحث عن نفسه)، قال: (إن القانون لم يكشف عن نفسه بعد!) (2)
ويذكر أنه (وضعت كتب لاحصر لها حول هذا الموضوع بالذات؛ وبذلت عقول جبارة من علمائنا أوقاتها في سبيل البحث عن مقومات القانون. وكما يرى محرر (موسوعة تشامبرز) (لقد أعطى القانون أهمية علم هام، حتى رفع من شأنه الى أقصى الحدود)، ولكن كل هذه الجهود لم توفق في الحصول على صورة متفق عليها من القانون، وقد تشعبت بهم السبل، حتى
__________
(1) الإسلام يتحدى، ص 156.
(2) المرجع السابق، ص 156.
إيران.. نظام وقيم (31)
قال خبير في التشريع: (لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون، فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا!!) (1)
وبناء على هذا انقسم خبراء التشريع الى مدارس فكرية كثيرة؛ والسبب في ذلك ـ كما يرى، وكما ينقل عن فلاسفة الغرب ـ هو (عدم توصلهم الى أساس صحيح يمكن إقامة صريح التشريع عليه، إنهم يجدون أن القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد. ومثل رجل القانون في محاولته هذه كمثل الرجل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخرى مماثلة؛ فكلما وضع مجموعة في كفة وجد أن ضفادع الكفة الثانية قد وثبت الى الماء مرة أخرى، ومن ثم باءت كل الجهود التي استهدفت الحصول على الدستور المثالي بالفشل الذريع) (2)
أو كما عبر عن ذلك الأستاذ (و. فريدمان) بقوله: (إنها لحقيقة: أن الحضارة الغربية لم تجد حلا لهذه المشكلة غير أن تنزلق من وقت لآخر، من نهاية الى أخرى)
وبناء على هذا ذهب الكثير من فلاسفة التشريع إلى أن القانون لا ينطلق من أسس فلسفية ولا علمية، وإنما ينطلق من السلطة والغلبة، فالمتغلب هو السيد الذي يمكنه أن يضع القوانين، ويمكنه أيضا أن يفرضها، حتى لو لم تكن متناسبة مع طبائع المجتمعات التي يفرضها عليها، وقد نقل وحيد الدين خان عن (جون آستين) قوله: (إن الدستور، أي دستور، لايصبح نافذ المفعول الا اذا كانت تسنده قوة من ورائه)، ولذلك عرف (القانون) في كتابه، الذي نشر لأول مرة عام 1861، بقوله: (القانون هو الحكم الذي أصدره رجل رفيع المنزلة سياسيا لمن هو أدنى منه في المرتبة السياسية) (3)
__________
(1) المرجع السابق، ص 156.
(2) المرجع السابق، ص 157.
(3) المرجع السابق، ص 157.
إيران.. نظام وقيم (32)
ويذكر وحيد الدين خان أن هذا النوع من القوانين عورض بموقف آخر معاكس تماما له، وهو أن الشعب هو الذي يمكنه أن يسن القوانين التي يمكنها أن تطبق عليه، لكن هذا أيضا اصطدم باختلاف أذواق الشعوب ومشاربها وتصوراتها للحياة، (وترتب على ذلك أن ضوابط كثيرة، يجمع على صحتها وإفادتها جميع أهل العلم ومعلمي الأخلاق لايمكن تنفيذها، لأن الشعب لايوافق عليها، وعلى سبيل المثال لم يتمكن الأمريكيون من إدخال مشروع قرار يحرم الخمر، لأن الشعب لم يرض عنه.. كما اضطر البريطانيون إلى إدخال تعديلات هامة في قانون عقوبة القتل، واضطروا الى إباحة أنواع محرمة من العلاقات الجنسية، على الرغم من ضجيج المثقفين، واحتجاج علماء القانون!) (1)
وهكذا نرى عجر العقل البشري عن تحديد القوانين المناسبة التي تحكمه، والتي يمكنها أن توفر له السعادة والرفاه، وفي نفس الوقت تحمي القيم الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية من أن تنهار وينهار معها الإنسان، مثلما هو حاصل في المجتمعات الغربية التي أتاحت كل أنواع الشذوذ إرضاء للأذواق التي لا يعجبها إلا الشذوذ.
وقد استعمل قادة الثورة الإسلامية هذه المعاني لإقناع الشعب الإيراني بعقلانية تحكيم الشريعة، ذلك أنها وحدها من يراعي المصالح جميعا، مصالح الدنيا والآخرة، ولا يصطدم بأي مشكلة كتلك المشكلات التي اصطدمت بها المجتمعات الغربية.
وقد ذكر الخميني أن السبب وراء الغفلة عن هذا مع كونه من البديهيات التي يذعن لها كل مسلم يعترف لله بالعبودية، اليهود والاستعمار بأشكاله المختلفة، يقول في ذلك: (لقد ابتليت النهضة الإسلامية منذ انطلاقتها باليهود، فهم الذين شرعوا أولاً بالدعاية ضد الإسلام وبالدسائس الفكرية بنحو وصل مداه إلى أيامنا هذه، ووصل الدور بعدهم إلى طوائف هم ـ بمعنى من المعاني ـ أكثر شيطنة من اليهود، وهؤلاء استطاعوا الوصول إلى البلاد الإسلامية على
__________
(1) المرجع السابق، ص 158.
إيران.. نظام وقيم (33)
شكل استعمار منذ ثلاثة قرون أو أكثر، وقد رأوا أنه من اللازم لكي يصلوا إلى مطامعهم الاستعمارية أن يهيئوا الأرضية للقضاء على الإسلام. ولم يكن هدفهم إبعاد الناس عن الإسلام لتقوية النصرانية، لأن هؤلاء لا يعتقدون بالنصرانية ولا بالإسلام، لكنهم ـ وطوال هذه المدة وأثناء الحروب الصليبية ـ شعروا أن الذي يقف سداً أمام مصالحهم المادية، ويعرّض مصالحهم المادية وقواهم السياسية للخطر هو الإسلام وأحكامه وإيمان الناس به، فقاموا بالدعاية والدس ضد الإسلام بمختلف الوسائل، وقد تعاضد في العمل على تحريف حقائق الإسلام رجال الدين الذين أوجدوهم في الحوزات العلمية، والعملاء الذين كانوا يعملون لهم في الجامعات والمؤسسات الإعلامية الحكومية أو مراكز النشر، والمستشرقين الذي هم في خدمة الدول الاستعمارية، فهؤلاء جميعاً تكاتفوا في ذلك بنحو صار فيه الكثير من الناس والمثقفين في حالة من الضياع والانحراف عن الصواب تجاه الإسلام) (1)
ويذكر الدور السلبي الذي قام به رجال الدين نتيجة تجاهلهم لما ورد في النصوص المقدسة من الأحكام المرتبطة بجميع شؤون الحياة، فقال: (إن هذا التصور الخاطئ عن الإسلام الذي يلقي في أذهان عامة الناس، والشكل الناقص الذي يعرض فيه الإسلام في الحوزات العلمية هدفه سلب الخاصية الثورية والحياتية للإسلام، ومنع المسلمين من السعي للقيام والتحرك والثورة، ومن أن يكونوا متحررين وساعين لتطبيق الأحكام الإسلامية، ومن أن يؤسسوا حكومة تؤمن سعادتهم ويكوّنوا الحياة اللائقة بالإنسان، فكانوا يشيعون مثلاً أن الإسلام ليس ديناً جامعاً، فهو ليس دين حياة، وليس فيه أنظمة وقوانين للمجتمع، ولم يأت بنظام وقوانين للحكم، الإسلام أحكام حيض ونفاس فحسب، وفيه بعض التوجيهات الأخلاقية أيضاً، لكن ليس فيه شيء مما يرتبط بالحياة وإدارة المجتمع، ومن المؤسف أن دعاياتهم السيئة هذه قد أثَّرت، وحالياً ـ فضلاً عن عامة الناس ـ فإن الطبقة المثقفة سواء من الجامعيين أو
__________
(1) الحكومة الإسلامية، ص 10.
إيران.. نظام وقيم (34)
الكثير من رجال الدين لم يفهموا الإسلام جيداً، وهم يمتلكون تصورات خاطئة تجاهه، والناس يجهلون الدين، كما يجهلون الأشخاص الغرباء عنهم، فالإسلام يعيش بين شعوب الدنيا بغربة كما أنه لو أراد الانسان أن يعرض الإسلام كما هو فلن يصدقه الناس بسرعة، بل تواجهه أصوات الاستعمار في الحوزات بالضجيح والغوغاء) (1)
ثم يذكر الخميني كثرة ما ورد في النصوص المقدسة من الأحكام المرتبطة بشؤون الحياة المختلفة، مقارنة بين ما ورد في الشعائر والعبادات التي استغرق الفقهاء جل وقتهم في الاهتمام بها، مع تضييع الجوانب الأخرى؛ فيقول: (ولكي يتضح شيئاً ما عظم الفرق بين الإسلام وبين ما يعرض على أنه الإسلام ألفت نظركم إلى التفاوت الموجود بين القرآن الكريم وكتب الحديث، والتي هي مصادر الأحكام والقوانين من جهة، وبين الرسائل العملية التي تكتب من قبل مجتهدي العصر ومراجع التقليد من جهة أخرى من ناحية الجامعية والتأثير الذي يمكن أن تتركه في الحياة الاجتماعية، فنسبة الاجتماعيات في القرآن للآيات العبادية تتجاوز المئة مقابل واحد، كما نجد أنه في كتب الحديث التي تشتمل الدورة منها حوالي خمسين كتاباً وتحتوي على جميع الأحكام الإسلامية، نجد أن هناك ثلاثة أو أربعة كتب حول عبادات الانسان ووظائفه تجاه ربه وشيئاً من الأحكام الأخلاقية، والباقي كله مما يتعلق بالأمور الاجتماعية والاقتصادية والحقوق السياسية وتدبير المجتمع) (2)
وهكذا؛ فإن الخميني ـ من خلال هذا النص ـ يعرض دليلا عقليا وواقعيا ملموسا للمسلمين، بل لغيرهم أيضا، يمكن تقريره بأن الذين أذعنوا باختيارهم لقوانين الله المرتبطة بشعائرهم التعبدية على الرغم من المشاق الكثيرة التي تصيبهم من جرائها، لا يعجزون عن الإذعان لقوانين الله المنظمة لحياتهم، بل إن استجابتهم لها ستكون أكثر فاعلية من استجابتهم
__________
(1) المرجع السابق، ص 11.
(2) المرجع السابق، ص 11.
إيران.. نظام وقيم (35)
لأي قوانين أخرى، وبذلك فإن المجتمع المسلم لن يحتاج في تطبيقه للقوانين إلا إثبات كونها قوانين الله حتى يسلم لها عن طواعية ورضا.
وانطلاقا من هذا يوجه الخميني خطابه للدعاة بأن يركزوا على هذه المعاني أثناء دعوتهم للحكومة الإلهية، ذلك أن الحائل بين المجتمعات الإسلامية وتطبيق الشريعة، ليس المعاندة، وإنما الجهل، ولو أنهم علموا أن الشريعة تحوي أحكاما سياسية واقتصادية، لما فرطوا في الإذعان والتسليم لها مثلما يفعلون في الأمور الأخرى، يقول الخميني: (أنتم أيها السادة يا جيل الشباب، الذين ستكونون مفيدين لمستقبل الإسلام انشاء الله، عليكم أن تكونوا بعد هذه النقاط الموجزة التي أبينها لكم مجدّين طوال حياتكم في بيان انظمة الإسلام وقوانينه، وأطلعوا الناس ـ بأي شكل ترونه مفيداً كتابة أو مشافهة ـ على المشاكل التي ابتلى بها الإسلام منذ بداية نهضته، وعما لديه الآن من أعداء ومصائب، لا تتركوا حقيقة الإسلام وماهيته مستورة كيلا يتصور أحد أن الإسلام كالمسيحية يمثل ـ بالاسم لا بالحقيقة ـ عدة قوانين حول العلاقة بين الله والناس فحسب، وأن المسجد لا يختلف عن الكنيسة) (1)
ويبين لهم ما عساهم أن يذكروه لربط الناس بأحكام الشريعة في جميع مجالات الحياة، وتحبييهم فيها، ليصبحوا الحاضنة التي توفر الرعاية للحكومة الإسلامية عند نشوئها؛ فيقول: (في ذلك الوقت الذي لم يكن فيه الغرب شيئاً يذكر، وكان أهله يعيشون في حالة من التوحش، وكانت أمريكا موطناً للهنود الحمر شبه المتوحشين، وكانت امبراطوريتا الفرس والروم تحت سيطرة الاستبداد والطبقية وسلطة الأقوياء، ولم يكن فيها من أثر لحكومة الشعب والقانون، أرسل الله تعالى من خلال رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قوانين تدهش الإنسان بين فترة ما قبل انعقاد نطفته إلى ما بعد دفنه، ووضع قوانين للوظائف العبادية، وجعل للأمور الاجتماعية والإدارية قوانين وطرق ورسوم، فحقوق الإسلام حقوق راقية ومتكاملة وجامعة والكتب الموسوعية
__________
(1) المرجع السابق، ص 11.
إيران.. نظام وقيم (36)
التي ألِّفت من قديم الزمان في مختلف المجالات الحقوقية بدءاً من أحكام القضاء والمعاملات والحدود والقصاص إلى العلاقات بين الشعوب، ومقررات السلم والحرب والحقوق الدولية العامة والخاصة إنما هي غيض من فيض الأحكام والأنظمة الإسلامية، ليس ثمة موضوع لم يضع له الإسلام تكليفاً، ولم يصدر حوله حكماً) (1)
وهو يرد بقوة على تلك القوانين المستوردة التي تحكمت في بلاد المسلمين، من غير أن تكون لهم أي علاقة تربطهم بها، ولا أي انسجام نفسي يجعلهم ينساقون لتنفيذها، ويضرب المثل على ذلك بما وقع في إيران عند تدوين الدستور؛ فيقول: (عندما أرادوا تدوين الدستور في أوائل المشروطة اقترضوا المجموعة الحقوقية البلجيكية من سفارة بليجكا، وقام عدة أشخاص (ولا أريد أن أذكر هنا أية أسماء) بكتابة الدستور في تلك المجموعة، ورمَّموا نقائصه من المجموعات الحقوقية لفرنسا وانجلترا، ومن أجل خداع الشعب ضموا إليه بعض الأحكام الإسلامية، فقد اقتبسوا أساس القوانين من هؤلاء وأعطوها لشعبنا، فمواد الدستور هذه ومتمماتها المتعلقة بالملكية، والحكم الوراثي، وأمثال ذلك أين هي من الإسلام، فهذا كله ضد الإسلام ويناقض نمط الحكومة الإسلامية وأحكامها) (2)
ويرد على تلك الشبه التي تصور الشريعة بما ينفر عنها؛ فيقول: (يكتبون أحياناً في كتبهم وجرائدهم أن الأحكام الجزائية في الإسلام أحكام خشنة.. إني أعجب لهؤلاء كيف يفكرون! فمن جهة عندما يقتلون عدة اشخاص لأجل عشر غرامات من الهيروئين يقولون إنه القانون.. وعندما توضع هذه القوانين المخالفة للانسانية تحت شعار أنهم يريدون منع الفساد لا يكون فيها خشونة.. أنا لا أقول دعوهم يبيعوا الهيروئين، ولكن ليس هذا جزاءه، يجب منعه، لكن يجب أن تكون عقوبته متناسبة معه، إذا ضرب شارب الخمر ثمانين جلدة فهذا أمر فيه خشونة،
__________
(1) المرجع السابق، ص 12.
(2) المرجع السابق، ص 12.
إيران.. نظام وقيم (37)
أما اذا أعدموا إنساناً لأجل عشرة غرامات من الهيروئين فلا خشونة في الأمر! مع أن الكثير من المفاسد التي ظهرت في المجتمع هي من شرب الخمر، فالكثير من حوادث السير التي تقع في الطرقات، وعمليات الانتحار والقتل سببها شرب الخمر) (1)
وهكذا يذكر الجرائم البشعة التي مارسها الغرب مع الشعوب المستضعفة، والتي تدل على انسلاخه من كل معاني الإنسانية، ويبين أن إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحياة جزء من تلك الجرائم، حتى تبقى الشعوب خاضعة للغرب يستولي على ثرواتها، ويتحكم فيها، يقول في ذلك: (المخطط هو أن يبقونا، وعلى الحال التي نحن فيها من الحياة المنكوبة لكي يتمكنوا من استغلال ثرواتنا ومنابعنا الطبيعية وأراضينا وطاقاتنا البشرية، يريدون لنا أن نبقى غرقى في المشاكل والعجز، وأن يبقى فقراؤنا بهذه التعاسة، ولا يخضعوا لأحكام الإسلام التي تحل مشكلة الفقر والفقراء، ولكي يبقوا هم وعملاؤهم في القصور الفخمة مستمرين في تلك الحياة المرفهة. تلك مخططات قد وصل مداها حتى إلى الحوزات الدينية والعلمية، بشكل لو أراد الانسان أن يتكلم حول الحكومة الإسلامية ووضع حكومة الإسلام فيجب عليه أن يستعمل التقية، وأن يواجه معارضة أذناب الاستعمار، كما أنه عندما طبعت الطبعة الأولى من هذا الكتاب انتفض عملاء السفارة (سفارة نظام الشاه في العراق) وقاموا بتحركات يائسة، وفضحوا أنفسهم أكثر فأكثر. والآن وصل بنا الحال إلى أن صاروا يعتبرون لباس الجندي منافياً للمروءة والعدالة مع أن أئمة ديننا كانوا جنوداً وقادة ومقاتلين. وكانوا يذهبون إلى الحروب التي تسردها كتب التاريخ وهم يرتدون بزة الحرب، وكانوا يقتلون ويقدمون القتلى. وأمير المؤمنين كان يضع الخوذة على رأسه المبارك، ويلبس الدرع وكان لسيفه حمائل. وهكذا كان الإمام الحسن وسيد الشهداء، ولم يفسح المجال فيما بعد، وإلا لكان الإمام الباقر بهذا النحو أيضاً، ووصل بنا الحال الآن إلى أن صار ارتداء لباس الجندي مضراً بالعدالة وصار ممنوعاً، وإذا
__________
(1) المرجع السابق، ص 13.
إيران.. نظام وقيم (38)
أردنا اقامة حكومة إسلامية فيجب علينا أن نقيمها بهذه العباءة والعمامة، والا كان ذلك خلاف المروءة والعدالة. إنها تأثيرات تلك الدعايات، وهي التي وصلت بنا وأوصلتنا إلى هنا بنحو صرنا بحاجة إلى تجشم المشقات لنثبت أن الإسلام يمتلك قواعد للحكومة) (1)
هذه بعض المناهج التي استعملها الخميني في الدعوة للحكومة الإسلامية من خلال مخاطبة العقول والمشاعر حتى تسجيب لهذا المعنى، وتوفر الحاضنة التي يمكنها أن تتقبل هذا النوع من الحكم، وقد آتت دعواته أكلها، حيث استجاب أكثر الشعب الإيراني أثناء الانتخاب على الدستور على هذا النظام ووافق عليه على الرغم من تعدد مشاربه ومذاهبه وأعراقه وأديانه، وذلك لثقتهم من أن الشريعة الإسلامية يمكن أن تستوعبهم جميعا، وتفيدهم جميعا.
ومن النواحي التي لها علاقة عظيمة بهذا الجانب، وخاصة لدى المسلمين المتدينين ما يرتبط بالجانب الأخروي في تطبيق الشريعة، وهو ما عبر عنه المرجع الديني الكبير كاظم الحسيني الحائري (2) في كتابه [أساس الحكومة الإسلاميّة]؛ فقال: (تتابعت البحوث حول أفضل أشكال الحكم وأسسها التي تضمن إيصال البشرية إلى ساحل السعادة ورفع أنماط الظلم والتعدي التي ابتليت بها على مر التاريخ، وقد أغفل الباحثون غير المسلمين حول هذه المسألة عنصرين هامين لهما أكبر الأثر في تشخيص أساس الحكم وشكله، وهما: السعادة في الحياة الأخرى، وتحقيق رضا الله تعالى، ولقد أثبتت التجارب الطويلة الأمد وستثبت أكثر فأكثر أن السعادة البشرية في الحياة الدنيا لا يمكن أن تنال ما لم يرس شكل الحكم على أسس مستوحاة من الله جل وعلا العليم بأدواء البشرية الخبير بصلاحها الناجع. هذا، فضلاً عن سعادة الآخرة أو تحقيق رضا الله سبحانه) (3)
__________
(1) المرجع السابق، ص 15.
(2) هو مرجع شيعي عراقي مُعاصر مقيمٌ بمدينة قم، وهو أحد أبرز تلاميذ محمد باقر الصدر،.
(3) أساس الحكومة الإسلاميّة، الحائري، ص 5..
إيران.. نظام وقيم (39)
ويضرب المثل على ذلك بما يقع في الغرب نتيجة انحرافه عن الفطرة الإنسانية التي لا يمكن أن تجد سعادتها، وهي بعيده عن الله، يقول في ذلك: (وها نحن نرى العالم يغرق في بحر من الظلم والعذاب ويتهدده خطر الفناء والدمار ـ في أي لحظة ـ رغم كل ما طرحه مفكروه الكبار من مناهج وصيغ تحاول التخطيط لنظام الحكم على ضوء التجارب الاجتماعية الممتدة عبر المسيرة التاريخية، ورغم توفر كل الوسائل المادية للراحة وتقدم مستوى الصناعة والتكنيك الى مدى بعيد، كل ذلك لم يستطع أن ينتشل البشرية من الوهدة السحيقة التي تعاني تبعاتها، الأمر الذي يؤكد عليها الضرورة الماسة لمد يد الحاجة للسماء الرحيمة والاستهداء بتعاليمها الوضاءة) (1)
2 ـ البراهين النصية على شرعية الحكومة الإلهية
وهي نصوص كثيرة جدا نجدها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويتفق على الاستدلال بها دعاة ولاية الفقيه مع دعاة الحركات الإسلامية ذات التوجه السياسي، فهم جميعا يستعملون هذا الصنف من الآيات الكريمة للرد على العلمانية، وإقناع جماهير المؤمنين بضرورة التحاكم المطلق لشريعة الله، وعدم أخذ بعض الكتاب، والتفريط في البعض الآخر مثلما حصل في الديانات الأخرى.
ومن تلك الآيات الكريمة قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وهي آيات تبين مدى الكفر والظلم والفسوق الذي يقع فيه الذين فصلوا حياتهم عن شريعة الله، وقد ذُكرت
__________
(1) المرجع السابق، ص 6.
إيران.. نظام وقيم (40)
الأحكام فيها بذلك الترتيب بحسب نوع الإعراض عن حكم الله، فإن كان إعراضا كليا، ممتلئا بالجحود والتحقير، فهو الكفر بعينه، وإن كان الإعراض ناتجا عن التقصير والكسل، فصاحبه ـ كما تنص الآيات الكريمة ـ ظالم وفاسق.
وهكذا نرى القرآن الكريم يعتبر الشرائع والقوانين التي تتعارض مع شريعة الله شرائع وقوانين جاهلية، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، واعتبر تارك شريعة الله، والملتجئ لغيره مشركا؛ فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]
بل نجد من الآيات الكريمة ما ينفي الإيمان عن المعرض عن أحكام الله، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]
وضرب مثالا على ذلك بما كان يحصل في عهد النبوة من مرضى القلوب الذين يدعون الإيمان بالله ورسوله، وفي نفس الوقت لا يذعنون لما يرد عنهما من أحكام، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)} [النور: 47 - 51]
وذكر في مقابلهم موقف المؤمنين الصادقين في إيمانهم والمذعنين إذعانا تاما لله ورسوله، وذكر جزاءهم ومصيرهم؛ فقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 51، 52]
وهكذا نرى القرآن الكريم يعتبر الدعوة إلى الحكم بغير ما أنزل الله دعوة إلى الطاغوت،
إيران.. نظام وقيم (41)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60، 61]
وقد استعمل قادة الثورة الإسلامية الإيرانية هذه المصطلحات القرآنية في مواجهة الشاه؛ فقد كانوا يطلقون عليه لقب الطاغوت، ويدعون إلى الثورة عليه، وعدم جواز السكون والرضى بقوانينه، بل يدعون إلى مواجهتها وتحديها والإعراض عنها، ويستعملون القرآن الكريم في تلك المواجهة، مثلما يفعل دعاة الحركات الإسلامية تماما، يقول الخامنئي: (القرآن يصطلح على كل ولاية غير ولاية الله بالطاغوت. فهو يؤكِّد أنَّ من لا يخضع لولاية الله وحاكميته فهو خاضع لولاية الطاغوت وحاكميته، فما هو الطاغوت؟.. الطاغوت هو ذلك الشخص الذي يستخدم مختلف الوسائل من أجل أن يجعل الناس يسيرون على خلاف نهج الله ورسالته ودينه.. إذاً، فليس الطاغوت اسماً خاصاً، وليس صحيحاً ما يتخيله البعض من أنَّ الطاغوت اسم لصنم معين. نعم، يطلق على الصنم ويسمى الصنم به لكنه ليس صنماً معيناً، وقد يكون الإنسان نفسه صنماً، وكذلك ثروته وحياته العاطلة المتراخية المترفة، وكذلك أمانيه وآماله، وقد يضع الإنسان يده بيد إنسان هو صنم يغمض عينيه ويضع كل ما لديه بيده، وقد يكون الصنم هو الذهب والفضة أو النظام الاجتماعي أو القانون. فليس الطاغوت اسماً لشي ء محدد خاص. والذي يستنبط من القرآن الكريم أنَّ الطاغوت مقامٌ فوق مقام الملأ وأشراف القوم والمترفين والجبارين والرهبان.. وعلى هذا فكل من يخرج عن ولاية الله وحاكميته فلا بدَّ أن يدخل في ولاية الطاغوت والشيطان) (1)
ومثله قال الخميني في الرد على العلماء الذين يدعون إلى السكون إلى الطغيان وعدم
__________
(1) الإمامة والولاية، الخامنئي، 93 - 92.
إيران.. نظام وقيم (42)
مواجهته: (لقد كان نبي الإسلام وأئمته وعلماؤه دائماً في نزاع مع سلاطين عصرهم، إن الذين كانوا ملوكاً باسم الخلفاء سجنوا الإمام موسى بن جعفر عشر سنين أو خمس عشرة سنة، لماذا؟ هل لأنه كان يصلي؟! لقد كان هارون والمأمون يصليان أيضاً، وكانا يؤمّان صلاة الجمعة والجماعة! فهل قبضوا عليه لأنه من أحفاد النبي أو لانه إمام؟! هل القضية هذه؟! كلّا، بل لأن الإمام موسى بن جعفر كان يخالف ذلك النظام الطاغوتي! وكانت معارضته له سبباً لمشاكله، وقد ثار علماؤنا منذ صدر الإسلام والى الآن، وفي عصر الأئمة ثار أبناء الائمة وكان ذلك بدافع من الأئمة، فإذا كان زيد إنساناً ارتكب ذنباً فلماذا يثني عليه الأئمة؟! كما لدينا في عصرنا عدة ثورات قام بها العلماء. العلماء الذين يتحدث عنهم اليساريون والمنحرفو بأنهم أعوان البلاط! ولا غرابة في ذلك فهم لم يدرسوا، وليست آذانهم مفتوحة ليعلموا كم مرة ثار علماء الإسلام في عهد رضا شاه وعهد محمد رضا شاه، حيث كان يجتمع علماء أصفهان وآذربيجان ومشهد وقم ويُعلنون اعتراضهم، فهل كان أولئك من أعوان البلاط؟!) (1)
وهكذا كانوا يستدلون أيضا بالنصوص الكثيرة الدالة على شمولية أحكام الشريعة الإسلامية لكل شؤون الحياة، مثل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، وقوله: {ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]
ومثلها الآيات الكريمة التي تدعو إلى الدخول في الإسلام من جميع أبوابه، وفي جميع معانيه ومجالاته، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]
أو تلك الآيات الكريمة التي تحذر من الأخذ ببعض الكتاب، وترك بعضه، كما قال تعالى منكرا على اليهود: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 4، ص: 70.
إيران.. نظام وقيم (43)
إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]
ولهذا نرى الخميني ـ في مناقشته للمعترضين على ولاية الفقيه ـ يستعمل مثل هذه النصوص، ومن أمثلة ذلك قوله: (الدليل الآخر على لزوم تشكيل الحكومة هو ماهية القوانين الإسلامية (أحكام الشرع) وكيفيتها. فماهية هذه القوانين تفيد أنها قد شُرِّعت لأجل تكوين دولة، ولاجل الإدارة السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع إذ أنها تشتمل على قوانين ومقررات متنوعة تبني نظاماً اجتماعياً شاملاً، ويتوفر في هذا النظام الحقوقي كل ما يحتاجه البشر، من نمط التعامل مع الزوجة والأولاد والعشيرة والقوم وأهل البلد والأمور الخاصة والحياة الزوجية، إلى المقررات المتعلقة بالحرب والصلح والتعامل مع سائر الشعوب، ومن القوانين الجزائية، إلى قوانين التجارة والصناعة والزراعة. ففيها قوانين لمرحلة ما قبل النكاح وانعقاد النطفة، وتبين كيف يجب أن يتم النكاح، وماذا ينبغي أن يكون طعام الإنسان عندها، أو أثناء انعقاد النطفة، وما هي تكاليف الأبوين فترة الرضاعة، وكيف يجب أن يربى الطفل، وكيف يجب أن يتعامل الرجل والمرأة مع بعضهما، ومع أولادهما، فيوجد فيها قانون لجميع هذه المراحل، لتربِّي الإنسان فردا كاملا فاضلا، يجسد القانون ويعمل على تطبيقه تلقائياً، ويتضح بهذا إلى أي حد يَهتمُّ الإسلام بالحكومة والعلاقات السياسية والاقتصادية للمجتمع، لكي يوفر كل الظروف لأجل تربية الإنسان المهذب الفاضل، فالقرآن الكريم والسنة الشريفة يشتملان على جميع القوانين والأحكام التي يحتاجها الانسان لسعادته وكماله) (1)
ويستدل الخميني لهذا، بما ورد في كتاب الكافي تحت عنوان [الرد إلى الكتاب والسنة، وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة] (2)، وهو ما روي عن الإمام الصادق
__________
(1) الحكومة الإسلامية، ص 27.
(2) أصول الكافي، ج 1، ص 76 ـ 80.
إيران.. نظام وقيم (44)
أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن تبيانا لكل شيء، حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد حتى لا يقول عبد: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزل الله فيه) (1)
ويضرب الخميني في كتابه [الحكومة الإسلامية] الأمثلة الكثيرة على ذلك، ومنها ما عبر عنه بقوله: (الضرائب التي فرضها الإسلام والميزانية التي طرحها تدل على أنها ليست لمجرد سد رمق الفقراء من السادة الهاشميين وغيرهم، وإنما لأجل تشكيل حكومة، وتأمين المصارف الضرورية لدولة كبيرة، مثلاً: الخمس أحد الموارد الضخمة التي تصب في بيت المال، ويشكل أحد مصادر الميزانية، وبحسب مذهبنا يؤخذ الخمس بشكل عادل من جميع المصالح، سواء الزراعة أو التجارة، أو المصادر المخزونة في جوف الأرض، أو الموجودة فوقها، وبشكل عام من جميع المنافع والعوائد بنحو يشمل الجميع من بائع الخضار على باب المسجد، إلى العامل في السفن، أو من يستخرج المعادن. فهؤلاء عليهم دفع الخمس من أرباحهم بعد صرف المصارف المتعارفة إلى الحاكم الإسلامي لكي يضعه في بيت المال. ومن البديهي أن مورداً بهذه العظمة إنما هو لأجل إدارة بلد إسلامي، وسد جميع حاجاته المالية. فعندما نحسب خمس أرباح البلاد الإسلامية، أو جميع انحاء الدنيا ـ فيما لو صارت تحت الحكم الإسلامي ـ يتضح لنا أن الهدف في وضع ضريبة كهذه ليس مجرد سد حاجة السادة الهاشميين وعلماء الدين، بل ان القضية أهم من ذلك. فالهدف هو سد الحاجة المالية لجهاز حكومي كبير. ففيما لو قامت الحكومة الإسلامية فيجب أن تدار بواسطة هذه الضرائب) (2)
ومن الأمثلة على ذلك ـ كما يعبر الخميني ـ (أحكام الدفاع الوطني)، وهي (الأحكام التي تتعلق بحفظ نظام الإسلام والدفاع عن جميع أراضي الأمة الإسلامية واستقلالها، وهي تدل على لزوم تشكيل الحكومة، فمثلاً هذا الحكم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
__________
(1) أصول الكافي، ج 1، ص 76 ـ 80.
(2) الحكومة الإسلامية، ص 28.
إيران.. نظام وقيم (45)
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، والذي هو أمر بالاستعداد وحشد ما أمكن من القوى المسلحة المدافعة بشكل عام، وأمر بالتهيؤ والمراقبة الدائمة في فترة الصلح والهدوء، لو عمل المسلمون بهذا الحكم، وقاموا بالحشد الواسع من خلال تشكيل حكومة إسلامية، وكانوا في حالة استعداد قتالي كامل، لما تجرأت حفنة من اليهود على احتلال أرضنا وتخريب المسجد الأقصى وحرقه، دون أن يتمكن الشعب من القيام برد فعل فوري. فكل هذا نتيجة عدم قيام المسلمين بتنفيذ حكم الله، وتشكيل الحكومة الصالحة والمطلوبة. ولو كان حكام البلاد الإسلامية ممثلين للشعب المؤمن ومنفذين للأحكام الإسلامية، لوضعوا الخلافات الصغيرة جانباً، وتخلوا عن التفرقة والتخريب، وصاروا يداً واحدة فعندها ما كانت حفنة من اليهود الاشقياء العملاء لأمريكا وانكلترا والأجانب لتستطيع القيام بهذه الاعمال حتى ولو كانت أمريكا وانكلترا داعمتين لها) (1)
وهكذا نرى الأمثلة الكثيرة في كتب قادة الثورة الإسلامية، والتي تبين شمول الشريعة لكل مجالات الحياة، وهو ما يستدعي توفر الحكومة التي تطبق تلك الأحكام بحروفها ومقاصدها.
ثانيا ـ التأصيل الشرعي لولاية الفقيه
كل ما ذكرناه سابقا من التأصيلات المرتبطة بالحاكمية متفق عليها بين المسلمين جميعا، ما عدا أولئك المتنورين الذين ينادون بالعلمانية، أو يؤمنون بالحداثة، أو يتصورون أن الإسلام لا يختلف عن المسيحية في كونه مجرد علاقة بين العبد وربه، أو مجموعة قيم خلقية لا علاقة لها بالسياسة والاقتصاد وشؤون الحياة.
ولكن الخلاف الكبير بين هؤلاء الذين اتفقوا على شرعية الحكومة الإلهية يبدأ من علاقة الفقيه بهذه الحكومة، وهل هي قاصرة على الاستشارة، أو بعض الصلاحيات المحدودة، أو أن
__________
(1) المرجع السابق، ص 31.
إيران.. نظام وقيم (46)
الفقيه هو عينه من تُوكل إليه مهام تطبيق الشريعة في الواقع، وذلك عبر الصلاحيات الكبرى التي تعطى له؛ فتجعله على أعلى هرم السلطة في البلاد.
وربما يكون أقرب البيئات الإسلامية لتقبل إعطاء الفقيه هذه الصلاحيات التي بموجبها يصبح صاحب الكلمة النافذة في المجتمع هي البيئة الشيعية، بحكم علاقتها بالفقيه، والتي تتعدى الاستشارة إلى الولاية، فكل شيعي مكلف ـ على حسب فقه الشيعة ـ باتخاذ مرجع حي يثق في علمه وتقواه وعدالته ليجعله واسطة لتلقي أحكام الشريعة، كما يجعله واسطة لتبليغ الحقوق المختلفة، سواء كانت مالية أو غيرها.
وقد رأينا في الواقع العراقي كيف استطاعت فتوى السيد السيستاني على الرغم من كونه لم يتبوأ منصب ولاية الفقيه المطلقة، أن تجمع أكبر حشد من المتطوعين لمواجهة أكبر تنظيم إرهابي في التاريخ، وفي أقصر مدة.
وقد أشار المفكر والإعلامي الكبير فهمي هويدي إلى تفرد البيئة الشيعية بتقبل مثل هذا النوع من النظام عند رده على رسالة أرسلها بعض العلماء الإيرانيين إلى الرئيس المصري حينها [محمد مرسي]، دعوه فيها للاستفادة من التجربة الإيرانية في هذا المجال، وتطبيق ولاية الفقيه في مصر، والتي أحدثت حينها ـ كما يذكر ـ فرقعة في الساحة السياسية، بل صارت محلا للسخرية.
وقد كتب فهمي هويدي في ذلك مقالا يحسن ذكر بعض ما ورد فيه، باعتباره أكثر المفكرين والإعلاميين فهما للواقع الشيعي، والإيراني خصوصا، وله في ذلك كتابه المعروف [إيران من الداخل]، ولست أدري هل هو في رده على تلك الرسالة كان حزينا لعدم تمكن المصريين من تقبل مثل هذا النوع من الأنظمة، أو أنه كان يرى مصر أرفع وأعظم من أن تقبل به.
يقول في بيان أسباب تفرد البيئة الشيعية بالقدرة على تقبل الولاية المطلقة للفقيه: (ولاية
إيران.. نظام وقيم (47)
الفقيه فكرة مرتبطة بخصوصية المذهب الشيعي، ثم إنها ليست محل إجماع داخل المذهب ذاته، ولا نستطيع أن نستوعب الفكرة ما لم نضعها في سياقها التاريخي، ذلك أنه باستثناء الدولة الفاطمية التي استمرت نحو مائتي عام في مصر وتونس والشام (969 - 1172 م)، فإن الشيعة عاشوا على مر القرون بلا دولة يستظلون بها، فقام الفقيه بهذه المهمة، إذ صار هو المظلة التي تحمي وترعى أتباع المذهب، به يلوذون، وإليه يقدمون زكواتهم ويستفتونه فيما يستشكل عليهم، وتقليد المرجع الديني الحي واجب على المتدينين) (1)
ثم بين نوع الولاية التي كان يمارسها الفقيه في البيئة الشيعية؛ فقال: (ولكي يقوم المرجع بواجباته فإنه يوفر الخدمات للأتباع مما يحصله من مال الزكاة. وهذه الخدمات تتراوح بين مساعدة الفقراء وإنشاء المدارس والمعاهد والمستشفيات وبعثات الحج والابتعاث الدراسي إلى الخارج، وله معاونون يباشرون تلك الأنشطة لا يختلفون كثيرا في أدائهم لوظائفهم عن الوزراء المختصين، كما أن له وكلاء في مختلف الأقطار يتسلمون الزكوات ويتلقون استفسارات المقلدين، وهم أقرب إلى السفراء فيما يؤدونه من وظائف)
ثم ذكر عن نفسه كيف التقى ببعض أولئك المراجع، والأدوار التي كانوا يمارسونها في مجتمعاتهم؛ فقال: (لقد أتيح لي أن ألتقي بعضا من المراجع العظام في مدينة قم حين كنت أعد كتابي [إيران من الداخل]، الذي صدرت طبعته الأولى في عام 1987، ووجدت أنهم أقاموا ممالك مصغرة لا تختلف كثيرا عن الإمارات التي انتشرت في أوروبا العصور الوسطى، وأشرت في ثنايا الكتاب إلى أن الدور الذي يقومون به وفر لأتباع المذهب الغطاء الذي كانوا بحاجة إليه في غياب الدولة، وأن قيام المراجع بذلك الدور كان حلا عبقريا للحفاظ على المذهب، خصوصا في ظل المخاطر التي كانت تتهدده جراء ضغوط مجتمعات أهل السنة المحيطة به، التي تحولت إلى صراع وحروب بين الدولتين العثمانية السنية والصفوية الشيعية،
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: ولاية الفقيه لا تلزمنا، فهمي هويدي، جريدة الوطن الالكترونية، بتاريخ 19/ 2/2013 م..
إيران.. نظام وقيم (48)
استمرت ستة عشر عاما فيما بين سنتي 1623 و1639) (1)
وقد كان لذلك كله دوره الكبير في تقديس الشيعة لمراجعهم، وخضوعهم لهم، وقبولهم بولايتهم، يقول فهمي هويدي: (هذه الخلفية حفرت للفقيه دورا عميقا ومهما في المجتمعات الشيعية، أحسب أنه يتجاوز بكثير دور الفقيه في مجتمعات أهل السنة، وهذا الدور كان بمثابة التربة التي نمت فيها فكرة ولاية الفقيه عند الشيعة، ذلك أنه إذا كان في غيبة الدولة يقوم الفقيه بكل هذه الرعاية لصالح مقلديه، فإن تأصيل هذه الفكرة من الناحية الشرعية من خلال ولاية الفقيه يغدو تطورا منطقيا ومفهوما) (2)
وعلى خلاف هذا ـ كما يذكر فهمي هويدي ـ ما جرى عليه العمل في البيئة السنية، وموقفها من علمائها؛ فقد قال في خاتمة مقاله عن اختلاف البيئتين: (لأنه لا مكان للإمامة في الفكر السياسي لدى أهل السنة، فلا محل للحديث عن نائب الإمام أو عن مراتب الفقهاء الذين يتميزون بعلمهم، فضلا عن أن الفقهاء عند أهل السنة ليسوا خريجي المعاهد الدينية فقط، وإنما هم كل من حسن إسلامه وتبحر في أي فرع من فروع المعرفة الإنسانية.. وقد درج العمل في مجتمعات أهل السنة على الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة، وثمة كتابات عدة تعرضت لهذه المسألة وشاركت في صياغة وضبط العلاقة بين الفقيه والسلطان. وظل الاتجاه الغالب ينحو نحو التمييز بينهما. والتمييز غير الفصل الذي يدعو إليه البعض، وإنما هو أقرب إلى تنوع الاختصاص واحترام حدوده) (3)
وبناء على هذا يذكر فهمي هويدي أن [ولاية الفقيه]، ليست كما يزعم بعض السنة والشيعة من أنها بدعة ابتدعها الخميني، وخالف بها أصول مذهبه، وإنما هي فكرة قديمة،
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (49)
مورست في الواقع، ولم يكن دور الخميني إلا زيادة تأصيل لها، وتحويلها من مجرد ولاية ترتبط ببيئة محدودة إلى نظام سياسي يشكل دولة كاملة، بل يطمح إلى الوصول إلى جميع بلاد العالم الإسلامي، لتخضع جميعا تحت سلطة الولي الفقيه.
وما ذكره فهمي هويدي في هذا الجانب ليس استنقاصا من دور الخميني في الدعوة لهذا النظام، أو التأصيل له، ذلك أن الخميني نفسه أشار إلى هذا، وتحدث عنه كثيرا، حتى يرد على تلك الشبه التي يوردها المخالفون له من المدرسة الشيعية.
ومن أمثلة ذلك قوله في كتابه [الحكومة الإسلامية]: (إن موضوع ولاية الفقيه ليس موضوعاً جديداً جئنا به نحن، بل إن هذه المسألة وقعت محلاً للبحث منذ البداية. فحكم المرحوم الشيرازي (1) في حرمة التنباك كان واجباً اتباعه، حتى من الفقهاء الآخرين أيضاً. وقد اتبع ذلك الحكم جميع علماء ايران الكبار ماعدا بضعة أشخاص، وهو لم يكن حكماً قضائياً في خلاف بين بعض الأشخاص، بل كان حكماً ولائياً (حكومياً) أصدره (رحمه الله) بالعنوان الثانوي (2) مراعاة لمصالح المسلمين. وكان الحكم مستمراً مادام العنوان موجوداً. وبزوال العنوان ارتفع الحكم) (3)
وضرب له مثالا آخر بـ (المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي (4) الذي حكم بالجهاد ـ
__________
(1) الميرزا حسن (أو محمد حسن) بن محمود الحسيني الشيرازي (1230 ـ 1312 هـ ق) فقيه اصولي، ورئيس الامامية في عصره. انتخب بعد وفاة الشيخ الانصاري مرجعا للشيعة. وقصة التنباك المعروفة التي حصلت سنة وفاته وأدت إلى ترك استعمال التبغ من قبل ملايين الايرانيين، مما سبب إلغاء الاتفاقية مع الانكليز، كانت نموذجاً واضحاً عن قدرته الدينية وبصيرته السياسية.
(2) العناوين التي يتعلق بها الحكم الشرعي لها نحوان: الأول لا يكون العنوان أو الموضوع مقيدا بقيد كالاضطرار مثلا، ففي هذه الصورة يسمى الحكم المجعول لها بالحكم الأولي، والنحو الثاني يكون العنوان أو الموضوع مقيدا بقيد كالحرج والاضطرار والاكراه والضرر والفساد، ففي هذه الصورة يسمى الحكم المتعلق بها بالحكم الثانوي..
(3) الحكومة الإسلامية، ص 119.
(4) الميرزا محمد تقي بن محب علي الشيرازي الحائري (1338 هـ ق) بعد اكمال دراسة المقدمات سافر إلى سامراء، وحضر درس الميرزا الشيرازي (الكبير) وصار معدودا من أفضل طلابه، ونال مقام المرجعية بعد الميرزا في سامراء، وبعد السيد محمد كاظم اليزدي تولى رئاسة الشيعة.. وأعلن الجهاد بفتواه المشهورة في العراق، ودعا الشعب إلى مواجهة الانكليز الذين دخلوا إلى العراق.
إيران.. نظام وقيم (50)
وكان ذلك بصفة دفاع بالطبع ـ فقد اتبعه بقية العلماء، لأنه كان حكماً ولائياً (حكومياً) (1)
ومنهم ـ كما يذكر الخميني ـ (المرحوم النراقي الذي يرى ثبوت جميع شؤون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للفقهاء، والمرحوم النائيني أيضاً يقول أن هذا المطلب يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة) (2)
وقد عقب على هذه الأمثلة، ببيان الجديد الذي جاء به؛ فقال: (وعلي أية حال هذا البحث ليس جديداً، وإنما قمنا نحن بالبحث حوله أكثر فحسب، ووضعنا تشعبات المطلب المذكور في متناول السادة لتتضح المسألة أكثر، كما قمنا تبعاً لأمر الله تعالى في كتابه، وبلسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ببيان بعض الأمور المبتلى بها هذه الأيام. وإلاَّ فإن المطلب هو نفس ما فهمه الكثيرون وذكروه) (3)
ثم طلب من الفقهاء بعده أن يتولوا البحث المفصل في كيفية تطبيق هذه الولاية وتنظيمها، فقال: (لقد قمنا بطرح أصل الموضوع، وعلى هذا الجيل والاجيال القادمة أن تبحث وتفكر في ذيوله وتشعباته، وأن تجد السبيل إلى تحقيقه، ليطردوا عن أنفسهم التراخي والضعف واليأس، وسوف يتوصلون إن شاء الله إلى كيفية التشكيل، وسائر الفروع من خلال التشاور وتبادل وجهات النظر، ويضعون مسؤوليات الحكومة الإسلامية بيد خبراء أمناء عقلاء من أهل الإيمان والعقيدة، ويقطعون أيدي الخونة عن الحكومة والوطن وبيت مال المسلمين ليتيقنوا أن الله القدير معهم) (4)
وقد ذكر فهمي هويدي أمثلة أخرى لم يذكرها الخميني؛ فقال: (يذهب بعض الباحثين في لبنان إلى أن فكرة ولاية الفقيه أطلقها أحد المجتهدين الكبار بين علماء الشيعة، هو الشيخ
__________
(1) الحكومة الإسلامية، ص 119.
(2) المرجع السابق، ص 119.
(3) المرجع السابق، ص 119.
(4) المرجع السابق، ص 120.
إيران.. نظام وقيم (51)
محمد بن مكي الجزيني الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي. وهو من قرية جزين في جبل عامل. وقد ألف كتابا كان عنوانه [اللمعة الدمشقية]، وفيه ذكر لأول مرة عبارة نائب الإمام، التي ذاع أمرها فيما بعد واعتبرت أساسا لقيام الفقيه أو المرجع بالدور الذي يتعين أن يقوم به الإمام الغائب في القيام بأمر الأتباع. وقيل في هذا الصدد: (إن التشيع أفلح على يد محمد بن مكي الجزيني في ملء فراغ السلطة، الذي استمر فترة تزيد على أربعة قرون، أي منذ الانتهاء العملي لفترة الإمامة)، أي منذ اختفاء آخر أئمة آل البيت) (1)
ومن الأمثلة التي ذكرها: (الشيخ أحمد النراقي الذي ينسب إلى قرية نراق بمحافظة كاشان في إيران (توفي سنة 1820 م). وقد خصص الشيخ النراقي فصلا في كتاب أصدره بعنوان [عوائد الإمام]، كان عنوانه [ولاية الفقيه]، وسواء كان الرجل قد استقى العنوان من فكرة نائب الإمام التي صكها الشيخ الجزيني أم لا، فالثابت في الأدبيات الإيرانية أن الشيخ النراقي هو صاحب الفكرة، وأن آية الله الخميني تأثر بها ودعا إليها في مشروعه الذي جسده في كتابه عن [الحكومة الإسلامية]، وجمعت فيه محاضراته التي ألقاها على الدارسين في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف (العراق) خلال ستينيات القرن الماضي) (2)
وقد ذكر فهمي هويدي ردود فعل بعض الفقهاء والمراجع، وما قابلوا به تلك التأصيلات التي أصل بها الخميني لولاية الفقيه، والتعرف عليها مهم جدا لفهم سر ذلك الانفعال والألم الذي كان يبدو عليه الخميني، وهو يحاول أن يطرح ولاية الفقيه.
يقول فهمي هويدي: (وفي حين رحب بها البعض فإن آخرين رفضوها. وفي المقدمة من هؤلاء السيد أبو القاسم الخوئي (المتوفى سنة 1992) الذي كان مرجع زمانه ويتربع على رأس الحوزة العلمية في مدينة النجف بالعراق وقد أصدر رسالة انتقد فيها رأى الإمام الخميني كانت
__________
(1) انظر المقال السابق: ولاية الفقيه لا تلزمنا، فهمي هويدي.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (52)
بعنوان [أساس الحكومة الإسلامية]، أيده في ذلك المراجع الكبار في مدينة قم بإيران. وكان ذلك الموقف هو السبب الأساسي الذي دعا الإمام الخميني لأن يفضل الإقامة في طهران بدلا من قم، بعد نجاح الثورة وعودته إلى وطنه من منفاه بباريس، وكان لذلك التحفظ صداه في أوساط شيعة لبنان، فأصدر الدكتور محمد جواد مغنية، وهو من فقهائهم، كتابا بعنوان [الخميني والدولة الإسلامية]، فند فيه رأي الخميني ورفض فكرة الولاية المطلقة للمرجع. وأيده في هذا الموقف رئيس المجلس الشيعي الأعلى الإمام محمد مهدي شمس الدين (المتوفى سنة 2001)، وقد سمعت منه حديثا مطولا في المسألة انحاز فيه إلى فكرة ولاية الأمة ورفض ولاية الفقيه) (1)
وقد رد الخميني على هؤلاء جميعا ردا مفصلا في كتابه [الحكومة الإسلامية]، أو عبر بياناته وخطبه المختلفة، بل إن الأمر وصل به إلى اعتبار ولاية الفقيه قضية بديهية لا تحتاج لوضوحها لأي براهين، حيث يقول في مقدمة كتابه [الحكومة الإسلامية]: (وولاية الفقيه من المواضيع التي يوجب تصورها التصديق بها، فهي لا تحتاج لأية برهنة. وذلك بمعنى أن كل من أدرك العقائد والأحكام الإسلامية ـ ولو إجمالاً ـ وبمجرد أن يصل إلى ولاية الفقيه ويتصورها فسيصدق بها فوراً، وسيجدها ضرورة وبديهية) (2)
وبين الأسباب الداخلية والخارجية التي حولتها من قضية بديهية إلى قضية تحتاج إلى البراهين والأدلة؛ فقال: (والسبب في عدم وجود أدنى التفات لولاية الفقيه وفي أنها صارت بحاجة للاستدلال هو الأوضاع الاجتماعية للمسلمين بشكل عام والحوزات العلمية بشكل خاص، وهناك أسباب تاريخية لأوضاعنا الاجتماعية نحن المسلمين، ولأوضاع الحوزات العلمية نقوم بالاشارة اليها، لقد ابتليت النهضة الإسلامية منذ انطلاقتها باليهود، فهم الذين
__________
(1) المرجع السابق.
(2) الحكومة الإسلامية، ص 7.
إيران.. نظام وقيم (53)
شرعوا أولاً بالدعاية ضد الإسلام وبالدسائس الفكرية بنحو ـ وكما تلاحظون ـ وصل مداه إلى أيامنا هذه. ووصل الدور بعدهم إلى طوائف هم ـ بمعنى من المعاني ـ أكثر شيطنة من اليهود، وهؤلاء استطاعوا الوصول إلى البلاد الإسلامية على شكل استعمار منذ ثلاثة قرون أو أكثر وقد رأوا أنه من اللازم لكي يصلوا إلى مطامعهم الاستعمارية أن يهيئوا الأرضية للقضاء على الإسلام. ولم يكن هدفهم ابعاد الناس عن الإسلام لتقوية النصرانية، لأن هؤلاء لا يعتقدون بالنصرانية ولا بالإسلام، لكنهم ـ وطوال هذه المدة وأثناء الحروب الصليبية شعروا ان الذي يقف سداً أمام مصالحهم المادية، ويعرّض مصالحهم المادية وقواهم السياسية للخطر هو الإسلام وأحكامه وإيمان الناس به، فقاموا بالدعاية والدس ضد الإسلام بمختلف الوسائل. وقد تعاضد في العمل على تحريف حقائق الإسلام رجال الدين الذين أوجدوهم في الحوزات العلمية، والعملاء الذين كانوا يعملون لهم في الجامعات والمؤسسات الاعلامية الحكومية أو مراكز النشر، والمستشرقين الذي هم في خدمة الدول الاستعمارية، فهؤلاء جميعاً تكاتفوا في ذلك بنحو صار فيه الكثير من الناس والمثقفين في حالة من الضياع والانحراف عن الصواب تجاه الإسلام) (1)
وهو يتعجب من الذين يريدون من الفقهاء اعتزال السياسة وتركها باعتبارها من الدنيا؛ فيقول: (لقد غرسوا في أذهانكم من البداية أنّ السياسة تعني الكذب وما شابه ذلك من المعاني، لكي يبعدوكم عن أمور البلاد، بينما يتصرفون هم كما يريدون. وأنتم عليكم بالدعاء أيضاً، عليكم بالجلوس هنا والدعاء بـ (خلد الله ملكه) بينما هم يفعلون ما يحلو لهم، ويرتكبون القبائح التي يريدون. بالطبع فهم لا يمتلكون هذه الدرجة من الفهم ـ وللّه الحمد ـ لكن أساتذتهم وخبراءهم هم الذين وضعوا هذه الخطط. وضعها الاستعمار الانكليزي الذي دخل بلاد
__________
(1) المرجع السابق، ص 8.
إيران.. نظام وقيم (54)
الشرق منذ ثلاثة قرون، وتعرّف إلى جميع أمور هذه البلاد) (1)
ويذكر عن نفسه بعد خروجه من السجن، وكيف راحوا يستعملون الوسائل المختلفة لإقناعه بالابتعاد عن السياسة، والاكتفاء بالتدريس والمرجعية العلمية؛ فقال: (كتبوا في الجرائد بتاريخ 4/ 8/1963 م حين أخرجوني من السجن ما يُفهم منه أن علماء الدين لن يتدخلوا في السياسة. وأنا الآن أُبيّن لكم حقيقة الأمر. لقد جاءني أحدهم ولا أريد ذكر اسمه، وقال لي: أيّها السيد إن السياسة كذب وخداع وغش ونفاق، والخلاصة أنها بلاء ولعنة فدعوا ذلك لنا نحن. وبما أن الظرف لم يسمح فلم أشأ مناقشته، فقلت له: نحن منذ البداية لم نتدخل في هذه السياسة التي تتكلم عنها. والآن حيث أن الظرف يستلزم ذلك، فإني أقول: إنّ هذا ليس من الإسلام في شيء. والله إن الإسلام كله سياسة. لقد بيّنوا الإسلام بشكل غير سليم. إنّ سياسة المدن تنبع من الإسلام. إنني لست من أولئك الملالي (رجال الدين) الذين يكتفون بالجلوس هنا والتسبيح. أنا لست [البابا] لكي أكتفي بتأدية بعض المراسم يوم الأحد، وأنصرف بقية الأوقات إلى شأني، دون التدخل في الأمور الأخرى) (2)
بعد هذا التمهيد الذي رأينا ضرورته، سنسوق هنا باختصار ما ذكره الخميني وغيره من قادة الثورة الإسلامية ومراجعها من براهين على ولاية الفقيه، والتي يمكن تقسيمها إلى قسمين: أدلة عقلية كلامية، وأدلة نصية روائية.
1 ـ الأدلة العقلية والكلامية على ولاية الفقيه
بما أن المدرستين السنية والشيعية تختلفان في النظر للإمامة، وهل هي من أصول الدين أم من فروعه، فإن الخلاف أيضا امتد إلى مسألة [الحكومة الإلهية]، باعتبارها امتدادا للإمامة، أو نيابة عنها، أو تمثيلا لها، وسرى الخلاف أيضا إلى [ولاية الفقيه] باعتبارها تطبيقا من تطبيقات
__________
(1) المرجع السابق، ص 136.
(2) الكوثر في خطابات الإمام الخميني، ج 1، ص 104 ـ 105. يوم الجمعة 10/ 4/1964 م ضمن خطبة له في بيته.
إيران.. نظام وقيم (55)
الحكومة الإلهية.
وقد أشار الخميني إلى هذا البعد الكلامي في [ولاية الفقيه]؛ فقال: (حفظ النظام من الواجبات الأكيدة، واختلال أُمور المسلمين من الأُمور المبغوضة، ولا يقوم ذا ولا يُسدّ عن هذا إلّا بوالٍ وحكومة. مضافاً إلى أنّ حفظ ثغور المسلمين عن التهاجم، وبلادهم من غلبة المعتدين واجب عقلاً وشرعاً، ولا يمكن ذلك إلّا بتشكيل الحكومة. وكلّ ذلك من أوضح ما يحتاج إليه المسلمون، ولا يعقل ترك ذلك من الحكيم الصَّانع. فما هو دليل الإمامة، بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة وليّ الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف... فهل يعقل من حكمة الباري الحكيم إهمال الملَّة الإسلاميَّة وعدم تعيين تكليف لهم؟ أو رضى الحكيم بالهرج والمرج واختلال النظام؟) (1)
وأشار إليه من المعاصرين الفيلسوف والمفسر الكبير عبد الله جوادي آملي بقوله: (البحث الكلاميّ بشأن ولاية الفقيه، هو أنّ الله عالم بجميع ذرَّات العالم {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}، فهو يعلم أنّ للمعصومين من أوليائه حضوراً وظهوراً خلال مدَّة معيّنة، وسيغيب خاتم أوليائه مدّة مديدة، فهل أمر بشيء زمان الغيبة، أم ترك الأُمّة لحالها؟ وإن أمر بشيء، فهل ذلك الأمر نصب الفقيه الجامع شرائط الولاية وضرورة رجوع الناس إلى هذا الوليّ أم لا؟ إنّ موضوعا هكذا مسألة هو [فعل الله]، وبناءً عليه فالبرهان الّذي يثبت ولاية الفقيه مرتبط بعلم الكلام) (2)
بناء على هذا اعتمد المنظرون لولاية الفقيه على نوعين من الأدلة: أدلة عقلية يُعتمد عليها عادة في علم الكلام، وأدلة نصية تستعمل عادة في الفقه.
ونحب أن نزيل هنا الإشكال المرتبط بربط المسألة بعلم الكلام والعقيدة، وأن ذلك لا
__________
(1) البيع، الإمام الخميني: 461 و462.
(2) ولاية الفقيه والقيادة في الإسلام، عبد الله جوادي آملي: 143.
إيران.. نظام وقيم (56)
يعني تكفير المخالف، وإنما يعني أهمية المسألة، وضرورتها، وكونها لا ترتبط بأفعال المكلفين فقط، وإنما ترتبط أيضا بالعدالة الإلهية، ذلك أن الله الحكيم ـ كما ينص القائلون بولاية الفقيه ـ يستحيل عليه أن يترك خلقه للملوك والمستبدين، دون أن ينصب لهم أئمة، أو دون أن يشرع لهم الشرائع التي تنوب عن الأئمة في حال فقدهم.
وقد عبر عن هذا المعنى بعضهم؛ فقال: (إنّ المباحث الكلاميَّة لا تتَّصف بالدرجة نفسها من الأهمِّيَّة، فبعض المباحث الكلاميَّة جزء من مباحث أُصول الدِّين، مثل مبحث النبوّة والمعاد، أمّا مبحث الإمامة فهو بحث من أُصول المذهب. والمعاد من أُصول الدِّين. وجزئيَّات تلك المسألة وتفصيلاتها، رغم كونها كلاميَّة، ليست بأهمِّيَّة أصل المعاد. وبناءً على ذلك، فولاية الفقيه والحكومة في عصر الغيبة، رغم كونها مسألة كلاميَّة، هي أقلُّ مرتبة من مسألة الإمامة. ومن هنا، فهي ليست من أُصول المذهب) (1)
ونحب أن نشير هنا أيضا إلى أن ربط المسألة بالعقيدة وعلم الكلام ليست بدعة ابتدعها الخميني أو غيره من القائلين بولاية الفقيه، بل نجد هذا المعنى موجودا لدى قادة الحركات الإسلامية، وخصوصا سيد قطب، والذي اعتبر [الحكومة الإلهية] قضية عقدية، وليست مجرد فروع فقهية، بناء على ما ورد في النصوص من بيان خطورة التخلي عن حكم الله، كما قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]
بل إننا نجد المدرسة السلفية نفسها، والتي تنكر إنكارا شديدا على ولاية الفقيه، تضع في مسائل العقيدة قضايا فرعية جدا، هي أدنى بكثير منها، من أمثال المسح على الخفين، وتبرر ذلك بما ذكره ابن جبرين في شرحه على الطحاوية بقوله: (مرت بنا مسألة فرعية، وذكرنا أنها أدخلت في الأصول لأجل أن الخلاف فيها مع المخالفين في الأصول، وهي مسألة المسح على الخفين، وذلك لأن الرافضة أنكروا المسح على الخفين، وصاروا يمسحون على القدمين
__________
(1) الحكومة الإسلامية: دروس في الفكر السياسي الإسلامي، مركز نون، ص 182.
إيران.. نظام وقيم (57)
مكشوفتين، فتركوا سنة وارتكبوا بدعة، ولما كانوا مخالفين في العقيدة.. فقد ترتب على ذلك المخالفة في المسح على الخفين، فذكرت في العقائد) (1)
بل إن الأمر بلغ بالسلفية ما هو أخطر من ذلك حيث أدخلوا فروعا فقهية كثيرة مثل التوسل والاستغاثة وزيارة الأضرحة في أبواب العقائد، بل جعلوها من أصول العقائد، وكفروا على أساسها المخالفين، باعتبارهم وقعوا في الشرك الجلي.
وحتى لا نتيه في الخلاف في المسألة، لأنها في كلا الحالتين ـ عند القائلين بولاية الفقيه ـ لا علاقة لها بالكفر والإيمان، وإنما علاقتها بمدى أهمية المسألة، ذلك أنها عندما ترتبط بالعقيدة يكون الاهتمام بها أعظم من كونها مجرد فرع من الفروع الفقهية التي وقع فيها الخلاف.
وقد أشار إلى هذا الشيخ عبد الله جوادي آملي عندما ذكر أن الخميني استفاد من التدرّج الذي حصل سابقاً في علاقة الفقيه بالأمة، والتي ابتدأت بعلاقة المحدِّث بالمستمع، ثم تطورت إلى علاقة مرجع التقليد بالمقلدين إلى أن بدت تتضح معالم ولاية الفقيه في الأبحاث العلمية، ويذكر أن الخميني قام بإنجاز عظيم حين أخرج بحث ولاية الفقيه من دائرة الفقه إلى موقعه الأصلي في علم الكلام، وأن لذلك تأثيره الكبير في نجاح الثورة الإسلامية، ذلك أن عموم الناس يهتمون للعقائد أكثر من اهتمامهم للفروع الفقهية، وخاصة إذا وقع الخلاف فيها.
ونحب أن ننبه هنا أيضا إلى أن ربط المسألة بعلم الكلام لا يعني إعطاء الفقيه منزلة فوق منزلته، ذلك أن دور الفقيه لا يعدو النيابة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة في تنفيذ الأحكام الشرعية، كما نبه إلى ذلك الخميني بقوله: (عندما نثبت نفس الولاية التي كانت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والائمة للفقيه في عصر الغيبة، فلا يتوهمن أحد أن مقام الفقهاء نفس مقام الأئمة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن كلامنا هنا ليس عن المقام والمرتبة، وإنما عن الوظيفة، فالولاية ـ أي الحكومة وادارة البلاد وتنفيذ أحكام الشرع المقدس ـ هي وظيفة كبيرة ومهمة، لكنها لا تحدث للانسان مقاماً وشأناً
__________
(1) شرح الطحاوية لابن جبرين (57/ 3)
إيران.. نظام وقيم (58)
غير عادي، أو ترفعه عن مستوى الانسان العادي. وبعبارة اخرى فالولاية ـ التي هي محل البحث، أي الحكومة والادارة والتنفيذ ـ ليست امتيازاً، خلافا لما يتصوره الكثيرون، وانما هي وظيفة خطيرة) (1)
ثم وضح مرتبة ولاية الفقيه، وعلاقتها بالنبوة والإمامة؛ فقال: (ولاية الفقيه من الأمور الاعتبارية العقلائية وليس لها واقع سوى الجعل، وذلك كجعل القيم للصغار، فالقيم على الامة لا يختلف عن القيم على الصغار من ناحية الوظيفة والدور. وكأن الإمام قد عين شخصاً لأجل حضانة الحكومة أو منصب من المناصب. ففي هذه الموارد لا يعقل أن يكون هناك فرق بين الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام والفقيه) (2)
ولهذا يعبر عن الولي الفقيه بكونه نائبا للإمام، أو خليفة له، أو ممثلا في الأمة عنه، وهو ما يعطيه مكانة اجتماعية مهمة تجعل لأوامره من القداسة والأهمية ما ليس لغيرها، ومع ذلك لا ترقى به إلى مرتبة النبوة والإمامة.
بناء على هذا استعمل القائلون بولاية الفقيه، وخصوصا الخميني، الكثير من الأدلة العقلية لإقناع المخالفين، أو جماهير الناس، وأولها البداهة العقلية التي تبدو من خلال الإجابة على أمثال هذه التساؤلات: (هل يجوز تصدّي الفقيه للشؤون الاجتماعيَّة والأُمور العامَّة للمسلمين أو لا؟ وهل يجب على المسلمين طاعة أوامر الفقيه ونواهيه في الأُمور الاجتماعيَّة والسياسيَّة؟ وهل تجب عليهم مساعدة الفقيه العادل في ممارسة الولاية على أُمور المسلمين العامَّة؟ وهل يجوز للمسلمين أن يسلّطوا على أُمورهم غير الفقيه العادل؟ وهل تجب طاعة أحكام الوليّ الفقيه من قبل سائر الفقهاء؟) (3)
__________
(1) الحكومة الإسلامية، ص 47.
(2) المرجع السابق، ص 48.
(3) انظر: الحكومة الإسلامية: دروس في الفكر السياسي الإسلامي، مركز نون، ص 179.
إيران.. نظام وقيم (59)
فالإجابة البديهية على هذه التساؤلات هي أن الحكومة الإلهية تقتضي علما واسعا بالشريعة، وكيفية تنفيذها، ذلك أنه لا يمكن أن ينفذ الشريعة من لم يحط علما بفروعها وأصولها.
وذلك يقتضي أن يكون لذلك العالم الفقيه الكثير من السلطات التي تتيح له ذلك التطبيق، وكلما كانت السلطات أكثر كان التطبيق أفضل، وأحق باسم الشريعة.
فلو أن دور الفقيه لم يتعد الاستشارة، ولم يكن له دور التنفيذ، لم يتمكن من تنفيذ الكثير من أحكام الشريعة، ولذلك ستعطل باعتبار أنه لم يُستشر فيها، أو لم يكن له رأي حتى يدليه نحوها.
لكن إن كان للفقيه كل السلطات، بحيث يقدم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويخطط للدولة ومستقبلها في جميع المجالات بناء على علمه بأحكام الشريعة؛ فإن تطبيق الشريعة حينها سيكون في أوج كماله الممكن، وخاصة إن استعان بالمستشارين من الفقهاء وغيرهم، وفي المجالات المختلفة، وخاصة إذا علمنا أن مصطلح [الفقيه] الذي ترتبط به الولاية، لا يعني فقط العلم بالأحكام الشرعية، وإنما يعني علوما كثيرة سنتطرق لها عند الحديث عن الجانب التطبيقي من ولاية الفقيه.
ونحب أن نذكر هنا باختصار بعض النماذج عن الأدلة العقلية التي اسنتد إليها القائلون بولاية الفقيه، وهي كما يلي (1):
وينص على أن علة بعث الأنبياء والأئمة موجودة في نصب الولي؛ فالمتكلمون ذكروا أن الله تعالى رحمة بعباده نصب لهم من يحفظ البلاد، وينظم أمور المعاش والمعاد، وأوجب ذلك على نفسه؛ فكما وجب النصب عقلاً بالنسبة إلى النبي والإمام وجب النصب عقلا بالنسبة إلى
__________
(1) انظر في تقريرات هذه الأدلة: ولاية الفقيه مفهوماً ودليلاً، السيد أبو الحسن الموسوي الغريفي، مركز الصدرين للدراسات السياسية، والحكومة الإسلامية: دروس في الفكر السياسي الإسلامي، مركز نون.
إيران.. نظام وقيم (60)
القائم مقامهم، وهو الولي الفقيه، أو كما عبر عن ذلك الخميني بقوله: (لا يعقل ترك ذلك من الحكيم الصانع، فما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر (عجّل الله فرجه) ولا سيما مع طول الأمد) (1)
وقد قرر بعضهم هذا الدليل عن طريق المقدمات التالية (2):
1 ـ الإنسان كائن اجتماعيّ، ومن الطَّبيعيّ حدوث التَّنازع والاختلاف في كلّ مجتمع، ولذلك، فالمجتمع البشريّ بحاجة إلى التَّنظيم والانضباط.
2 ـ لا بدَّ من أن يضمن نظام الحياة الاجتماعيَّة البشريَّة كمال الإنسان وسعادته الفرديَّة والاجتماعيَّة.
3 ـ لا يتمُّ تنظيم الحياة الاجتماعيَّة، بما يجعلها خالية من النِّزاعات والاختلافات، وضامنة لسعادة الإنسان المعنويَّة والغائيَّة، إلّا من خلال القوانين المناسبة والمنفّذ الجدير.
4 ـ ليس للبشر قدرة على تنظيم الحياة الاجتماعيَّة المطلوبة من دون الله.
5 ـ لا بدَّ من أن يكون حامل القوانين الإلهيَّة وحافظها معصوماً لتصل إلى الإنسان بصورة كاملة، ومن دون نقص وتدخّل وتصرّف.
6 ـ تبيين الدِّين الكامل وإجراؤه يتطلّب نصب الوصيّ والإمام المعصوم.
7 ـ لا يؤمّن الهدف المذكور ـ أي الحياة الاجتماعيَّة المطلوبة والمنسجمة مع القوانين الشَّرعيَّة ـ في حالة فقدان النبيّ والإمام المعصوم، إلّا من طريق القائد العالم بالوحي والعامل به.
وبناء على هذا؛ فالمقدّمة السادسة، في هذا البرهان، مقيدة بلزوم نصب الإمام، والمقدّمة السَّابعة تثبت ضرورة نصب القائد في زمان غيبة الإمام.
__________
(1) كتاب البيع، الخميني، ج 2، ص 460..
(2) الحكومة الإسلامية: دروس في الفكر السياسي الإسلامي، مركز نون، ص 212.
إيران.. نظام وقيم (61)
وقد عبر عن الصُّورة الحاصلة من اندماج مقدِّمتي هذا البرهان الشيخ جوادي آملي بقوله: (إنّ حياة الإنسان الاجتماعيَّة وكماله الفرديّ والمعنويّ تتطلّب، من جانب، قانوناً إلهيّاً في الأبعاد الفرديَّة والاجتماعيَّة، مصوناً ومحفوظاً من الضُّعف والنَّقص والخطأ والنسيان، وتحتاج، من جانب آخر، إلى حكومة دينيَّة وحاكم عالم وعادل لتحقُّق وإجراء ذلك القانون الكامل. والحياة الإنسانيَّة لا تتحقَّق، في بعدها الفرديّ والاجتماعيّ، بدونهما أو بأحدهما، وفقدانهما في البعد الاجتماعيّ يوجب الهرج والمرج وفساد المجتمع الّذي لا يقرّه أيّ شخص عاقل. وهذا البرهان الّذي هو دليل عقليّ، ولا يختصُّ بأرض وزمن معيَّنين، يشمل زمان الأنبياء عليهم السلام. ولما كانت نتيجته ضرورة النبوّة، فإنَّه يشمل، أيضاً، ما بعد نبوّة الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، ما يعني أنَّه يفضي إلى ضرورة الإمامة، وكذلك إلى عصر غيبة الإمام المعصوم وحاصله ضرورة ولاية الفقيه) (1)
وهو متكون من خمس مقدمات:
المقدمة الأولى: يلزم في كل مجتمع أن يكون فيه قانون وحكومة تحكمه، وإلا لساد الهرج والمرج، وهذا أمر وجداني مؤيد بالنصوص المقدسة، ومن أمثال قول الإمام علي في جواب الخوارج عندما سمع قولهم: (لا حكم إلا لله)، حيث قال: (كلمة حق يراد بها باطل، نعم، إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون: (لا إمرة إلا لله)، وإنه لا بد للناس من أمير براً كان أو فاجر..) (2)
المقدمة الثانية: أن المجتمع الإسلامي فيه قانون إلهي، يعتقد المسلمون بصحته وكماله، وهو يوجب العمل والحكم على طبقه، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
__________
(1) ولاية الفقيه: 151 و152..
(2) نهج البلاغة / الخطبة 40.
إيران.. نظام وقيم (62)
هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]
المقدمة الثالثة: قوانين كل بلد يلزم أن تكون منسجمة فيما بينها، وصادرة من منشأ واحد، حتى لا يحصل فيها التعارض والتزاحم والخلل، والأمر كذلك في قوانين الحكومة الإسلامية، حيث يجب أن تكون صادرة من اجتهاد فقهي واحد، أي جميع قوانين البلاد تكون مطابقة لفتوى فقيه معين، وهذه الوظيفة الأولى للولي الفقيه.
المقدمة الرابعة: في كل إدارة يلزم أن يكون المدير واحدا، ومركزه على رأس الهرم الإداري في إصدار الأوامر حتى لا يؤدي التعدد إلى حصول النزاع والتخاصم بين المدراء، ويؤدي إلى ضعف عملهم أو عدم انسجامه وتوحده في نظام عام، وكذلك الإدارة السياسية الإسلامية يلزم أن يكون الحاكم شخصا واحدا.
المقدمة الخامسة: اتخاذ القرار السياسي لابد أن يكون صادرا من شخص الحاكم بحسب تشخيصه للمشكلة الموجودة في الواقع الخارجي وعلمه بالقانون، فيحدد القرار المناسب لرفع المشكلة على وفق القانون، حاله حال الطبيب الذي يشخص المرض، ويعطي العلاج المناسب، ولا يمكن الفصل بين الطبيب المشخص للمرض وبين المعطي للعلاج، وكذلك الحال في الحاكم الإسلامي لابد أن يكون فقيها عالم بالقانون الإسلامي على نحو يستطيع أن يستنبط منه الحكم المناسب لمشكلة الواقع السياسي الخارجي، وهذه الوظيفة الثانية للولي الفقيه.
والنتيجة التي تدل عليها هذه المقدمات هي أن وظيفة الحاكم الإسلامي تتلخص في أمرين:
التقنين: أي تقنين قوانين الحكومة الإسلامية واستنباطها من مصادرها الشرعية بحيث تكون جميع أحكام الدولة مطابقة لفتواه واجتهاده الشرعي الذي توصل أليه.
التطبيق: أي ممارسة السياسة بنفسه أو الإشراف عليها على نحو يطابق مبادئ الإسلام ويحول دون مخالفة أحكام الإسلام بحسب فتواه واجتهاده الشرعي الذي توصل إليه.
إيران.. نظام وقيم (63)
وهاتان الوظيفتان لا تمنعان من تفكيك القوى إلى السلطات الثلاثة، بحيث يكون دوره دور الإشراف، وصاحب القرار النهائي، وكل قرار سياسي يكون على طبق فتواه واجتهاده الشرعي الذي توصل إليه.
وهو دليل عقلي مركَّب، يتكوّن من بعض المقدِّمات الشَّرعيَّة، بالإضافة للأدلة العقلية، وقد ذكره العلامة الكبير السيد حسين البروجردي (1875 - 1961)، بالاستناد لهذه المقدِّمات العقليَّة والنقليَّة (1):
1 ـ يتصدّى الحاكم لتلبية الحاجات الّتي يتوقَّف عليها حفظ نظام المجتمع.
2 ـ التفت الإسلام إلى هذه الحاجات، وشرّع لها الأحكام اللازمة، وطالب حاكم المسلمين بإجرائها.
3 ـ كان قائد المسلمين وزعيمهم، في صدر الإسلام، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بعده الأئمّة الأطهار، وكان من وظائفهم سياسة شؤون المجتمع وإدارتها.
4 ـ القضايا السِّياسيَّة وإدارة شؤون المجتمع لا تقتصر على ذلك الزمان، فهي من حاجات المسلمين في العصور والدُّهور جميعها.
5 ـ لم يكن من السَّهل على المسلمين، الوصول إلى الأئمّة في حياتهم، ولذلك، فإنّنا نوقن بأنّهم نصّبوا بعض الأفراد لإدارة هذه الأُمور، ونحن لا نحتمل ـ في عصر الغيبة ـ أن يكون الأئمّة قد نهوا عن الرُّجوع إلى الطَّواغيت وأعوانهم، وفي الوقت نفسه أهملوا السِّياسة، ولم ينصّبوا بعض الأفراد لتدبير الأُمور السِّياسيَّة، ورفع الخصومات وسائر المتطلّبات الاجتماعيَّة المهمَّة.
6 ـ بالنَّظر إلى لزوم نصب الوليّ، من جانب الأئمّة، لا بدَّ من إحراز تعيين الفقيه العادل
__________
(1) ولاية الفقيه: 167 و168..
إيران.. نظام وقيم (64)
لإحراز هذا المنصب، لأنّه لا أحد يعتقد بنصب غير الفقيه لهذا المنصب، فليس هناك سوى احتمالين:
الأوّل: أنّ الأئمّة لم ينصّبوا أحداً، وإنّما نهوا عن الرُّجوع إلى الطَّاغوت والسُّلطان الجائر فقط.
والثاني: إنّهم نصّبوا الفقيه العادل لهذه المسؤوليَّة.
ويتّضح من المقدمات الأربع السابقة بطلان الاحتمال الأوّل. وعليه، قطعاً، تم نصب الفقيه العادل.
وقد قرّره الشيخ جوادي آملي على حسب المقدمات التالية (1):
1.صلاحيَّة الدَّين الإسلاميّ وديمومته إلى يوم القيامة من المسلّمات والواضحات.
2. تعطيل الإسلام، في عصر الغيبة، مخالف لخلود الإسلام في جميع الشؤون العقديَّة والأخلاقيَّة والعمليَّة.
3. إقامة النِّظام الإسلاميّ وإجراء أحكامه وحدوده والدفاع عن كيان الدِّين وحفظه من الطامعين أمورٌ لا يشكّ في ضرورتها.
4. الله تعالى بحكمته ولطفه بعباده لا يرضى بهتك الحرمات الشَّرعيَّة وأعراض الناس وضلالهم وتعطيل الإسلام.
5. دراسة الأحكام السِّياسيَّة ـ الاجتماعيَّة للإسلام تفيد استحالة تحقّقها من دون زعامة الفقيه الجامع للشرائط.
وبناء على هذه المقدمات، فإن العقل يحكم، على هذا الأساس، أنّ الله تبارك وتعالى لم يترك الإسلام والمسلمين في عصر الغيبة من دون زعامة.
__________
(1) ولاية الفقيه: 167 و168..
إيران.. نظام وقيم (65)
2 ـ الأدلة القرآنية والروائية على ولاية الفقيه
من أكبر الأدلة على كون [ولاية الفقيه] مسألة من المسائل المطروحة قديما، وأنها ليست بدعة ابتدعها الخميني، ولا تصحيحا للتشيع، أو خروجا عنه، أو تأثرا بالمدرسة السنية، أو الحركات الإسلامية، كما يزعم بعض الباحثين من المدرسة السنية والشيعية، هو تلك النصوص القرآنية والروائية التي تتحدث عن السلطات التي يمكن أن يتولاها الفقيه، باعتباره واسطة بين الله وعباده في تعريف الأحكام الشرعية، وفي تولي تنفيذها.
وقد ذكر تلك النصوص أكثر الفقهاء القدامى (1)، حيث نجد الحديث عن مسائل ولاية الفقيه كفتاوى من غير إشارة الى دليل عند الشيخ المفيد (المتوفى 413 هـ)، فقد صرح بها في المقنعة (2)، والطوسي في النهاية (3)، ومحمد بن إدريس الحلي في السرائر (4)، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان (5)، والمحقق الأول في شرائع الإسلام (6)، وغيرهم.
كما نجدها مذكورة ـ مع الأدلة المختصرة ـ عند العلامة الحلي في المختلف والتذكرة، وباقي كتبه (7)، ونصير الدين الطوسي، والشهيد الأول في الدروس، والشهيد الثاني في المسالك واللمعة، كما نقل الإجماع عليها العديد من الفقهاء منهم المحقق الكركي في رسالة صلاة الجمعة (8)، وغيرهم.
__________
(1) انظر: ولاية الفقيه مفهوماً ودليلاً، السيد أبو الحسن الموسوي الغريفي، وقد استفدنا منه الاقتباسات التي ذكرت ولاية الفقيه في الكتب الفقهية.
(2) المقنعة: 675، 163، 811، 252، 270، 152، 442، 678، 721،774، 740 وغيرها.
(3) النهاية: 185، 192،700، 704، 706..
(4) السرائر، ج 3، ص 538 و539.
(5) مجمع الفائدة والبرهان: 12: 28..
(6) الحلي، جعفر بن حسن، شرائع الإسلام، مختلف الشيعة: 4: 478. تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 452.
(7) محمد علي المدرس، ج 2، ص 177. والرضوي، محمد تقي المدرس، أحوال وآثار خواجة نصير الدين الطوسي.
(8) رسائل المحقق الكركي (المجموعة الأولى): 142.
إيران.. نظام وقيم (66)
كما نجدها ـ مع الدليل المفصل ـ عند الشيخ النراقي، الذي بحث فيها بحثا مفصلاً في عوائد الأيام (1)، ومثله المير عبد الفتاح المراغي في كتاب العناوين (2)، والسيد محمد آل بحر العلوم في كتاب بلغة الفقيه (3)، وصاحب المستند، وصاحب الجواهر الذي قال: (بل هو المشهور، بل لا أجد فيه خلافاً، ثم أخذ في الاستدلال بنصوص روايات كثيرة، وأخيراً قال: فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم ـ يقصد أئمة أهل البيت ـ أمراً) (4)، وختم قوله هذا بقوله: (هذا حكم أساطين المذهب)، والميرزا محمد حسين النائيني في كتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملة (5)، وغيرهم.
وفي الأخير تحولت إلى مرحلة التطبيق العملي، وما تبعه من التأصيلات النظرية، والتحقيقات العلمية المرتبطة بها، والتي حولتها إلى حقيقة بديهية واضحة.
وقد اعتبر بعضهم هذه الموارد نوعا من الإجماع الفقهي عليها، كما عبر عن ذلك العلامة محمد هادي معرفة بقوله: (كانت هي مورد اتفاق الفقهاء فيما سلف حتى عصر صاحب الجواهر حيث بدت بعده وساوس المتشككين، وراق لبعضهم إنكارها رأساً، إنكار أمر كان قد أحكمه أساطين المذهب) (6)
وهذا لا يعني عدم ورود الخلاف في المسألة؛ فقد صرح بالخلاف فيها الشيخ الأنصاري الذي حصر ولاية الفقيه في التصدّي للأمور الحسبية فقط، ومثله السيّد الخوئي الذي أنكر مطلق الولاية للفقيه حتى ولايته في شؤون القضاء، بل أثبت نفوذ قضائه، وحجّية فتواه،
__________
(1) عوائد الأيام: 536..
(2) العناوين 2: 557، العنوان 73، 74، 75.
(3) بلغة الفقيه. رسالة في الولايات.
(4) جواهر الكلام - ج 21، ص 394 ـ 397.
(5) النائيني، محمد حسين، تنبيه الأمة وتنزيه الملة، ص 41.
(6) آية الله محمد هادي معرفة، ولاية الفقيه أبعادها وحدودها، ص 2...
إيران.. نظام وقيم (67)
والتصرف في أموال القصّر أو غير ذلك لا من باب الولاية، بل من باب الأمور الحسبية.
لكن السيّد الخوئي نفسه، وفي أواخر عمره، تصرف بما تقتضيه ولاية الفقيه العامة، حيث أنه قام في أيام الانتفاضة الشعبانية بتنصيب عشرة من تلامذته الأكفاء لقيادة العراق في تلك الظروف، وكان ذلك نوعا من صلاحيات الولي الفقيه.
وهذا الموقف إما أن يحمل على تراجع السيد الخوئي عن موقفه القديم، والقول بولاية الفقيه، كما فعل تلميذه السيد علي السيستاني بعد احتلال العراق، وصرح بعد ذلك بقبولها، أو أنه وسّع الحسبة، كما برر ذلك بعضهم بقوله: (لا يتصور أن مفهوم الحسبة ضيق جداً، بل يشمل كل ما كان للمعصوم في إدارة شؤون الأمة الإسلامية)، وهذا بعينه القول بولاية الفقيه العامة.
بناء على هذا نجد القائلين بولاية الفقيه يستدلون لها بالكثير من الأدلة النصية، والتي يمكن تصنيفها إلى ما يلي:
وقد جمعها العلامة الشيخ أحمد أزري قمّي في كتابه (ولاية الفقيه من منظار القرآن الكريم)، ومن الآيات التي أوردها للدلالة عليها:
1 ـ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، والتي علق عليها الخميني بقوله: (إن جعل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم رئيساً وعدَّ طاعته واجبة ليس المراد منه أنه إذا ذكر الرسول حكماً فيجب علينا القبول والعمل به، فالعمل بالأحكام إطاعة لله عز وجل، وكل الاعمال العبادية وغير العبادية التابعة للأحكام هي إطاعة لله، واتباع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليس عملا بالأحكام، وإنما هو أمر آخر، أجل طاعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هي بمعنى من المعاني طاعة الله، لأن الله قد أمر أن نطيع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أمر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي هو رئيس المجتمع الإسلامي وقائده ـ أمر الجميع بلزوم الذهاب إلى الحرب مع
إيران.. نظام وقيم (68)
جيش أسامة؛ فلا يحق لأحد أن يتخلف، وهذا ليس أمر الله، وإنما هو أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فالله تعالى قد أوكل الحكومة والقيادة له صلى الله عليه وآله وسلم ويقوم هو صلى الله عليه وآله وسلم وفقاً للمصلحة بتجييش الجيوش، وتعيين القضاة والحكام والولاة، أو يعزلهم)
وبناء على ما ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا). قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: (اتباع السلطان؛ فاذا فعلوا ذلك، فاحذروهم على دينكم) (1)، فإن النص في الآية ـ كما يذكر الخميني ـ يتعلق بهم أيضا، حيث قال: (وبناءً على هذا فالفقهاء أمناء الرسل، تعني أن الفقهاء العدول مكلفون ومأمورون بالقيام بجميع الأمور التي كانت في عهدة الأنبياء، ولئن كانت العدالة من الأمانة، فمن الممكن أن يكون الانسان أميناً في الأمور المالية، دون أن يكون عادلاً، إلا أن المراد من أمناء الرسل هو أولئك الذين لا يتقاعسون عن أداء أي تكليف، والذين يكونون طاهرين ومنزهين) (2)
وقد ورد في هذا روايات كثيرة في المصادر السنية والشيعية تعتبر الفقهاء والعلماء بالدين من أولي الأمر، كما روي عن الإمام علي قوله: (أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه)، وقال: (ولا يحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحق) (3)، وقال: (إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به)، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35]) (4)
وهاتان الآيتان الكريمتان واضحتان في الدلالة على ولاية الفقيه، حيث أنهما تنصان على
__________
(1) اصول الكافي، ج 1، ص 58،.
(2) الحكومة الإسلامية، ص 65.
(3) نهج البلاغة، الخطبة رقم 163..
(4) مجمع البيان، ج 2، ص 458..
إيران.. نظام وقيم (69)
أن الاتباع لا يكون إلا للمهتدين، ولا يكون المرء مهتديا ما لم يكن له علم مفصل بمواضع الهداية، وذلك ليس إلا للفقيه العالم.
2 ـ قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]، فهذه الآية الكريمة تصرح بالدعوة للرجوع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لأولي الأمر، وهي تذكر من صفاتهم القدرة على استنباط حكم الله في المسألة، وذلك لا يكون إلا للفقيه العالم.
وقد ذكر هذا المعنى الكثير من فقهاء المدرسة السنية، ومنهم الإمام الجويني، الذي نص على هذا بقوله: (إذا كان صاحب الأمر مجتهداً فهو المتبوع، الذي يستتبع الكافة في اجتهاده ولا يتبع، أما إذا كان سلطان الزمان لا يبلغ مبلغ الاجتهاد فالمتبوعون العلماء، والسلطان نجدتهم وشوكتهم، والسلطان مع العالم كملك في زمان نبي، مأمور بالانتهاء إلى ما ينهيه إليه النبي) (1)
ويصرح في موضع آخر من كتابه على ذلك بقوله: (إذا شغر الزمان عن الإمام، وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمر موكول إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد، وهم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقاً، وذو النجدة من الحكام مأمورون بارتسام مراسمهم، واقتفاء أثرهم، والانكفاف عن مزاجرهم) (2)
بل إنه ينص على كيفية تطبيق ولاية الفقيه؛ فيقول: (وإن كثُر العلماء في الناحية فالمتبع
__________
(1) الجويني، غياث الأمم، ص 380.
(2) المرجع السابق، (ص 280).
إيران.. نظام وقيم (70)
أعلمهم، وإن فرض استواؤهم في العلم، فإصدار الرأي عن جميعهم) (1)
ومثله قال الفخر الرازي: (لكن المقصود بأولي الأمر في الآية هم العلماء، وأعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوي العلماء، والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء، فكان حمل لفظ أولي الأمر عليهم أولى) (2)
3 ـ قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، حيث حصرت الآية الكريمة الحكم لثلاث أصناف من الناس: وهم (النبيون) والمراد بهم الأنبياء ورسل الله تعالى، و(الربانيون) وهم ورثتهم من الأئمة، و(الأحبار) وهم ورثة الأئمة من العلماء، فأثبتت هذه الآية الكريمة الولاية للعلماء في حال غياب الأنبياء والأئمة.
وهي كثيرة جدا، نذكر باختصار بعضها، مع بيان وجوه استدلال الخميني بها، على حسب ما ذكره في كتابه [الحكومة الإسلامية]:
وهي ما روي عن عمر بن حنظلة، أنه سأل الإمام الصادق عن رجلين حصلت بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة؛ فقال له الإمام الصادق: من تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يُحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يُكفر به، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60]، فقال له عمر: فكيف
__________
(1) المرجع السابق، (ص 391)
(2) مفاتيح الغيب: (5/ 150)
إيران.. نظام وقيم (71)
يصنعان؟ فأجابه الإمام الصادق: (ينظران من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا؛ فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً؛ فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنما استخف بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حد الشرك بالله) (1)
وقد اهتم الخميني بهذه الرواية، وأشار إليها كثيرا عند استدلالاته على ولاية الفقيه، وقد قال عنها: (هذه الرواية من الواضحات، وليس ثمة وسوسة في سندها ودلالتها، فلا ترديد في أن الإمام الصادق قد عين الفقهاء لأجل الحكومة والقضاء، وعلى جميع المسلمين طاعة أمر الإمام) (2)
ومع كون الرواية واضحة في الدعوة لتحكيم الفقهاء والعلماء، بدل القضاة والسلاطين، إلا أننا سنقتبس بعض ما ذكره الخميني من وجوه الاستدلال بها (3):
1 ـ كما يتحصل من صدر وذيل هذه الرواية، ومن استشهاد الإمام الصادق بالآية الشريفة، فإن موضوع السؤال كان حكماً عاماً، كما أن الإمام قد بين التكليف العام، وقد ذكرت الرجوع في الدعاوى الحقوقية والجزائية إلى القضاة، وإلى المسؤولين التنفيذيين والحكوميين بشكل عام، فالرجوع إلى القضاة يكون لأجل اثبات الحق، وفصل الخصومات، وتعيين العقوبة، والرجوع إلى السلطة لأجل إلزام الطرف الآخر في الدعوى بقبول النتيجة، أو لتنفيذ الحكم الحقوقي أو الجزائي.
2 ـ في هذه الرواية يُسأل الإمام عن جواز الرجوع إلى سلاطين الجور وقضاتهم، ويجيب الإمام بالنهي عن الرجوع إلى دوائر الحكومات غير الشرعية، سواء التنفيذية أو القضائية،
__________
(1) الكافي، ج 7، ص 412، رقم 5..
(2) الحكومة الإسلامية، ص 88.
(3) المرجع السابق، ص 86.
إيران.. نظام وقيم (72)
ويقول بأنه على الشعب المسلم ألا يرجع في أموره إلى سلاطين وحكام الجور والقضاة العاملين لديهم، حتى لو كان حق الشخص المراجع ثابتاً، ويريد الرجوع لإحقاقه وتحصيله.. ومن رجع إليهم في موارد كهذه فقد رجع إلى الطاغوت، أي السلطات غير الشرعية، وما يأخذه من حق بواسطتهم فإنما يأخذه سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، فهو حرام، ولا حق له في التصرف فيه.
3 ـ بين الخميني بعض الأسرار الثورية التي يحملها قول الإمام الصادق؛ فقال: (هذا حكم سياسي للإسلام، حكم يبعث على امتناع المسلمين عن الرجوع إلى السلطات غير الشرعية والقضاة التابعين لهم، وذلك لكي تتوقف الأجهزة الحكومية الجائرة وغير الإسلامية، وتتعطل هذه المحاكم الطويلة العريضة التي لا يعود للناس منها سوى التعب والمشقة، وتفتح الطريق إلى أئمة الهدى وإلى الأشخاص الموكل اليهم حق الحكم والقضاة من قبلهم، والهدف الأساسي هو عدم السماح للسلاطين والقضاة التابعين لهم بأن يكونوا مرجعاً للأمور، وبأن يتبعهم الناس في ذلك. فقد أعلن الأئمة للأمة الإسلامية أن هؤلاء ليسوا بمرجع، والله تعالى أمر الناس بالكفر بهم وعصيانهم، والرجوع اليهم يتنافى مع الكفر بهم، فإذا كنت كافراً بهم وتراهم ظالمين وغير لائقين، فيجب ألا ترجع إليهم) (1)
4 ـ بناء على هذا، وبناء على حاجة الناس للقضاة والحكام؛ فإن قول الإمام الصادق، ليس سوى دعوة لتحقيق ولاية الفقيه في الواقع، كما ينص الخميني على ذلك بقوله: (بناءاً على هذا، فما هو تكليف الأمة؟ وما الذي يجب عليهم عمله في الحوادث والمنازعات؟ وإلى من يرجعون؟.. فالإمام لم يترك شيئاً مبهماً ليقول البعض إذن فرواة الحديث هم المرجع والحاكم، بل ذكر كل الجهات وقيد (الرواة) بكونهم ممن نظر في الحلال والحرام وفقا للقواعد، وله معرفة بالأحكام، ويمتلك الموازين لتمييز الروايات الصادرة على خلاف الواقع.. ومن الواضح أن
__________
(1) المرجع السابق، ص 87.
إيران.. نظام وقيم (73)
معرفة الأحكام ومعرفة الحديث أمر آخر غير نقل الحديث) (1)
5 ـ يقول تعليقا على قول الإمام الصادق: (فإني قد جعلته عليكم حاكماً): (أي منصباً من قبلي للحكم والامارة، وللقضاء بين المسلمين. ولا يحق للمسلمين أن يرجعوا إلى غيره، وبناءاً عليه، فلو اعتدى أحدهم على مال لكم، فالمرجع في الشكوى هي السلطة التي عينها الإمام، وإذا تنازعتم مع أحد على دَين، واحتجتم إلى اثبات ذلك، فالمرجع هو ذلك القاضي الذي عينه أيضاً، ولا حق لكم في الرجوع إلى غيره. وهذه وظيفة جميع المسلمين، وليس تكليفاً خاصاً بعمر بن حنظلة حين يواجه تلك المشكلة، فأمر الإمام هذا عام وكلي، فكما كان أمير المؤمنين في زمان حكومته يعين الحكام والولاة والقضاة، وكان على جميع المسلمين أن يطيعوهم، فالإمام الصادق أيضاً بما أنه ولي الامر المطلق، وله الولاية على جميع العلماء والفقهاء والناس، فهو يستطيع أن يعيّن الحكام والقضاة لزمان حياته، ولما بعد مماته. وقد قام بذلك وجعل هذا المنصب للفقهاء، وإنما قال [حاكماً] لكيلا يتوهم البعض أن الأمر مختص بالمسائل القضائية، ولا يشمل سائر أمور الحكم والدولة) (2)
وهي ما روي عن سالم بن مكرم المكنى بأبي خديجة (3)، أنه قال: (بعثني أبو عبد الله إلى أحد أصحابنا، فقال: قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء، أن تُحاكموا إلى أحدٍ من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يُخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر) (4)
__________
(1) المرجع السابق، ص 87.
(2) المرجع السابق، ص 88.
(3) كان من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم وروى عن كليهما، وثَّقه ابن قولويه، وعليّ بن فضّال، وعبَّر عنه الرجاليّ الكبير النجاشيّ بالثقة.
(4) وسائل الشيعة، ج 18، ص 100.
إيران.. نظام وقيم (74)
وقد ذكرها الخميني في كتابه [الحكومة الإسلامية]، وذكر وجوه الاستدلال بها بتفصيل نختصره فيما يلي (1):
1. المراد من التداري المذكور في الرواية هو الاختلاف الحقوقي؛ فالمعنى أن لا ترجعوا إلى هؤلاء الفساق في الاختلافات الحقوقية والمنازعات والدعاوي. ومن قوله بعد ذلك: (إني قد جعلته عليكم قاضياً) يتضح أن المقصود من [الفساق] هم القضاة المعينون من قبل سلاطين ذلك الوقت، والحكام غير الشرعيين. ويقول في ذيل الحديث: (وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر)، أي لا ترجعوا في الأمور ذات العلاقة بالسلطة التنفيذية هؤلاء الحكام غير الشرعيين.
2. أن السلطان الجائر هو كل حاكم جائر وغير شرعي بشكل عام، ويشمل جميع الحكام غير الإسلاميين، والسلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية جميعاً، لكن بالالتفات إلى أنه قد نهى قبل ذلك عن الرجوع إلى قضاة الجور، يتضح أن المراد بهذا النهي فريق آخر، وهم السلطة التنفيذية.
3 ـ أن قوله: (إيّاكم أن يُخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر) ليست تكراراً للكلام السابق، أي النهي عن الرجوع إلى الفساق، وذلك لأنه قد نهى أولاً عن الرجوع إلى القاضي الفاسق في الأمور المتعلقة به من التحقيق، وإقامة البيّنة، وأمثال ذلك، وأوضح وظيفة اتباع القاضي الذي عينه، ثم منع بعد ذلك من الرجوع إلى السلاطين أيضاً، مما يدل على أن باب القضاء غير باب الرجوع إلى السلاطين، وأنهما صنفان. وفي رواية عمر بن حنظلة حيث نهى عن التحاكم إلى السلاطين والقضاة أشار إلى كلا الصنفين، غاية الأمر أنه هنا إنما عين القاضي فقط، بينما في رواية عمر بن حنظلة عين الحاكم المنفذ والقاضي كلاهما.
4 ـ أن الإمام الصادق جعل منصب القضاء في حياته للفقهاء ـ وفقاً لهذه الرواية ـ بينما
__________
(1) الحكومة الإسلامية، ص 89.
إيران.. نظام وقيم (75)
جعل لهم منصب القضاء والرئاسة وفقاً لرواية عمر بن حنظلة.
5 ـ لا يمكن لأحد أن يقول باعتزال الفقهاء عن هذه المناصب بموت الإمام؛ ففي انظمة الدنيا جميعا لا تلغي المناصب والمراكز العسكرية والتنظيمية بمجرد وفاة رئيس الجمهورية أو السلطان، أو تبديل الأوضاع وتغيير النظام.
6 ـ بناء على ما سبق؛ فإن مناصب العلماء باقية مستمرة، وكذلك مقام الرئاسة والقضاء الذي عيَّنه الائمة لفقهاء الإسلام، فهو مستمر وباق؛ فالإمام يعرف أنه في حكومات الدنيا تبقى المناصب مستمرة حتى لو مات الرئيس؛ فلو كان يريد سلب حق الرئاسة والقضاء من الفقهاء بعد وفاته لكان يجب أن يعلن أن ذلك المنصب للفقهاء إنما كان فترة حياته فحسب، وأنهم بعد رحيله معزولون؛ فظهر إذن أن الفقهاء منصوبون من قبل الإمام لمنصب الحكومة والقضاء، وأن هذا المنصب لهم باق دائماً، واحتمال كون الإمام المتأخر قد نقض هذا الحكم، وعزلهم عن ذلك المنصب، احتمال باطل. إذ عندما ينهى الإمام عن الرجوع إلى سلاطين الجور وقضاتهم، ويقول أن الرجوع اليهم رجوع إلى الطاغوت، ويتمسك بالآية الشريفة التي تأمر بالكفر بالطاغوت، ومن ثمَّ ينصب (الفقهاء) قضاة وحكاماً للناس، فلو ألغي الإمام المتأخر هذا الحكم، ولم ينصب حاكماً وقاضياً آخر، فما هو تكليف المسلمين؟ ولمن يجب عليهم الرجوع في الاختلافات والمنازعات؟ هل يرجعون إلى الفساق والظلمة، والذي هو رجوع إلى الطاغوت، ومخالف لأمر الله؟ أم يبقون دون مرجع وملجأ، وتعمّ الفوضى؟ وليفعل كل امرئ ما يريد من اكل حق، أو سرقة أو سواها؟
ما ورد في الحديث المعروف المتفق على روايته عند السنة والشيعة، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في فضل العلماء وطلبة العلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه علما، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به. وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الارض،
إيران.. نظام وقيم (76)
حتى الحوت في البحر. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورَّثوا العلم. فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر) (1)
والحديث ـ كما يذكر الخميني ـ له دلالة واضحة على [ولاية الفقيه]، ولذلك استدل به النراقي لإثبات ولاية الفقيه (2)، ومحل الشاهد منه ـ كما يذكر ـ هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، ومن وجوه الاستدلال التي ذكرها (3):
1 ـ أن المقصود من العلماء هم علماء الأمة، وليس الأئمة، إذ أن نمط المناقب الواردة للائمة يختلف عما ورد في الحديث؛ فهذه العبارات من قبيل: (إن الأنبياء انما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ منه أخذ وافر) لا تصح لتعريف الأئمة.
2 ـ أن الإشكال الذي يذكر أن الأنبياء ـ على الرغم من كونهم يتلقّون العلم بواسطة الوحي ـ إلا أن ذلك لا يقتضي الولاية لهم على الناس والمؤمنين، غير صحيح ذلك أن (الميزان في فهم الروايات وظواهر الالفاظ هو العرف العام والفهم المتعارف للناس، لا ما تؤدي اليه التجزئة والتحليل العلمي، ونحن أيضاً نتبع فهم العرف. فلو أراد الفقيه أن يدخل التدقيق العلمي في فهم الروايات لتوقف في كثير من المسائل)، وبناء على ذلك (يمكن القول بأن الأحكام التي تركها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته هي نوع من الميراث ـ وان كانت لا تسمى ميراثا بحسب الاصطلاح ـ والذين يأخذون هذه الأحكام هم ورثة النبي)
3 ـ أن الولاية والامارة من الأمور الاعتبارية والعقلائية، وفي هذه الأمور يجب أن نرجع إلى العقلاء لنرى هل يعتبرون انتقال الولاية والحكومة من شخص إلى شخص آخر وراثة ام
__________
(1) أصول الكافي، ج 1، ص 42، وقد روي الحديث في المصادر السنية التالية: مسند أحمد (5/ 196)، والدارمي (340)، وأبو داود (3641)، وابن ماجة (223)
(2) عوائد الايام، 186.
(3) الحكومة الإسلامية، ص 93.
إيران.. نظام وقيم (77)
لا؟ فلو سئل عقلاء الدنيا مثلا عمن قد ورث السلطة الفلانية، فهل يجيبون بأن هذا المنصب لا يقبل الوراثة؟ أم يقولون أن فلان مثلا هو وريث العرش والتاج؟ وأساساً فإن هذه الجملة [وريث التاج والعرش]، من العبارات المعروفة. فلاشك في أن الولاية في نظر العقلاء قابلة للانتقال، كمثل الإرث من الأموال التي تنتقل من شخص إلى آخر.
4 ـ ومن يلاحظ الآية الشريفة {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، والرواية التي تقول: (العلماء ورثة الأنبياء) يلتفت إلى أن المراد هي نفس هذه الأمور الاعتبارية التي يرى قابلية انتقالها عقلا.
5 ـ بناءاً على هذا، لو كنّا نحن وجملة العلماء ورثة الأنبياء فقط، وصرفنا النظر عن صدر الرواية وذيلها، فالظاهر أن جميع شؤون النبي صلى الله عليه وآله وسلم القابلة للانتقال بعد وفاته ـ ومنها الامارة على الناس الثابتة للائمة من بعده ـ ثابتة للفقهاء أيضاً. ماعدا الشؤون التي تخرج بدليل آخر. ونحن نخرجها بمقدار ما يدل الدليل.
وهي خطبة للامام الحسين في منى حول وظائف الفقيه ومسؤولياته، وأسباب جهاده وثورته الداخلية ضد الحكم الأموي، وقد اهتم بها الخميني كثيرا، وفصل في شرحها، وذكر في مقدمته لها أنه (يتحصل منها أمران مهمان: الأول: [ولاية الفقيه] والثاني: أنه يجب على الفقهاء أن يفضحوا الحكام الجائرين، ويوقظوا الناس من خلال جهادهم وامرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، حتى تقوم الجماهير الواعية من خلال نهضتها الشاملة باسقاط الحكومة الجائرة، واقامة الحكومة الإسلامية) (1)
وسنذكر هنا الرواية بطولها، ثم نذكر بعض تعليقات الخميني عليها، فقد ورد فيها: (اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ
__________
(1) المرجع السابق، ص 103.
إيران.. نظام وقيم (78)
الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]، وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78]، وإنّما عاب الله ذلك عليهم لأنّهم كانوا يرون من الظلَمة الّذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة ممّا يحذرون والله يقول: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]؛ فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةً منه لعلمه بأنّها إذا أُدّيت وأُقيمت، استقامت الفرائض كلّها هيّنها وصعبها. وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردّ المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها. ثُمّ أنتم أيّتها العصابة، عصابة بالعِلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مُهابة، يهابكم الشريف، ويُكرمكم الضعيف، ويُؤثركم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر. أليس كلّ ذلك إنّما نلتموه بما يُرجى عندكم من القيام بحقّ الله، وإن كنتم عن أكثر حقّه تُقصِّرون؟ فاستخففتم بحقّ الأمّة، فأمّا حقّ الضعفاء فضيّعتم، وأمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتم، ولا نفساً خاطرتم بها للّذي خلقها، ولا عشيرة عاديتم في ذات الله. أنتم تتمنّون على الله جنّته ومجاورة رسله وأماناً من عذابه، لقد خشيت عليكم أيّها المتمنّون على الله أن تحلّ نقمة من نقماته لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلةً فضّلتم بها، ومن يعرف بالله لا تُكرمون، وأنتم بالله في عباده تُكرمون. وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محقورة، والعمي والبكم والزمن في المدائن مهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا من فيها تُعينون، وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون. كلّ ذلك ممّا أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون. وأنتم أعظم
إيران.. نظام وقيم (79)
الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمعون. ذلك بأنّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه. فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، ما سُلبتم ذلك إلّا بتفرّقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى، وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع ولكنّكم مكّنتم الظّلمة من منزلتكم وأسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات. سلّطهم على ذلك فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة الّتي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور وبين مستضعَف على معيشته مغلوب، يتقلّبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم اقتداءً بالأشرار وجرأةً على الجبّار، في كلّ بلدٍ منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبّارٍ عنيد وذي سطوةٍ على الضعفة شديد مطاع لا يعرف المبدئ والمعيد، فيا عجباً ومالي لا أعجب والأرض من غاش غشوم ومتصدّق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم. فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.. اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فُضول الحطام، ولكن لنُري المعالم من دينك ونُظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك. فإن لم تنصرونا وتُنصفونا، قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيّكم، وحسبنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنبنا وإليه المصير) (1)
وسأقتبس هنا بعض ما ذكره الخميني من استدلالات بالحديث (2):
1 ـ من البديهي أن هذا الذم والتقبيح الذي ذكره الإمام الحسين لا يختص بعلماء اليهود، ولا بعلماء النصارى، بل يشمل علماء المجتمع الإسلامي أيضاً، وجميع علماء الدين بشكل عام؛
__________
(1) تحف العقول، ص 237..
(2) الحكومة الإسلامية، ص 105، فما بعدها.
إيران.. نظام وقيم (80)
وبناءاً عليه، فعلماء الدين الإسلامي مشمولون للذم والتقبيح الإلهي أيضاً فيما لو ظلوا ساكتين أمام سياسة الظلمة ونهجهم، وهذا الامر لا يخص السلف والاجيال الماضية، بل تتساوى فيه الاجيال الماضية مع أجيال المستقبل.
2 ـ أن تساهل العلماء في وظائفهم ضرره أكثر من تقصير الآخرين في القيام بنفس تلك الوظائف المشتركة، إذ عندما يرتكب التاجر مخالفة ما، فإن ضررها يعود عليه، لكن إذا قصر العلماء في وظائفهم، فسكتوا مثلا أمام الظلمة، فإن الضرر يعود على الإسلام. وإذا عملوا بوظيفتهم، وتكلموا حيث يجب أن يتكلموا، فإن النفع سيعود على الإسلام أيضاً.
3 ـ لقد ذكر قول الاثم وأكل السحت مع أنه يجب النهي عن جميع الأمور التي تخالف الشرع، وذلك من أجل بيان أن هذين المنكرين أخطر من جميع المنكرات، ويجب أن يعمل على إنكارهما ومحاربتهما بشكل أكثر جدية، إذ أنه أحيانا يكون لأقاويل الأنظمة الظالمة ودعاياتهم ضرر على الإسلام والمسلمين أكثر من عملهم في سياستهم، وغالبا ما يعرّضون كرامة واعتبار الإسلام والمسلمين للهتك؛ فالله تعالى يؤاخذهم على عدم التصدي لأقاويل الباطل، ودعايات السوء للظلمة، وعلى عدم تكذيبهم لمن يدعي أنه خليفة الله، وأن الأحكام الإلهية هي تلك التي يطبقها هو، والعدالة الإسلامية هي ما يقوله وينفذه مع كونه لا يخضع للعدالة أصلا.
4 ـ لو قام شخص ما بتفسير الأحكام بنحو لا يرضي الله، أو بإحداث بدعة بذريعة أن العدل الإسلامي يقتضي ذلك، أو بتنفيذ أحكام مخالفة للإسلام، فيجب على العلماء أن يبدوا معارضتهم له؛ فإذا لم يفعلوا، فإنهم ملعونون من الله تعالى، وهذا واضح من خلال الآية التي استدل بها الإمام الحسين، وفي الحديث: (إذا ظهرت البدع، فللعالم أن يظهر علمه، وإلا فعليه لعنة الله) (1)، فإبداء المعارضة، وبيان الأحكام والتعاليم الإلهية المخالفة للبدع والظلم والمعاصي مفيد في حد ذاته، لأنه يؤدي إلى إطلاع الناس على الفساد الاجتماعي، ومظالم الحكام الخونة
__________
(1) اصول الكافي، ج 1، ص 54.
إيران.. نظام وقيم (81)
والفسقة، أو الذين لا دين لهم؛ فإبداء المعارضة من قبل علماء الدين في موارد كهذه هو نهي عن المنكر من قبل القادة الدينيين للمجتمع، ويستتبع موجة من النهي عن المنكر، ونهضة معارضة وناهية عن المنكر، يشارك فيها جميع أبناء الشعب المتدينين والغيورين.
5 ـ حاول الخميني أن يعيد صياغة الخطبة السابقة، بشكل يتناسب مع العصر، ومن ذلك قوله مخاطبا العلماء والمراجع: (إذا لم تكونوا قادرين حاليا على منع بدع الحكام، وإزالة هذه المفاسد، فعلى الاقل لا تبقوا ساكتين. إنهم يحاربونكم، فضجوا واصرخوا واعترضوا، ولا تستسلموا للظلم. فالاستسلام للظلم أسوأ من الظلم. استنكروا واعترضوا واصرخوا، وانفوا اكاذيبهم، يجب عليكم أن تؤسسوا أجهزة اعلامية مقابل أجهزتهم، لتفضح وتنفي جميع أكاذيبهم، وتظهر للملأ أنهم يكذبون، وأن العدالة الإسلامية ليست ما يدّعون، ويجب أن تُعلَن هذه الأمور لينتبه الناس، ولا تجعل الاجيال القادمة سكوت هذه الجماعة حجة، وتحسب أن أعمال ومناهج الظلمة كانت مطابقة للشرع، وأن الدين الإسلامي المبين قد اقتضى أن يقوم بأكل السحت وسرقة اموال الشعب) (1)
وقال: (لقد أحرقوا المسجد الاقصى، ونحن نصرخ: دعوا المسجد الاقصى على حاله نصف المحترق هذا ولا تزيلوا آثار الجرم بينما نظام الشاه يفتتح الحسابات ويجمع المال من الناس باسم بناء المسجد الاقصى، ليتمكن من جني الفوائد، وملأ جيوبه عبر هذا السبيل، ومن خلال ذلك يزيل آثار جرم إسرائيل) (2)
وقال: (إن الاسباب الأساسية لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي هذه الأمور. بينما نحن قد جعلنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن دائرة صغيرة وحصرنا ذلك في الموارد التي يترتب فيها الضرر على الفاعل للمنكر، أو التارك للمعروف، وقد غرس
__________
(1) الحكومة الإسلامية، ص 107.
(2) المرجع السابق، ص 108.
إيران.. نظام وقيم (82)
في أذهاننا أن المنكرات هي تلك الأمور التي نراها ونسمع بها بشكل يومي في حياتنا الاعتيادية فحسب، كسماع الموسيقى في الباصات، أو ارتكاب بعض المخالفات في المقاهي، أو تجاهر بعض الناس بالافطار، وأن هذه الأمور هي التي يجب أن ننهي عنها فقط، ولا نلتفت إلى تلك المنكرات الكبيرة، إلى أولئك الذين يقومون بضرب الإسلام معنوياً، وسحق حقوق الضعفاء وما شابه من الموارد التي يجب أن ينهى فيها عن المنكر. لو صير إلى الاعتراض بشكل جماعي على الظلمة، وعلى المخالفات التي يقومون بها، أو الجرائم التي يرتكبونها، ولو أرسلت اليهم آلاف برقيات الاستنكار من جميع البلاد الإسلامية، فمن المتيقن أنهم سوف يتخلون عما يقومون به) (1)
وقال: (إني أستوضحكم الآن: هل الأمور التي ذكرها الإمام في هذا الحديث كانت خاصة بأصحابه المحيطين به، والذين يستمعون إلى كلامه؟ أليس خطاب [اعتبروا أيها الناس] موجَّهاً لنا؟ ألسنا مصداق الناس وجزءً منهم؟ ألا يجب أن نأخذ العبرة من هذا الخطاب؟ وكما ذكرت في أول البحث، فإن هذه المطالب ليست مختصة بجماعة معينة، وانما هي إعلان من الإمام إلى كل أمير ووزير وحاكم وفقيه، وإلى كل الدنيا، وجميع البشر. فوصاياه قرينة للقرآن ومثله، إذ وجوب اتباعها مستمرة إلى يوم القيامة. والآية التي استدل بها أيضاً {لولا ينهاهم الربانيون} وإن كانت خطاباً للربانيين والأحبار، لكن الخطاب موجَّه للجميع. ولقد ذمَّ الله تعالى الربانيين والأحبار، واستنكر عليهم لسكوتهم أمام ظلم الظلمة خوفاً أو طمعاً، مع كونهم قادرين على القيام بما يمنع الظلم من خلال المعارضة ورفع الصوت والكلام، فعلماء الإسلام أيضاً إذا سكتوا، ولم يقوموا بوجه الظالمين؛ فإنهم سوف يقعون محلاً لاستنكار الله عز وجل) (2)
هذه ـ باختصار ـ صورة عن القيمة الأولى من القيم التي يقوم عليها نظام الجمهورية
__________
(1) المرجع السابق، ص 111.
(2) المرجع السابق، ص 113.
إيران.. نظام وقيم (83)
الإسلامية الإيرانية، وهي قيمة [الحكومة الإلهية]، والتي استطاع فيها النظام الإيراني أن يتجاوز كل التطبيقات الخاطئة التي وقعت فيها جماعات الإسلامي السياسي، ووقعت فيها قبلها الأنظمة الثيوقراطية المستبدة التي مارستها الكنيسة.
ذلك أن النظام الإيراني استطاع أن يحافظ على قيم الحكومة الإلهية، والتي يتولاها الولي الفقيه، والمؤسسات المختلفة، وفي نفس الوقت حافظ على إشراك الشعب في جميع قراراته عبر المؤسسات المختلفة، وهو ما لم يتوفر في أي نظام من النظم.
ونحن ـ كما عرضنا ـ هذه الصورة الجميلة لتلك المزاوجة التي حصلت في إيران بين الحكم الإسلامي بمبادئه وقيمه، في نفس الوقت الذي روعيت فيه كل القيم الجمهورية والديمقراطية، نتمنى أن تتخلى حركات الإسلام السياسي عن نظرتها السلبية لولاية الفقيه، وتنظر إليها من خلال ممارساتها الواقعية، وتأصيلها النظري، لا لتتبناها بمثل الصورة التي تبنتها بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وإنما بالصورة التي تتناسب مع كل بلاد تريد أن تطبق الحاكمية الإلهية عليها، ذلك أنه يستحيل أنه يستحيل أن يطبق الحاكمية الإلهية من لم يكن عارفا بها، وفقيها فيها؛ ففاقد الشيء لا يعطيه.
إيران.. نظام وقيم (84)
القيمة الثانية التي يتأسس عليها نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي [الجمهورية]، والقيم النابعة منها، وهي تشكل مع [الإسلام] اللقب الذي اختارته إيران لنفسها بعد انتصار ثورتها؛ فهي [جمهورية إسلامية]، وليست إمارة إسلامية، ولا مملكة إسلامية، ولا خلافة إسلامية، ولا إمبراطورية إسلامية.
وفَهم الجمع بين هاتين القيمتين الساميتين [الجمهورية]، و[الإسلامية] ييسر التعرف على سر الكثير من المواقف الإيرانية، والمؤسسات التي تحكمها؛ فكلها تنبع من هاتين القيمتين، من الشعب احتراما له ولقراراته، ومن الإسلام باعتباره الخيار الذي ناضل من أجله الشعب الإيراني، وأثبت تمسكه به رغم كل المحن التي أصابته بسببه.
بل إننا إذا رجعنا إلى الوراء، وبحثنا في السر الأكبر لنجاح الثورة الإيرانية نجده ينبع من اعتمادها على كلا القيمتين؛ فهي قد نهضت من أجل أن يسترد الشعب حريته وحقوقه التي صادرتها الأنظمة المستبدة بمعونة الاستكبار العالمي، واستعمل في ثورته الإسلام بدل الشيوعية أو الاشتراكية، أو غيرها من النظريات التي اعتمدها للأسف الكثير من الثوار العرب، ولهذا كان شعار الثورة الإسلامية في ذلك الحين الذي كانت الشعوب فيها ترزح بين الشرق أو الغرب هو (لا شرقية، ولا غربية.. إسلامية إسلامية)
وللأسف نجد الكثير من المغرضين ينتقدون الجمهورية الإسلامية الإيرانية في جمعها بين هاتين القيمتين، ذلك أنهم يتصورون استحالة تجمعهما، بل يتصورون أنهما قيمتان متناقضتان، وذلك نتيجة تأثرهم بالمدارس الغربية، واعتبارهم أن مراعاة أحكام الإسلام يتناقض مع مراعاة مطالب الجماهير.
إيران.. نظام وقيم (85)
ولهذا نجد قادة الثورة الإسلامية وفقهاءها ومفكريها يقدمون الشروحات الوافية، لكون الحكم الإسلامي لا يتناقض أبدا مع الحكم الجمهوري، بل يذكرون أن الحكم الجمهوري في البلاد الإسلامية لا يتم إلا بمراعاة الحكم الإسلامي، لأنه دين الشعب، والشعب لا يمتنع من أن يُحكم بدينه.
ولا بأس أن نذكر هنا بعض النماذج من تلك الردود، باعتبارها أحسن جواب عن تلك الانتقادات المغرضة، والتي يصدر معظمها للأسف من بلاد لا تعرف الجمهورية ولا الديمقراطية، بل هي تعيش في ظلال الحكم الملكي الذي يفتقد لأدنى معاني الحرية والكرامة.
وأولها ما ذكره الولي الفقيه المعاصر السيد علي لخامنئي في بيان العلاقة بين قيم الجمهورية وقيم الإسلام، وذلك في لقاء له مع أعضاء مجلس خبراء القيادة بتاريخ (14/ 3/2002)؛ فقد قال في ذلك: (إنّ حقّ الله في الإسلام ليس منافسًا لحقّ الناس، ولا في مقابله، جميع حقوق الناس، ومن جملتها حقّ الشعب في الانتخاب، والذي هو حتمًا في أمر الحكومة، ناشئة من الحكم الإلهيّ، فقيمة جميع حقوق الشعب ناشئة عن حاكميّة الله وما أمر به الله تعالى، لذا، عُبّر في القرآن الكريم، في الموضع الذي يتمّ فيه الاعتداء على حقوق الناس والتعرّض لهم، كمسألة الربا، بقوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] مع أنّ هذا العمل هو اعتداءٌ على حقوق النّاس، لكنّ الحرب مع الله.. ذلك لأنّ ما يرتبط بالناس على اتّساعه، هو تكليفٌ إلهيّ، الحقّ الذي جعله الله للناس، التكليف الذي وضعه الله على عاتق من يتولّون أمور الناس يمكن القول إنّ الجمهورية الإسلاميّة ليست حبرًا على ورق، هي حقيقة، تعتمد على رأي الشعب حيث أمرنا الله سبحانه أن نولي الأهميّة لرأيه واختياره وإرادته في هذا المجال) (1)
وبناء على هذا، يستنتج أن مفهوم [الجمهورية الإسلامية] يتحقق بمراعاة [الإسلام] وتكالفيه الشرعية، ذلك أن التكاليف الشرعية الإسلامية تراعي مطالب الشعب، وتطالب
__________
(1) تأسيس الحضارة الإسلامية في فكر الإمام الخامنئي (ص: 47).
إيران.. نظام وقيم (86)
بتنفيذها، ولو لم يطلبها الشعب نفسه.. والحاكم المسلم هو الذي لا يتنتظر من الرعية أن تطالب بحقوقها، ولا أن يمن عليها بتقديمها، لأنه يفعل ذلك انطلاقا من واجباته الشرعية، يقول في ذلك: (وليست مشكلتنا في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة فقط، أن يسيء النّاس فهمنا، أو تتراجع ثقتهم بنا، مشكلتنا هي التكليف الشرعي أيضًا، ولو لم يفهم الناس؛ فإذا قمنا في مكان ما بعمل، أدّى إلى تضييع حقوق الناس، مع أنّ أحدًا لم يدرك أنّه تمّ التعرّض لحقوق الناس وكانت الدعايات صاخبة أيضًا، فإنّ مشكلة التكليف الشرعي تبقى تواجهنا في أقاصي الجسم العظيم للحكومة وفي طولها وعرضها ـ حيث الحكومة ليست محصورة ومتجلّية في شخص القائد - الجميع شركاء في هذه السيادة الشعبيّة الدينيّة، والوظائف الملقاة على عاتقهم من هذه الناحية، سواءٌ رئيس الجمهوريّة، أم رئيس سلطة من السلطات الثلاث، أم نوّاب المجلس، أم أيّ مسؤول في ناحية من النواحي ـ تكليف الجميع هو مراعاة حقوق الناس لله، هذان الاثنان، متساويان بعضهما مع بعضٍ ومتّحدان) (1)
وهكذا نرى الخميني يدعو كل حين إلى تصحيح التصورات نحو معنى [ولاية الفقيه]، وكونها لا تتناقض مع الجمهورية، بل هي تلبي مطالب الجمهور أحسن تلبية، لأنها تنبع من القيم التي يؤمن بها، لا من القيم الغريبة عنه، يقول في ذلك: (إن من يدعي أن مبدأ ولاية الفقيه يستلزم ديكتاتورية فلا ريب أنه جاهل بهذا المبدأ وأهميته وقدسيته، بل العكس هو الصحيح؛ فإن الحامي للحريات وفق المبادئ الإسلامية، والحامي لإرادة الشعب وحقوقه والمدافع عنه هو مبدأ ولاية الفقيه الذي يقوم بمهمة الإشراف على أمور البلد، حتى لا ينحرف أحد ممن يمكن أن يستلم مقدرات البلد، فهو الذي يمنع رئيس الجمهورية من أن ينحرف وأن يحكم بهواه، وهو الذي يمنع رئيس الوزراء من أن ينحرف ويحكم بهواه، وهكذا الكلام بالنسبة لأي مسؤول، كما أن مبدأ ولاية الفقيه يمنع الفقيه نفسه أن ينحرف وأن يحكم بهواه، ولا يحق له
__________
(1) تأسيس الحضارة الإسلامية في فكر الإمام الخامنئي (ص: 46)
إيران.. نظام وقيم (87)
ذلك أصلاً، بل عليه أن يحكم وفق رأي الإسلام حسب اجتهاده، والمفروض أنه بذل جهده كله للوصول إلى هذا الرأي واستكشافه من خلال وسائل الإستنباط الممكنة له، كما أن عليه بذل الجهد في تمحيص الوقائع وتشخيصها حتى يطبق عليها حكمها الإلهي ويحكم على وفقه. والمفروض في الفقيه الولي العدالة والورع والكفاءة بل الأكفئية في تحقيق كل ذلك، كما أن المفروض أن في الأمة علماء وتقاة وثقاة ورعون يراقبون حركة الفقيه، بإمكانهم عزله إن انحرف وصار يحكم بهواه، وقد صان الدستور هذا الحق للخبراء وللأمة) (1)
وهو يذكر أنه لا وجه لاعتبار ولاية الفقيه حكما ديكتاتورياً، ذلك أن هذالنوع من الحكم يطلق على من يستند في حكمه إلى الرأي الشخصي بعيداً عن أي اعتبارات صحيحة، ثم يجبر الشعب على اتباعه، (وإنما يكون الحكم ديكتاتورياً إن كان الحكم وفق الهوى متاحاً للحاكم، وكان الحاكم قادراً على أن ينفذ جميع رغباته بدون أن يتجرأ أحد على معارضته)
وهو يذكر أن من أكبر الأدلة على عدم وجود أي صلة بين ولاية الفقيه، والحكم الديكتاتوري هو تصويت أغلبية الشعب في إيران على ولاية الفقيه، يقول في ذلك: (ليس من الديكتاتورية في شيء أن يكون النظام المعتمد في إيران قد أيده أكثرية الشعب بحيث تجاوزت نسبة التأييد التسعين في المائة دون ضغط أو إكراه؛ فالشعب بغالبيته العظمى أيد ولا يزال نظام الجمهورية الإسلامية المبني على مبدأ ولاية الفقيه كما نص عليه الدستور) (2)
ويذكر أن المعترضين هم الذين يريدون مصادرة رأي الجمهور، والحديث باسم الشعب؛ يقول في ذلك: (الديكتاتورية متجسدة في كلمات المعترضين، إذ يحاولون وهم القلة أن ينصبوا أنفسهم في موقع يحسبون أنفسهم أوصياء على الشعب والأمة، والحال أن الشعب لم يرض بذلك منهم بدليل أنه خالفهم. وهؤلاء عندما ينصبون أنفسهم في هذا الموقع يسعون
__________
(1) نقلا عن الفقيه والسلطة والأمة، مالك مصطفى وهبي العاملي (ص: 171)
(2) نقلا عن الفقيه والسلطة والأمة، مالك مصطفى وهبي العاملي (ص: 171)
إيران.. نظام وقيم (88)
لفرض رأيهم وإثارة جو نفسي وزعزعة ثقة الشعب والمسلمين بهذه الجمهورية والثورة، وهذا نحو من أنحاء الديكتاتورية) (1)
ويذكر أن هؤلاء الذين يعترضون على ولاية الفقيه، بحجة تناقضها مع قيم الجمهورية، يعترضون في الحقيقة على الإسلام وقيم الإسلام، وليس على الولي الفقيه، ذلك أن (هؤلاء المعترضين لن يعترضوا بهذا الإعتراض لو كانت الصلاحيات كلها التي ثبت في الإسلام أنها للفقيه قد أعطيت لإنسان آخر غير فقيه، بل وغير مسلم، بل ربما سيمدحون الشخص والنظام حينئذ، ولكنهم يعيشون عقدة الإسلام ولا يتجرؤون على قول ذلك) (2)
هذه مقولات القائدين الكبيرين اللذين أتيح لهما تولي منصب الولي الفقيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد اقتصرنا على هذه النماذج، وهي كافية لرد المعترضين الذين يصورون كليهما بصورة الحاكم المستبد، وهو تصوير ناتج عن الجهل والكبر، ولو أنهم كلفوا أنفسهم بمطالعة ما كتبه كل منهما، أوالتعرف على مواقفه بنية صادقة لما تجرأوا على مثل ذلك التصوير الظالم.
ونحب أن نذكر ـ بهذه المناسبة ـ تنظيرا مهما جدا لمفهوم الجمهورية، وعلاقته بالحكم الإسلامي والولي الفقيه، وذلك عند فيلسوف وفقيه ومفكر كبير من قادة الثورة الإسلامية، ومن المقربين جدا من الخميني، وهو الشهيد مرتضى مطهري، فقد نظّر لهذه المسألة في مقابلة تلفزيونية هامة أجريت معه قبل إجراء الاستفتاء العام على [نظام الجمهورية الإسلامية] في إيران، ثم طبعت ككتاب مستقل بعنوان [قضايا الجمهورية الإسلامية]، وقد تطرق فيها إلى مسائل مهمة جدا تتعلق بالنظام الإسلامي، وطبيعة الثورة ومستقبلها.
وقد كان أول سؤال طرح عليه فيها حول مفهوم الجمهورية الإسلامية، والتناقض الذي
__________
(1) المرجع السابق، ص 172.
(2) المرجع السابق، ص 172.
إيران.. نظام وقيم (89)
قد يحمله الجمع بين هذين المعنيين، وحتى نفهم جواب مطهري جيدا، نذكر نص السؤال باعتباره لا يزال يطرح إلى الآن، وبنوع من الاستفزاز، وكأن الإيرانيين لم يجيبوا عليه، مع أنهم أجابوا عليه، وبتفصيل كبير، قبل الثورة وبعدها وفي كل حين، ولكن المغرضين للأسف لا يقرؤون، وإنما ينتقدون فقط.
ونص السؤال هو: (مفهوم (الجمهورية الإسلامية) يبدو غامضاً إلى حد كبير؛ فالجمهورية تعني إعطاء الشعب حق الحاكمية، بينما الصفة الإسلامية تقيد هذه الحاكمية وتحددها، ويبدوا أيضاً أن مفهوم الجمهورية الإسلامية يتعارض مع المفاهيم الديمقراطية ومفاهيم الجمهورية بمعناها المطلق العام، فهل لكم أن تعطونا صورة واضحة لنظام الجمهورية الإسلامية؟) (1)
وقد أجاب الشيخ مرتضى مطهري على السؤال إجابات مفصلة نلخصها ببعض تصرف في النقاط التالية (2):
1. مفهوم (الجمهورية الإسلامية) واضح لا يحتاج إلى كثير من الشرح، فالمفهوم مركب من كلمتين: كلمة (جمهورية) وكلمة (إسلامية)، وكلمة الجمهورية: تعني شكل الحكومة المقترحة، وكلمة إسلامية: تحدد محتوى هذه الحكومة.
2 ـ أن السر في اختيار لقب [الجمهورية] لإيران هو تمييز النظام الحاكم في إيران عن غيره من النظم التي حكمت العالم؛ فمنها النظام الفردي الوراثي، كنظام السلطنة والنظام الملكي، ومنها النظام الارستقراطي، كالنظم التي يحكم فيها الفلاسفة أو الحكماء أو المتخصصون أو الأشراف، ومنها حكومة المتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال ودافعي الضرائب، وغيرها من النظم والحكومات.
__________
(1) قضايا الجمهورية الإسلامية، مرتضى مطهري، ص: 2، فما بعدها.
(2) المرجع السابق، ص 3.
إيران.. نظام وقيم (90)
3 ـ أن [الجمهورية] تعني حكومة عامة الناس، أو الحكومة التي يتمتع فيها جميع الناس بحق الانتخاب دون تمايز بينهم في الجنس أو اللون أو العقيدة، والشرط الوحيد في المنتخب هو البلوغ والنضوج العقلي لا غير.. إضافة إلى ذلك، فالهيئة الحاكمة المنتخبة تحكم لفترة معينة، وللشعب حق إبقائها أو تغييرها بعد انقضاء تلك الفترة.. وهذا الشكل من أنظمة الحكم هو (الجمهوري)، وهو الشكل المقترح لنظام الحكم في إيران.
4 ـ أن كلمة [إسلامية] تعني تحديد محتوى هذه الحكومة، ومحتوى هذا الشكل ـ أي أن المنتخب حينما يقول نعم للجمهورية الإسلامية، يقترح أن يكون نهج الحكومة على أصول وتعاليم إسلامية، والإسلام ـ كما هو واضح ـ مدرسة فكرية وأيديولوجية وأطروحة لتنظيم الحياة البشرية بجميع أبعادها وشؤونها.
5 ـ بناء على ما سبق؛ فإن (الجمهورية الإسلامية) تقوم على أساس نظام يتمتع فيه أفراد الشعب بحق الانتخاب وبحق تغيير الهيئة الحاكمة، وهذا هو شكل النظام.. أما المحتوى فإسلامي.
6 ـ أن الذين يجدون غموضاً وتناقضاً في كلمة (الجمهورية الإسلامية) قد اختلط عليهم الأمر، وخالوا أن ثمة تناقضاً بين حق السيادة وحق الالتزام بمدرسة فكرية عملية في الحياة، وهؤلاء ظنوا أن الإنسان الملتزم بخط فكري معين والمناضل من أجل تطبيق مبادئ هذا الخط في الحياة الاجتماعية، ليس بحرّ ولا ديمقراطي، ومن خلال هذه المعادلة الوهمية الخاطئة يستنتجون أن الديمقراطية سيتهددها الخطر، إن أضحى النظام إسلامياً وأضحت الجماهير تؤمن بالمبادئ الإسلامية وتطالب بتطبيقها.
7 ـ أن مفهوم الجمهورية لا يعفي الجماهير من التمسك بخط فكري معين والالتزام بمبادئ مدرسة معينة، ويطرح مطهري هنا أسئلة وجيهة على أولئك المعترضين، ويقول لهم فيها: (تُرى، هل تعني الديمقراطية أن يلتزم كل فرد بخط فكري خاص، أو أن يتخلى جميع
إيران.. نظام وقيم (91)
الأفراد عن أي التزام بمدرسة فكرية؟!.. ترى، هل الإيمان بمبادئ قائمة على أساس العلم والمنطق والفلسفة، والتسليم لهذه المبادئ، يعارض الديمقراطية؟!) (1)
8 ـ أن الأكثرية الساحقة من الشعب الإيراني تؤمن إيمانا راسخاً بمبادئ الإسلام، وليس في هذا الإيمان المطلق ذنب ولا عيب، لكن العيب أن تسلب هذه الأكثرية الساحقة، ومن الأقلية غير المؤمنة، حق النقد والمناقشة والاعتراض.
وفي جواب عن سؤال آخر لا يزال يطرح أيضا، وهو مهم جدا في فهم عدم التعارض بين النظام الجمهوري والنظام الإسلامي، وينص على كيفية الجمع بين حكم الشعب لنفسه، وتولي الفقيه لذلك الأمر، وقد أجاب عليه مطهري بقوله: (من أجل أن أجيب على ما تقول، لابد أن أذكر أن الشعب الإيراني نال في ثورته الدستورية حق سيادته، لكن هذا الشعب لم يكن يرى أي تعارض بين نيله هذا الحق، والتزامه بالإسلام فكراً وعقيدة وقانوناً ينظم جميع شؤون الحياة، ولهذا نص الدستور الإيراني، المدون عقب انتصار تلك الثورة، على ضرورة السير في إطار القوانين الإسلامية، وصرح بأن أي قانون يفقد اعتباره القانوني إذا كان معارضاً لقوانين الإسلام، كما نص الدستور الذي تمخضت عنه الثورة الدستورية الإيرانية على ضرورة وجود خمسة فقهاء في مجلس النواب للإشراف على القوانين، ولم يكن يخطر على بال رواد الثورة الدستورية أن التمسك بالإسلام والالتزام بالحدود والقوانين الإسلامية يعارض الروح الدستورية والروح الديمقراطية، كما أنهم لم يروا معارضة بين الإسلام وبين قدرة مجلس النواب على التقنين لأن القوانين كانت تُسن في إطار المبادئ الإسلامية، المهم أن يكون الشعب هو المنفذ للقانون الذي آمن به وقَبِله سواء كان الشعب هو الذي سن القانون، أو أن يكون قد سنه صاحب مدرسة فكرية أو منظر قانوني، أو أن يكون القانون الذي آمنت به الجماهير قد تلقته عن طريق الوحي الإلهي، ويتضح من هذا أن الصفة الإسلامية للجمهورية لا تتعارض مع
__________
(1) المرجع السابق، ص 5.
إيران.. نظام وقيم (92)
سيادة الشعب أو مع الديمقراطية بشكل عام، والمبادئ الديمقراطية لا تتطلب بالضرورة ابتعاد المجتمع عن كل خط فكري ملتزم) (1)
ثم ذكر أن المشكلة التي يعاني منها المعترضون على نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو في كونه ينبع من الإسلام، أو يريد أن يطبق الإسلام في جميع شؤون الحياة، ولهذا لا نراهم يعترضون على الأيديولوجيات الأخرى، يقول في ذلك: (إننا نرى الأحزاب تنتمي إلى أيديولوجيات معينة، ولا تعتبر هذا الانتماء معارضاً لمبادئ الديمقراطية، لكن المسألة حينما تطرح على الصعيد الإسلامي، يثير بعضهم شكوكاً وتساؤلات حول إمكان انسجام المفهوم الإسلامي مع المفهوم الجمهوري)
ثم يذكر منبع هذا الاعتراض، وخلوه من الصدق والموضوعية؛ فيقول: (أعتقد أن هذه الشكوك والشبهات تطرح من لدن أفراد لا يزالون يؤمنون بديمقراطية القرن الثامن عشر التي تحدد حقوق الإنسان بإطار مسائل المعيشة والمأكل والمسكن والملبس وحرية انتخاب طريقة المعيشة المادية. هذه الديمقراطية التي تحذف من دائرة الحقوق الإنسانية مسائل الانتماء الفكري والالتزام المدرسي والتكامل الإنساني والتحرر من سلطة البيئة والغرائز)
ثم يبين الخصائص التي ميزت الثورة الإسلامية الإيرانية، والنظام الذي نبع منها، وكونها خصائص فريدة تصحح الكثير من المفاهيم السائدة؛ فقال: (لابد أن أشير إلى حقيقة واضحة كل الوضوح هي: أن الأكثرية الساحقة للشعب الإيراني حددت في شعاراتها ومطالبها نوع النظام الذي تريده. لم يتجه كفاح الشعب الإيراني ضد التسلط السياسي والاستعمار الاقتصادي فحسب، بل اتجه أيضاً إلى مقارعة الثقافات والأيديولوجيات الغربية، إلى مقارعة التبعية للغرب تحت العناوين المغرية نظير الحرية والديمقراطية والاشتراكية والمدنية والتطور والتقدم وغيرها من العناوين الزائفة التي يلوح بها الاستعمار وعملاؤه في عالمنا.. إن الملايين
__________
(1) المرجع السابق، ص 6.
إيران.. نظام وقيم (93)
من أبناء الشعب الإيراني حين طالبوا في مظاهراتهم الضخمة الصاخبة بإقامة الجمهورية الإسلامية، قد حددوا في الواقع الإطار الفكري لنظام الحكم الذي يريدونه.. الهوية الوطنية لأي شعب من الشعوب تتمثل في التراث الحضاري المتأصل في أعماق هذا الشعب، وهذه الهوية الوطنية تتمثل لدى جماهير الشعب الإيراني بالإسلام)
-\--\-
بعد هذه التصريحات الواضحة من قادة الثورة الإسلامية وفلاسفتها، والتي تبين مدى ارتباط ولاية الفقيه بكل قيم الجمهورية، بل تجاوزها لكل سلبياتها، نرى في الواقع الديني والإعلامي من يقف يقف موقفا سلبيا من [ولاية الفقيه]، وينشر في ذلك الدعايات المغرضة، التي لا تستند إلى أي أدلة واقعية موضوعية، بل تكتفي فقط بتصويرها بصورة ما حصل في الماضي، وخصوصا عند المسيحيين من تلك الحكومات الثيوقراطية (1) الاستبدادية، والتي ثارت عليها الشعوب بعد ذلك، وانتقلت بسببها إلى النظام العلماني، بل إلى الإلحاد نفسه.
ومن الأمثلة على تلك الدعايات المغرضة ما قاله بعض الخليجيين في مقال بعنوان [الثيوقراطية تعود من جديد] (2) بعد أن قدم مقدمة في التعريف بالثيوقراطية: (بعدما تخلصت أوروبا وأنهت الحكم الثيوقراطي بكل أشكاله وأنواعه، تطل علينا إيران بنظام ثيوقراطي جديد ومقنن، [حيث] تعتبر إيران نموذجاً جديداً للحكم الثيوقراطي، من خلال مجلس الخبراء، الذي يقوم بتعيين رجل دين بمنصب القائد الأعلى للجمهورية، الذي يمتلك جميع الصلاحيات التشريعية والتنفيذية بيده ولا تنازعه أي سلطة أخرى في إيران! مثل خامنئي الآن الذي يعتبر أعلى سلطة دينية وسياسية بإيران. ويُطلق على هذا النوع من الحكم سلطة [ولاية
__________
(1) الثيوقراطية: تعني حكم الكهنة أو الحكومة الدينية أو الحكم الديني، وهي نظام حكم يستمد الحاكم فيه سلطته مباشرة من الإله، حيث تكون الطبقة الحاكمة من الكهنة أو رجال الدين الذين يعتبروا موجهين من قبل الإله أو يمتثلون لتعاليم سماوية، وتكون الحكومة هي الكهنوت الديني ذاته أوعلى الأقل يسود رأي الكهنوت عليه..
(2) نشرته الخليج أون لاين بتاريخ: 28 - 10 - 2017، ولم تذكر اسم صاحب المقال.
إيران.. نظام وقيم (94)
الفقيه])
هذا نموذج يختصر الكثير من المقالات التي يواجه بها النظام الإيراني، ويعتبر من خلالها نظاما ثيوقراطيا واستبداديا، وأنه بذلك أسوأ الأنظمة الموجودة في الواقع حتى الأنظمة الملكية والعسكرية كما يذكر صاحب المقال.
والدليل الأكبر الذي يستند إليه هؤلاء جميعا هو تلك الصلاحيات الكبيرة المعطاة للولي الفقيه، والتي بموجبها يستطيع أن يغير كل أجهزة الحكم وأركانه؛ فقد تصوروا أن إعطاء مثل هذه الصلاحيات يجعل من الولي الفقيه شخصا مستبدا لا يختلف عن سائر المستبدين (1).
__________
(1) نص الدستور الإيراني في المادة (110) على الصلاحيات والوظائف التي يتولاها الولي الفقيه، وهي:
1 - تعيين السياسات العامة لنظام جمهورية ايرانالاسلامية بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام.
2 - الاشراف على حسن اجراء السياسات العامة للبلاد.
3 - اصدار الامر بالاستفتاء العام.
4 - القيادة العامة للقوات المسلحة.
5 - اعلان الحرب والسلم والنفير العام.
6 - نصب وعزل وقبول استقالة كل من: [أ. فقهاء مجلس صيانةالدستور.. ب. أعلى مسؤول في السلطةالقضائية.. ج. رئيس مؤسسة الاذاعة والتلفزيون فيجمهورية ايران الاسلامية.. د. رئيس اركان القيادةالمشتركة.. هـ. القائد العام لقوات حرس الثورةالاسلامية.. و. القيادات العليا للقوات المسلحة وقوىلامن الداخلي]
7 - حل الاختلافات وتنظيم العلائق بين السلطات الثلاث.
8 - حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام.
9 - امضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب. أما بالنسبة لصلاحية المرشحين لرئاسة الجمهورية من حيث توفر الشروط المعيَّنة في هذا الدستور فيهم فيجب ان تنال قبل الانتخابات موافقة مجلس صيانةالدستور وفي الدورة الاولى تنال موافقة القيادة.
10 - عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد، وذلك بعد صدور حكم المحكمة العيا بتخلفه عن وظائفه القانونية، او بعد رأي مجلس الشورى الاسلامي بعدم كفاءته السياسية، على أساس من المادة التاسعةوالثمانين.
11 - العفو او التخفيف من عقوبات المحكوم عليهم في اطار الموازين الاسلامية بعد اقتراح رئيس السلطة القضائية. ويستطيع القائد ان يوكل شخصاً آخر اداء بعض وظائفه وصلاحياته.
وهكذا نرى أن الولي الفقيه ليس مطلق الصلاحيات فعلى سبيل المثال نجد أنه لا يتمكن من تعيين رئيس الجمهورية بدون انتخاب شعبي، كما لا يمكنه عزله بدون صدور حكم المحكمة العليا اورأي مجلس الشورى الاسلامي..
إيران.. نظام وقيم (95)
وحتى نعالج هذه المسألة بهدوء، وبعيدا عن ذلك الشغب الذي يثيره الإعلام، ويثيره معهم بعض الإسلاميين التقدميين أو السلفيين، نحاول هنا أن نطلع على الكيفية التي تنفذ بها ولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، سواء من خلال واقعها السياسي، أو من خلال المصادر الفكرية التي تنظر لولاية الفقيه، وتبين منهج تطبيقها.
وقبل أن نذكر تفاصيل ذلك، نحب أن نبين أن المشكلة لا تكمن في الصلاحيات المعطاة لأي جهة، وإنما المشكلة تكمن في تعامل تلك الجهة مع الصلاحيات التي أعطيت لها، وهل تعاملت معها بحكمة وأمانة وعلم أم لم تتعامل بذلك كله.
ذلك أنه لا يمكن لأي شخص أو مؤسسة أن تنفذ مشروعها ما لم تعط الصلاحيات التي تسمح لها بتنفيذه، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [يوسف: 55 - 57]
فيوسف عليه السلام كما تنص الآيات الكريمة قد أعطاه الله من العلم ما استطاع به أن يضع مشروعا لمواجهة المجاعة التي ستحل بالمصريين، وقد أخبر عزيز مصر عن ذلك المشروع، ولكن بما أنه لا يمكن تنفيذه إلا لصاحب الخبرة الكافية، مع الأمانة والحفظ، فقد رأى يوسف عليه السلام أنه لا يمكن لأحد أن يؤدي هذا الدور غيره؛ فطلب إعطاءه الصلاحيات الكافية لأداء ذلك الدور، والذي عبر عنه القرآن الكريم بالتمكين.
فالتمكين هو توفير الصلاحيات للحاكم المسلم الذي يجمع بين العلم والأمانة والأخلاق العالية، والتي تجعله يمارس دوره بكل حرية، لأنه لا يمكن لشخص أن يؤدي دوره الإصلاحي في الوقت الذي تقيد فيه يده عما ترشده إليه حكمته.
ولهذا أخبر القرآن الكريم عن سليمان عليه السلام أنه أعطي الصلاحيات الكثيرة التي
إيران.. نظام وقيم (96)
يمكنه من خلالها أن يؤدي دوره كحاكم مسلم، وقد قال تعالى مخاطبه له: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39]
وبناء على هذا؛ فلا حرج أن يعطى الفقيه الوارث للرسل عليهم السلام ما كان لهم من صلاحيات في إدارة البلاد، إذا ما كان لديه العلم الكافي بالدين والواقع، بالإضافة إلى الأخلاق العالية التي تجعله لا يقصد من أي حكم يصدره إلا المصلحة العامة، وخاصة إذا أضيف إلى ذلك كونه منتخبا من جهة الشعب، ويعمل تحت رقابته، وبمعونة الكثير من المستشارين في المجالات المختلفة، وهو فوق ذلك كله محاط بسياج الشريعة لا يحل له أن يخرج عنها، أو يتملص من أحكامها.
ففي هذه الحالة، لا يمكن اعتبار النظام نظاما استبداديا، لأن المستبد هو الجاهل صاحب المصالح الذي يفرض آراءه على الأمة التي لم تختره، ولم يتح لها أن تراقبه.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه لا يمكن لأحد أن يؤدي واجبه ما لم يعط الصلاحيات الكافية التي تخول له أداء ذلك الواجب، كما أشار إلى ذلك الشيخ مصباح يزدي عند تبريره للصلاحيات المعطاة للولي الفقيه؛ فقال: (حينما يعيّنون لأحد واجباً فيلزم ـ والحال هذه أن يوفروا له ظروف أداء ذلك الواجب، ويمنحوه القدرة القانونية لأدائه، وهذا يعني منحه الصلاحيات المناسبة لواجباته.. فحين يجعلون الحكومة مسؤولة عن الحفاظ على أمن البلاد الداخلي مثلاً، فلابد أن يمنحوها مستلزمات الحفاظ على الأمن، وكذلك حين يوكلون إليها مهمة الدفاع عن حدود البلاد، فلابد أن تمتلك صلاحية العمل بما يلزم لحراسة الحدود، وإلا فإن تعيين المسؤولية دون منح الصلاحيات اللازمة عبث لا جدوى منه) (1)
وأشار إليه الشيخ جوادي آملي بقوله؛ عند الحديث عن صلاحيات الحاكم الإسلامي: (يمكننا من خلال ما ذكر حول وظائف الحاكم الإسلامي أن نتعرف على صلاحيات الحاكم
__________
(1) الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه، الشيخ مصباح يزدي (ص: 38).
إيران.. نظام وقيم (97)
في الإسلام. فعندما يتم تحديد الوظيفة للعامل لابد بشكل طبيعي وبالحد الأدنى، أن تؤمن ظروف القيام بها ويعطى السلطة القانونية لأدائها بالإضافة إلى الصلاحيات المتناسبة معها. كمثال، عندما يكون الحاكم الإسلامي مسؤولاً عن تأمين الأمن الداخلي للبلاد، ينبغي أن يحوز على كل ما من شأنه أن يحفظ الأمن، وهكذا في مورد الدفاع، وإلا لزم من ذلك اللغو والعبث) (1)
بالإضافة إلى ذلك نرى في الواقع تلك التقلبات الكثيرة التي تصيب الدول التي لا تمنح مسؤوليها الصلاحيات الكافية؛ وهو ما يجعلهم لا يفكرون تفكيرا استراتيجيا يؤمن للدولة تقدمها وتطورها، بقدر ما يفكرون في إرضاء أولئك الذين انتخبوهم، حتى لو كان في ذلك مفسدة لمصالح الدولة في مستقبلها أو مبادئها.
وقد عبر عن ذلك الشيخ مالك مصطفى وهبي العاملي بقوله: (إن نظرية ولاية الأمة على نفسها هي نظرية الانقلابات المتكثرة واللاإستقرار الاجتماعي، والتخلي عن الدين كشرع يحكمنا في كل صغيرة وكبيرة؛ فإننا إذا بنينا على ولاية الأمة على نفسها بدون ضوابط، وكان هذا حقها الحصري، تأتي مجموعة أسئلة لتثير مخاوف تجعل مصالح الأمة في معرض التسيب والزوال؛ فإنه لو لم يكن للفقيه ولاية يتمكن من خلالها من إلزام الأمة بسلوك الطريق الصحيح، ونقصد الإلزام الشرعي، فهذا يعرض الأمة للفساد ولتسلط المنحرفين عليها ويفسح المجال لظهور حكومات لا علاقة لها بالإسلام، وفي هذا تضييع للهدف المنشود من وراء تشكيل حكومة ترعى شؤون المسلمين.. ثم ما أسهل أن تسيطر قلة قليلة على الأكثرية من خلال الإعلام ونمط تثقيفي تربوي معين وقدرة مالية، فبدل أن تكون الولاية للأمة على نفسها، وهو الشعار البراق، نكون قد أعطينا الولاية لتلك الفئة القليلة على الأمة) (2)
__________
(1) الكلمة الطيبة (دروس في ولاية الفقيه) جوادي آملي (ص: 9)
(2) الفقيه والسلطة والأمة مالك مصطفى وهبي العاملي (ص: 98)
إيران.. نظام وقيم (98)
وبناء على هذا أشار الخميني في مواضع كثيرة من كتبه وخطاباته إلى ضرورة إعطاء الولي الفقيه جميع الصلاحيات التي تتيح له أن يؤدي دوره في تحكيم الشريعة، لما لديه من مؤهلات وكفاءات تسمح له بذلك، ومن ذلك قوله في بعض رسائله: (لو كانت صلاحيات الحكومة محكومة بسقف الأحكام الفرعية الإلهية الكلية يصبح جعل الحكومة الإلهية والولاية المفوضة لنبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لغواً، وسيسبب ذلك ارتباكات على المستوى العملي لا يمكن لأحد أن يلتزم بها، كشق الشارع المستلزم أحياناً للتصرف في منزل أو في حريم منزل، فإن مقتضى الأحكام الفرعية الكلية هو عدم جواز هذا التصرف، ومثل نظام التجنيد الإجباري والبعث الإجباري إلى الجبهات، مع أن الأحكام الفرعية الكلية تقتضي عدم جواز ذلك إلا حين الوجوب العيني على كل مكلف. ومثل المنع من إدخال وإخراج العملات الصعبة، ومقتضى الأحكام الشرعية الكلية جواز ذلك. ومثل المنع من إدخال وإخارج أي سلعة ومنع الإحتكار عموماً، مع أن مقتضى الأحكام الشرعية حصر منع الإحتكار بالموارد الأربعة المعروفة. ومثل فرض الجمارك والضرائب بالخمس والزكاة ونحوهما مما أوجبه الشرع. ومثل المنع من الغلاء وتحديد الأسعار، والمنع من نشر المواد المخدرة ومنع الإدمان بأي نوع غير المسكرات، ومنع حمل الأسلحة مهما كان نوعها، ومئات من أمثلة ذلك التي تصبح بمقتضى ذلك التقييد خارجة عن صلاحية الحكومة) (1)
وبناء على هذا، وبناء على كون الولي الفقيه يمارس نفس الدور الذي مارسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دولته التي أقامها بالمدينة المنورة، كان من الواجب إعطاؤه كل الصلاحيات التي تتيح له ذلك، كما يذكر الخميني ذلك بقوله: (فالذي يجب قوله هنا أن الحكومة شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي من الأحكام الأولية المقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة
__________
(1) نقلا عن: بحوث في ولاية الفقيه، سلسلة المعارف الإسلامية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط 3، 2007 م، ص 55 - 59.
إيران.. نظام وقيم (99)
والصوم والحج. فبمقدور الحاكم أن يهدم مسجداً أو منزلاً من أجل شق شارع، ويستطيع أن يعطل المساجد حين اللزوم، وأن يهدم مسجداً يكون ضراراً إذا لم يمكن رفع الضرر بدونه. والحكومة تستطيع من طرف واحد أن تلغي العقود الشرعية التي عقدتها مع الناس حين يكون العقد مخالفاً لمصالح البلد والإسلام. ويمكنها المنع من أي أمر عبادي كان أو غير عبادي، إن كان تنفيذه على خلاف مصالح الإسلام. ويمكنها أن تمنع مؤقتاً من الحج الذي هو من الفرائض الإلهية المهمة حين يكون حسب تشخيصها على خلاف صلاح البلد الإسلامي) (1)
وكل هذه الصلاحيات التي ذكرها الخميني مقررة في كتب الفقه للحاكم المسلم حتى لو لم يكن فقيها، فكيف به إذا كان فقيها، وكان في نفس الوقت مفوضا من طرف الشعب نفسه كما عبر عن ذلك الخميني بقوله ـ في بيان يتعلق ببعض شؤون الدولة ـ: (بناء على الحق الشرعي، وعلى أساس الرأي المعطى لي من الأكثرية الساحقة من شعب إيران، فإني أعين من أجل تحقيق الأهداف الإسلامية مجلس شورى باسم شورى الثورة الإسلامية..) (2)
ومثل ذلك قوله عند تعيين حكومة بازركان: (إننا واستناداً إلى آراء عموم الناس التي ترون، ورأيتم أنها معنا وقبلوا بتوكيلنا إن شئتم التعبير أو بولايتنا لذا فإني كحاكم عليهم عينت تلك الحكومة بما لي من الولاية من الشرع المقدس) (3)
بناء على هذا، نحاول أن نذكر هنا الإجراءات العملية التي يتم من خلالها تنفيذ ولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي أحسن رد على كل تلك الشبه التي يطلقها المغرضون من غير أن يكلفوا أنفسهم بمطالعة الدستور الإيراني، ولا طريقة الحكم في مؤسساتها المختلفة.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) صحيفة نور ج 3، ص 105.
(3) صحيفة النور ج 3 ص 224.
إيران.. نظام وقيم (100)
وقد رأينا أن تطبيق هذا النظام يستدعي توفر أربعة شروط، كل شرط منها كفيل برد تلك الشبه، وبيان مدى مشروعية هذا النوع من الأنظمة وبعده عن كل الأشكال الاستبداد.
وهذه الشروط هي:
1 ـ توفر الكفاءة العلمية والأخلاقية في الولي الفقيه.
2 ـ توفر القابلية الشعبية للولي الفقيه.
3 ـ توفر المرجعية الشرعية والقانونية.
4 ـ توفر المؤسسات التشريعية والتنفيذيه.
وسنتناولها بالشرح في المباحث التالية:
أولا ـ الكفاءة العلمية والأخلاقية للولي الفقيه
وهو ما يجعل قراراته أقرب إلى الصواب؛ فهو لم يرث الحكم كما هو الحال في الأنظمة الملكية، ولم يصل إليه عن طريق انقلابات، كما هو الحال في الأنظمة العسكرية، وإنما تولاه بناء على ما لديه من كفاءات علمية وأخلاقيته زكته لدى العلماء، وعامة الشعب، وبذلك تكون تلك الكفاءة أكبر حاجز له عن الاستبداد والظلم.
وقد اهتم الفقهاء المؤيدون لولاية الفقيه ـ سواء كانوا من قادة الثورة الإسلامية أو من غيرهم، وسواء كانوا إيرانيين أو غير إيرانين (1) ـ بالمواصفات المؤهلة للولي الفقيه، والتي تتيح له القدرة على أداء دوره في التعامل مع الصلاحيات المتاحة له.
__________
(1) يصر الكثيرون على اعتبار مسألة ولاية الفقيه مسألة مرتبطة بالحوزات العلمية المتواجدة في إيران فقط، وأن سائر الحوزات ـ وخاصة الحوزة العلمية في النجف ـ تخالفها، وذلك غير صحيح؛ فالشيخ النراقي وهو كما ذكرنا سابقا من أشهر من قال بولاية الفقيه العامة هو من حوزة النجف، ومثله الشيخ النائيني، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد عبد الاعلى السبزواري، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ محمد اسحاق الفياض، والشيخ بشير النجفي، والسيد كاظم الحائري، فكل هؤلاء تلاميذ حوزة النجف الاشرف، وهم جميعاً يرون ولاية الفقيه العامة، والخميني نفسه أصدر كتابه (الحكومة الاسلامية) حينما كان في النجف، ففيها كان يدرّس ولاية الفقيه العامة.
إيران.. نظام وقيم (101)
وهم ينصون على أنها ـ مع كثرتها وصعوبة اجتماعها في شخص واحد ـ ضرورية جدا، ولا يمكن أن توزع على أشخاص كثيرين، لأن ذلك سيضعف الدولة وقرارتها، كما نص على ذلك المرجع الديني الكبير كاظم الحائري (1) في كتابه [أساس الحكومة الإسلامية]، والذي ألفه قبل انتصار الثورة الإسلامية بقوله: (إن نفوذ الكلمة في الحكومات الوضعية ـ وحتى الانتخابية ـ لا يخلو من أن يكون بيد فرد واحد أو بيد أكثر من فرد كاثنين أو ثلاثة، وهكذا بقدر ما تنتخبه الأمة مثلاً؛ فإن كان بيد فرد واحد تمتع الحكم بالمركزية والقوة والسيطرة الكاملة، وهي مفيدة في تنظيم الدولة، لكنه قد يبتلى بالاستبداد والعمل على إغفال الأمة. وكلما اتسعت دائرة من بيدهم الأمر ابتعد الحكم بذاك المقدار عن معرضيته للوقوع في الاستبداد، في حين ضعف تمتعه بتلك الدرجة من القوة والسيطرة والتنظيم) (2)
وبناء على هذا، وحتى تستفيد الأمة من القوة والمركزية، وتتفادى الاستبداد والظلم، وضع الفقهاء السياسيون المؤمنون بولاية الفقيه معايير نظرية وعملية كثيرة أشار إليها الحائري بقوله: (أما الشكل الذي جاء به الاسلام.. وفق ما تنقح في بحثنا عن ولاية الفقيه، فهو شكل ثالث؛ إذ هو لم يجعل الولاية بيد شخص واحد مما يقرب النظام إلى الاستبداد، ولا بيد مجموع الفقهاء بأن يشغل كل واحد منهم جزءاً من منصب الولاية مما يؤدي إلى ضعف المركزية، بل جعلها بيد كل واحد من الفقهاء الجامعين للشرائط، فكل واحد منهم حاكم مستقل، إلا أنه إذا تقدم بعضهم للحكم والتنظيم لم يجز للآخرين شق صفوف المسلمين ويجب عليهم التسليم ما لم ينحرف الأول، ولم يتورط في أخطاء أشد من مفاسد شق الصفوف، وبهذا الشكل احتفظ
__________
(1) هو كاظم الحسيني الحائري (1938 - الآن) هو مرجع شيعي عراقي مُعاصر مقيمٌ بمدينة قم الإيرانية، وهو أحد أبرز تلاميذ محمد باقر الصدر، وكانت تربطه علاقة وطيدة بالمرجع محمد محمد صادق الصدر، ويُتناقل أن الصدر قد أوصى مقلديه بأن يتّبعوا ثلاثة مراجع من بعده كان الحائري أحدهم، والاثنان الآخران هما: محمد اليعقوبي، ومُحمّد إسحاق الفياض، وثلاثتهم يؤمنون بولاية الفقيه.
(2) أساس الحكومة الإسلامية، كاظم الحائري (ص: 71).
إيران.. نظام وقيم (102)
الاسلام بمزايا كلا الشكلين من القوة والسيطرة الكاملة من ناحية، لأن الفقهاء الآخرين لا يبرزون الخلاف مادام القائمون بالأمر غير منحرفين ولا متورطين في أخطاء أكبر من مفاسد المخالفة، ومن الابتعاد عن الاستبداد من ناحية أخرى، لأن الفقهاء الآخرين أيضاً يتمتعون بنفوذ الكلمة ويراقبون الحاكم الأول ويقولون كلمتهم لو اقتضت المصلحة ذلك، وكان لابد من هذا الأسلوب مادام رئيس الدولة غير معصوم) (1)
ثم بين مدى أهمية هذا النوع من الأنظمة وضرورته وكونه يجمع بين قوة الدولة والحصانة من الاستبداد؛ فقال: (حينما يكون هذا النظام مقترناً بحواجز الورع والتقوى والموضوعية من ناحية، وبمراقبة الأمة للفقهاء ـ تلك الأمة العارفة باشتراط العدالة والكفاءة فيهم والمتربية على تعاليم السماء ـ من ناحية أخرى، وبالمشورة مع ذوي الاختصاص والخبرة في كل فن من الفنون من ناحية ثالثة، فإنه سيشكل خير نظام متصور للحكم.. بعيداً عن كل ألوان الاستبداد والظلم، يوجّه الناس نحو الاقتراب من رضا الله تبارك وتعالى، وهو الهدف الأقصى للاسلام الذي يسعد المجتمع البشري في الدنيا والآخرة) (2)
ومثله ذكر الشيخ جوادي آملي ـ وهو من الفلاسفة والمفكرين الإيرانيين الكبار ـ صورا لولاية الفقيه، وبين ضرورة كونها في شخص واحد، حفاظا على قوة الدولة، واستنانا بسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام وخلفائهم؛ فقال: (قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ الحياة الإنسانية الاجتماعية لا تتحقق بدون النظام والتشكيل، وهو قد يكون بالشورى، وقد يكون بالإمامة، بمعنى أنّ الحاكم الذي يرجع إليه في حلّ المشاكل، وبِيَده أزمة أمور الملكة وتنفيذها.. هل هو شخص واحد جامع لجميع الشرائط، أم أشخاص عديدون يتشاورون ويتبادلون وجهات النظر فيؤخذ بالمُجمع عليه أو المشهور بينهم ـ لأنهم إما أن يتفقوا على أمر فهو المُجمع عليه، أو
__________
(1) المرجع السابق، ص 72.
(2) المرجع السابق، ص 72.
إيران.. نظام وقيم (103)
يختلفون فيه بالأكثر والأقل فهو المشهور لديهم ـ ولكل من المسلكين فوائد ومزايا، ولكن الأولى هو الأول مهما أمكن؛ لِمَا جرت عليه سيرة الأنبياء حيث لم تعهد نبوة استشارية، ولا رسالة بالشورى، بل إنّ تعدد الأنبياء في عصرٍ ما إن كان يختص كل واحد منهم بقوم وقطر من الأرض، أو كان بعض منهم تابعاً لآخر نحو تبعية لوط لإبراهيم عليه السلام.. أو نحو تبعية هارون لموسى عليه السلام وإن كان شريكاً في أمره، ولكن لم يكن مساوياً له، بل كان وزيراً وعضداً لموسى عليه السلام، وهكذا جرت سمة الإمامة للأئمة حيث إنه لم تعهد إمامة استشارية، ولا خلافة وإمامة بالشورى) (1)
بناء على ما سبق ذكره؛ فقد حدد الدستور الإيراني الشروط المؤهلة لأي شخص لتولي هذا المنصب الرفيع، وذلك في المادة (109) منه، والتي تنص على أن (الشروط اللازم توفرها في القائد وصفاته هي: 1 - الكفاءة العلمية اللازمة للافتاءفي مختلف أبواب الفقه.. 2 - العدالة والتقوى اللازمتان لقيادةالامة الاسلامية.. 3 - الرؤية السياسية الصحيحة، والكفاءة الاجتماعية والادارية، والتدبير والشجاعة، والقدرة الكافية للقيادة.. وعند تعدد من تتوفرفيهم الشرائط المذكورة يفضّل من كان منهم حائزاً على رؤية فقهية وسياسية أقوى منغيره)
وهي نفس الشروط التي ذكرها الخميني في كتبه وبياناته حول ولاية الفقيه، والتي اختصرها في قوله ـ عند حديثه عن خصائص الوليّ الفقيه ـ: (الفقيه صاحب العلم والعمل، ذو السيرة الإسلاميّة، والسياسة الإسلاميّة، وأن يكون قد أفنى عمره في الإسلام والمسائل الإسلاميّة) (2)
ونص عليها في مواضع أخرى، فذكر أنه (شخص قد ثبت لدى الشعب أنّه ذو أخلاق ودين، وأنّه شخص وطنيّ وصاحب علم وعمل.. وهو الّذي ينتخبه الشعب، وهو الفقيه
__________
(1) العناصر الرئيسية للفكر السياسي الإسلامي، جوادي آملي (ص: 10)
(2) صحيفة نور، ج 5، ص 534.
إيران.. نظام وقيم (104)
الّذي أمضى عمره في الإسلام وخدمته.. وهو الفقيه المطّلع على المعايير والذي يعيش الحياة الّتي يعيشها الناس العاديّون.. وهو المجتهد المؤيَّد من قبل مجلس الخبراء، والمدافع عن حيثيّة الإسلام في العالم.. وهو شخص وقف نفسه لخدمة الإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة وكان في خدمة المحرومين والمستضعفين.. ويجب أن يُنتخب للقيادة أكثر الفقهاء لياقة ومعرفة والتزاماً) (1)
وهي شروط مبنية على أدلة عقلية ونقلية كثيرة، نص عليها قادة الثورة الإسلامية وفقهاؤها، ومنهم الخامنئ في كتابه [الحكومة في الإسلام]، بقوله: (إن المجتمع الذي يحمل أفراده إيماناً بالله، ينبغي أن تكون الحكومة القائمة فيه حكومة دينية إسلامية، تطبق التعاليم الإسلامية، وتنفذ الشريعة والأحكام الإسلامية في حياة الناس. وينبغي أن يكون على رأس تلك الحكومة شخص يتمتع بصفتين بارزتين وأساسيتين هما: أولاً: أن يكون الأعلم بالأحكام والشريعة والفقه الإسلامي، ثانياً: أن يتمتع بملكة ضبط النفس والسيطرة عليها من الوقوع في المعاصي وهو ما اصطُلح عليه عرفاً بـ[العدالة] (2).. هاتان السجيتان: من الضروري توفرهما في الشخص الذي يريد تطبيق الأحكام الإلهية والقوانين الإسلامية في المجتمع الإسلامي، وقد صرح دستور دولتنا بذلك بشكل واضح في باب [ولاية الفقيه]) (3)
ثم بين مدى البداهة التي تدل على هذا؛ فقال: (أعتقد أننا لسنا بحاجة إلى دليل نقلي للبرهنة على [ولاية الفقيه]، على الرغم من أن الأدلة النقلية الروائية متوفرة في القرآن والحديث، وكلها تدلل على حكومة الفقهاء والعلماء الربانيين. بيد أننا لو لم يكن لدينا أي دليل
__________
(1) المرجع السابق في مواضع متفرقة منها: ج 6، ص 234، ج 18، ص 41، وغيرها.
(2) عرف الخامنئي العدالة بأنها (ملكة نفسية وخصلة روحية تمكّن الإنسان من صيانة نفسه من ارتكاب الذنوب واقتراف الآثام، بيد أنها لا تعني العصمة، فالخطأ يمكن أن يصدر من الناس العاديين، ولكنها تعني عدم التعمد في ارتكاب المعصية أو الإصرار على مقاربة الذنب) [الحكومة في الإسلام (ص: 10)]
(3) الحكومة في الإسلام (ص: 9).
إيران.. نظام وقيم (105)
نقلي على حكومة الخبراء بالدين في المجتمع الإسلامي، فإن العقل والأدلة المنطقية تشير إلى حقيقة أنه من أجل تطبيق الأحكام الإلهية، وتنفيذ القوانين الدينية في المجتمع ينبغي أن يتصدى لذلك أشخاص يمتلكون الأهلية، والكفاءة والصلاحية اللازمة، في هذا المضمار ممن لديهم إطلاع ومعرفة بالشؤون الدينية، وإذا كان المتصدي لذلك ـ مثلاً ـ شخص لا يؤمن أساساً بحكومة الدين فإنه لا يكون جاداً في تنفيذ الأحكام الإلهية فيما بين الناس، ولربما لا يرضى بها أساساً.. إن هذا يكفي للتدليل على هذه الحقيقة دون الحاجة إلى نقل ما ورد في الآيات والروايات، وخصوصاً إذا كان الطرف المخاطَب يحمل مثل هذا الاعتقاد بضرورة تطبيق الأحكام الإلهية والقوانين الإسلامية في المجتمع، ويرى أن هذا من مستلزمات الإيمان بالله وبالإسلام، إذ من البديهي للمجتمع الذي تُدار إدارته للأحكام والقوانين الإسلامية، أن يحكمه ويديره امرؤ مطّلع وعارف بهذه الأحكام) (1)
والتساؤل الوجيه الذي يثار بعد هذا هو عن كيفية التعرف على تلك الشروط ومدى توفرها في المتصدي لهذا المنصب الرفيع، خاصة مع وجود الكثير من المراجع والعلماء والفقهاء، وقد طرحت لتحقيق هذا الكثير من الصور.
منها اعتماد الطرق التي تثبت بها المرجعية، وعيب هذه الطرق ـ كما يذكر مالك مصطفى وهبي العاملي ـ هي كونها تحدد الفقيه الذي يجيب عن التساؤلات البسيطة للفرد والمجتمع، ولا يرقى لأن يجيب عن التساؤلات التي تحتاجها الأمة جميعا، يقول في ذلك: (نحن نعرف طرق التشخيص المتبعة في المرجعية وقد ذكرت في الكتب الفقهية وهي الطرق الثلاثة المعروفة: شهادة أهل الخبرة، والشياع المفيد للعلم، والمعرفة الشخصية بالشخص المتصدي للمرجعية، وهذه الطرق الثلاثة وإن أمكن اعتمادها في باب المرجعية، لكن لا يمكن تبينها كلها في باب
__________
(1) الحكومة في الإسلام (ص: 11).
إيران.. نظام وقيم (106)
الولاية) (1)
أما سبب رفض الطريق الأول، وهو البينة المؤلفة من قول شاهدين من أهل الخبرة؛ فترجع ـ كما يذكر ـ إلى ثلاثة نواح، هي (2):
1 ـ أن البينة ذات بعد فردي لا اجتماعي، ولذلك لا تشكل أساساً لمعرفة اجتماعية، إذ الذي يطلع عليها هو الفرد، وهذا لا يفيد بالنسبة للأمة.
2 ـ أنه سيفسح المجال لأن يكون جميع الفقهاء ولاة فعليين، إذ ما من فقيه متصد أو يريد التصدي إلا وسيجد من يشهد له بأهليته لذلك، بل ربما يأتي أناس يدعون أنهم أهل خبرة كما يحصل أحياناً في مجال التقليد، فتضيع الأمور على الناس وتتشابك، وربما نتنازع فيما بيننا وفي هذا تضييع لهدف تشكيل الحكومة الإسلامية.
3 ـ أنه ستظهر حالات التعارض في شهادات أهل الخبرة لتعيين الأفضل، لأن البينة التي تشهد على أفضلية فلان تنفي أفضلية غيره فيقع التعارض والتنافي بين البينات وتسقط تلك الشهادات عن الإعتبار.
أما الطريق الثاني، وهو المعرفة الشخصية، فهذا ـ كما يذكر العاملي ـ (ينفع صاحب المعرفة فقط دون غيره، ويستحيل عادة أن يملك جميع أفراد الأمة الخبرة الشخصية الكافية لمعرفة أهلية الشخص للولاية) (3)
أما الطريق الثالث، وهو [الشياع المفيد للعلم أو الإطمئنان]؛ فهو مع أهميته وعقلانيتة إلا أن المشكلة فيه هو صعوبة التحقق من مدى صدق ذلك الشياع.
وقد تبنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية هذا الطريق، بعد توفير الشروط المناسبة التي
__________
(1) الفقيه والسلطة والأمة، مالك مصطفى وهبي العاملي (ص: 68).
(2) المرجع السابق، (ص: 69)
(3) المرجع السابق، (ص: 69)
إيران.. نظام وقيم (107)
تؤمن صدق الشياع، وكونه مفيدا حقيقة لليقين العلمي، وذلك عبر (تشكيل مجلس حاشد من أهل الخبرة العدول، وبالتالي يمكن من خلال إيكال الأمر إلى هؤلاء تحصيل العلم أو الإطمئنان بكفاءة الشخص المعين للولاية، أو بأفضليته إن كنا نبحث عن الأفضل.. ومع تحصيل العلم أو الإطمئنان من قول أهل الخبرة بالأفضلية لا يضر حينئذ أي قول معارض، لأن قول هذا المعارض هو في أحسن الحالات لن يفيد أكثر من الإحتمال الضعيف الذي لا يعتني به عقلائياً) (1)
وميزة هذا المجلس ـ وهو ما يسمى في إيران [مجلس الخبراء]ـ هو كونه مجلسا منتخبا من طرف الشعب، وبذلك يكون للشعب، ولو بطريق غير مباشر، دورا في تحديد الولي الفقيه، وهذا له دور كبير في تشخيص من توفرت فيهم الكفاءة العلمية والخلقية لهذا المنصب الرفيع، ذلك أن هذا الانتخاب يستدعي أن يكون الفقيه صاحب سمعة طيبة، وأخلاق عالية، وقدرات على فهم المجتمع، وبذلك يُعزل عن هذا المنصب الرفيع كل من لم تتوفر فيه هذه الشروط الأساسية.
وقد بين العاملي مزايا هذه الطريقة، وإن كانت لم تستعمل في التاريخ الإسلامي إلا بعد الثورة الإسلامية الإيرانية؛ فقال: (وهذا الذي قلناه يقتضي أنه لا يكفي أن يكون الشخص المطروح للولاية غائباً عن علم الناس وخبرائهم، كما لا يكفي أن يكون معروفاً عند القلة القليلة منهم، بل لابد من أن تعترف معظم الأمة به وقبولها لقيادته، وذلك إما من خلال معرفتها التامة به، أو من خلال شهادة كثيرين من أهل الخبرة المرضي عنهم من قبل الأمة بكفاءته وأهليته، أو من خلال تعينه من بين الفقهاء بذلك) (2)
وبهذا استطاع هذا النظام أن يحتمي من أكبر أسباب الاستبداد والتسلط، وهو تصدي
__________
(1) المرجع السابق، (ص: 70)
(2) المرجع السابق، (ص: 67)
إيران.. نظام وقيم (108)
الظلمة والمستكبرين لتولي المناصب الرفيعة، والتمتع بالصلاحيات العالية التي تجعلهم يمارسون طغيانهم على المجتمع.
ذلك أن المجتمع ـ بحسب هذه الطريقة ـ هو الذي يحدد خبراءه وفقهاءه الذين لا تتوفر فيهم القدرات العلمية فقط، وإنما يتوفر معها الكثير من التقوى والعدالة والأخلاق العالية، ذلك أن المرء مهما حاول أن يخفي أخلاقه، فستظهر لا محالة في سلوكه، ومع المختلطين به.
ثانيا ـ القابلية الشعبية للولي الفقيه
وهذا ما يطلق عليه في الاصطلاح الشرعي [البيعة]؛ فهي تعبر عن قابلية المجتمع لنظام الحكم، وللفقيه الذي يتولاهم، وهو بذلك يمارس دوره وفق تلك القابلية، ولا يفرض نفسه عليهم.
ومع أن نظام ولاية الفقيه ـ كما عرفنا في المبحث الأول ـ يستند إلى الشرعية الدينية، باعتبار الفقيه نائبا عن الرسل والأئمة في إدارة شؤون الأمة، إلا أننا نجد للبعد الشعبي فيها محلا كبيرا، ذلك أن الولي الفقيه نفسه ـ كما ذكرنا سابقا ـ لا يمكن أن يُرشح لهذا المنصب إلا بعد أن تتوفر له القابلية الشعبية، وبعدها تتوفر له قابلية النخبة في مجلس الخبراء.
وقد صرح الخميني قبل انتصار الثورة وبعدها بأن الغرض من الثورة هو أن يملك الشعب زمام أمره بيده، ويستقل في قراراته، ولا يفرض عليه أي شيء خارج إرادته، ومن ذلك قوله في حوار أجرته معه صحيفة [فاينانشل تايمز] البريطانية، قبل انتصار الثورة الإسلامية: (من الحقوق البديهيّة لأيّ شعب أن يمتلك زمام ومصير تعيين شكل ونوع حكومته) (1)
وعندما سئل عن المقصود من [الجمهوريّة الإسلاميّة] قال: (ماهيّة حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة أنّها الّتي تتشكّل طبق الشروط الّتي وضعها الإسلام للحكومة معتمدة على آراء
__________
(1) الوصيّة الإلهيّة السياسيّة، ص 42..
إيران.. نظام وقيم (109)
عموم الشعب، وتتعهّد إجراء الأحكام الإسلاميّة) (1)
وقال في محل آخر: (نحن نتّبع رأي الشعب. ونحن نتّبع كلّ ما يريده الشعب. ونحن لا يحقّ لنا، ولم يجز الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لنا، أنْ نجبر مسلماً على شيء ما) (2)
وهكذا نجد للشعب وقابليته محلا كبيرا في خطاباته، حيث يصرح فيها بأمثال هذه العبارات: (المعيار رأي الشعب)، أو (أعيِّن الحكومة بما منحني الشعب من قبول) (3)
بل إنه يصرح بأن الولي الفقيه نفسه هو نتيجة عملية لقرار الشعب وخياره، حيث يقول: (الفقيه الّذي ينصبه الشعب للقيادة) (4)، ويقول: (يجب العمل على انتخاب أكثر الفقهاء لياقة وعلماً والتزاماً للقيادة)، ويقول في وصيته: (ووصيّتي إلى الشعب الشريف أن يكونوا حاضرين في جميع الانتخابات... أو انتخاب الخبراء لتعيين شورى القيادة، وأن يكون منتخبوهم وفق الضوابط الّتي تجب مراعاتها، مثلاً لينتبهوا إلى أنّه إذا حصل تسامح في انتخاب الخبراء لتعيين شورى القيادة أو القائد.... فمن المحتمل جدّاً أن تلحق بالإسلام والبلد خسائر لا تعوّض) (5)
وقال فيها مخاطباً رئيس مجلس الخبراء: (إذا انتخب الشعب مجلس الخبراء الّذي يقوم باختيار مجتهد عادل للقيادة، فعندما يقومون بتعيين شخص لهذه المهمّة فهو بالضرورة محلّ قبول الشعب، وسيصبح الوليّ منتخباً من الشعب وحكمه نافذاً) (6)
ويبين أن كل المكتسبات التي حصلت عليها الجمهورية الإسلامية هي نتيجة لتضحيات الشعب، ولذلك يجب أن يحافظ عليه عبر مراقبته لكل ما يحصل في الواقع، يقول في وصيته:
__________
(1) شهرية كتاب ماه، 30 فروردين 1378 هـ ش، ص 11.
(2) شهريّة كتاب ماه، 30 فروردين 1378 هـ ش، ص 11.
(3) 12/ 11/1357 هـ ش..
(4) الإمام الخمينيّ، صحيفة نور، ج 2، ص 434.
(5) الوصيّة الإلهيّة السياسيّة، ص 51،.
(6) صحيفة نور، ج 21، ص 129.
إيران.. نظام وقيم (110)
(أما وصيتي إلى الشعب الإيراني العزيز فهي أن (تقدروا) النعمة التي كسبتموها بجهادكم العظيم وبدماء شبابكم الرشيدين، قدّروها حق قدرها كأعز الأمور إليكم، وحافظوا عليها واحرسوها، وابذلوا الجهد في سبيلها فهي نعمة عظيمة إلهية وأمانة كبيرة ربانية. ولا تهابوا المشاكل التي تواجهكم في هذا الصراط المستقيم.. وشاركوا حكومة الجمهورية الإسلامية بكل مشاعركم في مشاكلها واسعوا لحلها، واعتبروا الحكومة والمجلس جزءاً منكم، وحافظوا عليها محافظتكم على محبوب عزيز) (1)
وهكذا راح يوصي مؤسسات الحكوم برعاية الشعب والاهتمام به وتلبية حاجاته؛ فيقول: (وأوصي المجلس والحكومة والمسؤولين أن يقدروا هذا الشعب حق قدره. وأن لا يألوا جهداً في خدمته وخاصة المستضعفين والمحرومين والمظلومين منهم، فهؤلاء ضياء أعيننا وأولياء نعمتنا جميعاً، والجمهورية الإسلامية عطيتهم وتحققها كان بفضل تضحياتهم، وبقاؤها رهين خدماتهم. اعتبروا أنفسكم من الجماهير والجماهير منكم، واسعوا دائماً إلى إدانة الحكومات الطاغوتية، (فحكامها) غزاة ناهبون متوحشون ومتعنتون وفارغون، (هذه الإدانة) طبعاً (يجب أن تتم) بأعمال إنسانية تليق بحكومة إسلامية) (2)
وهكذا نرى القائد الحالي للجمهورية الإسلامية السيد علي الخامنئي يذكر في كتبه وخطبه القابلية الشعبية، وكونها الحصن الأكبر الذي يعتمد عليه نظام ولاية الفقيه؛ فهو نظام ولد من أحضان المجتمع، ولم يفرض عليه من جهة خارجية، ومن ذلك قوله في كتابه [الحكومة في الإسلام] عند بيانه لصلاحيات الولي الفقيه، وانسجامها مع المطالب الشعبية: (إن إشراف الولي الفقيه على جميع المراكز الأساسية والمرافق الحساسة في المجتمع الإسلامي، أمر ضروري، وقد استجاب دستورنا لهذه الضرورة ولبّاها؛ فإن الولي الفقيه يمارس بالفعل إشرافه ـ كما ورد
__________
(1) وصية الامام (ص: 31).
(2) المرجع السابق، ص 32.
إيران.. نظام وقيم (111)
في دستور الجمهورية الإسلامية ـ على جميع المراكز الحيوية والحساسة في هذا المجتمع، وله حضور فاعل ومؤثر فيها، وهذا أمر ليس بحاجة إلى دليل وبرهان، بل العجيب هو ما قد يطرحه بعض الأشخاص مما يعدّونه دليلاً على رفض ولاية الفقيه ودحضها) (1)
ثم بين أسباب تلك القابلية الشعبية التي توفرت في الإيرانيين، فجعلتهم ينتخبون على ولاية الفقيه بنسبة عالية جدا؛ فقال: (وطبعاً إذا كان ثمة مجتمع ليس لديه أدنى اهتمام بالقيم الإلهية والمعايير الدينية، فإنه يرضى أن يكون على رأسه امرؤ يفتقد إلى أي من الأخلاق الإنسانية، وأن يكون الحاكم فيه شخص محترف للفن ـ مثلاً ـ أو ثري ذو أموال طائلة، ليقوم بتسيير عجلة الأمور فيه، أما المجتمع الملتزم بالقيم الإلهية، والقائم على اعتناق عقيدة التوحيد، والنبوة والشريعة الإلهية، فإنه لا يرى بداً من القبول بأن يكون على رأسه شخص عالم بالشريعة الإسلامية والتعاليم الإلهية، وتتجسد فيه الأخلاق الفاضلة، وتتجلى فيه الخصال الحميدة، ولا يقترف الذنوب ولا يرتكب المعاصي، ولا يقع عمداً في الخطأ والاشتباه، غير جائر ولا ظالم ولا طامع في شيء من الحطام لنفسه، بل يتحرق للآخرين ويفضل إقرار القيم الإلهية على القضايا الشخصية والأمور الذاتية والمصالح الفئوية) (2)
ومن خلال هذه النصوص والتصريحات، والتي سنرى الكثير من تطبيقاتها في الفصل الثاني من هذا الكتاب، يتبين لنا مدى بعد النظام الإيراني عن الاستبداد، ذلك أن المستبد لا يعترف بشعبه، ولا يراعي له حرمة، ولا يهتم بقابليته، ولا برفضه، لأنه يعتبر نفسه وصيا عليه، لا ابنا من أبنائه، على خلاف ما نراه في الواقع السياسي الإيراني، والذي يتلاحم فيه الشعب ومسؤوليه تلاحما شديدا، وهو ما أعجز قوى الاستكبار العالمي عن مواجهته، ذلك أنه يستحيل الانتصار على شعب يؤمن بنظامه، بل يقدسه.
__________
(1) الحكومة في الإسلام، السيد علي الخامنئي (ص: 11).
(2) المرجع السابق، ص 11.
إيران.. نظام وقيم (112)
ثالثا ـ توفر المرجعية الشرعية والقانونية للدولة
من أهم ما يُرد به على دعوى الاستبداد المرتبط بولاية الفقيه كون الفقيه نفسه خاضعا في تصرفاته ومواقفه وحكمه، بل حتى في حياته الشخصية لما يمليه عليه وصفه الذي بموجبه أعطي تلك الصلاحيات، وهو وصف [الفقه]؛ فلو أنه تخلى عنه لحظة واحدة، ولو في حياته الشخصية، فارتكب كبيرة من الكبائر التي تخرجه من العدالة، لكان لمجلس الخبراء المنتخب شعبيا عزله كما ينص على ذلك الدستور الإيراني.
ولذلك كان من الصعب وصف من هذا حاله بالمستبد، وكيف يكون مستبدا، وهو يعمل بنفس القانون الذي يحكم به شعبه، بل هو يلزم نفسه بأن يكون أكثر التزاما منهم به، لأنه لم يحظ بفرصة التولي عليهم إلا بعد ذلك التمحيص الطويل الذي رشحه لأن يزكيه لا عامة الشعب فقط، وإنما يزكيه معهم الفقهاء والعلماء والمفكرون والنخبة المثقفة.
ولهذا عندما نطالع بيانات وخطب ومواقف قادة الثورة الإسلامية نجد هذه المعاني تتردد كل حين، ليذكروا الشعب بأن القانون هو الحَكَم الذي يخضع له الجميع، وكيف لا يخضعون له، وهو مستمد من شريعة الله تعالى؟
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الخميني عند حديثه عن مدى التزام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقانون، باعتباره أول ولي فقيه في الأمة، وباعتباره المرجع الأول لجميع الفقهاء؛ فقد قال في ذلك: (القانون هو الّذي يحكم في الإسلام. والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخلّف أبداً عن القانون الإلهيّ، فهو تابع له، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46]) (1)
ويقول في موضع آخر: (في باب أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذُكر أنّه لم يطلب شيئاً لنفسه أو
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 10، ص 310 و311.
إيران.. نظام وقيم (113)
يردّ مظلمة عنها، فإذا ما هُتكت محارم الله تعالى، فإنّه كان يغضب لله تبارك وتعالى) (1)
وبناء على ذلك يذكر أن جميع فقهاء الأمة، وأهل الحكم فيها ملزمون بتطبيق القوانين الإلهية، التزاما حرفيا استنانا بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول في ذلك: (إنّ حكم الله وقانون الإسلام يجري على جميع الأفراد في الحكومة الإسلاميّة، فهو يشمل جميع الأفراد من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى خلفائه عليهم السلام وسائر أفراد المسلمين بدون استثناء) (2)
وبناء على ذلك أيضا؛ فإن القانون ـ كما يذكر الخميني ـ هو السلطان الأكبر الذي يحكم الأمة، والذي على جميع الشعب طاعته والخضوع له، ابتداء من قائده، وانتهاء بجميع مؤسساته، يقول في ذلك: (إنّ حكومة الإسلام هي حكومة القانون، هي حاكميّة القوانين الإلهيّة من القرآن والسنّة، والدولة تابعة للقانون أيضاً، فنفس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تابع للقانون، وكذلك نفس أمير المؤمنين كان تابعاً للقانون أيضاً، فما كانوا ليتخلّفوا عن القانون طرفة عين أبداً، وما كانوا يستطيعون ذلك لو أرادوا) (3)
ويقول في خطاب له بعد انتصار الثورة الإسلامية: (الإسلام دين القانون، حتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن باستطاعته أن يخالف.. إنه حكم القانون ولا حكم لغير القانون الإلهي، لا الفقيه ولا غير الفقيه، الجميع تحت القانون، إنهم مجرون للقانون ومنفّذون، الفقيه وغير الفقيه كلهم مجرون للقانون، الفقيه ناظر على هؤلاء الذين يجرون القانون حتى لا يخالفوا القانون، لا أنه يريد هو أن يحكم.. يريد أن يمنع تحول الحكام الذين يفترض بهم أن يطبقوا القانون ـ إلى طواغيت) (4)
ولهذا كان يدعو كل حين للتعجيل بسن القوانين التي تحكم البلاد، لأن الدولة القوية
__________
(1) شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 244.
(2) الحكومة الإسلامية، ص 44 ـ 45..
(3) صحيفة الإمام، ج 11، ص 22.
(4) المرجع السابق، ج 10، ص 48.
إيران.. نظام وقيم (114)
العادلة هي دولة القانون، يقول في خطاب وجهه لأساتذة وموظفي جامعة شيراز في أوائل أيام انتصار الثورة الإسلامية: (كلنا نعرف مواطن الخلل، إلا أن لذلك وقته، حاجتنا الأساسية الآن تدوين الدستور والاستفتاء عليه.. كل هذا الخلل القائم (في المرافق المختلفة) يجب أن يعالج، إلا أن وقت العلاج يحين عندما نستقر عندنا حكومة (دائمة).. ويمكننا أن نقول للعالم: هذا بلدنا، هذا نظامنا، هذا قانوننا، وهذا رئيس جمهوريتنا، هذا مجلسنا، ليعترف الناس وتعترف الدنيا بأننا نظام بكل معنى الكلمة، عندها ننصرف إلى هذه الجزئيات) (1)
ويقول في خطاب آخر: (أنتم تعلمون أننا نمر بمرحلة حساسة تستدعي اجتياز الاستحقاقات التي نواجهها، وهي الخطوات الأولية التي هي عبارة عن الدستور ومجلس الخبراء، ومجلس النواب ورئيس الجمهورية، وكل ما هو أساس في بناء الدولة، هذه هي الاستحقاقات ويجب أن يتحد الجميع لإنجاز ذلك. في مثل هذا الموقع الحساس يحاول الأعداء أن يحولوا دون اجتياز هذه المراحل، ولهذا رأيتم أنهم لجأوا إلى التشويش في الاستفتاء على شكل الجمهورية، ويحاولون ذلك الآن ليمنعوا تحقيق الأهداف الإسلامية) (2)
بالإضافة إلى هذا؛ فقد ضرب الخميني من نفسه أحسن مثال عن الخضوع والامتثال التام للقوانين التي تسن في البلاد، ومن الأمثلة على ذلك قوله في خطاب له لابنه أحمد: (جاءني مبعوث من قبل السيد كلبايكاني، وقال: إن سماحته أكد على الحذر من معارضة مسألة الملكية التي تم طرحها في مجلس الخبراء، للإسلام وتعاليمه، كي لا تثير الاعتراض، وطلب الاتصال بالسيد بهشتي، فتول أنت الاتصال وأكد لهم ضرورة الحذر من حصول أية مخالفة للشرع حتى لا تلقى معارضة) (3)
__________
(1) المرجع السابق، ج 8، ص 78.
(2) المرجع السابق، ج 8 ص 102.
(3) المرجع السابق، ج 9، ص: 255.
إيران.. نظام وقيم (115)
ومن الأمثلة على ذلك أيضا، قوله في رسالة له متحدثا عن ابنه أحمد وممتلكاته: (إني أعلن أنه ليس لأحمد في أي بنك داخلي أو خارجي أو أي مؤسسة أي سهم أو مبلغ، وأنه لا يملك في أي مكان ما في الخارج أو الداخل أي أرض زراعية كانت أو غير ذلك، ولا يملك أي مبنى أو ما شابه ذلك. وإذا تبين من بعدي أنه يملك أيا من ذلك في الداخل أو الخارج، فأنه على الحكومة آنذاك أن تصادرها منه بإجازة فقيه ذلك الزمان، وأن تحاكمه. والمؤمل هو أن يراعي مسؤولو الجمهورية الإسلامية دوما الضوابط، وأن يحترزوا من العلاقات) (1)
وعلى دربه سار خليفته الولي الفقيه المعاصر السيد علي الخامنئي الذي نراه لا يدع مناسبة إلا ويتحدث فيها عن كون القوانين هي الحاكمة في البلاد لا أهواء المسؤولين، ومن ذلك قوله في مراسم تنفيذ حكم رئاسة جمهوريّة الرئيس خاتمي (2/ 8/2001): (في النظام الإسلاميّ - أي سيادة الشعب الدينيّة - الشعب ينتخب، يتّخذ القرارات، ويتولّى إدارة أمور البلاد من خلال منتخبيه، لكنّ هذه الإرادة وهذا الانتخاب والاختيار هي في ظلّ الهداية الإلهيّة، ولا تسير أبدًا خارج طريق الصلاح والفلاح، ولا تتنكّب أبدًا عن الصراط المستقيم، المسألة الأساسيّة، في سيادة الشعب الدينيّة، هي، أنّها هديّة الثورة الإسلاميّة للشعب الإيراني، هذه التجربة الجديدة والحديثة العهد، لكن يمكن التأمّل فيها ومتابعتها ومحاكاتها، لكلّ الذين تتوق قلوبهم للفضائل وللمجتمع الإنسانيّ الطاهر والنزيه، ويعانون من الرذائل الأخلاقية وانتشار قبائح الأخلاق البشريّة) (2)
ويقول في خطابه لأعضاء مجلس خبراء القيادة (14/ 3/2002): (إنّه لخطأ كبير أن نخلط ونمزج اليوم بين سيادة الشعب الدينيّة، بهذه الفلسفة العميقة ورعاية حقّ الشعب، وبين
__________
(1) نص الرسالة كاملة في موقع: دار الولاية للثقافة والإعلام.
(2) تأسيس الحضارة الإسلامية في فكر الإمام الخامنئي (ص: 43)
إيران.. نظام وقيم (116)
ما هو موجود في الغرب. هذه هي السيادة الشعبيّة الحقيقيّة، والشارع المقدّس، طبق الموازين الفقهيّة التي بين أيدينا.. ذلك لأنّ الأصل هو عدم سلطة أحد على أحد، عندما يريد إنسان أن يتدخّل في شؤون الناس الآخرين، ينبغي لهذه المؤهّلات أن تكون موجودة حتماً. تشخيص هذه المؤهّلات - أيضًا وطبق نهجٍ عقلائيّ ومحطّ ثقة يقع على عاتق الأشخاص الذين لهم القدرة على ذلك، والشعب في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة يعلن عن هذا الطريق اختياره وبيعته. إنّ مشاركة الشعب واختياره بواسطة الأشخاص، الذين يعرفون هذه المؤهّلات ولديهم القدرة على تشخيصها في الشخص، والذين هم مسؤولون عن الإشراف عليها، ومراقبة وجودها وبقائها، والذين يعرفون ما يجري- هي من أرقى الوظائف الموجودة) (1)
وهكذا نجد جميع القادة والمفكرين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعتبرون القانون المستمد من الشريعة الإسلامية هو الحكم الأعلى في البلاد، ولا يجوز لأحد تجاوزه، ابتداء من الولي الفقيه نفسه، بل يذكرون أن دور الولي الفقيه هو مراقبة تطبيق القانون في الواقع، ولذلك تكون مسؤوليته في تطبيقه مضاعفة، بل هو أولى الناس بتطبيقه.
ومن الأمثلة على ذلك قول الشيخ جوادي آملي في كتابه [ولاية الفقيه ولاية الفقاهة والعدالة] في معرض جوابه عن سؤال حول معنى [الجمهورية الإسلامية]: (لقد حدد الإسلام علاقته بالجمهور أو الجمهورية أولاً، وحدد ارتباط الجمهور بالدولة ومصادر الثروة وكيفية التوزيع وطريقة تنظيم العلاقات داخليا ودوليا... ثانياً، وتتمثل علاقة الإسلام بالجمهور بأنه وليهم لا وكيلهم، فالمستشار والمعاون والمضارب والمساقي والمزارع والضمين والمحامي سواء كان حقوقيا أو ماليا، وجميع الأشخاص الذين يحيون في ظل نظام الجمهورية الإسلامية، مسؤولين كانوا أم غير مسؤولين، القائد منهم وأعضاء مجلس الخبراء ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى وغيرهم إنما يخضعون لولاية الإسلام لا غير، وبالطبع فإنّ الشخصية
__________
(1) المرجع السابق، (ص: 44)
إيران.. نظام وقيم (117)
الاعتبارية للقائد الإسلامي ـ الفقاهة والعدالة ـ ليس سوى الإسلام، فالقائد شأنه كشأن سائر أبناء الأمة تابع محض للشخصية الاعتبارية أي القوانين الإسلامية، ويتضح من خلال بيان كيفية ارتباط الجمهور بالإسلام أن ارتباط الجماهير بالأحكام الإلهية ارتباط ولائي، وليس توكيلا وما شابه ذلك، والموارد التي حددها الإسلام كحقوق أو واجبات أو صلاحيات أو تكاليف للجمهور إنما يصادق عليها وتنفذ في ضوء دراسة من قبل خبراء الأمة ـ مباشرة أو غير مباشرة ـ والرؤية الفقهية للفقهاء تحت إشراف الفقيه الجامع لشرائط القيادة، وكذلك في ضوء وجهة النظر الحقوقية للحقوقيين المتخصصين والملتزمين وبالأشراف الآنف الذكر)) (1)
ويقول في كتابه [الكلمة الطيبة: دروس في ولاية الفقيه] في بيان أنواع الحكومات وعلاقتها بالاستبداد: (يمكن تقسيم الحكومات إلى ثلاثة أنواع: أولها، الحكومة الاستبدادية المبنية على أساس السيطرة والقوة، حكومة الأقوى الذي يمسك زمام الأمور بكل قدرة ممكنة، كما كان مثل فرعون.. الثانية حكومة الناس على الناس (حكومة الشعب): وتقوم هذه الحكومة على أساس رأي الأكثرية، وهدفها تأمين حاجات الناس، مثل الحكومات التي يصطلح عليها بالديمقراطية التي تنتشر في عالم اليوم، ويكون المعيار للمصلحة والفساد والجمال والقبح والحق والباطل والخير والشر مبنياً على رأي الأكثرية.. وثالثها الحكومة الإلهية، وهذا النوع من الحكومات ليس حقاً للحاكم الذي يظفر بالقوة والسلطة، ولا حقاً للناس بحيث تكون خاضعة لقوانينهم، بل هي حق لله الذي هو رب العالمين، أما حدود فعالية هذا النوع من الحكومات فإنها تشمل، بالإضافة إلى الأمور الاجتماعية، الأخلاق والعقائد. فهي تقدم لهم البرنامج الواضح على مستوى العقيدة وتقرر لهم القوانين والقواعد على مستوى الأخلاق والسلوك. لهذا، فإن حق السلطة في الحكومة الإسلامية ينحصر بالله، وجميع المؤمنين في هذا الدين متساوون، وعليهم جميعاً رعاية القانون والأمر الإلهي. وبتفويض أمورهم ومصيرهم
__________
(1) ولاية الفقيه ولاية الفقاهة والعدالة جوادي آملي (ص: 56).
إيران.. نظام وقيم (118)
إلى الله في جميع الأحوال، فإنهم يقبلون بسلطة الحاكم والولي المعين من قبل الله. ومن هنا، ففي مثل هذه الحكومة لا يوجد فرق بين الحاكم الذي يكون نبياً أو إماماً أو مجتهداً عادلاً وبين أفراد المجتمع ـ سواء من ناحية شمولية الفتوى أو القانون أو من حيث القيادة والولاية ـ وهذا ما يختلف عن سائر الحكومات الأخرى. فإن الحاكم وجميع أبناء الشعب ملزمون برعاية الأحكام الإلهية والحكومية) (1)
ويضرب مثالا على ذلك بقول الإمام علي: (أيها الناس، إني والله ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها) (2)
ونحب أن نرد هنا باختصار على شبهة يوردها الكثير من المغرضين، وهي كون الدستور الإيراني ينص على أن المذهب الرسمي في إيران هو المذهب الجعفري الاثنا عشري، ويبنون على ذلك بأنهم لا يستمدون قوانينهم من الفقه الإسلامي المتداول لدى المذاهب السنية، وإنما يطبقون دينا آخر غير الإسلام، ويبنون عليه كذلك كون إيران دولة طائفية وأن دعواتها للوحدة الإسلامية لا تنسجم مع اعتبارها للمذهب الجعفري مذهبا رسميا.
والذين يطرحون هذه الشبهة، لا يعرفون المذهب الجعفري، ولا الأصول التي يعتمد عليها، ولا الفروع التي نشأت عنها، ولو أنهم طالعوها من كتب الفقه القديمة والحديثة لعرفوا أن هذا المذهب، وخاصة في شؤون الحياة المختلفة، لا يختلف كثيرا عن سائر المذاهب، بل هو يتفق معها في أكثر الفروع، بالإضافة إلى أنه يمنح مساحة كبيرة للاجتهاد المبني على القواعد الشرعية، والذي لا يخالف النصوص القطعية من الكتاب والسنة.
بالإضافة إلى ذلك، فإننا نرى كل دولة من دول العالم الإسلامي تعتمد مذهبا رسميا، مع كونها قد يكون فيها مذاهب أخرى، ومن الأمثلة على ذلك، أن السعودية ـ عبر هيئاتها
__________
(1) الكلمة الطيبة (دروس في ولاية الفقيه) جوادي آملي (ص: 12).
(2) نهج البلاغة، 2/ 90.
إيران.. نظام وقيم (119)
الدينية الرسمية ـ تتبنى المذهب الحنبلي بل السلفي المغالي، مع وجود شيعة كثيرين فيها.
وهكذا نرى الجزائر وليبيا تعتبران المذهب المالكي مذهبا رسميا على أساسه تحدد الكثير من الوظائف والفتاوى، مع وجود الإباضية فيها، ولكنها مع احترامها لها، تعتبرها أقلية، ذلك أن المذهب الرسمي يعتمد على الأغلبية، لا على الأقلية.
ولهذا؛ فإن دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وحتى يحدد الإطار المرجعي لحاكمية الشريعة، ذكر المذهب الجعفري باعتباره مذهب الغالبية العظمى من سكان إيران، وهو مذهب لا يختلف عن سائر المذاهب الإسلامية، لأنه يعتمد القرآن الكريم والسنة المطهرة، بل يرى ضعف كل اجتهاد أو رواية تخالف القرآن الكريم والسنة القطعية.
وهذا لا يعني تحقيره لسائر المذاهب الإسلامية، بل هو يحترمها، بل يطبق أحكامها الخاصة بها في المدن التي تكون فيها، وهي أحكام لا تعدو بعض الفروع البسيطة المرتبطة بالأحوال الشخصية.
ولهذا لا نرى في قادة الثورة الإسلامية، أو المنظرين لولاية الفقيه أي نبرة طائفية، بل هم يتحدثون عن الإسلام، ويعتبرون المسلمين جميعا إخوة، ولا يفرقون بينهم على أساس مذاهبهم.
ومن الأمثلة على ذلك قول الخميني في بعض خطاباته الموجهة لأهل السنة: (إنني دائماً في خطاباتي وكتاباتي كنت أؤكد على أمرين، الأول أنه في الإسلام ليس هناك وجود للعرق والتعصب واللغة، فالإسلام للجميع ولمصلحة الجميع، ونحن إخوة بحكم القرآن والإسلام، فالأكراد والأتراك والبلوش إخوة، ويجب أن نعيش مع بعضنا بوئام، فقد قطعنا يد الأعداء عن بلادنا.. وما أريد التأكيد عليه هو أن لا يظن الإخوة السنة أن في الإسلام فرق بيننا وبينهم، فكما أنه هناك أربعة مذاهب سنية وهم أخوة مع بعضهم البعض، فإن هناك مذهب خامس، وليس هناك أية عداوة بيننا، فالجميع إخوة ومسلمون، الجميع أتباع القرآن والرسول الأكرم
إيران.. نظام وقيم (120)
صلى الله عليه وآله وسلم أما ما يثار هنا وهناك فإنه من نسج العناصر الفاسدة المتبقية من النظام البائد وعملاء الأجانب الذين يثيرون أمثال هذه الفتن لمصلحة أسيادهم، وعليكم أيها الأخوة أن تنتبهوا إلى هذا الموضوع. ولا يخفى إنهم بذلك يسعون للحؤول دون أداء الإسلام لدوره، فهم لا يهدفون الى بث الفرقة بين الأكراد والفرس، وإنما يعارضون الإسلام، ومن واجب المسملين جميعاً أن يقفوا في وجههم ويحبطوا مخططاتهم) (1)
ويقول مخاطبا لهم: (الإسلام هو وحده الذي يحرص على مصالح الشعب، ومن يؤمن بالإسلام هم وحدهم الذين يعملون لأجلكم، فالقرآن مربي الجميع وللجميع ويجب علينا أن نكون معا تحت ظلال القرآن، وتأكدوا أن دعايات هؤلاء المخربين مغرضة وقد رأيتم كيف بدأوا بإحداث الفوضى والخراب وجيشنا جاء لكي يتصدى لهم.. فكل هذه المناطق إسلامية وإيرانية وجميعنا ايرانيون ومسلمون وتابعون للقرآن) (2)
رابعا ـ توفر المؤسسات التشريعية والتنفيذيه
من أهم المميزات التي لا يمكن لأحد من المغرضين أو غيرهم تجاهلها أو غض الطرف عنها في النظام الحاكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ما يسمى بالمؤسسات، فهي دولة ذات مؤسسات كثيرة، والقرار فيها يخضع للمعالجة في محال مختلفة، منها ما يرتبط بموقف الشعب، ومنها ما يرتبط بموقف الشريعة، ومنها ما يرتبط بالواقع المحلي والعالمي.
وهكذا لا تصدر القرارات إلا بعد تمحيصها ودراستها دراسة متأنية من جميع النواحي العلمية والشرعية والواقعية، وهو ما تطلبه الشريعة الإسلامية التي تأمر بالاستعانة بالخبراء في جميع المجالات، كما قال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 9، ص: 286.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (121)
فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]
ولهذا، فإن الولي الفقيه، الذي يستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في توليه لهذه الوظيفة، يستن به أيضا في جميع مستلزماتها وصفاتها والأخلاق التي ترتبط بها.
وهذا المعنى لا نجده في أي نظام آخر، سواء كان من الأنظمة الاستبدادية كالأنظمة الملكية أو العسكرية أو حتى الأنظمة التي تسمي نفسها أنظمة ديمقراطية، ذلك أن تلك الأنظمة حتى لو راعت مطالب الشعب في قراراتها إلا أنها قد لا تراعي المطالب الأخلاقية والمبادئ الإنسانية، على عكس الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي ترى تلك المبادئ حاكمة على الشعب جميعا حكاما ومحكومين.
ولهذا نراها لا تتيح لأي كان لأن يرشح نفسه في الانتخابات المختلفة، إلا بعد أن يمر على المؤسسات التي تدرس شخصيته، وتبحث في مدى كفاءته وقدراته حتى لا يتسلل لتلك المناصب الرفيعة من لا يكون كفؤا لها، على عكس الأنظمة الديمقراطية التي تتيح للمهرجين والممثلين لأن يرشحوا أنفسهم، وينالوا المناصب الرفيعة، لا بسبب قدراتهم وكفاءاتهم، وإنما بسبب تلك الشهرة التي نالوها.
ولهذا أيضا نرى في الجمهورية الإسلامية بسطاء الناس، وأبناء الأحياء الفقيرة يصعدون إلى أعلى المناصب، وعبر انتخابات شعبية، لأنه لا توجد شركات أو مؤسسات مالية تتحكم في الانتخابات، مثلما هو حاصل في الغرب، وإنما تشرف عليها مؤسسات علمية ودينية وشعبية، ليس لها من هم سوى مراقبة مدى كفاءة ونزاهة المترشحين.
وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ جوادي آملي عند رده على تهمة الاستبداد في ظل ولاية الفقيه، مبينا جذورها التاريخية؛ فقال: (إن ما يطرح تحت عنوان الاستبداد الديني، له جذور من الناحية التاريخية في الفكر الليبرالي، حيث يتهم الفقهاء بالاستبداد الديني في إجراء الأحكام الإلهية والضغط دون أي تسامح في ذلك، ومنشأ هذا الاتهام يعود إلى الاستبداد الديني الذى
إيران.. نظام وقيم (122)
مارسته الكنيسة الأوربية في القرون الوسطى.. فعندما يقوم المتغربون بمطالعة تاريخ تلك الحقبة يقومون بمقارنة غير عادلة بين ما حدث في الغرب وما يطرح تحت عنوان ولاية الفقيه، يريدون بذلك أن يشيروا إلى أن ولاية الفقيه تشبه الاستبداد الديني الذي حدث في الغرب على يد الكنيسة) (1)
وانطلاقا من هذا يذكر أن هناك فرقا كبيرا بين كلا النظامين: نظام ولاية الفقيه الذي تمارسه إيران في الوقت الحالي، والمبني على المؤسسات المختلفة، ونظام الكنيسة الذي كان يمارس في العصور الوسطى، والذي لم تكن تمثله أي مؤسسات سوى مؤسسة الكنيسة؛ فيقول: (لكن الحقيقة هي أن ولاية الفقيه تعنى ولاية العارف بالإسلام والعادل والتقي، ومثل هذا الحاكم يجب عليه أن يستشير أهل الخبرة، ولا يتناسب الاستبداد مع العدالة، أما لو اتجه الفقيه الحاكم نحو الاستبداد فإنه سيعزل تلقائياً، وحيث إن خبراء الأمة يشرفون على أدائه، فإنهم يعلنون عزله عندما يجدون أنه يستبد ولم يعد يمتلك صفة العدالة. فحكومة الولي الفقيه ليس فيها جهة الاستبداد والتسلط، بل هي حكومة القرآن والسنة) (2)
وهنا يورد الكثير من المغرضين شبهاتهم حول علاقة بعض المؤسسات بالولي الفقيه، وينكرون عليها كون الولي الفقيه هو الذي يحدد بعض أعضائها، ومن الأمثلة على ذلك [مجلس صيانة الدستور]، وهو من الهيئات التنظيمية الرئيسية في إيران، والتي تلقى انتقادات كبيرة من المغرضين لأن وظيفتها الإشراف على عمل مجلس الشورى الإسلامي، حيث أن جميع قوانين البارلمان يجب أن تحصل أولا على موافقة هذا المجلس قبل اعتمادها.
فهم ينكرون أصل هذا المجلس، وينكرون كذلك كونه يتكون من اثني عشر عضواً، ستة أعضاء منهم من الفقهاء والخبراء في القانون الإسلامي، ويتم تعيينهم مباشرة من قبل الولي
__________
(1) المرجع السابق، (ص: 14).
(2) المرجع السابق، (ص: 14).
إيران.. نظام وقيم (123)
الفقيه، والستة الباقون من المحامين ذوي الخبرة، ويتم ترشيحهم من قبل رئيس السلطة القضائية، ويتم التصويت عليهم من قبل أعضاء مجلس الشورى الإسلامي.
وللرد على هؤلاء المغرضين نذكر أنه يمكننا أن نعتبر أولئك الأعضاء الستة الذين رشحهم الولي الفقيه في هذه المؤسسة، أو غيرهم من الأعضاء في المؤسسات الأخرى، مرشحين من طرف الشعب نفسه، ذلك أن للشعب نوعين من الانتخابات:
أولها: انتخاب على الدستور ونوع القوانين التي تحكم البلاد، وقد حصل في إيران على نسبة عالية من الموافقة الشعبية، مع كونه يعرّف بكل هذه المؤسسات، ويبين طريقة عملها، وبذلك يكون الشعب الإيراني قد أتاح للولي الفقيه كل السلطات التي تسمح له بتطبيق الشريعة الإسلامية، أو مراقبة تطبيقها في الواقع.
ثانيها: انتخاب مباشر على الأعضاء، والذي أتيحت له الكثير من المؤسسات في النظام الإيراني، فرئيس الجمهورية والبرلمان والمجالس البلدية وغيرها كلها مؤسسات ينتخب عليها الشعب مباشرة، بل حتى المؤسسة التي يخرج منها الولي الفقيه، مؤسسة منتخبة من طرف الشعب.
وبذلك يكون للشعب دوره ورأيه في كل ما يحصل في المؤسسات المختلفة إما عن طريق الانتخاب المباشر لأعضاء تلك المؤسسات، أو عبر الانتخاب غير المباشر، والمرتبط بالمبادئ والقيم والقوانين التي تحكم البلاد.
وهذا يوجد نظير له في الكثير من الدول الديمقراطية، والتي لا تعطي الحرية الكافية للأعضاء المنتخبين في تقرير ما يشاءون، بل تضع دونهم الحوائل التي تحمي قراراتهم من أن تسيء للسياسة الاستراتيجية التي تعتمدها البلاد.
وبذلك يمكن اعتبار مجلس صيانة الدستور في النظام الإيراني مشابها لحد كبير لبعض المؤسسات الضامنة للدستور في الكثير من الدول الديمقراطية، حيث نجد فيها ما يسمى
إيران.. نظام وقيم (124)
بالمحكمة الدستورية، أو المجلس الدستوري، والذي لا يختلف في وظيفته كثيرا عن مجلس صيانة الدستور الإيراني.
وقد أشار الشيخ جوادي آملي إلى هذا المعنى في ردوده على ربط ولاية الفقيه بالاستبداد؛ فقال: (في الأنظمة الدينية، تكون حرية الناس في تعيين مصيرهم بيدهم واختيارهم ضمن إطار الدين، أي أن الناس يرسمون مصيرهم على أساس الدين أو المذهب الذي اختاروه. وكمثال على ذلك ما جاء في الأصل الثاني من دستور جمهورية الصين الشعبية أن [الحزب الشيوعي الصيني هو نواة القيادة لكل الشعب الصيني]، أي أن النظام الحاكم يجب أن يعمل وفق الموازين الاشتراكية، وهذا التحديد قد حصل من جانب الناس بانتخابهم المسبق للنظام الاشتراكي، وفي النظام الجمهوري الإسلامي أيضاً، قبل الشعب من خلال اختياره المسبق للجمهورية الإسلامية، تحت عنوان مظهر الحاكمية الإلهية ومصداق الحكومة الإسلامية) (1)
وردا على سؤال يقول: (يحصل الفقيه الجامع للشرائط على الولاية من دون أن يكون لرأي الناس دخل فى تعيينه، إذاً، فلا اعتناء برأي الشعب في انتخاب الولي الفقيه)، أجاب الشيخ جوادي آملي بقوله: (يتم إعمال رأي الشعب من طريقين: الأول بصورة مباشرة حيث ينتخب الشعب شخصاً بصورة مباشرة مثل رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى، والطريق الآخر بصورة غير مباشرة، حيث يوكل الشعب أشخاصاً يقومون باختيار شخص لهذه المسؤولية، ولاشك أن الوكلاء هنا يعبرون عن رأي الشعب الذي انتخبهم، مثل اختيار الوزراء باقتراح من رئيس الجمهورية الذي انتخبه الشعب، حيث يقوم مجلس النواب بالموافقة عليهم، كونه يمثل رأي الشعب) (2)
وبين دور الشعب في اختيار الولي الفقيه نفسه؛ فقال: (أما في مورد قيادة المجتمع
__________
(1) المرجع السابق، (ص: 14).
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (125)
الإسلامي وطبقاً للتدبير الذي طرح في الدستور يوجد طريقان: الأول: من خلال الإقبال الحاسم لأكثرية الشعب على فقيه عادل وجامع للشرائط، حيث يصبح الأخير قائداً للمجتمع الإسلامي، كما حدث مع قائد الثورة العظيم ومؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران؛ فقد شاركت الأمة في تعيين القائد بشكل مباشر، والثاني: عبر الخبراء الذين ينتخبهم الشعب، حيث يختار هؤلاء من بين الحائزين على الشرائط قائدا، ففي هذه الصورة أيضاً، قام الشعب بالانتخاب، ولكن بطريقة غير مباشرة، وفي كلا الحالين يمكن الجمع بين ولاية الفقيه وحاكمية الشعب)) (1)
ومن الميزات المهمة التي نجدها في المؤسسات الإيرانية ذلك الفصل بين السلطات؛ فكل مؤسسة تمارس دورها بكل حرية، وفي نفس الوقت تشعر أن هناك رقابة عليها حتى لا تخرج عن الدستور وقوانين البلاد، وبذلك تشعر بأنها مع حريتها المتاحة لها مسؤولة عن المبادئ والقيم التي تحكم الدولة.
وقد أشار الخميني إلى هذا المعنى في خطاب مفصلي قال فيه: (عندما يؤدي كل فريق عمله ولا يتدخل في عمل غيره، ينتظم أمر الدولة فتصبح دولة يمكن أن تتقدم، أما إذا أصبح كل فريق يتدخل في عمل الآخر، فلا يستطيع أحد أن يؤدي مهمته.. هذا تكليف شرعي للجميع، للحرس، للشرطة، للجيش، للدرك، للمجلس، لرئيس الجمهورية.. الجميع مكلفون شرعاً، يجب أن يلتزم كل بوظيفته التي حددها القانون.. لقد حدد القانون لكلٍ وظيفته، فإذا تجاوز أحد القانون وأراد التدخل في مجال عمل غيره فقد خالف الشرع.. ليلتزم رئيس الجمهورية بما حدده له القانون ولينفذه بطريقة جيدة.. كذلك المجلس، لا يتدخل المجلس في مجال عمل السلطة التنفيذية أو السلطة القضائية.. إذا أراد أن يتدخل في مجال عمل الآخر فلن
__________
(1) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (126)
تُبنى دولة) (1)
ومن الميزات المهمة التي نجدها في المؤسسات الإيرانية أيضا عدم تدخل المؤسسات العسكرية في الشؤون السياسية، ولهذا لا نجد أي انقلابات عسكرية في إيران على عكس الكثير من الدول حتى المتطورة منها.
وقد دعا الخميني في خطاب تاريخي له إلى عدم دخول الجيش في الصراعات السياسية، فقال: (على قادة الجيش وجميع القوات المسلحة حفظ هذه القوات من التدخُّل في السياسة، إن تدخل الجيش في السياسة مساوٍ لزوال حيثية الجيش.. الأمور السياسية في الجيش أشد فتكاً من الهيرويين.. كيف يقضي الهيرويين على الإنسان، كذلك هي الأمور السياسية تقضي على روحية الجيش ورؤيته) (2)
ويبين سبب ذلك، فيقول: (الجندي الذي يتدخل في الأمور السياسية يفقد جنديته، الجندي الذي ينصبّ تفكيره على أمور من قبيل من تقدم ومن تأخر، ماذا سيجري هنا.. وماذا هناك.. الفريق الفلاني كيف سيتصرف، والفريق الفلاني كيف؟ لا يعود أهلاً لاسم الجندية.. إنه شخص سياسي اغتصب قبعة الجندية) (3)
وهكذا يخاطب قيادات الحرس الثوري بقوله: (المهم أن لا توجد في الحرس حالة تلحق الضرر بروحية أفراد الحرس.. يجب أن تحولوا دون دخول الجهات السياسية إلى الحرس، فإن دخول الجهات السياسية إلى الحرس يعني زوال الجهات العسكرية.. أوصوا الحرس دائماً أن يعتبر كل منهم نفسه دائماً محارباً في خدمة الناس) (4)
ويقول في خطاب آخر مخاطبا لهم: (لا يجوز لأفراد الحرس الدخول في التحزبات،
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 12 ص 261..
(2) المرجع السابق، ج 15 ص 1 ـ 9..
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق، ج 18 ص 62.
إيران.. نظام وقيم (127)
فيصبح هذا مؤيداً لهذا، وذاك مؤيداً لذاك.. ما علاقتكم أنتم بما يجري في المجلس، وقد بلغني أن الحديث كان يدور في الحرس حول الانتخابات.. الانتخابات تبحث في محلها.. ما علاقة الحرس حتى يوجد الاختلاف بينهم.. هذا ليس جائزاً للحرس، ليس جائزاً للجيش. إن هذا يمنع الحرس عن القيام بواجبه الذي هو في عهدته) (1)
ويقول مخاطبا مسؤولي وزارة الأمن: (الأمر الآخر الذي يحظى بالأهمية هو أن جميع الأشخاص في هذه الوزارة يجب أن لا يكون لهم انتماء إلى أي حزب ومجموعة.. الارتباط بالمجاميع يستتبع الارتباط الفكري والعلمي، وهذا يتنافى مع عملكم يجب أن تكونوا جميعاً حياديين، حياديين، أن تزاولوا عملكم بمعزل عن العداوة والصداقة والمعرفة وعدم المعرفة.. يحب أن يكون أفراد الأمن مستقلين نزيهين ومتقين) (2)
__________
(1) المرجع السابق، ج 19 ص 26..
(2) المرجع السابق، ج 19 ص 177..
إيران.. نظام وقيم (128)
ولاية الفقيه.. والحرية المنضبطة
تعتبر الحرية القيمة الكبرى التي ناضلت من أجلها كل الشعوب لتخرج من قيود الطواغيت والمستبدين، وتسترد ممتلكاتها من مغتصبيها، وتمارس حياتها بعيدا عن كل الضغوط، ولهذا كانت شعارا أساسيا في كل الثورات ابتداء من الثورة الفرنسية إلى الآن.
بل لو درسنا التاريخ جيدا لوجدنا أن كل الدعوات الإصلاحية في التاريخ ترتبط بالدعوة للتحرر والانعتاق من نير الظلمة والمستبدين، لتنعم الشعوب، مجتمعات وأفرادا، بحقوقها بعيدا عن كل القيود.
وهكذا كانت الحرية شعارا في الثورة الإيرانية، لم يحمله الشيوعيون أو الاشتراكيون، أو الليبراليون فقط، بل حمله معهم وقبلهم الإسلاميون، وخصوصا الذين تحولوا بعد ذلك إلى قادة للثورة الإسلامية.
ولهذا نجد في الخطابات الكثيرة التي ألقاها الخميني أو غيره من قادة الثورة حديثا كثيرا عن الحرية والانعتاق من نير الشاه وظلمه واغتصابه لحقوق الشعب، وتلاعبه بثروته.
ومن الأمثلة على ذلك الخطاب التاريخي الذي يسمى [خطاب الإنتصار]، والذي ألقاه الخميني بتاريخ 1/ 4/1979 م، بمناسبة إعلان نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، ومما جاء فيه مما يتعلق بالحرية، وكونها من المطالب التي تحقق بسبب الثورة الإسلامية: (على أي حال فإننا فزنا والحمد لله في هذا الاستفتاء، وقد ظهر بطلان ما كتب في الصحف الأجنبية، وقد أدلى شعبنا برأيه مائة في المائة تقريباً لصالح الجمهورية الإسلامية، وعلى الشعب أن يطبق هذه الجمهورية الإسلامية بعد اليوم.. يجب أن تتغير جميع الأمور في إيران في ظل الجمهورية لإسلامية، فالجامعات يجب أن تتغير، وتتبدل الجامعات العميلة إلى جامعات مستقلة.. وثقافتنا
إيران.. نظام وقيم (129)
يجب أن تتبدل، وتحل الثقافة المستقلة محل الثقافة الاستعمارية.. وزارة العدل يجب أن تتغير؛ فالقضاء الغربي لا بد أن يتحول إلى القضاء الإسلامي.. اقتصادنا يجب أن يتغير، فالاقتصاد العميل يجب أن يتحول إلى اقتصاد مستقل.. وجميع الأشياء التي كانت في حكومة الطاغوت، وكانت قد طبقت استجابة لأوامر الأجانب في هذا البلد الضعيف، هذه الأشياء يجب أن تنقلب رأساً على عقب بعد أن استقرت الحكومة الإسلامية والجمهورية الإسلامية) (1)
فهذا النص يبين مفهوم الحرية لدى قادة الثورة الإسلامية، وهو مفهوم ينطلق من الهوية الإيرانية ذات البعد الإسلامي؛ فهو يدعو كل المراكز والمؤسسات التي كانت خاضعة للسيطرة والفكر الغربي إلى تعديل وجهتها لتنسجم مع الإسلام، ومع مطامح الشعب والقيم التي يؤمن بها.
وهذا على عكس ما يريده المغرضون الذين يتصورون أن إبعاد الشعب عن هويته وتحقيق متطلبات غرائزه هي الحرية، مع كونها ـ كما يذكر قادة الثورة الإسلامية ـ ليست سوى مصايد لإفساد الشعوب وإلهائها عن المطالبة بحقوقها.
ولهذا ينتقد الخميني تلك الرؤية الغربية للحرية، ويعتبرها من التدليس الذي يحتالون به على الشعوب للسيطرة عليها، يقول في ذلك: (إن أحكام الجمهورية الإسلامية التقدمية تسبق جميع الأحكام في سائر العقائد والطبقات.. نحن نرى إن دعاة الديمقراطية يتكلمون عن ديمقراطيتهم إلا أن ممارستهم للديمقراطية تختلف في الشرق عما في الغرب، ففي الشرق يواجه شعبهم ديكتاتورية كبيرة وفي الغرب كذلك، ونحن نرى أن بعض الأشخاص يدعون الدفاع عن حقوق الإنسان، ولكننا رأينا أن جمعيات حقوق الإنسان لم تتكلم كلمة واحدة خلال هذه الخمسين سنة التي سيطرت فيها حكومة بهلوي الغاصبة، ومن ثم حكومة ابنه حيث سرق
__________
(1) انظر: نص الخطاب كاملا في: خطاب الانتصار [خطابات وكلمات الخميني التي ألقيت في المناسبات السنوية لذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران]، ص 24
إيران.. نظام وقيم (130)
جميع أموال الشعب، ونرى خلال هذه السنوات الخمسين كيف قضى شبابنا في السجون وكم من شباب قد تم نشر أرجلهم بالمنشار وحرقوهم بواسطة المقلاة وقد مكثوا في السجن وتحت التعذيب حتى الأيام الأخيرة لما قبل الثورة. لقد مضى جلاوزة الشاه السابق عليهم ولم نر دعاة حقوق الإنسان طوال هذه المدة يتكلمون كلمة واحدة أو يستنكرون هذه الحوادث، لقد رأينا الرئيس الأمريكي كيف يساند الشاه السابق الظالم الشقي، ويؤيد هذا الجلاد الذي بعثر جميع ما نملك أدراج الرياح ولم نر دعاة حقوق البشر يستنكرون ذلك على الرئيس الأمريكي، ولكن الآن وقد سقط هؤلاء الجلادون في مصيدة الشعب ويريد الشعب أن ينتقم منهم، تعالت منهم صرخات [وا إنسانيتاه!!] أنا لا أقول شيئاً سوى إن هؤلاء عملاء للجلادين.. هؤلاء عملاء للقوى الكبرى، وإنهم لا يعملون لحقوق البشر) (1)
ولهذا، فإنه يدعو الشعب الإيراني للمحافظة على حريته، وألا يترك المجال لأي مستبد أن يحكمه ويتسلط عليه، يقول في الخطاب السابق: (على الناس أن يصلحوا أنفسهم، وعلى الظالمين الذين كانوا قد ظلموا الضعفاء ألا يظلموا بعد اليوم، الطبقات المختلفة يجب أن لا تظلم الطبقات التي دونها، يجب أن تعطى حقوق الفقراء والمساكين. كل هذه الأعمال يجب أن تطبق في الجمهورية الإسلامية، وعلى الشعب ـ في ظل الجمهورية الإسلامية ـ أن يساند الحكومة التي هي في خدمة الشعب. وإذا رأى الشعب خلافاً من الحكومة فعليه أن يوقفها عند حدها، وإذا رأى الشعب حكومة جائرة تريد أن تظلمه، فيجب عليه أن يقدم الشكوى ضدها، وعلى المحاكم أن تقيم العدالة وإن لم تفعل فعلى الشعب أن يقيم العدل ويحطم أفواههم، ليس في الجمهورية الإسلامية ظلم ولا إجحاف. الطبقة الغنية لا تستطيع أن تظلم الطبقة الفقيرة ولا أن تستثمرها، ولا تستطيع أن تأمر العمال بأداء أعمال كثيرة مقابل أجر زهيد. يجب أن نضع الحلول الإسلامية لكل القضايا ويجب أن تطبق هذه الحلول حتى يشعر المستضعفون بالراحة
__________
(1) المرجع السابق، ص 21.
إيران.. نظام وقيم (131)
والقوة، فالمستكبر لا بد له أن يتواضع ويشعر مع الضعفاء، ولا بد للمستضعف أن يصبح قوياً وعلى الجميع أن يعيشوا الأخوة في هذا البلد) (1)
ويصف في نفس الخطاب كل الشعارات التي يحاول الغرب أن يظهر بها، وبسببها يهاجم إيران، بكونها شعارات جوفاء كاذبة، ويعتبر أن الحرية والديمقراطية وغيرها من قيم الجمهورية لم تتحقق فيها، وإنما تحققت في إيران، يقول في ذلك: (نحن لا نخشى أن يتكلموا في الغرب ضدنا، وأن يعترض علينا الذين يدعون إنهم يرعون حقوق الإنسان، يجب أن نعاملهم على أساس ميزان العدل وسوف نفهمهم ما معنى الديمقراطية، فالديمقراطية الغربية فاسدة، والديمقراطية الشرقية فاسدة أيضاً، والديمقراطية الصحيحة هي الديمقراطية الإسلامية، وإذا وفقنا فسوف نثبت للشرق والغرب بعدئذٍ أن ديمقراطيتنا هي الديمقراطية، لا الديمقراطية التي عندهم والتي تدافع عن الرأسماليين الكبار، ولا التي عند أولئك المدافعين عن القوى الكبرى وقد جعلوا الناس كلهم في كبتٍ شديد.. لا يوجد اضطهاد في الإسلام، والحرية في الإسلام لجميع الطبقات للمرأة والرجل، للأبيض والأسود وللجميع.. إن حكومة العدل تقاوم الخلاف وتجازي المخالفين، وسوف لن يكن بعد اليوم بوليس سري أو التعذيب الذي كان يقوم به البوليس السري (السافاك)، لا تستطيع الشرطة أن تفرض علينا وعلى الشعب قولاً بعد اليوم. الحكومة لا تستطيع الإجحاف في حق الشعب. الدولة في ظل الحكومة الإسلامية خادمة للشعب ويجب عليها أن تكون في خدمة الشعب وإذا رأى الشعب ظلماً حتى من رئيس الوزراء فعليه أن يشكوه إلى المحاكم وعلى المحاكم أن تطلبه وأن ترى نتيجة عمله إذا ثبتت عليه جريمة. لا يوجد اليوم فرق بين رئيس الوزراء وغيره) (2)
هذا نموذج عن مدى اهتمام قادة الثورة الإسلامية بالدعوة للحرية، واعتبار انتصار
__________
(1) المرجع السابق، ص 24.
(2) المرجع السابق، ص 27.
إيران.. نظام وقيم (132)
الثورة الإسلامية مكسبا عظيما تحقق من خلاله هذا الحق الطبيعي، ويتجلى من خلاله التفريق بين معنيين للحرية:
1 ـ المعنى الإيجابي: وهو يتفق في كثير من مناحيه مع المفهوم الغربي الذي انطلقت منه الثورات ضد الأنظمة العبودية والإقطاعية في العصور الوسطى، والذي (ترسخ بعد انتصار الثورات التي ألغت الإقطاع وأقامت الأنظمة الجمهورية، واستمر حتى صار يحمل دلالة تعادل صيغة تقرير المصير الفردي والجماعي) (1)
2 ـ المعنى السلبي: وهو المعنى الذي أشار إليه كاظم الحائري ـ وهو من المراجع المنظرين والمؤيدين لولاية الفقيه ـ عند تفريقه بين المفهومين الغربي والإسلامي للحرية؛ فقال: (هذه الكلمة [الحرية] بمفهومها الغربي تستبطن انحرافات كثيرة عن الخط الاسلامي الصحيح؛ فالحرية الاقتصادية تشير إلى النظام الرأسمالي الاقتصادي، بينما الاسلام له نظام اقتصادي مستقل عن كل من النظامين الرأسمالي والاشتراكي.. والحرية الفردية ترمز إلى السماح للفرد بأي تصرف يحلو له ما لم يزاحم حرية الآخرين، أما عند الاسلام فلا حرية الا في اطار الحدود التي تفرضها السماء على تصرفات الانسان.. والحرية الفكرية لا مجال لها في العقائد عند الاسلام الا بمعنى أن العقيدة يستحيل حصولها بالاكراه، ولكن يجب على الإنسان التفتيش عن الأصول العقائدية الصحيحة ولا تترك له الحرية في الاهتمام بذلك وعدمه، ولو أدى فكره إلى عقيدة تخالف الاسلام لا تترك له الحرية في الإضلال ويحرم عن الحقوق الخاصة بالمسلمين) (2)
بناء على هذا، سنحاول هنا أن نذكر كلا المعنيين في الرؤية السياسية الإيرانية من خلال تصريحات قادة الثورة الإسلامية، أو المنظرين لسياستها.
__________
(1) انظر: الديمقراطية ونقادها، روبرت دال، ترجمة نمير عباس مظفر، ص 517..
(2) اساس الحكومة الإسلامية كاظم الحائري (ص: 92).
إيران.. نظام وقيم (133)
أولا ـ المفهوم الإيجابي للحرية
يتردد كثيرا مصطلح الحرية بمعناها الإيجابي في كتابات وخطابات قادة الثورة الإسلامية؛ فهم يعتبرون أن ثورتهم لم تكن تهدف سوى لتحقيق الحرية الحقيقية، والتخلص من الاستبداد والظلم وكل أشكال الهيمنة التي كانت تهدف لا إلى سرقة ثروة الإيرانيين فقط، وإنما سلب شخصيتهم ومقوماتها أيضا.
وسنذكر هنا باختصار نصوصا وتصريحات من هؤلاء القادة، تدل على مدى اتساع مجال الحرية المتاحة في ظل ولاية الفقيه، مقارنة بما كان متاحا في عهد الشاه، أو في الكثير من الأنظمة التي تزعم لنفسها أنها أنظمة ديمقراطية، ونتبعها بما عليه الواقع الإيراني.
وأول ما تعنيه ـ حسبما يصرح به القادة والمفكرون الإيرانيون ـ التخلص من تلك التبعية التي كانت في عهد الشاه، والذي أراد أن يفرض أفكار المدارس الغربية على المجتمع الإيراني، لتصبح العلمانية والمادية واللادينية هي الأفكار السائدة، والتي بموجبها يصبح الشعب خاضعا لكل أنواع السخرة الغربية.
ولهذا يعتبر الخميني الاستقلال الفكري أول استقلال ينبغي توفره لتتحقق الحرية بمفهومها الصحيح، يقول في ذلك: (أوّل شرط لتحقيق الاستقلال هو الاستقلال الفكري والعقلي) (1)، ويقول: (إذا تمكّنا من إنهاء التبعيّة الفكرية، فإنّنا سنتمكن من إنهاء سائر أنواع التبعيّة) (2)
وهو يعتبر أن سبب تلك التبعية والعبودية للأفكار الغربية ناتج من عدم الثقة بالنفس وبهوية الأمة ودينها، يقول في ذلك: (ما لم ندرك أنّ لنا نحن أيضاً شخصيتنا. أنّ المسلمين لهم
__________
(1) الكلمات القصار، ص 150.
(2) المرجع السابق، ص 147.
إيران.. نظام وقيم (134)
شخصيتهم، وأنّهم مجموعة أيضاً، ويمكنهم أن يفعلوا شيئاً ما. وإذا لم تتحقق لدينا الإرادة على أمرٍ ما، فإنّنا لن نتمكن من تحقيقه، وإذا لم ننتبه من غفلتنا، فإنّ تلك الإرادة لن تتحقق) (1)
ويقول: (علينا أن نقنع أنفسنا بأنّنا بشر أيضا، وأنّنا موجودون في هذه الدنيا أيضاً، وأن الشرق مكان أيضاً، وأن الغرب هو ليس كلّ الأرض) (2)
ويقول: (ما دامت أيدينا ممدودة نحو الشرق والغرب فنحن تابعون، فإذا أردنا أن نكون مستقلين غير تابعين لأحد، وجب علينا أوّلاً: أن ندرك أنّ لنا شخصيتنا، وأنّنا نستطيع أن نفعل شيئا) (3)
أما الشيخ مرتضى مطهري، فقد فصل الحديث عن الحرية الفكرية في كتاب خاص أجاب به على كل الشبهات المثارة حولها، وقد ذكر فيه المدى الذي يعطيه الإسلام للعقل حتى يصل إلى الحقائق، ولذلك كان من الضرورات الكبرى إتاحة الحرية الكاملة له حتى يصل إلى الحقائق من غير أن يكره عليها، وقد قال في ذلك: (هناك جملة قضايا لا تبلغ النضج الاجتماعيّ المطلوب إلّا بترك الإنسان حرّا فيها، ومنها النضج الفكريّ، لكيلا يعترض تقدّمه أيّ مانع أو حاجز يحول دون تنمية قابليّاته الّتي ينشدها لتحقيق سعادته، وبما أنّ الفكر هو من أهمّ ما ينبغي تنميته لدى الإنسان، والتنمية بحاجة إلى الحريّة كما تقدّم، فالإنسان بحاجة إلى الحريّة في الفكر، لذا تعتبر حريّة الفكر من حريّات الإنسان الاجتماعيّة، وتدخل في صميم شؤونه الحياتيّة.. وعليه فإنّ الفكرَ والتفكيرَ عمل ضروريّ وواجب، بل هو من مستلزمات الحياة البشريّة حيث لا تستقيم بدونه) (4)
وهو يذكر أن هذه الحرية متاحة حتى في مسائل الدين، لأنه لا يمكن لأي كان أن يقتنع
__________
(1) المرجع السابق، ص 148.
(2) المرجع السابق، ص 145.
(3) المرجع السابق، ص 147.
(4) الحرية الفكرية، الشيخ مرتضى مطهري (ص: 9).
إيران.. نظام وقيم (135)
بالحقائق الدينية ما لم تكن لديه الحرية الكاملة في التعامل معها، يقول في ذلك: (وكذلك الكلام في مسألة الدِّين، فإنّ الإنسان لا يمكن أن ينضج في القضايا الدينيّة ما لم يُعطَ الحريّة الفكريّة، أمّا منع الناس من التفكير خشية الوقوع في الخطأ فيعدّ خطأ فاحش، حيث يؤدّي إلى عدم النضج في قضاياهم الدينيّة والتقدّم فيها) (1)
وعن سؤال حول موقف الإسلام من الحرية الفكرية، أجاب بقوله: (إنّ الإسلام لم يكتفِ بمنح حريّة التفكير، بل جعله من الواجبات والعبادات) (2)
واستدل لذلك بما ورد (من الآيات القرآنيّة الّتي تحثّ على التفكّر، بحيث لا نجد في أيّ كتاب دينيّ أو غير دينيّ هذا القدر من دعوة الناس إلى التفكير في شتّى المجالات)، بالإضافة إلى أن (الإسلام لا يقبل الإيمان بأصول العقائد تقليداً، بل يطالب الناس بالتحقيق في أصول الدِّين، فهو يرى للناس حريّة فكريّة تكون الأساس لقبول الإيمان بوحدانيّة الله والنبوّة والمعاد، وسائر الأصول الاعتقاديّة مسائل يجب التفكّر فيها والوصول إلى حقائقها من خلال الجهد العلميّ) (3)
ويذكر من الأدلة على الحرية الفكرية في الإسلام ذلك التساهل الذي ورد في النصوص في التعامل مع الوساوس والشبهات، وقد طرح هنا شبهة تثار في هذا المجال، وهي (إذا كان التفكير يؤدّي إلى حصول وسوسات وشبهات في الذهن، فهل يحقّ للشخص الّذي يخطر في ذهنه شبهة أن ينقلها إلى الآخرين؟) (4)
وقد أجاب عليها بقوله: (لا يعتبر الإنسان مذنباً، ولا يعذّب ما دامت الوساوس والشكوك في القلب، وقد تطرّقت روايات كثيرة إلى مسألةِ ما لو طرأ على الذهن بسبب هذا
__________
(1) المرجع السابق، ص 10.
(2) المرجع السابق، ص 11.
(3) المرجع السابق، ص 12.
(4) المرجع السابق، ص 13.
إيران.. نظام وقيم (136)
التفكير شبهات وشكوك ووسوسة.. وعلى الإنسان إن كان في حالة تحقيق وبحث، أن يرجع إذا شكّ إلى نبيّه وإلى تعاليم الإسلام، حيث يعتبر هذا الأمر ضروريّاً للوصول إلى الحقائق، وعليه لا بدّ أن نسلّم بأنه يحقّ لأيّ شخص حصلت لديه شبهة أن ينقلها إلى الآخرين بهدف حلّها، وهذا حقّ طبيعيّ له، ويجب حلّ شبهته) (1)
وهو يعتب على الذين يشكون لأجل الشك، أو يقومون بالتشكيك من غير أن يبذلوا أي جهد في البحث عما يزيل شكوكهم، ويعتبر هؤلاء من الذين يمارسون هذا النوع من الحرية بطريقة خاطئة، خاصة لو ضموا إلى شكهم تشكيك عوام الناس ممن ليس لهم قدرة على البحث والنظر، يقول في ذلك: (نعم، لو بقي الإنسان في حالة الشكّ وبقي في مكانه فهذا هو الهلاك وشكّ الكسالى، وكذلك الأمر لمن أصبح عنده التشكيك هدفاً يحاول بواسطته التشويه والتشنيع على تعاليم ومفاهيم الإسلام، كما نرى ذلك في كلّ عصر من العصور، حيث تظهر طائفة من الشكّاكين الّذين ينشرون الشبهات بين عامّة الناس) (2)
ومع عتبه الشديد على هؤلاء إلا أنه يعتبر أن لهم دورا في توضيح الحقائق وجلائها، يقول في ذلك: (هناك وجه آخر لظهور الشكّاكين الّذين يلقون محاضرات ويكتبون مقالات ضدّ الإسلام، فإنّهم يؤدّون إلى جلاء وجه الإسلام أكثر، حيث يتصدّى العلماء لهم بما يؤول لصالح الإسلام.. وهذا ما حصل فعلاً حينما كتبت بعض الكتب والمقالات ضدّ الإسلام، ما أدّى إلى قيام العلماء بشرح مسائل كانت غامضة لفترة من الزمن) (3)
وقد رد مطهري على من يريدون أن يستعملوا الحرية الفكرية وسيلة لبث الشبهات والشكوك، أو الدعوة إلى الوثنيات والخرافات، ويعتبرون الوقوف في وجه هذا الغزو قمعا
__________
(1) المرجع السابق، ص 14.
(2) المرجع السابق، ص 15.
(3) المرجع السابق، ص 15.
إيران.. نظام وقيم (137)
فكريا، بأن ذلك نوع من المغالطة، يقول في ذلك: (قد يُقال، وبناءً على قاعدة أنّ فكر الإنسان حرّ وعقله كذلك، أنّ عقيدته لا بدّ أن تكون حرّة، ولذا فالوثنيّ مثلاً حرّ في عقيدته، وهذه مغالطة موجودة في العالم حاليّاً، وهي بدعواها منح الحريّة للفكر فإنّها في الواقع تقيّد الفكر) (1)
وقد رد على هذه المغالطة بأن هناك مسلكين في ميزان احترام اعتقاد الإنسان (2):
أولهما: أن نعتبر الإنسان حرّاً ومختاراً، فنحترم كلّ ما يعتقد به ولو كنّا نرفض ما اختاره، أو كنّا نعلم بأنّه كَذِبٌ وخرافة، بل حتّى لو ترتّب عليه مستلزمات باطلة وفاسدة.
ثانيهما: أن يكون احترامنا له بتوجيهه نحو الرقيّ والتكامل والسعادة.
وهو يرى أن (ترك الإنسان يختار العقائد الفاسدة، كأن يختار الوثنيّ عبادة الوثن، هو تقييد لفكر الناس، واحترام هذا القيد هو عدم احترام لقابليّته الإنسانيّة ولاعتباره الإنسانيّ في مجال التفكير، في المقابل فإنّ المسلك الثاني هو الّذي ينهض بالإنسان ويوصله إلى رقيّه المنشود، والنتيجة أنّه لا بدّ من فكّ هذا القيد ليكون فكرُه حرّاً، وعليه فمن الخطأ على الصعيد الإنسانيّ احترام المرتكز العقائديّ لشعب يريد تقييد الإنسان) (3)
وهو يستدل لهذا بما ورد في سيرة الأنبياء عليهم السلام، (فالنبيّ إبراهيم عليه السلام مثلاً قام بتحطيم أوثان قومه الّتي كانوا يعتقدون بها ويعبدونها وترك الوثن الكبير، فشكّل هذا الأمر صدمة لهم جعلتهم يرجعون إلى أنفسهم وفطرتهم ويتأمّلون في عقيدتهم، حيث إنّ هذه الأصنام غير قادرة على الدفاع عن أنفسها، وكبيرهم عاجز عن هذا التحطيم، {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}، ولذا فإنّ ما مقام به إبراهيم عليه السلام هو عمل إنسانيّ لأنّه حرّر فكرهم من قيد العقيدة الفاسدة) (4)
__________
(1) المرجع السابق، ص 22.
(2) المرجع السابق، ص 22.
(3) المرجع السابق، ص 22.
(4) المرجع السابق، ص 24.
إيران.. نظام وقيم (138)
ومثله موسى عليه السلام، (فقد كان عمله إنسانيّاً في حرقه لعجل السامريّ)
وهكذا حصل في (البعثة المباركة للنبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث نجد أنّه قد قام بمحاربة العقيدة الوثنيّة سنين طويلة كي يحرّر فكرهم، وتقدّم بذلك بهم نحو الرقيّ والتكامل، وفكّ قيودهم العقائديّة ووضع {عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]
وبناء على هذا قنن الدستور الإيراني للأديان المسموح لها بممارسة شعائرها، حتى لا يدع الفرصة للعابثين من أمثال عبدة الشيطان وغيرهم من التسلل إلى المجتمع بحجة حرية العقيدة والتفكير.
ومن تلك الديانات التي لا يسمح لها في إيران بممارسة شعائرها وطقوسها [الديانة البهائية]، وقد كان ذلك سببا لإنكار المغرضين، مع أنهم لا يعلمون أن هذه الديانة ليس مسموحا لها بممارسة شعائرها في أكثر الدول العربية (1)، ما عدا الإمارات والبحرين بسبب علاقتهما الوثيقة مع أمريكا وإسرائيل.
والسبب الذي جعل إيران تتخذ منها ذلك الموقف السلبي علاقتها مع الشاه، وتأييدها له، بالإضافة إلى موقفها المؤيد للكيان الصهيوني، وكونها فوق ذلك فرقة من الفرق المنحرفة عن الإسلام، بل كونها نتيجة لصناعة المخابرات الأجنية، يقول الخميني ـ قبل انتصار الثورة الإسلامية ـ مبينا خطرها: (ولكن مَنْ هم المستشارون اليوم؟ إسرائيل! المستشارون الاسرائيليون! اليهود! لقد أُرسل ألفان من البهائيين كما اعترفوا هم أنفسهم بذلك في صحيفة (دنيا)؛ فلا يأتي غداً أحد النكرات (الشاه) ويقول بأن ذلك مجرد اشاعة، إذ ورد في صحيفة (دنيا): أنهم ألفا اسرائيلي، أعني البهائيين، طبعاً هم لم يذكروا اسم (البهائية)، بل قالوا: (عدد
__________
(1) من الأمثلة على ذلك أن الحكومة المصرية لا تعترف بشرعية الديانة البهائية، وقد جردت الديانة من الاعتراف في العام 1960 ومنذ ذلك الوقت أغلقت جميع المؤسسات البهائية، ومنعت جميع أنشطتهم الاجتماعية. وقد قضت محكمة ابتدائية بأن الدستور المصري لا يضمن حرية الاعتقاد للبهائيين.
إيران.. نظام وقيم (139)
من اتباع بعض المذاهب (أسموها مذهباً) أرسل ألفي نسمة ـ ويقال: إنهم خمسة آلاف ـ من البهائيين باحترام تام بعد أن مُنح كل واحد منهم خمس مئة دولار من اموال الشعب المسلم، وأُعطي كل واحد حسماً في قيمة تذكرة االسفر بمقدار الف ومئتي تومان.. لمَ كل ذلك؟ ليذهبوا الى لندن للمشاركة في اجتماع معاد للاسلام يعقد هناك!) (1)
ويقول عنهم مبينا دورهم في حكومة الشاه، وعلاقتهم به: (لينتبه الإخوة إلى أن الخطر المحدق بالإسلام اليوم لا يقل عن خطر بني أمية، إن الجهاز الحاكم العميل لاسرائيل قد فوض جميع السلطات لهذه الفرقة الضالة المضلة في الجيش، الثقافة، الإعلام وسائر الوزارات الحساسة. عليكم أن تنبهوا الأمة لخطر إسرائيل وعملائها إلى جانب المصائب التي طالت الإسلام ومراكز الفقه والشريعة وحماتها.. أعربوا عن مقتكم لإرسال العناصر الخائنة التي تعقد الاجتماعات المناوئة للإسلام والأمة في لندن، واعلموا أن الصمت في هذه الأيام لا يعني سوى تأييد الجهاز الحاكم وإعانة أعداء الإسلام، اتقوا الله واخشوا نقمته، إنكم مسؤولون عما يحدث للعلماء (إذا ظهرت البدع فللعالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله) (2)
وهي ـ في نظر قادة الثورة الإسلامية والمنظرين لولاية الفقيه ـ حرية متاحة وإيجابية، لأنها تسهم في تحريك الأفكار في المجتمع، وتصحح ما يقع فيه من أخطاء، بالإضافة إلى رعاية التنوع الموجود في أفراده.
وإيران ـ في ظل ولاية الفقيه ـ من أكثر الدول الإسلامية اهتماما بالتنوع في مختلف مجالاته؛ فهي تحتضن الكثير من المدارس الفكرية والفقهية والعقدية والفلسفية، بل لها جامعات خاصة بذلك، ولا تمر بمكتبة من مكتباتها إلا وتجد فيه كل جديد من الكتب، ومن كل المدارس
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 1، ص: 210.
(2) الإمام الخامنئي.. السيرة والمسيرة (ص: 249).
إيران.. نظام وقيم (140)
الإسلامية وغير الإسلامية، كما ذكرنا ذلك في الجزء السابق من هذه السلسلة.
وهكذا نرى في صحفها ومجلاتها تنوعا كبيرا في الطرح، ونرى فيها انتقادات صريحة وقوية للواقع والمسؤولين، من غير أن يُقمع أصحاب الآراء، ولا أن تصادر الصحف والمجلات التي يبثون فيها آراءهم.
وقد صرح كل قادة الثورة الإسلامية بوجوب إتاحة هذا النوع من الحرية، حتى تتلاقح الأفكار، وتصحح الأخطاء، ويراعى التنوع.
ومن الأمثلة على ذلك قول الخميني: (إن هذه الحرية التي يتمتع بها أبناء شعبنا من النساء والرجال والكتّاب والعناصر الاخرى، هي من النوع الذي يصب في منفعة أبناء الشعب. فأنتم أحرار في التعبير عن أفكاركم وآرائكم، وفي انتقاد الحكومة.. انتقدوا كل مَنْ خطا خطوة منحرفة.. اذهبوا ودافعوا عن شعبكم.. إنكم أحرار في فعل كل ما من شأنه خدمة الإنسان.. كل هذا مسموح فيه.. إن الذي حاربه الإسلام ولن يسمح به، هو القمار الذي يقود أبناء الشعب إلى التيه والضياع، والخمر الذي يضيّع الشعب، وأنواع البغاء والفحشاء الذي راج في عهد ذلك المجرم (محمد رضا بهلوي)، وعملوا على توفير مستلزماته. هذه الأمور هي التي حرّمها الاسلام وحاربها) (1)
بل إن الخميني يفتح مجال الحرية حتى لأصحاب الفلسفات المادية أنفسهم؛ فهو يقول: (إن الماركسيين احرار في بيان عقائدهم في المجتمع الذي نفكر بإقامته، لأننا واثقون أن الاسلام يلبي حاجات الناس، وإن إيماننا واعتقادنا قادران على مواجهة عقيدتهم، وقد طرحت الفلسفة الاسلامية منذ البداية موضوع أولئك الذين ينكرون وجود الخالق، إننا لم نسلب حريتهم أبدا،
__________
(1) من حديث في جمع من المعلمات والطالبات في مشهد، بتاريخ 30/ 9/1979، نقلا عن: الحرية في فكر الإمام الخميني (ص: 34)
إيران.. نظام وقيم (141)
ولم ننل منها؛ فالكل حر في بيان عقيدته، لكنه ليس حرا في التآمر) (1)
وبهذه العبارة يلخص الخميني الموقف من حرية الرأي [فالكل حر في بيان عقيدته، لكنه ليس حرا في التآمر]
فالقوانين الإيرانية تسمح بحرية الرأي، ولكنها لا تسمح أبدا للمتآمرين الذين لهم صلات بجهات أجنبية تريد أن تقوض أمن البلاد، يقول الخميني محذرا: (إننا ومنذ اليوم الأول الذي تحققت فيه ثورتنا كانت جميع الحريات موجودة في ايران؛ فنحن سمحنا لجميع الفئات، ولم نمنع أحدا، لكن المؤامرات بدأت عندما وجدوا انفسهم أحراراً، إذ بدأت الأقلام بالتآمر لحرف مسيرة الشعب، وهؤلاء كانوا نفس الأشخاص المرتزقة عند الملك السابق أو مرتزقة أمريكا وأمثالها، وأرادوا من خلال ذلك حرف نهضتنا، وتمكنا بعد خمسة أشهر من إعطاء الفرصة للجميع من العثور على المتآمرين، طلبنا من تلك الاقلام المتآمرة، والتي كانت تريد عودة الأجنبي للتسلط علينا مرة أخرى أن تكف عن عملها، وقدمناها للمحاكم لنرى من هم هؤلاء، ووجدنا بعد التحقيق أن أكثرهم كانوا مرتزقة لإسرائيل، وكانوا أبواقا لأمريكا لكن بصورة أخرى، وإن من حق الشعب أن يمنع الذين يريدون التآمر عليه وحرفه وإعادة الأمور السابقة، وإلا فإن شعبنا يؤيد الحرية، ويؤيد كل أنواع الحرية إلا أنه لا يؤيد التآمر ولا يؤيد الفساد) (2)
وكمثال على ذلك أنه سئل في مقابلة صحفية عن إغلاق النظام لبعض صحف المعارضة، وهي صحيفة (آيندكان)؛ فأجاب بقوله: (إن صحيفة (آيندكان) كانت على ارتباط مع أعدائنا، كانت تتآمر ضدنا وعلى علاقة بالصهاينة. تأخذ التوجيهات منهم وتكتب ضد مصالح البلد. ولا يمكن التساهل مع الصحف التي تتآمر ضدنا، وقد قمنا بإغلاقها كي تكون
__________
(1) منهجية الثورة الاسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص 370..
(2) المرجع السابق، ص 370..
إيران.. نظام وقيم (142)
عبرة لغيرها. وقد اكتشف القضاء الخيانات التي تقوم بها هذه الصحف، وكيف أنها كانت تستلهم توجهاتهم من الشاه ومن الأجهزة الصهيونية. وقد تم ايقاف نشاطها مؤقتاً ليتم التحقيق في ذلك. هذا ليس خلافاً للحرية. وإنما هو تصدي للتآمر ومثل هذا يحصل في مختلف انحاء العالم) (1)
وهكذا يقيد الخميني الحرية دائما بكونها لا تتسبب في ضرر الآخرين، كما عبر عن ذلك بقوله: (جميع أبناء الشعب أحرار في الأفعال السليمة، في الذهاب إلى الجامعة، وفي أي عمل سليم تمارسونه.. ولكن إذا ما أراد أحد أن يرتكب عملاً مخالفا للعفة، أو يلحق ضرراً بمصالح الشعب، أو يسي ء إلى السيادة الوطنية، فإننا سنقف في وجهه، وإن موقفنا هذا يدل على الرقي) (2)
وهكذا نرى الخامنئ يصرح كل حين بضرورة توفير حرية الرأي، وخاصة للصحافة، حتى تؤدي أغراضها، وتساهم في خدمة المجتمع، يقول في ذلك: (إن مهمة الصحافة غاية تتطلب وسيلة لبلوغها، وتلك الوسيلة هي الحريّة، فحريّة الصحافة يجب أن تكون وسيلة لأداء مهمّة الصحافة لا أن تصبح مهمّة الصحافة ضحيّة لحريّة مطلقة متحلّلة) (3)
ويقول: (نحن أول من رفع شعار هذه الحريّات (حريّة الصحافة والاصدارات...)، ولا زلنا والحمد للَّه على موقفنا منها حتى يومنا هذا، غير أنّنا نعارض حريّة المعاصي والحريّات الهدّامة) (4)
وهكذا يتحفظ ـ مثل الخميني ـ على تلك الحرية التي تريد أن تنشر الفساد في المجتمع، فالحرية تنتهي عند إضرارها بالآخرين، يقول في ذلك: (ليست القضيّة قضيّة مقصّ الرقابة، بل
__________
(1) صحيفة الإمام: 10/ 74.
(2) من لقاء مع صحيفة اطلاعات، بتاريخ 23/ 1/ 1979، نقلا عن الحرية في فكر الإمام الخميني (ص: 20).
(3) الكلمات القصار، ص 216.
(4) المرجع السابق، ص 216.
إيران.. نظام وقيم (143)
علينا أن لا نغذّي عقل وفؤاد الشاب بما يجرفه نحو الخطيئة والفساد، فهذا يختلف عن منح الحريّة للعقل من أجل الاختيار في قضيّة ما) (1)
وينبه إلى مسألة مهمة جدا يقوم بها المغرضون، وهي أنهم يسمحون لأنفسهم بنقد كل شيء، في نفس الوقت الذي يعتبرون فيه الردود الموجهة على انتقاداتهم مصادرة للرأي، يقول: (يأمل العدو في أن تكتب الأقلام الموالية للاستكبار كلّ ما يحلو لها ولا يرّد عليها أصحاب الأقلام الموالون للنظام الإسلاميّ والخطّ الإسلاميّ ولو ردّوا عليهم سيقولون إنّ الحريّة معدومة) (2)
وهكذا يحدد الخامنئي الموقف من كل الآراء التي تدعو إلى انحراف المجتمع عن دينه وأخلاقه، ويعتبر معارضة ذلك شيئا طبيعيا، يقول في ذلك: (من الطبيعي أنّنا نعارض بعض الحريّات، وهل يشكّك أحد في أننا نرفض حريّة الجنس ونعارض حريّة اقتراف الذنوب؟!)، ويقول: (لا تخشوا الضجيج ولا الدعايات التي تتهمكم بمناهضة الحريّة)، ويقول: (لو منحتم أوسع الحريّات وحافظتم على مبادئكم، سيتهمونكم أيضاً بمناهضة الحريّة)، ويقول: (إنّ وجود مثل هذا الجوّ تثير فيه الصحافة عدم الارتياح عند مسؤولينا الكبار الذين يمتلكون السيف والقلم معاً، هو دليل واضح على الحريّة التي تتمتّع بها الصحافة في بلادنا)، ويقول: (ينبغي عدم التشبيه بين الحرية في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وحريّة الغرب بما تعنيه من اطلاق عنان السلطويّين والأثرياء ومن تحلّل في سلوكيّات البشر وأفعالهم)، ويقول: (الحريّة الإسلاميّة تنطوي على حريّة اجتماعيّة ومعنويّة وفرديّة لها قيودها وإدراكها وهديها ومفهومها الإسلاميّ)، ويقول: (لا تسمحوا لحفنة من المتشدّقين باسم الحريّة بإشاعة المنكرات والفحشاء والتحلّل في المجتمع)، ويقول: (لا يستطيع أحد انكار مناصرتي لحريّة الفكر وحريّة القلم وحريّة البيان
__________
(1) المرجع السابق، ص 216.
(2) المرجع السابق، ص 216.
إيران.. نظام وقيم (144)
ونشر مختلف أنواع المعارف في هذا البلد) (1)
وبناء على هذا نرى رقابة شديدة في إيران على ما يبث في الإنترنت وخصوصا على شبكات التواصل الاجتماعي باعتبارها أصبحت وسيلة للحرب الناعمة، بالإضافة إلى كونها وسيلة لنشر الأفكار المضللة، والانحرافات الأخلاقية.
وقد حاول المختصون الإيرانيون أن يوفروا البدائل لذلك، حتى يتمكن الشعب من الاستفادة من هذه الوسائل، ويتجنب في نفس الوقت مضارها، ومن الأمثلة على جهودهم في هذا المجال إنشاؤهم لمواقع للتواصل الاجتماعي بديلة عن تلك المواقع المعروفة.
ومن أمثلتها ما ذكرته وسائل الإعلام تحت عنوان [إيران تنشئ موقعا لتبادل مقاطع الفيديو بدلا من اليوتيوب المحظور]، جاء فيه: (قامت إيران بالإعلان عن إطلاقها لمنصه محلية جديده على شبكة الإنترنت تحمل اسم [مهر] خاصة بتبادل مقاطع الفيديو، حيث جاء هذا الإعلان عبر موقع مؤسسة الإذاعة والتليفزيون الإيرانية (IRIB) على لسان نائب رئيس الإذاعة) (2)
ثم ذكرت صاحبة المقال سبب ذلك، فقالت: (ومن المعروف بأن إيران تحجب العديد من خدمات جوجل، على رأسها موقع اليوتيوب.. ومواقع الأخبار الأجنبية، والشبكات الإجتماعية كالفيس بوك وتويتر بسبب احتواها على مواد تتعارض مع القيم الأخلاقية وتشكيلها مصدرًا للانحطاط الثقافي بحسب المزاعم الإيرانية.. وتعليقا على هذا الخبر أعلن نائب رئيس مؤسسة الإذاعة والتليفزيون الإيرانية أنه من الآن فصاعدا سيستطيع الايرانيين تحميل مقاطع الفيديو الإسلامية والثقافية والرسوم المتحركة فقط على هذا الموقع المحلي)
والمشروع الأكبر من ذلك ما ورد في المقال عن أن (إيران أعلنت في شهر سبتمبر الماضي
__________
(1) المرجع السابق، ص 216.
(2) إيران تنشئ موقعا لتبادل مقاطع الفيديو بدلا من اليوتيوب المحظور، إيمان الزبيدي، 10 ديسمبر 2012.
إيران.. نظام وقيم (145)
أنها تعتزم تحويل مواطنيها إلى شبكة محلية لخدمات الإنترنت فى خطوة وصفها مسؤولون بأنها محاولة لتحسين الأمن الإلكترونى)
وللأسف بدل أن يلقى هذا ترحيبا من الدول العربية، وخصوصا الخليجية منها، نجدهم يشنون الحملة الإعلامية الشديدة عليها، ويعتبرون أن ذلك يتنافى مع الحرية، ولست أدري أي حرية يقصدون، وهم يرون تلك الحرب الناعمة التي تشن عليها منذ انتصرت ثورتها، ولولا حنكة رجال أمنها بمختلف أصنافهم لحصل لها ما حصل للدولة العربية التي اخترقت بهذه الوسائل فيما يسمى بالحراك العربي.
مع العلم أن مثل هذا الموقف لم تتخذه إيران لوحدها، بل نجد دولا كبرى تتخذه حرصا على أمنها القومي، ومن الأمثلة على ذلك الصين التي حجبت فيس بوك وتويتر منذ 2009 وإلى الآن، حيث أنه (على إثر مصادمات وأحداث عنف شهدتها البلاد، اتخذت الحكومة الصينية قرارًا بغلق مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك وتويتر ويوتيوب وبلوجر إضافة إلى مواقع أخرى، وكانت المصادمات قد اندلعت بين مسلمي الإيغور والشرطة في مدينة أورمتشي التي تقع شمال غرب الصين كما حجبت السلطات موقع أمازون، بسبب بيع الموقع لكتاب ممنوع من النشر في الصين يتحدث عن الثورات، حيث إنه إذا ما ضغط شخص على وصلة الكتاب من الصين، فإن الموقع يحجب بالكامل لمدة 15 دقيقة على الأقل) (1)
وهي من الحريات المتاحة في إيران، حيث نجد أحزاب موالاة، وأحزاب معارضة، وانتخابات بمختلف أنواعها، وكل أنواع الممارسات السياسية، ونجد معها نأيا للجيش وكل قوى الأمن عن التدخل في السياسة، تقيدا بالتعليمات التي نص عليها قادة الثورة الإسلامية.
ولكن هذه الحرية مضبوطة أيضا بما ضُبطت به سائر الحريات؛ حتى تتناسب مع
__________
(1) أشهر 15 دولة مارست الحجب الكلي أو المؤقت لمواقع التواصل الاجتماعي، محمد فتحى، 4 يونيو،2014، موقع ساسة..
إيران.. نظام وقيم (146)
الشريعة الإسلامية؛ فلذلك لا يسمح في إيران لأحزاب تريد أن تخالف الشريعة، أو تعمل على تقويض النظام الذي يدعو إلى تحقيقها في الواقع.
وهذا ـ وإن لقي إنكارا كبيرا من طرف المغرضين ـ إلا أن واقع أكثر دول العالم تطورا ينسجم معه، وأولها أمريكا، كما سنرى، ولهذا قبل الخميني بلقب [الجمهورية] بعد الانتصار، ولم يقبل بلقب [الديمقراطية]
ولمعرفة سر ذلك نقتبس نصا من مقال هدف صاحبه إلى تشويه مفهوم الحرية السياسية في إيران، واعتبارها مجرد دعاية لا حقيقة لها، وهو نص نجد أمثاله يردد كثيرا في وسائل الإعلام، ويُقصد منه التشويه، ولكنا عندما نقرؤه بتمعن، وبعيدا عن الرؤية الغربية والعاطفية لمثل هذه القضايا سنرى الأمر مختلفا تماما، ذلك أنه في الحقيقة مدح في قالب ذم.
والمقال بعنوان [كيف نجح الخميني وفشل العرب؟]، وقد قال في مقدمته: (بعد نجاح الثورة مباشرة استمر الخميني بتنفيذ أهدافه النهائية، وقبيل الدخول في جدل حول إعادة إنشاء مؤسسات الدولة ما بعد الثورة، أراد الخميني أن يحسم أمرًا كان في منتهى الأهمية بالنسبة إليه، وهو اسم الدولة الجديدة، وذلك من أجل القطع تمامًا مع الماضي البهلوي، ليس فقط في بنية الدولة بل في مسماها أيضًا، احتدم الجدال بين رفقاء الثورة حول اسم الدولة الجديدة، وتراوحت الاقتراحات بين [جمهورية إيران الديمقراطية] و[الجمهورية الإيرانية]، و[الجمهوية الديمقراطية الإسلامية]، إلا أن الخميني رفضها كلها وأصر على [الجمهورية الإسلامية] فقط، حيث أخضع اقتراحه لاستفتاء شعبي حصل على غالبية مطلقة من قبل الشعب الإيراني ليحسم بذلك المسمى، ولينطلق من بعد ذلك لاستكمال باقي الخطوات) (1)
ومع أن المعلومات التي ذكرها صحيحة، لكن تفسير الكاتب لذلك كان مجافيا للصواب؛ فقد نظر إلى الأمر من زاوية صورية، ولم ينظر إلى المعنى الذي جعل الخميني يرفض
__________
(1) كيف نجح الخميني وفشل العرب؟، نبيل عودة، موقع ن بوست.
إيران.. نظام وقيم (147)
وصف الديمقراطية، ويقتصر على وصف الجمهورية؛ فقد قال في تعليل ذلك: (تجدر الإشارة إلى أن رفض الخميني لإدراج كلمة [الديمقراطية] في اسم الدولة يعود إلى اعتقاده بأن الديمقراطية منتج غربي ومن يتمسك بها؛ فكأنه يتمسك باستمرار التأثير الغربي على الشؤون الإيرانية الداخلية، وقد تمشى ذلك بشكل واضح مع المنطلقات العامة لفلسفة الخميني السياسية، فقد أراد أن يقدم نموذجًا جديدًا للنظام السياسي بعيدًا عن الثنائية السياسية التي كانت تحكم العالم آنذاك والمتمثلة بالرأسمالية الغربية والاشتراكية الشرقية، ومن هنا كان الشعار الذي رفعه الثوريون الإيرانيون إبان الثورة: [لا شرقية ولا غربية.. بل حكومة إسلامية]) (1)
وهذا غير صحيح تماما؛ فالخميني صرح في محال كثيرة بأن الديمقراطية بمفهومها الصحيح لا تتنافى مع الإسلام، فقد قال: (الإسلام دين سام، وديمقراطي بمعنى الكلمة) (2)، وقال: (إنّ ديمقراطية الإسلام أكمل من ديمقراطية الغرب) (3)، وقال: (الديمقراطية مندرجة في الإسلام، والناس أحرار في الاسلام في بيان عقائدهم أو في اعمالهم ما لم تكن ثمة مؤامرة في الموضوع ولم يطرحوا مسائل تجر الجيل.. الى الانحراف) (4)
لكن مقصد الخميني من ذلك هو الحفاظ على هوية الدولة، حتى لا تتمكن قوى الاستكبار العالمي من العودة من جديد إلى حكم إيران تحت ظل الحكم الديمقراطي المطلق البعيد عن كل القيم، بخلاف وصف الجمهورية الذي يضمن المشاركة الشعبية، وفي نفس الوقت يضمن القيم والمبادئ التي تقوم عليها الدولة، والتي تنطلق من هوية الشعب.
وحتى نفهم هذا المعنى جيدا، لابد أن نفهم الفرق بين مصطلحي [الجمهورية]، و[الديمقراطية]، حيث أن الديمقراطية ـ بمفهومها الغربي ـ تعني الحرية بمفهومها الواسع،
__________
(1) المرجع السابق.
(2) الكلمات القصار، ص 145..
(3) المرجع السابق، ص 142.
(4) منهجية الثورة الاسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص 359..
إيران.. نظام وقيم (148)
والذي يعني ـ حسب تعريفاتهم لها ـ (الانطلاق بلا قيد، والتحرر من كل ضابط، والتخلص من كل رقابة، حتى ولو كانت تلك الرقابة نابعة من ذاته هو، من ضميره، فلتحطم وليحطم معها الضمير إن احتاج الأمر، حتى لا يقف شيء في وجه استمتاعه بالحياة، وحتى لاتفسد عليه نشوة اللذة، ومعنى هذا ترك الإنسان وشأنه يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، وهكذا بدون قيود ولا ضوابط، ولا رقابة، وعلى المجتمع أن يسّلم بذلك الحق، وعلى الحكومة أن تحافظ على تلك الحرية وتحميها، فلا دين يحكم النفوس، ويكبح جماحها، ولا أخلاق تهذب طباعها، وتوقظ مشاعرها، وتثير فيها روح النخوة والغيرة والإباء، ولا مثل، ولا فضائل، تقاس على أساسها الأعمال خيرها وشرها، ولا حياء يمنع ارتكاب الشطط، والمجاهرة بالمنكر (1).
على خلاف مفهوم الجمهورية، والذي يعني الاعتراف بالمبادئ والقيم التي تقوم عليها الدولة، والتي لا يجوز لأحد أي كان تجاوزها، حتى لو كانت أغلبية الشعب نفسها.
ولنفهم هذا جيدا نحتاج إلى التعرف على أكبر حزبين في أمريكا: الحزب الديمقراطي، والحزب الجمهوري، والفرق بينهما، حيث نجد الديمقراطيين ليبراليين في فلسفتهم، يرون أن دور الحكومة هو إدارة شؤون الاقتصاد، وإتاحة الكثير من الحريات، بخلاف الجمهوريين المحافظين في فلسفتهم، والذين يرون أن دور الحكومة هو إدارة المؤسسة الأخلاقية، ومن هذا المنطلق يتعين عليها ضمان معاقبة الناس في حال ارتكابهم أعمالا تتنافى مع الأخلاق، مثل تعاطيهم المخدرات، وأن يلتزم الناس بالنهج الصحيح في زيجاتهم عن طريق تحريم زواج المثليين، خلافا للديمقراطيين الذين يؤيدون هذا النوع من الزواج.
والحزب الجمهوري يميل إلى التدين على عكس الحزب الديمقراطي، وفي مقال بعنوان [أمريكا والجمهوريون والخلط بين السياسة والدين] ذكر صاحبه أنه قبل أن يلحق الناخبون الأمريكيون الهزيمة بالحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، حذر
__________
(1) انظر: مفهوم الحرية، علي فقيهي، ص 5 – 6..
إيران.. نظام وقيم (149)
السناتور الجمهوري جون دانفورث، سفير واشنطن السابق في الأمم المتحدة ومبعوث الرئيس بوش السابق إلى السودان في كتاب جديد بعنوان [الدّين والسياسة]، من أن الحزب الجمهوري تحوّل إلى حزب ديني لليمين المسيحي المحافظ، وقال دنفورث: (إن الشعب الأمريكي يتعرّض للفرقة والانقسام بسبب تركيز الحزب على قضايا خلافية تتعلق بالقيّم الدينية)
ومع أن السناتور دانفورث جمع في حياته بين أنه كان قسّا بالكنيسة الأسقفية البروتستانتية، وبين عمله في السياسة كعضو في مجلس الشيوخ عن ولاية ميسوري لمدة 18 عاما، إلا أنه إنه تعرّض في كتابه للفرقة التي أحدثها المزج بين السياسة والدّين على يد الحزب الجمهوري، حيث اتسعت الهوة في أمريكا بين اليمين واليسار، وبين المحافظين والليبراليين، وبين المؤمنين والمُلحدين، بعد أن تحول الحزب الجمهوري، كما يقول في كتابه، إلى ذراع سياسي للمتطّرفين من المسيحيين المحافظين اليمينيين، الذين سيطروا على توجّهات الحزب، استنادا إلى اعتقادهم بأن برنامجهم يُسانده الله.
ودعا السناتور المتقاعد إلى الابتعاد عن القضايا الخلافية، التي فرّقت الأمريكيين في جدل مُحتدم حول الإجْهاض والخلايا الجذعية وزواج المثليين، وعرض الرموز الدّينية في الأماكن العامة وحق المريض الميئوس من شفائه في إنهاء حياته (1).
هذا بالنسبة لأكبر حزبين أمريكيين، أما السياسة الأمريكية العامة، فهي تعتمد النظام الجمهوري، لا الديمقراطي، ويتجلى ذلك من خلال القسم الذي يقول: (أتعهد بالولاء لعلم الولايات المتحدة الأمريكية، وللجمهورية، أمة واحدة بعد الله، غير قابلة للتقسيم، بالحرية والعدل للجميع) (2)
__________
(1) أمريكا والجمهوريون والخلط بين السياسة والدين، محمد ماضي – واشنطن، 19 نوفمبر، 2006، موقع سويسرا بعشر لغات..
(2) انظر: ما الفرق بين الديمقراطية والجمهورية؟، محمد علاء عيسى، موقع ساسة، 23 سبتمبر، 2014.
إيران.. نظام وقيم (150)
ومن الأدلة على هذا التوجه، أن القوانين التي يسنها الأغلبية قد ترفض بسبب مخالفتها لقيم الجمهورية، ومن الأمثلة على ذلك قوانين [جيم كرو] (1)، والتي تنادي بالفصل العنصري، فقد اعتبرت غير دستورية، وتم إلغائها.
وفي قضية شهيرة عام 1954 بين المجلس التعليمي والسود؛ ألغت المحكمة العليا بالولايات المتحدة مدارس الفصل العنصري التي ترعاها الدولة بعد أن اعتبرت ذلك غير دستوري.
وفي حالات معاصرة، تم رفع قضية عام 2010 ضد مشروع قانون إصلاح نظام الرعاية الصحية بالمحكمة العليا بالولايات المتحدة لأنها كانت تجبر الأفراد على شراء التأمين الصحي، مع أنه تم تمريره من الأغلبية، ولكن المنتقدين ادعوا أن هذا يخالف حرية الأفراد بإجبارهم على الدخول في التجارة، وهي السلطة التي لا تملكها الحكومة في هذه الجمهورية.
وفي ولاية كاليفورنيا طالبت أغلبية المصوتين بجعل زواج متشابهي الجنس قانونيا؛ وحينها قال الناقدون للقانون أن هذا يخالف حرية الأفراد من المثليين والمثليات، وأنه ليس من حق الأغلبية فعل ذلك في الجمهورية.
وهكذا نرى أن المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية تقرر مدى دستورية القوانين، ولديها سلطة إلغاء القوانين التي تعتقد أنها غير دستورية، وفي ذلك إثبات على أن سيادة القانون ودستور الولايات المتحدة أعلى سلطة من رغبة الأغلبية في أي وقت، وذلك ما يدعم كونها جمهورية.
ومع التفاوت الشديد بين الرؤية السياسية الأمريكية والرؤية الإيرانية إلا أن هذا المثال يقرب بينهما من جهات كثيرة، ربما يمكن حصرها في جانبين:
الجانب الأول السياسة العامة للدولة
__________
(1) وهي مجموعة قوانين فصل عنصري تم تفعيلها من 1876 حتى 1965).
إيران.. نظام وقيم (151)
حيث أن النظام الإيراني ـ مع احترامه للأغلبية ـ إلا أنه ـ مثل النظام الأمريكي ـ لا يقر بكل القوانين التي تصدرها، بل يمررها على المجالس التي تراقب مدى شرعيتها ابتداء من مجلس صيانة الدستور وغيرها.
وقد أشار إلى هذا المعنى الأصل الرابع من [القانون الأساسي]، والذي ينص على أنه (يجب ان تقوم جميع القوانين والمقررات المدنية، الجزائية، المالية، الاقتصادية، الإدارية، الثقافية، العسكرية، والسياسية وغيرها على أساس الموازين الإسلامية، وهذا الأصل يكون حاكما على عموم أو إطلاق كافة أصول القانون الأساسي وسائر القوانين والمقررات، وتقع مهمة تشخيص هذا الأمر على فقهاء مجلس صيانة الدستور، ويشمل هذا الأصل القائد أيضاً، فهو ليس فعالا لما يشاء، لما يتمتع به من صلاحيات قانونية وفقهية واسعة فبإمكانه العمل كيفما يشاء وإصدار أي قانون، فإذا ما حاول القائد ـ لا سمح الله ـ الخروج عن حدود القوانين الإسلامية، فهو يفقد شروط القيادة، وتسقط ولايته أيضاً، وفي ضوء هذا الأصل يفقد قانونه الاعتبار أيضاً) (1)
وأهمية هذا الجانب ـ كما أشرنا سابقا ـ هي في قوة الدولة وثباتها على مبادئها، لأنها لو ترك الأمر للأغلبية الشعبية من دون قيود؛ فإنه يمكن أن يتسرب إلى مجالس الشورى من ليست له الأهلية، ثم ينجح فيها بفعل الدعم الخارجي أو الإعلامي الذي يتلقاه، ثم تكون له القدرة بعد ذلك على تغيير قوانين الدولة، بل تغيير نظامها جميعا.
وقد أشار إلى هذا المعنى مالك مصطفى وهبي العاملي بقوله: (إن نظرية ولاية الأمة على نفسها ـ أي الحرية السياسية المطلقة ـ هي نظرية الإنقلابات المتكثرة واللااستقرار الاجتماعي، والتخلي عن الدين كشرع يحكمنا في كل صغيرة وكبيرة. فإننا إذا بنينا على ولاية الأمة على نفسها بدون ضوابط وكان هذا حقها الحصري، تأتي مجموعة أسئلة لتثير مخاوف تجعل مصالح الأمة
__________
(1) انظر: ولاية الفقيه ولاية الفقاهة والعدالة جوادي آملي (ص: 54)
إيران.. نظام وقيم (152)
في معرض التسيب والزوال. فإنه لو لم يكن للفقيه ولاية يتمكن من خلالها من إلزام الأمة بسلوك الطريق الصحيح، ونقصد الإلزام الشرعي، فهذا يعرض الأمة للفساد ولتسلط المنحرفين عليها ويفسح المجال لظهور حكومات لا علاقة لها بالإسلام. وفي هذا تضييع للهدف المنشود من وراء تشكيل حكومة ترعى شؤون المسلمين) (1)
ثم بين مدى يسر ذلك وسهولته على المندسين؛ فقال: (ما أسهل أن تسيطر قلة قليلة على الأكثرية من خلال الإعلام ونمط تثقيفي تربوي معين وقدرة مالية، فبدل أن تكون الولاية للأمة على نفسها، وهو الشعار البراق، نكون قد أعطينا الولاية لتلك الفئة القليلة على الأمة، ولذا ترى كل الضغط المنحرف متجه نحو إلغاء فكرة ولاية الفقيه من نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، والذي يتمظهر بمظاهر متعددة والتي منها المطالبة بإلغاء كل ما يشكل ضمانة للأمة من عدم الوقوع في الإنحراف، كإلغاء مجلس صيانة الدستور والتخفيف من شروط الدخول في مجلس الخبراء ونحو ذلك لكي يسهل لهم فيما بعد الوصول بحكام غير فقهاء بل وغير عدول يتحكمون بالأمة ومصيرها) (2)
وأشار الشيخ تقي مصباح يزدي إلى أن هذا التقييد لرأي الأغلبية هو الممارس في كل الدول القوية المستقرة، فكلها تمارس نظام [ولاية الفقيه] بطريقتها الخاصة، يقول في ذلك: (وهذا أمر لا يختص بالدين وحده، بل نجدنماذج كثيرة منه في كل المذاهب غير الدينية وفي كل الأنظمة القانونية، فلنفترض مثلاً أن شعباً يحترم دستور بلاده احتراماً كبيراً وقد أقرّه بكل ما أوتي من قوة، لكن هذا الشعب نراه يختلف أحياناً في فهم نص مادة من هذا الدستور، وهنا نراه يعين مرجعاً لتفسير الدستور فيرجع إليه مثل مجلس الشورى أو مجلس الشيوخ أو مجلس الخبراءأو مجلس صيانة الدستور، وهكذا نجد في كل بلد مرجعاً يؤخذ برأيه في تفسير الدستور،
__________
(1) الفقيه والسلطة والأمة، مالك مصطفى وهبي العاملي (ص: 98).
(2) المرجع السابق، ص 99.
إيران.. نظام وقيم (153)
ثم إن هناك خلافاً يحدث بين المفسرين أنفسهم، فنراهم في النهاية يأخذون جميعاً برأي واحد، ويطبقونه، ولا حيلة غير ذلك، إذ حين لا يمكن التوصل إلى معنى النص ينبغي الرجوع إلى خبير أكثر بصيرة ومعرفة من غيره والوثوق بكلامه) (1)
وقد أشار إلى هذا المعنى قبل هؤلاء جميعا محمد باقر الصدر في رسالته [لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في ايران]، والتي كانت مرجعا أساسيا أثناء تدوين الدستور الإيراني أول مرة، فقد قال في مقدمتها: (في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو إيجاب، يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الأمة أن تسن من القوانين ما تراه صالحاً، على أن لا يتعارض مع الدستور، وتسمى مجالات هذه القوانين بمنطقة الفراغ، وتشمل هذه المنطقة كل الحالات التي تركت الشريعة فيها للمكلف اختيار اتخاذ الموقف، فإن من حق السلطة التشريعية أن تفرض عليه موقفاً معيناً وفقاً لما تقدره من المصالح العامة، على أن لا يتعارض مع الدستور) (2)
ويذكر نوع الحرية السياسية التي تمارس في هذه المنطقة، وكونها حرية مسؤولة؛ فيقول: (إن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قد أسندت ممارساتها إلى الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعينها الدستور، وهذا الحق حق استخلاف ورعاية مستمد من مصدر السلطات الحقيقي وهو الله تعالى، وبهذا ترتفع الأمة وهي تمارس السلطة إلى قمة شعورها بالمسؤولية لأنها تدرك بأنها تتصرف بوصفها خليفة لله في الأرض فحتى الأمة ليست هي صاحبة السلطان، وإنما هي المسؤولة أمام الله سبحانه وتعالى عن حمل الأمانة وأدائها) (3)
__________
(1) الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه يزدي (ص: 17).
(2) لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في ايران باقر الصدر (ص: 3).
(3) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (154)
الجانب الثاني التيارات السياسية في إيران
حيث نجدها تشبه إلى حد بعيد تلك الأحزاب الكبرى التي تتشكل منها التيارات السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تنقسم إلى قسمين كبيرين (1):
التيار الأصولي (المحافظ): ويلتزم أصحابه بولاية الفقية المطلقة، ويطالبون بتدخل أكبر للفقهاء في السياسة، ويقاومون بشدة أي تيارات أخري اصلاحية أو تقدمية، ويضم هذا التيار الكثير من الأحزاب السياسية، مثل [حزب الجمهورية الإسلامي] و[حزب المؤتلفة الإسلامي]، ويتخذ هذا التيار موقفاً مناهضاً من الولايات المتحدة، ويؤمن بوجود مؤامرة عالمية لاسقاط الثورة الإسلامية.
التيار الإصلاحي: ويلتزم بولاية الفقيه، إلا أنه ينادي بدور أقل للفقهاء في النظام السياسي.
وكلا الحزبين يمارس دوره بكل حرية، وينشر المقالات التي تعترض على الحزب الآخر، أو تعترض على الحكومة ومؤسساتها المختلفة من غير أن يكون في ذلك أي قمع أو اعتقال لأي منتقد أو معارض.
ومثلما ذكرنا السابق؛ فإن الحرية السياسية لهذه الأحزاب مكفولة بشرط حفاظها على قيم الجمهورية الإسلامية، وأولها ولاية الفقيه، باعتبارها خيارا شعبيا، وافق عليه الشعب بالأغلبية الساحقة القريبة من الإجماع، أما الأحزاب التي لا تحترم هذه القيم؛ فإنه لا يسمح لها بالعمل.
وقد سئل الخميني عن سر إيقاف (حزب تودة، وحزب فدائيان، ومنظمة مجاهدي خلق)؛ فأجاب بقوله: (الاحزاب ايضاً كانت بهذا النحو، والتي لم تلجأ الى التآمر فهي تمارس نشاطها بحرية تامة)
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: ما هي أهم التيارات السياسية الفاعلة في إيران؟، عبد الرحمن ناصر، 12 ماي، 2014، ساسة بوست.
إيران.. نظام وقيم (155)
وعن سؤال حول دور الأحزاب اليسارية في الثورة، وأنها بعد انتصار الثورة الإسلامية حرموا من العمل السياسي، وهي شبهة يثيرها المغرضون كثيرا، أجاب بقوله: (ليس صحيحاً أنهم ناضلوا وتعذبوا جراء هذا النضال، إن أبناء الشعب هم الذين عانوا وتحملوا الآلام. إن عدداً كبيراً من هؤلاء كان خارج البلد، والآن جاؤوا لقطف ثمار الثورة دون عناء. كما أن فئة أخرى منهم كانت متخفية داخل الجحور أو في البيوت، وبعد ان ثار الشعب وتحمل الآلام وقدم الدماء وأنجز كل شي ء، جاء هؤلاء، وبدأوا يستحوذون على الغنائم، ومع ذلك هم أحرار ولم يتصدّ لهم أحد) (1)
والخميني يصر دائما في كل لقاءاته الصحفية بعد انتصار الثورة الإسلامية، على كون الإسلاميين هم الذين مارسوا الثورة، وهم الذين قدموا التضحيات، وأن الشعب الإيراني لم يكن لينهض لو لو تكن الثورة إسلامية، وقد أجاب الخميني في المقابلة السابقة عن السر في تهميش اليساريين، فقال: (لم يكن أي دور لهؤلاء في ثورتنا هذه، بل كانوا من المعارضين لنا. وإن هذه الأحزاب الاربعة التي تعمل الآن ضدنا، كانت لها توجهات خاصة ولازالت مصرّة على نهجها. نهضتنا نهضة اسلامية، وكان اليساريون يعارضونها، حتى أن معارضتهم لها أشد من معارضة الشاه. كما أنهم متواطئون ويريدون إعادة الأمور الى سابق عهدها. وفي تصوري أن اليساريين مزيفون وهم ليسوا يساريين حقيقيين، بل هؤلاء من صنع أميركا. بناء على ذلك فهم ليسوا كما تتصورين، ولم يكن لهم مساهمة في نهضتنا. لم يضطلع هؤلاء بأي دور في ثورتنا، وإذا ما كان لديهم تحرك ما فهو بدافع تحقيق أهدافهم ولا علاقة له بنهضتنا. لا علاقة لثورتنا باليساريين، واليساريون لم يقدموا أية خدمة لثورتنا. بل إن كل ما قاموا به هو إعاقة تحركنا والوقوف ضدنا) (2)
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 10، ص: 72.
(2) المرجع السابق، ج 10، ص: 72.
إيران.. نظام وقيم (156)
وهنا سألته الصحفية هذا السؤال المحرج، والذي لا يزال يردد: (هل يمكن أن توضحوا لنا بأن هذا الشعب ناضل من أجل الحرية أو من اجل الإسلام؟)، وأجابها الخميني بصراحته المعهودة قائلا: (إن هذا الشعب ناضل من أجل الإسلام. بيد أن الإسلام يشمل كل تلك المفاهيم التي يتصور العالم بأنه هو الذي أبدعها وأطلق عليها لفظ الديمقراطية.. الإسلام لديه كل هذه الافكار وإن شعبنا ناضل من أجل تحقيقها) (1)
وعن سؤال حول سر تشطيب كلمة الديمقراطية، والإبقاء (الجمهورية الإسلامية)، أجاب بقوله: (ثمة عدة قضايا بهذا الشأن. القضية الأولى هي إيجاد مثل هذا الوهم لدى الكثيرين من أن الإسلام يفتقر إلى مثل هذه المفاهيم، لذا يجب استعارتها، ومثل هذا محزن بالنسبة لنا، لأننا نؤمن بأن الإسلام لديه من التعاليم ما يفوق هذه المفاهيم، وهو يشتمل على كل شي ء. هذا الأمر بالنسبة لنا مزعج ومؤلم جداً أن تجد من يفكر بهذا النحو، هذا أولًا، وثانياً: إن مصطلح الديمقراطية التي هي عندكم مهمة جداً، لا يوجد لها مفهوم واضح. أرسطو عرّفها بشكل، والسوفييت عرّفوها بشكل آخر، والرأسماليون بنحو ثالث، ونحن في دستورنا لا نستطيع أن ندخل لفظاً مبهماً كل واحد يفهمه مثلما يحب، نحن وضعنا الإسلام مكان الديمقراطية، لأن الإسلام يوضح ويبين ما هو الحد الوسط، وهو لا يخشى شيئاً. ولكن هؤلاء الذين يجهلون الإسلام، الاجانب الذين ليس لهم شأن بالإسلام، ومن في الداخل الذين لا يفقهون الإسلام، يتطلعون الى أمور مبهمة من هذا القبيل) (2)
بعد هذه التصريحات من الخميني، نذكر هنا شهادة عيان من رجل موضوعي مختص بالشأن الإيراني، وهو د. حبيب فياض، والذي ذكر شهاداته في مقال له بعنوان [الحرية في الجمهورية الإسلامية]، وقد بين فيها المدى الذي وصلت إليه الحرية السياسية في إيران، وعبر
__________
(1) المرجع السابق، ج 10، ص: 73.
(2) المرجع السابق، ج 10، ص: 74.
إيران.. نظام وقيم (157)
عن تجربته عن ذلك؛ فقال: (في هذا المجال أود أن أروي حادثة حصلت أمامي في جامعة طهران، فقد اختلف أحد الطلاب مع أحد الأساتذة، وقال الطالب لأستاذه: (الفرق بين ما قبل الثورة وما بعدها أنه كان عندنا شاه بتاج، الآن عندنا شاه بعمامة)، ولم يعتقله أحد، بل لم يتعرض له أحد، رغم أنه تعرض لأصل النظام، ومؤخراً هاشمي رفسنجاني وهو أحد أعمدة النظام، تعرض لحملة قاسية جداً من الانتقادات، ولم يلجأ إلا إلى القنوات القانونية من أجل رد الحملات التي تعرض لها، ففي إيران حرية تعبير وحرية معتقد، والشاهد أن إبراهيم يزدي الذي لا يؤمن بنظام الجمهورية الإسلامية وصاحب التوجهات القومية ظاهراً والعلمانية باطناً، يمارس حريته السياسية وعنده حركة سياسية في طهران ولم يتعرض له أحد على مدى 25 سنة. ولكن متى تنكمش الحرية في إيران؟ عندما يتم الخوض في مسألتين، إما مسألة الدم وإما مسألة تهديد أركان النظام) (1)
ويبين الحدود أو الخطوط الحمراء التي تقف عندها الحرية؛ فيذكر ثلاثة أمور لا بدّ من التمييز بينها في هذا الشأن، وهي (2):
أولاً: التمييز بين ما هو أخلاقي وما هو قانوني؛ فالبعد القانوني إلزامي، أما البعد الأخلاقي فهو التزامي واختياري يقوم على الحرية؛ فعندما لا يتجاوز الشخص إشارة المرور الحمراء فجراً، حين لا يوجد شرطي ولا أحد يفرض مخالفة مرور، يكون الأمر أخلاقيا، ومتعلقا بالحرية الشخصية، و(هذا العامل موجود بقوة في إيران، صحيح أن هناك تداخلاً بين ما هو تشريعي قانوني وما هو أخلاقي، لكن العامل الأخلاقي النابع من إرادة حرة في الالتزام الديني، يؤدي إلى بلورة مفهوم من الحرية يختلف إلى حدٍ كبير عما هو سائد في الدول الغربية. فكما هو معلوم، إذا انقطعت الكهرباء لخمس دقائق في مجتمع من المجتمعات الغربية فإنه
__________
(1) المقال موجود في كتاب بعنوان: الحرية قراءة في مرتكزاتها الإسلامية، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ص 164.
(2) المرجع السابق، ص 166.
إيران.. نظام وقيم (158)
يتحول إلى غابة) (1)
ثانياً: التمييز بين المجتمع والدولة، فالمجتمع الإيراني مسلم ملتزم قبل النظام الحالي، وهو الذي ساهم في صناعة النظام الحالي، (ففي إيران كل المظاهر الإسلامية التي نراها حالياً كانت موجودة حتى قبل نظام الشاه، وبالتالي الدولة هي انبثاق عن حركة مجتمع يتبنى الدين الإسلامي والقيم الإسلامية.. وهذا يعني أن المجتمع هو الذي يصنع الدولة الإسلامية تماماً كما مجتمع المؤمنين قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة. هذا أعلى درجات الحرية، لأنني أسعى إلى تحقيق مسألة وأبذل الغالي والرخيص من أجل تحقيقها وبالتالي هنا القرار ملكنا والاختيار عندنا، وكذلك الجهد والمساعي الحثيثة من أجل الوصول إلى المطلوب) (2)
ثالثا ـ التمييز بين الالتزام والإلزام، فالالتزام حالة طوعيّة وتتجلى بشكل جماعي، (وهذا ذروة الحرية لأنه لا أحد يُلزمني، بل أنا ألُزم نفسي بهذا الخط وهذا الخيار وهذه الدولة. في حين حالة الإلزام هي عبارة عن فرض وقهر، وفي إيران لو لم يكن هناك حرية لدى الناس للالتزام بخيار الدولة الإسلامية، بالتأكيد لما كان هناك من إمكانية لاستمرار هذا النظام، يعني عندما يقرر الشعب الإيراني أن يكون حراً ومتحرراً من الدولة الإسلامية، لن يكون هناك دولة إسلامية) (3)
وهو المفهوم الذي عبر عنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] [16]، وهي الآية التي لا تضع أي خيار أو حرية أمام المؤمن بالله ورسوله تجاه أي تشريع
__________
(1) المرجع السابق، ص 166.
(2) المرجع السابق، ص 166.
(3) المرجع السابق، ص 167.
إيران.. نظام وقيم (159)
أو حكم.
وعبر عن الآثار الخطيرة لهذا النوع من الحرية قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة؛ فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسلفها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فآذوهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم هلكوا وهلك الناس جميعهم وإن منعوهم نجو ونجى الناس جميعاً) (1)
فهذا الحديث يشير إلى أن الحرية لها حدود ترتبط بالآخرين، ولذلك تتوقف حرية الإنسان عند تعرضها للآخر بأي نوع من أنواع الأذى.
وبناء على هذا نرى قادة الثورة الإسلامية يعقبون على أحاديثهم عن الحرية وضرورتها بالدعوة إلى الحذر عن السلبيات والعواقب السيئة التي قد تنجر عنها، والتي تنشأ من سوء استعمالها، أو استعمالها في غير المواضع المرتبطة بها، ذلك أن الحرية في الإسلام تقترن بالمسؤولية، وتنأى عن الفوضى، وتراعي حقوق الآخرين.
وقد عبر الخميني عن هذا المعنى عند حديثه عن حقوق المرأة، والضوابط التي تحكم هذه الحقوق، بقوله: (إن الإسلام يأخذ ينظر الاعتبار حقوق النساء، مثلما يهتم بحقوق الرجال، وقد اعتنى بالنساء أكثر من اعتنائه بالرجال، فلهن الحرية في ممارسة نشاطاتهن وبكامل إرادتهن، وفي انتخاب العمل، لكن ينبغي أن لا يغيب عن الأذهان أن في الشرق ثمة محدوديات للرجال أيضاً، وهي لمصلحة الرجال أنفسهم، فالإسلام يحرم ممارسة الأفعال التي فيها مفسدة للرجال كالقمار وتناول الخمور والمخدرات، لأنها مقرونة بالمفاسد، فهناك محدوديات للجميع، شرعية وإلهية، محدوديات لمصلحة المجتمع نفسه، ذلك أن الإسلام لا يمنع من الأشياء التي
__________
(1) رواه البخاري، 8/ 399..
إيران.. نظام وقيم (160)
ينتفع منها المجتمع) (1)
وذكر المساوئ الكثيرة المنجرة وراء ترك العنان للحريات من غير ضوابط ولا قوانين ولا مراقبة؛ فقال: (عندما تقرؤون الصحف فإنكم كثيرا ما تشاهدون فيها أن هذا يسيء إلى ذاك، وذاك يسي ء إلى هذا، والآن بعد تحرر الأقلام فهل يصح أن يتحدث كل إنسان بما يشاء تجاه الآخرين، أو أن يتصرف كل واحد مع الآخر بحيث تدب الفوضى في البلاد، وتخرج من النظام؟.. هل هذا هو معنى الحرية؟.. وهل أن الحرية في تلك البلدان التي تريد نهبنا هي على هذه الشاكلة؟.. لو كانت هكذا لما حصل الانسجام، ولما تطورت، إنهم يريدون من خلال كلمة [الحرية] التي يلقونها في عقول الشباب أن يفرضوا سلطتهم عليكم ويسلبوا حريتكم، إنهم يدركون ما يفعلون، يقولون: أنتم قمتم بثورة فأنتم الآن أحرار، أنت تحدث بما تشاء عن ذاك، وذاك يتحدث عنك بما يشاء، وهذا يسخر قلمه ضدك، وأنت تسخر قلمك ضد الآخرين، إنهم يدركون ما يفعلون، ويريدون من خلال الحرية أن يسلبوا حريتكم.. أي أن يوجدوا عندكم الحرية غير الصحيحة، ويسلبوا منكم الحرية الحقيقية) (2)
وهو يقصد بالحرية الحقيقية المفهوم العرفاني لها، والذي يعني سيطرة العقل على الهوى، وتحكم الروح في النفس، كما عبر عن ذلك الشيخ مرتضى مطهري عند ذكره لقصة بشر الحافي مع الإمام موسى الكاظم، والتي عبر عنها تعبيرا جميلا في كتابه [الهجرة والجهاد]؛ فقال: (في عصر الإمام الكاظم كان في بغداد رجل معروف يقال له بشر، وكان ممن يشار إليه بالبنان، وحدث يوماً أن كان الإمام الكاظم ماراً من أمام بيت بشر، فاتفق أن فتحت جارية باب الدار لإلقاء بعض الفضلات، وحين رمت بها في الطريق سألها الإمام قائلاً: يا جارية هل صاحب الدار حر أم عبد؟! فأجابته الجارية وهي مستغربة من سؤاله هذا، وبشر رجل معروف بين
__________
(1) من حديث في أوساط طبقات الشعب المختلفة بتاريخ 29/ 3/1979، انظر: المرأة في فكر الإمام الخميني (ص: 26).
(2) منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص 371.
إيران.. نظام وقيم (161)
الناس، وقالت: بل هو حر، فقال الإمام: (صدقت لو كان عبداً لخاف من مولاه) (1)
ثم ذكر كيف أثرت تلك الكلمة في بشر عندما أخبرته بها الجارية، وأنه ذهب إلى منزل الإمام، فتاب على يده واعتذر، ثم حكى مطهري بلسان حاله قوله: (سيدي أريد من هذه الساعة أن أصبح عبداً، ولكن عبداً لله، لا أريد هذه الحرية المذلة التي تأسر الإنسانية فيّ، وتطلق العنان للشهوة الحيوانية، لا أريد حرية السعي وراء الجاه والمنصب، لا أريد حرية الخوض في مستنقع الذنوب وأغدو أسيراً لها، لا أريد أن تُؤسر فيّ الفطرة السليمة والعقل السليم، من هذه الساعة أريد أن أصبح عبداً لله ولله وحده، حراً تجاه غيره)
وانطلاقا من هذا دعا قادة الثورة الإسلامية إلى إحياء سنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي مارسها الإمام موسى الكاظم كما مارسها سائر الأئمة، بل هي شريعة من شرائع الله الكبرى، التي لا تقوم بها الجهات الرسمية فقط، بل يقوم بها جميع المسلمين؛ فالشعب جميعا مكلف بمراقبة سلوكات بعضه بعضا، والنهي عن أي منكر لا يتناسب مع الشريعة.
وقد ذكر الخميني ذلك عند انتقاده للمفهوم الغربي للحرية، والذي لا يتناسب مع الفطرة السليمة، كما لا يتناسب مع المجتمع الإيراني المحافظ؛ فقال: (لنعلم جميعا أن الحرية على الطراز الغربي تؤدي إلى تدمير الشبان فتيات وفتية، وهي مدانة بنظر الإسلام والعقل، ومحرم تلك الدعاية والمقالات والخطابات والكتب والصحافة المنافية للإسلام والعفة العامة ومصالح البلاد، وواجب علينا جميعا، وعلى المسلمين كافة منعها، ويجب منع المدمر من الحريات، والجميع مسؤولون للتصدي بحزم لما يحرم في الشرع، وما يعرقل مسيرة الشعب والبلد الإسلامي، ويتنافى وكرامة الجمهورية الإسلامية، الجميع مسؤولون، وإذا ما شاهد الناس وشبان حزب الله أيا من تلك الموارد فليراجعوا الأجهزة المختصة، وإذا ما قصرت هذه
__________
(1) الهجرة والجهاد مطهري (ص: 2).
إيران.. نظام وقيم (162)
فهم بأنفسهم مكلفون بمنع ذلك، وكان الله تعالى بعون الجميع) (1)
وقال: (كما أن كل فرد مطالب بإصلاح نفسه، فإنه مطالب أيضاً بإصلاح الآخرين) (2)
وهو ينقل لهم ما ورد في النصوص المقدسة من ذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعضهم، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء) (3)
فهذه الرواية تشير إلى (الارتباط الغيبي بين المعاصي والمشاكل الدنيوية.. فالمشاكل الاقتصادية والفتن بين الناس بالإضافة إلى أسبابها الطبيعية لها ارتباط بالنهي عن المنكر، وهي نوع من العقاب الإلهي لترك هذه الفريضة) (4)
وينقل لهم أيضا ما روي عن الإمام الحسين، وأسباب ثورته، وقوله: (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي) (5)
ويستنتج من هذه النصوص وغيرها أن (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كافة أبناء الشعب) (6)
ويقول مخاطبا شعبه داعيا إلى المبادرة في مواجهة المنكر قبل أن يستشري: (إذا لم تقفوا بوجه الفساد منذ بداية ظهوره فليس من المستبعد أن نعود إلى ما كنا عليه في السابق) (7)
__________
(1) منهجية الثورة الاسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص 360 359..
(2) الكلمات القصار. ص 245..
(3) وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 11، ص 399..
(4) إصلاح المجتمع في فكر الإمام الخمينيّ، (ص: 13)
(5) بحار الأنوار، المجلسي، ج 44، ص 329..
(6) الكلمات القصار، ص 105..
(7) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (163)
بل إنه يدعو إلى التعامل بشدة مع من يحارب المجتمع بنشر قيم الفساد فيه، ويقول عنه، وعن حكمه الشرعي: (إن من يعمل على إفساد المجتمع ولا يرعوي عن ذلك إنما هو غدة سرطانية يجب فصلها عن المجتمع) (1)
ولهذا لا نستغرب من تلك الأحكام المشددة التي يواجه بها القضاء الإيراني المروجين للمخدرات والمتاجرين بها، أو أولئك العابثين بالأمن العام، والتي لقيت نقدا كبيرا من المغرضين الذين راحوا يرحمون المجرمين حفاظا على حقوق الإنسان، ويتركون الضحايا (2).
وهكذا نجد الولي الفقيه الحالي السيد علي الخامنئي يصرح كل حين بوجوب قيام الشعب جميعا بالإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإبلاغ السلطات المسؤولة في حال الحاجة إلى ذلك.
ومن أمثلة ذلك قوله (3): (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليف عام، ولا يوجد خطاب يفوق في شدّته وحزمه خطاب الأمر بالمعروف)، وقوله: (الأمر بالمعروف ليس ضرباً من الفضول، بل هو نوع من التعاون والرقابة العامّة على نشر الخير وتقويض الشر والفساد)، وقوله: (عندما يشيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين أوساط المجتمع، فإن ذلك سيؤدّي إلى أن تعتبر الخطيئة في نظر الناس خطيئة إلى الأبد)، وقوله: (إذا أهمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتفشّت في المجتمع الأفعال المنكرة، إذ ذاك ستمهّد الأرضيّة إلى أن يمسك الأراذل بزمام الأمور)، وقوله: (على الشعب أن يطالب المسؤولين بالعمل الصالح، وليس ذلك عن طريق الدعوة والرجاء، بل عن طريق الأمر)، وقوله: (لا يتحدّد النهي عن المنكر بالردع عن الذنوب الشخصيّة، بل هو معشار العشر منه)، وقوله: (هناك منكرات شائعة على صعيد
__________
(1) الكلمات القصار، ص 104..
(2) انظر مقالا بعنوان: على إيران إلغاء الإعدامات المتعلقة بالمخدرات، بتاريخ 20 يوليو 2017، ففيه: قالت [هيومن رايتس ووتش] اليوم إن على الحكومة الإيرانية إلغاء جميع عمليات الإعدام المتصلة بجرائم المخدرات..
(3) انظر هذه المقولات مع المناسبات التي قيلت فيها في: الكلمات القصار، الخامنئي، ص 123..
إيران.. نظام وقيم (164)
المجتمع ينبغي النهي عنها من قبيل إهدار الثروات العامّة والحياتيّة)، وقوله: (القول بجواز النهي عن المنكر باللسان ووجوبه هو واجب الجميع ولا يسقط في ظلّ أيّ ظرف)، وقوله: (النظام الإسلامي هو نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهما واجب حتميّ على الجميع)، وقوله: (لا ينحصر المأمورون بالمعروف والمنهيّون عن المنكر في طبقة العوام فحسب، بل ربّما كانوا من الخواصّ أيضاً)، وقوله: (إيّاكم أن تتوجّهوا إلى شخص من النخبة بالرجاء، بل عليكم أن تنهوه، قائلين: لا تفعل هذا الشي ء، فالحالة الاستعلائيّة لا بدّ من تمثّلها في الأمر والنهي)، وقوله: (الجميع مخاطبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لو كان الشخص أكثر أهميّة)، وقوله: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إحدى الواجبات، ولا يتحمّل محاباة وخجلاً)
وغيرها من المقولات الكثيرة، والتي تحمل معاني سامية ترتبط بالإصلاح الاجتماعي، بل بكل أنواع الإصلاح، ذلك أن الهيئات الرسمية وحدها لا يمكن أن تقوم بكل شيء، أو تراقب كل شيء.
ولهذا استطاع الإيرانيون بمشاركتهم لحكومتهم ونظامهم إحباط كل المؤامرات والفتن التي دبر لها الأعداء، ذلك أن الذي بادر بمواجهة المتآمرين هم الشعب نفسه قبل أن تتدخل قوات الأمن.
انطلاقا من هذا سنذكر هنا باختصار نموذجين من نماذج الحرية السلبية التي واجهها النظام الإيراني لمنافاتها الشريعة الإسلامية، وقد لاقت تلك المواجهة الكثير من النقد من طرف المغرضين.
استعمل النظام الإيراني البائد كل الوسائل لنشر مظاهر الحياة الغربية في اللباس وأنماط المعيشة المختلفة، متأثرا في ذلك بما عليه الحال في تركيا، ذلك أنه بعد تنصيب الشاه (رضا
إيران.. نظام وقيم (165)
بهلوي) في عام 1926 م، حاول أن يتقرب من مصطفى كمال أتاتورك، وأن يقيم علاقات جديدة معه، وكان متأثرا به تأثرا شديدا، ولذلك استعمل كل الوسائل لتحويل إيران إلى نفس النمط الذي تحولت إليه تركيا الحديثة، ولولا مواجهة العلماء، وتأثيرهم في الشعب الإيراني لتم له الكثير مما أراد.
ومن تلك المظاهر التي حرص على الدعوة إليها إدخال التقاليد الغربية في اللباس والحفلات وجميع شؤون الحياة، ولذلك كره الشعب الإيراني ـ بحكم تدينه أولا، وبحكم كراهيته للشاه واستبداده ثانيا ـ تلك المظاهر، وراح يتعلق بالعلماء والمراجع الرافضين لذلك.
ولهذا؛ فإن الدعوة لمواجهة التغريب ومظاهره المختلفة لم تلق أي ردود سلبية من طرف الشعب الإيراني، بل إنه نفسه بادر للدعوة إلى مواجهتها، وخاصة بعدما تشبع بتلك الخطب والبيانات الكثيرة التي كان يلقيها قادة الثورة الإسلامية، وخصوصا الخميني الذي لم يكن يدع مناسبة إلا وينكر فيه على مظاهر التغريب والسفور والانحراف التي ينشرها الشاه، عبر القوانين التي يضعها كل حين.
وقد عبر الخميني عن ذلك الدور المشبوه الذي قام به الشاه لنشر المظاهر السلبية للتغريب بحجة التمدن والتحضر؛ فقال: (في عهد هذا النظام (بهلوي) الذي كانت تتعالى فيه الصيحات (النساء حرات، الرجال أحرار) ماذا كانت نشاطات المرأة؟ النشاط الذي شاهدناه من النساء هو قيام مجموعة من النسوة بالذهاب إلى قبر رضا خان بذلك الوضع المخزي لتقديم شكرهن لأنه حررهن، أما كيف حررهن وماذا فعل؟ فإنهن لا يفكرن بهذا.. لا يفكرن بأنه أرادهن أحرارا مع الرجال من دون أي ضوابط أخلاقية.. لتشارك النسوة في تلك المجالس التي كانت تقام، وتظهر أمام أعين الرجال غير النزيهة بذلك الوضع.. إنهم يريدون حرية الفحشاء بكل أنواعها) (1)
__________
(1) منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص 362 361..
إيران.. نظام وقيم (166)
ويذكر الخميني أنه في الوقت الذي كان يسمح فيه بهذا النوع من الحرية، كان الاستبداد والقمع ساريا في كل شؤون الحياة؛ يقول في ذلك متسائلا: (.. أي امرأة تمكنت أن تتحدث عن قضايا الساعة، وأي رجل استطاع أن يكتب كلمة واحدة عن المشاكل التي يعاني منها شعبنا بسبب تدخل الأجانب وعملائهم الداخليين؟.. وأي مطبوعة من مطبوعاتنا كانت حرة؟ ومتى كان المذياع والتلفاز حرا؟ ومتى كان الناس والشبان وطلاب الجامعات وطلبة العلوم الدينية أحراراً؟) (1)
ويجيب عن هذه التساؤلات بقوله: (إن الحرية الواقعية المفيدة لمجتمعنا كانت مسلوبة تماما خلال هذه الخمسين سنة التي شاهدت فيها مختلف القضايا؛ فالنسوة لم يملكن الحرية لممارسة النشاط الاجتماعي أو التحدث عن المصائب التي يعانيها الشعب، والويلات التي لحقت به من الشرق والغرب، ولم يسمح لهن بالتحدث ولا بكلمة واحدة عن مصائب الشعب من الحكومات العميلة وما أصاب الشعب بسببه) (2)
وفي نفس الوقت الذي اهتم فيه الشاه بإشاعة المظاهر الغربية، لم يهتم بتطوير بلاده في النواحي التي كان عليها أن يستفيدها من الغرب، يقول في خطاب له عند بيانه لآثار الشاه السلبية على المجتمع الإيراني: (إن هذا الشاه جعل ثقافتنا متخلفة بحيث لايحصل شباننا على العلم التام والكافي هنا ويمسون بعد مدة من الدراسة مع كل ما يرافقها من صعوبات وضغوط يمسون مضطرين للسفر إلى خارج البلاد لإكمال دراساتهم.. إننا نملك دراسات جامعية منذ خمسين عاما أو أكثر، ونملك جامعة منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولكن ولأنهم خانونا، فإن هذه الجامعة لم تتطور ولم تحقق لأبنائها بلوغا أنسانيا. لقد قضى هذا الشخص على جميع أبنائنا وعلى
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (167)
طاقاتنا البشرية) (1)
وفي المقابل يذكر الخميني أن هذا الشاه الذي لم يهتم بالتطوير العلمي لبلده راح يهتم بمظاهر الابتذال المتنافية مع الشعب الإيراني، يقول: (لقد أقام هذا الشخص- ونتيجة لعبوديته للآخرين- بإنشاء مراكز الفحشاء، فبرامجه التلفزيونية ليست سوى فحشاء، وبرامجه الإذاعية في أغلبها فحشاء، وجميع المراكز التي أجازوا فتحها هي مراكز للفحشاء يعضد بعضها بعضا، فمراكز بيع الخمور أكثر من مراكز بيع الكتب، ومراكز الفساد الأخرى تنتشر الى ما شاء الله) (2)
ثم بين أنه لا ينتقد السينما ولا الفنون، ولا التطور، وإنما ينتقد استخدامها لإشاعة الفحشاء، يقول: (نحن لا نعارض دور العرض السينمائي، ولكننا نعارض مراكز الفحشاء، نحن لا نعارض الإذاعة ولكن نعارض الفحشاء، نحن لا نعارض التلفزيون بل نعارض ما يقومون به خدمة للاجانب وللإبقاء على ابنائنا متخلفين، ولتدمير طاقاتنا البشرية.. متى عارضنا التجديد؟ متى عارضنا مراكز التطور؟.. إن السينما احد مظاهر التحضر التي ينبغي توظيفها لخدمة الناس ولتربيتهم، لكن وكما تعلمون فانها قد دفعت ابنائنا نحو الضياع، وكذا هو حال سائر هذه المراكز. لذا فاننا نعارضها، وهؤلاء قد خانوا بلادنا بهذه الطريقة) (3)
وهو يذكر أن ذلك التمجيد الذي حصلت عليه إيران في عهد الشاه من طرف القوى الغربية لم يكن بسبب مراعاته للحريات، أو حقوق الإنسان، وإنما بسبب تلك المصالح التي ينالونها منه، والتي تضر بالشعب الإيراني، يقول: (أما نفطنا فقد أعطوه إلى الآخرين بالكامل.. أعطوه لأمريكا وغير أمريكا. وماذا اخذوا في المقابل من أمريكا؟ أخذوا منها أسلحة ومعدات لإقامة قواعد لها؟ فنحن أعطيناهم النفط وأقمنا لهم قواعد في أراضينا، وتمكنت أمريكا بهذه
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 6، ص 23.
(2) المرجع السابق، ج 6، ص 24.
(3) المرجع السابق، ج 6، ص 23.
إيران.. نظام وقيم (168)
الحيلة التي ساهم فيها هذا المخلوق (الشاه) من الاستحواذ على نفطنا وتشييد قواعد لها بثمنه، فقد صدرت امريكا إلينا اسلحة لا يمكن لجيشنا الاستفادة منها إلا بمساعدة المستشارين والخبراء الأمريكان) (1)
وهكذا يذكر الخامنئي ذلك التغريب السلبي الذي قامت به أسرة الشاه طيلة حكمها لإيران؛ فقال: (حين آل الأمر إلى أُسرة بهلوي ارتكبوا من الفعال ما هو أسوأ بكثير مما ارتكب في العهد القاجاري؛ فأسرة بهلوي ضربت على قواعد الثقافة الذاتية الخاصة للشعب وزلزلت أركانها، وأنشبت أظافر التخريب فيها، حتى حلت الثقافة المستوردة بدلاً من الثقافة الخاصة، ونفذت في أغلب مرافق حياتنا وشؤونها) (2)
وضرب أمثلة على ذلك؛ فقال: (كان شعبنا ملتزماً طوال قرون الحضارة الإسلامية، برعاية الآداب في طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل، وهذا لا يعني عدم وقوع حالات من الخطأ والمعصية؛ فالخطأ موجود في كلّ العصور وفي مختلف المجالات، وسيبقى أفراد البشر عرضه للخطأ أبداً. ولكن ثمَّ فرق بين الخطأ، وبين أن يتحوّل الخطأ إلى عرف عام في المجتمع وعلى صعيد الشعب، لقد كانت مجالس الأشراف وبلاطات الملوك والأمراء ومن يقع على شاكلتهم، هي وحدها التي تشهد مجالس اللذة والطرب والفحشاء، حيث تمضي الليالي الحمراء حتى الصباح بهذه الخطايا، قد سعى الأوروبيون ـ الذين لا تغلق باراتهم طوال الليل والنهار ـ أن يدفعوا مجتمعنا صوب هذه العادات المشؤومة الفاسدة) (3)
بل إن الأمر وصل به ـ كما يذكر الخامنئي ـ إلى درجة الدعوة إلى تغيير اللباس الوطني المحافظ للإيرانين، واستبداله بالزي الغربي، يقول: (لكم أن تلاحظوا الآن مقدار الفضيحة
__________
(1) المرجع السابق، ج 6، ص: 22.
(2) الثورة الإسلامية والغزو الثقافي (ص: 4).
(3) المرجع السابق، ص 5.
إيران.. نظام وقيم (169)
التي تنطوي عليها ممارسة ملك قام باستبدال الزي الوطني لشعبه مرَّة واحدة دفعةً! إذا ذهبتم إلى أقصى نقاط الدنيا، كالهند مثلاً تجدون أن الشعوب لها زيَّها الوطني وهي تفتخر به، ولا تشعر بالخجل أو العار منه، ولكن هؤلاء غيّروا الزي الوطني ومنعوه مرة واحدة، لماذا؟ زعموا أن الإنسان لا يكون عالماً مع هذا الزي! في حين نجد أن أبرز العلماء الإيرانيين، الذي لا زالت آثاره تدرس في أوروبا، عاش بهذه الثقافة وأمضى حياته بهذا الزي، ترى ما هو تأثير الزي؟ وما هو الكلام الذي يجافي المنطق ويبعث على السخرية؟.. لقد استبدلوا الزي الوطني ومنعوا ارتداء الحجاب. وقالوا إنّ المرأة لا تستطيع أن تتحوّل إلى عالمة مع الحجاب (العباءة) ولا يمكن أن يكون لها مشاركة في الفعاليات الاجتماعية! أتوجه إلى هؤلاء بسؤال: إلى أي مدى استطعن النساء أن يشاركن في الفعاليات الاجتماعية بمنع الحجاب وتحريم العباءة؟ هل سمح عهد رضاخان وابنه للمرأة أن تشارك في الفعاليات الاجتماعية؟ في عهد حرم الرجل من ممارسة الفعالية الاجتماعية كما حرمت من ذلك المرأة أيضاً) (1)
ثم بين أن التحضر والرقي لا يرتبط بتلك المظاهر الغربية، بل يرتبط بتوفير البيئة المناسبة للتطور والرقي، يقول: (لقد استطاعت المرأة في إيران أن تلج ميدان العمل الاجتماعي وتحوّل البلد بإرادته القوية، حيث جرّت الرجل إلى الساحة وراءها، حينما ارتدت الحجاب ووضعت العباءة على رأسها.. ثم ما تأثير الزي والحجاب في عدم فعالية المرأة أو الرجل؟ المهم هو القلب الذي ينطوي عليه هذا الرجل وتلك المرأة.. والمهم هو كيف يفكر؟ وما هو قدر إيمانهما، وما هي طبيعة الروحية التي ينطوي كل منهما عليها، وطبيعة الدافع الذي يسوقهما لممارسة الفعالية الاجتماعية والنشاط العلمي؟) (2)
ثم يعقب متأسفا على هذا الموقف الذي نشأ عن التبعية للغرب والشعور بالنقص: (لقد
__________
(1) الثورة الإسلامية والغزو الثقافي (ص: 6).
(2) الثورة الإسلامية والغزو الثقافي (ص: 7).
إيران.. نظام وقيم (170)
وضع رضاخان ـ هذا الطاغية الأمي المتجبر ـ نفسه أُلعوبة بيد الأعداء؛ فغيّر الزي الوطني واستبدل الكثير من الآداب والسنن السائدة بين الشعب، ومنع مزاولة الفعل الديني، وزوى بالدين جانباً، مارس جميع هذه الفعال بالقوة ـ كما تعلمون جميعاً ـ وتحوّل إلى شخصية محبوبة لدى الغرب، لم يكن محبوباً من قبل الرأي العام في الغرب، أو أبناء الشعوب الغربية، وإنما أضحى محبوباً من قبل السلطويين والساسة الغربيين) (1)
انطلاقا من هذا الموقف شرعت القوانين بعد انتصار الثورة الإسلامية، لتواجه كافة أشكال التغريب ومظاهرها السلبية، وقد لقي ذلك انتقادا كبيرا من أولئك الذين كانوا يمجدون الشاه، ويعتبرونه مراعيا لحقوق الإنسان، مع أنه نهب ثروات البلاد، ولم يجلب لها إلا الفساد وكل مظاهر الانحراف.
ومن تلك القوانين التي لقيت انتقادا كبيرا، بل جُند الإعلام بمختلف وسائله لتشويه إيران بسببها موقفها من اللباس، سواء كان لباس الرجل أو المرأة، والذي وضعت قوانين ترتبط به، لتجعله محافظا على أحكام الشريعة، مع أن الشاه نفسه ومعه أتاتورك وضعا القوانين الداعية للسفور والمحرمة للحجاب، ومع ذلك لم ينالا من الإنكار ما نالته إيران في عهد الولي الفقيه.
ولو أن الإنكار كان من الغرب وحده لما تعجبنا، ذلك أن الغرب براغماتي وصاحب مصالح، وهو يعطي ما يشاء من الأوصاف لمن يشاء من الدول؛ لكن المشكلة أن يكون الإنكار من الدول العربية، ذات المجتمعات المحافظة؛ فقد راحت مصر ودول الخليج خصوصا تنكر على تلك القوانين الإيرانية المرتبطة باللباس، بل راحت تدعو الشعب الإيراني للتمرد عليها، واستعملوا في ذلك كل أنواع الأكاذيب.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في مقال بعنوان [ممنوعات على نساء إيران: الرقص
__________
(1) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (171)
والنرجيلة والدراجات وأشياء أخرى] جاء فيه: (منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، فُرضت قيود عدة على المواطنين عموماً، والنساء خصوصاً، في البلاد، إذ أُجبرن على الالتزام بقواعد اللباس، ومُنعن من الاختلاط بالرجال، بالإضافة إلى ممنوعات أخرى تركزت على الفنون مثل الرقص والموسيقى الغربية ومشاهدة العروض الرياضية) (1)
ثم يفصل في بعض الممنوعات على المرأة الإيرانية، ومنها ـ كما يذكر ـ الرقص؛ يقول في ذلك: (منذ عام 1979، حُظرت معظم أنواع الفنون، نتيجة قيود وأحكام المحافظين، وبينها الاستماع إلى الموسيقى الغربية والرقص، ما أنتج نوعاً من الحرب الثقافية بين السلطات الإيرانية وشبابها، إذ اعتقلت السلطات الإيرانية أخيراً 4 شبان وشابتين، واتهمتهم بتعليم الرقص الغربي، وبينها الـ[زومبا]، والسعي إلى [تغيير نمط الحياة] و[الترويج لخلع الحجاب]، وفقاً لأحد قادة الحرس الثوري الإيراني، ورقص سبعة أشخاص (شبان وشابات) على أنغام أغنية غربية شهيرة في 2014، ونشروا مقطعاً مصوراً على مواقع التواصل الاجتماعي لكن السلطات الإيرانية اعتقلتهم، وفرضت عليهم أحكاماً بالسجن و91 جلدة، ما أدى إلى إثارة الرأي العام العالمي، فأوقف الحكم مقابل اعتذارهم عبر التلفزيون الوطني الإيراني، وبعد أشهر عدة، رقصت شابة إيرانية على متن قطار في العاصمة طهران، وصورها الركاب، وانتشرت مقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي في إيران، لكن السلطات لم تستطع تحديد هويتها) (2)
هذا مجرد مثال انتقيناه من الكثير من المقالات الإخبارية باعتباره أكثرها لطفا، في مقابل مقالات إخبارية تصدر كل يوم، لتشوه الموقف الإيراني من المحاولات التي يقوم بها الغرب في إطار الحرب الناعمة لصرف الإيرانيين عن دينهم وعن نظامهم وفقهائهم.
وقد كان في إمكان هؤلاء الذين يرغبون فيما شاءوا من اللباس أو الغناء أو الرقص أو
__________
(1) ممنوعات على نساء إيران: الرقص والنرجيلة والدراجات وأشياء أخرى، موقع (العربي الجديد)، 10 أغسطس 2017.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (172)
النرجيلة أن يمارسوه في بيوتهم من غير أن يتدخل أحد لاعتقالهم أو مواجهتهم، ولكن الغرض ليس هو التمتع بتلك المظاهر، وإنما الغرض هو مواجهة القيم التي تبناها المجتمع عبر توليه للولي الفقيه، والقوانين التي يصدرها.
ولهذا تصر الكثير من القنوات العربية ووسائل الإعلام على القيام بحملة إشهار مجانية لأولئك الأفراد المحدودين الذين يتمردون على القوانين، ويصورون أن هؤلاء هم كافة الشعب الإيراني، وأن الشعب الإيراني ضاق بتلك القوانين التي تحد من حريته.
وللرد على هذه المغالطة نحب أن نذكر هنا الموقف الشرعي، بل العقلي والفطري من هذا الأمر، وهو أن اللباس مع كونه حقا شخصيا للإنسان لا يجوز التدخل فيه، لكنه إذا أثار فتنة في المجتمع، أو ساهم في إفساده والإضرار به؛ فإنه حينها يخرج عن كونه حرية شخصية، بل يتحول إلى قضية مرتبطة بالمجتمع، وحينها توضع القوانين التي تضبط ذلك، والتي نراها في قوانين العالم جميعا.
ولا يقال هنا بأن على أفراد المجتمع أن يغضوا أبصارهم، لأن ذلك مستحيل؛ فالمجتمع يحوي جميع أصناف الناس، المتدينين وغيرهم، وفيه المراهقون والمنحرفون، ولا يصح أن يتحمل المجتمع جميعا وزر امرأة ظهر لها أن تخرج سافرة بين الناس لتفتنهم.
ولو طبقنا هذا الأمر لأجزنا لمن يشاء أن يروج المخدرات والخمور وغيرها أن يفعل ذلك، ثم نطالب المجتمع بأن يتورع عن الشراء، أو أجزنا لمن شاء أن يضع شاشة في الشارع، ويضع فيها ما يشاء له هواه من الانحرافات، ونطالب المجتمع بأن يغلق عينيه وأذنيه إذا مر عليها.. وهذا لم يقل به أحد.
ولهذا؛ فإن القادة الإيرانيين لم ينظروا إلى اللباس وغيره من المظاهر باعتبارها حريات شخصية، وإنما نظروا إليها باعتبارها اختراقا يحاول الغرب من خلاله أن يتسلل للمجتمع لإفساده، وتيسير السيطرة عليه.
إيران.. نظام وقيم (173)
وقد أشار إلى هذا المعنى الخميني في حوار له مع مذيعة لإحدى القنوات حينها ـ وكانت كبيرة السن ـ حيث قالت له: (هل يعقل ان تخفي نفسها وراء هذا التشادور [العباءة السوداء] المرأة التي شاركت في الثورة، وقتلت وعذبت وناضلت ودخلت السجون؟)
فأجابها بقوله: (أولًا إن المرأة مخيرة في ارتداء التشادور وقد اختارته بصورة طوعية، ولا يحق لك أن تسلبيهن هذا الاختيار، نحن إذا ما طلبنا من النساء الراغبات في ارتداء التشادور أو الحجاب الإسلامي النزول إلى الشوارع، فسوف تخرج ثلاثة وثلاثون مليوناً من خمسة وثلاثين مليون امرأة، فهل يحق لك الوقوف بوجههن؟ أي استبداد هذا الذي تنسبينه الى النساء؟.. ثانياً نحن لا نحدد حجاباً بعينه، كما أن النساء اللواتي من عمرك، لا توجد أية حساسية بشأن حجابهن، ولكننا نتصدى للفتيات الشابات اللواتي يستخدمن المكياج المفرط ويخرجن الى الشوارع متبرجات حيث يلاحقهن أفواج الشباب) (1)
وتمنينا لو أن هؤلاء الذين ينكرون على إيران التزامها بهذه المظاهر الدينية المحافظة، طبقوا ما ذكره الخميني، ولاحظوا أعداد الذين يطالبون بحقوقهم في التبرج والسفور، وقارنوها بعدد الذين يرتدون الحجاب من تلقاء أنفسهم، لخففوا من غلوائهم وتشددهم، وعلموا أنهم يقفون في وجه شعب كامل من أجل حفنة محدودة.
ولو أنهم أضافوا إلى تلك المقارنة زيارة الجامعات والمدارس والسينما والمسرح والمؤسسات الرياضيةوكل المحال لوجدوا للمرأة حضورا قويا لا يضاهيه أي حضور في كل تلك الدول التي لا هم لها إلا تشويه إيران.
2 ـ الانحلال الأخلاقي ومواجهته
بناء على ما ذكرنا في الفصل الأول من أن الحكومة الإلهية تختلف في وظائفها عن الحكومة الوضعية والعلمانية، ذلك أن هدف الأخيرة قاصر على رعاية حاجات المجتمع المادية،
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 10، ص: 79.
إيران.. نظام وقيم (174)
وعلى توفير رغباته الدنيوية، بينما الحكومة الإلهية، والتي مثلها الرسل وخلفاؤهم؛ لا تهتم بذلك فقط، وإنما تهتم قبله وبعده ببناء المجتمع الصالح، وتوفير كل ما يخدم هذا البناء، والوقوف في وجه كل ما يعترضه، كما قال تعالى في تعداد وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]
فالتزكية، وهي ترقية الإنسان وتربيته الإيمانية والروحية والأخلاقية من مهمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي يذكر قادة الثورة الإسلامية في إيران أن على الولي الفقيه أن يتولاها باعتباره نائبا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الأئمة في هذه الوظيفة.
ومن بين الوسائل التي تستعمل للتزكية ـ حسبما ورد في النصوص المقدسة ـ الحدود والتعزيرات التي يستعملها الحاكم المسلم ليحفظ المجتمع من تسرب أدوات الفساد إليه، ذلك أن فردا واحدا أو أفرادا معدودين من المنحرفين يمكنهم إذا أعطيت لهم الحرية الكافية الخالية من أي ردع أن يفسدوا مجتمعا كاملا، ولذلك ورد في الأثر: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)
وقد نص القرآن الكريم على هذا المعنى في قوله تعالى عند بيان حد الفاحشة: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، فقد ربط الله تعالى بين عقوبة الزناة مع أمره بحضور جماهير الناس للعقوبة، حتى يكون ذلك وازعا تربويا لهم، بالإضافة لوسائل أخرى سنعرفها إن شاء الله في الفصل الخاص بالقيم التربوية من هذا الكتاب.
وهكذا أخبر القرآن الكريم أن القصاص حياة، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، ذلك أن إقامة القصاص على فرد واحد يحمي
إيران.. نظام وقيم (175)
المجتمع من سريان مثل هذه الظاهرة فيه، وبذلك يحيا المجتمع جميعا بحمايته من أمثال هذه الجرائم.
بناء على هذا، كانت المقارنة في مجال الحريات وحقوق الإنسان بين النظام العلماني الذي تتبناه أكثر دول العالم والنظام الإيراني مقارنة خاطئة؛ فالفلسفة التي يقوم عليها كلا النظامين مختلفة تماما.
وليس في ذلك أي إجحاف أو ظلم بحق الشعب الإيراني، لأنه هو من ارتضى هذا النظام، وهو من طالب حكامه بأن ينفذوه، وهو الذي ظل منذ ما يقارب أربعين سنة ينتخب مسؤوليه، ويخرج في كل المظاهرات والمسيرات التي تؤكد ولاءه المطلق لنظامه ومسؤوليه.
ولذلك؛ فإن الدعايات المغرضة التي تنتقد قوانين العقوبات الإيرانية أو تقارن بينها وبين النظم العلمانية دعايات قد تقبل في المجتمعات غير المسلمة، لكن المسلم الحريص على دينه العارف بربه، لا يمكنه أن يرفضها، أو ينتقدها، لأنها قوانين شرعية، ومنطلقة من الأحكام الفقهية، بالإضافة إلى دورها الكبير في مواجهة الجريمة والانحلال، وهي مع مقومات تربوية أخرى سنراها في محلها تشكل ركنا أساسيا في الإصلاح الاجتماعي.
وقبل أن نسرد ما ذكره قادة الثورة الإسلامية في الرد على تلك الشبهات والاعتراضات التي يبثها الإعلام المغرض، بما فيهم بعض الإسلاميين، أو كثير منهم، نذكر هنا مقارنة أجرتها بعض الصحف بين بعض الممارسات التي يعتبرها القانون الإيرني جرائم يعاقب عليها بأشد العقوبات في نفس الوقت الذي لا يقاضى فيه مرتكبها حسب القوانين الأمريكية، وكأنه في رأي صاحب المقال أمريكا أكثر سماحة وعدلا من إيران.
وعنوان المقال [ثمان جرائم تستوجب الإعدام فى إيران والبراءة في أمريكا] (1)، ومما ورد فيه: (نفذت إيران حوالى 700 حكم بالإعدام فى 2015، على جرائم لا تدخلك حتى السجن
__________
(1) ثمان جرائم تستوجب الإعدام فى إيران والبراءة في أمريكا، دنيا الوطن ـ رام الله، 25/ 07/2015.
إيران.. نظام وقيم (176)
فى الولايات المتحدة، حسبما ذكر موقع فوكاتيف الأمريكي، ورأى الموقع أن إيران تنفذ أحكام الإعدام هذا العام بوتيرة قياسية، حيث تم إعدام حوالى 694 شخصًا منذ شهر يناير الماضى وتتوقع منظمة العفو الدولية أن العدد سيزيد عن ألف بنهاية العام، وقال الموقع إن القانون الإيرانى يفرض عقوبة الإعدام على مجموعة جرائم، لا تفرض حتى عقوبة الحبس على الأشخاص فى الولايات المتحدة من بينها تهريب المخدرات والعلاقات الجنسية الشاذة.. وأشار الموقع إلى أن بعض الجرائم يتم توقيع العقوبة على مرتكبيها بعد الانتهاك الرابع، من ضمن ذلك الزنا والدخول فى علاقات جنسية شاذة ويعاقب الطرفان فى تلك الحالات بعقوبة الإعدام)
وقد نشر الموقع جدولا تفصيليا يقارن بين 14 جريمة وعقوباتها فى كل من إيران والولايات المتحدة من بينها ثمانى لا تعتبرها أمريكا جرائم يعاقب عليها القانون، بحسب بيانات الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان.
وحسبما ذكر الموقع، هذه هي الممارسات التي يتأسف الكثيرون على اعتبارها جرائم في القانون الإيراني القاسي حسبما يصورون، بينما لا يعاقب عليها القانون الأمريكي الرحيم:
1. زنا المحارم: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (سجن حتى 15 عاما)
2. اغتصاب: إيران (إعدام).الولايات المتحدة (من 5 - 15 عاما سجن)
3. شخص متزوج يمارس الرذيلة مع غير متزوج: إيران (إعدام).الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
4. ممارسة الرذيلة مع زوجة الأب: إيران (إعدام).الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
5. غير مسلم يمارس الرذيلة مع مسلمة: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
6. علاقات الشذوذ الجنسى: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
7.
8.
إيران.. نظام وقيم (177)
9. التآمر لإسقاط الحكومة: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
10. تسهيل مهمة الجماعات المعارضة للحكومة: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
11. اغتيال متعمد للقادة السياسيين: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
12. سب النبى صلى الله عليه وآله وسلم: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (لا تعتبر جريمة)
13. القتل العمد: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (إعدام)
14. تهريب المخدرات: إيران (إعدام). الولايات المتحدة (5 سنوات سجن)
وهكذا نجد موقعا آخر، وهو الموقع الرسمي لمنظمة العفو الدولية، يذكر اعتراض جماعات حقوق الإنسان على القوانين الإيرانية المرتبطة بالخمر، فقد ورد فيه هذا الخبر: (قالت منظمة العفو الدولية إنه يتعين عدم إعدام رجلين وجِدا مذنبين بتعاطي الكحول للمرة الثالثة، وهو محظور بمقتضى قانون العقوبات الإيراني؛ فقد أعلن رئيس الهيئة القضائية في شمال شرق إقليم خراسان رضوي، السيد حسن شريعتي، أن السلطات تقوم بالتحضيرات لتنفيذ حكمي الإعدام اللذين أقرتهما المحكمة العليا في طهران، وقد نفذ بحق الرجلين، اللذين لم تتم تسميتهما، حكم بالجلد 80 جلدة لكل منهما عقب إدانتين سابقتين بشرب الكحول، وتنص المادة 179 من قانون العقوبات الإيراني على عقوبة الإعدام الإلزامية لمن يدانون للمرة الثالثة بشرب الكحول، واحتفظت صيغة منقحة من قانون العقوبات، لم تصبح نافذة بعد، بأشد العقوبات قسوة هذه لمن تتكرر إدانتهم بالجرم) (1)
وجاء في الموقع أن [آن هاريسن] صرحت حول هذا الأمر بقولها: (نناهض عقوبة
__________
(1) إيران: ينبغي تخفيف أحكام الإعدام الصادرة بحق متعاطي الكحول، منظمة العفو الدولية، 29 حزيران / يونيو 2012، موقع منظمة العفو الدولية..
إيران.. نظام وقيم (178)
الإعدام في جميع الأحوال، بيد أن شرب الكحول لا يمكن أن يصنَّف منطقياً بأنه من الجرائم الأشد خطورة، التي تشكل الحد الأدنى للمعايير الدولية التي تجيز عقوبة الإعدام بالنسبة للدول التي ما زالت تطبق العقوبة.. ومن المؤسف أن السلطات الإيرانية لم تستفد من عملية المراجعة الأخيرة لقانون العقوبات كي تجعله يتماشى مع التزاماتها الوطنية حيال حقوق الإنسان وتلغي عقوبتي الجلد والإعدام لمن يتعاطون الكحول) (1)
وهكذا تأسفت هذه المنظمة وغيرها، والتي كانت تغض الطرف عن جرائم الشاه، على المتاجرين بالمخدرات، والذين تحكم القوانين الإيرانية عليهم بالإعدام؛ فقد ورد في الموقع: (كثيراً ما تفرض إيران حكم الإعدام على الجرائم المتعلقة بالمخدرات، ولا سيما على المتّجرين بكميات تزيد على حد معين من المخدرات المختلفة أو العقاقير غير القانونية. وتستمر هذه الطريقة في معالجة المشكلة رغم عدم وجود أدلة واضحة على أن عقوبة الإعدام قد شكلت عامل ردع فعال ضد الجرائم المتعلقة بالمخدرات، وتأتي إيران في المرتبة الثانية بعد الصين من حيث أعداد أحكام الإعدام التي تنفذ سنوياً، وقد نفذ العديد من أحكام الإعدام الصادرة في 2011، والتي وصل عددها إلى أكثر من 600، حسبما يعتقد، خلف ستار من السرية. وتصدر الأغلبية العظمى من أحكام الإعدام في البلاد على مرتكبي جرائم تتعلق بالمخدرات)
واختتمت آن هاريسن تصريحها بقولها: (يتعين على إيران وقف فرض عقوبة الإعدام على مرتكبي جرائم المخدرات وتعاطي الكحول المزعومة، كخطوة أولى نحو الإلغاء التام لهذه العقوبة)
وهكذا نجد موقعا آخر يدافع عن العقوبات التي تسلطها القوانين الإيرانيين على [الوشم]، ففي مقال بعنوان [تطاردهم شرطة الأخلاق وتعاقبهم أشد العقوبات.. أين يحصل
__________
(1) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (179)
الشباب الإيراني على وشومهم رغم تحريمها؟] (1) جاء فيه: (الترويج للوشوم ليس أمراً يسيراً في هذا البلد المشهور بشرطته المخصصة للأخلاق، ويقوم عادةً بذلك من خلال عدة حسابات على الشبكات الاجتماعية. ولكنَّ العاقبة قد تكون وخيمة؛ إذ يروي تجربة شخصية مريرة، قائلاً: (في أحد الأيام، وجدت شرطة الأخلاق تقتحم الاستوديو الخاص بي، واقتادوني إلى قسم الشرطة كأنني قاتل أو سارق، ثم تم اتهامي بتهمة مزاولة عمل منافٍ للآداب العامة وتعاليم الجمهورية الإسلامية، وتم الحكم علي بالسجن 10 أشهر)
وهكذا نجد كل حين المواقع الإخبارية تتأسف للعقوبات المشددة التي وردت في قانون العقوبات الاسلامي الإيراني، والمتعلقة بالمحاربة، وتشمل كل من يمارس العنف في المجتمع سواء لغاية السرقة أو غيرها، والتي نصت عليها [المادة 190]، والتي تذكر أن (حدّ المحاربة والفساد في الأرض، أحد الأحكام الأربعة التالية 1. القتل، 2. الاعدام، 3. قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، 4. النفي من البلد)، وتضيف [المادة 191] أن (اختيار أي من الحدود الاربعة المذكورة، هو من صلاحيات القاضي، سواء أكان المحارب قد قتل أو جرح احداً أو سلب ماله أم لم يفعل ذلك)، وجاء في [المادة 195]: (إذا تم صلب المجرم؛ فيجب إبقاؤه ثلاثة أيام على الصليب من دون أن يموت، ولايجوز أكثر من ثلاثة أيام، وإذا مات حينها يمكن إنزاله من الصليب)
مع أن هذه العقوبات منصوص عليها في القرآن الكريم بصيغة قطعية لا تحتمل أي تأويل؛ فقد قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]
__________
(1) تطاردهم شرطة الأخلاق وتعاقبهم أشد العقوبات.. أين يحصل الشباب الإيراني على وشومهم رغم تحريمها؟، شيماء محمد، عربي بوست، 13/ 04/2018.
إيران.. نظام وقيم (180)
وقد كان لتطبيق هذا القانون، أثره الكبير في إحلال الأمن في الجمهورية الإسلامية الإيرانية مقارنة بالكثير من الدول حتى المتقدمة منها، ولكن مع ذلك نرى المغرضين يدافعون عن الجلاد، وينسون الضحية، وهو ليس ذلك الفرد الذي تعرض للأذى فقط، وإنما المجتمع جميعا.
ونحب أن نذكر هنا بأن الكثير من عقوبات الإعدام التي نص عليها القانون الإيراني مرتبطة بتكرار الجريمة، فقد ورد في [المادة 179] من قانون العقوبات: (من كرّر شرب الخمر وأجري عليه الحد في كل مّرة، يكون جزاؤه الاعدام في المرّة الثالثة)
وورد في [المادة 90]: (إذا زنى رجل أو زنت أمراة عدة مرات وأجري عليهم الحد بعد كل مرّة، يقتل في المرّة الرابعة)
وورد في [المادة 157]: إذا قذف امرئ الأخرين لعدّة مرات، وأجري عليه الحد بعد كل مرة، يقتل في المرّة الرابعة)
وورد في [المادة 201] بعد بيان حدّ السرقة في المرة الأولى والثانية والثالثة: (جزاء السرقة في المرة الرابعة الإعدام، حتى إذا حدثت السرقة داخل السجن)
وسبب ذلك إضافة إلى ما ورد في الأحكام الفقهية حول المسألة، هو أن تكرار الجريمة يدل على تمرد صاحبها على القانون، ونرى مثل هذا في القوانين الغربية؛ فقد ورد في بعض المواقع أن الحكومة الفيدرالية الأمريكية وأكثر من 25 ولاية، نص قانونها على أنه إذا ارتكبت جريمة من نوع واحد لثلاث مرات، فعاد صاحبها، وارتكبها بعد أن عوقبت عليها، يعتبر بعد المرة الثالثة متمرداً (Outlaw)، فتسلب منه كافة حقوقه، ويخسر حماية القانون، وتسمى الأحكام الصادرة ضد مثل هؤلاء المجرمين Mandatory Sentencing، أي الأحكام الثابتة التي لا تقبل التخفيف والتغيير والعفو، وهي السجن المؤبد بدون عفو أو تخفيف العقوبة، وتصدر مثل هذه الاحكام ضد السياقة في حال السكر، وارتكاب جريمة بسلاح
إيران.. نظام وقيم (181)
خطر، وبيع المخدرات. وقد سلب القانون الصلاحيات التقليدية التي كان يتمتع بها القضاة في اتخاذ القرارات بشأن هؤلاء المجرمين (1).
بعد هذا العرض الموجز للمواقف المنتقدة لقوانين العقوبات الإيرانية، والمرتبطة بالاستعمال السيء للحرية، نذكر هنا جوابا مفصلا للخميني يخاطب به جمعيات حقوق الإنسان، وهو بعنوان [خيانة وتآمر أدعياء حقوق الإنسان وإهمال المستضعفين]، وقد ألقاه على أعضاء هيئة التجار الإيرانيين في البدايات الأولى لانتصار الثورة الإسلامية (2).
وقد بدأ جوابه ببيان السبب في تلك الحملة الشديدة من أدعياء حقوق الإنسان على الدولة الإيرانية الفتية في نفس الوقت الذي يسكتون فيه على جرائم الشاه، بل على جرائم دول الاستكبار العالمي؛ يقول: (من الطبيعي أن أولئك الذين يرون مصالحهم قد تعرضت للخطر، أو مصالح أربابهم سوف يعترضون على هذه الثورة، ويسعون لإخماد هذه النهضة بختلف الوسائل، فتارة بذريعة حقوق الإنسان والاعتراض على الإعدامات التي حصلت في إيران، ويعتبرونها من مصاديق العنف.. إنهم لم يكونوا في إيران حتى يشاهدوا ماذا جرى على إيران طوال أكثر من خمسين عاما، وماذا جرى على شبابنا مؤخراً، ومع ذلك فهم مطلعون.. إنهم يعلمون ماذا فعل الشاه السابق والأسبق في إيران، وما هي الخيانات التي ارتكبها هذان الرجلان في إيران.. وهم لم ينطقوا بكلمة أو اشارة إلى حقوق الإنسان.. إنهم لا يأتون بذكر لحادث الخامس عشر من خرداد، لقد قتلوا حسب ما نقلوا قرابة 15000 شخص.. إن أنصار حقوق الإنسان هؤلاء كأنهم لا يعتبرون هذا لعدد بشراً، أو يرونهم بشرا ولكنهم لايجعلون لهم حقوقاً.. إذا كان هؤلاء بشراً ولهم حقوق، وكان هؤلاء 60000 أو أكثر الذين قتلوا في إيران خلال الأشهر الأخيرة وهم من أفضل شبابنا ومن جميع الفئات، إذا كانت لهم حقوق فإنهم
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: الجرائم الموجبة لعقوبة الاعدام في القانون الايراني وقانون العقوبات الاسلامي.
(2) انظر: صحيفة الإمام، ج 7، ص: 230، فما بعدها.
إيران.. نظام وقيم (182)
حتى لم يسألوهم ما هذه الأعمال! إننا لم نسمع صوتهم يعترضون) (1)
ثم بين أن ما نصت عليه قوانين الجمهورية الإسلامية من عقوبة المفسدين والظالمين، هو تطبيق لحقوق الإنسان، ورعاية لها، يقول في ذلك: (إننا نقوم بهذا العمل من أجل حقوق الإنسان، وإن هذه الجمعية التي علا صوتها تطالب بحقوق الإنسان، هم أجراء الاستعمار، فأصل هذه الجمعيات التي أُسست في أمريكا، أو في أماكن أخرى تحت عنوان جمعية حقوق الإنسان، جمعية كذا وكذا، وجدت أساساً لتضييع حقوق الإنسان) (2)
ويقارن بين تلك المواقف التي تدافع عن المجرمين باسم حقوق الإنسان، وفي الوقت تسكت عن إصدار بيانات التشجيب عن الضحايا الذين قتلهم أولئك المجرمون، ويضرب المثل على ذلك بقتل الشيخ مرتضى مطهري، فيقول: (هؤلاء الذين قتلوا الشيخ مطهري، الذي لم يؤذ حتى نملة، إنني أعرف هذا الرجل منذ ما يقرب عشرين عاماً، إنسان بتلك الإنسانية وبتلك السلامة، بذلك الأدب، لماذا قتلوه؟ ما هو ذنب مطهري؟ هل قتل أحداً؟ ماذا فعل؟ أليس هو إنساناً؟! ألم يكن فيلسوفاً وعالماً وفقيهاً، ألم يكن بشراً؟! يقتلون هذا الإنسان بهذا الشكل دون أن يكون له أي ذنب.. إن لديهم الآن قائمة بأسماء الذين يريدون قتلهم. يتصورون أنه بقتل مطهري وأمثال مطهري، سينحبوا لهيب هذه النهضة، وتضيع ثانية حقوق شعبنا، بل أن أدعياء حقوق الإنسان لم يكتبوا حتى كلمة واحدة بخصوص مقتل الشهيد مطهري. ولم يتحدثوا بشي ء، إننا لم نسمعهم يتكلمون بشي ء، أليس هذا إنساناً؟! لم يعترضوا، لم يتكلموا، لم يستنكروا هذه الجريمة، هل يجهلون ذلك؟ فلماذا إذاً لم ينتقدوا الجماعة التي قامت بذلك؟.. إننا إذا عثرنا الآن على قاتل الشيخ مطهري وعاقبناه، وحكمنا عليه بالقصاص، سيرتفع صوتهم
__________
(1) المرجع السابق، ج 7، ص: 230.
(2) المرجع السابق، ج 7، ص: 230.
إيران.. نظام وقيم (183)
اعتراضاً على ذلك بأنه عنف! أليس هذا عنفاً أن يقتل إنسان دون ذنب؟) (1)
ثم يبين المفارقة العجيبة التي يقع فيها أدعياء حقوق الإنسان حين يسكتون عن مقتل عالم وفيلسوف ومصلح في نفس الوقت الذي يدافعون فيه عن المجرمين، يقول: (نعم، أحياناً يكون الإنسان قد فعل شيئاً، ولكن هذا الإنسان لم يكن لديه عمل غير التعلم والتعليم كان إنساناً محترماً أعرفه منذ قرابة عشرين عاماً ومطلع على أوضاعه وأحواله، وأعرفه بأنه لم يؤذ أحداً. شخص قد أجهد نفسه من أجل هذا الشعب، كان كاتباً، فيلسوفاً، مفكراً. هل يستحق القتل حتى قتلوه؟ أين هي جمعية حقوق الإنسان، لماذا لم تصدر منهم أية كلمة؟ إننا لو عثرنا الآن على القاتل وقتلناه، ستبدأ أقلام (حقوق الإنسان) بالكتابة والدعاية ووصف ذلك بالعنف، وأنه يوجد في إيران عنف. ولا يراعون حقوق الإنسان. أي أناس؟ إنني لا أدري أية تربية تربى عليها هؤلاء، وأية حيوانات هم هؤلاء؟!) (2)
ثم يبين أن العلة التي جعلتهم يقفون هذه المواقف المتناقضة هي نوع التفكير الذي يفكرون به، والفلسفة التي ينطلقون منها، وهي فلسفة مادية، تجعل كل همها منصبا نحو حرب الدين ومواجهته، وتستعمل لذلك كل الذرائع، يقول: (هذا هو وضع العالم المادي، وهذا هو وضع أدعياء حقوق الإنسان الماديين. هذا هو وضع العالم المادي، حيث لا يلاحظ أبناؤه إلّا منافعهم المادية ومنافع أربابهم، وكأنهم غير مطلعين على أي شي ء، يغضون أنظارهم عن كل شي ء، فإذا رأوا مصالحهم تتعرض للخطر علا صوتهم، وهذه خصوصية التربية المادية، وهذا هو واقع الحكومات القائمة حالياً) (3)
وفي مقابل ذلك يبين خصوصية موقف الإسلام من حقوق الإنسان، ومدى صدقها
__________
(1) المرجع السابق: ج 7، ص 235..
(2) المرجع السابق: ج 7، ص 235..
(3) المرجع السابق: ج 7، ص 236..
إيران.. نظام وقيم (184)
وعمقها وموضوعيتها وعقلانيتها؛ فيقول: (خصوصية التربية الإسلامية تتمثل في المعنوية، فلا يصح سجن أحد بدون ذنب، لا يصح نفيه، لا يصح ولا يصح.. الحقوق الإنسانية الإسلامية هي هذه، لا يجوز الظلم، ولا يجوز إضاعة حق المظلوم أيضاً. فلا يجوز ظلم أحد، ولا يجوز غض الطرف عن ظلم الآخرين والقول بأن الظلم قد وقع وانتهى وتم الأمر) (1)
وكمثال على هذا يبين الفرق بين المعاملة التي كان يقوم بها الشاه مع السجناء، والظلم والتعذيب الذي كان يحيق بهم، مقارنة بحالهم بعد الثورة الإسلامية، تطبيقا للشريعة الإسلامية؛ فقال: (لقد أوصينا أن يتم التعامل حتى مع هؤلاء الاشخاص الذين قاموا بذلك التعذيب وقتلوا الناس بنحو لا توجه لهم حتى كلمة سيئة واحدة في السجون، لقد أعلنت هذا، وأصدرت بياناً حوله.. ففي ظل الحكومة الإسلامية لا يحق للسجانين أن يتركوا السجناء جائعين، لا يحق لهم أن يصفعوه على وجهه، لا يحق لهم أن يعذبوه، لا يحق لهم أن يشتموه، إنما حقه أن يحاكموه، ويعاقبوه بسب جرمه، وبقدر جرمه ليس أكثر من ذلك، هذا هو واقع السجون في ظل الجمهورية الإسلامية التي تضم أمثال هؤلاء الجلادين الذين لو كان أحدنا قد ابتلي ووقع في أيديهم سابقاً كانوا يتعاملون معه بذلك الشكل الفظيع، إن هؤلاء الجلادين موجودون الآن في سجوننا، وقد جاءوا من الخارج وشاهدوا السجون وقالوا بأنها مطابقة للمقاييس الحضارية) (2)
وانطلاقا من هذه كله يصور الغرض من الحدود والعقوبات الشرعية، وأن تطبيقها يحقق مصالح كثيرة، باعتبارها من وسائل تربية المجتمع، وتهذيب سلوكه، يقول: (الحدود الإلهية هي لتربية المجتمع، لا من أجل الانتقام فالقاتل إذا لم يقتل، فإن القتل سيكثر {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، إننا إذا أغلقنا باب القصاص،
__________
(1) المرجع السابق: ج 7، ص 236..
(2) المرجع السابق، ج 7، ص: 233.
إيران.. نظام وقيم (185)
ولم نعاقب القاتل، فإن القتل سيكثر حينئذ، وتختل حياة الناس، فكل من شاء يقتل من شاء، فالقصاص هو لضمان حياة الناس، إنه تربية لمصلحة المجتمع) (1)
وهكذا يذكر بأن تطبيق الحدود الشرعية يحمي المجتمع، ويساهم في تنظيفه من كل العناصر الضارة، كما يساهم في تهذيب سلوكه، وتحقق كل متطلبات الأمن التي لا يمكن قيام المجتمعات من دونها، يقول: (إن الحدود الإلهية هي لمصلحة المجتمع؛ فلو أن الفعل الفلاني الذي قُرّر له في الشرع عقوبة معينة لم تجعل له تلك العقوبة، فإنه سيكثر وقوعه؛ فالذي يذهب ويفعل ما يشاء مع زوجة شخص ولم يعاقب على ذلك فإن الفحشاء ستزيد. يجب منع شيوع الفحشاء) (2)
وقارن بين العقوبات كما قررها الإسلام، وبين العقوبات التي وضعتها القوانين الوضعية؛ فقال: (إنهم يأخذون اللصوص ويودعونهم السجون، وهناك يتعلمون السرقة! يقولون بأنه قد تم فتح درس لتعليم كيفية سرقة الجيوب والأسلوب الأمثل لذلك؟ إنهم لو أخذوا أربعة من اللصوص وعاقبوهم، طبقاً للموازين، فإن السرقة ستنتهي في إيران، ويقضى عليها في العالم. فلو أقيم الحد على أربعة لصوص بالشكل الذي أمر به الشرع وهو الذي لا يرضى بظلم حيوان فضلًا عن الإنسان حيث أمر بإقامة الحد على من يسرق. وما ذلك إلا لأنه يحافظ على المصلحة الإنسانية، وحفظ حقوق الإنسان) (3)
وهكذا الأمر بالنسبة لعقوبة من يتاجرون في المخدرات أو بيع الأسلحة، وغيرها من الآفات الاجتماعية، والذين يعاقبهم القانون الإيراني بالإعدام، يقول: (ثمة مشكلة أخرى تتمثل بالمهربين، وبائعي المخدرات، ومهربي الأسلحة. وهذا أيضاً مرض وبلاء أصيب به هذا
__________
(1) المرجع السابق، ج 7، ص: 235.
(2) المرجع السابق، ج 7، ص: 236.
(3) المرجع السابق، ج 7، ص: 236.
إيران.. نظام وقيم (186)
الشعب. إن هؤلاء يعتبرون خونة من الدرجة الأولى لهذا البلد. إن المتاجرة بالأفيون وتوزيعه بين الناس، جلب الهروئين وتوزيعه بين شبابنا، سوف يقضي على شعبنا. ليلتفت هؤلاء إلى هذا الأمر ويتخلوا عنه قبل أن يأتيهم العذاب الإلهي، قبل أن يضربهم السوط الإلهي. إنها جناية، تقود شبابنا الشرفاء إلى الهلاك، هذا إفساد للأجيال. وهل أغلقت أبواب العيش حتى يلجأ الإنسان إلى بيع الهروئين؟ ليعمل عملًا آخر! اذهب واعمل عملًا آخر!) (1)
هذا نموذج من أجوبة الخميني عن تلك الطروحات التي تشوه الموقف الإيراني من حقوق الإنسان، والعجيب كما ذكرنا، أن تصدر من المسلمين، ومن كثير من الإسلاميين الذين يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، ولست أدري كيف يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية مع التخلي عن مثل هذه الأحكام، التي تعتبر جزءا أساسيا لا يمكن إصلاح المجتمع من دون القيام به، حتى لو وقف العالم كله ضده.
ذلك أن العالم الذي يجيز الاستعمار وقتل الملايين، بل يثني على حقوق الإنسان في دول الاستكبار العالمي لا يصح أن يستمع أحد لإنكاره وشجبه، وهذا ما فعله الخميني الذي لم يستسلم لكل تلك التنديدات والتشجيبات مراعاة لمنصبه الفقهي الذي انتخبه على أساسه الشعب الإيراني.
__________
(1) المرجع السابق، ج 7، ص: 237.
إيران.. نظام وقيم (187)
ولاية الفقيه.. والأخوة الإنسانية
من القيم الكبرى التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ بحسب ما نص عليه قادتها ودستورها، ودل عليه واقعها ـ قيمة [الأخوة]، سواء الأخوة الداخية مع جميع الأعراق والأديان والمذاهب، أو الأخوة الخارجية مع جميع شعوب العالم، وخصوصا المستضعفين منهم.
ومن النصوص الدستورية الدالة على ذلك ما ورد في المادة التاسعة عشرة من الدستور الإيراني، والتي تنص على ما يلي: (يتمتع أفراد الشعب الإيراني من أي قومية أو عشيرة كانوا، بالمساواة في الحقوق، ولا يعتبر اللون والعنصر أو اللغة وما شابه ذلك سببا للامتياز)
ومثلها المادة الثامنة والأربعون، والتي تنص على ما يلي: (لا يجوز التمييز بين مختلف المحافظات والمناطق في مجال استغلال المصادر الطبيعية للثروة والموارد الوطنية العامة وتنظيم وتقسيم النشاط الاقتصادي في مختلف المحافظات ومناطق البلاد، بحيث يوظف في كل منطقة رأس المال والإمكانات الضرورية في حدود حاجاتها واستعدادها للنمو)
هذا فيما يخص الأخوة الداخلية، أما الخارجية، فتنص المادة الرابعة والخمسون بعد المئة على هذه الأخوة كما يلي: (تعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله قضية مقدسة لها، وتعتبر الاستقلال والحرية، وإقامة حكومة الحق والعدل حقاً لجميع الناس في أرجاء العالم كافة، وعليه فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم، وفي الوقت نفسه لا تتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى)
وتنص المادة الخامسة والخمسون بعد المئة على بعض مقتضيات هذه الأخوة كما يلي: (تستطيع حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية منح حق اللجوء السياسي إلى الذين يطلبون
إيران.. نظام وقيم (188)
ذلك باستثناء الذين يُعتبرون وفقاً للقوانين الإيرانية مجرمين وخونة)
أما قادتها ومفكروها وسياسيوها؛ فتصريحاتهم في ذلك كثيرة جدا، سنرى بعض نماذجها في هذا المبحث، ومنها ما ورد في مقابلة للخميني حول [وضع الأقليات في الحكومة الإسلامية] أجراها معه مراسلون أفارقة وآسيويون وغيرهم في 27 محرم 1400 هـ، فمما جاء فيها: (تارة نطلق كلمة الأقليات على الأقليات الدينية في إيران، وهؤلاء مشتركون مع سائر الإيرانيين في كل شي ء، ويُمنحون حقوقهم حسب القانون، وهم يعيشون في رفاه ودعة وحرية في الحكومة الإسلامية. وتارة يُراد بها القوميات الموجودة في إيران كالكرد واللُر والترك والفرس والبلوش وامثال ذلك، وأنا لا أرغب في أن أُسمِّي هؤلاء أقليات، لأنه قد يفهم من ذلك فصلٌ بين الأخوة، ومثل هذا الفصل غير مطروح في الإسلام إطلاقاً، فلا فارق بين اثنين من المسلمين يتكلّمان بلغتين. مسلم عربي ومسلم أعجمي) (1)
وذكر أن التفريق بين المسلمين على هذا الأساس ليس القصد منه رعاية حقوق من يسمون الأقليات، وإنما يقصد منه تفريق المسلمين وتشتيتهم وصدع وحدتهم، يقول: (من المحتمل جدّاً أن يكون أساس هذه الأمور الأيدي التي لا تريد للبلدان الإسلامية أن تتحد بعضها مع بعض. يثيرون قضية العرب والعجم، وقضية الكرد والعرب والفرس داخل البلدان. يثيرون في بلدنا قضية الكرد والعرب واللر والتركمن والبلوش وأمثال ذلك، يثيرها معارضونا وهم أصحاب دراسات جمّة لبلداننا، لقد توصّلوا إلى أن الإسلام إذا طُبَّق كما هو، وتحقق كلّ ما يدعو إليه فسوف تعزل كل هذه القوى الموجودة في العالم، وستقع أكبر القوى في أيدي المسلمين وهم الاكثر عدداً والاكثر خيرات، ولذلك يريدون التفريق على نطاق واسع بين عرب هذه الناحية وترك تلك الناحية، وفرس هذه الناحية. ولهذا يثيرون النزعات القومية خلافاً لمنطق الإسلام مثل: نحن إيرانيون ونحن ترك، وما إلى ذلك. ومرادهم أن لا يكون
__________
(1) صحيفة الإمام: ج 11، ص 243.
إيران.. نظام وقيم (189)
الإسلام ومنطقه هاهنا، وأن يمزّقوا قوميات الإسلام) (1)
ثم بين سبب هذه الظاهرة وعلاقتها بنظام الشاه، ومنافاتها التامة مع الشريعة الإسلامية؛ فقال: (الأصل والقاعدة في إيران هي أن لا تطرح قضية الأقليات كالكرد أو الترك، ولا يقال: هذه أقلية وتلك اقلية، إنما هم أكثرية، فهل تراهم منفصلون بعضهم عن بعض؟ أليست إخوتهم الإسلامية واحدة؟ يجب أن أُذكِّرَ بنقطة أخرى، وهي أن ما يُطرح من أَنّ الكرد يقولون: أعطوا كردستان حقها. ولنفترض أن البلوش يقولون أيضاً أعطوا البلوش حقِّهم، وهكذا، هذا سببه أن الحكومة التي حكمت إيران كانت ظالمة. ولأن هذه الحكومات كانت في الغالب أو دائماً من شريحة واحدة هم الفرس مثلًا، لذلك لم يعطوا الكرد ما يحتاجونه، أو أعطوهم القليل. كما لم يعطوا البلوش حاجتهم أو أعطوها منقوصة، وكذلك البختياريون وسائر الأقوام. كانت تلك أنظمةً غير إسلامية. كان النظام الشاهنشاهي نظاماً طاغوتياً غير إسلامي، ولذلك ظهرت هذه الخلافات والتمييزات داخل البلد مع الأسف) (2)
وبين موقف الحكومة الإسلامية من هذه التفرقة العنصرية؛ فقال: (لو كانت الحكومة إسلامية كما أرادها الله تبارك وتعالى، وكانت الأحوال السائدة إسلامية، وكذلك وضع القائمين على الحكومة، وكيفية الحكومة كما قرّرها الإسلام، ومثلما كان الأمر في صدر الإسلام تنظر الحكومة نظرة واحدة لكل الافراد، والقانون يطبق على الجميع بشكل واحد.. إذا ظهرت مثل هذه الحكومة الإسلامية التي في آمالنا وطموحاتنا، وفي آمال الإسلام وآمال ائمة الإسلام وخلفاء الإسلام منذ البداية، فأنا واثق أن هذه الأقوال حول حقي وحقك ستزول لأنهم جميعاً على منوال واحد لهم حق واحد. ليس من حق الحاكم وولي أمر الزمان أن يعتني بمنطقة أكثر من منطقة أخرى. ليس من حقه إعمار جانب من البلد أكثر من جانب آخر. ليس من حقه حتى
__________
(1) المرجع السابق: ج 11، ص 243.
(2) المرجع السابق: ج 11، ص 244.
إيران.. نظام وقيم (190)
أن يرجّح مكاناً على مكان كأن يمد فيه الشوارع والاسفلت مثلًا. إذا انبثقت مثل هذه الحكومة التي هي مطمحنا، فلا أظن الكرد ولا الترك ولا الفرس ولا العرب ولا غيرهم سيطرحون هذه الأمور. لقد اثيرت هذه الأمور لأن الحكومات لم تكن إسلامية، وكانت مجحفة. حينما لا يكون فرق بين طهران وباوة، ولا بين اصفهان وتركمن ولا يكون فرق في أماكن التركمن من حيث الحكومة والقضاء وتطبيق القوانين وتنفيذ البرامج، يزول داعي القول بأن المكان في أيدينا أو أيديهم) (1)
وبين المواقف العملية التي ستنتهجها الحكومة الإيرانية لتطبق هذه المعاني، وهو ما حصل بالفعل؛ فقال: (حتى لا يتصور السادة أن المفروض هو أن تفعل الحكومة المركزية كل ما تريده، تفعل كل ما تريده مع شريحة، نحن ننوي أن نحيل شؤون كل منطقة وكل مكان لأهالي ذلك المكان، للذين يعينون هناك، ليباشروا هم شؤون الإعمار وشؤون الزراعة وشؤون البلدية مثلًا وتعيين بعض المسؤلين الفرعيين، وأنا اقول هذا للجميع، طالما لم تنبثق الحكومة الإسلامية بالشكل الذي نريده، انتم ترغبون ونحن نُقدّم. ولكن اعلموا انه اذا انبثقت الحكومة الإسلامية يوماً، سيقول حتى الكرد أنفسهم ليأتِ أيَّاً كان. وسيقول الفرس ليحكم كائناً من كان. وسيقول العرب هذا أيضاً. سيقول الجميع هذا. هل كانت مثل هذه الأمور مطروحةً أصلًا في صدر الإسلام بأن يعين الناس في منطقة معينة لأنفسهم شخصاً ما؟ لم يكن مثل هذا، لأنه لم يكن ثمة اجحاف. لم يكن الحاكم إذا حكم يفرّق بين منطقة وأخرى، إلّا إذا وقع الانحراف) (2)
وهكذا ذكر في خطاب تاريخي له بمناسبة إعلان النظام الجمهوري الإسلامي في إيران الموافق 1/ 4/1979 م؛ والذي اهتم فيه كثيرا بهذه القيمة، ومن ذلك قوله: (لا بد من أن
__________
(1) المرجع السابق: ج 11، ص 244.
(2) المرجع السابق: ج 11، ص 244.
إيران.. نظام وقيم (191)
أقول لجميع طبقات الشعب: لا يوجد في الإسلام تمييز بين الأغنياء وغير الأغنياء، ولا بين البيض والسود، ولا يوجد امتياز أبداً بين السنة والشيعة، والعرب والعجم والأتراك وغير الأتراك، لقد جعل القرآن الكريم العدالة والتقوى ميزاناً، فالامتياز لمن يملك التقوى.. الامتياز لمن يملك النفس الطيبة، ولا يوجد امتياز في الماديات، ولا ميزة في الثروات، يجب أن تزال هذه الامتيازات؛ فالناس كلهم سواسية وحقوق كل الطبقات تمنح لها، فالجميع متساوون مع البعض، والأقليات الدينية تراعي حقوقهم، فالإسلام يكن لهم الاحترام.. الإسلام يكن الاحترام لكل الطبقات)
ومنها قوله في ذكر بعض النماذج التفصيلية حول الأعراق التي ينتظم منها المجتمع الإيراني: (الأكراد وسائر الطبقات الموجودة مع لغاتهم المختلفة، كلهم إخواننا ونحن معهم وإنهم معنا وكلنا شعب واحد ولنا دين واحد. وبالنسبة إلى بعض العناصر المفسدة الذين يذهبون إلى مناطق مختلفة من إيران ويقومون هناك بالدعايات السيئة ويحرضون الناس المساكين على الفوضى وقتل الإخوة، إني آمل من الناس أنفسهم أن ينتبهوا ولا يسمحوا لهؤلاء الخونة بالقيام بمثل هذه الأعمال فنحن جميعاً إخوة)
وذكر عن موقفه من أهل السنة وغيرهم: (نحن إخوان لأهل السنة، ويجب أن نلاحظ حقوق الجميع. نحن جميعاً متساوون في الحقوق والقانون الذي سوف يصادق عليه الشعب فيما بعد، وقد لوحظ فيه حقوق جميع الطبقات وحقوق الأقليات الدينية والنساء وسائر الفئات ولا يوجد فرق بين فئة وأخرى في الإسلام إلا بالتقوى والاتكال على الله. ونحن نرجو أن يوفقنا الله تعالى ما دمنا حتى الآن قد أوصلنا الأمر إلى هنا وأعلنا الجمهورية الإسلامية)
ومع كل هذا، ومع كون الواقع الإيراني قبل الثورة الإسلامية كان ممتلئا بالعنصرية، ويفرق بين الأعراق والمذاهب والأديان، بل كان يحلم بإعادة الإمبراطورية الفارسية، ويريد أن يقصي الدين ليحل بدله القومية، ولذلك استعمل كل الوسائل لبعث التراث القديم، وجعل
إيران.. نظام وقيم (192)
رمز الدولة الأسد والشمس باعتبارهما يشيران للدولتين الأكمينية والساسانية.
ومع كل هذا، ومع كون إيران في ثوبها الإسلامي ضحت بمكاسب مادية ومعنوية كثيرة في سبيل الحفاظ على هذه القيمة إلا أننا نجد المتربصين من قوى الاستكبار العالمي، وأذنابهم من الدول العربية، بل وأتباعهم من الذين يسمون أنفسهم إسلاميين، يستعملون كل الوسائل لتشويه هذه القيمة، وتحريض جميع الإثنيات الموجودة في إيران لتتمرد على الولي الفقيه، وعلى الحكومة، وعلى كل مؤسسات الدولة.
وقد استعملوا لذلك كل أنواع الحيل، بل صرحوا بأنهم لا يمكنوا أن يتغلبوا على إيران، ويسقطوا نظامها إلا بالتلاعب بالإثنيات الموجودة فيها.
وللأسف، رأيت من الدعاة لهذا المنهج في مواجهة الخطر الإيراني ـ كما يذكر ـ دعاة إسلاميون يرون أنه لا يمكن أن يتحقق النصر على إيران إلا بتحريض العرقيات والطوائف الدينية والمذهبية فيها، وهم يعلمون أن ذلك حرام، بل هو سنة اليهود الذين استعملوا هذه الوسيلة في عهد النبوة ليحدثوا الصراع بين المسلمين في الدولة الفتية الجديدة.
ومن الأمثلة على ذلك الداعية والمفكر الكويتي الدكتور عبد الله النفيسي، والذي لا يدع مناسبة إلا ويحذر فيها من الخطر الإيراني، ويوصي معها بتحريض الإثنيات الموجودة فيها لتطالب بالانقسام، بل إنه دعا إلى تموين مليشيات للقيام بهذا العمل، فقد صرح لصحيفة المرصد داعيا دول مجلس التعاون الخليجي إلى مواجهة ما يسميه [الغطرسة الإيرانية] بإشراك شعوبها في الدفاع عن أوطانهم.
وأوضح في تدوينات له عبر مواقع التواصل الاجتماعي أن هناك طريقتين لتأسيس الميلشيات، إما عبر التجنيد الإجباري، أو عن طريق تشكيل ميليشيات تطوعية يتم نثرها عبر الحدود.
وهكذا نجد الكثير من الدعاة للأسف ينسون القضية الفلسطينية، ليتحدثوا عن قضية
إيران.. نظام وقيم (193)
جديدة مبتدعة اسمها القضية الأحوازية، ومن الغريب أنهم في غمرة حديثهم عنها ينسون أن أكثرية الأحواز شيعة لا سنة.
وقد نبههم إلى هذا الخطأ بعضهم في مقال بعنوان [يتحدثون عن سنة إيران.. دون علم!]، ومما ورد فيه: (على هامش زيارة الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد مؤخرا للقاهرة خرج علينا نفر من الكتاب ومحللي الفضائيات ومعهم أيضا رجال دين من الأزهريين والسلفيين ليعترضوا على ما يلاقيه [السنة في الأحواز] من مظالم وانتهاكات لأبسط حقوقهم، ولو أن هؤلاء تناولوا مظالم سنة ايران بصفة عامة دون تحديد مكانهم لما كان هناك داع لكتابة هذا المقال، ذلك أن تشديدهم على سنة الأحواز تحديدا كطرف يتعرض للظلم يكشف عن قصور فاضح لديهم في فهم الأوضاع والسياسات والتقسيمات الديموغرافية في إيران. وهذا، بطبيعة الحال، ناجم عن خلو جامعاتنا وكلياتنا من مراكز بحثية متخصصة بالشأن الايراني، مقابل العديد من المراكز الفارسية المتبحرة في كل ما له علاقة بالأوضاع والشؤون الخليجية والعربية السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية) (1)
ثم بين موضع الخطأ الذي يدل على الجهل المطبق، بل على الحقد الدفين: (.. فالأحواز وإن كان أكثرية سكانها من العرب، فإن غالبيتهم من الشيعة وليس السنة، وهم يتكلمون اللهجة الأحوازية الشبيهة باللهجة العراقية، وبالتالي فإن سنة الأحواز لا يشكلون سوى أقلية، شأنهم في ذلك شأن الأقلية السنية في كرمانشاه، ولارستان، والمدن المركزية الكبرى)
وهكذا راح يصحح لهم الكثير من الأخطاء التي يقعون فيها، بذكر المناطق التي يتواجد فيها أهل السنة، وإن كان هو الآخر قد وقع فيما وقع فيه غيره من الأخطاء، ذلك أنه راح يذكر التهميش الذي يعانيه أهل السنة ومعاناتهم المادية دون أن يكلف نفسه بمعرفة معاناة غيرهم من الشيعة، والذين يوجد بينهم الفقراء كما يوجدون في سائر المناطق.
__________
(1) يتحدثون عن سنة إيران.. دون علم، عبد الله المدني، موقع الإسلاميون.
إيران.. نظام وقيم (194)
وقد رد الخميني على هذه الشبهات التي تثار بانتقاء بعض مظاهر الفقر الموجودة في تلك المناطق، والحكم عليها لا انطلاقا من أسبابها الحقيقية، وهي الحصار، والحروب، ونحوها، وإنما انطلاقا من كون هذه المناطق بالذات مهمشة مرات كثيرة في خطبه وكتبه ولقاءاته.
ومنها ما ذكره في حديث له في بدايات انتصار الثورة الإسلامية حول الدور الهام للإذاعة والتلفزيون في مواجهة المؤامرات التي تواجهها الدولة الفتية؛ فقد جاء فيه: (لقد عانينا في الفترة الأخيرة ومازلنا من مشكلة كردستان ومن وجود بعض المنحرفين والمفسدين هناك، وهؤلاء هم من الخونة العملاء والساعين إلى إثارة الفوضى والإضطربات في هذه المحافظة، وفي الحقيقة إن هؤلاء يهدفون للقضاء على الأكراد وعلى الاتراك والفرس أيضاً. لقد ذكرنا من قبل ومراراً لجميع الأخوة الأكراد الذين حضروا إلى هنا، وللأخوة البلوش أيضاً، أن الإسلام لا يعترف بهذه التقسيمات والتصنيفات، بل يعتمد على مبدأ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ولا يعترف بعرب وعجم وكرد بل عمل الإنسان وتقواه هو الأساس والمعيار، فالله سبحانه وتعالى لم يفرّق بين طائفة وأخرى بل أنزل على الجميع نعمه وطالبهم بالعمل والسعي ولم يفرق في ذلك بين العرب والترك والعجم، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه عربي، ولكنه يقول بصراحة أن لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي فكلكم من آدم. وكما يولي الإسلام هذا الأمر أهمية فإن الجمهورية الإسلامية تهدف إلى وضع هذا الامر في طليعة أولوياتها، ولكن المهمة صعبة لشراسة الإعلام المعاكس) (1)
ثم ذكر بعض الأساليب التي استعملها الإعلام المغرض في ذلك الوقت، وهي نفس الأساليب التي تستعمل الآن، وبتركيز أشد؛ فقال: (إنهم يبلّغون ضدنا داخل البلاد وخارجها، وبأشكال وصور مختلفة؛ ففي خارج البلاد يصوروننا كنظام دكتاتوري مثل هتلر أو أكثر فظاعة، وأن فلاناً أمر ببتر أثداء النساء، وفي داخل البلاد ككردستان مثلًا يشيعون الدعايات
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 10، ص: 213.
إيران.. نظام وقيم (195)
المغرضة ضدنا، وللأسف الشديد فإن الكثير من السذّج يصدقونهم ويتأثرون بمزاعمهم هذه) (1)
ثم ذكر موقفه وموقف قادة الثورة الإسلامية من الأكراد الإيرانيين؛ فقال: (إن أهلنا في كردستان هم أخوة لنا وأعزاء علينا. إنهم يهاجمون أهلنا في كردستان ويقتلون أخوتنا. وفيما تسارع القوات الحكومية للدفاع عن كردستان وعدم السماح للمفسدين القادمين من الخارج أفواجاً أفواجاً والذين يرسلون المال والعتاد والمبلغين والجواسيس لإشعال المنطقة، وقتل أخوتنا الأكراد، فإن هؤلاء المفسدين يحاولون خداع السذج بأن القوات الحكومية عازمة على قتل الأكراد! ولكنهم أنفسهم يقومون بذلك ويقتلون إخوتنا الأكراد. وفي المشافي أيضاً أثاروا سلسلة من الفضائح، كما أنهم وجّهوا إليّ اتهامات مختلفة! فيوم أمس أحضروا لي بياناً يحمل توقيع (ميليشيا فدائيي خلق) يكيلون فيه سيلًا من الاتهامات وينسبون الكثير من الفضائح إلى الجمهورية الإسلامية) (2)
ثم رد على تلك الدعايات التي تصور التهميش المرتبط بالأكراد وغيرهم، ودور النظام البائد في ذلك؛ فقال: (لقد أشرت إلى هذه النقطة كثيراً وهي أن الأخوة في كردستان مثلًا غير مطلعين على الأوضاع في المناطق الأخرى ويظنون أن كردستان وحدها التي تعاني من الحرمان ونقص الخدمات، والشي ء نفسه بالنسبة لأهالي بختياري حيث يظنون بأنهم من أكثر المناطق معاناة وتخلفاً، وهكذا أهالي بلوجستان يفكرون بالطريقة نفسها، لأن هؤلاء جميعاً مطلعون على الأوضاع في مناطقهم فحسب. فمن يذهب إلى كردستان سيرى بأم عينه عدم توفر أي نوع من الخدمات، فلا مستشفيات ولا طرق معبدة ولا مدارس، وبلوجستان كذلك تعاني من نفس المشاكل، وإن السبب في كل ذلك يكمن في الدعايات الإعلامية التي يمارسها البعض والتي
__________
(1) المرجع السابق، ج 10، ص: 213.
(2) المرجع السابق، ج 10، ص: 214.
إيران.. نظام وقيم (196)
تدفع أهالي كل منطقة للظن بأنهم وحدهم الذين يعانون وأن أهالي المناطق الأخرى ينعمون برفاهية ورخاء، وبعد عودتنا إلى إيران ولقاءنا مندوبين عن الكثير من مناطق البلاد، أخبرتهم بإنهم على حق لأنهم يرون شيئاً ويسمعون شيئاً آخر. فلقد مارس نظام الشاه سياسة اعلامية موجهة تهدف إلى اعتبار ايران بلد الحضارة الكبرى وبوابة التحضر وهذا ما صدقه الكثيرون واعتبروا أن مناطقهم وحدها التي تعاني بينما تتمتع المناطق الأخرى بخدمات وافرة، وبما أن البلد بلد الحضارة الكبرى، فبقية المناطق حتماً تمتلك هذه الحضارة التي يتكلم عنها النظام ماعدا منطقتنا نحن. ولكن لو أمعنّا النظر جيداً لوجدنا أن الحرمان والتخلف كان منتشراً في كل بقعة من البلاد) (1)
ثم ضرب لهم مثالا على ذلك بالوضع المعيشي لسكان العاصمة طهران؛ فقال: (اذهبوا إليها وقارنوا بين الأوضاع التي يعيش فيها سكان المناطق النائية في طهران والأوضاع في كردستان وبلوجستان، ستجدون أن هؤلاء الذين يعيشون في طهران أسوأ حالًا وأشد فاقة، وقد عرض التلفاز مؤخراً مشاهد للحفر والكهوف التي يقطنها هؤلاء! وصوراً من حياتهم اليومية المدقعة في الفقر والحرمان، ولا بد من القول إن الظروف التي يعيشها هؤلاء هي اسوأ حالًا من كردستان وبلوجستان. لقد تم التخطيط والبرمجة لكل هذا التخلف والحرمان والوقوف أمام تنمية البلاد وتطورها ونهب ثرواتنا وممتلكاتنا ليعيش الشعب في بؤس وفقر وحرمان) (2)
ثم بين أن الوضع في جميع المناطق الإيرانية واحد، وأنه وليد لسياسات الشاه الذي وهب كل ممتلكات البلاد لأمريكا والغرب؛ فقال: (لا تظنوا أن المناطق التي تعيشون فيها هي وحدها المحرومة، بل جميع المناطق على درجة واحدة من الفقر والحرمان وجميعكم محقون بأن مناطقكم
__________
(1) المرجع السابق، ج 10، ص: 215.
(2) المرجع السابق، ج 10، ص: 215.
إيران.. نظام وقيم (197)
محرومة. لقد كان البعض يخبرني عن الحالة المأساوية التي يعيشها سكان المناطق النائية في طهران منذ أن كنت في النجف ولمست ذلك أيضاً من خلال المشاهد التي بثها التلفاز.. إن كل هذا البؤس والحرمان الذي ترونه جاء نتيجة لمخططات مدروسة وأهداف خبيثة) (1)
ثم بين الهدف الأكبر الذي يسعى له هؤلاء المحرضون، وهو ليس المطالبة بحقوق الأعراق والمذاهب والأديان، وإنما هو القضاء على الحكم الإسلامي الذي ارتضته إيران نظاما لها، يقول في ذلك: (واليوم أيضاً يهدفون إلى عرقلة تقدم الثورة ومنع تحقيق الأهداف الإسلامية. فتارة يصوّرون للناس أن هذا الإسلام الذي ترونه هو أسوأ من النظام السابق بكثير! وتارة أخرى يزعمون أن هؤلاء المعممين هم أكثر دكتاتورية من الآخرين! وأن دكتاتور العمامة أسوأ من الدكتاتور الفلاني! أي دكتاتور! أنا أيضاً أعتم العمامة فأي واحد منا تقصدون؟ وعن أي دكتاتورية تتحدثون؟ الجميع يرى اليوم حجم هذا الإعلام الموجه والتشويه الخطير لعقول الناس، لأن هؤلاء قد فقدوا كل شي ء ولم يبق أمامهم إلا دس سمومهم هنا وهناك لتشويه صورة الجمهورية الإسلامية والنيل من رجالاتها) (2)
بناء على هذا، سنحاول في هذا المبحث النظر في مدى موضوعية هذه الشبهة، وبيان المدى الذي وصلت إليه قيمة الأخوة في نظام ولاية الفقيه، مقارنة بنظام الشاه، وغيره من الأنظمة، وذلك من خلال الموقف من الإثنيات العرقية والدينية والمذهبية الموجودة في إيران، بالإضافة إلى الموقف من الأخوة الخارجية مع سائر الدول الإسلامية وغيرها.
أولا ـ ولاية الفقيه والتعامل مع الاختلاف العرقي
بناء على ما تقتضيه المصادر الشرعية التي يعتمد عليها نظام [ولاية الفقيه] يذكر الدستور الإيراني، وكل المفكرين والفقهاء المؤمنين بهذا النظام أنه لا محل للاختلاف العرقي في التعامل
__________
(1) المرجع السابق، ج 10، ص: 216.
(2) المرجع السابق، ج 10، ص: 216.
إيران.. نظام وقيم (198)
مع الاثنيات الموجودة في إيران، بل إن الصراع بينهم وبين القوميين الذين كان يمثلهم الحكم البائد كان شديدا بسبب الفرق بين كلا الرؤيتين: الرؤية الدينية، والرؤية القومية.
ولذلك بمجرد أن انتصرت الثورة الإسلامية أزيلت كل الشعارات القومية، وحل بدلها شعار الإسلام، باعتباره دين الأغلبية، وباعتباره كذلك يحمي جميع الاثنيات، ولا يفرق بينها.
بل إن الخميني يدعو في خطاباته وبياناته وفتاواه الكثيرة إلى تعميم هذا التعامل مع جميع المسلمين، ويعتبر التفريق بينهم على أساس أعراقهم ولغاتهم نوعا من الجاهلية التي أجج نيرانها أعداء الأمة ليفرقوا بينها.
ومن ذلك قوله في خطاب ألقاه على جمع من المسلمين الباكستانيين قاموا بزيارته بعد انتصار الثورة الإسلامية [في 28 ذي الحجة 1400 هـ]: (منذ سنوات طويلة ونحن نسعى للمّ شمل المسلمين وتوحيد كلمتهم، لأن جميع المصائب والمشاكل التي يعانون منها، سببها التفرقة التي يعيشونها والتي أوجدتها أيدي القوى الأجنبية الطامعة بإستغلال بلاد المسلمين ونهب ثرواتهم الغنية، والساعية لإخضاعهم لسيطرتها. فقد سعى هؤلاء جاهدين لبث التفرقة بين المسلمين، وما هذا الكلام الذي تبجح به هذا الخبيث إلا تنفيذاً لما يريدون. أن يضع العرب في كفة، وجميع المسلمين الآخرين في كفّة أخرى، فقط العرب مسلمون، أمّا الباكستانيون، الإيرانيون فليسوا بمسلمين، فقط العربي هو المسلم الحقيقي! وعلى هؤلاء جميعاً- حسب بعض العبارات التي ذكرها في كلامه- أن يقبلوا بسيادة العربي عليهم، إن هذا ما يعارض الإسلام، إن هذا ما يعارض تعاليم القرآن، القرآن يجعل الميزان في الكرامة التقوى.. إن هذا ما كانت تصبو إليه القوى الكبرى، أن تفرق بين القوميات، أن تفصل العربي عن غير العربي، فتضع العربي في جانب، والفارسي في جانب آخر. حتى أنهم يريدون أن يزرعوا الفرقة بين العرب أنفسهم عبر التفريق بين طوائفهم، وكذلك الأمر بالنسبة للفرس وغيرهم من القوميات، ومحمّد رضا كان موظفاً لتنفيذ هذه المهمة في إيران، وكل من يعزف على هذه الأوتار؛ وتر
إيران.. نظام وقيم (199)
القومية والطائفية هو موظفٌ لتنفيذ مآرب الأجانب الشريرة، والتي تهدف إلى بث التفرقة بين المسلمين) (1)
واعتبر في خطابه أن كل الهزائم التي لحقت بالمسلمين سببها ذلك التمييز العنصري الذي أفلح الأعداء في استثماره وتأجيج الصراع بسببه بين المسلمين، يقول: (إن المسألة المهمة التي جعلت البلاد الاسلامية مغلوبة على أمرها وأبعدتها عن ظلال القرآن الكريم هي مسألة التمييز العرقي: فهذا من أصل تركي، ويجب أن يُصلِّي صلاته بالتركية، وهذا من أصل ايراني ويجب أن تكون حروفه الهجائية كذا، وذلك من أصل عربي، ويجب أن تحكم العروبة وليس الاسلام، ويجب أن يحكم الأصل الآري وليس الاسلام متناسين ما يرتكز عليه المسلمون جميعاً! ويؤسف على أنهم جرّدوا المسلمين من هذا المرتكز، ولا أدري الى أين سيؤول الأمر؟! لعبة القومية هذه هي التي جاء الاسلام وشطب عليها بخط أحمر، ولم يفرق بين الأسود والأبيض، وبين الترك والعجم، وبين العرب وغير العرب الا بالتقوى والخوف من الله، والتقوى بمعناها الحقيقي: التقوى السياسية والمادية والمعنوية.. ليس هناك ترك وفرس، وعرب وعجم، فالمرتكز هو الإسلام) (2)
ويبين أن من أهداف الثورة الإسلامية القضاء على التفرقة العرقية التي كان نظام الشاه يعتبرها هدفا من أهدافه، يقول: (وأما قضية التفرقة العرقية، فإنها رجعية، إن السادة يعتبروننا رجعيين في حين أنهم يريدون أن يعودوا القهقرى إلى الفين وخمس مئة عام، فهل نحن رجعيون؟! لماذا يجب أن تَغفُل البلاد الاسلامية عن هذه الأمور؟! لماذا يجب أن تواجه البلاد الاسلامية بعضها بعضاً؟ أولئك أقاموا تحالفاً ثلاثياً مقابل هؤلاء، فليشكل هؤلاء تحالفاً آخر مقابل أولئك. لمَ يتقاتلُ المسلمون؟ وما الذي دفع المسلمين ليتحاربوا؟ أليست هي أيدي
__________
(1) صحيفة الإمام: ج 1، ص 344..
(2) المرجع السابق، ج 1، ص 345..
إيران.. نظام وقيم (200)
الاستعمار؟ فارفعوا يد الاستعمار عن البلاد الاسلامية، ثم شاهدوا أي صداقة تحصل، فإنْ يحكمْ الدين الإسلامي تُحفظ جميع الثغور ولا تعتد حكومة على أخرى، لأنّ الجميع مسلمون) (1)
وللأسف، فإن هذه الطروحات الممتلئة بالصدق، والتي تمثل العقل والحكمة كما تمثل الإسلام المحمدي الأصيل وجدت من يرفضها، ويشوه شخصية قائليها، في نفس الوقت الذي يُلمع فيه أولئك القوميون الذين قامت الثورة الإسلامية لمواجهتهم.
وقد تولى القيام بهذا الدور القذر طرفان: أما أحدهما؛ فمشبع بالفكر الغربي، وبالرؤية الغربية، ولكنه مع ذلك متناقض مع نفسه؛ فهو يدعو القوميات الإيرانية لأن تنتفض على نظامها، وتؤسس كيانات هشة ضعيفة، يدب الصراع بينها كل حين، في نفس الوقت الذي يرى فيه دول العالم المتقدم تمتلئ بالإثنيات، وترى كمالها في ذلك التنوع، وترى أن المواطنة هي الأصل، لا العرق، ولا الطائفة.
أما الثاني؛ فأولئك الإسلاميون الذين قرأوا النصوص المقدسة، وقرأوا معها المواقف الشرعية المتشددة من كل دعوة للعنصرية والعرقية، لكنهم يتجاهلونها جميعا، ويطلبون من الأعراق المختلفة في إيران أن تنتفض، بل يطلبون منها أن تشكل ميليشيات لتقاوم النظام، وتحصل على استقلالها.
ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه بعضهم تحت عنوان [تركيبة الشعوب في إيران ما قبل التاريخ المعاصر] (2)، والذي تحدث فيه عن التعدد في الأعراق الإيرانية، وتوزعها على مناطقه المختلفة من أزمنة قديمة، وعلاقة ذلك بدول الجوار، وعلاقته بالاقتصاد، حيث أن بعض المناطق غنية جدا، وأخرى فقيرة جدا، بحيث لو حدث الانفصال، سيحدث انقلاب عجيب
__________
(1) المرجع السابق، ج 1، ص 345..
(2) تركيبة الشعوب في إيران ما قبل التاريخ المعاصر، د.کريم عبديان بني سعيد، موقع الأحواز.
إيران.. نظام وقيم (201)
للأعراق المختلفة، بل يحصل الصراع بينها وبين دول الجوار.
ولكن مع ذلك كله ظل مثل غيره مصرا على الدعوة للانفصال والمقاومة، لأن الغرض ليس تحقيق مصالح تلك الأعراق، وإنما الغرض انهيار النظام الإيراني، ولو على حساب تلك الشعوب.
وسنحلل هنا بعض ما قاله من معلومات، لنرى أن مجرد التأمل فيها وحدها كفيل بالرد عليه وعلى طروحات جميع القوميين ودعاة الانفصال، وذلك في النقاط التالية:
1 ـ قدم التركيبة السكانية للأعراق الموجودة في إيران
كما هو معلوم؛ فإن تاريخ التركيبة السكانية للأعراق الموجودة في إيران يسبق الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يعني أن الثورة الإسلامية لم تقم بأي تغيير ديمغرافي كالذي قامت به أمريكا عندما أبادت السكان الأصليين، وأحلت أعراقا أخرى بدلهم، وإنما تعاملت مع الوضع بحسب ما وجد عليه في فترات تاريخية قديمة ليست مسؤولة عنها.
يقول في ذلك: (يعود شكل الدولة الايرانية المعاصرة إلى أوائل القرن السادس عشر الميلادي، وتحديدا الى العام 1501، وذلك مع تأسيس الدولة الصفوية على يد الشاه إسماعيل الصفوي، وفي الحقيقة لم تكن الدولة في تلك الفترة قائمة على قومية بعينها، إنما كانت تتكون من أقاليم مختلفة ومجموعات عرقية غير متجانسة ومستقلة عن بعضها البعض وتعيش دون أي ارتباط عضوي.. بالإضافة الى الشعوب المختلفة التي كانت تعيش في هذه الواحة قبل الاسلام كانت هناك ديانات مختلفة مثل المانوية والمزدكية والميترائية والزرادشتية حيث بقت تعيش في هذه المنطقة حتى بعدالفتح الاسلامي وهزيمة الساسانين على يد المسلمين العرب في معركةالقادسية) (1)
2 ـ وحدة التركيبة السكانية وارتباطها بمصالحها
__________
(1) تركيبة الشعوب في إيران ما قبل التاريخ المعاصر، د.کريم عبديان بني سعيد، موقع الأحواز.
إيران.. نظام وقيم (202)
ذكر الكاتب المعلومات التاريخية ـ بناء على المراجع التي يعتمدها ـ والتي تدل على أن هذه الأقوام والشعوب بمكوناتها العرقية واللغوية والدينية والثقافية كانت مجموعات غير متجانسة، ولم يكن بينها في أي مرحلة أي انسجام، لا من الناحية التاريخية، ولا من الناحية السياسية إلى أن جاء دور الصفويين؛ فتوحدت هذه الشعوب تحت مظلة الدولة الصفوية.
ولست أدري أي عيب في هذا التوحد، بل المصالح فيه؛ فقوة الشعوب في وحدتها لا في تفرقها، وإن ذكر أن الدولة الصفوية كانت دولة ظالمة؛ فقد كان العثمانيون لا يقلون عنهم ظلما واستبدادا، وقد انتشروا في جميع البلاد الإسلامية، ومارسوا استبدادهم فيها، ومع ذلك نرى الإسلاميين خصوصا يثنون كثيرا على العثمانيين في نفس الوقت الذي يشنون فيه حملتهم على الصفويين، ويربطونهم بنظام ولاية الفقيه مع الفرق الشديد والواسع بين النظام الذي اعتمده الصفويون، والنظام الذي اعتمدته إيران بعد الثورة الإسلامية.
3 ـ الأوضاع المزرية للتركيبة السكانية قبل الثورة الإسلامية
وهي من القضايا المهمة جدا، والتي يحاول المغرضون التكتم عليها، وقد ذكر الكاتب بعض تلك الأوضاع التي سبقت الثورة الإسلامية بالنسبة لتلك الشعوب، وهي أوضاع مزرية جدا، وممتلئة بالعنصرية.
وكان الأصل عند ذكر مثل هذا أن يقدم الثناء للثورة الإسلامية لقضائها على تلك العنصرية، لكن نرى العكس من ذلك، حيث يُثنى على الشاه العنصري القومي في نفس الوقت الذي يسب فيه الخميني الذي يدعو إلى الأخوة بين جميع الأعراق والشعوب.
يقول الكاتب: (بدأ حكم الشاه رضا بهلوي بتنفيذ مشروع القوميين الفرس المتطرفين بتبني مشروع الدولة الأمة، وهو نسخة مشوهة لمشروع الدولة الأمة في أروبا في القرن التاسع عشر، حيث أنه خلق كيانا سياسيا جديدا وهوية جديدة لهذا الكيان، بعيدة كل البعد عن الوضع الذي كان قائما قبل إنقلابه، وكان مشروع الدولة الأمة الذي تبناه البهلوي متناقض
إيران.. نظام وقيم (203)
تماما مع المشروع الأروبي الذي شكلت الديمقراطية أساسه، حيث قام نظام الشاه على مجموعة من القرارات تضمنت تعديل بعض بنود الدستور الذي كان حصيلة الحركة الدستورية (ثورة المشروطة) وتعطيل بعضها الآخر، وانتهى أمده الى إفراغ الدستور من محتواها الأساسي وانحصرت مهمته في التصديق على القرارات التي يصدرها النظام تمهيداً لقيام دولة مركزية قوية قائمة على الاستبداد)
وذكر أن النظام الشاهنشاهي وضع نظرية التعصب القومي والثقافي الإيراني الفارسي على (فرضية تاريخية خاطئة، مفادها أن الحضارة في الأراضي الإيرانية هي من إبداعات الآريين دون سواهم، بالإضافة إلى تأكيدها على وحدة الدم والعرق. وهذه النظرية تستثني العرب والأتراك في إيران لأنهم غير آريين، في حين تعتبر الأكراد والبلوش هم من الشعب الآري)
ونقل عن أحد اهتمام الشاه بالتنظير للفكر القومي العنصري، ونقل عن أحد منظريه [محمود أفشار] حديثه عن ضرورة تبني الفكر القومي الفارسي، مقابل الفكر القومي العربي، والفكر القومي التركي، حيث كتب قائلاً: (إننا مضطرون لتبني الفكر القومي المتشدد وأن يكون لنا إيران موحدة، وإلغاء الوجود القومي للقوميات الإيرانية نهائياً)
وذكر أن وجود العرب في إقليم عربستان يشكل خطراً على إيران، واقترح على رضا شاه وحكومته حلاً يتمثل باستئصال جذور اللغة العربية من إيران وإحداث تغيرات كبرى على التقسيمات الإدارية، حتى تتغير حدود عربستان كلياً، بالإضافة إلى تهجير العرب إلى نقاط خارج عربستان وإسكانهم في مختلف المناطق الإيرانية.
وذكر أن رضا شاه كان يتعاطف مع مثل وجهات النظر هذه؛ لأنه كان متأثراً إلى حد كبير بالأفكار القومية الإيرانية التي طرحت في القرنين التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
وذكر أن ذلك كله أدى إلى معاداة لغة القوميات، وخصوصا العربية التي أهملت إهمالا شديدا، بل ظهرت الدعوات إلى كتابتها بالحروب اللاتينية مثلما حصل مع اللغة التركية.
إيران.. نظام وقيم (204)
4 ـ اهتمام النظام الإسلام في إيران باللغة العربية
أغفل الكاتب للأسف ذكر ذلك الاهتمام الكبير باللغة العربية الذي أبداه جميع قادة الثورة الإسلامية، بل نص عليه الدستور نفسه، لدرجة أن القوميين الفارسيين ـ بعد نجاح الثورة الإسلامية ـ راحوا يتهمونها بكونها ثورة على الفارسية لصالح العربية، وأنها بذلك تريد أن تستأصل المقومات الفارسية.
ومن أمثلة ذلك ما ورد في مقال بعنوان [حضارة إيران التي تتآكل وتصبح عربية: شوارع طهران تتكلم عربي] (1)، وهو مقال مهم جدا يقارن فيه كاتبه بين الوضع الذي كانت عليه العربية إبان الشاه، والوضع الذي صارت إليه بعد نجاح الثورة الإسلامية، وقد قال في مقدمته: (يعلن كثيرون بلا تحفظ أنّ إيران تسعى إلى إحياء امبراطورية فارس ونشر نفوذها على مناطق العالم العربي خصوصا، وفي هذا الإعلان المجاني سوء فهم تاريخي، بل وجهل شاسع بحقيقة الوضع في جمهورية إيران الإسلامية، فإيران الإسلامية ستذوب في العالم العربي كما ذابت عشرات الأمم فيه تحت راية القرآن والإسلام)
وبين أسباب ذلك، فقال: (في اسمها الذي تُصرّ عليه دولة إيران، فقدت إيران (وتعني الكلمة أرض الآريين) ثلثي هويتها الفارسية وتحولت إلى مجرد جمهورية إسلامية أخرى؛ فحين قامت ثورة الشعب ضد شاه إيران الذي حرص على بناء مجد بهلوي يستلهم المجد الساساني القاجاري، أراد الشعب أن يغادر النظام الملكي إلى نظام جمهوري بأيّ ثمن، وما إن ركب الإسلاميون ظهر الثورة حتى سقط الشاه، ووجد الشعب والإسلاميون أنفسهم أمام فراغ سياسي، لا بد من سده، فولدت جمهورية ارتجالية سريعة، سماها روح الله الخميني بسرعة [جمهوري إسلامي] مستعيرا المصطلح العربي لملء الفراغ اللغوي في الفارسية التي لا توجد فيها كلمة تصف النظام الجمهوري إلا الكلمة العربية، فيما لا يجادل أحد أن كلمة [إسلامية]
__________
(1) حضارة إيران التي تتآكل وتصبح عربية: شوارع طهران تتكلم عربي، ملهم الملائكة، موقع العرب، 7/ 2/ 2016..
إيران.. نظام وقيم (205)
عربية، وهكذا بات ثلثا العنوان الرسمي للدولة عربيا (جمهوري إسلامي إيران)
ثم يذكر ـ متأسفا ـ أن الأمر لم يقتصر على اسم الجمهورية الإسلامية الذي تعرب، بل وصل إلى كل المحال، يقول: (قس على ذلك، فإن اللغة الرسمية التي سارت عليها الجمهورية الفتية في مؤسساتها الثورية الوليدة نحت في الغالب إلى الفضاء اللغوي العربي لسد الثغرات في اللغة الفارسية التي لم تعرف مؤسسات ودستور دولة جمهورية إسلامية من قبل ولم تصغ لها مفردات تناسبها، اختارت الجمهورية الإسلامية لنفسها دستورا أسماه المشرعون [قانون أساسي كشور]، وهكذا فإن ثلثي الوصف للدستور [قانون أساسي] عربي وما تبقى هي كلمة [كشور])
ويذكر المدى الذي وصل إليه استعمال اللغة العربية في المحافل الرسمية؛ فقال: (لست بصدد أن أؤسس هنا لبحث لغوي متخصص يرصد كل تحولات اللغة الفارسية وذوبانها عبر أربعة عقود من عمر الجمهورية الإسلامية في اللغة العربية إلى درجة أنّ المصطلح الرسمي والسياسي الإيراني بات في خطابه الرسمي يتعامل بنحو 65 بالمئة بلغة ومصطلحات عربية، فهذا متروك لمراكز الأبحاث المتخصصة بالشأن الإيراني عبر العالم وهي كثيرة ولكنها مؤسسات غائبة في العالم العربي الذي ما فتئ ساسته يحذرون من التمدد الفارسي في الخليج وغيره!)
وبناء على هذا راح يذكر متأسفا الكثير من الأمثلة التي حولت الإيرانيين إلى اللغة العربية؛ فقال: (أريد أن أعرض بشكل سريع طيفا من التغيرات التي يتعامل بها الإيرانيون كل يوم، ومن خلالها فقدوا أغلب هوية اللغة الفارسية الجميلة الثرية بسبب حرص المؤسسة الإسلامية القائمة على السلطة على ترويج المصطلح الإسلامي والذي هو بالتأكيد مصطلح عربي ينتمي غالبا إلى القرون السادس والسابع والثامن ميلادية حيث ولدت الدولة الإسلامية وامتدت وتوسعت)
إيران.. نظام وقيم (206)
ومن الأمثلة على ذلك ما أورده في من نصوص وردت في مدخل الدستور الإيراني بين من خلالها (أفول اللغة الفارسية وتآكلها منهزمة أمام المصطلح العربي الذي يغزو مؤسسات الدولة في الجمهورية الإسلامية حاملا معه بالطبع آثارا عربية لا يدركها الإيرانيون في حماسهم المنقطع النظير لنشر الجمهورية الإسلامية كما تصورها السيد الخميني ربيب الحوزة الشيعية العراقية في النجف)
ثم أورد هذا النص: (أصل 1: حکومت إيران جمهوري إسلامي است که ملت إيران، بر اساس اعتقاد ديرينه اش به حکومت حق وعدل قرآن، در پي انقلاب إسلامي پيروزمند)، وبين المدى الذي وصل إليه استعمال اللغة العربية في أهم قانون رسمي في البلاد، مع أنه كان يمكن أن تستعمل كلمات فارسية بدل العربية.
ففي ذلك النص السابق نجد كلمات (حكومت، جمهوري، إسلامي، ملت (مله)، أساس، اعتقاد، حق، عدل، قرآني، انقلاب (وتعني بالفارسية الإسلامية ثورة) في هذا السطر ونصف السطر المكون من 21 كلمة، ظهرت 11 كلمة عربية.
وهكذا ذكر الأمثلة التي تبين أن الذي وضع الدستور كان في إمكانه أن يجد مفردات في الفارسية لكنه تركها واستعمل العربية، فكلمة [أصل 1] العربية (لو شاء المشرّع الفارسي أن يستفيد من مفردات لغتهم لاستخدم كلمة [رشته] في هذا المكان، لكنه لم يفعل.
وقد ذكر الكاتب تململ القوميين الفارسيين من ذلك التوجه العربي الذي تميل إليه إيران في عهدها الجديد؛ فقال: (التوجه لأسلمة المجتمع يثير حفيظة الفرس في إيران على وجه الخصوص، إذا يرون فيه سياسة تعريب تتبعها حكومة السادة وهم يقولون علنا في كل مكان: إذا كان الخميني، والخامنئي وخاتمي من السادة، فهم هاشميو النسب، والهاشميون عرب قريشيون لا شك فيهم، وهكذا فحكامنا هم من العرب الساعين إلى تعريب إيران الفارسية)
وهكذا يذكر الكاتب متأسفا الحملة الشديدة التي قامت بها الثورة الإسلامية على الثقافة
إيران.. نظام وقيم (207)
الفارسية؛ فيقول: (إذا تأملنا أثر سياسة الأسلمة التي انتهجتها وماتزال الجمهورية الإسلامية في إيران سنجد في المحصلة انحسارا حادا للحضارة الفارسية ولغتها وحتى مواريثها، ففي إيران الإسلامية لا يحبذ المسؤولون إحياء عيد نوروز وهو الأساس الذي تحوم حوله حضارة فارس ومن يحيط بها (طاجيكستان، أذربيجان، كردستان بأقسامها الأربعة، أفغانستان، أجزاء من باكستان وغيرها)، ويحاولون جاهدين تحوليه إلى عيد الربيع (بهار) وإضفاء ملامح إسلامية عليه تقصي رمزيته وطقوسه الزرادشتية (النار، والقفز فوق النار، إحياء رسم جهارشنبه سوري، وسفرة هفت سين التي أضاف إليها إسلاميو إيران القرآن، الاحتفال لمدة 13 يوما بموجب الطقوس الزرادشتية)
وذكر كيف غيرت الثورة الإسلامية كل العادات والتقاليد القديمة لتصبها بالصبغة العربية الإسلامية؛ فيقول: (يسعى الإسلاميون في إيران إلى نشر الاحتفال بمواليد الأئمة والمعصومين (من آل الرسول) لتحل محل أيام نوروز الثلاثة عشر، وعيد الشتاء، كما يسعون جاهدين إلى تغيير التقويم الفارسي، إلى تقويمهم الجديد الذي يسمونه (هجري شمسي)، محاولين محو كل الكلمات الفارسية التي تثبّت هذا التقويم.
ومع كل هذا نرى المغرضين، وخصوصا الإسلاميين منهم، يتهمون نظام ولاية الفقيه بالعصبية الفارسية مع كونه يتلقى العداء من القوميين من الفرس بسبب ذلك الانصهار الشديد مع اللغة العربية والإسلام، وكأنهم يريدون من إيران التي كانت في كل تاريخها تتكلم الفارسية، وتتعلم بها، أن تتحول فجأة إلى دولة عربية، وتجعل اللغة العربية لغتها الرسمية.
5 ـ اهتمام الدستور الإيراني باللغات المحلية واللغة العربية
أغفل الكاتب ـ مثل غيره ـ ذكر ما ورد في الدستور الإيراني في تعامله مع اللغات المختلفة، واحترامه لها؛ ففي المادة الخامسة عشرة: (اللغة والكتابة الرسمية والمشتركة، هي الفارسية لشعب إيران، فيجب أن تكون الوثائق والمراسلات والنصوص الرسمية والكتب
إيران.. نظام وقيم (208)
الدراسية بهذه اللغة والكتابة. ولكن يجوز استعمال اللغات المحلية والقومية الأخرى في مجال الصحافة ووسائل الإعلام العامة، وتدريس آدابها في المدارس إلى جانب اللغة الفارسية)
وهذا ما يفسر حديث الخميني والخامنئي في خطبهما ودروسهما بالفارسية مع إتقانهما الشديد للعربية؛ وهو ليس تعصبا ضد العربية كما يفهم المغرضون، وإنما هو مراعاة لقانون البلاد، الذي يراعي اللغة السائدة فيها.
وفي المادة السادسة عشرة: (بما أن لغة القرآن والعلوم والمعارف الإسلامية هي العربية، وأن الأدب الفارسي ممتزج معها بشكل كامل، لذا يجب تدريس هذه اللغة بعد المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية في جميع الصفوف والاختصاصات الدراسية)، وبذلك يجعل الدستور الإيراني اللغة العربية لغة ثانية وضرورية، وفي فترة كافية لإتقانها خصوصا مع اختلاطها الشديد بالفارسية.
وهكذا نرى في سائر المواد اهتماما شديدا بكل ما يصبغ الدولة بالصبغة الإسلامية، وهي صبغة تجمع بين جميع القوميات الموجودة في إيران، وتوحد بينها، وفي ذلك ما يرد على أولئك الخصوم الذين يريدون تمزيقها لتعيش الفوضى والصراع الداخلي والخارجي مع جميع الدول المحيطة.
6 ـ موانع الانقسام لدى التركيبة السكانية
وقد ذكرها بتفصيل، نراه كافيا للرد على هذه الشبهة، والرد على كل المغرضين، وسنذكر هنا باختصار ما ذكره عن بعض تلك الأعراق:
الأتراك الأذربايجانيين: ويذكر أنهم أكبر قومية في إيران، وأنهم يسيطرون على [البازار]، أي اقتصاد السوق، وأنهم نافذون في الجيش والحرس الثوري ومؤسسات الدولة، وهذه الامتيازات ترد على تلك الطروحات التي تصور إيران بالامبراطورية الفارسية، والعنصرية المرتبطة بها، وكيف يكون ذلك، وهو يقر بما لهذه القومية من امتيازات؟
إيران.. نظام وقيم (209)
لكنه يغفل عما ذكره، ويبين نقاط ضعف هذه القومية، والمتمثل حسب رأيه في (فقدانهم تنظيمات قومية قوية، وتشتت صفوفهم، وعدم وجود قيادة سياسية منسجمة لديهم، كما أنهم قياسا بالشعوب الإيرانية الأخرى يعيشون نوعا من الرفاه المعيشي والاقتصادي النسبي. وبما ان الكثير منهم يسيطر على اقتصاد السوق، فإن خوفهم من فقدان هذه الامتيازات تدفعهم إلى عدم التفكير او طرح مطلب الانفصال او الاستقلال أو حتى تقسيم السلطة والثروة)
وكأنه يريد من هؤلاء مع كل هذه الامتيازات أن يتمردوا، وينفصلوا ليشكلوا دولتهم الخاصة، وهو يحرضهم على ذلك، ويبين أن (النظام يحاول استمالتهم بشتى الطرق منها على سبيل المثال السماح لهم بتشكيل تكتل في مجلس الشورى (البرلمان) من قبل حوالي 100 نائبا من المناطق التركية في ايران)
وفوق كل هذا يذكر أن من الموانع التي تحول بينهم وبين الانفصال (خلافاتهم التاريخية مع الأكراد حول الحدود الادارية لاقليمي آذربيجان وكردستان، حيث يتنازع الطرفان حول بعض المناطق المختلطة بالكسان الاتراك والكراد أو بعض المدن والقرى ذات الاغلبية الكردية في حدود محافظات اقليم آذربيجان أو مناطق يقطنها الأتراك في مناطق تتبع اداريا لكردستان وتصاعد هذه الخلافات من شأنها أن تؤدي إلى حرب أهليه وبالتالي إضعاف الجبهة المعادية للنظام)
وبالتالي يمكننا أن نستبعد هذه القومية الكبيرة من كونها تهدد إيران بالتمزق والانفصال، ونستبعدها كذلك من القوميات المضطهدة حسبما يصور الإعلام المغرض.
الأكراد: وهم ـ كما يذكر ـ مع كونهم أصحاب تاريخ نضالي طويل، (بالإضافة إلى وجود انسجام تنظيمي وقيادة قوية نسبيا إلا أن الغالبية العظمى من الشعب الكردي ملتفة حول هذه الأحزاب التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد، بالإضافة إلى أن قربهم العرقي واللغوي مع الفرس جعلهم يميلون إليهم، (حيث أن معظم مثقفي الشعبين يعتبرون أنفسهم من الآريين،
إيران.. نظام وقيم (210)
ويضعون أنفسهم في مواجهة الشعوب الأخرى غير الآرية، خاصة العرب والأتراك. ومن هذه الناحية كان الفرس دائما يحاولون كسب الأكراد وبناء تحالفاتهم معهم على أساس خطاب تفوق العرق الآري على باقي شعوب المنطقة)
وبذلك أيضا يمكن استبعاد هذه التركيبة، التي لو فسح لها المجال، وانفصلت؛ فستحدث فتن كبرى في كل الدول المحيطة، والتي تحوي جميعا على العرق الكردي.
عرب الأهواز: وهم بالإضافة إلى كونهم شيعة، وهو ما يجعلهم قريبين جدا من النظام الإيراني، ومؤمنون بطروحاته، مثلهم مثل أكثر شيعة العالم، يوجد على أرضهم أكبر آبار النفط، والذي أصبح حائلا بينهم وبين المطالبة بالانفصال، لا منهم فقط، ولكن من الغرب نفسه؛ ذلك أن (الشركات النفطية الكبرى ولاعتبارات اقتصادية والحفاظ على إيران كسوق استهلاكية فضلت التعامل مع حكومات مركزية قوية بعينها بدلا من التعامل مع عدد من الدويلات، ولهذا السبب حافظت الدول الغربية وبشكل حازم على وحدة إيران وعدم تجزئتها، وقد حصل ذلك كله لاعتبارات اقتصادية بحتة. من جهة أخرى، فإن احتمال عدم الاستقرار والفوضى الأمنية بسبب الموقع الجيواستراتيجي للبلد ومن اجل الحافظ على مصالح الاقتصاد تعارض هذه الدول أي دعوة لتفكيك ايران)
اللور والبختيارية: والذين يرى الكاتب أن نقاط ضعفهم تكمن في (شراء ذمم الكثير منهم من قبل النظام الذي منحهم امتيازات مادية وسياسية باعتبارهم ينتمون إلى العراق الآري، ويستخدمهم في مخطط التغيير الديمغرافي في منطقة الاهواز حيث يقوم الجنرال محسن رضائي، أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام والقائد السابق الثوري الإيراني والذي ينتمي للبختياريين، بتهجير عدد كبير من اللور والبختياريين من مناطقهم وأسكنهم في وسط الإحياء والمدن العربية)
وهكذا يمكن أن نستبعد هذه التركيبة أيضا، باعتبارها نالت كل ما تحتاجه من امتيازات
إيران.. نظام وقيم (211)
بإقرار الكاتب نفسه، وفوق ذلك ساهمت في تلاحم الشعب الإيراني واختلاط بعضه ببعض.
البلوش: وهو يذكر أن من أهم نقاط ضعفهم تفرقهم مثل الأكراد في دول مختلفة كباكستان وأفغانستان، وانفصالهم يؤدي إلى صراع مرير مع تلك الدول، بالإضافة إلى كون العديد منهم موظفين كبارا، ورجال أعمال ومسؤولين في عدد من دول الخليج، وبذلك تنتفى حاجتهم وفقرهم واضطهادهم كما يزعم.
بالإضافة إلى انتشار الحركات السلفية والمتشددة بينهم، وهو ـ كما يذكر ـ (ما أعطى النظام الايراني الحجج لشن حرب |إعلامية واسعة وقوية ضد نضال الشعب البلوشي)
التركمان: ومن نقاط ضعفهم وعدم قدرتهم على الاستقلال ـ كما يذكر ـ قلة عددهم بالنسبة للقوميات الأخرى، بالإضافة إلى أن (أرضيهم الزراعية الخصبة تمنحهم القدرة على الاكتفاء الذاتي)، بالإضافة إلى كونهم (محاصرين بعدة محافظات فارسية بالإضافة الى فقدانهم للتجربة التنظيم السياسي السياسية)
وبهذا التفصيل الذي آثرنا أن نذكره لنثبت من خلاله أن مصلحة جميع الأعراق التي تتكون منها إيران في توحدها، بالإضافة إلى كونها جميعا تُحكم بنظام واحد، وقوانين واحدة، وليس هناك أي قوانين تميز جنسا عن جنس، أو منطقة عن منطقة.
وإن ظهر في أي منطقة من المناطق بعض مظاهر الحاجة والفقر؛ فذلك لا يعود للنظام بالدرجة الأولى، بل قد يعود لأهل المنطقة، وجدهم واجتهادهم وعملهم، كما نرى ذلك في كل مدن العالم التي تتفاوت بحسب نشاط أهلها، لا بحسب تقصير الدولة.
وقد ذكرنا سابقا ما أجاب به الخميني على من يتهمون النظام الإسلامي بالتقصير في حق الأكراد، وقوله: (لقد أشرت إلى هذه النقطة كثيراً وهي أن الأخوة في كردستان مثلًا غير مطلعين على الأوضاع في المناطق الأخرى ويظنون أن كردستان وحدها التي تعاني من الحرمان ونقص الخدمات، والشي ء نفسه بالنسبة لأهالي بختياري حيث يظنون بأنهم من أكثر المناطق
إيران.. نظام وقيم (212)
معاناة وتخلفاً، وهكذا أهالي بلوجستان يفكرون بالطريقة نفسها، لأن هؤلاء جميعاً مطلعون على الأوضاع في مناطقهم فحسب. فمن يذهب إلى كردستان سيرى بأم عينه عدم توفر أي نوع من الخدمات، فلا مستشفيات ولا طرق معبدة ولا مدارس، وبلوجستان كذلك تعاني من نفس المشاكل، وإن السبب في كل ذلك يكمن في الدعايات الإعلامية التي يمارسها البعض والتي تدفع أهالي كل منطقة للظن بأنهم وحدهم الذين يعانون وأن أهالي المناطق الأخرى ينعمون برفاهية ورخاء) (1)
ثانيا ـ ولاية الفقيه والتعامل مع الاختلاف الديني
من الاختبارات التي اختبرت بها الثورة الإسلامية من أول أيام انتصارها إلى الآن الموقف من الأقليات الدينية، ذلك أن إيران تحوي كثيرا من الأقليات الدينية مثلما تحوي الكثير من الأقليات القومية والعرقية؛ فمن الأقليات الموجودة فيها المسيحيون ـ من الأشوريين، والكلدانيين، والأرمن ـ بالإضافة لليهود والزرادشتيين، والصابئة.
وقد أشار الخميني إلى هذا الموقف عندما كان في منفاه في باريس أمام جمع من الطلبة الجامعيين والإيرانيين المقيمين في الخارج؛ فقال: (إننا كثيراً ما نُسأل كيف ستتعاملون مع الأقليات الدينية إذا ما أقيم الحكم الإسلامي؟ وإن سر تكرار هذا السؤال هو كثرة ما لقن هؤلاء بأنه إذا ما اقيم الحكم الإسلامي فسيقتلون اليهود والنصارى والزرادشتيين دون تمييز وبشكل جماعي) (2)
ثم راح يفند هذه الشبهة بقوله: (متى وقعت مثل هذه المجازر في ظل الإسلام وفي بلد إسلامي لم تكن الاقليات الدينية في حالة حرب ضده؟! بل ومتى قتل في ظله احد منها؟! فمن هذه الاقلية الدينية كانت تلك المرأة اليهودية الذمية التي سلبوها خلخالها، ولما سمع امير
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 10، ص: 215.
(2) صحيفة الإمام، ج 4، ص 303.
إيران.. نظام وقيم (213)
المؤمنين (الامام علي) بالخبر، قال: (لو أن امرؤا مسلماً مات من بعد هذا أسفاً، ما كان به ملوماً). لانه وقع في ظل حماية الإسلام، فهل هذا الإسلام ومثل هذا الحكم الإسلامي، يسي ء إلى الاقليات الدينية؟!) (1)
ثم بين مصدر هذه الإشاعات؛ فقال: (هذه كلها دعايات يروج لها الشاه وانصاره عبر أبواقهم من أجل تشويه صورة الإسلام وحكومته وعلمائه في أذهان الناس، أو على الاقل في أذهان الاجانب خارج إيران من غير المسلمين واللادينيين، والإيحاء لهم بأن علماء الإسلام يريدون إقامة حكومة رجعية، رجعية إسلامية!) (2)
وبين سبب إشاعة مثل هذه الشائعات؛ فقال: (إنهم يروجون لهذه الأقوال وهذه الشعارات في الخارج، كي يزرعوا الخوف من الحكم الإسلامي في نفوس بعض شبابنا فيقعوا - لا سمح الله - في هذا الخطأ، ويخشون إقامة الحكم الإسلامي لأنه بزعمهم سيقفل الابواب على النساء كي لا يخرجن من البيت أبداً، في حين أن نساء صدر الإسلام كن حاضرات في ميادين القتال وفي الحروب الإسلامية للقيام بمهام التمريض وغيره، وكنّ يتعرضن للقتل. من قال يجب الحجر على النساء؟ انهن حرّات كالرجال. ومن قال: ان الحكم الإسلامي يسي ء معامله الاقليات الدينية؟) (3)
ثم بين محال مخاوفهم الحقيقية، والتي يذكرون تلك الإشاعات للتستر عليها؛ فقال: (أجل، إن أحد مخاوفهم الحقيقة هو من إغلاق محال لعب القمار والبغاء والملاهي الفاسدة، فالإسلام لا يسمح ببقائها لأنها هي التي جرت شبابنا إلى هذه الحالة البائسة، وإذا كان أدعياء الثقافة والتحديث يؤيدون بقاء مراكز المفاسد هذه، فإن الحكم الإسلامي وحفاظاً على كرامة
__________
(1) المرجع السابق، ج 4، ص 303.
(2) المرجع السابق، ج 4، ص 303.
(3) المرجع السابق، ج 4، ص 303.
إيران.. نظام وقيم (214)
الشعب، يعارضها ويغلق أبوابها، ويعمل على تصحيح توجهات دور السينما اذ أنها تقوم بإفساد شبابنا وجرّهم إلى الفحشاء) (1)
ولهذا كان في لقاءاته مع ممثلي الأقليات الدينية يطمئنهم إلى أنه لا فرق بينهم في كل حقوقهم مع جميع المسلمين، ويدعوهم إلى المساهمة في خدمة بلدهم مثل إخوانهم من المسلمين، ومن ذلك ما قاله في لقاء له مع ممثلي [جمعية الزرادشت الإيرانيين] في بدايات انتصار الثورة الإسلامية، حيث قال: (أطمئن السادة من جميع الأقليات الدينية بأن الاسلام تعامل دوما مع الأقليات الدينية تعاملا إنسانيا وعادلا، وكانوا جميعا مرفهينن إنهم كسائر الأقليات جزء من شعبنا، ونحن وإياهم نعيش معا في هذه البلاد وسوف يتحقق الرفاه لنا جميعا ان شاء الله) (2)
وذكر الدعايات الإعلامية التي تحرض هذه الأقليات، وتحاول أن تشوه صورة الإسلام، وصورة الحكم الإسلامي؛ فقال: (الدعايات الإعلامية كثيرة، وهي ترتبط بأمور مختلفة، وقد رددناها في أحاديثنا، لكنهم يواصلون إثارتها في الصحف الحكومية المنتشرة داخل إيران أو المنتشرة هنا، أو في أماكن أخرى، ومن هذه الدعايات التي يروجونها في إعلامهم هي المتعلقة بالأقليات الدينية إذ يقولون: إن الحكومة الإسلامية- إذا أقيمت- ستفعل كذا وكذا باليهود والنصارى والزرادشت، وسترتكب المذابح الجماعية لهم وأمثال ذلك، وهذا ادعاء خاطئ جداً، فإذا أقيم الحكم الإسلامي- إن شاء الله- واستقرت حكومة عادلة- بمشيئة الله- سندعو حتى اليهود الإيرانيين المخدوعين الذين خرجوا من إيران، وذهبوا إلى اسرائيل بدافع من أوهام خدعوهم بها فوقعوا بأيدي اليهود والإسرائيليين القادمين من أميركا وغيرها فأنزلوا بهم الأذى وهم الآن في ضيق وعسر شديد، سندعوهم للعودة إلى وطنهم إيران، وستعاملهم الحكومة الإسلامية بأفصل صورة، لأن الإسلام لا يريد العسر لأحد من بني الإنسان،
__________
(1) المرجع السابق، ج 4، ص 304.
(2) المرجع السابق، ج 6، ص: 155.
إيران.. نظام وقيم (215)
وأحكامه تحترم جميع الفئآت، وبالطبع ثمة حالات استثنائية فيه ترتبط بمثيري الفتن والمخربين الذين لا يوجد من يقر التسامح في التعامل معهم، أما أمثال اليهود وسائر أهل الكتاب من النصارى والمجوس فهم من أهل الذمة الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية برفاهية واحترام، فما يقال من إقامة الحكم الإسلامي تعني تعريضهم للأخطار دعايات إعلامية تحريفية، والهدف حفظ الملك وضرب هذه النهضة) (1)
وبناء على هذا الموقف المستمد من الشريعة الإسلامية نص دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مواد كثيرة على كافة الحقوق التي تتعلق بهذه الأقليات، ومنها ما ورد في المادة الثالثة والعشرون، والتي تنص على أنه (يمنع محاسبة الناس على عقائدهم، ولا يجوز التعرض لأحد أو مؤاخذته لمجرد اعتناقه عقيدة معينة)
وتنص المادة الرابعة والعشرون على أن (الصحافة والمطبوعات حرة في بيان المواضيع ما لم تخل بالقواعد الإسلامية والحقوق العامة)
وتنص المادة السادسة والعشرون على أن (الأحزاب، والجمعيات، والهيئات السياسيّة، والاتحادات المهنية، والهيئات الإسلامية، والأقليات الدينية المعترف بها، تتمتع بالحرية بشرط ألا تناقض أسس الاستقلال، والحرية، والوحدة الوطنية، والقيم الإسلامية، وأساس الجمهورية الإسلامية، كما أنه لا يمكن منع أي شخص من الاشتراك فيها، أو إجباره على الاشتراك في أحدها)
وتنص المادة المادة الرابعة والستون على الحقوق السياسية لهذه الأقليات الدينية، وهي تتناسب مع أعدادهم، حيث ذكرت أن (عدد نواب مجلس الشورى الإسلامي هو مئتان وسبعون نائباً وابتداءً من تاريخ الاستفتاء العام سنة 1368 هجرية شمسية (1989 ميلادية) وبعد كل عشر سنوات مع ملاحظة العوامل الإنسانية والسياسيّة والجغرافية وأمثالها يمكن
__________
(1) المرجع السابق، ج 5، ص: 180.
إيران.. نظام وقيم (216)
إضافة عشرين نائباً كحد أعلى، وينتخب الزرادشت واليهود كل على حدة نائباً واحداً، وينتخب المسيحيون الآشوريون والكلدانيون معاً نائباً واحداً، وينتخب المسيحيون الأرمن في الجنوب والشمال كل على حدة نائباً واحداً)
انطلاقا من هذا سنذكر هنا باختصار الديانات الثلاث الكبرى التي تتكون منها الأقليات الدينية في إيران، وبيان واقعها الحقيقي الذي يحاول الإعلام المغرض تشويهه، وهي المسيحية، واليهودية، والزرادشتية.
وقبل ذلك ننقل هذا النص من مقال يبين الواقع الحقيقي لتلك الأقليات، وهو من مصدر موثوق ومعايش، لا كأولئك الذين يهرفون بما لا يعرفون، ولا ينقلون إلا ما تمليه عليهم أهواؤهم، وهو بعنوان [ما لا تعرفونه عن الحريات الدينية في إيران؟!] (1)؛ فقد جاء فيه: (تمييع وتضييع الوجه الحقيقي لإيران، بات الشغل الشاغل للماكينات الإعلامية الغربية والعربية، ففي غياهب التسلح النووي والأقليات وغيرها من مفردات وجوقات إعلامية ما أنزل الله بها من سلطان، يخيَّل للبعض أن إيران بما فيها وكل ما فيها ليست سوى صورة طبق الأصل، لكن خيال الإعلام وفبركاته يجافيا الواقع، واقع أثبتت فيه إيران على مدى الأربعين عاما منذ انتصار الثورة الاسلامية أن صورتها النقية ساطعة، وشمس حضارتها لا تحجبها غيوم حملات عابرة غايتها تشويه الصورة واختزالها، بهدف إخفاء التنوع الثقافي والحضاري في هذا البلد، والذي تجلى ويتجلى بالقيم والمثل العليا التي تنتهجها القيادة الإيرانية الحكيمة، سواء من خلال التعايش الاسلامي المسيحي النموذجي في زمن التكفير والاقصاء، أو حرية ممارسة الأقليات لشعائرها الدينية، أو من خلال عاصمتها طهران التي كانت وما تزال ملتقى الحوارات بين الأديان والمذاهب، أو لجهة دعم المستضعفين في العالم ضد الجور والظلم والمستمد من مبادئ الثورة التي حاربت ظلم الشاه ومن خلفه قوى الاستعمار والاستكبار، والمتجسد اليوم
__________
(1) ما لا تعرفونه عن الحريات الدينية في ايران؟!، علي عوباني، موقع العهد، 10/ 02/2016.
إيران.. نظام وقيم (217)
بمساندة إيران للمقاومة في لبنان وفلسطين ضد العدوان والاحتلال الصهيوني، او مساندة دول المنطقة ضد الإرهاب التكفيري) (1)
ثم ذكر موقف النظام الإيراني بمؤسساته المختلفة من الحريات الدينية، والأديان؛ فقال: (احترام المذاهب والديانات الأخرى ومعتقدات الأقليات في إيران من المقدسات والمسلمات الوطنية، التي لا غبار عليها، واندماج اتباع هذه الديانات في المجتمع الإيراني كامل لناحية ممارسة كافة حرياتهم وحقوقهم المدنية والسياسية بلا تمييز أو انتقاص يجعلهم موضع غبن أو تخوّف على وجودهم كما هو الحال في دول أخرى، وضمان هذه الحريات والحقوق، والحفاظ على خصوصيات الأقليات، ليس بالامر المستحدث في إيران، ولا هو منّة من أحد، ولا هم أهل ذمة في هذا البلد، بل هو مكرّس دستوريا وبشكل عصري وصريح، في طيات نصوص الدستور الإيراني ما بعد الثورة، ولا يزال مطبقا حتى اليوم، بما يحويه من مواد خصصت للحديث عن الحريات، تتماثل الى حد بعيد مع دساتير الدول الغربية وشرع حقوق الانسان الدولية) (2)
ثم ساق بعض النصوص في الدستور الإيراني، والمتضمنة لحرية المعتقد، وعلق عليها بقوله: (ميزة هذه الحريات الدينية المنصوص عنها في الدستور الإيراني انها تضمن التنوع والحفاظ على مكونات المجتمع الإيراني، الذي بينت آخر احصائية سكانية رسمية إيرانية صادرة عن مركز الاحصاءات الإيراني عام 2011، أنه يتكون على الأساس الديني كالتالي: المسلمون:74682938، المسيحيون:117704، الزرادشتيون:25271، اليهود:8756، بقية الاديان مثل الصائبة 49101، وهذا التنوع في التركيبة الديموغرافية يعتبر مصدر غنى لإيران، على أكثر من صعيد، لا سيما في ظل اندماج الأقليات الدينية الكامل في المجتمع الإيراني
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (218)
ومؤسسات الدولة، ما دفع كثيرين ممن زارو إيران للذهول حيال هذا التعايش والتكامل في النسيج الاجتماعي داخل إيران، وللتنويه بهذه الميزة الإيرانية المتمثلة بالحفاظ على التركيبة الدينية المتنوعة للمجتمع، باعتبارها نقطة قوة لصالح النظام الاسلامي في إيران، لا نظير لها في دول عربية وخليجية مجاورة) (1)
1 ـ الأقلية المسيحية في إيران ومظاهر التعامل المتسامح معها
تتشكل التركيبة المسيحية في إيران، من عدة طوائف، ولكل منها حريته الكاملة في أداء طقوسه وشعائره، بالإضافة إلى حقوقه المادية والمعنوية، وحتى السياسية.
ومنها [طائفة الأرمن] الذين يتوزعون جغرافيا على ثلاث مناطق هي أصفهان وأذربيجان وطهران، ومن مظاهر التسامح معهم، واعتبارهم مثل سائر المواطنين الإيرانيين كما يذكر صاحب المقال السابق أن (لديهم حزبا سياسي (الطاشناق)، ويمثلهم عضوان في مجلس الشورى الإسلامي الإيراني، وهم يعملون بشكل أساسي في الصناعة والتجارة، من بينهم تجار أغنياء. ويمارس الأرمن طقوسهم وتقاليدهم الدينية بحرية، ومرجعيتهم هي المطرانية في إيران، ولديهم عشرات الكنائس، معظمها مسجل في فهرس الآثار الإيراني الوطني، ولهم مدارسهم (50 مدرسة ليس للمسلمين الحق بدخولها، أما الطلبة الأرمن فلا مانع من تسجيلهم في مدارس المسلمين)، التي يدرس فيها تاريخ أرمينيا ولغتها، ولهم عطلاتهم الرسمية، ويمنحون أيام الآحاد إذنا خاصا لثلاث ساعات لحضور القداس، كما لهم نواديهم الرياضية، وجمعياتهم ومراكزهم الثقافية (19 جمعية) (2)
ومنها [طائفة الأشوريين]، والتي تتواجد في طهران وأرومية غرب إيران، وهي ـ كما يذكر صاحب المقال السابق ـ (مركز الثقل للديانة المسيحية، ولديهم عدد من الكنائس (حوالي
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (219)
59 كنيسة في مدينة أروميا فقط، و6 في طهران)، ويمارسون نشاطهم السياسي في البلاد، ولهم ممثل خاص بهم في مجلس الشورى الإسلامي، فضلا عن مراكز ثقافية واجتماعية (20) وجمعيات (12) واتحادات مثل اتحاد الطلبة الجامعيين الآشوريين واتحاد الشبيبة الآشورية، ومدارس أهمها مدرسة مريم للبنات، ومدرسة بهنام للبنين) (1)
ومنها [طائفة الكلدان]، وتتواجد في أورميا وسلماس وطهران، و(لديهم 8 كهنة، اثنان من أصل إيراني و3 أتوا من العراق، و2 من فرنسا وواحد ينتمي إلى كنيسة سيرو مالنكار في الهند) (2)
ومنها [طائفة الكاثوليك]، و(لديهم عدد من الكنائس تتوزع بحسب تنوعهم (ثمان كنائس للارمن الكاثوليك، ثمان كنائس للاشوريين الكلدانيين، 9 كنائس للكاثوليك اللاتين)، كما لديهم جمعيات خاصة، وهم يديرون عددا من المدارس من بينها ثلاث مدارس تعلم فيها التعاليم الكاثوليكية) (3)
ومنها [طائفة الإنجيليين]، و(لها سبع كنائس إنجيلية في مقاطعة رزايه وحولها، في شمال غربي إيران) (4)
ومنها [طائفة الأرثوذكس]، و(يوجد في إيران كنيستان ارثوذكسيتان، الكنيسة الارثوذكسية الروسية، والارثوذكسية اليونانية، والكنيستان يعود تاريخهما الى بداية هجرة الروس واليونانيين الى إيران، ولا تزال الكنيستان قائمتين تمارسان نشاطاتهما الدينية حتى اليوم) (5)
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (220)
والمسيحيون ـ كما تذكر المصادر الموثوقة ـ يعيشون مثل غيرهم من المسلمين، وبنفس الحقوق، ولهم فوق ذلك بين الإيرانين (مكانتهم الخاصة وحضورهم يتجلى في شتى الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والقيادة الإيرانية سعت جاهدة على مدى سنوات طوال للحفاظ على هذا التواجد وصيانته، وإلى إشراكهم في السلطة والقرار، وهم قدموا بالمقابل للوطن الكثير وقدموا شهداء في الحرب المفروضة على إيران، في أنموذج راق يحتذى لقتال المسلم والمسيحي جنبًا الى جنب دفاعًا عن العرض والوطن، ولم تكن زيارة الامام الخامنئي الاخيرة (والتي سبقها زيارات مماثلة) في عيد الميلاد الذي مضى لعائلة شهيد مسيحي سوى أنموذج جلي لمدى الاحترام الذي تكنه القيادة الإيرانية للمسيحيين ليس في إيران فحسب بل في العالم كله، ولعل ذلك ما جعل الرئيس الإيراني حسن روحاني يضع زيارة الفاتيكان ولقاء البابا على رأس اولويات زيارته الاوروبية مؤخرًا) (1)
ومن يتابع القنوات الفضائية المعتدلة وغير المغرضة يسمع ويرى الكثير من المشاهد الدالة على ذلك التسامح، يقول صاحب المقال السابق: (مظاهر الحرية الدينية، تبرز على لسان زائري طهران، ومنهم رجال دين مسلمون ومسيحيون وإعلاميون، فيتحدثون عن نموذج التكامل والتآلف الديني في إيران، وكيف أنهم شاهدوا بأم العين في عيد الميلاد إيرانيين مسلمين يشاركون إخوتهم المسيحيين الاحتفال في مناسباتهم الدينية، ويتصورون قرب شجرة الميلاد، كما يتحدثون بوقار عن عشرات الكنائس في هذا البلد (24 كنيسة جنوب إيران وحدها منها كنيسة فانك في منطقة جلفا بمدينة أصفهان والتي تعتبر من أجمل الكنائس في إيران)، وكذلك عن تمثيل المسيحيين في البرلمان الإيراني بعدد من النواب، ومشاركة أبناء هذه الأقليات الدينية في ادارات الدولة ووظائفها بفعالية تامة) (2)
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (221)
ولم تكتف القوانين الإيرانية بإتاحة حرية الاعتقاد والتعبد وبناء الكنائس فقط؛ بل أتاحت فوق ذلك (للمسيحيين الإيرانيين أن يكون لهم أحوال شخصية خاصة بهم، من هنا فإن القرار الفعلي في أمور الزواج والطلاق والإرث هو بيد الكنيسة المسيحية باختلاف طوائفها، كما أنهم يملكون محاكم دينية تهتم بأمورهم) (1)
ولتأكيد هذه المعلومات أنقل هنا تصريحات وشهادات لبعض الشخصيات الرسمية عن واقع المسيحيين في إيران، والحريات المتاح لهم.
وأبدؤها بالسفير الإيراني في لبنان [غضنفر ركن أبادي]، والذي صرح لجريدة النهار اللبنانية عن مدى التسامح الذي يلقاه المسيحيون في إيران، والرؤية العقدية والفقهية التي ينطلق منها؛ فقال: (لقد تبلورت الثورة الاسلامية الإيرانية على أسس إنسانية وأخلاقية، وإسلامية النظام تقتضي أن تقف الجمهورية الاسلامية الإيرانية إلى جانب الإنسان بما هو إنسان، وأن تنظر إلى الجميع نظرة واحدة. فاحترام الإنسان، بصرف النظر عن دينه وطائفته وقوميته، يشكل أصلا أساسيا في السياسة الخارجية للجمهورية الاسلامية الإيرانية، وهذا الاصل لا ينحصر داخل إيران، بل ان الجمهورية الاسلامية الإيرانية تعتمده كأصل عالمي، وعليه فان نظرة الجمهورية الاسلامية الإيرانية إلى البشر من أي دين وطائفة، هي نظرة متعادلة، وتتمايز هذه النظرة عندما يطرح بحث الحق والباطل والظالم والمظلوم والمعتدي والمعتدى عليه، في مثل هذه الحال فان الجمهورية تقوم بواجبها طبق الاصول الإنسانية والاخلاقية والاسلامية المذكورة، وتعتبر أن من واجبها ان تقف الى جانب الحق والمظلوم والمعتدى عليه، وفي مواجهة الباطل والظالم والمعتدي) (2)
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المسيحيون في إيران مكوّن أساسي للمجتمع، غضنفر ركن أبادي (السفير الإيراني في لبنان)، المصدر: النهار، موقع الجمل بما حمل..
إيران.. نظام وقيم (222)
وبعد ذكره للرؤية العقدية التي تنطلق منها الجمهورية الإسلامية في نظرتها للآخر راح يذكر الواقع المسيحي في إيران، والحريات التي يتمتع بها، فقال: (يوجد في الجمهورية الاسلامية الإيرانية حوالى ثلاث مئة الف مواطن مسيحي، تشمل الآشوريين والكلدانيين والارمن والكاثوليك والبروتستانت والانجيليين، وأكثرية مسيحيي إيران هم من الأرمن، والمسيحيون في الجمهورية الاسلامية الإيرانية، رغم انهم يعتبرون أقلية، لكنهم في الحقيقة مكون أساسي في نسيج المجتمع الإيراني، ويتمتعون بالحرية الكاملة والحقوق السياسية والاجتماعية. ففي مجال الشؤون الاجتماعية يدير المسيحيون جميع شؤونهم المتعلقة بالزواج والطلاق والوصية وتقسيم الارث طبق الاحوال الشخصية المسيحية.. وفي مجال التعليم والثقافة توجد في إيران أكثر من 50 مدرسة خاصة مسيحية، ومن جملة النشاطات التي يمارسها المسيحيون في إيران: نشر الصحف والمجلات المتعددة مثل: ارارات، اراكس وغيرها، اضافة الى طباعة الانجيل باللغة الفارسية وغيرها. كما يوجد اكثر من 50 مركزا ثقافيا مسيحيا في طهران وحدها. اضافة الى وجود مجتمعات ثقافية ورياضية باسم ارارات ومراكز عدة لرعاية كبار السن والايتام الخاصة بالمسيحيين، ويتمتع مسيحيو إيران بحرية اقامة المراسم الدينية والعبادية في شكل كامل. وللمسيحيين في طهران وباقي المدن الإيرانية كنائس. وإحدى اقدم كنائس العالم موجودة في محافظة آذربايجان الغربية في إيران، واسمها كنيسة قره، ويعتقد ان هذه الكنيسة هي مزار تاديوس أحد تلامذة السيد المسيح وحوارييه، وقد بنيت في القرن السابع الميلادي، وسجلت هذه الكنيسة العام 2008 في منظمة الاونيسكو كتراث ديني عالمي) (1)
وبالإضافة إلى هذا الواقع يرد على ما يروجه الإعلام المغرض من تجاهل الحقوق السياسية والاجتماعية؛ فيقول: (في المجال السياسي أيضا للمسيحيين دور فعال، ففي مجلس الشورى الاسلامي (البرلمان) للمسيحيين ثلاثة نواب، للآشوريين والكلدانيين نائب،
__________
(1) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (223)
وللارمن نائبان، ودستور الجمهورية الاسلامية الإيرانية لحظ موضوع تزايد عدد السكان ومنهم المجتمع المسيحي في إيران، لذلك ورد في المادة 64 من الدستور زيادة عدد نواب المسيحيين في المجلس أيضا، تقول المادة 64 من الدستور: (للآشوريين والكلدانيين نائب في المجلس، ولأرمن الشمال والجنوب سويا نائبان، وعند زيادة تعداد أية أقلية مسيحية يضاف لنوابها نائب واحد في المجلس كل عشر سنوات وعن كل 150 الف نسمة)، ولمسيحيي إيران نشاطات واسعة في المجالين الاجتماعي والسياسي، وكان لهم دور اساسي في انتصار الثورة الاسلامية الإيرانية أيضا، الى جانب المسلمين في اسقاط نظام الشاه الملكي الاستبدادي، كما كان للمسيحيين حضور فاعل في ثماني سنوات من الحرب العراقية المفروضة على إيران، وقدموا للثورة الاسلامية الإيرانية أكثر من مئة شهيد خلال هذه الحرب) (1)
ويقارن بين الحرية السياسية للمسيحيين في إيران مقارنة بالحرية السياسية المعطاة للمسلين في الدول الغربية؛ فيقول: (98 في المئة من سكان الجمهورية الاسلامية الإيرانية هم من المسلمين، ورغم أن المسيحيين اقل من 2 في المئة إلا أن حصتهم في البرلمان أكثر بكثير، في حين أن الدول الغربية ورغم وجود 20 – 30 في المئة من عدد السكان من المسلمين في بعض تلك الدول، إلا أنهم لم يمنحوا المسلمين أي نائب في المجلس) (2)
هذه الشهادة أو التصريح الأول، والذي يعبر عن الموقف الرسمي الإيراني، ويصور الواقع بدقة، ويؤكده شهادات الكثير من رجال الدين المسيحيين الذين أجمعوا على أن الحقوق التي أعطاها النظام الإيراني للمسيحيين لا يوجد مثلها في أي دولة إسلامية أخرى.
ومنهم أمين عام الاتحاد العالمي للأشوريين [يوناتن بت كليا]، والذي صرح أثناء مراسم أقيمت بمناسبة ذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام في أروميه بشمال غرب إيران
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (224)
بقوله: (إن المسيحيين في إيران لايحتاجون إلى الوصي وشفقة دعاة حقوق الإنسان الكاذبين) (1)
وأشاد بمواقف قادة الثورة الإسلامية تجاه المسيحيين؛ وقال: (إن لدينا قائدا يتفقد منزل شهيد مسيحي.. فأي زعيم في العالم يقوم بمثل هذا الإجراء؟)، ونوه بأن (مفجر الثورة الاسلامية الامام الخميني أكد بعد انتصار الثورة الاسلامية بأن الشعب الإيراني، شعب موحد وكلامه هذا يدل على اننا نعيش في بلد لا يمكن لأحد أن يفصلنا عنه، ونحن إيرانيون بكل ما في الكلمة من معني) (2)
وأشار الى وقوف المسؤولين ومراجع الدين في إيران إلى جانب المسيحيين الإيرانيين وتقديم التهاني لهم بمناسبة ذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وقال: (ليت دعاة حقوق الإنسان يدركون هذه الحقائق)، كما أشار إلى مشاركة المسيحيين في فترة الدفاع المقدس، وقال: (إن عددا منهم استشهدوا في تلك الحرب مؤكدا أن المسيحيين شاركوا في الدفاع عن أرضهم)
ومثله يذكر المطران سيبوه مدى التسامح الذي يعيشه المسيحيون؛ فيقول: (عند التطرق إلى موضوع حرية الأقليات الدينية في إيران أو في أي بلد آخر ينبغي أن نميز بين مفهومين لحرية الأديان كي لا نقع في الخطأ: الأول: هي حرية العبادة؛ وفي سياق حديثنا عن حرية العبادة نحن الأقليات الدينية في إيران لدينا أكثر من حرية في التعبير عن عقائدنا الدينية وممارسة طقوسنا المقدسة، ومن هذا المنطلق أقول إن للأقليات حرية تامة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، أما المفهوم الثاني: يخص حرية التبشير بالنسبة للديانات التي تعتبر أقلية في هذا البلد والتي يخضع فيها المسيحيون إلى جانب أتباع الديانات السماوية الأخرى، للدستور الإيراني وما ينصه القانون المعتمد في البلاد وهو أمر محترم لدينا) (3)
__________
(1) أمين عام الاتحاد العالمي للاشوريين: المسيحيون في إيران لا يحتاجون إلى شفقة دعاة حقوق الإنسان، قناة العالم نقلا عن وكالة إرنا، الثلاثاء 26 ديسمبر 2017.
(2) المرجع السابق.
(3) المسيحيون في إيران، موقع السكينة، 6 أبريل، 2012..
إيران.. نظام وقيم (225)
ومثله يشهد زعيم طائفة الأرمن الأرثوذوكس في لبنان [آرام الأول كشيشيان] بعد اطلاعه على أحوال الأرمن في إيران، قائلاً: (إن المسيحيين لا يحظون بالحرية والاحترام في منطقة الشرق الأوسط مثلما يحظون بهما في إيران) (1)
ومثله يشهد صاحب كتاب (المسيحية في إيران) [سركيس أبو زيد] قائلا: (مع بداية الثورة الإسلامية خاف الكثيرون، ودفع البعض ثمن علاقاتهم بالشاه، لكن الآن الوضع مستتب، ويوجد ما يقارب المئة وخمسين ألف مسيحي يعيشون في إيران، ليس هناك من اضطهاد ولا إلغاء، للمسيحيين كنائس ومؤسسات وأندية ومدارس وجرائد ومجلات وجمعيات خيرية، يعلمون لغاتهم، لهم احترامهم المكرس في الدستور، ولديهم ثلاثة نواب، اثنان أرمن وواحد آشوري، ينضوون في الجيش، ولديهم قانون أحوال شخصية خاص بهم، زواج، طلاق وإرث، ويوجد في إيران أكثر من 50 مدرسة خاصة مسيحية، وأكثر من 50 مركزا ثقافيا مسيحيا في طهران وحدها، ويحق لهم طباعة الإنجيل باللغة الفارسية وغيرها) (2)
ومثله [روبيرت بيغلاريان]، وهو نائب إيراني أرمني، والذي سئل في برنامج حواري في قناة الميادين عن مدى اندماج المسيحيين في المجتمع الإيراني، ومع الناس، فقال: (أعتقد أن عملية اندماج المسيحيين في المجتمع الإيراني قد مرّت تاريخياً بمراحل متعددة وظروف متفاوتة ولكنها كانت إيجابية وجيدة بشكل عام. ونرى أن المجتمع المسيحي، في الوقت الذي استطاع أن يحافظ فيه على هويته الثقافية واللغوية والأدبية وكذلك الدينية، نجح في إقامة علاقات اجتماعية واقتصادية مؤثرة مع المجتمع. مثلاً، عندما يطرح عليّ هذا السؤال أجيب بأننا نرى أدواراً للأرمن في كافة المجالات ومنها قيامهم بأدوار مهمة على الساحة السياسية خصوصاً منذ الثورة الدستورية وحتى الآن، وهذا يدل على أن الأرمن لم يتجاهلوا مصير وطنهم، بل
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (226)
رأوا أن هذا الوطن يشكّل جزأً من هويتهم. فلو كانوا غير مبالين لما وجدناهم في مختلف المجالات ومنها السياسية أو أن نشاطهم كان ليقتصر على الحد الأدنى، في حين أننا نجدهم حاضرين في الرياضة والفنون وفي العلوم وفي مختلف المجالات الثقافية منها السينما والهندسة المعمارية، وهذا يدل على أنهم أوجدوا رابطاً مع المجتمع) (1)
وعن سؤال حول مدى حرية المسيحيين في إيران لأداء طقوسهم الدينية وشعائرهم وأعيادهم، أجاب النائب المسيحي بقوله: (بالنسبة إلى ممارسة الحريات الدينية فإنه، وفي ما يتعلق بالشعائر الدينية والتقاليد الدينية والأنشطة المقامة داخل الكنيسة أو بشكل فردي، لا يوجد محظورات من أي نوع، بطبيعة الحال، ونظراً للأصول الشرعية والقانونية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإن التبشير بالمسيحيّة ممنوع، ولكن أن يجري التعامل بسلبية مع أي من الآثار المسيحية، فلا وجود لشيء من هذا القبيل. وعلى سبيل المثال، لدينا كنائس في (أذربيجان) صنّفتها الأونسكو ضمن التراث العالمي وذلك بجهد ومساعدة النظام الحالي. وهذا النظام يعمل على حفظها وصيانتها كما الآثار الأخرى. وبالتالي، نحن نتمتع بحرّية تامة لإقامة الشعائر الدينية داخل الكنيسة وخارجها، أي داخل البيئة المسيحية)
وعن سؤال حول ما ورد في القوانين الإيرانية من إجبار النساء على ارتداء الحجاب، وعن شرب النبيذ المحرم على المسلمين، أجاب النائب المسيحي بقوله: (لا توجد موانع فيما يخص إقامة الشعائر الدينية أو الاحتفالات داخل الكنيسة أو حتى في الصالات الخاصة بنا، نعم هناك حساسية تجاه الكحول بشكل عام، لكنه أمر غير مرتبط بالشعائر بحد ذاتها، أما بالنسبة للحجاب الذي ذكرته، فإذا اعتبرناه شكلاً من أشكال القيود فإن نظرة المجتمع إليه كالتالي: المجتمع يعرّفه ضمن القوانين العامة للبلاد، وليس تضييقاً على الحرّيات الدينية أو منعاً
__________
(1) المسيحيون في إيران اندماج أم اضطهاد، قناة الميادين، حصة استضافت فيها زينب الصفار، روبيرت بيغلاريان - نائب إيراني (أرمني)، بتاريخ: 09 حزيران 2013..
إيران.. نظام وقيم (227)
لممارسة الشعائر كما أنه يجاري تقاليدنا أيضاً؛ فالمرأة أو الفتاة المسيحيّة عندما تريد دخول الكنيسة يجب أن تضع منديلاً على رأسها، وهذا من ضمن التقاليد التي ورثناها، ولا يمكن القول إنه أمر حديث جرى بعد انتصار الثورة. هذه هي الخصائص العامة) (1)
وعن سؤال حول الدور الذي يقوم به النائب المسيحي، وهل هو مرتبط بالمسيحيين فقط، أم لا أجاب بقوله: (بناء على المادة 86 من الدستور الإيراني، يعتبر النائب المنتخب نائباً عن كل الشعب وبالتالي، ورغم أننا نتخب من قبل المسيحيين وضمن صناديق اقتراع منفصلة إلاّ أننا عندما ندخل البرلمان ونؤدي القسم، نعتبر نواباً عن كل الشعب الإيراني، كما أن لدينا مراجعات من أناس مسلمين يراجعون مكاتبنا لحل مشكلاتهم، وفي داخل المجلس أيضا، ً على صعيد التشريع والرقابة والمشاركة في اللجان، فإننا نبحث في مسائل البلد والقضايا العامة ككل وليس في القضايا المرتبطة بالشريحة المسيحية وحسب) (2)
وعن سؤال حول ما يتداول في بعض وسائل الإعلام من عمليات اضطهاد واعتقال لبعض الأشخاص وزجّهم في السجون وعن العقاب والتعذيب أجاب بقوله: (أنا أرفض مثل هذه الإتهامات التي توجه إلى الحكومة أو النظام.. وطبعاً بما أنني إنسان مسيحي مؤمن بحريّة المعتقد وحقوق الإنسان، أدين أي نوع من أنواع السلوك السيئ مع الناس، هذا رأيي الشخصي، لكن أن نقول أن المسيحي في إيران مضيق عليه لمجرد مسيحيته، فهذه تهمة أرفضها سوى ما كررته حول النشاط التبشيري وشددت عليه) (3)
هذه بعض الشهادات الدالة على مدى التسامح الذي يعيشه المسيحيون بطوائفهم المختلفة في إيران، تحت ظل ولاية الفقيه، وهناك الكثير من الوثائق المصورة التي تثبت ذلك.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (228)
وهي كلها تدل على المدى الذي يتعامل به فقهاء المسلمين مع المسيحيين، وكان الأجدر بوسائل الإعلام أن تعتبر هذا التسامح هو المقياس الذي يتعامل به الإسلام مع الأديان المختلفة، لكنها للأسف راحت تعتبر ما تقوم به الحركات المسلحة كداعش والقاعدة وغيرها هي المقياس، وتقوم بتعتيم كبير على التسامح في إيران، لتسيء بذلك إلى الإسلام.
2 ـ الأقلية اليهودية في إيران ومظاهر التعامل المتسامح معها
كما هو معلوم؛ فإن الأقلية اليهودية في إيران تعتبر من أقدم الأقليات في العالم؛ فهي موجودة فيها ـ كما تذكر المصادر التاريخية ـ قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، حيث وصلوا إليها بعد استيلاء الملك بخت نصر على القدس، وقيامه بسبي الآلاف من اليهود ونقلهم إلى بلاد ما بين النهرين، ومن بابل إلى إيران.
وخلال فترة إقامة اليهود في بابل، قدمت هذه الجماعات المساعدة للفرس الذين احتلوا العراق في ذاك الوقت، ونقلوا لهم المعلومات المهمة عن الجيش والتحصينات، لتسقط المدينة عام 539 قبل الميلاد، ومقابل مساعدتهم للفرس سمح لهم الملك كورش مؤسس الإمبراطورية الفارسية، بالمغادرة إلى أي مكان يريدونه، وجزء كبير منهم فضل البقاء في إيران.
ولذلك يعتبر اليهود إيران [أرض كورش] الذي حررهم، وهم يعتزون بهذه الحادثة، (التي تعبر عن البقاء ونجاة اليهود من الموت في زمن الإمبراطورية الفارسية، وغالبًا ما تسرد هذه الحكاية خلال احتفالاتهم تقديسًا لهذا الملك الذي جعل بعض اليهود يرتبطون بإيران أكثر من ارتباطهم بإسرائيل) (1)
وبما أنه كان لليهود علاقة طيبة بالشاه، بحكم علاقته مع أمريكا والكيان الصهيوني، وإقامته سفارة لها في طهران، فقد كان ذلك مثار رعب للجالية اليهودية، والتي تصورت أن
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: كيف يعيش يهود إيران في ظل حكم الجمهورية الإسلامية؟، نور علوان، موقع نون بوست، 26 أغسطس 2017..
إيران.. نظام وقيم (229)
الثورة الإسلامية ستقوم بإبادتها، وعمل الإعلام المغرض عمله في إشاعة ذلك، وإشاعة المعاملات السيئة التي ستلقاها جميع الأقليات في ظل الحكم الإسلامي.
ولذلك نرى قادة الثورة الإسلامية يستثمرون كل مناسبة للرد على هذه الدعايات المغرضة، ومن ذلك قول الخميني في لقاء له مع جمع من أعضاء الطائفة اليهودية في إيران عقب انتصار الثورة الإسلامية: (عندما كنا في باريس كانت سوق الدعايات رائجة في مختلف المجالات، ومن جملة تلك الدعايات كان يقال إذا انتصر المسلمون في إيران سوف يوقعون المجازر باليهود والنصارى لأن المسلمين يخططون لقتل جميع اليهود، وقد أوضحت مراراً في مقابلاتي التي أجريتها الحقيقة التي يؤمن بها الإسلام، وقد أتاني ممثل الطائفة اليهودية وتحدثت معه عن منهج الإسلام) (1)
وبعد حديث طويل عن حقيقة الإسلام، وعلاقته بالإنسان، راح يطمئنهم، بأنه لم يحدث أبدا وأن تعرضت الأقليات الدينية في ظل الحكم للإسلام، لأي ممارسات عنف، ثم راح ينفصل بين موقف الثورة الإسلامية من اليهود في مقابل موقفها من الصهاينة؛ فيقول: (إننا نفصل بين اليهود وبين الصهاينة، فالصهيونية لا علاقة لها باليهودية، لأن تعاليم موسى سلام الله عليه تعاليم إلهية، وقد ذكر القرآن الكريم موسى أكثر من بقية الأنبياء، كانت تعاليمه قيمة، وذكر القرآن تاريخ موسى وسيرته مع فرعون.. كان راعياً للغنم ولكن كان معه عالَمٌ من القوة والإرادة وقد نهض لمواجهة طغيان فرعون وقضى عليه، لقد كان الاعتماد على القدرة الإلهية والاهتمام بمصالح المستضعفين في مواجهة المستكبرين وعلى رأسهم فرعون والنهوض في وجه المستكرين، منهج موسى سلام الله عليه، وهذا المعنى مخالف تماماً للمشروع الصهيوني، إذ ارتبط الصهاينة بالمستكبرين، إنهم جواسيسهم وأجراء عندهم، ويعملون ضد المستضعفين، خلافاً لتعاليم حضرة موسى عليه السلام الذي اعتمد على هؤلاء الناس العاديين، مثل بقية
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 7، ص: 218.
إيران.. نظام وقيم (230)
الأنبياء من أبناء السوق والأحياء الشعبية، ونهض بهم ضد فرعون وجبروت فرعون، وكان المستضعفون هم الذين تصدوا للمستكبرين وأسقطوهم عن استكبارهم خلافاً لسلوك الصهاينة المرتبطون بالمستكبرين، ويعملون ضد المستضعفين) (1)
وهكذا راح يطنب في المقارنة بين اليهودية الحقيقة، والصهيونية التي استعملت اليهودية وسيلة للتغرير والخداع، يقول: (إن هذا التعداد من اليهود الذي خدع وجُمع من أقطار العالم في فلسطين، لعلهم الآن نادمون، إن من كان يهودياً ولا يريد أن يتبع غير تعاليم موسى السامية، لعلهم نادمون الآن لذهابهم إلى فلسطين، وذلك لأن من يذهب إلى هناك ويشاهد سلوك هؤلاء وكيف يقتلون الناس بلا مبرر باسم اليهودية، لا يمكن أن يقبل بذلك؛ فهذه الممارسات تتعارض مع تعاليم موسى عليه السلام، إننا نعلم أن حساب المجتمع اليهودي غير حساب الصهاينة، وإننا معارضون لهم ومعارضتنا نابعة من كونهم يعارضون جميع الأديان إنهم ليسوا يهوداً، بل هم أناس سياسيون يقومون بأعمالهم تحت غطاء اليهودية؛ فاليهود يكرهونهم، وجميع الناس يجب أن يكرهوهم) (2)
وبعد هذه الأحاديث الدعوية التي أراد الخميني من خلالها أن يعرفهم بعظمة الإسلام، وعلاقته بموسى عليه السلام، راح يطمئنهم بأن الدولة الفتية لن تضيع حقوقهم، وسيعيشون فيها مثل سائر المواطنين الإيرانيين الذين تجمعهم المواطنة؛ يقول: (وأما الطائفة اليهودية، وسائر الطوائف الموجودة في إيران؛ فهي من هذا الشعب، فإن الإسلام يتعامل معهم كما يتعامل مع بقية طوائف هذا الشعب، إن الإسلام لا يجيز الإجحاف بحقهم أبداً، ولا محاربتهم في معيشتهم، فهذا مخالف لأصل التربية الإسلامية، مخالف لما يريده الله تبارك وتعالى من الرفاهية لجميع الناس.. إن الإسلام يتبع الأحكام الإلهية، فكما أن الله تبارك وتعالى يفرض الاحترام
__________
(1) المرجع السابق، ج 7، ص: 220.
(2) المرجع السابق، ج 7، ص: 221.
إيران.. نظام وقيم (231)
لجميع طوائف الشعوب، كذلك الإسلام يفرض احترامهم. اطمئنوا لهذا، إنني قد ذكرت هذا حينما كنت في باريس للشخص الذي جاءني ممثلا عنهم، وقلت له بأن الإسلام لا يرضى بإيذاء أحد، الإسلام للجميع، وينشد السعادة للجميع، فلا معنى لما يثار من أن المسلمين سيفعلون باليهود كذا وكذا. لقد شاهدتم كيف انتصر المسلمون ومع ذلك لم يتعرضوا لليهود، ولم يتعرضوا للزردشتيين، لم يتعرضوا لبقية الطوائف، وقد رأيتم ذلك بأعينكم... هل تعرض أحد ليهودي بعد انتصارنا؟ هل تعرض لنصراني؟ هل تعرض لزردشتي؟ لم يكن هناك تعرض في البين. وبعد هذا أيضاً عندما تقام وتستقر الحكومة الإسلامية- إن شاء الله- بالشكل الذي يريده الله تبارك وتعالى، فسوف ترون أن الإسلام أفضل من جميع المناهج الأخرى فيما يرتبط بمراعاة حقوق جميع فئات الشعب، وسوف يعمل بشكل أفضل من الجميع) (1)
وبعد ختام جلسته معهم راح يرفع يديه بالدعاء كعادته مع المسلمين، ويلقي عليهم تحية الإسلام، ومن دعائه المختلط بخطابه لهم: (أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون جميع الناس في رفاهية، وأن تتحقق لهم السعادة والهداية. هداهم الله جميعاً للصراط المستقيم، منَّ الله على الجميع بالسعادة.. واطمئنوا إنه لا يوجد ظلم في الجمهورية الإسلامية. إننا لا نَظلم ولا نُظلم، هذا ما علمنا الإسلام: لا تَظلموا ولا تُظلموا، فبمقدار ما نستطيع لا نقع تحت الظلم، ولا نَظلم في أي وقت أبداً، وفقكم الله تعالى. احرصوا على مساهمتكم في هذه النهضة، كي يتسنى لها تحقيق أهدافها. إن هذه النهضة نهضة انسانية لذا يجب على جميع الناس تأييدها. منّ الله تعالى عليكم بالسعادة جميعاً.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) (2)
وقد صدّق الواقع الإيراني ما ذكره الخميني، حيث عاش اليهود كل هذه الفترة في استقرار مثلهم مثل سائر المواطنين الإيرانيين.
__________
(1) المرجع السابق، ج 7، ص: 222.
(2) المرجع السابق، ج 7، ص: 222.
إيران.. نظام وقيم (232)
ومن الشهادات الدالة على ذلك ما ورد في تقرير بعنوان [قصة يهود إيران التي لا تصدّق]، في موقع يهودي، جاء فيه: (وفي الحقيقة، تضاءلت الجالية اليهودية في إيران منذ الثورة الإسلامية الإيرانية، وقد هاجر نحو 70 ألف يهودي من إيران إلى إسرائيل في أعقابها. إلا أنّ وضع الجالية اليهودية اليوم في إيران يعتبر جيدا.. حتى أن هناك ممثلا دائم للجالية اليهودية في مجلس الشورى الإيراني.. ويعيش 80 مليون نسمة في إيران، ويقدّر عدد الجالية بنحو 20 ألف شخص على الأكثر، رغم ذلك، لديها مقعد في مجلس الشورى باعتبارها أقلية معترفا بها) (1)
ونقل الموقع بعض شهادات اليهود على ذلك، ومنها شهادة الناشطة الاجتماعية الإسرائيلية التي وُلدت وترعرعت في إيران، [أورلي نوي] التي ذكرت أنه (اليوم تتعامل السلطات الإيرانية مع الجالية اليهودية من وجهة نظر معادية لإسرائيل جدا، ولكن ليست معادية للسامية)
ونقل شهادة ممثل الطائفة اليهودية في مجلس الشورى الإسلامي الإيراني [سيامك مره صدق]، وهو بروفيسور في الطب، وزوجته دكتورة في علم الوراثة، وذلك في مقابلة أجريت معه، ومما جاء فيها: (لدينا [يهود إيران] كُنس ومدارس ومقابر ومتاجر جزارة حلال ومطاعم حلال.. ويُسمح لليهود التعلم والتعليم في الأكاديمية الإيرانية أيضا)
وعندما سُئل عن هويته، وهل هي اليهودية أم الإيرانية، قال: (أنا يهودي وإيراني. أصلّْي بالعبرية، ولكنني أفكر بالفارسية)
وورد في تقرير صحفي آخر أجري مع الطائفة اليهودية في إيران، وهو بعنوان: [كيف يعيش يهود إيران في ظل حكم الجمهورية الإسلامية؟]، جاء فيه: (لأكثر من 35 سنة واليهود في إيران يعيشون تحت ظل الأحكام الإسلامية، وتبدو هذه المسألة مشوقة لمعرفة كيف كانت أوضاعهم وأحوالهم في هذه الفترة وما حقوقهم وما العواقب التي يعيشونها داخل بلدهم الأم
__________
(1) قصة يهود إيران التي لا تصدّق، يردين ليخترمان، موقع المصدر، 05 نوفمبر 2016.
إيران.. نظام وقيم (233)
إيران؟) (1)
وقد نقل هذا التقرير بعض شهادات رجال الدين من اليهود الإيرانيين، ومنهم [روبرت خالدر]، وهو أحد أعضاء مجلس إدارة المعبد اليهودي، الذي قال: (الثورة الإسلامية عام 1979 كانت خطوة مهمة في حياة يهود إيران، لأن هذه الثورة منحتنا حقوقنا الكاملة في ممارسة عقائدنا وشعائرنا، كما أنها جعلت الشعب اليهودي في إيران أكثر تدينًا وتمسًكا بعقائدهم بسبب الحرية الدينية والثقافية التي منحت لهم) (2)
ومنها شهادة مسؤولة إدارة مستشفى خيري في جنوب طهران ـ يعتبر واحدا من أربع مستشفيات خيرية لليهود في العالم ـ[فارنغيس حاسيدم]، والتي قالت فيها: (عندما يأتي مريض للمعالجة فإننا نسأله بماذا يشعر وما الذي يؤلمه، ولا نسأله ما دينه وما عقيدته، 95 بالمائة من مرضانا وطاقمنا الطبي غير يهود) (3)
وذكرت أن هذا هذا المستشفى يعتمد بشكل أساسي على التبرعات التي يقدمها يهود إيران أو الخارج، لكن في السنوات الأخيرة قام الرئيس أحمدي نجاد بتقديم تمويل مادي لهذا المستشفى بمبلغ 32 ألف دولار أسترالي، (والذي اعتبر رسالة إيجابية جدًا من الحكومة لليهود والتي كان لها مكانة وأهمية معنوية عظيمة، هذا بحسب ما قاله المدير العام للمستشفى سياماك مورسيديغ)
ومن الأمثلة على حرية إبداء الرأي لليهود الإيرانيين موقفهم مما ذكره الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد من المحرقة اليهودية واعتباره إياها خرافة، مما أثار غضب الجالية اليهودية في إيران، وقد عبر ممثل اليهود في البرلمان الإيراني [موريس معتمد] في فيلم وثائقي عن يهود
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: كيف يعيش يهود إيران في ظل حكم الجمهورية الإسلامية؟، نور علوان، موقع نون بوست، 26 أغسطس 2017.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (234)
إيران، عن رأيه في ذلك قائلًا: (عندما نفى السيد نجاد حقيقة الهولوكوست في فترة استلامه الحكم، قمت أنا بإصدار تصريح معترضًا على خطابه، ولقد لقي هذا الاعتراض صدى كبيرا في دول العالم المختلفة، والتي زاد تعاطفها مع الشعب اليهودي الذي شعر بالإهانة بسبب وجهة نظر الرئيس)
وعندما سئل هذا النائب عن شعور المجتمع اليهودي في إيران بالتهديد بسبب هذا التصريح المعادي للسامية قال معتمد: (لحسن الحظ، لم نشعر بأي تهديد، فالسياسية العامة للحكومة الإيرانية لم تكن معادية للسامية)
وأشار إلى أن التميز الوحيد الذي يطبق ضدهم هو وجود قانون يذكر أنه في (حال اعتنق اليهود الدين الإسلامي؛ فإن أملاكه تورث للحكومة وليس لعائلته اليهودية إلا إذا أسلمت)
وهذا مبني طبعا على حكم فقهي تبنته الجمهورية الإسلامية، وهو في حقيقته في صالح اليهود، لأنه يجعلهم يمنعون أتباعهم من اعتناق الإسلام، ونتمنى أن يعيد فقهاء الجمهورية الإسلامية النظر في هذا القانون، لأن هناك أقوالا أخرى في المسألة، بالإضافة إلى عدم وجود نص صريح في القرآن الكريم يمنع ذلك، ونجد نفس القول في كتب الفقه السني، بل تعتبره قولا راجحا.
3 ـ الأقلية الزرادشتية في إيران ومظاهر التعامل المتسامح معها
تعتبر الديانة الزرادشتية، والتي يطلق عليها أيضا لقب [المجوسية] من الديانات الموجودة في إيران منذ القديم، وهي تنتسب لمؤسسها زرادشت، وتعتبر من أقدم الديانات الموحدة في العالم، وقد تأسست قبل 3500 سنة تقريبا.
وهي من الديانات التي وقع فيها الخلاف بين علماء المسلمين؛ فمنهم من يعتبرها من الديانات السماوية، وأن الزرادشتيين المجوس من أهل الكتاب، ولذلك يرون جواز الزواج منهم، وهو القول الذي انتصر له ابن حزم، وذكر الأدلة عليه، وذكر أنه مذهب الكثير من
إيران.. نظام وقيم (235)
العلماء.
وقد كان لابن حزم من العلم بالملل والنحل ما يؤهله لمعرفة ذلك، وقد قال في الفصل: (أما زرادشت فقد قال كثير من المسلمين بنبوته) (1) ثم عقب على ذلك بقوله: (ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن صحت عنه معجزة، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24)، وقال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء:164) (2)
ثم بين أن الذي ينسب إليه المجوس من الأكذوبات باطل مفترى منهم، واستدل على ذلك بالتحريفات الواقعة في الديانات المختلفة،، ثم بين قاعدة جليلة في ذلك فقال: (وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلها، وكانا محظورين على من سواهما فالتبديل والتحريف مضمون فيهما، وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كان طول مدة دولتهم عند المؤبذ، وعند ثلاثة وعشرين هربذا، لكل هربذ سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا من غيرهم، ولا يباح بشيء من ذلك لأحد سواهم، ثم دخل فيه الخرم بإحراق الإسكندر لكتابهم أيام غلبته لدارا بن دارا، وهم مقرون بلا خلاف منهم أنه ذهب منه مقدار الثلث ذكر ذلك بشير الناسك وغيره من علمائهم) (3)
ونفس ما دفع به ابن حزم عن زرادشت ما نسبه إليه المجوس ذكره غيره من العلماء، قال الباقلاني: (وكذلك الجواب عن المطالبة بصحة أعلام زرادشت إما أن نقول إنها في الأصل مأخوذة عن آحاد، لأن العلم بصدقهم غير واقع لنا، أو نقول إنه نبي صادق ظهرت على يده
__________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل:1/ 90.
(2) المرجع السابق:1/ 90.
(3) المرجع السابق:1/ 90.
إيران.. نظام وقيم (236)
الأعلام، ودعا إلى نبوة نوح وإبراهيم، وإنما كذبت المجوس عليه في إضافة ما أضافته إليه من القول بالتثنية وقدم النور والظلام وحدوث الشيطان من فكرة وشكة شكها بعض أشخاص النور، وهو بمنزلة كذب النصارى على المسيح عليه السلام من دعائه إلى اعتقاد التثليث والاتحاد والاختلاط، وأن مريم ولدت مسيحا بلاهوته دون ناسوته وغير ذلك) (1)
وقد ذكر ابن حزم أن هذا القول ليس بدعة للمتأخرين، بل أن من السلف من قال بذلك، قال: (وممن قال أن المجوس أهل كتاب علي بن أبي طالب وحذيفة رضي الله عنهما، وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو ثور وجمهور أصحاب أهل الظاهر، وقد بينا البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا المسمى الإيصال في كتاب الجهاد منه وفي كتاب الذبائح منه وفي كتاب النكاح منه) (2)، ثم قال: (ويكفي من ذلك صحة أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجزية منهم، وقد حرم الله عز وجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ الجزية من غير كتابي)
وأحببنا أن نشر إلى هذا للرد على تلك الإهانات الكبيرة التي يوجهها الإعلام المغرض، والكثير من الإسلاميين للديانة المجوسية، وينسبون الثورة الإسلامية إليها، ويرون أنها امتداد للمجوسية، وكلا الموقفين خاطئ، أما الأول؛ فالمجوسية لا تختلف عن الديانات السماوية، وهي ديانة توحيدية، والواجب احترامها.
وهي بالإضافة إلى ذلك لا تتواجد في إيران وحدها، حسبما يعتقد الكثير، بل هي تتواجد في مناطق كثيرة، وقد قدر عدد الزرادشتيين في العالم بين 124،000 إلى 190،000 نسمة حسب إحصاء عام 2004، وهم ينتشرون في المناطق التالية: (69،601 زرادشتي في الهند
__________
(1) تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل:203.
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل:1/ 90.
إيران.. نظام وقيم (237)
حسب إحصاء 2001 يتكونون من قوميتين وهما بارسي وإيراني، و5،000 زرادشتي في باكستان يتركزون في مدينة كراتشي، وازداد عددهم في السنوات الأخيرة بشكل كبير بعد هجرة الكثير من زرادشتي إيران إلى باكستان، وما بين 18،000 إلى 25،000 زرداشتي في قارة أمريكا الشمالية، و21،400 زرادشتي في إيران، حيث يتواجدون بشكل خاص في مدن يزد وكردمان إضافة إلى العاصمة طهران كما يوجد لهم نائب في البرلمان الأيراني وهو من أصول كردية، و10،000 زرادشتي في مناطق آسيا الوسطى وخصوصا في منطقة بلخ الواقعة في شمال أفغانستان، وفي جمهورية طاجيكستان، والتي كانت موطن الديانة المجوسية سابقا، وتوجد جالية كبيرة في أستراليا يقدر عددهم 3،500 وخصوصا في مدينة سيدني، و40،000 نسمة في شمال سوريا بمنطقة تسمى عفرين في مدينة حلبو أيضا في الشمال الشرقي من سوريا في مدين قامشلي وجوارها، وعدد كبير منهم في مدن شمال عراق وخاصة مدينة موصل وكلهم من الأكراد) (1)
وأما الثاني؛ فعجيب جدا، وقد رددنا عليه بتفصيل في الجزء الأول من هذه السلسلة، وقد أشار إليه الخميني في خطاباته متأسفا، ومن ذلك قوله عن دعاوى صدام حسين التي كان يطلقها، ويزعم فيها أن حربه على إيران هي حرب على المجوس: (ماذا نعمل مع مثل هذا الفاسد الذي يريد تدمير العراق وإيران كما يتصور؟ ولا ندري ماذا نعمل مع مثل هذا الرجل الذي يقول منذ البداية بأننا نريد مواجهة النظام الزرادشتي أو المجوس رغم أن الشعار الذي نرفعه هو شعار (الله اكبر)؟.. إن كل العمارات الاسلامية الموجودة في العراق أو معظمها هي من صنع الإيرانيين، فكيف يحارب هذا الرجل إيران باسم محاربة الزرادشتية أو الفارسية؟ وهل يعتبر كون إيران فارسية منقصة؟ ويدعي انه يحارب الإيرانيين لانهم مجوس ثم علم ان
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: الديانة الزرادشتية، اعداد وتقديم: سيد مرتضى محمدي، القسم العربي، موقع تبيان.
إيران.. نظام وقيم (238)
الصفعة جاءته من الاسلام بشعار [الله اكبر]) (1)
بل إن من أهداف الثورة الإسلامية التي أعلنتها في كل محل الوقوف ضد تلك السياسات التي كان ينتهجها الشاه، ويريد من خلالها إعادة إيران إلى ما قبل الإسلام، وقد أشار الخميني إلى هذا في مواضع كثيرة من كتبه وخطبه، ومنها قوله: (هل يعلم هؤلاء الذين يتذرعون بالذرائع المختلفة، ويواصلون صمتهم بل يأمرون أحياناً بالصمت، ما هي التطورات التي ستحدث لاحقاً؟ هل قرأوا جريدة (اطلاعات) رقم 15575 التي نشرت ورقة شكر قدمها الزرادشتيون إلى الشاه جاء فيها: إن المجتمع الزرادشتي في العالم يرى من واجبه تقديم الشكر والعرفان للشاه وشعر بالمسؤولية لذلك، لأن أحداً لم يعمل من أجل إحياء وحفظ التاريخ والثقافة والدين الزرادشتي، ولم يقدم الدعم لهم، كما فعل الشاه، وذلك منذ أن هاجر الباريتون الأرض الإيرانية.. أعَلِمَ هؤلاء أن تغيير التاريخ الإسلامي إلى تاريخ المجوس كان إحياء للزرادشتية ومذهبها ومعابد نيرانها على حساب الإسلام؟ ألهم عِلم أنّه قال في لقاء خارج البلاد: (إنّه ليس للمذهب دور في حكومتي)؟.. اليوم وبعد ممارسة الوان الكبت وسلب الحريات بأشكاله المختلفة وممارسة الضغوط التي لا تطاق، فإن إيران الواعية على اعتاب انفجار عظيم، وتمضي قدماً بخطى حثيثة) (2)
بعد هذا التوضيح الذي رأينا ضرورته، نذكر أن إيران تحت ظل ولاية الفقيه، تعاملت مع الزرادشتيين بنفس معاملتها مع سائر أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين، وسمحت لهم بأداء شعائرهم وطقوسهم بكل حرية، بل سمحت لهم بأن يمثلهم نائب خاص بهم في مجلس الشورى.
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 16، ص: 368.
(2) المرجع السابق، ج 3، ص: 330.
إيران.. نظام وقيم (239)
وقد كان هذا الموقف مثار سخط لدى المغرضين، الذين لم ينظروا إلى هذا باعتباره خلقا إسلاميا، وهو من حقوق الإنسان التي جاء الإسلام بالدعوة لمراعاتها، بل رأوا فيه تأكيدا لما يطلقون عليه [مجوسية إيران]
وكمثال على هذا، ما ورد في مقال بعنوان [الزرادشتية في إيران: الأصل الثقافي والتوظيف السياسي]، والذي راح صاحبه يفسر كل تلك المواقف المتسامحة من الإيرانيين مع الزرادشتية باعتبارها إحياء لها؛ فمما جاء فيه قوله: (الظهور العلني لطائفة من أعضاء الكهنوت الزرادشتية في حديقة شرق إيران في حفل يسمى [ساد] بداية شهر فبراير الجاري، واستعدادهم لتنظيم عيد النوروز والاحتفال بمولد زرادشت، هي مظاهر متظافرة على الوجود العلني لأتباع الديانة الزرادشتية، وجود يثير مفارقة متصلة بدواعي تغاضي نظام سياسي ديني منغلق مثل النظام الإيراني عن تواصل وجود هذه الديانة القديمة، ويدفع إلى البحث في العوامل الكامنة وراء تواصل بقاء هذا المكون الديني في ظل نظام يقصي كل ما يختلف عن صياغته للدين والمذهب) (1)
ثم راح يردد ما يذكره الإعلام المغرض، وما يردده معهم بعض الإسلاميين الذين ملأ الحقد على إيران قلوبهم؛ فجعلهم يحولون الحق باطلا، والحسنة سيئة، يقول: (إيران تحرص على إعلاء قوميتها على الآخرين، وتتكئ على تاريخها وتبحث في ثناياه عما يفيد الأيديولوجية الحاكمة، والفتح العربي الإسلامي لإيران حول المجتمع الفارسي إلى مجتمع مسلم وأحال الديانة الزرادشتية إلى مجوسية إلا أن المجتمع الفارسي تشبث بفارسيته، بل أضاف لها صنوفا شتى من العداء للآخر، وعندما قرر إسماعيل الصفوي، في القرن السادس عشر، اعتماد المذهب الشيعي الإثني عشري مذهبا رسميا لدولته، فقد تنكر للأصل التاريخي للإسلام وانطلق في
__________
(1) الزرادشتية في إيران: الأصل الثقافي والتوظيف السياسي، عبدالجليل معالي، موقع العرب، 17/ 2/2017.
إيران.. نظام وقيم (240)
سعي محموم لاستئصال الوجود السني في إيران، وحاول نشر التشيع الرسمي بحد السيف. ثم جاءت الثورة الإيرانية عام 1979 لتكرس التصور الصفوي وتطوره إلى ثورة إسلامية بمذاق شيعي سعت إلى تصديره خارج مجالها السياسي، وفي كل هذه المحطات كانت الزرادشتية حاضرة في المخيال الشعبي الإيراني، بل كانت مستفيدة من هذا التعاقب، فبعد الفتح الإسلامي كانت الزرادشتية بالنسبة إلى الفرس (حتى من غير المؤمنين بها) تمثل ضربا من الانتماء إلى مرحلة ما قبل العرب، أي أنها كانت إحالة على الماضي الفارسي التليد بالنسبة إليهم، ذلك أن العصبية الإيرانية ولئن استوعبت الإسلام إلا أنها واصلت عنصريتها تجاه العرب. تشبثت بالإسلام وحاولت احتكاره وفي ذات الوقت كانت تنظر إلى الزرادشتية باعتبارها منهلا حضاريا يحق لها أن تفخر به) (1)
وهكذا راح يردد مثل هذا الهراء، ويبني الكثير من الاستنتاجات التي لا تستند لأي معطيات علمية، ولو أنه كلف نفسه، وقرأ ما كتبه قادة الثورة الإسلامية، ومواقفهم لاحترم نفسه، ولما ردد أمثال هذه الدعاوى.
وهو يدعو في مقاله ـ مثل الكثير من الإسلاميين ـ النظام الإيراني إلى استئصال شأفة كل المجوس في إيران، وربما الذهاب إلى مواطنهم في البلاد الأخرى للقضاء عليهم، حتى يثبت أنه ليس مجوسيا، يقول في ذلك: (النظام القائم بعد الثورة الإيرانية مارس غض نظر واضح عن الديانة الزرادشتية، كان النظام الإيراني يحارب أصحاب البدع الدينية ويصدر أحكاما بالإعدام بتهمة محاربة الله وتهديد الأمن القومي الفارسي، وفي الوقت نفسه كانت الديانة الزرادشتية تحظى بممثل في مجلس النواب من منطلق الحريات الدينية، وكان النظام الإيراني بهذه الازدواجية يضرب عصافير عديدة بحجر واحد، فهو يقدم صورة للعالم على أنه متسامح مع الأديان والمذاهب، وهو يغازل المجتمع الإيراني بتصالحه مع ما تمثله الزرادشتية من إرث لدى
__________
(1) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (241)
عموم الشعب، وهو يقدم ما يثبت وفاءه للحظة إسماعيل الصفوي وعنصرية المجتمع الفارسي، أي أنه لا يلبس تهمة محاربة الله لكل ما يصدر عن الثقافة الفارسية) (1)
ويستنتج نتائج أخرى أكثر غرابة؛ فيقول: (الحضور المتزايد للديانة الزرادشتية القديمة في إيران، هو تعبير عن تداخل العوامل التاريخية والقومية والدينية والمذهبية والاجتماعية، والثابت أن العقل الإيراني توصل إلى صياغة متصور ثقافي مركب يسعى إلى التوفيق بين الأصل الزرادشتي والتشيع الرسمي، فاللغة الفارسية والتقويم والأشهر والعادات والاحتفالات وحتى مكان دفن الإمام علي الرضا الإمام الثامن المجاور لمدفن زرادشت، كلها مظاهر دالة على التشبث الإيراني بالمنطلق الزرادشتي، بل توجد العديد من القراءات التي تعتبر أنه تم تطويع العادات الزرادشتية القديمة لخدمة التشيع السياسي الإيراني، ومثلها الاحتفالات السنوية بعيد النوروز هي في حقيقتها احتفال زرادشتي، تمارس علنا وبتشجيع رسمي إيراني وتمارس خلالها تقاليد القفز فوق النار، لتتاح الفرصة بعد ذلك للزرادشتيين لإحياء مولد زرادشت بعد أيام قليلة من رأس السنة الفارسية) (2)
هذا مثال عن النظرة العجيبة التي يتعامل بها الإسلاميون وغيرهم مع إيران؛ فهي لا تنجو منهم في حال من الأحوال؛ فلو أنها قمعت الزرادشتية، وأساءت إليها لصوروها بصورة المجرم، وراحوا ينقلون لها النصوص التي تدعو إلى التسامح، وإذا ما تسامحت راحوا يتهمون بالدعوة للمجوسية، بل للتدين بها..
ثالثا ـ ولاية الفقيه والتعامل مع الاختلاف المذهبي
من أهم القضايا التي استثمرها أعداء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأعداء نظامها الإسلامي قضية الاختلاف المذهبي، أو ما يسمى [الخلاف السني الشيعي]؛ ولذلك نرى
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (242)
الكثير من المغرضين، بما فيهم الحركات الإسلامية نفسها، لا تعتبر النظام الإيراني نظاما إسلاميا، بل لا تعتبر إيران نفسها مسلمة، لسبب بسيط، وهي أن قادتها ليسوا من المدرسة السنية، بل من المدرسة الشيعية.
ولهذا نجدهم يفضلون الحكم الملكي المتواجد في المنطقة، المعروف بولاءاته للغرب، ولأمريكا خصوصا، على النظام الإيراني، ويعتبرونه حكما إسلاميا راشدا، بل يعتبرون كل نظام في الدنيا أفضل من النظام الإيراني، حتى لو كان مستبدا ظالما ولا علاقة له بالإسلام، بل إن الحقد وصل بهم إلى اعتبار نظام الشاه أفضل من النظام الذي يسمونه [نظام الملالي]
وقد ترجموا عن هذا الحقد بكل اللغات، وألبسوه جميع الألبسة، فاستعملوا اللغة الأكاديمية التي تحتال لتحول من النظام الإيراني مؤامرة غربية خفية لضرب الإسلام السني، ويستعملون اللغة الخطابية والعاطفية ليجعلوا من إيران مجوسا، لا علاقة لهم بالإسلام، وأنهم لم يدخلوا إلى الإسلام، وإنما تظاهروا به، حتى يخربوه من داخله.
ولن نحتاج إلى ذكر الأدلة على ذلك هنا، ذلك أن الكتب (1) والمحاضرات والأشرطة الوثائقية وكل ما في الدنيا من وسائل استثمر ليغرس هذه المفاهيم، لتمتلئ القلوب أحقادا على النظام الإيراني، بل على الشعب الإيراني نفسه.
ويحتجون لذلك كله بالتضييق على أهل السنة، ومنعهم حقوقهم، ومنعهم من بناء المساجد أو الصلاة فيها، والنهي عن أن يسموا أنفسهم بأسماء الصحابة، ومنعهم من الدخول للبرلمان في نفس الوقت الذي يسمحون فيه لليهود بالدخول إليه، وغيرها من الأيقونات الحاقدة التي صار الجميع يرددها من غير أن يتحقق منها.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في كتاب تحريضي مملوء بالمغالطات التي لا يقصد منها إلا
__________
(1) انظر على سبيل المثال: ماذا يجري لأهل السنة في إيران. من منشورات مجلس علماء باكستان عام (1986)، وأحوال أهل السنة في إيران. لعبد الرزاق البلوشي طبع (عام 1989)، أحوال أهل السنة في إيران. لعبد الله محمد الغريب طبع (عام 1989)..
إيران.. نظام وقيم (243)
الشحن العاطفي والتحريض الطائفي، ألقاه بشكل محاضرات الشيخ ممدوح الحربي، وجمعت في كتاب باسم [موسوعة الشيعة]، ذكر فيه ما توهمه من مؤامرات على أهل السنة، وحاول أن يقارن فيه بين الوضع أيام الشاه، والوضع الجديد، ليفضل فيه أيام الشاه على الوضع الجديد، وكأنه يدعو الإيرانيين إلى الانتفاضة على النظام الجديد، وإعادة النظام الشاهنشاهي.
يقول في كتابه، تحت عنوان [أهل السنة قبل الثورة الإيرانية وبعد الثورة الإيرانية]: (لا شك أن أهل السنة في زمن شاه إيران السابق وقبل الثورة الخمينية كانوا يتمتعون بحرية البيان في عقيدتهم، ومزاولة جميع النشاطات من بناء المساجد والمدارس وإلقاء المحاضرات وطباعة الكتب في خارج البلاد، ولكن في نطاق المذهب بل كان محظوراً وممنوعاً منعاً باتاً التعرض من الشيعة لمذهب السنة أوالسنة للشيعة) (1)
ويذكر من الأمثلة على ذلك أن (رجلاً من الشيعة وزع كتاب فيه مساس بأم المؤمنين الطاهرة عائشة؛ فمسكه بعض الغيورين من أهل السنة وضربوه ضرباً موجعاً، ثم قبضت عليه حكومة الشاه، وأدخلته السجن؛ فمن هنا كان لأهل السنة والجماعة حرية تامة في نشر المعتقد السني، وتوعية الناس، وبيان التوحيد الصافي ورد الشرك، الذي صار محظوراً الآن في حكومة الملالي والمعممين، بل يعتبر الداعي إلى التوحيد الآن في إيران وهابياً يقبض عليه فوراً، كما أن أهل السنة كانوا يتمتعون بالأمن والأمان في أموالهم وأعراضهم ودمائهم في عهد شاه إيران وقبل الثورة الخمينية، كما كان يتمتع أهل السنة أسوة بالشيعة في الحصول على المواد الغذائية وبسهولة ويسر ودون تعب، أما بعد الثورة الخمينية فقد صارت كل هذه الموارد الغذائية بيد الحكومة والتي لا تقدمها إلا بعد الانقياد والخضوع أمامها للحصول على المواد المعيشية كلها) (2)
__________
(1) موسوعة الشيعة، ممدوح الحربي، ص 110.
(2) المرجع السابق، ص 110.
إيران.. نظام وقيم (244)
ويتطرق في كتابه إلى تفسير كل قانون يقنن في إيران باعتباره قانونا لمحاربة أهل السنة، ولا ينسى أن يختلق الأكاذيب الكثيرة من أجل ذلك، مثل المؤامرة التي عبر عنها تحت عنوان [تزويج الشيعيات الإيرانيات من أبناء السنة]، ثم بين كيفية تنفيذ هذه المؤامرة بقوله: (لقد اتخذت الحكومة الإيرانية وسائل أخرى للقضاء على أهل السنة والجماعة في إيران، منها تزويج السنة بالنساء الشيعيات، واللاتي يرسلن من قبل الحكومة بعد إعطائهن دروساً مكثفة وإقناعهن بأنهن داعيات إلى التشيع، وعليهن دعوة الأزواج وأهل بيوتهم وذريتهم إلى التشيع، وإظهار حسن الأخلاق والمعاملة الحسنة مع الزوج وأن تساير الزوج في طبيعته وشخصيته، فأحياناً تعلن الحكومة الإيرانية في أحدى مدن أهل السنة مثلاً، عن وصول امرأة [أي شيعية]؛ فمن يرغب بالزواج؛ فليبادر قبل فوات الفرصة، فيبادر أهل السنة إلى الزواج، وذلك بقصد الشهوة وقضاء الوطر من البيض الحسان، وهذا التزاوج كثيراً ما يتأثر به الأزواج وأهلهم؛ فيميلون إلى معتقدات الشيعة، وأما الأبناء الذين يولدون من هذه المجندة الشيعية فيتشيعون حتماً ولا بد) (1)
ومن تلك المؤامرات [مخططات لتغيير خارطة أهل السنة في إيران]، وبين كيفية تنفيذها، فذكر أنهم (قاموا بإنشاء مستوطنات في مناطق السنة، وبناء بيوت حكومية في المدن السنية وتوزيعها على الشيعة القاطنين بعيداً عن مدن أهل السنة، إضافة إلى جلب الأيد العاملة الشيعية إلى مناطق السنة، وذلك لتكثيف العدد السكاني الشيعي؛ فمن زار مثلاً مناطق أهل السنة في إيران يلاحظ نشاط الشيعة الرهيب في إقامة المستوطنات وخاصة في كردستان وتركمان وبلوشستان، فمثلاً كانت مدينة زاهدان قبل 15 عام لا يسكنها شيعي واحد لا يوجد فيها شيعي واحد؛ والآن يبلغ تعداد الشيعة إلى قرابة 1.% من تعداد سكان مدينة زهدان، ومع تشجيع الحكومة الإيرانية للشيعة في سكنى المناطق السنية، ففي المقابل يمنعون السنة القادمين
__________
(1) المرجع السابق، ص 118.
إيران.. نظام وقيم (245)
من خارج إيران من الإقامة والاستيطان في أماكن السنة وخاصة المهاجرين الأفغان السنة) (1)
ومن تلك المؤامرات ـ كما يذكر ـ أنهم (قاموا بشراء بعض ذمم علماء السوء من أهل السنة، وذلك بإعطائهم بعض المناصب وبناء المساكن وإجراء المرتبات الشهرية لهم، ومن المحاضرات التي كان يلقيها هذا النوع من العلماء محاضرة لأحدهم كانت بعنوان [واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا] بيّن في هذه المحاضرة أن الخلاف بين السنة والشيعة خلاف سطحي، ثم يقول وإننا نؤمن أن ما يقولونه الشيعة حق، وأن القول بولاية الفقيه قول حق، يجب علينا أتباعه، وأن الخلاف الوحيد بيننا وبين إخواننا الشيعة هوفي إرسال اليد وقبضها، وهذا خلاف قد وقع بين أهل السنة أيضاً كما هورأي عند بعض المالكية) (2)
أما حال [علماء أهل السنة في إيران]، فيذكرهم بحسرة قائلا: (كم من علماء أفاضل ألقت عليهم الحكومة القبض بدعوى أنهم يحملون المعتقد الوهابي، وكم أغلقت مدارس بدعوى أن مؤسسيها وهابيون، وبلغ الحد بهم أن هدموا إحدى المدارس بالجرافات ليلاً بدعوى أن الذي أسسها ممن يحمل العقيدة الوهابية) (3)
وهو يختم كل محاضرة من محاضراته بمثل هذا الدعاء الذي يمتلئ بالعبرات، مما يثير عواطف الحاضرين: (اللهم انصر المستضعفين من أهل السنة في إيران، اللهم احفظ نساءهم وأبنائهم ودينهم وأعراضهم وأموالهم ومدارسهم ومساجدهم من كيد الحاقدين الخبثاء، اللهم احفظ أهل السنة في كل مكان فإنهم غرباء، اللهم وأنصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم عليك باليهود والشيعة والنصارى والهندوس والعلمانيين والشيوعيين والصوفية وكل فرق الضلال الذين تحزبوا على الموحدين القائمين بدينك يا عزيز يا قهار، اللهم وفق ولاة
__________
(1) المرجع السابق، ص 118.
(2) المرجع السابق، ص 115.
(3) المرجع السابق، ص 119.
إيران.. نظام وقيم (246)
أمورنا من العلماء والأمراء لينصروا أهل السنة في كل مكان، اللهم ارفع سيف الحق بيد الأمراء ليدفعوا الظلم والشرك عن البلاد والعباد) (1)
ولا ينسى في نهاية كل محاضرة أن يحملق في وجوه الحاضرين، ويقول لهم: (اللهم هل بلغت اللهم فأشهد، اللهم هل بلغت اللهم فأشهد، اللهم هل بلغت اللهم فأشهد) (2)
هذه مجرد نماذج عن هذه الموسوعة التي جمعت من محاضرات الداعية الكبير الشيخ ممدوح الحربي، والتي يعتبرها الكثير مصدرا أساسيا لهم في التعرف على كيفية تعامل النظام الإيراني مع أهل السنة.
ونحب أن نذكر أن هذا الداعية الكبير، والذي جمعت محاضراته في هذا الكتاب، واعتبرت مصدرا للمعلومات حول المؤامرات التي يقوم بها النظام الإيراني في حق أهل السنة، له موسوعة أخرى حول الطرق الصوفية، كفرها فيها جميعا، وبين فيها مواضع انتشارها، وحرض عوام الناس عليها.
وهو من خلال كتبه ومواقفه يقصر أهل السنة على المدرسة السلفية، أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولذلك عندما يذكر أنه لا توجد مساجد لأهل السنة في إيران، يقصد بذلك عدم وجود مساجد للوهابية، لأنه لا يعتبر مساجد المذاهب الأربعة، ولا مساجد الصوفية، بل يسميها مساجد شرك، كما هي عادة السلفية، حيث نراهم في كل مدينة يقيمون مساجد خاصة بهم، ويعتبرون ما عداها مساجد مشركين.
بناء على هذا، نحاول في هذا المطلب الرد على هذه الشبهة، وبيان المغالطات التي تحملها، والتي يرفضها الواقع، وذلك عبر نوعين من الأدلة:
__________
(1) المحاضرات المسموعة للشيخ ممدوح الحربي في موقع طريق الإسلام، وهي مفرغة أيضا في نص بعنوان [إخواننا أهل السنة في إيران]، موقع فيصل نور، 10/ 22/2012.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (247)
الأول: المواقف النظرية لقادة الثورة الإسلامية من العلاقة بين السنة والشيعة، ومن الخلاف السني الشيعي.
الثاني: المواقف العملية من حقوق أهل السنة في إيران، والامتيازات المعطاة لهم، والشهادات الدالة على كذب تلك الشبهات المثارة ضدهم.
وسنتناول هذين الموقفين من خلال العنوانين التاليين:
1 ـ الموقف النظري من الاختلاف المذهبي
من خلال بحثي المتأني في كتب قادة الثورة الإسلامية، وخطاباتهم، وبياناتهم، وفي أدق التفاصيل لم أجد ولو كلمة واحدة تدل على الطائفية، ولا على كون الثورة الإسلامية ثورة شيعية، بل نجدهم جميعا يتحدثون عن الإسلام، لا عن الطائفة، ولا عن المذهب، ويعتبرون انتصار الثورة في إيران انتصارا للإسلام وليس انتصارا لأي جهة.
وهم في كل محل ينبهون إلى هذا، ويعتبرون الإسلام فوق الطائفية، وفوق المذاهب، لكن المغرضين لا ينظرون إلى هذا، وإنما ينظرون إلى بعض اقتباسات قادة الثورة الإسلامية من كتب الشيعة، ويعتبرون ذلك طائفية ومذهبية وتحيزا.
ولست أدري كيف يفكر هؤلاء، وهل يريدون منهم، وهم في البيئة الشيعية أن يقتبسوا أقوال مالك والشافعي، ويواجهوا جمهورهم الملتف حولهم بما لا يعرفونه، ولا يتمذهبون بمذهبه؟
ثم ما الضرر في أن يذكر قادة الثورة الإسلامية في أحاديثهم واقتباساتهم أقوال الإمام علي والحسن والحسين وسائر الأئمة ومواقفهم، وهم محل إجماع من الأمة جميعا؛ فهل يعتبر ذكر مالك والشافعي إسلاما، بينما ذكر الإمام علي والحسن والحسين مجوسية وطائفية وتحيزا؟
لا يمكن أن نفسر هذه المواقف إلا بالجهل والأنانية والكبرياء، ذلك أن الصادق ينظر إلى القيم، ولا ينظر إلى ما يرتبط بها؛ فسواء أخذنا مبادئ الحكم الإسلامي، ومعانيه من كلمات
إيران.. نظام وقيم (248)
الإمام علي، أو من كلمات غيره، المهم أن تكون هذه الكلمات متوافقة مع القرآن الكريم، ومع قيم الدين، التي هي محل اتفاق الأمة جميعا.
ولذلك كان العاقل هو الذي يسأل عن توفر القيم في القوانين وصلتها بالشريعة الإسلامية، ولا يسأل من أي كتاب اقتبست، ولا في أي مذهب وردت، ولهذا فإن ما نص عليه الدستور الإيراني من مراعاة المذهب الجعفري في تطبيق الشريعة، لا يعني إلا مراعاة البيئة التي ستطبق فيها الشريعة، مثلما هو حاصل في جميع البلاد الإسلامية التي تستند في أحوالها الشخصية إلى الشريعة، ثم تربطها بالمذهب السائد في البلد.
مع العلم أن إيران ـ كما سنرى ـ تترك للمناطق السنية فيها الحرية في أن تطبق المذاهب المرتبطة بها في فروع الشريعة، أما في القضايا المرتبطة بالحكم والسياسة والاقتصاد؛ فهي محل اتفاق الأمة، والخلاف فيها بسيط، لأنها أكثرها من النوازل العصرية.
بناء على هذا سنذكر هنا بعض مواقف قادة الثورة الإسلامية، ابتداء من الخميني الذي كان يتحدث باسم الإسلام، لا باسم الطائفة، بل يحذر كل حين من الإيمان بالطائفة وتقديمها على الإسلام.
ومنها ما صرح به في مقابلة صحفية مع بعض وسائل الإعلام الأجنبية، حين كان منفيا في باريس؛ فقد سأله الصحفي الأمريكي قائلا: (كيف ستعاملون الأقليات الدينية في الحكومة الإسلامية، وهم المسلمون السنة، الصوفيون، الآشوريون، المسيحون والأرمن واليهود والبهائيون؟)
فأجاب الخميني على البديهة: (أولًا الإخوة أهل السنة ليسوا بأقلية مذهبية قط، ونحن قلنا مراراً بأن سلوكنا مع الأقليات الدينية جيد جداً، فالإسلام يحترمهم، ونحن سنعطيهم جميع حقوقهم. فلهم الحق أن يكون لهم ممثل في المجلس ولهم الحرية في ممارسة النشاطات السياسية والاجتماعية، وعباداتهم. إنهم إيرانيون مثل جميع الإيرانيين يعيشون بأمان في ظل الحكومة
إيران.. نظام وقيم (249)
الإسلامية) (1)
وهذا يفسر عدم وجود نص في الدستور يتعلق بحقوق أهل السنة، بخلاف النصوص الواردة حول الأقليات الدينية، ذلك أن الدستور الإيراني يعتبر أهل السنة مثل الشيعة تماما، وهم في حقوقهم ينتخبون على مرشحيهم بحسبب أعداد مدنهم، ولا علاقة لذلك بالمذهب والطائفة، وهذا من ذكاء واضع الدستور وحكمته، لأنه لو وضعت مواد تتعلق بهذا، لاعتبرها الجميع شماعة لاعتبار إيران دولة طائفية، ويحكمها دستور طائفي، ولهذا نرى النواب من أهل السنة يفوزون في مناطقهم، لا باعتبارهم أهل سنة، وإنما باعتبارهم مرشحين زكاهم الشعب.
وقد أشار الخميني في نداء له قبل الاستفتاء الشعبي العام، إلى تلك الحرب الناعمة التي تستعمل الاثنيات الموجودة في إيران لاستثمارها في انهيار الحكم الإسلامي من بدايته، وقبل تجربته، فقال مخاطبا الشعب الإيراني: (تصل وبمنتهى الأسف أخبار مزعجة من كنبد وزاهدان واردبيل تتحدث عن قيام بعض المجموعات المنحرفة ببث الفرقة والسموم بين أهالي تلك المناطق، وترويج شائعة مفادها أن علماء الدين سيحرمون الإخوة من أهل السنة من حقوقهم المشروعة) (2)
ثم بين وجه التناقض الذي يحمله مثيرو تلك الفتن، والذين لا يعتقد أكثرهم بصلاحية الإسلام بمذاهبه جميعا للحكم أصلا، يقول: (إنني أقول وبمنتهى الأسف أن هؤلاء المنحرفين الذين يستلهمون أمريكا، ويتلبسون بلبوس اليسار، يسعون إلى إعادة عمليات النهب التي كانت رائجة في عهد النظام البائد، ولكن بأسلوب آخر) (3)
ثم يذكر العلاقة التي تربط قادة الثورة الإسلامية مع جماهير أهل السنة، والذين تشكل
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 5، ص: 202.
(2) صحيفة الإمام، ج 6، ص: 342.
(3) المرجع السابق، ج 6، ص: 342.
إيران.. نظام وقيم (250)
الطرق الصوفية أغلبهم: (إننا لانرى لنا أي خلاف مع إخواننا المسلمين من أهل السنة، ونطمئنهم بأن جميع الفئات الاجتماعية في البلاد ستنال حقوقها، سواء أكانوا من السنة أو الشيعة؛ فليس هناك من فرق بين طوائف المسلمين في الحقوق السياسية أو الاجتماعية أو غيرها، إنني اهيب بجميع الإخوة والأخوات في جميع أنحاء البلاد ألايكترثوا إلى السموم التي تبثها تلك العناصر الفاسدة وأن يتوجهوا في الغد إلى مراكز الاقتراع، ويدلوا بأصواتهم لما يريدون) (1)
وفي خطاب آخر له، في المدرسة العلوية بطهران دعا فيه جميع الاثنيات الإيرانية إلى المساهمة في إعمار البلاد، وقد استهله بقوله: (نحن والمسلمون من أهل السنة جسم واحد، لأننا مسلمون وإخوة، وإذا قال أحد كلاما يبعث على الفرقة بين المسلمين؛ فاعلموا أنه إما أن يكون جاهلا أو أنه من أولئك الذين يريدون الوقيعة بين المسلمين، فليس هناك مسألة سنة وشيعة أبدا، الجميع إخوة) (2)
وعندما نجح بعض المغرضين في إثارة الفتن في بعض المناطق بعد انتصار الثورة الإسلامية، وخصوصا في منطقة الأكراد، راح الخميني يذكرهم بالأخوة التي تجمع بين السنة والشيعة، وقال في ندائه: (إلى اهالي كردستان المحترمين، علمنا بأن مجموعة تتحرك خلافاً للإسلام وتثير أعمال شغب في كردستان العزيزة، ولا تترك فرصة للمسلمين أن ينعموا براحة البال.. إن هذه المجموعة تنفذ هجمات على الجيش وتوجه الإهانات إلى منتسبيه بعد أن عاد إلى أحضان الشعب المسلم وتبعه في نهضته. إن مثل هذه الممارسات تناهض الإسلام ومصالح المسلمين.. وليعلم أهالي كردستان وسائر المناطق، بأن أي تعرض للجيش والجندرمة أمر مرفوض من قبلنا، كما أننا لانعتقد بوجود أي خلاف بيننا وبين إخواننا من أهل السنة فجميعنا
__________
(1) المرجع السابق، ج 6، ص: 342.
(2) المرجع السابق، ج 6، ص: 111.
إيران.. نظام وقيم (251)
شعب واحد ولنا قرآن واحد) (1)
وفي خطاب مفصل له مع بعض علماء أهل السنة، وفيهم الشيخ أحمد مفتي زاده وجمع من اهالي كردستان، راح الخميني يبسط لهم مسائل الخلاف بين السنة والشيعة، ويربطها بالأنظمة السياسية الجائرة، التي حاولت أن تثير الفتن بين مكونات المسلمين؛ فقال: (إن الاختلاف بين أتباع الطائفتين والمذهبين يعود في جذوره إلى صدر الإسلام، إذ سعى آنذاك الخلفاء الأمويون والعباسيون إلى إيجاد الفرقة والخلاف؛ فكانوا يعقدون المجالس لتكريس الاختلاف، ورويدا رويدا أدى هذا الاختلاف إلى ظهور حالة التنافس بين عوام السنة وعوام الشيعة، وإلا فلا عوام السنة عملوا ويعملون بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عوام الشيعة اتبعوا الأئمة الأطهار)
ثم بين مدى التعالي على الطائفية الذي مثله أئمة أهل البيت، والذين كانوا يعبرون عن الإسلام وحده، لا عن أي طائفة؛ فقال: (لقد سعى أئمتنا الأطهار إلى وضع الجميع في إطار المجتمع، فكانوا يصلون معهم، ويمشون خلف جنائزهم، ولكن الأمور اختلفت تدريجيا، وقام المتجبرون بمثل هذه الأعمال لإشغال الطائفتين ببعضهما كي يتسنى لهم أن يفعلوا ما يشاءون) (2)
ثم ذكر المؤامرات الشيطانية للمستعمرين، والتي طبقوها في إيران، كما طبقوها في سائر بلاد العالم الإسلامي لينشغل المسلمون بالصراع الداخلي عن مواجهتهم؛ فقال: (قبل ما يقرب من ثلاثمائة عام تم تنفيذ سياسة أجنبية في إيران وفي الشرق استهدفت في الغالب تحقيق مثل هذه الأمور.؛ فقد عكف خبراؤهم على دراسة الطائفتين وبعض الشخصيات ونفسيات الناس بالإضافة إلى جوانب القضايا المادية المتعلقة بنا، وحاولوا استغلالنا من طريقين: ماديا وكما
__________
(1) المرجع السابق، ج 6، ص: 305.
(2) المرجع السابق، ج 6، ص: 81.
إيران.. نظام وقيم (252)
ترون فقد استغلونا، ونفسياً من خلال التركيز على توسيع شقة الخلاف بيننا، وترون كيف أنه اذا تفوه أحد بكلمة واحدة؛ فإنهم يجعلونها نارا على علم، فينشرونها ويطبعونها، وهذا ليس من فعل شخص عادي، إنه عمل الحكومات والأجانب الذين يسعون إلى نشر ذلك وتوسيع نطاقه) (1)
ثم ذكر المشتركات الكثيرة التي تجمع بين السنة والشيعة، ودعا إلى التركيز عليها، وتهميش الخلافات الفرعية؛ فقال: (نحن معا كيان واحد غير قابل للتفكيك، والاختلاف بين المذهبين لا ينبغي أن يتحول إلى خلاف في أساس الإسلام، فالإسلام أسمى من أن يؤدي الاختلاف فيه إلى ظهور مسلك كذائي فيه.. إننا نرى الأخطار تهدد الإسلام، لذا علينا جميعا أن نتكاتف ونتجنب تلك الاشتباهات التي ارتكبت في الماضي، وأن نقطع الايدي التي تريد أن تفرقنا عن بعضنا) (2)
ثم دعا جميع المدارس السنية والشيعية إلى الدعوة إلى المشتركات للحيلولة دون تحقق المؤامرات الخارجية؛ فقال: (إنني آمل أن نتمكن من تجاوز هذه الفرقة بمساعيكم وجهودكم أنتم أيها العلماء في مناطقهم، وجهودنا نحن طلبة العلوم الدينية هنا) (3)
ولم ينس أن يذكر أن الخلافات الموجودة بين المدرستين يوجد مثلها بين كل مدرسة، ولذلك لو طبق ما يريده الأعداء؛ فسيتحول الصراع بين المدارس إلى الصراع بين كل مدرسة وأتباعها؛ يقول: (إن الاختلافات موجودة حتى بيننا نحن: كالاختلاف بين الإخباريين والمجتهدين، وهو باب من أبواب الاختلاف، والاختلاف بين الصوفية والمتشرعة، وأخيرا بين الأحزاب بعضها مع بعض، أو بين الجامعيين وطلبة العلوم الدينية، كل هذا موجود وهم
__________
(1) المرجع السابق، ج 6، ص: 81.
(2) المرجع السابق، ج 6، ص: 81.
(3) المرجع السابق، ج 6، ص: 81.
إيران.. نظام وقيم (253)
يسعون إلى تكريس تلك الاختلافات كي نبقى مشغولين بأنفسنا، وهم يقضون على ما لدينا من اعتبار، فهم ينهبون ثرواتنا على الصعيد المادي وما لدينا من معنويات على الصعيد المعنوي، إلا أن شعبنا قد استيقظ الآن، سواء في أوساطكم وذلك ببركة وجودكم أنتم، أو في أوساطنا ببركة وجود علماء الدين هنا) (1)
وهكذا نرى القائد الحالي للثورة الإسلامية، والولي الفقيه لإيران، السيد علي الخامنئي، يعتبر كل داعية للطائفية بين المسلمين عميلا للأعداء، وهو يذكر أن الإسلام للجميع، وحتى [السلفية] التي يدعيها المغرضون للجميع، يقول في خطبه صلاة الجمعة بطهران، بتاريخ 03/ 02/2012: (.. و[السلفية] إذا كانت تعني العودة إلى أصول القرآن والسنة والتمسك بالقيم الأصيلة ومكافحة الخرافات والانحرافات وإحياء الشريعة ورفض التغرّب فلتكونوا جميعًا سلفيين، وإذا كانت بمعنى التعصّب والتحجّر والعنف في العلاقة بين الأديان أو المذاهب الإسلامية فإنها لا تنسجم مع روح التجديد والسماحة والعقلانية التي هي من أركان الفكر والحضارة الإسلامية، بل ستكون داعية لرواج العلمانية والتخلّي عن الدين) (2)
ثم راح يحذر كعادته من الإسلام الذي يدعو إليه الغرب، فيقول: (كونوا متشائمين من الإسلام الذي تطلبه واشنطن ولندن وباريس، سواء من النوع العَلماني المتغرّب، أو من نوعه المتحجّر والعنيف. لا تثقوا بإسلام يتحمّل الكيان الصهيوني لكنه يواجه المذاهب الإسلامية الأخرى دونما رحمة، ويمدّ يد الصلح تجاه أمريكا والناتو لكنه يعمد في الداخل إلى إشعال الحروب القبلية والمذهبية. وراء هذا الإسلام من هم أشداء على المؤمنين رحماء بالكافرين.. كونوا متشائمين من الإسلام الأمريكي والبريطاني إذ أنه يدفعكم إلى شَرَك الرأسمالية الغربية
__________
(1) المرجع السابق، ج 6، ص: 82.
(2) انظر: وثائق الربيع العربي والصحوة الإسلامية، تحرير حسن الزين، ص 343.
إيران.. نظام وقيم (254)
والروح الاستهلاكية والانحطاط الأخلاقي) (1)
وهو يدعو في كل خطاباته إلى تجاوز كل ما يثير الفتنة والفرقة بين المسلمين، وقد عبر عن ذلك في فتاواه وخطبه، ومن ذلك قوله: (على المسلمين أن يجابهوا أيّ عامل من العوامل الناقضة والمضادة للوحدة؛ هذا واجب كبير علينا جميعاً؛ الشيعة يجب أن يقبلوا هذا، والسنة أيضاً يجب أن يقبلوه، وكذلك الفرق والشعب المتنوعة داخل الشيعة وأهل السنة يجب أن تتقبّل هذا الشيء) (2)
ومن ذلك فتواه الشهيرة بحرمة المساس بمقدسات المسلمين، وهي ليست مجرد فتوى، بل هي من الأصول التي نشأت عنها الفروع الفقهية الكثيرة، والتي تقطع كل الحجج التي يتشبث عادة دعاة الفتنة من سب الصحابة ولعنهم والتبري منهم؛ ففي سؤال حول معنى التبرّي، أجاب مقرر فتاواه: (التولي والتبرّي الذان يعدان أحياناً ضمن أصول الدين، ويعتبران في أحيان أخرى من فروع الدين، وكلا الرأيين صحيح، لهما جانب عقيدي وجانب عملي. من الناحية العقيدة هو أن نعتقد بولاية الأولياء الإلهيين ورسل الله والأئمة الأطهار، وأن نحبّهم ونحبّ أتباعهم ومواليهم، وهناك جانب عملي يتمثل في إطاعتهم، والتبرّي هو الحالة المعاكسة للتولي، بمعنى معاداة أعداء الله وأعداء أولياء الله، وعلى المكلفين أن يؤمنوا بهذين الأصلين من الناحية العقيدية ويتمسكوا بهما من الناحية العملية) (3)
وهذا من المتفق عليه بين المسلمين جميعا، وهو ما يسمى بالولاء والبراء، وقد قرره القرآن الكريم في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ
__________
(1) المرجع السابق، ص 344.
(2) وذلك في كله له بتاريخ 19/ 01/2014. تزامناً مع أيام أسبوع الوحدة الإسلامية.
(3) فتاوى الإمام الخامنئي فيما يخص أحكام أصحاب المذاهب والأديان الأخرى، مقرر الفتاوى، فلاح زاده - عضو مکتب استفتاءات سماحة آية الله العظمى السيد الخامنئي ورئيس مرکز علم مواضيع الأحکام الفقهية، موقع الخامنئي، بتاريخ: 12/ 12/ 2016.
إيران.. نظام وقيم (255)
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]
لكن الخلاف في كيفية تطبيق هذا الأمر الإلهي، وقد كان من الشيعة، وخاصة الإخباريين منهم من يلزم أتباعه بتسمية المتبرأ منهم، ولعنهم، وهو ما يثير الفتن، لكن تطبيق فتوى الخامنئي تتجاوز هذه المشكلة؛ فقد قال فيها مقررها: (وليس هناك لزوم بالنسبة للشخص الذي يريد التبرّي بأن يرفق تبرّيه هذا باللعن والشتائم وسوء القول، كان هناك الكثير من المسلمين منذ صدر الإسلام وإلى العصر الحاضر، ونموذجهم سماحة الإمام الخميني وسماحة قائد الثورة الإسلامية نفسه، هؤلاء كانوا طبعاً من أهل التولي والتبرّي بحق، لكنهم ليسوا من أهل السباب واللعن. إذن، بوسع الإنسان أن يكون صاحب تبرّي، من دون أن يوجّه الإهانات والسباب واللعن لمقدسات الآخرين. سماحة السيد القائد لا يعتبر توجيه الإهانات لمقدسات الآخرين جائزاً، بل يعتبره حراماً) (1)
وعن سؤال حول (تنافي حکم الوحدة مع التبرّي)، أجاب المقرر بقوله: (من المؤکد أن وحدة المسلمين لا تتنافى مع التبرّي، أي إن الأفراد بوسعهم معاداة أعداء الله وأعداء أولياء الله، ومجابهة الذين يحاربون المسلمين، ويکونوا في الوقت نفسه متحدين مع غيرهم من المسلمين، إذن وحدة المسلمين لا تتنافى إطلاقاً مع التبري من أعداء الله وأعداء أولياء الله، وکمثال على ذلك أن الإمام الخميني كان ولائياً ومتبرئاً من أعداء الله وأعداء أولياء الله، ولا يوجّه في الوقت نفسه الإهانات واللعن لمقدسات سائر المسلمين والأشخاص الذين يحترمونهم، وکان هناك
__________
(1) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (256)
الکثير من الأعاظم والأجلاء يدعون الناس إلى الوحدة ويتبرأون في الوقت ذاته من أعداء الله) (1)
وهو يوجب هذا الأمر بحكم على ولايته على المسلمين حتى على غير مقلديه، وقد جاء في تقرير الفتوى: (والوحدة بين المسلمين وتجنب التفرقة حالة واجبة، وإيجاد التفرقة والخلافات بين المسلمين لصالح الأعداء ولصالح الاستکبار العالمي والصهيونية الدولية أمر محرم، أما أنهم يجب أن يراعوا هذه الوحدة حتى لو لم يکونوا من مقلدي سماحة القائد فنعم يجب على الآخرين أيضاً أتباع هذه الأوامر حسب فتاوى کل مراجع التقليد الأجلاء الأعمال غير الواجبة علينا، حتى لو کانت مستحبة، إذا کان أداؤها يؤدي إلى استغلالها من قبل الأعداء ضد مذهب أهل البيت، وتؤدي إلى توجيه الإهانات لأتباع مذهب أهل البيت أو تؤدي إلى الخلاف بين المسلمين، فهي غير جائزة، ولا فرق في ذلك بين أن يکون الإنسان من مقلدي سماحة السيد القائد أو من مقلدي سائر المراجع، يجب عليهم مراعاة ذلك) (2)
وعن سؤال حول موقف الخامنئي من مراسم اللعن التي تقام في أيام خاصة في بعض المناطق، أجاب المقرر بقوله: (قال سماحة السيد القائد مراراً لا توجهوا الإهانات لمقدسات سائر المذاهب، إذن يجب اجتناب هذه الممارسات، والنقطة الجديرة بالملاحظة هي أن البعض يقولون: لا إشکال في أن نعلن في المجالس الخاصة، لكن سماحته لم يقيّد الأمر بأن يكون المجلس عاماً أو خاصاً، بل قال على نحو العموم: لا توجّهوا الإهانات لمقدسات سائر المسلمين، أي سائر الفرق الإسلامية، وقال سماحته في موضع من المواضع: (ذلك الشيعي الذي تدفعه جهالته وغفلته، أو المغرض أحياناً - ولدينا مثل هذه الحالات أيضاً ونعرف أفراداً من الشيعة مشكلتهم ليست مجرد الجهل، بل لديهم أوامر ومأموريات بزرع الخلافات - لتوجيه
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (257)
الإهانات لمقدسات أهل السنة، أقول: إن سلوك كلا الفريقين حرام شرعاً وبخلاف القانون)، إذن، توجيه الإهانات لمقدسات سائر المذاهب الإسلامية حرام شرعاً في رأي سماحة السيد القائد) (1)
وحول المجالس العلمية التي تعقد حول الخلاف في القضايا بين السنة والشيعة وعن الشروط المرتبطة بها حتى لا تصطدم بفتوى مراعاة المقدسات، أجاب بقوله: (إما أن يكون هناك نقاش علمي فهذا من آراء سماحة السيد القائد، وهو يوافقه. الأمور التي توجد حولها اختلافات علمية في وجهات النظر بين فرق المسلمين، وبين الشيعة والسنة، فليجتمعوا في جلسات واجتماعات علمية بشكل محترم وينقدوا آراء بعضهم، ولكن بشكل علمي وفي المحافل العلمية وبين أهل الفن والاختصاص، وأسلوب ذلك هو الجدل بالتي هي أحسن على حد تعبير القرآن الکريم. مثل هذا النقاش العلمي الذي لا يؤدي إلى الخلافات والنزاعات والتفرقة والفتن بين المسلمين لا إشكال فيه. الشيء الذي فيه إشكال وهو حرام إيجاد التفرقة بين المسلمين وبين المجتمعات الإسلامية) (2)
وقد ذكر نص فتوى الخامنئي في هذا المجال، وهي: (إذا أرادوا أن يناقشوا نقاشاً مذهبياً فلا إشكال في ذلك إطلاقاً. إنني أوافق النقاش المذهبي. إذا أرادوا إقامة نقاش علمي مذهبي بين العلماء وأصحاب الخبرة والاختصاص فليجتمعوا وليقوموا بذلك، ولكن لا على مرأى الناس وأمامهم، بل ليتناقشوا علمياً في جلسات علمية) (3)
والخامنئي في مناسبات كثيرة يعتبر المخالفين لهذه الفتاوى، والذين يصرون على إثارة الفتن، من أتباع [التشيع البريطاني]، ومثلهم من يضاهيهم من أهل السنة، الذين ينافسونهم في
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (258)
الشقاق والصراع، ويسميهم أتباع [التسنّن الأمريكي]، ذلك أنه يوجد (في المنطقة اليوم إرادتان متعارضتان: إحداهما إرادة الوحدة والأخرى إرادة التفرقة، إرادة الوحدة تختصّ بالمؤمنين، ونداء اتحاد المسلمين واجتماعهم يعلو من الحناجر المخلصة التي تدعو المسلمين إلى الاهتمام بقواسمهم المشتركة؛ فلو حدث هذا وتحققت الوحدة لما بقيت أوضاع المسلمين الراهنة على ما هي اليوم عليه، ولاكتسب المسلمون العز. ة. لاحظوا كيف أن المسلمين اليوم، من أقصى شرق آسيا في ميانمار إلى غرب أفريقيا في نيجيريا وأمثالها، وفي كل مكان، يُقتلون؛ في بعض الأماكن على يد البوذيّين، وفي أماكن أخرى على يد بوكوحرام وداعش ومن شاكلهم. وهناك من يصبّ الزيت على هذه النيران؛ التشيّع البريطاني والتسنّن الأمريكي متشابهان، وهما شفرتان لمقصّ واحد، حيث يسعيان لتنازع المسلمين وتقاتلهم. هذه هي رسالة إرادة الفُرقة التي هي إرادة شيطانية؛ لكن نداء الوحدة يدعو إلى تجاوز هذه الاختلافات، والاصطفاف معًا والتعاون بين المسلمين كافة) (1)
2 ـ الموقف العملي من الاختلاف المذهبي
لم تكن تلك الكلمات التي أرسلها قادة الثورة الإسلامية وفقهاؤها حول احترام جميع المذاهب الإسلامية، واعتبارها وأهلها جزءا أصيلا من الأمة الإسلامية، مجرد كلمات لا معنى لها، بل كانت كلمات ذات معنى، ودلالتها تحققت في الواقع بأجمل صورها التي لا نجد مثلها للأسف في واقع المدارس السنية نفسها.
وكمثال على ذلك؛ فإن إيران تتواجد فيها ـ مثل جميع الدول الإسلامية ـ الكثير من الطرق الصوفية، وفيها الكثير من الأضرحة المرتبطة بهم، ذلك أنها كانت مهدا للتصوف في جميع مراحل تاريخها، ومع ذلك لم نسمع أن ضريحا فُجر، أو أن شيخا من مشايخ الصوفية أوذي، أو ذبح، مثلما يحصل في الواقع السني، بل نجدهم على عكس ذلك يؤدون أورادهم،
__________
(1) من خطاب ألقاه الخامنئي بمناسبة ولادة الرسول الأكرم (، بتاريخ 17/ 12/2016، موقع الخامنئي.
إيران.. نظام وقيم (259)
ويقيمون مجامعهم بحرية لا يجدون لها مثيلا في كل الدول الإسلامية التي ينتشر فيها العنف والتطرف.
وهكذا نجد في المناطق السنية في إيران المدارس الفقهية، وبجنبها المدارس العقدية، التي لا تزال تؤدي دورها كما أدته في سائر مراحل التاريخ، ولم يفرض عليها أحد أن تترك تدريس مذاهبها، أو أن تتركها لتلتزم غيرها، ولم يرمها أحد بالبدعة مثلما يفعل المتطرفون عندنا، والذين يرمون الزوايا والأزهر والقرويين والزيتونة بكونها مدارس بدعة.
وسر ذلك الأمن الذي تعيشه تلك المناطق هو تشدد النظام الإيراني مع المتطرفين، الذين يحتكرون لقب [السنة] لهم؛ فلذلك يُمنعون من انفرادهم بمساجد خاصة بهم، حتى لا تصبح تلك المساجد مساجد ضرار، وهذا ما يفسر موقف السلطات الإيرانية من مسجد طهران الذي أغلق بسبب تحوله إلى مسجد ضرار، يجتمع فيه السلفيون، مثلما يجتمعون في المساجد الخاصة بهم في بلادنا ليثيروا الفتن.
وذلك التصرف الذي أثار ضجة كبيرة من المغرضين مبني على حكم الفقهي مرتبط بأمثال هذه المساجد عند جميع المدارس الإسلامية، وهو غلقها أو منعها أو هدمها، ائتمارا بما ورد في القرآن الكريم عن مسجد الضرار، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 107، 108]
وورد في الكثير من المصادر السنية ما يبين كيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا النوع من المساجد؛ فقد جمع الحافظ ابن كثير في تفسير الآيتين السابقتين الروايات الكثيرة في ذل؛، فقال: (سبب نزول هذه الآيات الكريمات: أنه كان بالمدينة قبل مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهبُ.. فلما قَدم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم مهاجرًا إلى المدينة، واجتمع
إيران.. نظام وقيم (260)
المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شَرِق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارًّا إلى كفار مكة من مشركي قريش، فألَّبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ورأى أمرَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ارتفاع وظهور، فذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوعده ومَنَّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويُمنَّيهم أنه سيقدمُ بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له مَعقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كُتُبه، ويكونَ مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته عليه السلام فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: (إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله)، فلما قفل عليه السلام راجعًا إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضِّرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك المسجد من هَدَمه قبل مقدمه المدينة) (1)
هذا ما ذكره ابن كثير، وما ذكره قبله وبعده الكثير من العلماء الذين اعترفوا بصحة هذه القصة، وقد تعمدنا ذكرنا هنا لنبين أن المساجد ليست ببنائها، وإنما بالتقوى والإيمان الذي وجد فيها؛ فإذا تحول المساجد إلى أداة للفتنة، فإنه لا خير فيه، بل إن دور الملاهي والفجور حينها تكون أفضل منه.
لهذا، فإن الصور التي يبثها البعض حول مسجد مهدوم في إيران، نجد مثلها في كل بلاد المسلمين؛ فلا يمكن لأي دولة تحترم نفسها أن تغض الطرف عن دعاة الفتن والتحريض
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 211)
إيران.. نظام وقيم (261)
الطائفي دون أن تقطع دابرهم، أو تصد فتنتهم، حتى لو اتخذوا المساجد ملاجئ لهم، مثلما فعل أولئك المنافقون الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهدم مسجدهم، وجعل ذلك سنة يتولاها كل حاكم صالح بعده، حتى لا يُتخذ الدين، وشعائر الله محال للفتنة.
ولذلك؛ فإن الذين يصيحون بأن إيران تمنع مساجد السنة محقون في ذلك إن قصدوا مثل تلك المساجد التي لا تمت للسنة بصلة، وإنما هي مساجد فتنة، وأما غيرها من المساجد التي يجتمع فيها عامة المسلمين يحترم بعضهم بعضا؛ فلا أحد يمنع ذلك.
وفوق ذلك كله نرى المساجد في إيران لا تمنع مرتادا لها سواء كان من السنة أو الشيعة؛ فالمساجد لله، ومتى أدركت المصلي الصلاة صلى من غير أن يسأل: هل هذه مساجد سنة، أم مساجد شيعة؟
وقد ورد في الشهادات الكثيرة المتواترة ما يدل على هذا، وسننقل هنا بعضها، ولمن شاء أن يتورع في الحكم على ما نقول لا ينبغي أن يبت بشيء، لا سلبا ولا إيجابا، بل عليه قبل أن يفعل ذلك أن يذهب إلى إيران، وإلى المناطق التي يتواجد فيها السنة، ليستعلم حقيقة الأمر.
وأول الشهادات، هو ما ذكرته وكالات الأنباء؛ فقد أفادت [وكالة مهر للأنباء] أنه عقب انتشار شائعة عدم وجود مسجد لأهل السنة بطهران، وهدم مسجد ومصلى لأهل السنة في العاصمة، أوضح مركز متابعة شؤون المساجد بأنه يوجد 9 مساجد لأهل السنة في طهران (1)، وقال: (ان هدم مركز باسم مصلى كان بسبب نقض القانون وتغيير استخدامه، وأن
__________
(1) هذه محال مساجد لأهل السنة في طهران لمن يريد أن يتأكد:
1 - مسجد صادقية، الكائن في الساحة الثانية بحي الصادقية
2 - مسجد طهران بارس، الكائن في شارع دلاوران
3 - مسجد مدينة قدس، الواقع في الكيلومتر 20 على طريق كرج القديم
4 - مسجد الخليج الفارسي الواقع في طريق فتح السريع
5 - مسجد النبي، الكائن في حي دانش
6 - مسجد هفت جوب، الواقع في طريق ملارد
7 - مسجد وحيدية، الكائن في شهريار
8 - مسجد نسيم شهر، الكائن في حي اكبرآباد
9 - مسجد رضي آباد، الواقع في مفترق طرق شهريار.
إيران.. نظام وقيم (262)
هذا المركز كان يعمل لترويج بعض الأفكار المتطرفة، وحسب عقيدة الناشطين الدينيين، فإن المسجد يطلق على مكان العبادة الذي تقام فيه الصلوات، ويكون مركزا لمراجعة جميع الاشخاص، فالمسجد بيت الله وهو مكان العبادة، وإطلاق تسمية مسجد الشيعة أو مسجد السنة هي تسمية خاطئة، لأن الشيعة يصلون في مساجد السنة، وكذلك أهل السنة يصلون في مساجد الشيعة، لذا فان نشر الشائعات وتلفيق الاخبار، يؤدي إلى الخلافات المذهبية) (1)
كما ذكرت الوكاله أنه (يوجد لأهل السنة في إيران اكثر من 15 ألف مسجد، وهي أكثر من مساجد الشيعة، وعلى هذا الأساس يجب الالتفات إلى أن تخريب مركز متطرف جاء بعد عدة إنذارات وجهتها بلدية طهران إلى هؤلاء الاشخاص الذين ارتكبوا المخالفة القانونية، ففي العام الماضي تم اغلاق هذا المصلى الكائن في منطقة بونك من قبل المراجع القانونية، بسبب نقض القوانين وتحوله إلى مركز للأجانب، وبالرغم من توجيه إنذارات العام الماضي فإن هذا المصلى عاود نشاطه غير القانوني حيث تم تخريبه بحكم قضائي، فالمصلى المذكور تشكل من عدد من الوحدات السكنية حيث تم تأجيره من قبل بعض الاشخاص على أنها مكان سكني، ثم تم تغيير استخدامه وتحول إلى مصلى، وأن هؤلاء كانوا يبغون من وراء ذلك ترويج بعض الافكار المتطرفة، وفي السنوات الماضية قامت الأجهزة المعنية باغلاق أو هدم بعض الاماكن الدينية حسب الظاهر ولكنها في الحقيقة متطرفة، وكان من بينها حسينية في مدينة قم) (2)
__________
(1) انظر: مركز متابعة شؤون المساجد: اهل السنة لديهم 9 مساجد في طهران واكثر من 15 الف مسجد في إيران، وكالة مهر للانباء، 5 أغسطس 2015 - 18:59..
(2) المرجع السابق.
إيران.. نظام وقيم (263)
وهذا ما يذكرنا بما وقع في الجزائر أيام الفتنة، حيث كانت المساجد للأسف مراكز لها، مما اضطر السلطات إلى هدمها، ومثله يحصل في جميع البلاد الإسلامية، فلا يمكن لأي دولة تحترم نفسها أن تغض الطرف عمن يهدد السلم العام.
وورد في خبر آخر ذكره موقع تابناك الاخباري الإيراني نقلا عن محمد صادق عرب نيا ـ مدير هيئة التخطيط للمدارس الدينية السنية في إيران ـ أن هناك ما يقارب 13000 مسجدا لأهل السنة في إيران، و13000 رجل دين سني يقومون بإقامة الفرائض في هذه المساجد.
وذكر أن المقارنة البسيطة بين عدد مساجد السنة والشيعة في إيران تظهر أن هناك مسجدا واحد لكل 2500 مواطن شيعي، وبالمقابل مسجد واحد لكل 500 مواطن سني.
وذكر أن الدستور الإيراني لا ينظر إلي أهل السنة كأقلية دينية لأنهم مسلمون، وبلدنا إسلامي، والمسلمون هم الأكثرية في هذا البلد، وهناك محافظات في البلاد أغلبيتها شيعة، لكن أهل السنة هم الأكثرية في مجالسها البلدية، لأن الترشيح والانتخابات لا تتم على أسس طائفية (1).
قد لا يقبل البعض هذه الأخبار بحجة كونها من وكالات أنباء إيرانية، مع أنهم للأسف يقبلون من وكالات الأنباء الفرنسية والأمريكية والبريطانية بل حتى من الإسرائيلية، ولكن إيران عندهم دائما كاذبة، وكل ما تفعله خذاع، ولهذا سننقل شهادات من جهات أخرى ربما تكون صادقة عندهم.
وأولها تلك الرسالة التي أرسلها جمع من علماء أهل السنة في إيران إلى مفتي مصر الأعلى الشيخ شوقي علام ردا على الشبهات التي أثيرت بشأن أوضاع أهل السنة في إيران؛ فقد اعتبرت هذه الشخصيات البارزة من السنة الإيرانيين أن تلك الشبهات تنجم عن عدم الإحاطة بحقائق الأمر وأحوال أهل السنة في إيران، تأثرا بما تعكسه وسائل الإعلام المعادية
__________
(1) مقارنة بين مساجد السنة والشيعة في إيران، موقع تحرير، انشأ بتاريخ: 28 تشرين 2/نوفمبر 2016..
إيران.. نظام وقيم (264)
للجمهورية الإسلامية في إيران.
وهذا نص الرسالة، والتي ذكروا في آخرها أسماء مرسليها (1): (بعد أطيب التحيات، نحن علماء أهل السنة في إيران نفتخر بالأزهر الشريف ونعتز بدار إفتاء الديار المصرية وذلک لما شاهدنا من المواقف الحکيمة والمعتدلة لها حول الحوادث المتعددة التي وقعت في مصر وسائر بلاد العالم الإسلامي حيث نتابع البيانات الصادرة منهما إلي الآن، کما نري من واجبنا تقديم الشکر لکم علي إصدار البيان حول إدانة الهجوم الإرهابي الذي ارتکبه التکفير الداعشي المجرم في مجلس الشوري الإسلامي ومرقد الإمام الخميني في طهران)
ثم ذكروا ما فعله المتطرفون بهم، والذين لا يفرقون في هجماتهم بين السنة والشيعة، فكتوا: (طيلة سنوات ونحن نعاني من الفکر التکفيري والذي يستهدف بالتفجيرات والعمليات الإرهابية السنة والشيعة معا، فإن هولاء المجرمين التکفيريين اغتالوا کثيرا من
__________
(1) وهذه أسماؤهم لمن شاء الاتصال بهم للتأكد:
-المولوي الدکتور نذير أحمد سلامي؛ ممثل اهل السنة في محافظة سيستان وبلوتشستان
-الماموستا فايق رستمي؛ ممثل محافظة کردستان في مجلس خبراء القيادة
-الماموستا عبدالرحمن خدايي؛ الممثل السابق لمحافظة کردستان في مجلس خبراء القيادة وامام الجمعة لأهل السنة في سنندج.
-الشيخ قربان محمد اونق؛ عضو مجلس التخطيط لمدارس العلوم الدينية لأهل السنة والعضو البارز في الهيئة الفقهية لأهل السنة في شمال ايران.
-المولوي الدکتوراسحاق مدني؛ المستشار السابق للرئيس الايراني لشوءون أهل السنة.
-الماموستا ملا قادر قادري؛ عضو مجلس التخطيط لمدارس العلوم الدينية لأهل السنة وامام الجمعة لأهل السنة في مدينة باوة.
-المولوي الدکتورعبدالرحمن سربازي؛ عضو مجلس التخطيط لمدارس العلوم الدينية لأهل السنة وامام الجمعة في مدينة تشابهار.
-الشيخ خليل افرا؛ عضو مجلس التخطيط لمدارس العلوم الدينية لأهل السنة ورئيس هيئة الافتاء وعلماء السنة في محافظة بوشهر.
-المولوي شرف الدين جامي الاحمدي؛ عضو مجلس التخطيط لمدارس العلوم الدينية لأهل السنة وامام الجمعة تربت جام.
المصدر: وكالة مهر للأنباء.
إيران.. نظام وقيم (265)
علماءنا في ايران والذي کان منهم سماحة المفتي الکبير لأهل السنة الشوافع في محافظة کردستان الشيخ الشهيد محمد شيخ الإسلام وزميله الشيخ الشهيد برهان عالي إمام جمعة الشافعية)
ثم راحوا يفندون ما أورده المفتي المصري من دون علم عن أوضاع أهل السنة في إيران، فكتبوا يقولون: (ولکن ما يؤسفنا هو أننا نري أن البيان الصادر عن دارالإفتاء حول الهجمات الإرهابية في طهران يحمل معلومات خاطئة خاصة حول أوضاع أهل السنة في ايران، والذي هو غير موافق للواقع، وبالطبع لم يکن ذلک إلا عن الشفقة علينا، ولکن من الواضح والجلي أننا أهل السنة في وطننا إيران أعرف وأدري بأحوالنا ممن يعيش في الخارج وليس له معلومات صحيحة إلا عبر الأخبار الظنية والدعايات الإعلامية المفبرکة وأن {الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] وإذا أساء مسلم بأخيه ظنا غيرواقع ربما يصير مصداقا له {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12])
ثم راحوا يضربون له بعض الأمثلة على الأخطاء التي وقع فيها المفتي وغيره ممن يتحدثون عن أهل السنة في إيران؛ فقالوا: (فعلي سبيل المثال منطقة الأهواز محافظة يسکنها العرب الشيعة في ايران [وسكانها ليسوا سنة]، وهذا يدل علي أن المصدر الذي يرسل إليکم المعلومات حول ايران وأهل السنّة هو بعيد کل البعد عن المعلومات الصحيحة حيث يزودکم بمعلومات خاطئة أو مفبرکة وفي نفس الوقت يتجاهل محافظة کردستان التي تعتبر العمود الفقري لأهل السنة في ايران)
ثم راحوا يذكرون له الأوضاع الحقيقة لأهل السنة في إيران؛ فقالوا: (نحن أهل السنة في ايران يصل عديدنا إلي عدة ملايين نسمة نسکن في محافظات متعددة، ويوجد عندنا أکثر من 16000 مسجد، وعدد طلابنا في المدارس الدينية يتجاوز 12000 طالبا، حيث يدرس جميعهم فقه أهل السنة والجماعة من الشافعية والحنفية، وهذا العدد من المساجد والمدارس والطلاب ارتفع إلي عشرة أضعاف بالنسبة إلي ما کنا عليه قبل إنتصار الثورة الإسلامية بقيادة
إيران.. نظام وقيم (266)
الإمام الخميني، ولاريب أن کل ذلک لم يتيسر إن لم يکن الدعم من حکومة الجمهورية الإسلامية)
ثم ذكروا له الحقوق السياسية التي يتمتعون بها؛ فقالوا: (نحن أهل السنة نتمتع بکامل الحرية في ترشيح النواب للبرلمان، وکذلک مجلس الخبراء لاختيار ولي الفقيه، حيث لنا الآن أکثر من 20 نائبا في البرلمان، وکذلک القضاة في محاکم المحافظات التي نسکن فيها نحن الغالبية السنية هم من علمائنا يقضون بيننا بالفقه الشافعي أو الحنفي)
ثم ختموا رسالتهم بدعوته إلى الإنصاف والتحري قبل إطلاق الفتاوى والبيانات، وألا يعتمد الإعلام المضلل، فقالوا: (هذا نموذج من مواقف رؤساء الجمهورية الإسلامية قبال مواطنيهم من أهل السنة؛ فهل من الإنصاف أن نصف هذا العمل بالظلم!؟ وهل تتوقعون من العالم الحکيم المعتدل أن ينسب الظلم إلي الحکام في نظامنا الإسلامي الإيراني، وينشر ذلک في الجرائد والعالم فقط بناء علي ما سمعه في الإعلام!؟)
وفي آخر الرسالة دعوه لزيارتهم، وزيارة المناطق السنية ليتأكد بنفسه؛ فقالوا: (في نهاية المطاف ندعوا سماحتکم باسم علماء السنة والجماعة في الجمهورية الإسلامية الايرانية لتشرفونا، أو من يمثلکم بالزيارة إلي إيران للإطلاع بصورة مباشرة علي مدي الحرية الدينية والإجتماعية والثقافية التي نتمتع بها السنة في وطننا إيران)
ونفس هذه الخاتمة نقولها لكل من يدعي الورع والتقوى بأن يذهب إلى المناطق السنية في إيران، وهناك يعاين الوضع بنفسه، وحينها يحكم بما يشاء.
ومن الشهادات المرتبطة بهذا شهادة رئيس هيئة علماء السُنة في إيران الشيخ عبدالرزاق البخاري، فقد أوردت الصحف المختلفة هذا الخبر: (نفى رئيس هيئة العلماء السُنة في إيران الشيخ عبد الرزاق البخاري (1) أن يكون السنة في إيران مضطهدين، مؤكداً بانهم يعيشون جنباً
__________
(1) الشيخ عبد الرزاق البخاري: مفتي وخطيب الجامع، وعضو المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، ورئيس الجالية الشرعية العرفانية لأهل السُنة والجماعة..
إيران.. نظام وقيم (267)
إلى جنب مع الشيعة في ظل من العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات.. وأن لديهم مراكز دينية وحوزات علمية مناهجها تطابق المناهج الدراسية في الأزهر الشريف والمدينة المنورة وسورية، وأبدى البخاري استياءه في لقاء مع (الوطن) خلال مشاركته في (ملتقى الإخوة الإسلامية الثالث)، من الاشاعات التي تطلق جزافاً دون التحقق من بعض ما يدور في الساحة مطالباً بالتحقيق والتدقيق، مشيراً إلى أن السُنة والشيعة يعيشون تحت راية التوحيد والشهادتين والإخوة في الإسلام، حيث أن الحكومة الإيرانية بعد الثورة الإسلامية استطاعت التأليف بين المسلمين وإذابة المشاكل التي كانت فترة الشاه)
وعن سؤال حول وضع المسلمين سنة وشيعة بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، أجاب بقوله: (هناك الكثير من الايجابيات بعد انتصار الثورة الإسلامية، فقد ذابت الخلافات التي كانت بين السُنة والشيعة خلال حكم الشاه، ولكن بعد انتصار الثورة الإسلامية أعلن السيد الخميني في كافة الصحف بأن المسلمين سُنة وشيعة جميعهم إخوة متساوون في الحقوق والواجبات، ومنع اهانة البعض معتبراً ان من يقوم بهذا العمل ليس سنيا ولا شيعيا، حيث أن الأمة الإسلامية تجتمع على كلمة التوحيد والشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وأن من دخل الإسلام ونطق الشهادتين فقد عصم نفسه وعرضه وماله وجميعهم إخوة في الإسلام ويجب عليهم التآلف والمحبة وفقاً لما جاء في القرآن الكريم وكذلك الاحاديث النبوية الشريفة)
ثم ذكر كثرة المشتركات التي تجمع جميع المسلمين سنتهم وشيعتهم؛ فقال: (والجميع يدرك بأن هناك اختلافاً في المذهب السني وبين المذاهب الاربعة، ولكن نلتقي ونجتمع على كلمة التوحيد والعقيدة الواحدة، كما أن الجميع يؤدون العبادات والفرائض، وهذا ما هو موجود بين السنُة والشيعة، والمعروف أن الاختلافات الفرعية الاجتهادية لا تدخل ضمن الخلافات والنزاع بين الإخوة المسلمين السنة والشيعة، ويمكن الوصول لحل هذه الخلافات
إيران.. نظام وقيم (268)
الفرعية عن طريق الحوار والمناقشة وإبداء الرأي، ولكن المهم ان الجميع متفقون على المحور الاساسي ألا وهو كلمة التوحيد)
ودعا في الأخير إلى الموضوعية والأناة والبعد عن التعصب؛ فقال: (أناشد الإخوة في الإسلام الابتعاد عن التعصب والتحجر في الرأي، وأجزم بأن هذه الخلافات أو من يقوم بها تأتي عن طريق الجهل، لأن العقلاء ملتزمون بالأخوة الإسلامية، كما جاء في القرآن الكريم {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52]، إذا الاساس هو التقوى والعبادة وليس السُنة أو الشيعة، فالمنزلة عن طريق التقوى كما قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، لذا الأساس هو التقوى حيث أنه لا فرق بين عربي أو أعجمي، ولا أسود ولا أبيض الا بالتقوى، ولذلك وبرغم كون الحكومة الإيرانية شيعية إلا أن الجميع سواسية أمام القانون؛ فالسنة والشيعة جميعهم إخوان في الدين والوطنية)
ومع صدق هذه الشهادة وأمثالها كثير، نجد المغرضين يتفلتون منها، ويحتجون بأن النظام الإيراني استطاع أن يخدع علماء إيران، وأن يشتري ذممهم، وهكذا لا ينجو النظام الإيراني مهما فعل، مع العلم أن شهادة الشيخ عبد الرزاق البخاري التي ذكرنا بعضها أدلى بها في الكويت، ومن غير أن يغصبه أحد عليها.
هذا بالنسبة لشهادات علماء الدين من المدرسة السنية في إيران، أما شهادات السياسيين، فكثيرة نذكر منها شهادة رئيس تكتل أهل السنة في مجلس الشورى الإيراني (1)، والذي صرح في حوار أجري معه أنه (أن الجماعات التكفيرية، التي باتت أداة رئيسية في الحرب التي تشهدها المنطقة، لا يربطها أي علاقة بأهل السنة) (2)
__________
(1) هو د. عابد فتاحي، طبيب عيون، ورئيس لتکتل أهل السنة في مجلس الشورى الإسلامي الإيراني. ممثل مدينة أرومية، مركز محافظة أذربيجان الغربية، في المجلس..
(2) رئيس تكتل أهل السنة في إيران: لا علاقة للتكفيريين بالسنة ولم نختلف مع الشيعة يوماً، موقع المنار، 04 - 06 - 2015.
إيران.. نظام وقيم (269)
وذكر في تصريحه الذي أدلى به في لبنان عن أوضاع أهل السنة في إيران؛ فقال: (نحن أهل السنة في ايران لدينا رؤية مشتركة عن الإسلام مع إخواننا الشيعة، ولا نشعر بفرق كبير بيننا، هناك 31 محافظة في ايران، ونري في جميع هذه المحافظات انتشاراً لأهل السنة حتي في بعض المحافظات كمحافظة (سيستان وبلوشستان) أو محافظة (آذربيجان) أو (غلستان) أو محافظة (فارس) أو حتي في محافظة (خراسان) عدد أهل السنة يفوق عدد إخواننا الشيعة، ولم نشهد طوال التاريخ حتي اليوم أي خلافات بين السنة والشيعة، لأننا نلتزم بشعار ومنهج وفكر مفاده أنه لو قلنا إن الشيعة تعني الحب لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنحن جميعنا شيعة، ولو قلنا إن السنة تعني العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجميعنا من أتباع السنة، نحن نري أن الخلاف بين السنة والشيعة يسبب في إضعاف الإسلام برمته)
ثم ذكر مدى التسامح والفكر الوحدوي لدى الشيعة في إيران مقابل التشدد الذي يبديه الكثير من أهل السنة؛ فقال: (قبل عدة أسابيع حدثت عدة تفجيرات في السعودية وباكستان وأفغانستان والعراق، راح ضحيتها عدد من إخواننا الشيعة الذين كانوا مجتمعين في المساجد من أجل الصلاة، وهذه العمليات الانتحارية لم تؤد إلي ردود فعل من قبل إخواننا الشيعة داخل ايران ضد أهل السنة. نحن نعتبر أنفسنا ايرانيين أولاً قبل أن ننقسم الي قوميات ومذاهب)
وذكر الحقوق السياسية لأهل السنة في إيران؛ فقال: (لأهل السنة ممثلون في المجلس الشوري الإسلامي، وبحسب الدستور، يصل عدد نواب السنة في مجلس الشوري اليوم إلى عشرين نائبا من أصل 290، وهؤلاء يشكلون تكتل أهل السنة في المجلس، نحن في ايران حاولنا أن نتجاوز الأمور السطحية وابتعدنا عن الدخول في التفاصيل التي لا جدوي من الدخول فيها، بالوحدة نستطيع أن نصل إلى الانتصارات الكبيرة)
وعن سؤال حول الجماعات التكفيرية، وعلاقتها بأهل السنة، قال: (الجماعات التكفيرية
إيران.. نظام وقيم (270)
كداعش وما شابه لا يربطها أي علاقة بأهل السنة، فليس في قلوب هؤلاء أي مودة أو شفقة تجاه أهل السنة. قتلوا المئات بل الآلاف وارتكبوا مجازر في مناطق تواجد أهل السنة في سوريا، في الموصل، في الأنبار، في صلاح الدين. في اقليم كردستان العراق. انتهكوا حرمات المسلمين السنة، اقدموا على بيع البنات الكرديات في الأسواق. من هم الأكراد؟ أليسوا من السنة ويتبعون المذهب الشافعي؟ قابلت بعض الذين قدموا من إقليم كردستان، وسألتهم من هؤلاء الداعشيون وماذا يريدون؟ قالوا لي إنهم جماعة يختصرون الإسلام بصرخة [الله أكبر]، ولا يعرفون شيئاً آخر عن الدين غير ذلك. أيّ دفاع عن أهل السنة هذا؟ هؤلاء أهرقوا ماء وجه أهل السنة.. علينا أن نسأل انفسنا من أين يأتي السلاح والتجهيزات لهؤلاء؟ لماذا يريدون بث الفتنة في بلاد المسلمين ويتركون الغرب وأعداء الإسلام؟ أعتقد لأن الغرب مركز القيادة لهذه الجماعات)
وفي الأخير ننقل شهادة من عالم من علماء السنة خارج إيران، زار إيران، والمناطق السنية فيها بالتحديد، وأدلى بشهادته في ذلك، وهو الناطق الرسمي لمجلس علماء فلسطين في لبنان الشيخ محمد الموعد (1)، ومما ذكره في شهادته التي أدلى بها لموقع العهد الإخباري أن (النظام الإسلامي في إيران لم يحفظ خصوصية الأديان الاخرى فحسب (مسيحية، يهودية، زرادشت..)، بل حفظ اوضاع وخصوصية اصحاب المذاهب الإسلامية الاخرى، والذين يمارسون طقوسهم الدينية بكل حرية وأريحية، ولهم أيضا أحوال شخصية ومدنية خاصة بهم، ولهم تعاليمهم، ومدارسهم الدينية الخاصة حسب دياناتهم. ومن هؤلاء أهل السنة والجماعة، الذين يمارسون عبادتهم الدينية حسب فقههم (المذهب الحنفي، والشافعي..) بكل حرية في إيران، ولديهم أكثر من 15000 مسجد، منها 9 في العاصمة طهران، أكبر مسجد في إيران موجود في مناطق السنة،، الذي زار إيران مؤخرا يشير إلى انهم يتبعون مدارسهم الدينية
__________
(1) ما لا تعرفونه عن الحريات الدينية في ايران؟!، علي عوباني، موقع العهد، 10/ 02/2016.
إيران.. نظام وقيم (271)
وشؤون احوالهم الشخصية الخاصة (كالزواج والطلاق وغيره..) بحسب فقههم، ولهم مفتون في مناطقهم، ويتقاضون أمام محاكمهم الشرعية الخاصة التي تتمتع باستقلالية كاملة في مناطقهم.. ولهم حقوق كاملة بوظائف الدولة والتمثيل على المستوى الحكومي، والنيابي، ولديهم ممثلون في مجلس الخبراء الذي يختار القائد وفي جميع المجالس الأخرى، وأبعد من ذلك ليس هناك فقط نواب يمثلون المحافظات التي يتواجدون فيها، بل هناك نواب من أهل السنة ببعض المحافظات يمثلون المسلمين (سنة وشيعة..) وهناك سفراء ودبلوماسيون ومحافظون للمدن الإيرانية من أهل السنة)
وأكثر ما يلفت الشيخ الموعد، في حديثه لموقع العهد الاخباري، أن المعاهد الشرعية السنية موجودة في إيران بالمئات، وانها مدعومة مباشرة من قبل القائد، ولها ميزانية خاصة من الدولة، ما يدفعه للاشارة إلى ان ذلك يبرز مدى اهتمام الجمهورية بكل أبناء الدولة، واصفا هذا الامر بأنه بمنتهى الحضارة والتقدم الفكري، أن يتم تشجيع العلم واعطاء رواتب لطلاب العلم في المعاهد الشرعية السنية لاستكمال دراستهم المجانية بالكامل، ودراسة المذهب السني.
وذكر الشيخ الموعد الجامعات الكبرى في إيران كجامعة الحديث، وجامعة المصطفى التي تدرس المذهب السني، وأشهار إلى أن عدد الطلبة الذين يدرسون فيها مهول، كما أن هناك قسمًا خاصًا بالمكتبة يحوي آلاف الكتب السنية، ما يؤكد على مدى حرية الاعتقاد والبحث، فضلا عن أن عدد الذين تخرجوا من جامعة المصطفى وحدها يزيد عن 7000 طالب وهم درسوا على مذاهبهم (حنفي، شافعي..)، ليخلص إلى ان كل ذلك يعتبر بمثابة تكريس للوحدة بكل معانيها، وأن الحرية الدينية الموجودة في إيران ملموسة وليس دعاية وهي تعطي الناس كامل حقوقها، بينما هناك اشاعات تطمس هذه الحقائق.
وهكذا نجد الشهادات الكثيرة من أعلام السنة، بل من أعلام الحركات الإسلامية، ولكنهم للأسف، وبمجرد أن يدلون بشهاداتهم يصنفون ضمن الشيعة، وتسقط عدالتهم، لأنه
إيران.. نظام وقيم (272)
لا يمكن لأحد يشهد بشهادة حق عن إيران إلا ويرمى بكل أصناف التهم.
ومن أمثلة ذلك ما حصل للدكتور كمال الهلباوى، والذي كان قياديا بارزا في حركة الإخوان المسلمين، وكان يستضاف في كل القنوات ليدافع عنهم، لكنه بمجرد أن زار إيران، وشهد بحقيقة ما رأى فيها، أسقط، وصار متهما.
ففي مقال بعنوان [هجوم سلفى على (الهلباوى) بعد زيارته إيران] (1) ورد هذا الخبر: (كشف علاء السعيد، المتحدث باسم ائتلاف الدفاع عن الصحب وآل البيت، عن تفاصيل زيارة الدكتور كمال الهلباوى القيادى الإخوانى السابق، لإيران، الأسبوع الماضى، وقال السعيد لـ (الوطن): (الزيارة تمت خلال مؤتمر الوحدة الإسلامية، وشهدت تكريم الهلباوى لمجهوداته السابقة فى التقريب بين الشيعة والسنة، وهناك صور له أثناء تكريمه، وهى ليست الأولى، فكان له العديد من الزيارات السابقة لأنه شيعى، حيث يرى أن الشيعة مذهب من مذاهب أهل السنة، وصرح بأنه ضد تنفيذ حكم الإعدام على نمر باقر النمر، رجل الدين الشيعى فى السعودية، مع أن الأمر شأن داخلى، وحسب الأعراف والقوانين الدولية، لا يحق لأحد التدخل فى السياسة الداخلية للدول.. وهو قد باع نفسه للشيعة وإيران.. وهو يسعى ليكون فى الصورة والمشهد كى لا يفقد الدعم الإيرانى، وأنا أسأله: بكم باع نفسه للشيعة؟)
وهي نفس العبارات التي تردد مع كل عالم ينصف إيران، أو ينصف الشيعة، أو يدعو إلى الوحدة الإسلامية، وهو ما يذكرنا للأسف بما ورد في السيرة النبوية المطهرة عند إسلام عبد الله بن سلام، وكيف كان محترما صاحب جاه وكلمة عند اليهود، ولكن بمجرد إسلامه تغير ذلك كله؛ ففي الرواية أنه لما أسلم رجع إلى أهل بيته فأسلموا وكتم إسلامه، ثم خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت؛ فإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني، فأحب أن تدخلني بعض بيوتك، فأدخله بعض بيوته فجاءت اليهود إليه فقال: أي
__________
(1) هجوم سلفى على (الهلباوى) بعد زيارته إيران، سعيد حجازى، جريدة الوطن، العدد: 1347، 06 - 01 - 2016.
إيران.. نظام وقيم (273)
رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك؛ فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، يا معشر اليهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فو الله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله، وأومن به وأصدقه وأعرفه، قالوا: كذبت، أنت شرنا وابن شرنا، وانتقصوا. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنّهم قوم بهت، أهل غدر، وكذب وفجور (1).
ونفس الشيء يمارسه هؤلاء الذين يبنون مواقف سلبية من إيران، ثم يفسرون كل شيء بعدها على ضوء ذلك؛ فإن شهد شاهد بظلم إيران قبلوا شهادته، من غير أن يسألوا أو يحققوا، وإن شهد شاهد عكس ذلك اتهموه في دينه، واعتبروه من أزلام النظام، أو من الذين اشتراهم النظام.
رابعا ـ ولاية الفقيه والتعامل مع الشعوب الإسلامية
على الرغم من تلك العداوة التي تبديها الكثير من الشعوب العربية والإسلامية للنظام الإيراني، بل حتى لإيران نفسها بسبب تلك الحملة الشرسة عليها من طرف رجال الدين والإعلام والسياسة إلا أن النظام الإيراني، والشعب الإيراني، يقفان على النقيض من ذلك الموقف السلبي؛ وهو موقف يجسد حقيقة قوله تعالى عن القوم الذين يستبدل بهم العرب حال التقصير: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]
فهذه الآية الكريمة لا تكاد تنطبق على أحد كما تنطبق على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهي مع مواقفها المتشددة الممتلئة بالعزة مع العتاة المتمردين من المستكبرين، تقف
__________
(1) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (12/ 54)
إيران.. نظام وقيم (274)
موقفا متواضعا إلى حد الذل مع الشعوب الإسلامية، حيث أنها تصفح عن كل تلك المواقف السلبية التي تقفها، وتدعوها كل حين إلى الوحدة الإسلامية، وترك الخلافات المذهبية، وترك التنابر بالألقاب، وتنصر قضاياها في كل المحافل، بل تشارك فيها بكل قوة.
انطلاقا من هذا سنحاول في هذا المبحث التركيز على ناحيتين مهمتين أولاهما النظام الإيراني أهمية كبرى، وهما:
1 ـ الدعوة للوحدة الإسلامية.
2 ـ الدعوة لإصلاح الواقع الإسلامي، وعودته إلى الدين.
وقد أسيء فهم كلا الدعوتين من طرف الساسة والإعلاميين والمفكرين ورجال الدين، حيث اعتبروا الدعوة الأولى دعوة للتشيع، مع أن إيران لم تتحدث إلا عن وحدة المسلمين بغض النظر عن مذاهبهم، ولو أرادت تشييع العالم الإسلامي، لبدأت بالملايين من أهل السنة الذين يتمتعون بجميع الحقوق، ويدرسون مذاهبهم بكل حرية.
أما الدعوة الثانية، فقد اتهمت بالتمدد الفارسي، والمؤامرة على العالم الإسلامي، مع أن إيران لم تتحدث عن كل ذلك، بل كل مطالبها هي الدعوة إلى الثورة على الطاغوت، وعلى الاستكبار العالمي، والعودة للدين الأصيل.
من خلال هذه المقدمة نحاول في هذا المطلب بيان موقف إيران من كلا الجانبين من خلال تصريحات قادة ثورتها، ومن خلال ممارساتها الواقعية.
مع ظهور الكثير من الدعوات للوحدة الإسلامية، ابتداء من جمال الدين الأسدأبادي الإيراني، ومن بعده من المفكرين والدعاة، لا نجد جهة اهتمت بالوحدة الإسلامية، واعتبرتها هدفا من أهداف نظامها مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي ضحت بمصالح كثيرة من أجل هذا الهدف النبيل.
إيران.. نظام وقيم (275)
وذلك شيء طبيعي؛ فلا يمكن لنظام يزعم أنه نظام إسلامي، أن يتخلى عن الوحدة، أو يناقش فيها، وهي مطلب قرآني كما قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]
ولذلك لا نرى في خطابات قادة الثورة الإسلامي ذلك البعد العنصري المرتبط بالقومية، ولا الجغرافي المرتبط بالوطن، ولا المذهبي المرتبط بالتشيع، وإنما نلاحظ اهتماما بكل المسلمين، وبقضاياهم جميعا، وكأنهم جسد واحد.
ومن الأمثلة على ذلك قول الخميني في وصيته السياسية، والتي ذكر في مقدمتها أنها موجهة للعالم الإسلامي جميعا، ومما ورد فيها من الدعوة إلى الوحدة الإسلامية قوله: (ليبادر العلماء الاعلام، والخطباء الموقرون في الدول الإسلامية إلى دعوة الحكومات لتحرير أنفسها من التبعية للقوى الاجنبية الكبرى، وليتفقوا مع شعوبهم فإنهم إذا فعلوا عانقوا النصر لا محالة، عليهم أيضاً أن يدعوا الشعوب إلى الوحدة ونبذ العنصرية المخالفة لتعاليم الإسلام، ومد يد الإخوة إلى اخوانهم في الايمان في أي بلد كانوا ومن أي عرق فإن الإسلام يعد الجميع إخوة، ولو أن هذه الإخوة تحققت يوماً ما بهمة الحكومات والشعوب وبتأييد الله العلي، فسيظهر للعيان كيف أن المسلمين يشكلون أكبر قوة في العالم. عسى أن يمنّ الله سبحانه وتعالى علينا بهذه الإخوة والمساواة في يوم قريب) (1)
وهو يذكر بألم تلك الحرب المغرضة الموجهة ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع سعيها في خدمة جميع المسلمين، ودعوتها إلى الوحدة بينهم، يقول: (لماذا يقوم البعض في الحجاز والكويت والأماكن الأخرى بتأويل كلامنا وتوجيه التهم الباطلة إلى دولة إسلامية تسعى لإيجاد الوحدة بين المسلمين، وتناضل من أجل طرد الغرب من أرض المسلمين. إن هؤلاء يخدمون الغرب من جهة، ويفرقون المسلمين من جهة أخرى.. ألا يعلمون أنه لا تجوز إثارة
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 21، ص: 381.
إيران.. نظام وقيم (276)
التفرقة بين المسلمين وأن ذلك مخالف للنص القرآني؟.. ألا يعلمون ذلك حقاً أم أنهم يعملون على خدمة الغرب عن عمد وقصد لا سمح الله؟) (1)
ويذكر أن من أهداف الجمهورية الإسلامية الإيرانية السعي لتحقيق الوحدة الإسلامية، من غير أن يلغي حق أي حكومة في استقلالها، على عكس ما يشيع المغرضون، يقول: (إننا نسعى للوصول إلى وحدة المسلمين جميعاً من خلال تضامن الحكومات مع شعوبها واتحاد الدول مع بعضها البعض، ولقد شاهد الجميع كيف تمكن الشعب الإيراني من سحق قوة كبيرة نتيجة الإتحاد ورص الصفوف، هدفنا هو إتحاد مليار مسلم مع بعضهم البعض، فباتحادهم هذا لن نسمع بمشكلة فلسطين وأفغانستان ثانية. ولو يدعنا وعاظ السلاطين بحالنا ولا يعرقلوا مسير وحدتنا فإننا سننتصر وجميع البلدان الإسلامية ستنتصر أيضاً) (2)
وفي لقاء له مع بعض الوزراء والسفراء العرب، قال: (آمل أن تكون علاقاتنا علاقات أخوة مع الجميع لاسيما شعوبنا الإسلامية، وأن تتمتع الحكومات الإسلامية بعلاقات طيبة مع بعضها البعض. وعلى هذه الحكومات أن تعزز روابط الإخوة فيما بينها حتى تقطع دابر الطامعين الأجانب، وآمل أن نكون إخوة وأشقاء دائماً، وأن لايحدث نفاق فيما بيننا أبدا) (3)
وهكذا نرى القائد الحالي للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي الخامنئي لا يدع مناسبة إلا ويدعو فيها للوحدة الإسلامية، وخاصة في المناسبة السنوية التي تستضيف فيها إيران مؤتمر الوحدة الإسلامية المرتبط بمناسبة ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والذي يدعى له النخبة المثقفة من العالم الإسلامي.
ومن خطاباته في بعض تلك المؤتمرات، والتي يذكر فيها تصوره للوحدة الإسلامية
__________
(1) المرجع السابق، ج 13، ص: 80.
(2) المرجع السابق، ج 13، ص: 80.
(3) المرجع السابق، ج 9، ص: 160.
إيران.. نظام وقيم (277)
قوله: (اليوم يُعدّ الاتّحاد في الأمّة الإسلامية أكثر ضرورة من أي شيء آخر. فعلينا أن نصنع الوحدة ونوحّد كلمتنا ونجعل قلوبنا واحدة، فهذا تكليف كلّ من يمكن أن يكون له تأثير في هذه الأمّة الإسلامية الكبرى، سواء الحكومات أو المثّقفون أو العلماء أو الفاعلون على المسرح السياسيّ أو الاجتماعيّ. وكل واحد من هؤلاء، في أي دولة من الدول الإسلامية، مكلّفٌ باستنهاض الأمّة الإسلامية وبيان هذه الحقائق، فليبيّنوا هذه الأوضاع المرّة التي أوجدها أعداء الإسلام للناس ويدعوهم لتحمّل مسؤوليّتهم، فهذه وظيفة الجميع) (1)
ثم بين أن ما يحصل من خلاف بين المسلمين هو بسبب المؤامرة الكبرى التي قام بها الأعداء، ولا يزالوان، يقول: (اعلموا أنّ أعداء الإسلام والمسلمين يعتمدون بشكلٍ أساس اليوم على إيجاد الخلافات والتفرقة. إنهم لا يريدون أن تتقارب القلوب، لأنّهم يعلمون أنّ الأيادي إذا تماسكت والقلوب إذا تقاربت فإنّ الأمّة الإسلامية ستبدأ بالتفكير في معالجة مشاكلها الكبرى. وإنّ منشأ أكثر هذه المشاكل ـ التي تُعدّ قضيّة فلسطين منها، ومنها قضيّة هذه الدولة الصهيونية المختلَقة ـ هم هؤلاء المقتدرون في هذا العالم. فالعدو يعلم أنّنا سنتمركز، وأنّ كلّ الأمّة الإسلامية في جميع قواها سوف تتحرّك على هذا الطريق حتى نواجه هذا الاعتداء السافر الذي يجري، لهذا لا يسمحون بتقارب القلوب) (2)
وهو يذكر ـ كمثال على الوسائل التي يستعملها الأعداء لنشر الفرقة بين المسلمين ـ ما استعملوه من [الخلاف السني الشيعي] والذي انطلى على الكثير من المسلمين، يقول: (واليوم نداء التفرقة يرتفع من قبل أعداء الإسلام. وقضيّة الشيعة والسنّة يطرحها اليوم الأمريكيون والإنكليز، وهذا عارٌ. فالمحلّلون الأمريكيون والإنكليز والغربيّون، من جملة القضايا التي يطرحونها ويتباحثون بشأنها ويؤكّدون عليها هي قيامهم بالفصل بين الإسلام السنّي والإسلام
__________
(1) خطابات الخامنئي 2010، ص 75.
(2) خطابات الخامنئي 2010، ص 75.
إيران.. نظام وقيم (278)
الشيعيّ وإيجاد النزاعات بينهم. إن هذا ما يريده العدوّ وهذا ما كان يفعله دوماً. وقد سعى أعداء عالم الإسلام دوماً إلى أن يستغلّوا بأقصى ما يمكن هذه الخلافات المذهبية والقومية والجغرافية والإقليمية. وهم اليوم يستخدمون الوسائل الحديثة من أجل هذا العمل. وعلينا أن نلتفت إلى هذا الأمر ونكون يقظين. يريدوننا أن ننشغل ببعض لكي ننصرف عن تلك المسألة الأساس التي ينبغي أن نتوجّه إليها. يريدون أن ينشغل المسلمون، شعوباً ومذاهب شيعة وسنّة وغيرهما، ببعضهم بعضاً حتّى ينسوا قضيّة إسرائيل. يجب أن تقرّبنا حادثة اغتصاب فلسطين إلى بعضنا بعضا. وها هم اليوم يستغلّون هذه القضيّة من أجل إبعادنا عن بعضنا بعضاً. إنّهم يُحدثون الاختلاف في العالم الإسلاميّ حول نفس هذه القضيّة الفلسطينية، ويجعلون الدول في مواجهة بعضها بعضاً. إنّ قضيّة فلسطين قضيّة واضحة ولا يوجد عند أي مذهب من المذاهب الإسلامية أي شك بأنّه إذا تعرّضت أراضي الإسلام والمسلمين في أي وقت من الأوقات للهجوم والاعتداء فإنّ الدفاع واجبٌ على جميع المسلمين. فإنّ كلّ المذاهب الإسلامية تُجمع على هذا الأمر. وهو ليس محلّ اختلاف. ومثل هذه القضيّة المتّفَق عليها يجعلونها مورد شكٍّ ويفرّقون المسلمين ويشتتونهم، ويزيدون من العصبيات المذهبية والطائفية في القلوب ويؤجّجون نيرانها، حتى يقوموا بما يريدون بسهولة) (1)
ويذكر اهتمام الجمهورية الإسلامية منذ نشأتها بالوحدة الإسلامية، ودعوتها لها بكل الوسائل، يقول: (علينا أن نستيقظ، وهذه هي كلمة الجمهورية الإسلامية. فالجمهورية الإسلامية منذ بداية تأسيسها جعلت في الأسطر الأولى الأساس من أهدافها اتّحاد المسلمين وتقارب قلوبهم ومنها قضية فلسطين، وفي كلمات إمامنا الراحل قدس سره تظهر هاتان القضيّتان بوضوح تامّ وجلاء: إحداهما قضيّة إتّحاد المسلمين في جميع القضايا والتقليل من خلافاتهم والتخفيف من اختلافاتهم ومنع الخلافات الفكرية والفقهية والكلامية وأمثالها من أن تجرّ هاتين الفئتين إلى
__________
(1) المرجع السابق، ص 75.
إيران.. نظام وقيم (279)
العداوة والتناحر، والقضيّة الأخرى هي قضية فلسطين، وقد التزمت الجمهورية الإسلامية بهذا الكلام. ونحن ندفع أثمانه باهظة. إنّ شعبنا ينظر إلى هذه القضيّة كواجبٍ ومسؤولية شرعية ويعلم أنّنا إذا استطعنا أن نُخرج هذا السرطان المهلك والخطر من جسد المجتمع الإسلاميّ فإنّ الكثير من مشاكل مجتمعاتنا الإسلامية سوف تُحلّ وسوف يحلّ مكانها الكثير من التعاون) (1)
2 ـ الدعوة لإصلاح الواقع الإسلامي
2 ـ الدعوة لإصلاح الواقع الإسلامي
انطلاقا من الأخوة التي يستشعرها النظام الإيراني تجاه جميع المسلمين؛ فإنه لم يكتف فقط بالدعوة للوحدة بين الحكومات والشعوب الإسلامية، وإنما دعا كذلك إلى خروج المسلمين من هيمنة الغرب، والفكر الغربي عليهم، وذلك بالعودة إلى الإسلام في جميع مجالاته، والاستفادة من التجربة الإيرانية في ذلك، والتي استطاعت التخلص من الهيمنة الأمريكية، والاستقلال التام عن الشرق والغرب، والتمسك بالإسلام وحده، باعتبار النظام الإلهي الذي يملك المنظومة الإصلاحية الشاملة المستغنية بذاتها، والمتوافقة مع الفطرة.
وهذا ما أطلق عليه مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفيلسوفها الإمام الخميني [تصدير الثورة]، والذي أسيء فهمه كثيرا، لا من الحكام الخائفين على عروشهم فقط، بل من رجال الدين أنفسهم الذين راحوا يؤولون هذا بكونه تصديرا للتشيع، مع أن الخميني لم يتذكر التشيع أبدا، بل تحدث عن قضايا مشتركة، يتفق عليها المسلمون جميعا.
وقد فسر الخميني مراده من تصدير الثورة، ورد على الشبه التي يلفقها الأعداء حولها في مناسبات كثيرة، ومن ذلك قوله: (إن الهدف من تصدير الثورة إلى الدول الإسلامية وكافة الدول التي يناضل فيها المستضعفون ضد المستكبرين هو الوصول إلى حالة معينة تكون فيها
__________
(1) المرجع السابق، ص 76.
إيران.. نظام وقيم (280)
الحكومة غير مستبدة وغير ظالمة، ولا يكون الشعب فيها عدواً للحكومة. فهدفنا الأصلي هو المصالحة بين الشعوب والحكومات؛ فلو قامت حكومات بلدان العالم بدراسة التجربة الإيرانية واطلعت على حقيقة العلاقة بين الحكومة والشعب لتأثرت أيما تأثر) (1)
ويذكر بأسف ما تقوم به ما يسميها (الأقلام المأجورة ووكالات الأنباء والقنوات المغرضة التي تعادي إيران حكومة وشعباً) من تشويه (صورة الثورة في الخارج، والجميع هنا يعرف الهدف من ذلك. فحكومتنا وشعبنا ملتحمين متحدين ويقف فيها الجامعيون مع رجال الدين جنباً إلى جنب وكذلك بقية فئات الشعب كما ينصهر الجيش والعسكر مع عامة الشعب في بوتقة واحدة، ومع وجود هذا التلاحم لا يمكن للغرب أن يصل إلى أهدافه ولا يمكن لحكومة خائنة أن تصل للسلطة وتعمل على خدمة المصالح الغربية. فلو أدلى وزير أو رئيس الوزراء بكلمة تصب في مصالح الغرب لواجه معارضة شديدة من الشعب) (2)
وهو يذكر بأسف الدور الذي قام به رجال الدين في الدول الإسلامية من تشويه إيران، بدل أن يدعموها، ويستفيدوا من تجربتها، فيقول: (إننا فضلًا عن المعاناة التي تسببها لنا أمريكا والاتحاد السوفيتي فإننا في مواجهة فتنة عظيمة تتمثل بأولئك الذين يدّعون التدين ويتحدثون باسم الدين، والكثير من هؤلاء يتربع على رأس الهرم الديني ومؤسسات الإفتاء في العالم الإسلامي، حيث يفسر هؤلاء كلامنا كما يحلو لهم، ومن ثم يتهموننا بالكفر ويعتبرونا من الخارجين عن الدين. فإن كان ذلك ناتجاً عن سوء فهم فإني أنصح هؤلا ء بالدراسة المعمقة والاطلاع الدقيق على الحقائق ليدركوا فداحة الخطأ الذي ارتكبوه وبطلان التهم التي انهالوا بها علينا، وأن الغرب هو الرابح الوحيد لانعكاسات هذه الفتنة، وإن كان في ذلك تعمداً مغرضاً فليعلم هؤلاء بأنهم يواجهون دولة إسلامية سعت ومازلت تسعى لرص الصفوف
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 13، ص: 79.
(2) المرجع السابق، ج 13، ص: 79.
إيران.. نظام وقيم (281)
والمصالحة بين الإخوة في سبيل اتحاد الدول الإسلامية بعيداً عن أسلوب التكفير الذي يتبعه الجبناء ولكن البعض ممن يرتدي لباس الإفتاء ويلقب بالمفتي الأعظم والشيخ الأكبر راح ينشر سمومه ويغرس مخالبه)) (1)
ثم يتساءل متعجبا من المصادر التي يستقي منها هؤلاء مواقفهم، وعن علاقتها بالدين؛ فيقول: (لماذا يقوم البعض في الحجاز والكويت والأماكن الأخرى بتأويل كلامنا وتوجيه التهم الباطلة إلى دولة إسلامية تسعى لإيجاد الوحدة بين المسلمين وتناضل من أجل طرد الغرب من أرض المسلمين؟ أن هؤلاء يخدمون الغرب من جهة ويفرقون المسلمين من جهة أخرى.. ألا يعلمون أنه لا تجوز إثارة التفرقة بين المسلمين وأن ذلك مخالف للنص القرآني؟.. ألا يعلمون ذلك حقاً أم أنهم يعملون على خدمة الغرب عن عمد وقصد لا سمح الله؟.. ألا يعلم هؤلاء بأن أفعالهم وتصرفاتهم هذه مخالفة للإسلام وتعاليمه وتصب في مصلحة الغرب ليس إلا؟.. ألا يعلم هؤلاء أنهم بأفعالهم وأقوالهم هذه يخدمون الغرب عن قصد أو غير قصد؟) (2)
وهو يذكر الشبه التي يوردها المغرضون من أجل تشويه الثورة الإسلامية، حتى لا تستفيد منها سائر البلاد الإسلامية، ومن الأمثلة على ذلك قوله: (عندما نتحدث نحن عن الإمام المهدي، وهو القوة التنفيذية في الإسلام؛ فإننا نقصد أنه سيملأ الأرض بالعدل ولديهم هم نفس المعنى (يملأ الأرض قسطاً وعدلًا بعد أن ملئت ظلماً وجوراً)، ونحن نقول إن الأنبياء لم يوفقوا في الوصول إلى أهدافهم بشكل كامل، وسيرسل الله سبحانه وتعالى في آخر الزمان من يتابع طريق الأنبياء ويحقق أهدافهم المنشودة بشكل كامل، لكن هؤلاء الناس ولا أدري أن كانوا متعمدين أم غافلين راحوا يؤولون كلامنا ومعتقداتنا وقالوا بأن فلان يزعم بأن الإمام المهدي سيتمم الشريعة، إن هذا الأمر يبعث على الأسف الشديد وهو مخالف لما نعتقده فنحن
__________
(1) المرجع السابق، ج 13، ص: 79.
(2) المرجع السابق، ج 13، ص: 80.
إيران.. نظام وقيم (282)
نعتبر الإمام المهدي (عليه السلام) خادماً للإسلام وتابعاً لرسول الإسلام وهو في نفس الوقت نور عين رسول الله، وسيجري كل ما أمر به الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم) (1)
وهو يبين المنهج الذي تصدر به الثورة؛ فيقول: (كونوا على ثقة بأنه لو تحقق الإسلام بكل معانيه في ايران، فإن الدول سوف تقتفي هذا النهج الواحدة تلو الأخرى، إن كل فئة تأتي إلى هنا تقول بأن شعبها مهتم بإيران ويسعى لتحقيق هذا الهدف هناك، في العراق والكويت ومصر وفي كل مكان، فلو أدّينا هذا الدور بشكل جيد وطبقنا الإسلام كما هو في ايران، فإنه بالاضافة إلى انتصارنا حتى النهاية بإذن الله، سينتقل منا إلى الشعوب الإسلامية. ونحن نطمح أن تقام حكومة العدل الإسلامي في جميع البلاد الإسلامية! لقد كان حب مختلف الفئات من أبناء الشعب لهذا النظام الإسلامي حباً إلهياً ووجد بيد غيبية لدى كل الناس بحيث أن الأطفال الذين أخذوا ينطقون حديثاً وحتى الشيوخ الذين هم على عتبة القبر، كانوا صوتاً واحداً ويريدون الإسلام!) (2)
وهو يبين للعالم الإسلامي السبب الذي جعل الثورة الإسلامية في إيران تنتصر، ليقوموا بنفس العمل، فيقول: (إن حب الإسلام هو الذي نصرنا، وعلينا الآن أن نحفظ هذه الكرامة وهذا الحب! فلنعلم أن كل شي ء مرتبط بالله وكل شي ء يتم بيده وأن إرادته هي التي أوصلتنا إلى منتصف طريق النصر. وإذا ما حفظنا الجهات التي ينبغي حفظها، فإن هذه الإرادة ستبقى محفوظة- إن شاء الله- وستوصلنا إلى النصر النهائي! والنصر النهائي هو انتصار كل البلدان والمستضعفين على جميع المستكبرين) (3)
وهكذا نرى الخميني في لقاءاته مع المسؤولين، وخصوصا ممن لهم علاقة بالخارج،
__________
(1) المرجع السابق، ج 13، ص: 79.
(2) المرجع السابق، ج 10، ص: 132.
(3) المرجع السابق، ج 10، ص: 132.
إيران.. نظام وقيم (283)
ينصحهم بأن يعطوا صورة حسنة عن الإسلام، حتى يتبعهم غيرهم، ويقتدوا بهم.
ومن أقواله في هذا المجال، وهو يخاطب سفراء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وجمع من أعضاء الاتحادات الطلابية الإسلامية في الخارج: (إن التزام السادة المقيمين في الخارج أصعب بكثير من التزامنا نحن المقيمين في الداخل، وذلك لأن شعبنا مطلع على الموازين والمعايير الإسلامية، وعلى فرض قيام بعض الفئات والأشخاص بأفعال منافية للإسلام فإن الشعب سيدين ذلك ويستنكره، وأمّا من في الخارج فإنهم يقيمون في بيئة غير إسلامية ويعيشون وسط شعوب غير مسلمة، وحتى إن كانوا مسلمين فإن اهتمامهم بمسائل الإسلام ليس كما يجب، ولهذا فإن أي سلوك أو تصرف يصدر عنكم ويكون مخالفاً للإسلام، سيعتبره هؤلاء الجاهلون بالإسلام، من الإسلام، ويكوّنون تصوراً عن الإسلام من خلالكم. فلو كانت سفاراتنا في الخارج لا تزال تعيش الأجواء الطاغوتية أو ما هو قريب منها، فهذا يعني أن الإسلام لم يدخلها أبدا) (1)
وينصحهم قائلا: (من أهم الأمور التي تقع في دائرة مسؤوليتكم ومسؤوليتنا، مسألة تجسيد قيم الإسلام والثورة من خلال سلوككم وطريقة تعاملكم مع العاملين في السفارة والناس الذين يراجعونها، لإعطاء صورة مشرقة عن الإسلام، مما يسهم في تصدير ثورتكم إلى البلد الذي تقيمون فيه. فالالتزام بالقيم الأخلاقية ورعايتها، يسري تأثيره في نفوس الناس، وذلك لأن المسائل الأخلاقية ذات جذور فطرية، ونفوس الناس مجبولة على تقبلها، ففطرة الناس سليمة ولكن طريقة التربية هي التي تفسدها.. وعليكم أن تمارسوا دوركم التربوي والتوعوي في البلدان التي أنتم فيها، كما لو أنكم في بلدكم، وأن تصدروا الإسلام إليها وذلك من خلال الالتزام العملي بتعاليم الإسلام وآدابه وقيمه الأخلاقية، وتجسيد ذلك في سلوككم
__________
(1) المرجع السابق، ج 13، ص: 379.