×

الكتاب: أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل

الوصف: مباحث المعاد بين الدين والعقل

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: مؤسسة العرفان للثقافة الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1440 هـ

عدد الصفحات: 581

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-3-85902-7

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

يبحث هذا الكتاب في أهم المسائل المرتبطة بالمصير الإنساني، وسعادته وشقائه، والحقائق المرتبطة بذلك، من خلال المصادر الدينية والعقلية والعلمية، وذلك في خمسة فصول هي:

1. الموت والنشآت الإنسانية، ويتضمن الأدلة الدينية والعقلية والعلمية الدالة على أن الموت ليس سوى مرحلة من مراحل الإنسان، وليس عدما، ولا فناء.

2. البرزخ وتجليات الحقائق، ويتناول الحقائق والأحداث المرتبطة بمرحلة البرزخ التي يكتشف فيها الإنسان الكثير من الحقائق الغيبية، ويتعذب بذلك، أو يتنعم به.

3. الموقف.. وتجليات العدالة، ويتناول الأحداث المرتبطة بالحشر والنشر والحساب والموازين والسراط وغيرها من التي ورد في النصوص المقدسة ذكر تفاصيلها، مع بيان علاقتها بصفات الله التي دل عليها العقل والنقل، وخاصة العدالة التي تتجلى في ذلك الموقف بأكمل صورها.

4. الجزاء الإلهي.. وتجليات العدالة والرحمة، وذكرنا فيه ما ورد في النصوص المقدسة من أنواع الفضل الإلهي لأهل الجنة، وأنواع العقوبات الإلهية لأهل النار، وعلاقة ذلك كله بالعمل والسلوك.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (9)

مقدمة

تعتبر المسائل المرتبطة بحقيقة الموت، والمصير الإنساني بعده من أهم المسائل التي لا يمكن لأي عقل من العقول ألا يهتم بها، ذلك أنها تعطي لوجود الإنسان على هذه الأرض أبعادا جديدة لم يكن ليتصورها لولا ذلك الاعتقاد.

والوجوديون والملاحدة الذين يشاغبون بكونهم لا يهتمون إلا بوجودهم على هذه الأرض، وحياتهم فيها، واستثمارهم لكل لحظة، ويضحكون ساخرين من المؤمنين عند ذكرهم للموت وما بعده، يكذبون على أنفسهم، ذلك أنهم في قرارة نفوسهم لا يختلفون عن سائر الناس في شعورهم بالشوق للخلود والحياة الأبدية، ويتمنون لو يدوم ما هم فيه من نعيم.. ويرون أن أكبر المنغصات حلول الموت بهم، أو بمن يحبونه.

ولذلك نراهم يبذلون أموالا كثيرة لمراكز الأبحاث رجاء أن تزيد في شبابهم سنوات معدودة، أو تطيل من أعمارهم، أو تقضي على الأمراض التي تصيبهم.. وكل ذلك لأجل سنوات محدودة لا تساوي مع الخلود شيئا.

وفوق ذلك نراهم لا يشعرون بأي سعادة عندما يمارسون تلك الحياة اللاهية التي يتصورون أنهم يفرون بها من الموت، أو أنهم يهزمون بها الموت، لأن الموت دائما يتعقبهم ويمر على خيالهم، ولهذا يحزنون لكل شعرة تشيب، أو لكل مرض ينزل، أو لكل مصيبة تحل.

وهكذا تمر حياتهم مليئة بالتشاؤم واليأس الذي عبر عنه [شوبنهاور] فيلسوف التشاؤم المعروف بقوله: (حياة الإنسان كلها ليست إلا نضالا مستميتا من أجل البقاء على قيد الحياة مع يقينه الكامل بأنه سيهزم في النهاية).. وقوله: (ينبغي أن ندمر في داخلنا، وبكل الأشكال الممكنة، إرادة الحياة، أو الرغبة في الحياة، أو حب الحياة).. وقوله: (يُقال أن السماء تحاسبنا بعد الموت على ما فعلنا في الحياة الدنيا.. وأنا أظن أنه بإمكاننا أن نحاسبها أولًا عن

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (10)

المزحة الثقيلة للوجود الذي فُرض علينا من دون أن نعلم لماذا؟ وإلى أي هدف؟)

ومثله قال عالم الأعصاب، والمحلل النفسي النمساوي (فكتور فرنكل): (للكثير من الناس اليوم وسائل للحياة، غير أنهم يفتقدون معنى يعيشون لأجله) (1)

ولهذا نجدهم يلتمسون كل الوسائل والأساليب للاحتيال على أنفسهم، لتظفر ببدائل جديدة عن المعاد الذي يعتقده المؤمنون، وقد قال بعضهم معبرا عن تلك البدائل: (رغم هذا فإنني أعتبر الحياة (رغم عبثيتها) مقدّسة جدا. فنحن الملحدين على يقين بأننا نحظى بفرصة واحدة فقط للحياة - فرصة واحدة لا غير. فلا حياة أخرى ولا بعث أرواح ولا جنة ولا نار وما إلى ذلك. الحياة مباراة من جولة واحدة، لذا فمن المؤسف جدا أن يبعثرها المرء أو يضيعها سدى.. لذا، فلإعطاء هذه القدسية حقها الكامل، على المرء أن يستغل فترة وعيه الوجيزة جدا ككائن حي إلى أبعد الحدود. ثقّف نفسك وعلّمها، عزيزي القارئ، ليتسنى لك رؤية عجائب هذا الكون لما هي عليه فعلا، بمنأى عن ضباب الفكر الديني. إسبح في المحيط الهندي.. راقب غروب الشمس في وادي رم.. دغدغ رضيعا.. تسلق شجرة أو جبل.. تعلّم حرفة يدوية كالنجارة أو الفخارة.. إشتر منظارا ودليل فضاء وفلك للمبتدئين وتمعن في أعماق الكون وابحث عن كواكبه ومجراته.. كن سببا لتحسين حياة غيرك من الناس الأقل حظا واكتسب من عملك هذا المتعة والرضا، فهناك الكثير من البشر الذين يعيشون في ظروف من السوء لا توصف، ويكسبون في أسبوع ما قد تكسبه أنت في ساعة (هذا إن كانوا يكسبون شيئا أصلا).. تبرع بالدم بين الحين والآخر إن كانت صحتك تسمح.. إدعم ميتما أو داراً للعجزة.. إلخ) (2)

هذا هو العزاء الذي ذكره هذا الملحد، وذكره قبله وبعده الكثير من الملاحدة، وهو

__________

(1) انظر هذه النصوص وغيرها في كتابي [كيف تناظر ملحدا]، ص 380.

(2) انظر: الإلحاد ومعنى الحياة، ليث البرزنجي، الحوار المتمدن-العدد: 1164 - 2005/ 4 / 11 - 11:15.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (11)

لا يختلف عن تلك المسكنات والمخدرات التي يهرب بها صاحبها عن الحقيقة المرة التي يعيشها.

وهذا العزاء الذي ذكره لا يمكن أبدا أن ينسجم مع كل الناس، ولا مع كل العقول، بل هو خاص فقط بطبقة محدودة من أصحاب الأموال الذين يمكنهم أن يمارسوا ما يشتهون حتى يشعروا بالعزاء، أما أولئك المستضعفين الفقراء، والذين تشكل الحياة عبئا كبيرا عليهم؛ فإن تلك العزاءات لن تفعل لهم شيئا، فالحياة عندهم مجموعة آلام..

ولذلك لا يستطيع الإلحاد أن ينقذهم من آلامهم، بل الوحيد الذي ينقذهم منها هو الإيمان، ولهذا نجد الملاحدة، ولأتفه الأسباب ينهارون، وينتحرون، لأن الحياة عندهم لا معنى لها، ولذلك لا معنى لتحمل العذاب فيها.

في مقابل هؤلاء نجد المؤمنين بالمعاد، وبالحياة بعد الموت، وبالمصير الجميل الذي ينتظرهم نراهم ينظرون إلى الحياة بصورة مختلفة تماما، ذلك أن الموت في أعينهم ليس نهاية الرحلة، بل هو بداية لها.. والقبر في أعينهم ليس محلا للظلمات الأبدية المطبقة، وإنما هو محل للسعادة أو الشقاء.

ولذلك تجدهم يستعملون كل الوسائل ليظفروا بتلك السعادة المخزّنة لهم في دار المعاد، والتي لم تستطع هذه الدنيا، بجميع ما فيها تلبيتها لهم.

وهكذا كان الإيمان بالمعاد مدرسة تربوية ونفسية كبيرة تهيئهم ليسيروا نحول الكمال الذي هيئ لهم.. فلا يمكن لشخص أن يسير نحو الكمال، وهو يعتقد أن رحلته في الحياة تنتهي بموته.

ولهذا نرى الأديان والفلسفات والمدارس التربوية المختلفة تهتم بالمعاد والحياة بعد الموت، وترى أنها من أهم القضايا التي لا يمكن الاستهانة بها، بل لا يمكن تشكيل منظومة تربوية كاملة من دونها.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (12)

وعلى رأس هذه المصادر التي اهتمت بهذه المسائل اهتماما عظيما، القرآن الكريم الذي يذكره في كل محل، ويربطه دائما بالإيمان بالله، ذلك أن الإيمان بالله وحده، ليس له مفعول كبير عند أكثر الناس، ما لم يقترن به الإيمان باليوم الآخر.

فاليوم الآخر دليل على الرحمة والعدالة والقدرة والحكمة الإلهية، وهو أكبر ما يرد على نظرية الشر التي يعتبرها الملاحدة المعضلة الكبرى التي تحول بينهم وبين الإيمان بالله.

فعندما يوقن المؤمن أنه سينال بعد الموت جزاء كل ألم أصابه، وأجر كل جهد بذله، وأن كل من أصابه بأذى سينال عقابه الذي لم ينله في الدنيا، سيشعر بالراحة، وسيهون عليه الألم، وسيقبل على جميع المكارم ينهل منها، ويضحي في سبيلها بكل راحته ولذاته.. وهو ما يساهم في رفعه إلى المقامات العليا من سلم الأخلاق والقيم النبيلة.

ولهذا نرى القرآن الكريم يجعل المواعظ وتأثيرها محصورة في المؤمنين بالله واليوم الآخر، كما قال تعالى: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [الطلاق: 2]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]

وهكذا يقرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وكل السلوكات الطيبة، ومن الأمثلة على ذلك قوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليكرم ضيفه) (1)، وقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو

__________

(1) البخاري [فتح الباري] 10 (6146)، ومسلم (47) واللفظ له.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (13)

ليسكت) (1)

وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي تبين أنه لا يمكن أن تتحقق للإنسان أي دافعية للعمل الصالح، أو بذل الجهد والتضحية في سبيله ما لم يمتلئ قناعة وإيمانا باليوم الآخر.

بالإضافة إلى ذلك، فإن فاقد هذا الإيمان لن يتميز بأي شيء آخر عن المؤمن به، فلا هو يسعد في حياته الدنيا سعادة زائدة، ولا هو يتخلى عن الآلام التي تصيب المؤمن بالله، لأن الآلام تصيبهم وتصيب البشر جميعا، ولكنها تُهون للمؤمن نتيجة إيمانه وتعظم للكافر نتيجة جحوده، ولهذا أخبر الله تعالى أن تنعم الإنسان في الآخرة لن يحول بينه وبين التنعم في الدنيا، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]

وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) (2)

ولهذا نرى المدافعين عن الإيمان بالله واليوم الآخر يوردون على الجاحدين بها ذلك الرهان الذي عبر عنه أبو العلاء المعري بقوله:

زعم المنجم والطبيب كلاهما... لا تبعث الأجساد قلت: إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر... أو صح قولي فالخسار عليكما

وعبر عنه آخر بقوله: (قال الملحد للمؤمن: ما موقفك اذا مت ولم تجد الجنة! فرد المؤمن: لن يكون اسوأ من موقفك اذا مت ووجدت النار!)

وعبر عنه مصطفى محمود في حواره مع صديقه الملحد، والذي ذكر أنه قال له

__________

(1) مسلم (48)

(2) رواه مسلم (8/ 227)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (14)

ساخرا: (ماذا يكون الحال لو اخطأت حساباتك، وانتهيت بعد عمر طويل إلى موت وتراب ليس بعده شيء؟)، فأجابه مصطفى محمود بقوله: (لن أكون قد خسرت شيئا.. ولكنكم أنتم سوف تخسرون كثيرا لو أصابت حساباتي وصدقت توقعاتي.. وإنها لصادقة.. سوف تكون مفاجئة هائلة يا صاحبي) (1)

وعبر عنه ـ قبل ذلك كله ـ الإمام الصادق مع بعض الملاحدة، حيث قال مخاطبا له: (إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون، يعني المؤمنين، فقد سلموا وعطبتم وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم)، فقيل له: وأي شي ء نقول وأي شي ء يقولون ما قولي وقولهم إلا واحد؟ فقال: (وكيف يكون قولك وقولهم واحدا، وهم يقولون إن لهم معادا وثوابا وعقابا ويدينون بأن في السماء إلها وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد..) (2)

وهو ما يعرف الآن باسم [رهان باسكال]، وهو الرهان الذي استعمله الفيزيائي والرياضي والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (1623 - 1662) والذي يمكن صياغته على الشكل التالي (3):

1 - إن آمنتَ بالله وكان الله موجوداً، فسيكون جزاؤك الخلود في الجنة، وهذا ربح لامحدود.

2 - إن لم تؤمن بالله وكان الله موجوداً، فسيكون جزاؤك الخلود في جهنم، وهذه خسارة لامحدودة.

3 - إن آمنتَ بالله وكان الله غير موجود، فلن تُجزى على ذلك، وهذه خسارة محدودة.

__________

(1) حوار مع صديقي الملحد، ص 85.

(2) الكافي، ج 1 ص 74..

(3) انظر: الصراط المستقيم في الحجج والبراهين: رهان باسكال، آية الله السيد مرتضى الشيرازي، شبكة النبأ.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (15)

4 - إن لم تؤمن بالله وكان الله غير موجود، فلن تُعاقب لكنك ستكون قد عشت حياتك، وهذا ربح محدود.

بناء على هذه الدوافع العلمية والتربوية، نحاول في هذا الكتاب خطاب العقل الإنساني بما يعرفه من مصادر وأساليب للاستدلال، ليتحول الإيمان عنده وفيه بهذا العالم من مجرد احتمال بسيط أو عادي إلى حقيقة كبرى، لا يدل عليها الدين فقط، بل يدل عليها العقل أيضا.

وهو ما يجعل من ذلك الإيمان مؤثرا ومحركا في الحياة، لأن سبب التأثير المحدود لحقائق المعاد لا يعود إلى ذاتها، وإنما يعود إلى ذلك القصور في معرفتها، أو معرفة براهينها، وهذا هو الواقع للأسف؛ فأكثر الناس يحملون إيمانا جمليا تقليديا غير مؤيد بالبراهين الكافية، ولذلك لم يعد لإيمانهم ذلك التأثير الكبير المرتبط به.

وقد زاد في الانصراف عن الاهتمام بهذا النوع من المسائل مع أهميتها ذلك التوظيف الخاطئ الذي قام به المتطرفون والإرهابيون عندما راحوا يستثمرون ما يرتبط بهذا الجانب في الدعوة للعنف والتطرف.

ولذلك دعانا كل هذا إلى الاهتمام بهذه المسألة، وطرحها بطريقة ينسجم فيها العقل مع النقل، والحقائق مع القيم.

وقد ذكر الغزالي في نتائج بحثه عن سر الغرور والابتعاد عن الدين ذلك الموقف المعادي لمسائل المعاد، فقال ـ عند ذكره لغرور الكفار ـ: (فأول ما نبدأ به غرور الكافر، وهو قسمان: منهم من غرته الحياة الدنيا.. ومنهم من غره بالله الغرور.. أما الذين غرتهم الحياة الدنيا وهم الذين قالوا: النقد خير من النسيئة.. ولذات الدنيا يقين.. ولذات الآخرة شك.. ولا يترك اليقين بالشك) (1)

__________

(1) أصناف المغرورين (ص: 25)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (16)

ثم بين وجه فساد هذا الدليل، فقال: (وهذا قياس فاسد.. وهو قياس إبليس لعنه الله تعالى فى قوله: أنا خير منه.. فظن أن الخيرية فى النسب.. وعلاج هذا الغرور شيئان: إما بتصديق وهو الإيمان.. وإما ببرهان.. أما التصديق فهو أن يصدق الله تعالى فى قوله {وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60].. وتصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به.. وأما البرهان: وهو أن يعرف وجه فساد قياسه.. أن قوله: الدنيا نقد والآخرة نسيئة مقدمة صحيحة وأما قوله: النقد خير من النسيئة. فهو محل التلبيس) (1)

بناء على هذا كله قسمنا الكتاب بحسب المراحل التي يمر بها الإنسان بعد الموت، والتي وردت بها النصوص المقدسة، ودل عليها العقل، إلى خمسة فصول:

تناولنا في الفصل الأول: الموت والنشآت الإنسانية، وحاولنا أن نبرهن فيه بالأدلة الدينية والعقلية والعلمية الكثيرة على أن الموت ليس سوى مرحلة من مراحل الإنسان، وليس عدما، ولا فناء.

وتناولنا في الفصل الثاني: البرزخ وانكشاف الحقائق، وبينا فيه ما ورد في النصوص المقدسة من حقائق ترتبط بهذه المرحلة التي يكتشف فيها الإنسان الكثير من الحقائق الغيبية، ويتعذب بذلك، أو يتنعم به.

وتناولنا في الفصل الثالث: المعاد.. وتجليات العدالة، وبينا فيه الأحداث المرتبطة بالحشر والنشر والحساب والموازين والسراط وغيرها من التي ورد في النصوص ذكر تفاصيلها، مع بيان علاقتها بصفات الله التي دل عليها العقل والنقل، وخاصة العدالة التي تتجلى في ذلك الموقف بأكمل صورها.

وتناولنا في الفصل الرابع: الجزاء الإلهي.. وتجليات العدالة والرحمة، وذكرنا فيه ما ورد في النصوص المقدسة من أنواع الفضل الإلهي لأهل الجنة، وأنواع العقوبات الإلهية

__________

(1) المرجع السابق، (ص: 25)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (17)

لأهل النار، وعلاقة ذلك كله بالعمل والسلوك، ليكون الفضل الإلهي دافعا للعمل، لا للكسل، فكلما ورد ذكر الجنة في القرآن الكريم ذكر معه العمل الصالح، ولذلك لا يصح أن يُذكر النعيم مجردا عن الأعمال المرتبطة به، كما لا يصح لأحد في الدنيا أن يذكر فضل سلعة دون أن يذكر الثمن الذي تباع به.

وهكذا ذكرنا فيه ما ورد في النصوص المقدسة من أنواع العقوبات الإلهية، والأعمال المرتبطة بها، مثلما نرى في قوانين العقوبات الدنيوية من ربط كل جريمة بالعقوبة المناسبة لها.

وننبه إلى أننا حاولنا الرجوع لجميع المصادر المقدسة الإسلامية وغير الإسلامية، باعتبارها جميعا تتفق على الإيمان بما بعد الموت، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69]

وهكذا رجعنا في الاستدلالات العقلية لكل المدارس الفلسفية والكلامية وغيرها، من المسلمين وغير المسلمين، لأن الحكمة ضالة المؤمن، أين وجدها، فهو أحق بها.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (18)

الفصل الأول

الموت.. والنشآت الإنسانية

لا يمكننا اكتشاف أسرار ما بعد الموت، ما لم نعرف الموت نفسه، وهل هو النهاية التي تنتهي معها الحياة، وتنتهى معها جميع أسرارها، أم هو البداية لحياة جديدة، وبقوانين جديدة، نحتاج إلى التعرف عليها، لنعرف كيف نهيئ أنفسنا لها.

وهذا يدعونا إلى البحث عن حقيقة الحياة نفسها.. فلا يمكننا أن نعرف الموت ما لم نعرف الحياة، وهل هي مختصرة في هذا الجسد الذي تنقطع صلة الإنسان به بعد موته، أم أنها شيء آخر؟

وهذا يدعونا ـ أيضا ـ إلى البحث عن هذا الجسد الذي نعيش به، وهل هو نحن، أم أنه ليس سوى مركب لحقيقة أخرى تمثل الأنا الحقيقي، ونحن لا نراها، لا بسبب عدم وجودها، وإنما لكونها مثل العين التي نرى بها، وفي نفس الوقت لا تستطيع أن ترى نفسها إلا من خلال غيرها؟

وهكذا يصبح البحث في الموت وحقيقته مرتبطا بالحياة وحقيقتها.. وهل قوانين الحياة التي نعرفها قوانين لازمة لا تنفك عنها، أم أن هناك قوانين أخرى للحياة غير القوانين التي نعرفها؟

أو بعبارة أخرى: هل الحياة مختصرة في هذه الصورة التي يتنفس فيها الإنسان الأكسوجين، ويشرب الماء، ويأكل الطعام، ويتحرك برجليه، ويمسك الأشياء بيديه.. أم أنه يمكن أن تكون هناك حياة أخرى لا يحتاج فيها الإنسان، ولا غيره من الأحياء إلى كل ذلك؟

هذه هي التساؤلات التي ينطلق منها البحث في الموت، وقد أجاب عنها العقل

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (19)

الإنساني إجابتين متناقضتين:

أما الأولى: فهي إجابة أكثر عقلاء العالم من الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين وعلى مدار التاريخ، وهي اعتبار الموت بداية لمرحلة جديدة، وأن هناك حياة أخرى غير الحياة التي نراها، وأن الإنسان ليس قاصرا على هذا الجسد، بل الجسد ليس سوى مركب من مراكبه التي يستبدلها بغيرها بعد أن تنتهي صلاحيتها.

وأما الثانية: فهي إجابة بعض العقلاء والعلماء أيضا.. وهم محدودون جدا مقارنة بالأولين.. ويرون أن للحياة صورة واحدة هي التي نراها في المعامل البيولوجية.. وأن ما عداها هو الموت المطبق، والذي يعني العدم المطبق.

وللأسف فإن هذه النظرة الثانية مع افتقارها لكل الأدوات العلمية، ومخالفتها لكل العقول، وعلى مدار التاريخ، صارت توصف بالعلمية، وصار لها امتداد كبير في الواقع، وهو ما هيأ الأرضية للإلحاد.. ذلك أن إنكار حياة أخرى خارج نطاق المادة يستدعي بالضرورة الإلحاد..

والمشكلة الأكبر ليس في تبني هذه الجهة لتلك الرؤية والموقف من الحياة والموت، وإنما في احتكارها للعلم، وتوهمها أن الحقيقة محصورة فيما تفكر فيه، أو فيما تكشفه لها المخابر والمعامل.

ولذلك نراها تستعلي على كل الرؤى التي تخالفها، وتتهمها بالخرافة، وتخرجها من نطاق العلمية، وكأنها المسؤولة عن العلم، والمفوض لها التمييز بين ما هو علم، وما هو خرافة، مع العلم أن كبار العلماء والعقلاء على مدار التاريخ يخالفونها في هذه الوجهة.

ومن الأمثلة على هذا الاستعلاء ما نقلته كبار وسائل الإعلام عن هوكينغ وموقفه من الجنة، فقد أورد موقع (CNN) الإخباري التابع لأكبر شبكة قنوات أمريكية هذا الخبر وبهذا العنوان المثير [هوكينغ: لا وجود للجنة والحياة الآخرة قصة خرافية]، ثم أوردت

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (20)

الخبر، وكأن هوكينغ اكتشف دواء عجز الأطباء عن اكتشافه، حيث ورد في الخبر: (مفهوم [الجنة] أو أي نوع من الحياة الآخرة عبارة عن [قصة خرافية] هذا ما قاله عالم الفيزياء البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ في مقابلة صحفية هذا الاسبوع، وسط احتمال أن تثير تصريحاته جدلاً واسعاً آخر خصوصاً بين رجال الدين واللاهوت.. وأضاف هوكينغ في المقابلة التي نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية الأحد: (أنا أعتبر الدماغ كجهاز كمبيوتر يتوقف عن العمل عندما تفشل مكوناته)، مضيفاً: (ليس هناك من جنة أو حياة آخرة لأجهزة كمبيوتر محطمة، وهي أشبه بقصة خرافية للناس الذين يخشون من الظلام) (1)

هذا ما نقلته هذه القناة الإخبارية التي يتابعها مئات الملايين، ولو أنها نقلت كلام كل العلماء في المسألة لكان مقبولا، لكن اهتمامها ا لخاص برؤية هوكينغ مع تلك الهالة العظمى التي أعطيت له، حول الأمر من موقف شخصي إلى مسألة علمية، يستثمر فيها العلم ـ وبطريقة خاطئة ـ لغرس أيديولجيات الإلحاد.

ولذلك نحاول في هذا الفصل بيان مدى تهافت التصورات التي يعتمد عليها المنكرون للعالم الآخر، والذين يحكمون على الحياة وفق ما يرونه ويعيشونه، من غير إعطائها فرصة أخرى لتعبر عن نفسها بطريقة جديدة.

ومن خلال استقرائنا للأدلة التي يمكن اعتمادها في هذا الباب، فقد رأينا أنه يمكن تقسميها إلى أربعة أقسام:

أولها ـ براهين الفطرة: ونقصد بها تلك الأدلة النابعة من عالم النفس، والذي دل عليه الواقع، ولجميع البشر، وفي جميع فترات التاريخ.

ثانيها ـ براهين الدين: ونقصد بها تلك الأدلة التي اتفقت عليها الأديان، وخصوصا

__________

(1) هوكينغ: لا وجود للجنة والحياة الآخرة قصة خرافية، موقع (CNN) الإخباري، السبت، 18 حزيران/يونيو 2011.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (21)

الإسلام باعتباره الدين المهيمن عليها، والشارح لحقائقها.

ثالثها ـ براهين العقل: ونقصد بها تلك الأدلة التي نص عليها الفلاسفة والمتكلمون، ودلت عليها العقول السليمة التي لم تدنس بدنس الإلحاد.

رابعا ـ براهين العلم: ونقصد بها تلك الأدلة التي دل العلم المتواضع من خلالها على أن الحياة أكبر من أن تختصر فيما نعرفه منها.

أولا ـ الموت.. وبراهين الفطرة

ويشير إلى هذا النوع من الأدلة قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات:21)، وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53)

وهو من البراهين التي استدل بها الفلاسفة وغيرهم، ويمكن لأي شخص أن يكتشفها في نفسه، فالله تعالى أودع فينا من المعارف ما نتفق عليه جميعا.

ومن أكبر الأدلة عليها أننا نجد الشيخ الكبير، والذي قد هرم جسده، وانحل أكثر خلاياه لا يزال يملك في نفسه ومشاعره كل همم الشباب ورغباتهم.. بل إننا قد نجده يخطط ويدخر لسنوات كثيرة لا يطمع لأن يعيش لها.. ولو أن نفسه كانت تابعة لجسده، لما فكر مثل هذا التفكير، ولا هم بمثل هذه الهمم.

وهكذا نرى في النفس الإنسانية تطلعا للخلود وشوقا إليه.. ولذلك يستعمل الإنسان كل الوسائل للفرار من الموت، ومن أسبابه.. وهذه الرغبة لا يمكن أن تكون ناشئة عن فراغ.. ذلك أن لكل رغبة من الرغبات الموجودة في النفس ما يغطيها، ويلبي حاجتها.

فالعطش والرغبة في الماء.. دلتنا على وجود الماء.. والرغبة في الطعام دلتنا على وجود كل الأطعمة التي نشتهيها، وبحسب الأذواق التي ركبت في طباعنا..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (22)

وهكذا نجد كل الرغبات لها ما يلبيها في الواقع، وبأنواع كثيرة جدا.. تفوق حد الضرورة والحاجة..

ومثل هذا الرغبة في الخلود والسعادة الأبدية.. فهي موجودة فينا، ويكذب على نفسه من يزعم عدم إحساسه بها.. ولذلك كانت هذه الرغبة دليلا على وجود ما يمثلها في الواقع.. مثلما نستدل بوجود الماء والطعام وكل ما نشعر بحاجتنا إليه.

بل إن الشعور بالرغبة في الخلود أعظم من كل الرغبات.. ولذلك لم يؤسس الطب ولا كل العلوم المرتبطة به إلا للسعي لتحقيق بعض متطلبات تلك الرغبة.

وقد أشار إلى هذا المعنى بديع الزمان النورسي بقوله: (يرى العلماء المحققون أن أفكار البشر وتصوراتِه الإنسانيةَ التي لا تتناهى المتولّدةَ من آماله غير المتناهية، الحاصلةَ من ميوله التي لا تُحد، الناشئةَ من قابلياته غير المحصورة، المندمجةَ في استعداداته الفطرية غير المحدودة، المندرجةَ في جوهر روحه، كلُّ منها تمدّ أصابعَها فتشير وتحدُق ببصرِها فتتوجّه إلى عالم السعادة الأبدية وراء عالم الشهادة هذا. فالفطرةُ التي لا تكذب أبدا والتي فيها ما فيها من ميلٍ شديد قطعي لا يتزحزحُ إلى السعادة الأخروية الخالدة تعطي للوجدان حدسا قطعيا على تحقق الحياةِ الأخرى والسعادة الأبدية) (1)

ويقول: (نعم، إنّ دارَ الدنيا القصيرة هذه لا تكفي ـ كما أنها ليست ظرفا ـ لإظهار ما لا يحدّ من الاستعدادات المندمجة في روح الإنسان وإثمارِها، فلابدّ أن يُرسَل هذا الإنسان إلى عالم آخر.. نعم، إنّ جوهر الإنسان عظيم، لذا فهو رمز للأبدية ومرشّح لها. وإنّ ماهيتَه عالية وراقية؛ لذا أصبحت جنايتُه عظيمة؛ فلا يشبه الكائنات الأخرى، وإن نظامَه دقيق ورائع، فلن تكونَ نهايتُه دون نظام، ولن يُهمَل ويذهب عبثا، ولن يُحكم عليه بالفناء المطلق ويهرب إلى العدم. وإنما تفتح جهنمُ أفواهَها فاغرةً.. تنتظره.. والجنة تبسط ذراعيها

__________

(1) الكلمات، ص 607.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (23)

لاحتضانه..) (1)

وهذا الدليل يشبه كثيرا الدليل الأنطولوجي لأنسلم وديكارت، ودليل الصديقين للفارابي وابن سينا والملا صدرا.. فكل هذه الأدلة تعتمد على تلك الحقائق التي ركزت في نفس الإنسان، فأصبحت من البديهيات التي لا يحتاج إلى الاستدلال لها.

وكمثال على ذلك فإن الدليل الذي ينص على أن (الموجود الذي لا يمكن تصور شيء أعظم منه لا يمكن أن يوجد في العقل وحده، وبالفعل، حتى إذا كان موجودا في العقل وحده، فمن الممكن أن نتصور موجودا مثله له وجود في الواقع أيضا، وهو بالتالي أعظم منه، وعليه، إذا كان موجودا في العقل وحده، فإن الموجود الذي لا يمكن تصور شيء أعظم منه سيكون من طبيعة تستلزم أن يكون بالإمكان تصور شيء أعظم منه) (2)

والذي ينسب إلى أنسلم يمكن تطبيقه هنا، فالإنسان يشعر بأن هذه الحياة لا تكفي لتلبية رغباته الكثيرة، ولا تفي برد حقوقه المستلبة، ولذلك يتطلع إلى حياة أخرى، يجد في نفسه شوقا كبيرا إليها.

وهذه ليست عقدة نفسية كما يتوهم الذين يجعلون من الحياة بعد الموت نوعا من التفكير الرغبوي، ذلك أن هذه الرغبة متفق عليها بين البشر جميعا، وفي جميع العصور، وهي تدل على أن لها واقعا لم نكتشفه لأننا لم نرحل بعد إلى ذلك العالم.

ولو كانت تفكيرا رغبويا لانحصرت في أشخاص دون أشخاص، أو طائفة دون طائفة، مثلما نرى الكثير من النزغات الشاذة، أو العقد النفسية التي يحاول المرضى أن يحولوا منها حقائق واقعية، ولو كانت كذلك لاشترك البشر جميعا في الانفعال لها، مثلما يشتركون في عطشهم وجوعهم وأشواقهم المختلفة.

__________

(1) المرجع السابق، ص 612.

(2) إميل برهييه في تاريخ الفلسفة (3/ 51)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (24)

بناء على هذا سنذكر هنا نماذج مختلفة تدل على مدى فطرية هذا الاعتقاد، وشموله لكل الناس قديما وحديثا، ومن يوصفون بالخرافة، أو من يوصفون بكونهم من أهل العلم.

1. الموت.. وتصورات الحضارات القديمة

من الملاحظات الجديرة بالاهتمام أننا نرى كل الحضارات تعتقد الحياة بعد الموت، وبوجود الروح، وإن كانت تختلف في تصوير ذلك، بناء على الخرافات التي صورها لها الخيال أو رجال الدين، وأكبر دليل على ذلك تلك الطقوس التي تقام للموتى، ولم تكن لتقام لو كان الموت انفصالا نهائيا عن الحياة، وبكل معانيها.

ومن الأمثلة على ذلك الحضارة المصرية القديمة، والتي كانت تقوم على الكثير من المعتقدات، وكان من أهمها تلك المعتقدات المرتبطة بالحياة بعد الموت، يقول بعض الباحثين في ذلك: (إيمان المصريين بولادة جديدة بعد الموت أصبحت القوة الدافعة وراء ممارسات جنازة خاصة بهم. وكأن الموت مجرد انقطاع مؤقت، بدلاً من التوقف الكامل عن الحياة، وأنه يمكن ضمان الحياة الأبدية عن طريق وسائل مثل التقوى للآلهة، والحفاظ على الشكل المادي من خلال التحنيط، وتوفير التماثيل والمعدات الجنائزية الأخرى) (1)

وينقل عن باحث آخر قوله: (وقد تأثر موقف المصريين القدماء من الموت بإيمانهم بالخلود، واعتبروا الموت بمثابة انقطاع مؤقت، بدلاً من توقف الحياة. ولضمان استمرارية الحياة بعد الموت، ألقى الناس تحية للآلهة، سواء أثناء حياتهم أو بعدها على الأرض. عندما ماتوا، كانوا محنطين، حتى الروح سوف تعود إلى الجسم، مما يعطيها التنفس والحياة، وقد وضعت المعدات المنزلية والطعام والشراب على تقديم طاولات خارج غرفة الدفن لتوفير احتياجات الشخص في العالم بعد الدفن. كما تم تضمين النصوص الجنائزية المكتوبة التي

__________

(1) إشكالية الموت في الديانات السماوية والأرضية، يسرى وجيه السعيد، مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 43.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (25)

تتكون من نوبات أو صلاة لمساعدة الموتى في طريقهم إلى عالم ما بعد الحرب) (1)

ويذكر الباحثون أن المصريين في حضارتهم القديمة كانوا يؤمنون بالبعث، وأن معتقداتهم تذكر أنه يمكن للإنسان أن يحافظ على حياته بعد الموت إذا حافظ على كينونته، وهي تتركب عندهم من 4 أجزاء: الاسم (رين)، الروح (با)، الظل (شيوت) والنفس (كا).

وجميع هذه الأجزاء ـ كما يرى المصريون القدامى ـ (تولد مع الإنسان، فالاسم والروح والظل والنفس ترافقه مدى الحياة وما بعد الحياة كجزء من كيانه، وعند الموت تبقى هذه المركبات ملازمة للميت، وتبقى الـ[با]؛ أي الروح، حية حتى بعد موت الجسد. وقد صوّرها المصريون في رسوماتهم على هيئة جسد طائر برأس بشري، وهي تطير منتقلة ما بين العالم المادي والعالم الأخروي، تتماهى مع حركة الشمس، تحلق في بزوغها ثم تعود إلى القبر والعالم السفلي عند الغروب. وقد آمن المصريون بأن الـ[با] لا يمكنها العودة إلى القبر ما لم تتعرف على جسد الميت، ومن ثم، لا يمكن للمرء أن يعود إلى الحياة إذا فني جسد الميت ولم تتعرف الروح إليه. ولهذا حرص المصريون على المحافظة على الجسد، فمارسوا مهمة التحنيط التي تخدم المرء في عودة روحه إلى جسده بعد الموت؛ فبدون جسد لا يوجد اسم ولا ظل ولا نفس، وهي أمور يحتاجها الميت للمثول أمام محكمة الآلهة للمحاسبة على أفعاله، ومن ثم يُبعث من جديد في الحياة الأخرى) (2)

وهم يربطون هذه المعتقدات التي تختلط فيها الحقيقة بالخرافة بالكثير من السلوكات التي يمتزج فيها العقل مع الشعوذة، وقد وصلنا ما يسمى بكتاب الموتى الفرعوني، والذي

__________

(1) المرجع السابق، وقد نقلت النص عن موسوعة ستانفورد للفلسفة، في تعريف الموت.

(2) هاجس البعث: الموت والقيامة في الحضارات الإنسانية، أحلام رحال، مدونة الأجنحة والنور، على الرابط التالي: https://ahlam 002.wordpress.com

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (26)

يعرف ببردية [حونفر]، وهو يتكون من مجموعة مفصلة من التعاويذ والتمائم السحرية التي كانت تنقش على جدران المقابر أو على التوابيت، وذلك إبان عصر الدولة القديمة (ما بين 2780 ق. م و2263 ق. م)، لتتحول إلى بردية مكتوبة خلال عصر الدولة الوسطى والحديثة (ما بين 2134 ق. م و1069 ق. م)، حيث تكتب نصوص التعاويذ وتوضع البردية في التابوت إلى جانب المومياء.

وقد استغل الكهنة هذه المعتقدات في طلب الأموال الكثيرة لكتابة تلك التعويذات والتمائم التي تنجي صاحبها بعد الموت.. يقول بعض الباحثين: (ولم يكن هذا الأمر متوفراً لكل المصريين، ?نه مكلف جداً. لذلك، اختصت به طبقة معينة من النبلاء والموظفين وخدام الآلهة في المعبد. تلك التعاويذ والتمائم التي يحملها الكتاب هي تعليمات إرشادية تمكّن الميت من تخطي العقبات والمخاطر التي ستصادف روحه في أثناء رحلته إلى الحياة الأخرى، وتدله أيضاً على الوسائل التي يتعين عليه أن يستخدمها، ليتمم هذه الرحلة بنجاح من دون أن يتعرض لأي سوء) (1)

وتحفظ لنا الكتب المصرية القديمة الكثير من الأدعية والتعويذات الدالة على اعتقادهم بالقوانين التي تحكم عالم ما بعد الموت، ومنها أنهم كانوا يرددون: (لم أقم بشر ضد الناس، لم أطغَ على الضعفاء، لم أقم بأي شيء باطل، لم أترك أي إنسان جائع، لم أرغم أيّ إنسان أن يشتغل أكثر من ما هو قادر عليه، لم أترك أيّاً كان يبكي ويتألم من شيء قمت به، أنا نظيف أنا نظيف أنا نظيف) (2)

ونفس الشيء نجده في الحضارة السومرية، وقد قال بعض الباحثين في ذلك: (إن

__________

(1) كتاب الموتى الفرعوني وأسطورة البعث من الموت والحساب أمام الآلهة، مهدي بو عبيد، موقع شباب الشرق الأوسط، على الرابط التالي: http://ar.mideastyouth.com/?p=47790.

(2) المرجع السابق.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (27)

مصادر معتقدات بلاد ما بين النهرين في الآخرة تأتي من فترات متميزة في تاريخ بلاد ما بين النهرين، وتشمل الثقافات السومرية والأكادية والبابلية والآشورية. لذلك، يجب أن نكون حريصين على عدم اعتبار معتقدات ما بعد النهر في بلاد ما بين النهرين ثابتة أو موحدة. ومثل كل النظم الثقافية، تحولت أفكار بلاد ما بين النهرين من الحياة الآخرة على مر الزمن. كما تباينت المعتقدات والممارسات المتعلقة بالحياة الآخرة مع الوضع الاجتماعي والاقتصادي وتختلف في النماذج الدينية الرسمية والشعبية. ومع هذا، فإن الاستمرارية الثقافية بين الحضارة السومرية وخلفائها تسمح بتوليف مصادر متنوعة من أجل توفير مقدمة عمل لمفاهيم بلاد ما بين النهرين في الحياة الآخرة) (1)

ومن الأساطير التي كانت تنتشر إبان الحضارة السومرية، والمرتبطة بالحياة بعد الموت تلك الأسطورة التي تذكر أن (الإله الراعي دوموزي (تموز في الصيغة البابلية) كان قد تجنب الوقوع في شباك الإلهة عشتار، فسلمته عقاباً له لناظر العالم السفلي. وبعد حين شعرت عشتار بالندم على فعلتها، فقررت إنقاذه من الموت. عقدت عشتار صفقة مع آلهة العالم السفلي لإعادة دوموزي، على أن يحل أحد مكانه لبضعة أشهر يعود فيها إلى الحياة، ثم بعد فترة ينزل للعالم السفلي من جديد. تطوعت كوشتينانا (أخت دوموزي) لفدائه، حيث تحل محله في العالم السفلي لستة أشهر من كل عام، ويتمتع هو بحريته في هذه المدة على سطح الأرض. ويتم ذلك عن طريق طائر الفنيق أو العنقاء، كرمز لعودته للحياة) (2)

وبناء على هذه الأسطورة أصبح طائر النار المسمى بطائر الفنيق رمزاً للبعث والعودة للحياة، وبعدها أصبح الكنعانيون يحتفلون كل عام في بداية الربيع بعيد عودة دوموزي

__________

(1) انظر: مقالاً حول عادات بلاد ما بين النهرين القديمة في الحياة الآخرة، بقلم م. تشوكسي، في 20 حزيران / يونيو 2014، نقلا عن المرجع السابق..

(2) المرجع السابق.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (28)

(تموز) للحياة، حيث تتزامن عودته مع مواعيد الزراعة عندهم، فأصبح عيد عودته رمزاً لانبعاث الزرع وعودة العشب الأخضر إلى الحياة من بعد الموت، رمزاً للخصوبة والتناسل والتجدد، واستعملوا البيض كرمز لقيامة تمّوز، حيث يخرج الكتكوت (الصوص) من البيضة، بمثل ما يخرج الزرع من الأرض وتخرج الحياة من القبر (1).

وهذه الأسطورة في حقيقتها تشير إلى ما تدل عليه الكثير من المظاهر الطبيعية على وجود الحياة بعد الموت، كما قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50]

وهكذا نجد كل الديانات السماوية تتبنى نفس الموقف من الموت، وأنه ليس النهاية، بل هو البداية لحياة جديدة، لها قوانينها الخاصة، كما ورد في الإنجيل: (من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه وبه ننال الحياة الأبدية) (يو 6: 56).

وهكذا نجد الدروز والديانات الهندية ومنها البوذية والهندوسية، تؤمن بالتناسخ، أي عودة الروح بعد الموت في خلق جديد. (إذ يرى الدروز على سبيل المثال أن روح الإنسان الميت تنتقل بعد وفاته إلى جسد طفل حديث الولادة، وتستمر بالتناسخ من خَلق لآخر حتى تحين القيامة فتجتمع الأرواح وتصعد للمحاسبة) (2)

2. الموت.. وتصورات الحضارة الحديثة

على الرغم من فشو الإلحاد والمادية عند أكثر الفلاسفة والمفكرين الذين يدعون تمثيل الحضارة الحديثة، نتيجة موقفهم السلبي من رجال الدين الذي أساءوا استخدام الدين والتعبير عنه، إلا أننا مع ذلك نجد رغبة كبيرة عندهم في تحقق ما يقوله المؤمنون من الحياة

__________

(1) هاجس البعث: الموت والقيامة في الحضارات الإنسانية.

(2) المرجع السابق.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (29)

بعد الموت.

وقد عبر عن تلك الرغبة الفطرية البروفيسور (كنجهام) في كتابه [Plato's Apalogy]: فقال: (إن عقيدة الحياة بعد الموت (لا أدرية مفرحة) (1)

وقد علق على هذه العبارة وحيد الدين خان بقوله: (من الممكن اعتبار هذا القول خلاصة أفكار فلاسفتنا الملحدين المعاصرين؛ فهم يرون أن عقيدة الآخرة اخترعتها عقلية الانسان الباحثة عن عالم حر، مستقل عن حدود هذا العالم، ومشكلاته، مليء بالأفراح. وانما يدفعه إلى الايمان بهذه العقيدة أمله في الحصول على حياته المفضلة، التي لاجهد فيها ولاكدح.. وأن هذه العقيدة تنتهي بالانسان إلى عالم مثالي وخيالي، حيث يحلم بأنه سوف يظفر به بعد الموت. ولكن الحقيقة ـ كما يراها الفلاسفة ـ أن لاوجود لشيء كهذا العالم الثاني في الأمر الاقع!) (2)

ثم أضاف ردا عليهم: (وفي رأيي: أن هذا المطلب الانساني ـ في حد ذاته ـ (دليل نفسي) قوي على وجود عالم آخر، كالظمأ، فهو يدل على الماء، وعلى علاقة خاصة باطنة بين الماء وبين الانسان. وهكذا فان تطلع الانسان ـ نفسيا ـ إلى عالم آخر دليل في ذاته على أن شيئا مثل ذلك موجود في الحقيقة، أو أنه ـ على الاقل ـ خليق أن يوجد. وهذا المطلب النفسي يؤكد علاقة مصيرنا بهذه الحقيقة، ويدلنا التاريخ على وجود هذه الغريزة الانسانية منذ أقدم العصور على مستوى انساني، وهو أمر لاأستطيع فهمه: كيف يمكن أن يؤثر أمر باطل على البشر في هذا الشكل الأبدي، وعلى مستوى انساني؟ وهذا الواقع نفسه يدلنا على قرينة قوية بامكان وجود العالم الآخر. وانكار هذه الحاجة النفسية، بدون أدلة، يعتبر جهلا

__________

(1) نقلا عن الإسلام يتحدى، ص 92.

(2) المرجع السابق، ص 92.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (30)

وتعصبا) (1)

وبين مدى التناقض الذي يقع فيه المنكرون لهذه الحقيقة الفطرية التي يجدونها في أنفسهم، بل لا يملكون الفرار منها، فقال: (إن الذين ينكرون حاجة نفسية عظيمة مثل هذه زاعمين أنها باطلة، هم من أعجز الناس حقا عن تفهم أي (واقع) على سطح الأرض بعد هذا.. ولو كانوا يزعمون الفهم في الواقع فلاأدري بأي دليل؟.. وعن أي برهان؟.. ولو كانت هذه الأفكار نتاج المجتمع، كما يزعمون، فكيف لاتزال تطابق التفكير الانساني، بهذه الصورة المدهشة، من اقدم العصور؟ هل تجدون مثالا لأية أفكار إنسانية أخرى ظلت باقية إلى العصر الحاضر، وبهذا التسلسل الرائع منذ ألوف السنين؟ هل يستطيع أذكى اذكيائهم أن يخترع فكرا واهيا، ثم يدخله إلى النفس الانسانية، وكأنه موجود بها منذ الأزل؟) (2)

وينقل وحيد الدين خان لإثبات هذا الدليل الكثير من النقول من العلماء الغربيين، منها قول الأستاذ [وينوود ريد]: (إنه لأمر هام يدعونا إلى التفكير فيما اذا كانت لنا علاقة شخصية مع الاله؟ هل هناك عالم غير عالمنا هذا؟ وهل سوف نلقى جزاء أعمالنا في ذلك العالم؟ ان هذا السؤال ليس بعقدة فلسفية عظيمة فحسب، وانما هو في نفس الوقت أعظم أسئلتنا العملية أيضا. انه سؤال تتعلق به مصالحنا الكثيرة؛ فحياتنا الراهنة قصيرة جدا، أفراحها عادية موقوتة، آذ اننا عندما نظفر بما نحلم به، يفاجئنا الموت، ولو استطعنا الاهتداء إلى طريق خاصة تجعل أفراحنا دائمة وأبدية، فلن يرفض العمل به أحد غير البله والمجانين منا) (3)

ثم ذكر كيف أن هذا العالم راح يعرض عن هذا الدليل النفسي مع قوته بناء على غلبة

__________

(1) المرجع السابق، ص 92.

(2) المرجع السابق، ص 92.

(3) المرجع السابق، ص 93.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (31)

التفكير المادي، حيث أن ذلك الكاتب نفسه استطرد، فأنكر ذلك المطلب النفسي الكبير من أجل أمور لاوزن لها ولاقيمة؛ حيث قال تعقيبا على كلامه السابق: (إن هذه العقيدة كانت معقولة جدا حين كنا لا نبحث جوانبها بعمق وجد.. ولكن بعد هذا البحث اتضح لنا أنها أمر سخيف، ويمكن إثبات سخافته بسهولة، فالفلاح المحروم العقل الجاهل لايتحمل مسؤولية خطاياه، وسيدخل الجنة، ولكن العباقرة مثل (جوته)، و(روسو)، سوف يحترقون في نار الجحيم؛ فلأن يخلق الانسان محروم العقل خير له من أن يكون من أمثال جوته وروسو!! ان هذا الكلام تافه وسخيف) (1)

وهذا الكلام اللامنطقي يشبه كثيرا ما ذكره القرآن الكريم عن الوليد بن المغيرة، ذلك الذي تبين له الحق، لكنه راح يتملص منه بأعذار واهية لا قيمة لها، وقد قال في شأنه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 11 - 25]

وهو يشبه أيضا ـ كما يذكر وحيد الدين خان ـ موقف [اللورد كلوين] تجاه التحقيق العلمي الذي قام به (ماكسويول)؛ فقد زعم اللورد أنه لايستطيع أن يفهم نظرية ما إلا بعد وضع نموذجها الميكانيكي، وبناء على هذا الفرض أنكر نظرية ماكسويل عن البرق والمغناطيس، لأنها لم تحل في إحدى نماذج اللورد المادية.

وقد ذكر وحيد الدين خان موقف العالم الكبير (سوليفان) من هذا وقوله: (كيف يروق لأحد أن يدعي أن الطبيعة لابد أن تكون كما يضعها مهندس القرن التاسع عشر في

__________

(1) المرجع السابق، ص 92.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (32)

معمله؟)، وعقب عليه قائلا: (وسوف أوجه هذا الكلام إلى الأستاذ (وينوود): (كيف يجوز لفيلسوف القرن العشرين أن يرى: أن يكون الكون الخارجي، في حقيقة الأمر مطابقا لما يزعمه هو؟) (1)

ثم أضاف يقول: (إن كاتبنا لم يستطع أن يفهم أمرا في غاية البساطة: هو أن الحقيقة لاتحتاج إلى الواقع الخارجي، وانما الواقع الخارجي هو الذي يكون في حاجة إلى (الحقيقة).. فالحقيقة أن لهذا الكون الها، وسوف نمثل أمامه يوم الحساب. فلابد لكل منا ـ سواء أكان روسو أم كان مواطنا عاديا ـ أن يكون وفيا ومطيعا لالهه؛ فنجاتنا لن يحققها جحودنا، بل هي تكمن في ايماننا وطاعتنا.. والغريب أن كاتبنا لم يرق له أن يطالب (جوته) و(روسو) أن يسلكا مسلك الحق، وانما طالب الحق بالتغير! ولما لم يطع الحق راح ينكره!! وهذا أشبه بمن ينكر قانون حفظ الأسرار العكسرية، الذي يكرم أحيانا جنديا بسيطا، ويعدم عالما ممتازا، مثل (روزنبيرج وعقيلته الحسناء) بالكرسي الكهربائي!!) (2)

ثانيا ـ الموت.. وبراهين الدين

يتصور الكثير من الملاحدة أو منكري المعاد بأن البراهين الدينية لا علاقة لها بالبراهين العقلية أو العلمية أو الفطرية.. وهذا غير صحيح من وجوه كثيرة جدا، لعل أولها وأهما قيام البناء الديني على ضرورة وجود إله، وهي ضرورة تدل عليها أدلة عقلية كثيرة، لم يذكرها رجال الدين فقط، وإنما ذكرها كبار العقلاء في العالم، سواء كانوا في المجال الفلسفي، أو المجال العلمي.

وإثبات وجود إله، وبتلك الصفات التي يدل عليها العقل، وتدل عليها المظاهر

__________

(1) المرجع السابق، ص 93.

(2) المرجع السابق، ص 94.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (33)

الكونية التي نراها كافية لإثبات المعاد، ومن جهات عقلية عديدة.

وهكذا فإن إثبات رسالات الأنبياء عليهم السلام قائمة أيضا على أدلة عقلية كثيرة، ولذلك فإن قبولهم يستدعي قبول كل ما جاءوا به، ومن أهم ما جاءوا به، واتفقوا عليه، إثبات الحياة بعد الموت، والكثير مما يرتبط بتلك الحياة.

لقد ذكر القرآن الكريم ذلك، واعتبر هذه المسألة من أهم المسائل بعد الإيمان بالله تعالى، ولهذا يقترن دائما الإيمان بالله بالإيمان باليوم الآخر، باعتبارهما الشطران الكبيران للعقيدة التي جاء بها جميع الأنبياء.

ولهذا كان من أول وظائف الرسل عليهم السلام التبشير والإنذار، وهما وظيفتان مرتبطتان بمصير الإنسان بعد موته، قال تعالى مخبرا عن خطاب خزنة جهنم لأهلها: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]

وهكذا أخبر القرآن الكريم أن كل الأنبياء كانوا يعلمون بالمعاد، ويخبرون أقوامهم به، وفي ذلك رد بليغ على من يتوهمون تطور العقائد، فقد حدثنا الله تعالى عن أب البشرية آدم عليه السلام، وقوله له: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 24]، وأخبر أن إبليس كان يعلم أن هناك معادا للخلائق، فقال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 36 - 38]

وأخبر عن نوح عليه السلام، وأنه قال لقومه أثناء تبليغ رسالة الله لهم: {وَالله أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17 - 18]

وأخبر عن إبراهيم عليه السلام ـ وهو النبي الذي تتفق على تبجيله جميع الديانات

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (34)

السماوية ـ قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]، وقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]

بل إن القرآن الكريم قص علينا قصة سؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الله للموتى، فقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]

وهكذا نجد القرآن الكريم يخبرنا عن موسى عليه السلام، وأن الله خاطبه في المناجاة بقوله: {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 15 - 16]، وقد كانت هذه المناجاة أول وحي تلقاه موسى عليه السلام، وهي دليل على أهمية المسألة، وانبناء الدين عليها.

وأخبرنا عنه قوله في دعائه: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: {156]

ويذكر تلك المعجزة التي حصلت في عهده، والتي كان من أغراضها إثبات إحياء الله للموتى، كما قال تعالى في قصة البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: {73]

وهكذا أخبرنا عن مؤمن آل فرعون الذي كان في عهد موسى عليه السلام، وأنه قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 32 - 33]، وقال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39]

أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والرسالة الخاتمة، فإنها أكبر المصادر المفصلة لأسرار ما بعد الموت، والبراهين الدالة عليها، وهي براهين ممتلئة بالعقلانية والفطرية والعلمية، وكلها

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (35)

ترجع إلى صفات الله تعالى خالق الكون.. والتي يدل عليها العقل والواقع، ذلك أن صفة الطبيب تقتضي علاج المرضى، وصفة الرحيم تقتضي تحقق الرحمة، وصفة الكريم تقتضي تنزل الكرم.. وصفة العدالة تقتضي تحقق العدل.

وهكذا، كانت كل صفات الله تعالى التي دل عليها العقل والدين والواقع أكبر الأدلة على عدم انحصار الحياة في هذا العالم الذي نعيشه.

بناء على هذا سنذكر هنا نماذج عن ذلك، من خلال خمس صفات كبرى، هي: القدرة، والحكمة، والربوبية، والعناية، والعدالة.

1 ـ الموت وبرهان القدرة

لعل أول الشبهات التي تعترض المنكرين للحياة بعد الموت توهمهم استحالة ذلك، وهو توهم ناتج عن قياس الخالق بالمخلوق، مع أن هؤلاء المنكرين أنفسهم وفي حياتهم العادية يرفضون القيام بأمثال هذه القياسات.

ذلك أن الاستحالة عادة لا ترتبط بالقضية بقدر ما ترتبط بمن وكلت إليه.. فلو أن المريض وكل علاجه لعامي وجاهل بالطب، لكان تحقيق ذلك مستحيلا، بخلاف ما لو وكل أمره لطبيب خبير.. فإن الاستحالة ترفع، والسبب بسيط، وهو أن الذي تولى ذلك خبير، له القدرة على ذلك.

وهكذا إذا طلب منك حل معادلة رياضية، فذكرت استحالة حلها، أو صعوبته، ذُكر لك أن الاستحالة مرتبطة بعقلك، لا بعقول الرياضيين.. ذلك أنهم يمكنهم حلها بسهولة.

وهكذا في كل المسائل، تجدهم يفرقون بين القدرات المختلفة، ويربطون الاستحالة بالطاقة والقدرة، كما ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (36)

ولهذا نجد القرآن الكريم ينبه هؤلاء الذين يقيسون قدراتهم بقدرة الله إلى النظر في الكون، لاكتشاف مدى ضعفهم وجهلهم وعجزهم أمام قوة الله وعلمه وقدرته المطلقة.

وهذا دليل عدم علمية هذا النوع من التفكير، ذلك أن العالم الذي يرى هذا الكون، ودقته ونظامه، ويرى جسم الإنسان، وما أودع فيه من الطاقات، لا يحيل على الصانع البديع الذي صمم هذا الكون والإنسان بأن يعيده، أو يحييه.

ولذلك رد القرآن الكريم على منكري البعث لتوهمهم استحالته، بإثبات قدرة الله المطلقة التي يدل عليها الواقع، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 78 - 83]

وهكذا يدعو الله العقول المتحجرة التي تحصر معارفها فيما تراه، وفي قدراتها المحدودة، وتتوهم أن قدرة الله مثل قدرتها، بأن تنظر في الكون لترى أن قدرة الله التي صممته ذلك التصميم البديع يستحيل أن يمتنع ذلك عليها، وهذا خطاب ممتلئ بالعلمية والعقلانية.

وهكذا يخاطب القرآن الكريم المنكرين للمعاد، بأن ينظروا في السموات والأرض، ليستدلوا بالقدرة على النشأة الثانية بالقدرة على النشأة الأولى، قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} (يّس:81)، فكل شيء يسير على الله، والكون كله يدل على ذلك اليسر، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ الله الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} [العنكبوت: 19]

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (37)

ويخاطب الله تعالى الذين قالوا ـ مغترين بما لديهم من المعارف ـ: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} (الاسراء: 49)، بأمرهم بأن يتحولوا إلى أي شيء شاءوا مما يتعتقدون قوته: {قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} (الاسراء: 50 - 51)، فإذا بقيت حيرتهم حينها ويقولون: {مَن يُعِيدُنَا}، فإن الجواب القرآني يكتفي بتذكيرهم بالنظر إلى مبدأ خلقهم، قال تعالى: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}

ثم يذكر القرآن الكريم ابتعاد أولئك الجاحدين عن المنهج العلمي، عندما يفرون من أصل القضية إلى فروعها، وذلك بالسؤال عن موعد ما لا يؤمنون به، وكأن عدم تحديد الموعد هو الدليل على ما ينكرونه، قال تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً} (الاسراء:51)

2 ـ الموت وبرهان الحكمة

وهو من البراهين الواضحة جدا، ذلك أن العقل يحكم بأن تصرفات العليم الخبير لا تكون إلا بناء على حكمة جليلة قد نعلمها، وقد لا نعلمها، وعدم علمنا بها لا يعني عدم وجودها، فلذلك إن أخبرنا عنها بنفسه، أو أرسل من يخبر عنها، كان في ذلك موافقة لما تقتضيه العقول.

وقد أرسل الله لنا من يدلنا على حكمته من خلقه، ويبين لنا الأهداف الكبرى لكل ما نراه في الكون والحياة، وأنه لم يخلق عبثا، بل لكل شيء غاية من ورائه، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، ثم عقب بعدها ببيان استحالة العبث على الله، فقال: {فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116]

وهكذا اعتبر القرآن الكريمة خلو الكون من الغاية نوعا من الباطل الذي يتنزه عنه الحق، وكيف لا يتنزه عنه، وخلقه مع ضعفهم وقصورهم ينزهون تصرفاتهم من أن تكون

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (38)

للعبث المجرد، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]

ولذلك لم يكن للحق أن يتحقق لولا وجود حياة أخرى تكمل هذه الحياة، وتسد القصور والنقص الموجود فيها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]

وفي دعوة الله تعالى إلى الصفح، وربطه بالقيامة دليل على أن العدالة المطلقة ستكون هناك، ليُقتص من الظالمين، ويأخذ أصحاب الحقوق حقوقهم، وهو ما لا نجده في الدنيا إلا قليلا.. ولذلك كان من مقتضيات الحكمة والعدالة أن تؤدى الحقوق لأهلها، سواء في هذه الدار أو في غيرها.

والعلماء يعترفون بانبناء الكون على الحكمة، ولهذا نشأت كل العلوم، فهي تفترض دائما ومبدئيا أن لكل موجود غاية، وأنه ليس هناك شيء بلا فائدة، أو بلا دور، حتى تلك الفكرة التي ذكرها البيولوجيون أواخر القرن التاسع عشر، ليؤيدوا نظرية التطور، والتي تنص على أن (الأعضاء الضامرة أو الآثارية) لا وظيفة لها، لأنها من بقايا التطور، راح العلم بعد تطوره يفند أطروحاتهم، ويبين أن لها وظائف لم يتفطن لها أهل القرن التاسع عشر، وكان الأصل ـ لو تواضعوا، ولم يدخلوا الأيديولوجيا في العلم ـ أن يسلموا بعدم خلوها من الحكمة، ولو لم يكتشفوا سرها.

ومن الأمثلة على ذلك الموقف من [الغدة الصنوبرية] (1)، فقد ذهب الكثير من العلماء في القرن التاسع عشر إلى كونها عضوا أثريا، ليست له أي وظيفة، وبرروا ذلك بصغر حجمها، وهذا ما جعلهم لا يهتمون بالبحث فيها.

__________

(1) الغدة الصنوبرية: هي غدة صغيرة الحجم من الغدد الصماء تقع في المخ وهي المسؤولة عن إفراز هرمون الميلاتونين ولها علاقة بتنظيم معدل النمو الجسمي وكذلك عمليات النضج الجنسي في الكائن الحي.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (39)

بينما رأى آخرون استحالة خلوها من الوظيفة، بناء على ما يرونه في جسم الإنسان، وأنه لا يوجد فيه شيء من دون أن تكون له حكمة، وغياب معرفتنا بالحكمة لا يعني عدم وجودها، فلذلك راحوا يفترضون فرضيات كثيرة، ويطبقون عليها المنهج العلمي إلى أن وصلوا إلى التعرف على دورها.

وهكذا كان التطور العلمي سببا في اكتشاف الحكمة المجهولة من هذا العضو البسيط، وهو يدل على أن العقل الذي يلجأ إلى نفي الحكمة، ويدعو بذلك إلى التخلي عن البحث عنها عقل كسول، بخلاف العقل الذي يبحث عن الحكمة المختفية وراء ما يراه من مظاهر.

ولهذا كان الذي يسأل عن سر الكون، والحكمة منه، ويبحث جادا عن ذلك، وعبر المناهج المختلفة أكثر علمية من ذلك العقل الكسول الذي يرى خلو أبسط أجزاء الكون من العبث في نفس الوقت الذي يتوهم فيه أن الكون بجملته خلق عبثا، ولا جدوى منه، ولا حكمة من ورائه.

ومثل ذلك مثل من يدخل قصرا يرى فيه الجمال والإتقان، وأن كل شيء فيه مصمم وفق تصميم بديع، ولغايات نبيلة.. لكنه وبعد التعرف على أسرار كل تفاصيله وغرفه، يذكر أن القصر جميعا بني لغير حكمة، وأنه مجرد عبث.. وهذا مستحيل فالحكمة في التفاصيل والجزئيات والفروع تدل على الحكمة في الأهداف والغايات والكليات.

وقد ذكر القرآن الكريم بعض المظاهر التي نستطيع من خلالها أن نكتشف أن الحياة أعظم من أن تنحصر بالصورة التي نراها، فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19]

وقد علق عليها بديع الزمان النورسي في [رسالة الحشر] مبينا وجوه الاستدلال بها على هذا المعنى، فقال: (ما دامت (الحياة) هي حكمة خلق الكائنات، وأهم نتيجتها

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (40)

وجوهرها، فلا تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية القصيرة الناقصة المؤلمة، بل إن الخواص التسع والعشرين للحياة وعظمة ماهيتها، وما يُفهم من غاية شجرتِها ونتيجتها.. ما هي إلّا الحياة الأبدية، والحياة الآخرة والحياة الحية بحَجَرها وترابِها وشجرها في دار السعادة الخالدة. وإلّا يلزم أن تظل شجرة الحياة المجهَّزة بهذه الأجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور ـ ولا سيما الإنسان ـ دون ثمر ولا فائدة ولا حقيقة، ولظل الإنسانُ تعسا وشقيا وذليلا وأحط من العصفور بعشرين درجة، بالنسبة لسعادة الحياة، مع أنه أسمى مخلوق وأكرم ذوي الحياة وأرفع من العصفور بعشرين درجة. بل العقلُ الذي هو أثمن نعمة يصبح بلاءً ومصيبة على الإنسان بتفكره في أحزان الزمان الغابر ومخاوف المستقبل، فيعذِّب قلبَه دائما معكّرا صفو لذة واحدة بتسعة آلام!. ولاشك أن هذا باطل مائة في المائة) (1)

ثم راح يتساءل قائلا: (يا تُرى هل يمكن لربّ قدير، يهيئ ما يلزم حياتك من الحاجات المتعلقة بها جميعا ويوفر لك أجهزتَها كلها سواء في جسمك أو في حديقتك أو في بلدك، ويرسلُه في وقته المناسب بحكمة وعناية ورحمة، حتى إنه يعلم رغبةَ معدتك فيما يكفل لك العيش والبقاء، ويسمع ما تَهتف به من الدعاء الخاص الجزئي للرزق مُبديا قبولَه لذلك الدعاء بما بثّ من الأطعمة اللذيذة غير المحدودة ليُطمئِن تلك المعدة! فهل يمكن لهذا المدبّر القدير أن لا يعرفك؟ ولا يراك؟ ولا يهيئ الأسباب الضرورية لأعظم غاية للإنسان وهي الحياة الأبدية؟ ولا يستجيب لأعظم دعاء وأهمّه وأعمّه، وهو دعاء البقاء والخلود؟ ولا يقبله بعدم إنشائه الحياة الآخرة وإيجاد الجنة؟ ولا يسمع دعاء هذا الإنسان وهو أسمى مخلوق في الكون بل هو سلطان الأرض ونتيجتها.. ذلك الدعاء العام القوي الصادر من الأعماق، والذي يهز العرش والفرش! فهل يمكن أن لا يهتم به اهتمامَه بدعاء

__________

(1) الكلمات، بديع الزمان النورسي، ص (114)..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (41)

المعدة الصغيرة ولا يُرضي هذا الإنسان؟ ويعرّض حكمتَه الكاملة ورحمتَه المطلقة للإنكار؟ كلا.. ثم كلا ألف ألف مرة كلا) (1)

ليس ذلك فقط ما يتساءل عنه العقل الحكيم، بل إن هناك أسئلة أخرى كثيرة، منها ما عبر عنه النورسي بقوله: (هل يقبل العقل ـ بوجه من الأوجه ـ أن القدير الحكيم ذا الرحمة الواسعة وذا المحبة الفائقة وذا الرأفة الشاملة والذي يحب صنعتَه كثيرا، ويحبّب نفسه بها إلى مخلوقاته وهو أشد حبا لمن يحبونه.. فهل يعقل أن يُفني حياةَ مَن هو أكثر حبا له، وهو المحبوب، وأهل للحب، وعابد لخالقه فطرةً؟ ويُفني كذلك لبَّ الحياة وجوهرها وهو الروح، بالموت الأبدي والإعدام النهائي، ويولّد جفوة بينه وبين محبيه ويؤلمهم أشدّ الإيلام، فيجعل سرَّ رحمته ونور محبته معرّضا للإنكار!) (2)

ثم يجيب عن ذلك قائلا: (حاشَا لله ألف مرة حاشا لله.. فالجمال المطلق الذي زيّن بتجليه هذا الكون وجمّله، والرحمة المطلقة التي أبهجت المخلوقات قاطبة وزيّنتها، لاشك أنهما منزّهتان ومقدستان بلا نهاية ولا حد عن هذه القساوة وعن هذا القبح المطلق والظلم المطلق) (3)

3 ـ الموت وبرهان الربوبية

ويشير إلى هذا البرهان قوله تعالى في سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 5]، فقد جمع الله تعالى في هذه السورة الكريمة، التي هي أم القرآن، بين ربوبيته ومالكيته ليوم الدين، ذلك أن الربوبية تقتضي وجود دار يتحقق فيها الجزاء الإلهي للمحسنين والمسيئين على حد سواء، وإلا لما كان

__________

(1) الكلمات، بديع الزمان النورسي، ص (114)..

(2) الكلمات، بديع الزمان النورسي، ص (11) 5..

(3) الكلمات، بديع الزمان النورسي، ص (11) 5..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (42)

هناك معنى للتكاليف.

ذلك أن الربوبية ـ التي هي صفة من صفات الله تعالى، واسم من أسمائه الحسنى ـ تتضمن الكثير من المعاني المقتضية لذلك، فربوبية الله للعالمين (تتضمن تصرفه فيه، وتدبيره له، ونفاذ أمره كل وقت فيه، وكونه معه كل ساعة في شأن، يخلق ويرزق؛ ويميت ويحيي، ويخفض ويرفع؛ ويعطي ويمنع؛ ويعز ويذل، ويصرف الأمور بمشيئته وإرادته)

وكل هذه المعاني تستلزم عدم اقتصار الحياة على هذه الحياة الدنيا التي نعيشها، بل تقتضي وجود دار أخرى، وحياة أخرى، لأننا لا نرى في هذه الحياة تحقق الكثير من هذه المعاني مع أن الربوبية تستدعيها.

ولهذا ورد في القرآن الكريم الإخبار بأن الدار الأخرى هي الدار التي تتحقق فيها الحياة الحقيقية، وذلك لأن الربوبية تتجلى فيها بشكل كامل، بخلاف هذه الدار التي هيئت فيها الأمور بناء على الاختبار والابتلاء الإلهي، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]

ولذلك تتجلى في تلك الحياة التي تلي الموت مباشرة الأشياء على ما هي عليه في الواقع، كما قال تعالى مخبرا عن ساعة الاحتضار: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 83 - 94]

فهذه الآيات الكريمة تخبر عن الحقيقة التي تظهر للإنسان بمجرد انتهاء فترة الامتحان، حيث يبدو له مصيره الذي صنعه بيديه ماثلا بين عينيه.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (43)

وهكذا يخبر الله تعالى أن من صفات الدار الآخرة التي ستقع لا محالة أنها تخفض من حقه التخفيض، وترفع من حقه الرفع، قال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)} [الواقعة: 1 - 3]

وقد أشار إلى هذا المعنى بديع الزمان النورسي، في رسالة الحشر، فقد تساءل قائلا: (أمن الممكن لمَن له شأن الربوبية وسلطنة الألوهية، فأوجدَ كونا بديعا كهذا الكون؛ لغايات سامية، ولمقاصد جليلة، إظهارا لكماله، ثم لا يكون لديه ثواب للمؤمنين الذين قابلوا تلك الغايات والمقاصد بالإيمان والعبودية، ولا يعاقِب أهل الضلالة الذين قابلوا تلك المقاصد بالرفض والاستخفاف..؟!) (1)

وذكر في مقدمة الرسالة قصة توضيحية جميلة، قدم لها بقوله: (يا أخي! إِن رمتَ إيضاح أمرَ الحشر وبعضَ شؤون الآخرة على وجهٍ يُلائم فهمَ عامة الناس، فاستمع معي إلى هذه الحكاية القصيرة) (2)

ولأهمية القصة نلخص بعض محتوياتها، فهي تصوير تقريبي لحقيقة تلك الحياة، وأحيانا كثيرة يكون التقريب نفسه برهانا.. لأن الحجاب بين بعض العقول وتعقل المعاني هو تلك التوهمات والصور الأسطورية والخرافية التي سرت إليها؛ فإذا ما زالت الأسطورة حلت بدلها الحقيقة.

وتبدأ حكاية النوسي التقريبية بـ (اثنين ذهبا معا إلى مملكة رائعة الجمال كالجنة ـ التشبيه هنا للدنيا ـ وإذا بهما يَريان أن أهلها قد تركوا أبواب بيوتهم وحوانيتهم ومحلاتهم مفتوحة لا يهتمون بحراستها.. فالأموالُ والنقود في متناول الأيدي دون أن يحميها أحد) (3).. وهذا

__________

(1) الكلمات، النورسي، ص 67.

(2) المرجع السابق، ص 49.

(3) المرجع السابق، ص 49.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (44)

تصوير تقريبي للدنيا، التي نجد فيها النعم بمختلف أشكالها، وكأنه لا مالك لها.

وقد كان أحد الاثنين ـ كما ورد في القصة ـ صالحا يستعمل عقله، والآخر منحرفا متبعا لهواه، وقد راح بناء على ما رآه من سهولة السرقة، (يسرق حينا ويغصب حينا آخر مرتكبا كل أنواع الظلم والسفاهة، والأهلون لا يبالون به كثيرا) (1)

وعندما رآه صديقه الصالح يفعل ذلك قال له: (ويحك ماذا تفعل؟ إنك ستنال عقابك، وستلقيني في بلايا ومصائب. فهذه الأموال أموال الدولة، وهؤلاء الأهلون قد أصبحوا ـ بعوائلهم وأطفالهم ـ جنود الدولة أو موظفيها، ويُستخدمون في هذه الوظائف ببزّتهم المدنية، ولذلك لم يُبالوا بك كثيرا، واعلم أن النظام هنا صارم، فعيون السلطان ورقباؤه وهواتفه في كل مكان.. أسرع يا صاحبي بالاعتذار وبادر إلى التوسل) (2)

ولكن صاحبَه لم يقبل ذلك، بل راح يردد: (دعني.. فهذه الأموال ليست أموال الدولة، بل هي أموال مشاعة، لا مالك لها. يستطيع كل واحد أن يتصرف فيها كما يشاء. فلا أرى ما يمنعني من الاستفادة منها، أو الانتفاع بهذه الأشياء الجميلة المنثورة أمامي، واعلم أنى لا أصدّق بما لا تراه عيناي) (3)

وهنا راح صاحبه يقنعه باستحالة أن تكون تلك المملكة الجميلة المنظمة من دون سلطان أو حاكم، وقال له أثناء حديثه معه: (إنك بلا شك تعلم أنه لا قرية بلا مختار، ولا إبرة بلا صانع وبلا مالك، ولا حرف بلا كاتب.. فكيف يسوغ لك القول: إنه لا حاكم ولا سلطان لهذه المملكة الرائعة المنتظمة المنسقة؟ وكيف تكون هذه الأموال الطائلة والثروات النفيسة الثمينة بلا مالك) (4)

__________

(1) المرجع السابق، ص 49.

(2) المرجع السابق، ص 50.

(3) المرجع السابق، ص 50.

(4) المرجع السابق، ص 50.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (45)

ثم راح يذكر له الأدلة الكثيرة على اقتضاء الصنعة للصانع، والمملكة للملك، وكان من ضمنه أقواله له قوله: (ألا ترى في أرجاء هذه المملكة إعلانات السلطان وبياناته، وأعلامَه التي ترفرف في كل ركن، وختمه الخاص وسكّته وطرّته على الأموال كلها، فكيف تكون مثل هذه المملكة دون مالك؟)

وبعد تلك الأدلة الكثيرة راح ذلك السفيه يسلم جدلا بوجود السلطان، لكنه راح يعلل ممارساته الخاطئة في تلك المملكة بذرائع جديدة، حيث ردد على مسامعه قوله: (لنسلّم بوجود السلطان، ولكن.. ماذا يمكن أن تضرَّه وتُنقصَ من خزائنه ما أحوزُه لنفسي منها؟ ثم إني لا أرى هنا عقابا من سجن أو ما يشبهه!) (1)

وهنا أجابه صاحبه المؤمن بقوله: (يا هذا، إن هذه المملكة التي نراها ما هي إلّا ميدان امتحانٍ واختبار، وساحة تدريب ومناورة، وهي معرض صنائع السلطان البديعة، ومضيف مؤقت جدا.. ألا ترى أن قافلة تأتي يوميا وترحل أخرى وتغيب؟ فهذا هو شأن هذه المملكة العامرة، إنها تُملأ وتُخلى باستمرار، وسوف تُفرغ نهائيا وتبدل بأخرى باقية دائمة، وينقل إليها الناس جميعا فيثاب أو يُعاقب كلّ حسب عمله) (2)

وهنا راح الصاحب يسأل عن إمكانية وجود محكمة كبرى، ودار للثواب والإحسان، وأخرى للعقاب والسجن، وقد أجابه صديقه باثني عشر صورة، تدل على ضرورة وجود تلك المحكمة.. سنعرض لما نحتاجه منها عند الحديث عن برهان العدالة.

والخلاصة أن هذه القصة التقريبية تصور الواقع بدقة، وتبرهن عليه.. فما نراه من النعم العظيمة، والتنظيم الدقيق يدل على ضرورة وجود إله يملك هذا الكون، ويدبر أموره، وكل الأدلة العقلية تدل على ذلك.

__________

(1) المرجع السابق، ص 50.

(2) المرجع السابق، ص 50.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (46)

ثم إن هذا الإله ـ بحسب ما يدل علاه الكون ـ يستحيل أن يترك خلقه من دون عناية أو رعاية أو اهتمام.. وكيف يفعل ذلك، وهو يرعى أبسط حاجاتهم منذ نشأتهم الأولى إلى وفاتهم؟

وذلك يدل وحده على ضرورة استمرار الحياة، وإلا لكان كل هذا الكون وكل هذه النعم لا معنى لها.. فما معنى أن يستضيف أحدهم شخصا، ثم يقتله بعد انتهاء ضيافته؟.. وما معنى أن يربي الأستاذ تلاميذه، ويعلمهم، ثم يسلمهم في نهاية المطاف إلى الموت الذي يقضي عليهم قضاء كليا؟

هذه بعض تجليات هذا البرهان، وسنتحدث عنه بتفصيل أكثر عند الحديث عن الجنة والنار، باعتبارهما المحل الذي تتجلى فيه الربوبية بصور الجزاء أو صورة العقاب.

4 ـ الموت وبرهان العناية

وهو من البراهين الواضحة لكل من قلب طرفه فيما وضع الله تعالى في الكون من دلائل عنايته بخلقه، وتلبيته لحاجاتهم دون أن يسألوها.. وهو لا يدل فقط على وجود الله، كما استدل على ذلك الفلاسفة والمتكلمون (1)، وإنما يدل أيضا على استمرارية الحياة، لأنها من أكبر الحاجات التي يشعر الإنسان بضرورتها.. ولولاها لكانت الحياة عبثا، ولا معنى لها.

__________

(1) وخصوصا ابن رشد الذي أولى هذا الدليل عنايته الكبرى، وقد قال معبرا عن ذلك: (الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها إذا استقراء الكتاب العزيز وجدت تنحصر في جنسين: أحدهما: طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها ولنسم هذه (دليل العناية) والطريقة الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل، ولنسم هذه (دليل الاختراع)، ثم ذكر وجه الاستدلال على البرهان الأول [برهان العناية].. فذكر أنه ينبني على أصلين بقدر فهمهما والرسوخ في معرفتهما، بقدر ما يتوضح البرهان، وتزال الإشكالات المرتبطة به، أما الأصل الأول، فهو (أن جميع الموجودات التي ها هنا موافقة لوجود الإنسان)، وأما الأصل الثاني، فهو (أن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك، مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق.. أي صدفة) [انظر الدليل بتفصيل في كتابي: كيف تناظر ملحدا، ص 59]

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (47)

وهو برهان يدل ـ من طريق آخر ـ على إرسال الله الرسل، وإنزال الكتب الشارحة لحقائق الوجود، وقوانين الحياة، ولذلك يستدل المتكلمون بهذا الدليل على النبوات، كما يستدلون به على وجود الله.

وهو بذلك، وفي كل الأحوال يدل على ضرورة تكميل هذه الحياة بحياة أخرى، تسد نقصها، وتوفر كل الحاجات التي افتقرت إليها هذه الحياة.

ولذلك نرى القرآن الكريم يربط بين عناية الله بعباده في الدنيا، وبين الحديث عن الآخرة، ليذكر أن رب الدنيا هو رب الآخرة، وأن الذي استطاع أن يوفر كل هذه الأقوات في الدنيا، لن يعجز عن توفيرها في الآخرة.. وأن الذي وفر الحياة الأولى لن يعز عليه أن يوفر الحياة الأخرى.

ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في سورة النبأ، والتي تتحدث عن اليوم الآخر باعتباره من القضايا التي وقع فيها الخلاف، فبعد تقرير ذلك الخلاف في اليوم الآخر بدأت الآيات الكريمة مباشرة في الاستدلال بالعناية الإلهية على وجود الحياة الأخرى، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 6 - 16]

وبعد هذه الآيات الكريمة التي تضمنت مجامع النعم التي أنعم الله بها على عباده، بدأ الحديث عن اليوم الآخر، قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 17 - 20]

والآيات الكريمة تربط بين ما نراه في الدنيا من آثار المواقيت على الأشياء، وتقلباتها،

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (48)

بذكر اليوم الآخر، وكونه مرحلة من مراحل هذا الكون، ونشأة من نشآت الحياة.. والذي قدر على خلق النشأة الأولى لن يضعف عن خلق النشأة الثانية.

وهكذا نرى القرآن الكريم يربط بين عناية الله تعالى بعباده في هذه النشأة بذكر النشأة الآخرة، باعتبارها من مقتضيات عناية الله تعالى بعباده، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد فيه عند ذكر الأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 13 - 16]

فهذه الآيات الكريمة جميعا تعتبر الحياة الأخرى التي تلي الموت مرحلة جديدة، مثلها مثل مرحلة الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة.. فالإنسان لا يفنى بالموت، وإنما ينقطع تحكمه في جسده فقط..

وهكذا يخاطب القرآن الكريم العقول بالتأمل في النشأة التي تعيشها، والتي يسميها النشأة الأولى، لتعبر منها لسائر النشآت التي تنتظرها، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة: 62]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (49)

وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27]، وقال: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وقال: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66 - 67]

وقد عبر بديع الزمان النورسي عن المعاني التي تدل عليها هذه الآيات الكريمة، ووجه الاستدلال بها على وجود نشآت أخرى، فقال: (إن تزيينَ وجه العالم بهذه المصنوعات الجميلة اللطيفة، وجعْل الشمس سراجا، والقمر نورا، وسطح الأرض مائدة للنعم، وملأها بألذِّ الأطعمة الشهية المتنوعة، وجعل الأشجار أوانيَ وصحافا تتجدد مرارا كل موسم.. كل ذلك يُظهر سخاءً وجودا لا حدّ لهما.. فلابد أن يكون لمثل هذا الجود والسخاء المطلقين، ولمثل هذه الخزائن التي لا تنفد، ولمثل هذه الرحمة التي وسعت كل شيء، دارَ ضيافة دائمة، ومحلَّ سعادة خالدة يحوي ما تشتهيه الأنفسُ وتلذُّ الأعين وتستدعي قطعا أن يخلد المتلذذون في تلك الدار، ويظلوا ملازمين لتلك السعادة ليبتعدوا عن الزوال والفراق، إذ كما أن زوال اللذة ألم فزوالُ الألم لذة كذلك، فمثل هذا السخاء يأبى الإيذاءَ قطعا.. أي إن الأمر يقتضي وجودَ جنة أبدية، وخلود المحتاجين فيها؛ لأن الجود والسخاء المطلَقين يتطلبان إحسانا وإنعاما مطلَقين، والإحسان والإنعام غير المتناهيين يتطلبان تنعما وامتنانا غير متناهيين، وهذا يقتضي خلودَ إنعام مَن يستحق الإحسان إليه، كي يُظهر شكره وامتنانه بتنعّمه الدائم إزاء ذلك الإنعام الدائم.. وإلّا فاللذة اليسيرة ـ التي ينغّصها الزوالُ والفراق ـ في هذه الفترة الوجيزة لا يمكن أن تنسجم ومقتضى هذا الجود والسخاء) (1)

وهكذا استدل بالعناية الإلهية بإرسال الرسل، على ذلك، فقال: (.. وأنصت إلى الداعين الأدلّاء إلى محاسن الربوبية، وهم الأنبياء عليهم السلام والأولياء الصالحون، كيف

__________

(1) الكلمات، ص 72.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (50)

أنهم يُرشدون جميعا الناسَ لمشاهدة كمال صنعة الصانع ذي الجلال بتشهيرهم صنعتَه البديعة ويلفتون أنظارهم إليها.. إذن، فلصانع هذا العالم كمال فائق عظيم مثير للإعجاب، خفيّ مستتر، فهو يريد إظهاره بهذه المصنوعات البديعة، لأن الكمال الخفي الذي لا نقص فيه ينبغي الإعلانَ عنه على رؤوس أشهادٍ مقدِّرين مستحسنين معجَبين به. وأن الكمال الدائم يقتضي ظهورا دائما، وهذا بدوره يستدعى دوامَ المستحسنين المعجَبين، إذ المعجَب الذي لا يدوم بقاؤه تسقط في نظره قيمةُ الكمال) (1)

5 ـ الموت وبرهان العدالة

وهو من البراهين الواضحة التي دلت عليها القوانين التي بني عليها الكون، فكلها تشير إلى أنه بني بموازين دقيقة، وأنه لو تغيرت تلك الموازين لانهد الكون، ولم يبق بالصورة التي هو عليها.

فالعلم الحديث (2) يذكر أنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين، ولما أمكن وجود حياة النبات، ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو عليه، فإن بعض الشهب التي تسير بسرعة تترواح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية، في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق، ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض.

وهكذا يذكرون أن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان، إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم.

__________

(1) المرجع السابق، ص 73.

(2) انظر: كتاب العلم يدعو إلى الإيمان أ. كريسي مورسون رئيس أكاديمية العلوم في واشنطن

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (51)

ويذكرون أن الأوكسجين لو كان بنسبة 50 في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال، لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر.

وغيرها من الأمثلة الكثيرة التي تؤكدها البحوث والدراسات العلمية كل يوم، والتي أشار إليها قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (الحجر:19)، وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21]، وقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن:7)

وغيرها من الآيات الكريمة التي تنص على أن كل ما خلقه الله تعالى بني على أساس توازن دقيق جدا، كما عبر عن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]

وهكذا لو ذهبنا إلى الشريعة التي أنزلت على جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، لرأينا العدل من أوائل القيم التي كلفوا بالدعوة إليها، بل بالسعي لتحقيقها في الأرض، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)

وأخبر أن كل ما ورد به القرآن الكريم من الأحكام أحكام تقوم على القسط، بل هي القسط عينه، قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (لأعراف:29)

وهكذا نجد فيه الدعوة للعدل، وفي جميع المجالات، قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه} (النساء: 58)، وقال: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (52)

أَوْ فَقِيراً فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء:135)، وغيرها من الآيات الكريمة.

ولذلك كان من أسماء الله الحسنى اسم العدل، وقد عرفه الغزالي، وبين مدى انطباقه على الله تعالى من خلال النظر في الكون، فقال: (العدل هو الذي يصدر منه فعل العدل المضاد للجور والظلم، ولن يعرف العادل من لم يعرف عدله، ولا يعرف عدله من لم يعرف فعله، فمن أراد أن يفهم هذا الوصف فينبغي أن يحيط علما بأفعال الله تعالى من ملكوت السموات إلى منتهى الثرى حتى إذا لم ير في خلق الرحمن من تفاوت، ثم رجع البصر فما رأى من فطور، ثم رجع مرة أخرى فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير، وقد بهره جمال الحضرة الربوبية وحيره اعتدالها وانتظامها، فعند ذلك يعبق بفهمه شيء من معاني عدله تعالى وتقدس) (1)

وهذه المعاني جميعا لا تكتفي في دلالتها على وصف الله بالعدل، أو وصف كونه ورسله وشرائعه به، وإنما تدل أيضا على ضرورة وجود حياة أخرى غير هذه الحياة، يتحقق فيها العدل بصورته الكاملة.

وقد عبر النورسي عن وجه الدلالة في ذلك، فقال ـ متسائلا ـ: (أمن الممكن لخالق ذي جلال أظهر سلطان ربوبيته بتدبير قانون الوجود ابتداء من الذرات وانتهاء بالمجرات، بغاية الحكمة والنظام وبمنتهى العدالة والميزان.. أن لا يعامِل بالإحسان من احتموا بتلك الربوبية وانقادوا لتلك الحكمة والعدالة، وأن لا يجازي أولئك الذين عصَوا بكفرهم وطغيانهم تلك الحكمةَ والعدالة؟.. بينما الإنسان لا يَلقى ما يستحقه من الثواب أو العقاب في هذه الحياة الفانية على وجه يليق بتلك الحكمة وتلك العدالة إلاّ نادرا، بل يؤخَّر، إذ يرحل أغلبُ أهل الضلالة دون أن يلقوا عقابهم، ويذهب أكثرُ أهل الهداية

__________

(1) المقصد الأسنى:98.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (53)

دون أن ينالوا ثوابهم.. فلابد أن تُناط القضيةُ بمحكمة عادلة، وبلقاءٍ آيل إلى سعادة عظمى) (1)

ثم دعا إلى النظر في الكون، للعبور منه إلى هذه الحقيقة، فقال: (إن منح كل شيء وجودا بموازين حساسة، وبمقاييس خاصة، وإلباسَه صورة معينة، ووضعَه في موضع ملائم.. يبيّن بوضوح أن الأمور تسير وفق عدالة وميزان مطلقين.. وكذا، إعطاء كل ذي حق حقَّه وفق استعداده ومواهبه، أي إعطاء كل ما يلزم، وما هو ضروري لوجوده، وتوفير جميع ما يحتاج إلى بقائه في أفضل وضع، يدلّ على أن يد عدالة مطلقة هي التي تُسيّر الأمور.. وكذا، الاستجابة المستمرة والدائمة لما يُسأل بلسان الاستعداد أو الحاجة الفطرية، أو بلسان الاضطرار، تُظهر أن عدالةً مطلقة، وحكمة مطلقة هما اللتان تُجريان عجلة الوجود) (2)

وبناء على هذا كله يتساءل النورسي قائلا: (هل من الممكن أن تهمل هذه العدالةُ وهذه الحكمة تلك الحاجةَ العظمى، حاجةَ البقاء لأسمى مخلوق وهو الإنسان؟ في حين أنهما تستجيبان لأدنى حاجة لأضعف مخلوق؟ فهل من الممكن أن تردّا أهمَّ ما يرجوه الإنسانُ وأعظمَ ما يتمناه، وألّا تصونا حشمة الربوبية وتتخلّفا عن الإجابة لحقوق العباد؟) (3)

ثم يجيب قائلا: (غير أن الإنسان الذي يقضي حياةً قصيرةً في هذه الدنيا الفانية لا ينال ولن ينال حقيقةً مثل هذه العدالة. وإنما تؤخَّر إلى محكمة كبرى. حيث تقتضي العدالةُ الحقة أن يلاقي هذا الإنسان الصغير ثوابَه وعقابه لا على أساس صغره، بل على أساس ضخامة جنايته، وعلى أساس أهمية ماهيته، وعلى أساس عظمة مهمته.. وحيث إن هذه

__________

(1) الكلمات، ص 70.

(2) المرجع السابق، ص 71.

(3) المرجع السابق، ص 71.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (54)

الدنيا العابرة بعيدة كل البعد عن أن تكون محلا لمثل هذه العدالة والحكمة بما يخص هذا الإنسان ـ المخلوق لحياة أبدية ـ فلابد من جنةٍ أبدية، ومن جهنم دائمة للعادل الجليل ذي الجمال وللحكيم الجميل ذي الجلال) (1)

وقد ذكر في بداية الرسالة، وفي الحكاية التي حاول أن يقرب بها ضرورة وجود حياة أخرى، اثني عشر صورة تدل على ضرورة وجود تلك الحياة، وكلها ترتبط بالعدل في الجزاء، نكتفي منها بالمعاني التالية (2):

1. أمِنَ الممكن لسلطنةٍ، ولاسيما كهذه السلطنة العظمى، أن لا يكون فيها ثواب للمطيعين ولا عقاب للعاصين؟.. ولما كان العقاب والثواب في حكم المعدوم في هذه الدار، فلابد إذن من محكمةٍ كبرى في دارٍ أخرى.

2. تأمل سير الأحداث والإجراءات في هذه المملكة، كيف يوزَّع الرزقُ رغدا حتى على أضعف كائن فيها وأفقره.. إذن فمالِكُ هذه السلطنة ومليكُها ذو كرم عظيم، وذو رحمة واسعة، وذو عزة شامخة، وذو غيرة جليلة ظاهرة، وذو شرف سامٍ. ومن المعلوم أن الكرم يستوجب إنعاما، والرحمة لا تحصل دون إحسان، والعزة تقتضي الغيرة، والشرف السامي يستدعي تأديب المستخفين، بينما لا يتحقق في هذه المملكة جزء واحد من ألفٍ مما يليق بتلك الرحمة ولا بذلك الشرف. فيرحل الظالم في عزته وجبروته ويرحل المظلوم في ذله وخنوعه. فالقضية إذن مؤجّلة إلى محكمة كبرى.

3. انظر، كيف تُنجَز الأعمال هنا بحكمة فائقة وبانتظام بديع، وتأمل كيف يُنظر إلى المعاملات بمنظار عدالةٍ حقة وميزانٍ صائب. ومن المعلوم أن حكمةَ الحكومة وفطنتها هي اللطف بالذين يحتمون بحماها وتكريمهم. والعدالةُ المحضة تتطلب رعاية حقوق الرعية،

__________

(1) المرجع السابق، ص 71.

(2) انظر: الكلمات، ص 50، فما بعدها.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (55)

لتصان هيبة الحكومة وعظمة الدولة.. غير أنه لا يبدو هنا إلّا جزء ضئيل من تنفيذ ما يليق بتلك الحكمة، وبتلك العدالة.. فالقضية إذن مؤجلة بلا ريب إلى محكمة كبرى.

4. انظر إلى ما لا يعد ولا يحصى من الجواهر النادرة المعروضة في هذه المعارض، مما يُبرز لنا أن لسلطان هذه المملكة سخاءً غير محدود.. ولكن مثل هذا السخاء الدائم، ومثل هذه الخزائن التي لا تنفد، يتطلبان حتما دار ضيافة خالدة أبدية، فيها ما تشتهيه الأنفس. ويقتضيان كذلك خلودَ المتنعمين المتلذذين فيها، من غير أن يذوقوا ألمَ الفراق والزوال؛ إذ كما أن زوالَ الألم لذة فزوال اللذة ألم كذلك.

5. تأمل، كيف أن لهذا السلطان ـ الذي لا نظير له ـ رأفة عظيمة، إذ يغيث الملهوف المستغيث، ويستجيب للداعي المستجير، وإذا ما رأى أدنى حاجة لأبسط فرد من رعاياه فإنه يقضيها بكل رأفة وشفقة.. فهل مِن الممكن لمن يملك كلَّ هذه القدرة الفائقة، وكل هذه الرأفة الشاملة، أن لا يعطي عباده المطيعين له ما يرغبون فيه؟ وهو الذي يقضي بكل اهتمامٍ أدنى رغبة لأصغر فرد من رعاياه؟

ثالثا ـ الموت.. وبراهين العقل

ونقصد بها تلك البراهين التي استعملها الفلاسفة وغيرهم، إما لإثبات خلود النفس، أو لإثبات اليوم الآخر، وهي تتقاطع في أجزاء كثيرة منها بالبراهين السابقة، لكنا آثرنا تخصيصها بمبحث خاص، لاعتبارها من نتائج العقل المجرد عن الاستناد لأي نص مقدس.

ولعل من أكبر أنواع هذه البراهين اتفاق أكثر الفلاسفة على استمرارية الحياة بعد الموت، وإن اختلفوا في العلة التي تعود إليها تلك الاستمرارية، أو كيفيتها، ولا يهمنا ذلك هنا، لأن الهدف هو إثبات القضية، لا إثبات كيفيتها، ولا مصدرها، فذلك شأن آخر.

ولا نستطيع أن نورد هنا كل ما ذكره الفلاسفة اليونانيين أو غيرهم، لكثرته، ولذلك

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (56)

نكتفي باقتباس بعض ما ذكره عالم وفيلسوف يمكن اعتباره من كبار المؤرخين والمحققين في الفلسفة والعلوم المرتبطة بها، وهو الأستاذ الكبير المعاصر [يحي محمد] الذي نص على إجماع الفلاسفة القدامى على ما ذكرنا، فقد قال: (يجمع الفلاسفة على أن النفس لها أصل إلهي سابق على البدن، وهم من هذا المنطلق اعتقدوا بضرورة مفارقتها له بعد اكتمال مهمتها من بلوغ الحد الذي يجعلها قابلة للانفصال عنه كلياً. مما يعني أن النفس لا بد لها أن تعود إلى عالمها الالهي الذي تنزلت منه. أي فكما أن هناك تنزلاً، فهناك عود وصعود) (1)

وهو يذكر نوعين من الخلاف الذي أدى إليه النظر الفلسفي المجرد في المسألة:

أولهما ـ الخلاف في النفس التي يستمر وجودها بناء على المفاهيم الفلسفية المرتبطة بحقيقة الإنسان، حيث (يؤكد الفلاسفة بأن النفس التي تفارق البدن هي تلك التي تتصف بالتجرد، وتكون موضعاً للعلم العقلي، فهم يتفقون ـ كما ينقل ابن رشد ـ على أن النفس المخالطة للهيولى، والتي توصف بأنها مخلّقة لانواع الاجسام والابدان الارضية ومصورة لها، تعود الى مادتها الروحانية الإلهية، أما النفس التي لا تخالط الهيولى والتي ليس لها علاقة بتخليق البدن وتصويره، فان الفلاسفة يختلفون في حدود ما هو قابل للتجرد والرجوع الى الأصل الإلهي. فعند ارسطو أن جميع قوى النفس تبطل سوى العقل المكتسب المسمى بالعقل المستفاد، بخلاف العقلين المتبقيين، وهما العقل الهيولاني والعقل بالملكة. فالعقل الهيولاني هو عقل بالقوة، اي محض استعداد لقبول وادراك المعقولات، فهو بالتالي خال من الصور. أما العقل بالملكة فهو العقل الذي تحصل فيه المعقولات وكان من الممكن استحضارها متى شاءت النفس من غير جهد ولا تكلف. في حين ان العقل المستفاد فهو ذلك الذي تكون فيه المعقولات حاضرة عند العقل من غير غياب. فهذه هي قوى العقل

__________

(1) انظر: الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية: دراسة معرفية تعنى بتحليل نظام الفلسفة والعرفان وفهمه للإشكاليات الدينية، يحيى محمد، ص 146.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (57)

الثلاث، وكلها داثرة عند ارسطو باستثناء العقل الأخير، لكن أتباع ارسطو من المشائين القدامى وجدوا أن العقل الهيولاني هو أيضاً محفوظ بالبقاء لا يقبل الفساد والاندثار) (1)

الثاني: الخلاف في كيفية المعاد، وقد ذكر أن الفلاسفة ذكروا فيها أربعة أطروحات، هذه خلاصتها:

1. أن المعاد ليس جسمانياً، وإنما يجب ان يكون محلاً للعلم بما لا ينقسم، ولا يمكن الاشارة اليه حسياً، وهو قول أغلب الفلاسفة، فابن سينا - مثلاً - صرح بنفي المعاد الجسماني في رسالة (الاضحوية في امر المعاد) (2) وفي رسالة (دفع الغم من الموت) (3)، وفي كتاب (المبدأ والمعاد) ذكر عنواناً أومأ فيه الى ذلك المعنى، حيث جاء فيه: (في السعادة والشقاوة الوهمية في الآخرة دون الحقيقية) (4)

لكن ربما يكون مقصد ابن سينا من هذا ليس نفي المعاد الجسماني مطلقا، وإنما اعتبار المعاد الجسماني من القضايا التي دل عليها الشرع، بخلاف المعاد الروحاني أو النفسي التي دل عليها النظر الفلسفي المجرد، ويدل لذلك قوله في (إلهيات الشفاء): (يجب أن تعلم ان المعاد منه مقبول من الشرع ولا سبيل الى اثباته الا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة، وهو الذي للبدن عند البعث.. ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدقته النبوة، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقاييس اللتان للانفس) (5)

2. أن الخلود ليس فردياً، بل إن النفوس البشرية بعد الموت تتحد بعقل الإنسانية الشامل والمعبر عنه بالعقل الفعال، ويشبه ذلك الضوء حيث ينقسم بانقسام الاجسام

__________

(1) المرجع السابق، ص 146.

(2) ابن سينا: رسالة أضحوية في أمر المعاد، ص 50 - 51 و55 - 57.

(3) رسالة في دفع الغم من الموت، ص 50..

(4) المبدأ والمعاد، ص 114..

(5) إلهيات الشفاء، ص 423..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (58)

المضيئة، ثم يتحد عند انتفاء الاجسام، وكذا الامر في النفوس مع الابدان، اذ تتحد بانتفاء الأخيرة، وقد حكاه ابن رشد عن الفلاسفة المشائين.

3. أن المعاد الجسماني يعبر عن عالم وسيط وجامع بين العالمين الحسي والعقلي، وهو عالم الخيال والمُثل المعلقة، فهو يجمع صور جميع الموجودات العقلية والحسية. وتتصف هذه المُثل بأنها خارجية منفصلة عن النفس في عالم التجرد والآخرة، على شاكلة ما كان يقوله أفلاطون مع بعض الفوارق، حيث أن المُثل الافلاطونية نورية ثابتة، بينما المُثل المعلقة على صنفين، فمنها المستنيرة للسعداء، كما منها الظلمانية للأشقياء.. وفي جميع الاحوال فإن المُثل المعلقة ليست حالّة في قوام مادي، كما إنها ليست خيالات نفسية داخلية، وهو أمر يتسق مع نظريته النورية في الشهود والحضور، حيث في هذه الحالة تكون النفس مدركة لتلك البرازخ من المُثل إدراكاً حضورياً بالشهود، وهذا ما تبنته الفلسفة الإشراقية للسهروردي.

4. أن هناك أنواعاً متعددة من المعاد للممكنات الوجودية حسب مراتبها؛ تصل الى ستة أنواع، وتتصف أغلب هذه المعادات بأنها صورية وقائمة بحسب اعتبارات نظرية الاتحاد، فكل شيء يتحد بما يناسبه، ومن بين هذه المعادات هناك المعاد الخاص بالإنسان والذي بدوره يشتمل على عدد من المعادات بحسب مقاماته ومراتبه.

ويعتبر صدر المتألهين أبرز القائلين بتعدد أنواع المعاد تبعاً لاعتقاده بتعدد أنواع البشر، فالإنسان عنده، وإن كان نوعاً واحداً في الظاهر بحسب ما تخرج مادته الجسمانية من القوة الى الفعل، لكنه متخالف الماهية في الباطن، بحسب ما يخرج عقله الهيولاني من القوة الى الفعل، فعند خروج النفوس من القوة الهيولانية تصير أنواعاً متخالفة بحسب غلبة الصفات ورسوخ الملكات، فكل نوع من جنس ما يغلب عليه من صفات بهيمية أو سبعية أو شيطانية أو ملائكية، وكل فرد من الإنسان يعود الى مبدئه الذي انشأه، فالبعض يكون الحق علة وجوده ومباشر تكوينه بيديه، فيكون معاده اليه، وبعض آخر يكون مبدأ وجوده

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (59)

القريب هو آخر مراتب العقول المفارقة، لذا فمعاده يكون اليه، كما ان هناك بعضاً ثالثاً يكون وجوده بمدخلية بعض الشياطين الذين هم عمّار عالم الشر، لذلك فمعاده الى النار التي هي أصل وجوده حيث يتألف منها الشيطان، وهكذا (1).

هذه خلاصة للرؤى الفلسفية في المسألة، ولكل رؤية منها أدلتها الخاصة بها، والجامع بينها جميعا هو إثبات استمرارية الحياة بعد الموت، وإن اختلفوا في كيفية تلك الاستمرارية، ومن أهم الأدلة التي اعتمدوا عليها في ذلك (2):

1 ـ أن معلومات الإنسان مجردة عن المواد، فالعلم المتعلق بها يكون لا محالة مطابقاً لها، فيكون مجرداً لتجردها، فمحله ـ وهو النفس ـ يجب أن يكون كذلك، لاستحالة حلول المجرد في المادي.

2 ـ الماديات قابلة للقسمة، وعارض النفس ـ وهو العلم ـ غير منقسم، فمحلّه ـ وهو النفس ـ لا بد أن يكون كذلك، ثمّ إن محلّ العلوم الكلية لو كان جسماً أو جسمانياً لانقسمت تلك العلوم، لأن الحالّ في المنقسم منقسم، وانقسام العلوم والمفاهيم الذهنية مستحيل.

3 ـ إن النفوس البشرية تقوى على أفعال وإدراكات لا تتناهى، كتعقّل الأعداد غير المتناهية، والقوة الجسمانية لا تقوى على ما لا يتناهى، فهي إذن غيرها.

4 ـ لو كان وعاء العلم هو الدماغ أو غيره من آلات التعقّل، لكانت كلّ معلومةٍ تضاف إليه تشغل حيزاً منه، ولأصبحت القابلية العلمية للإنسان متناهية؛ لأن قابلية المادة على استيعاب المعلومات محدودة كالصحيفة التي تمتلئ بالكتابة، أو القرص الذي يمتلئ بالصوت أو الصورة، وذلك يعني أن الإنسان لو سمح له عمره أن يستوفي كل وعائه العلمي، فسيصل إلى مرحلة يفقد فيها استعداده للتعلم، وذلك محال.

__________

(1) تفسير صدر المتألهين، ج 8، ص 55 - 56.

(2) انظر: المعاد يوم القيامة، علي موسى الكعبي، ص 58، فما بعدها.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (60)

5 ـ العلم البديهي حاصله أن في ذات الإنسان حقيقة ثابتة يشعر بها على طول العمر وحتى بعد النشور، ويعبّر عنها بالأنا، فلو كان الإنسان هو هذا البدن المحسوس لأصبح عرضةً للتبدّل والتغيّر، ولاُسدل الستار على جميع معلوماته وأفكاره، ولكان شعوره بالأنا أمراً باطلاً وإحساساً خاطئاً، لأنّ أجزاء البدن متبدّلة متغيّرة، ففي كلّ يوم تموت ملايين الخلايا وتحلّ محلّها خلايا جديدة، وقد حسب العلماء معدل هذا التجدّد، فظهر أنه يحصل بصورة شاملة في البدن مرة كلّ عشر سنين، أما بعد الموت فإن البدن يضمحلّ ويتلاشى، والمتبدّل غير الثابت الباقي، وعليه فإن ملاك وحدة شخصية الإنسان والاساس في ثبات أفكاره ومعلوماته رغم حصول التغير في البناء الجسمي هو الروح.

6 ـ إن القوى الجسمانية تضعف وتكلّ مع توارد الأفعال عليها، فإنّ من نظر إلى قرص الشمس طويلاً لا يكاد يدرك في الحال غيره إدراكاً تاماً، أما القوى النفسانية فإنها لا تضعف بسبب كثرة الأفعال، بل عند كثرة التعقلات تقوى وتزداد نشاطاً، فالحاصل لها عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوى الجسمانية عند كثرة الأفعال، فوجب أن لا تكون جسمانية.

7 ـ حصول الأضداد في القوى النفسانية وعدم حصولها في القوى الجسمانية، فإذا حكمنا بأنّ السواد مضادّ للبياض، وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض، والبداهة حاكمة بأن اجتماع الأضداد في الأجسام محال، فلمّا حصل اجتماعها في القوى النفسانية وجب أن لا تكون جسمانية.

8 ـ إن المادة الجسمانية إذا حصلت فيها صور ونقوش مخصوصة، فإن وجود تلك الصور يمنع من حصول غيرها إلاّ بعد إزالة الاُولى، بينما يستوعب التعقّل والتصوّر الذهني الصور المتعاقبة التي يستطيع الإنسان أن يستحضرها أو يتخيلها في لحظة ما بمقدار وجودها الخارجي دون حاجة إلى التدرّج أو مرور الزمان ودون أن يمتلئ المحلّ بها، فلا بد أن يكون

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (61)

محلها غير ماديّ ولا متحيّز.

هذه أبرز الأدلة التي استدل بها الفلاسفة على تجرد الروح، ومن ثم استمرار حياتها بعد الموت، وقد حاول مصطفى محمود عند حديثه عن الروح في كتابه [حوار مع صديقي الملحد] أن يصيغها بطريقة مبسطة، تتناسب مع اللغة المستعملة في عصرنا، ويمكن تصنيف ما ذكره إلى دليلين اثنين.

الدليل الأول ازدواجية الحقيقة الإنسانية

فأول المؤشرات التي تساعدنا على التدليل على وجود الروح هو أن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة (1):

1. طبيعة خارجية ظاهرة مشهودة هي جسده تتصف بكل صفات المادة، فهي قابلة للوزن والقياس متحيزة في المكان متزمنة بالزمان دائمة التغير والحركة والصيرورة من حال إلى حال ومن لحظة إلى لحظة، فالجسد تتداول عليه الأحوال من صحة إلى مرض إلى سمنة إلى هزال إلى نشاط إلى كسل.. وملحق بهذه الطبيعة الجسدية شريط من الانفعالات والعواطف والغرائز والمخاوف لا يكف لحظة عن الجريان في الدماغ، ولأن هذه الطبيعة والانفعالات الملحقة بها تتصف بخواص المادة نقول إن جسد الإنسان ونفسه الحيوانية هما من المادة.

2. طبيعة داخلية مخالفة تماما للأولى ومغايرة لها، تتصف بالسكون واللازمان واللامكان والديمومة.. وهي العقل بمعاييره الثابتة وأقيسته ومقولاته.. والضمير بأحكامه، والحس الجمالي، والـ[أنا] التي تحمل كل تلك الصفات من عقل وضمير وحس جمالي وحس أخلاقي.

وهذه الـ[أنا] غير الجسد تماما وغير النفس الحيوانية التي تلتهب بالجوع والشبق،

__________

(1) حوار مع صديقي الملحد (ص: 37)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (62)

ذلك أنها الذات العميقة المطلقة وعن طريق هذه الذات والكينونة والشخوص والمثول في العالم.. وهو شعور ثابت ممتد لا يطرأ عليه التغير لا يسمن ولا يهزل ولا يمرض ولا يتصف بالزمان.. وليس فيه ماض وحاضر ومستقبل.. إنما هو آن مستمر لا ينصرم كما ينصرم الماضي.. وإنما يتمثل في شعور بالدوام.. بالديمومة.

هنا نوع آخر من الوجود لا يتصف بصفات المادة فلا هو يطرأ عليه التغير ولا هو يتحيز في المكان أو يتزمن بالزمان ولا هو يقبل الوزن والقياس.. بالعكس نجد أن هذا الوجود هو الثابت الذي نقيس به المتغيرات والمطلق الذي نعرف به كل ما هو نسبي في عالم المادة.

ويعرض مصطفى محمود لصديقه الملحد المتمسك برأي الفلاسفة الماديين في اعتبار الإنسان ذا طبيعة واحدة هي الطبيعة المادية مجموعة مشاهد نعيشها تثبت ازدواجية الطبيعة الإنسانية، وتثبت في نفس الوقت سيطرة الطبيعة الثانية على الأولى.

ومن أهمها تضحية الإنسان بنفسه، فـ (لحظة التضحية بالنفس حينما يضع الفدائي حزام الديناميت حول جسده، ويتقدم ليحطم الدبابة ومن فيها.. أين جسده هنا؟.. أين المصلحة المادية التي يحققها بموته.. ومن الذي يأمر الآخر؟.. إن الروح تقرر إعدام الجسد في لحظة مثالية تماما لا يمكن أن يفسرها مذهب مادي بأي مكسب مادي والجسد لا يستطيع أن يقاوم هذا الأمر.. ولا يملك أي قوة لمواجهته، لا يملك إلا أن يتلاشى تماما.. وهنا يظهر أي الوجودين هو الأعلى.. وأي الطبيعتين هي الإنسان حقا) (1)

ومن الأدلة العلمية المرتبطة بهذا، (ما يجري الآن من حوادث البتر والاستبدال وزرع الأعضاء.. وما نقرأه عن القلب الإلكتروني والكلية الصناعية وبنك الدم وبنك العيون ومخازن الإكسسوار البشري حيث يجري تركيب السيقان والأذرع والقلوب.. إلى هذه

__________

(1) المرجع السابق، ص 39.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (63)

الدرجة يجري فك الجسم وتركيبه واستبداله دون أن يحدث شيء للشخصية لأن هذه الذراع أو تلك الساق.. كل هذه الأشياء ليست هي الإنسان.. فها هي تنقل وتستبدل وتوضع مكانها بطاريات ومسامير وقطع من الألومنيوم دون أن يحدث شيء.. فالإنسان ليس هذه الأعضاء وإنما هو الروح الجالسة على عجلة القيادة لتدير هذه الماكينة التي اسمها الجسد.. إنها الإدارة التي يمثلها مجلس إدارة من خلايا المخ.. ولكنها ليست المخ.. فالمخ مثله مثل خلايا الجسد يصدع بالأوامر التي تصدر إليه ويعبر عنها ولكنه في النهاية ليس أكثر من قفاز لها.. قفاز تلبسه هذه اليد الخفية التي اسمها الروح وتتصرف به في العالم المادي) (1)

وبناء على هذا كله، فإن الشواهد كلها تدل على أن الإنسان له طبيعتان: (طبيعة جوهرية حاكمة هي روحه.. وطبيعة ثانوية زائلة هي جسده.. وما يحدث بالموت أن الطبيعة الزائلة تلتحق بالزوال والطبيعة الخالدة تلتحق بالخلود فيلتحق الجسد بالتراب وتلتحق الروح بعالمها الباقي) (2)

الدليل الثاني دليل الحركة

وهو من الأدلة الواضحة، التي تسلم لها جميع العقول؛ فـ (الحركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها، فلا يمكن لأحد أن يدرك الحركة وأن تتحرك معها في نفس الفلك وإنما لا بد من عتبة خارجية تقف عليها لترصدها) (3)

وكمثال على ذلك ـ يورده مصطفى محمود ـ (تأتي عليك لحظة وأنت في أسانسير متحرك لا تستطيع أن تعرف هل هو واقف أم متحرك لأنك أصبحت قطعة واحدة معه في حركته.. لا تستطيع إدراك هذه الحركة إلا إذا نظرت من باب الأسانسير إلى الرصيف

__________

(1) المرجع السابق، ص 39.

(2) المرجع السابق، ص 40.

(3) المرجع السابق، ص 40.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (64)

الثابت في الخارج.. ونفس الحالة في قطار يسير بنعومة على القضبان.. لا تدرك حركة مثل هذا القطار وأنت فيه إلا لحظة شروعه في الوقوف أو لحظة إطلالك من النافذة على الرصيف الثابت في الخارج.. وبالمثل لا يمكنك رصد الشمس وأنت فوقها ولكن يمكنك رصدها من القمر أو الأرض.. كما لا يمكنك رصد الأرض وأنت تسكن عليها وإنما تستطيع رصدها من القمر) (1)

وبناء على هذا كله لا يستطيع الإنسان أن يحيط بحالة إلا إذا خرج خارجها..

وهذه القاعدة يمكن تطبيقها مع الزمن، ذلك أننا (ما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لولا أن الجزء المدرك فينا يقف على عتبة منفصلة وخارجة عن هذا المرور الزمني المستمر ـ أي على عتبة خلود ـ ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل لحظة لما استطعنا أن ندرك هذه الثواني أبدا، ولانصرم إدراكنا كما تنصرم الثواني بدون أن يلاحظ شيئا) (2)

والنتيجة التي تدل عليها هذه الحقيقة هي (أن هناك جزءا من وجودنا خارجا عن إطار المرور الزمني ـ أي خالد ـ هو الذي يلاحظ الزمن من عتبة سكون ويدركه دون أن يتورط فيه ولهذا لا يكبر ولا يشيخ ولا يهرم ولا ينصرم.. ويوم يسقط الجسد ترابا سوف يظل هذا الجزء على حاله حيا حياته الخاصة غير الزمنية هذا الجزء هو الروح) (3)

وهذا الوجود الذي يتعالى على الزمن، شيء يستشعره كل إنسان (على صورة حضور وديمومة وشخوص وكينونة مغايرة تماما للوجود المادي المتغير المتقلب النابض مع الزمن خارجه.. وهذه الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الباطني.. هي المفتاح الذي يقودنا إلى الوجود الروحي بداخلنا ويضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه الروح) (4)

__________

(1) المرجع السابق، ص 40.

(2) المرجع السابق، ص 40.

(3) المرجع السابق، ص 41.

(4) المرجع السابق، ص 41.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (65)

وهكذا كان الشعور نفسه دليلنا إلى وجود الروح، وإلى الطبيعة المزدوجة التي يتشكل منها كياننا، والتي يكفي النظر إليها في التعرف على حقيقة الروح، والكثير من خصائصها..

ومن أهمها ـ كما يذكر مصطفى محمود ـ ما يدعو إليه الملاحدة أنفسهم، وهو الحرية، فـ (شعورنا الفطري بالحرية، ولو كنا أجساما مادية ضمن إطار حياة مادية تحكمنا القوانين المادية الحتمية لما كان هناك معنى لهذا الشعور الفطري بالحرية) (1)

رابعا ـ الموت.. وبراهين العلم

لا نقصد ببراهين العلم هنا توفير ما يطلبه أولئك الذين يطالبون كل حين بالأدلة الحسية المخبرية على إثبات الحقائق المرتبطة بالمعاد، أو بغيره من الحقائق الإيمانية، ويعتبرون عدم القدرة على إثبات ذلك عجزا، ويستنتجون من عدم القدرة على الإثبات عدم الثبوت.

ولو أن البشر استطاعوا تحقيق ذلك، ووصلوا بمداركهم الحسية إلى معرفة أسرار الحياة بعد الموت، لما بقي هناك معنى للتكليف والاختبار.. ذلك أن الاختبار منوط بالإيمان بالغيب، كما قال تعالى: {لِيَعْلَمَ الله مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]، وقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49]

ولذلك، فإن ذلك العقل الساذج الذي يطالب بالدليل الحسي لا يختلف عن عقل ذلك البدوي في الجاهلية الذي طالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المطالب التي ذكرها الله تعالى محتقرا الطريقة التي يفكر بها أصحابها، فقال: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِالله وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ

__________

(1) المرجع السابق، ص 41.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (66)

زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90 - 93]

وعدم إدراك المدارك الحسية لحقيقة الحياة بعد الموت، لا يعني كون المسألة غير علمية، فنتائج العلم أكبر من أن تحصر في المدارك الحسية، بل إن العقل يستعمل وسائل أخرى للوصول إلى الحقائق.

والعلماء أنفسهم يذكرون أن مجال العلم محدود جدا، فهو مرتبط بالمدارك والوسائل، فإذا انعدمت المدارك والوسائل توقف العلم، نفيا وإثباتا.

فلا يستطيع الطبيب الذي لم تتوفر لديه نتائج التحاليل، ولا التصوير الإشعاعي، ولا غيرها من وسائل التشخيص أن يعرف المرض، ولا أن يعالجه، بل يظل محتارا في تلك الاحتمالات الكثيرة، التي وإن أطاق أن يلغي بعضها ببعض الخبرة إلا أنه لا يطيق أن يلغي أكثرها.

وهكذا لولا اختراع المراصد والمجاهر والوسائل المختلفة لما استطعنا أن نكتشف أجزاء كبيرة من الكون كانت غير معروفة للأجيال السابقة، وعذرها ليس في كونها غير موجودة في عهودها، وإنما في عدم إدراكها.

ولهذا نص الحكماء جميعا على تلك الحكمة المعروفة القائلة: [عدم الإثبات لا يعني عدم الثبوت] (1)، أو [عدم العلم بالدليل ليس نفيا للمعلوم]، أو [عدم الوجدان ليس نفياً للوجود]

وهي الحكمة التي نص عليها القرآن الكريم عند بيانه لأسباب الكفر وتكذيب

__________

(1) الإثبات: مأخوذ من الفعل أثبت ومعناه إقامة الحجة والدليل والبرهان، والثبوت: مأخوذ من الفعل ثبت ومعناه الأمر الثابت يقينا في الواقع بغض النظر علمنا به أو لم نعلم به، ويعبر اللغويون عن الإثبات (بفعل متعد)، والثبوت (فعل لازم) فالإثبات أو (واسطة الإثبات) علة اعتقادك والثبوت أو (واسطة الثبوت) تعني العلة الحقيقية.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (67)

الأنبياء، فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39]

ولهذا، فإن العلم الحقيقي ممتلئ بالتواضع، وهو يقر بالجهل الكثير، وأنه لا يستطيع أن يحكم على العالم والأشياء من خلال المعارف البسيطة التي أحاط بها، بل أحاط بجزئيات قليلة منها.

ولهذا نجد طبيبا وباحثا كبيرا مثل [ألكسيس كاريل] (1) يشن حملة شديدة على الذين يحملون العلم ما لا يحتمل، أو يعتبرون العلم وسيلة لإنكار الحقائق التي دل عليها العقل بناء على عدم قدرة المخابر أن تبرهن عليها، لأن مجال المخابر مرتبط بالعوالم الخاصة بها.

وهو يعزو سبب ذلك في كتابه القيم [الإنسان ذلك المجهول] إلى ذلك الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون، وهو توهم أن التقدم الذي حصل في العلوم المادية والتقنية حصل مثله في علوم الإنسان، وذلك غير صحيح، يقول ألكسيس: (هناك تفاوت عجيب بين علوم الجماد وعلوم الحياة؛ فعلوم الفلك والميكانيكا والطبيعة تقوم على آراء يمكن التعبير عنها بسداد وفصاحة باللغة الحسابية.. بيد أن موقف علوم الحياة يختلف عن ذلك كل الاختلاف حتى ليبدو كأن أولئك الذين يدرسون الحياة قد ضلوا طريقهم في غاب متشابك الأشجار، أو أنهم في قلب دغل سحري لاتكف أشجاره التي لاعداد لها عن تغيير أماكنها وأحجامها.. فهم يرزحون تحت عبء أكداس من الحقائق التي يستطيعون أن يصفوها، ولكنهم يعجزون عن تعرفها أو تحديدها في معادلات جبرية) (2)

وهكذا رد عالم النفس السلوكي (ب. ف. سكينر) على الذين يحتقرون الفلاسفة القدامى، متوهمين أن العلم الحديث قضى على الفلسفة، أو أنه تطور بحيث لم يعد هناك

__________

(1) كان طبيبًا جرّاحًا فرنسيا، ولد في 1873 وتوفي في 1944 في باريس، حصل على جائزة نوبل في الطب عام 1912..

(2) الانسان ذلك المجهول، ص 15.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (68)

مبرر لوجودها، فقال: (كان من الممكن أن يقال قبل ألفين وخمسمائة عام أن الانسان كان يفهم نفسه كما كان يفهم كل جزء آخر من عالمه. لكن فهمه لنفسه اليوم هو أقل من فهمه لأي شيء آخر. لقد تقدمت الفيزياء والبيولوجيا تقدما كبيرا الا أنه لم يحدث أي تطور مشابه في علم السلوك البشري، فليس للفيزياء والبيولوجيا اليونانية الآن سوى قيمة تاريخية، ولكن محاورات أفلاطون لاتزال مقررة على الطلاب ويستشهد بها كما لو أنها تلقي ضوءا على السلوك البشري، وما نحسب أن بمقدور أرسطو أن يفهم صفحة واحدة من الفيزياء والبيولوجيا الحديثة، ولكن سقراط وأصدقاءه لن يجدوا صعوبة في متابعة أحدث المناقشات الجارية في مجال الشؤون الانسانية. وفيما يتعلق بالتكنولوجيا فقد قطعنا خطوات هائلة في السيطرة على عالمي الفيزياء والبيولوجيا، ولكن ممارساتنا في الحكم والتربية لم تتحسن تحسنا ملحوظا) (1)

وهكذا يصرح كل العلماء المحققين بأن المعارف العلمية المرتبطة بالإنسان محدودة جدا، ولذلك ليس لها أن تقرر تلك القرارات الخطيرة التي يدعيها المبتدئون من الباحثين، والذين تصوروا أنهم وصلوا إلى الحقائق التي يمكنهم من خلالها اختصار الحياة في هذه الحياة.

يقول الفيلسوف الكبير د. محمد كامل حسين (2) في كتابه (وحدة المعرفة): (إذا أردنا أن تكون صورة المعرفة كاملة تامة فليس لنا مناص من البحث في طبيعة العقل وكنهه، فهو جهاز التفكير الذي به تتحدد المعرفة) (3)

لكنه يدرك مدى صعوبة البحث في هذا، وعدم توفر الإمكانيات الكافية للعلم في

__________

(1) تكنولوجيا السلوك الإنساني، سكينر، ترجمة عبد القادر يوسف، سلسلة عالم المعرفة رقم 32 ص 7.

(2) الدكتور محمد كامل حسين (1901 - 1977)، أستاذ جراحة عظام مصري وأديب، وأول مدير لجامعة إبراهيم (جامعة عين شمس حاليًا) عند إنشائها عام 1950، وأول رئيس لجمعية جراحة العظام المصرية عند إنشائها سنة 1948..

(3) وحدة المعرفة، الدكتور محمد كامل حسين، مكتبة النهضة المصرية، ص 11.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (69)

البحث في مثل هذه المسائل، فقال: (ولكننا لانرى البدء بهذا البحث. لأن ذلك يكون خطأ منهجياً. وقد بينا من قبل أن البدء بالبحث في تحديد العلاقات بين غايات الأمور ومعقداتها لايؤدي الى الحقيقة. والبحث في طبيعة العقل يجب أن يكون آخر البحوث كلها. ويجب أن لانتناوله الا بعد أن يتم علمنا بالكون والانسان. ويكفينا الآن أن ننظر الى العقل على أنه نور يلقى على الأشياء فيضيئَها، ويتيح لنا فهمها. ولنا أن نستخدمه جهازاً للتفكير دون أن نفهم ماهيته، حتى تتم لنا صورة المعرفة كاملة فنضعه منها موضعا حقا لا نستطيعه في أول البحث) (1)

وبناء على هذا ينصح بعدم البحث عن حقيقة العقل ـ والذي يمثل الحقيقة الإنسانية ـ فذلك مما لا يمكن للعلم إدراكه بوسائله المحدودة، وإنما محاولة استعمال عالم الآفاق للتعرف على عالم العقل، وهو نفس ما ذكره القرآن الكريم حين مزج بين كلا العلمين، فقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]

يقول د. محمد كامل حسين معبرا عن هذا المعنى: (في الكون نظام، وفي العقل نظام، والمعرفة هي مطابقة هذين النظامين. والنظامان من معدن واحد، والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه. ولولم يكونا متشابهين لاستحالت المعرفة. ولولم تكن المطابقة بينهما ممكنة ماعلم أحد شيئاً؛ وتشابه النظامين الكوني والعقلي ليس فرضاً يحتاج الى برهان؛ بل هو جوهر إمكان المعرفة. ومن أنكره فقد أنكر المعرفة كلها. وهذا الانكار خطأ يدل عليه ماحقق العقل من قدرة على التحكم في كثير من الأمور الطبيعية. ولم نكن لنستطيع تحقيق شيء من ذلك لو أن النظامين كانا مختلفين، ومهما تتغير المعرفة ومذاهب التفكير وفهمنا

__________

(1) المرجع السابق، ص 11.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (70)

للكون فإن الحقيقة التي ثبتت ثبوتاً قطعياً هو هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل) (1)

بناء على هذا نحاول في هذا المبحث التعرف على بعض الأمارات التي استطاع العلم أن يكتشف من خلالها عدم اقتصار الحقيقة الإنسانية على المكونات البيولوجية التي يحويها جسمه، وهو ما يعني وجود مكون آخر غير هذه الخلايا والأنسجة التي يعتريها الموت.. وهو ما يعني أن الموت الذي يصيب هذه الأجهزة لا يمكن تعميمه على غيرها.

1 ـ الموت وحقيقة الإنسان

يستند أصحاب النظرية العلمية القديمة على نفيهم للحياة بعد الموت، إلى نظرتهم للإنسان، باعتباره كيانا ماديا، ينتهي، أو ينعدم بمجرد تحلله، أو كما عبر عن هذه النظرة (ت ر. مايلز) عند جوابه على سؤال يقول: (هل هناك حياة بعد الموت؟)، فقد قال: (لا... لاحياة بعد الموت، لأن الحياة التي أعرفها لاتوجد الا في ظروف معينة من تركيب العناصر المادية. وهذا التركيب الكيماوي لايوجد بعد الموت، اذن: فلاحياة بعد الموت) (2)

ويضيف: (البعث بعد الموت حقيقة تمثيلية، وليس بحقيقة لفظية.. إنها قضية قوية عندي أن الانسان يبقى حيا بعد الموت، وهذه القضية من الممكن لفظيا أن تكون حقيقة، وهي قابلة لاختبار صحتها أو بطلانها بالتجربة، ولكن المسالة الرئيسية في طريقنا هي أننا لانملك وسيلة لمعرفة الاجابة القطعية عن هذا السؤال الا بعد الموت، ولذلك يمكننا أن نقيس) (3)

والقياس الذي قام به (ت ر. مايلز) هو: (بناء على علم الاعصاب لايمكن معرفة العالم الخارجي، والاتصال به، الا عندما يعمل الذهن الانساني في حالته العادية، وأما بعد

__________

(1) المرجع السابق، ص 11.

(2) نقلا عن الإسلام يتحدى: ص 84.

(3) المرجع السابق، ص 84.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (71)

الموت، فهذا الادراك مستحيل، نظرا إلى بعثرة تركيب النظام الذهني) (1)

وهكذا نجد عالم الفيزياء المعروف ستيفن هوكينغ يقيس الإنسان على الكمبيوتر، فيقول: (أنا أعتبر الدماغ كجهاز كمبيوتر يتوقف عن العمل عندما تفشل مكوناته)، وقال أيضا (ليس هناك من جنة أو حياة آخرة لأجهزة كمبيوتر محطمة، وهي أشبه بقصة خرافية للناس الذين يخشون من الظلام) (2)

وهذا القياس الذي ذكره كلا العالمين وغيرهما هو نفسه الذي ذكره الله تعالى عن أولئك البدو السذج من أهل الجاهلية الذين كانوا يرددون كل حين مخاطبين المؤمنين: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]

وقد رد الله تعالى عليهم، فقال: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، وهو وصف لحقيقة الطريقة التي يفكرون بها، والتي لا تعدو أن تكون ظنا ووهما لاعلاقة له بالواقع، ولا بالوسائل التي يستعملها العلماء في البحث.

ولذلك كان القياس الذي استعملوه غير صحيح، بل هناك قياسات أخرى أقوى من هذا القياس (3)؛ وهي تؤكد أن بعثرة الذرات المادية في الجسم الإنساني لا تقضي على الحياة؛ لأن (الحياة) شيء آخر، وهي مستقلة بذاتها، باقية بعد فناء الذرات المادية وتغيرها.

فالجسم الانساني يتألف من خلايا صغيرة جدا ومعقدة، يزيد عددها في الجسم الانساني العادي على 0000000000000، 260 خلية، وهي مثل الطوب الصغير، ينبني منه هيكل أجسامنا، لكن الفرق بين طوب أجسامنا والطوب الطيني شاسع جدا.. فطوب الطين الذي يستخدم في العمارات يبقى كما هو.. بينما يتغير طوب الجسم الإنساني

__________

(1) المرجع السابق، ص 84.

(2) انظر مقالا بعنوان: لا وجود للجنة، والحياة الآخرة قصة خرافية، موقع السي ان ان، وغيرها من المواقع الإخبارية..

(3) رجعنا في الرد على ما يقوله الماديون في هذا الجانب إلى كتاب: الإسلام يتحدى: ص 85، فما بعدها، ونفس الرد نجده في مراجع أخرى كثيرة.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (72)

في كل دقيقة، بل في كل ثانية.

فالخلايا تنقص بسرعة، كالآلات التي تتآكل باحتكاكها واستهلاكها، ولكن هذا النقص يعوضه الغذاء، فهو يهيء للجسم قوالب الطوب التي يحتاج اليها بعد نقص خلاياه واستهلاكها، وهكذا فإن الجسم يغير نفسه بنفسه بصفة مستمرة.

وهو ـ بذلك ـ يشبه النهر الجاري المملوء دائما بالمياه، لايمكن أن نجد به نفس الماء الذي كان يجري فيه منذ برهة، لأنه لايستقر، فالنهر يغير نفسه بنفسه دائما، ومع ذلك فهو نفس النهر الذي وجد منذ زمن طويل، ولكن الماء لايبقى، بل يتغير.

و بناء على هذا، فإنه يأتي وقت لاتبقى فيه أية خلية قديمة في الجسم، لأن الخلايا الجديدة أخذت مكانها.. وهذه العملية تتكرر في هذه الطفولة والشباب بسرعة ثم تستمر بهدوء ملحوظ في الكهولة، ولو حسبنا معدل التجدد في هذه العملية فسوف نخرج بأنها تحدث مرة كل عشرة سنين.

لكن مع ذلك، ومع أن الجسم يتعرض للفناء المادي الظاهري، إلا أن الإنسان في الداخل لايتغير، بل يبقى كما كان: علمه، وعاداته، وحافظته، وأمانيه، وأفكاره، تبقى كلها كما كانت.

فهو يشعر دائما، وفي جميع مراحل حياته بأنه هو (الانسان السابق)، الذي وجد منذ عشرات السنين، ولكنه لايحس بأن شيئا من أعضائه قد تغير، ابتداء من أظافر رجليه حتى شعر رأسه.

وبذلك فإنه لو كان الانسان يفنى بفناء الجسم، لكان لازما أن يتاثر على الأقل بفناء الخلايا وتغيرها الكامل، ولكننا نعرف جيدا أن هذا لايحدث؛ وهذا الواقع يؤكد أن (الانسان) أو (الحياة الانسانية) شيء آخر غير الجسم، وهي باقية رغم تغير الجسم وفنائه، وهو كنهر مستمر فيه سفر الخلايا بصفة دائمة.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (73)

وبذلك يمكن تعريف الإنسان أو الشخصية ـ كما يذكر وحيد الدين خان ـ بأنها (عدم التغير في عالم التغيرات) (1)، (ولو كان الموت فناء (للانسان)، فمن الممكن ان نقول ـ بعد كل مرحلة من مراحل حدوث هذا التغير الكيماوي الذي يجري في الجسم ـ إن الانسان قد مات، وإنه يعيش حياة أخرى جديدة بعد موته! ومعناه أن الرجل الذي أراه في الخمسين من عمره، وهو يمشي في الشارع على رجليه، قد مات خمس مرات في هذه الحياة القصيرة؛ فاذا لم يمت هذا الإنسان بعد فناء أجزاء جسمه المادية خمس مرات، فكيف أستطيع أن أعتقد بأنه مات في المرة السادسة على وجه اليقين؟ ولاسبيل له الآن إلى الحياة؟) (2)

ويذكر وحيد الدين خان ردود أصحاب الفلسفة المادية على هذا الدليل، والتي لخصها [السير جيمز] بقوله: (إن (الشعور) لايوجد كوحدة، وانما هو وظيفة، وتفاعل وتنسيق وقد أصر الكثيرون من فلاسفتنا المحدثين على أن (الشعور) في ذاته ليس الا التفاعل والرد العصبي لما يحدث من حركة ونشاط في العالم الخارجي. وبناء على هذه النظرية لامجال للتساؤل عن إمكان الحياة بعد الموت، نظرا لتحلل النظام الجسماني، ولأن المركز العصبي في الجسم لم يعد له وجود، وهو الذي كان يتفاعل وينسق مع العالم الخارجي؛ وهم يعتقدون بناءا على هذا أن نظرية الحياة بعد الموت أصبحت غير ذات أساس عقلي أو واقعي) (3)

وقد رد على هذا بقوله: (لو كانت هذه هي حقيقة الانسان، فلنجرب أن نخلق انسانا حيا ذا شعور، ونحن ـ اليوم ـ نعرف بكل وضوح جميع العناصر التي يتألف منها جسم الانسان، وهذه العناصر توجد في الأرض وفي الفضاء الخارجي، بحيث يمكننا الحصول

__________

(1) المرجع السابق، ص 85.

(2) المرجع السابق، ص 85.

(3) المرجع السابق، ص 85.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (74)

عليها، وقد علمنا دقائق بناء النظام الجسماني، وعرفنا هيكله وأنسجته، ولدينا فنانون مهرة يستطيعون أن يصنعوا أجساما كجسم الأنسان، بكل مواصفاتها، فلنجرب ـ لو كان معارضو الروح يصرون على حقيقة مبدئهم ـ ولنصنع مئات من أمثال هذه الأجسام، ولنضعها في شتى الميادين، في بقعة الأرض الفسيحة، ثم لننتظر ذلك الوقت الذي تمشى فيه هذه الأجسام وتتكلم وتأكل بناء على تأثيرات العالم الخارجي) (1)

وهكذا يمكن أن نجد ردودا كثيرة على ما ذكره ستيفن هوكينغ من تشبيه الإنسان بعد موته بالكمبيوتر العاطل، الذي لن يعود للعمل أبدا (2)، فلو أن هوكينغ فكر جيدا فيما يقول، وأجرى مقارنة صحيحة بين الكمبيوتر والإنسان، لأدرك أن الكمبيوتر بمكوناته المادية لا قيمة له بدون طاقة وبرنامج تشغيل يربطه بما حوله من مُدخلات علمية.

وهكذا الإنسان لابد له من طاقة تحركه وتبعث فيه الحياة، وتجعله قادراً على التعرف على ذاته وعلى ما حوله، وتجعله يختلف عن الحجر والشجر وسائر الحيوان، اختلافاً شاسعاً في الإدراك والقدرات، فإذا غابت عنه تلك الطاقة غاب الإدراك، وهذا ما نشاهده في الجنين في بطن أمه في الشهور الأولى من الحمل حيث يكون كتلة لحم لا إدراك فيها، وما نشاهده في الإنسان بعد الموت حيث يصير كتلة لحم لا إدراك فيها، وما بينهما نجده مفعما بالحياة والإدراك، والعقل يُحتم أن الحي يزيد عن الميت بشيء ما يهبه الحياة والإدراك، كما أن الكمبيوتر الذي يعمل يزيد عن الذي لا يعمل بالطاقة المحركة، وهذا الشيء هو الذي يطلق عليه المؤمنون اسم [الروح]

وهكذا نجد أن إدراك الكمبيوتر للمُدخلات العلمية ناتج عن برمجة سابقة من الإنسان، فهل يمكن للإنسان أن يدرك ما حوله بدون برمجة سابقة، فما تنقله لنا الحواس

__________

(1) المرجع السابق، ص 85.

(2) انظر مقالا بعنوان: رد القُرآن والعلم على المُلحد ستيفن هوكينغ في نفي الروح والخالق، 20/ 6/2011.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (75)

الخمسة ليس إلا إشارات كهربائية تنتقل من الحواس إلى العقل عبر الأعصاب فيتم التعرف عليها في العقل، فكل ما نشعر به من هذا الكون ليس إلا إشارات كهربائية بداخل الدماغ، فما الذي جعل الدماغ يتعرف على كل ما تدركه الحواس ويُفرق بينها بدقة شديدة؟

وبمناسبة تشبيه الإنسان بالكمبيوتر نحب أن نوضح هنا إشكالية يطرحها الكثير، وهي ما يحصل عند الموت، وهل النزع أو القبض مرتبط بالروح أو النفس؟

فلعل أحسن مثال يقرب صورة الروح والنفس وعلاقتهما بالحقيقة الإنسانية، ويبعد عنا الكثير من ذلك الجدل الذي يحوم حولها، وحول المقبوض، وهل هو النفس أو الروح، هو ما نتعامل به مع أجهزة الكمبيوتر.

حيث أننا نأتي أولا بجهاز الكمبيوتر، وهو عبارة عن مجموعة من القطع يمكن تشبيهها بأعضاء الإنسان.. فلكل قطعة وظيفتها التي تؤدي دورا معينا في الجهاز.

وهي لا تستطيع أن تؤدي أي دور قبل أن ننفخ فيها روح النظام.. فعندما يصبح الويندوز منصبا على الجهاز يتحول إلى جهاز متحرك، يمارس الكثير من الوظائف.

وحينها يمكن لصاحبه أن يفعل فيه بإرادته ما يشاء، وكل ما يفعله فيه يمكن تسجيله عبر البرامج الكثيرة التي تسجل كل ما يفعل في الجهاز.

وعندما يمل صاحب الجهاز من جهازه، ويريد أن يغيره، يأخذ نسخة من كل برامجه وأعماله، وربما يأخذ نسخة من النظام نفسه الذي كان يعمل به، ثم يقوم بوضعه في جهاز آخر، وبتغييرات طفيفة.

هذا المثال يقرب لنا كثيرا حقيقة الروح والنفس والجسد، ومن يقبض منها جميعا.

أما الجسد، فيشبه تلك القطع الصلبة التي يتكون منها جهاز الكمبيوتر، والتي قد ترمى عند عطبها التام، من غير أن يتضرر كل ما مورس عليها من أعمال، لأنه يمكن نسخها وحفظها في جهاز آخر.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (76)

وأما النظام والتطبيقات المرتبطة به، فهي تشبه الروح، والتي وصفت في القرآن الكريم بكونها من عالم الأمر، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وقال في الآية الأخرى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]

ولذلك يمكن اعتبار أرواح البشر جميعا واحدة، فكلهم قد نصب فيهم نظام واحد، ولذلك نراهم يتشابهون في فطرهم السليمة التي لم تدنس.

وأما النفس، فتشبه تلك الاختيارات التي يقوم بها صاحب الجهاز، حيث يقرأ ما يشاء من الكتب، ويستمع لما يشاء من الأصوات، ويشاهد لما يشاء من الصور.. وبذلك فإن عالم النفس هو العالم الذي يستثمر فيه الإنسان طاقات الجسد وطاقات الروح، ويوجهها للوجهة التي يريد، وبحرية تامة.

وقد أشار إلى هذا التشبيه الإمام الصادق بقوله: (مَثَلُ روح المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق، إذا أخرجت الجوهرة منه اطُّرِحَ الصندوق، ولم يعبأ به) (1)

وأشار إليه الإمام السجاد بقوله: (الموت للمؤمن كنزع ثياب وَسِخَةٍ قَمِلَةٍ وفَكِّ قيودٍ وأغلالٍ ثقيلة، والإستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح، وأوطأ المراكب، وآنس المنازل. وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والإستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل، وأعظم العذاب) (2)

وبناء على هذا، فإن الموت، هو عبارة عن استبدال الجسد الذي أصابه العطب بجهاز آخر مع مراعاة اختيارات صاحب الجهاز، ولذلك يرى الإنسان كل أعماله التي كان يعملها

__________

(1) مختصر البصائر/67.

(2) معاني الأخبار: 4/ 289.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (77)

محفوظة بإتقان، ذلك أن من مزايا الجسد الجديد الذي يستبدل به الجسد الفاني أنه تظهر فيه الأشياء بصورها الحقيقية..

2 ـ الموت وحقيقة العقل

رأينا سابقا أن الفلاسفة القدامى الذين اتفقوا على خلود النفس، وعدم موتها بموت الجسد، استدلوا على ذلك بتلك الاكتشافات التي توصلوا إليها عن طريق التأمل، والذي أداهم إلى أن عقل الإنسان مستقل عن جسده، ذلك أن الجسد يهرم ويذبل وينتابه الكثير من الضعف، بينما عقله يبقى متقدا وسليما حتى في تلك الفترات الصعبة الشديدة.

ومن أكبر الأدلة على ذلك أن الكثير من المنجزات الإبداعية في الشعر والفلسفة والحكمة كتبت في ظل ظروف صعبة، لم يكن يمكن للعقل أن يبدعها لو كان تابعا للجسد.

وهذه الحقيقة التي اكتشفها العقل، بل الفطرة والبديهة، دل عليها العلم الحديث، وخاصة بعد تخلصه من فترة المادية التي طغت عليه إبان القرون الأولى من عصر النهضة.

ونحب أن نقتبس هنا مادة علمية مهمة تتعلق بتاريخ التطور العلمي حول الموقف من العقل وعلاقته بالجسد، وذلك من أهم ما كتب في هذا المجال، وهو (العلم فى منظوره الجديد) (1)، الذي ألفه اثنان من العلماء الكبار المعروفين فى أمريكا الشمالية أحدهما [روبرت أغروس] أحد أعلام الفيزياء النظرية ورئيس كلية العلوم في جامعة أوتاوى بكندا، والثاني [جورج ستانسيو] أحد الفلاسفة المتضلعين في فلسفة العلوم، ورئيس شعبة الفلسفة في نفس الجامعة ونفس البلد.

وكلاهما حاول في هذا الكتاب (هدم أركان المادية العلمية، تلك النظرية الكونية التى استهلها فرانسيس بيكون وجاليلو فى مطلع القرن السابع عشر، واستمرت إلى العقود

__________

(1) هو كتاب من سلسلة (عالم المعرفة) التى كان يصدرها المجلس الوطنى للثقافة بالكويت، وعنوان الكتاب الأصلي هو (The New Story of Science) من تأليف Robert M. Augros وGeorge N. Stanciu..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (78)

الأولى من القرن العشرين، ثم إثبات وجود الله تعالى، وبيان الحكمة والغاية من إبداع الكون وخلق الإنسان، وذلك بالاستناد إلى النتائج التى انتهى إليها أقطاب العلماء والباحثين المعاصرين فى مجالات الفيزياء والكوزمولوجيا ومبحث الأعصاب وجراحة الدماغ وعلم النفس الإنسانى) (1)

وقد ذكر صاحبا هذا الكتاب العلمي القيم ـ عند تأريخهما لموقف العلماء الغربيين من العقل وعلاقته بالدماغ أو بسائر الجسد ـ أن هناك موقفان، أحدهما قديم ومادي، وسببه عدم توفر الوسائل الكافية للتحقيق العلمي، والثاني متطور، ويقترب اقترابا كبيرا مما ذكرته الأديان والفلاسفة وغيرهم.

وسنعرض هنا بعض ما ذكراه، لنتبين مدى رجعية من لا يزالون ينفون وجود العقل، أو يختصرونه في الدماغ، لأن رؤيتهم رؤية كلاسيكية قديمة، ولم يعد لها أي مصداقية في البحث العلمي الخالي من الأيديولوجية المادية.

أ ـ العقل بحسب الرؤية العلمية القديمة

يذكر الكاتبان أن الرؤية العلمية القديمة، وبسبب عدم توفر الوسائل العلمية الكافية التي تتيح لهم التحقيق في حقيقة العقل وعلاقته بالجسد راحوا يعتمدون مبدأ البساطة، وذلك بتفسير الأشياء الطبيعية بلغة المادة وحدها.

وقد اعتمدوا في هذا على القياس على جميع الأشياء الطبيعية، والتي (تنشأ في نهاية المطاف عن تفاعلات بين جسيمات تتكون منها هذه الأشياء، فالماء سائل على نحو ما نعرفه لأن جزيئاته تنزلق بجانب بعضها بعضا بقليل من الإحتكاك، والمطاط متمغط لأن جزيئاته بحكم مرونتها تغير شكلها بسهولة، والماس شديد الصلابة لأن ذرات الكربون الموجودة فيه متراصة بشكل على هيئة شعرية محكمة النسج.. ولابد أن الأمر نفسه ينطبق على

__________

(1) العلم في منظوره الجديد، (ص 7).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (79)

العقل) (1)

ومن الأمثلة على العلماء الذين اعتمدوا هذه الرؤية عالم الأحياء [توماس هـ. هكسلي]، وهو من علماء القرن التاسع عشر، والذي ذكر أن (الأفكار التي أعبر عنها بالنطق، وأفكارك فيما يتعلق بها إنما هي عبارة عن تغيرات جزيئية) (2)

وقد نتجت عن هذه الرؤية المادية الكثير من المفاهيم الخاطئة عن الإنسان، أولها وأخطرها سلب حريته ذلك أنه ما دام العقل منبثقا من المادة.. والمادة لا تتصرف إلا بضرورة ميكانيكية، فإن الرؤية العلمية القديمة كانت تميل إلى تفسير تصرفات الإنسان بلغة الغريزة، والفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء)،والكيمياء. والفيزياء، حيث لا مجال هناك لحرية الاختيار.

وبذلك فإن هذه الرؤية كانت ترى أن التغيرات المادية هي التي تسبب الأفكار، لا العكس، كما عبر عن ذلك [و. ك كليفورد]، أحد علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر، في محاضرة له عن العلوم عن هذه الفكرة بإيجاز بليغ، فقال: (إذا قال أحد أن الإرادة تؤثر في المادة فقوله ليس كاذباً فحسب، وإنما هو هراء) (3)

وهكذا وصف هكسلي العلاقة بين العقل والجسد بقوله: (يبدو أن الوعي متصل بآليات الجسم كنتيجة ثانوية لعمل الجسم، لا أكثر، وأن ليس له أي قدره كانت على تعديل عمل الجسم مثلما يلازم صفير البخار حركة القاطرة دونما تأثيرعلى آليتها) (4)

ومن تلك المفاهيم والمستلزمات لذلك التصور المادي للعقل ـ وفقا للنظرة القديمة ـ ما يرتبط بموضوعنا، وهو (أنه لاشيء في الإنسان يمكن أن يبقى بعد الموت، ذلك أنه إذا

__________

(1) المرجع السابق، ص 25.

(2) المرجع السابق، ص 25.

(3) المرجع السابق، ص 27.

(4) المرجع السابق، ص 28.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (80)

كان التفكير والإرادة نشاطين من أنشطة الدماغ، فليس هناك سبب يجعلنا نفترض أن هذين النشاطين يمكن أن يستمرا بعد فناء الدماغ، وإذا كان كل جزء من أجزاء الإنسان مادة فلابد من أن يكون كل جزء منه عرضه للفناء. ففي النظرة القديمة لاخلود إلا للمادة) (1)

ولكن مع كل هذه الادعاءات، لم يستطع أحد في القرن التاسع عشر أن يحدد بالضبط كيفية انبثاق العقل من المادة، بل كان علماء الفسيولوجيا يتوقعون أن يأتي المستقبل بالجواب.

وقد كتب هكسلي عام 1886 يقول: (وهكذا سيوسع علم وظائف الأعضاء في المستقبل شيئا فشيئا من عالم المادة وقوانينها إلى أن يصبح مساويا في امتداده نطاق المعرفة والشعور والعمل) (2).. لكن نبوءاته لم تتحقق، بل تحقق عكسها كما سنرى.

وهكذا سرت آثار الرؤية القديمة على الدراسات النفسية، فبعد فرويد ظهر المذهب السلوكي، الذي أسسه [جون ب. واتسن] الذي حاز على درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة شيكاغو عام 1903.

فبعد أن قام واتسن بإجراء تجارب واسعة النطاق على الجرذان والعصافير والقرود سعى إلى إرساء علم النفس كفرع موضوعي كلياً من فروع العلم الطبيعي، ليس أحوج إلى ما سماه الاستبطان من علم الكيمياء أو الفيزياء، على أساس أن السلوك، من بين جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان، هو وحده القابل للمراقبة من الخارج بالتجارب الموضوعية. ففي رأي واتسن أن السلوك وحده، لا الوعي، هو الموضوع الصحيح لعلم النفس.

وبناء على هذا أنكرت المدرسة السلوكية العقل أصلاً، ورأت أن البحث فيه غير مجد، وتبعاً لذلك أكدت أن جسم الإنسان هو الحقيقة الإنسانية الوحيدة، وأن من الواجب أن يستبعد (العقل) ومعه جميع بهارجه من مجال العلوم.

__________

(1) المرجع السابق، ص 28.

(2) المرجع السابق، ص 28.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (81)

وبذلك كانت المدرسة السلوكية أكثر ايغالاً في المادية من علم النفس الفرويدي، وبذلك كان التحول عن مذهب فرويد إلى المذهب السلوكي تقدماً في أفول نجم العقل.

وقد ذكر واتسن أن أول خطوة كان عليه أن يتخذها كعالم نفسي ملتزم بالمنهج العلمي أن يسقط من (مفرداته العلمية جميع العبارات الذاتية كالإحساس والإدراك والصورة الذهنية والرغبة والغاية، بل التفكير والعاطفة لانطوائهما على تعريف ذاتي) (1)

ويضيف قائلاً: (إن السلوكي لا يعترف بما يسمى السمات الذهنية أو النزعات أو الميول) (2)

أما جوانب العقل التي لا يمكن إنكارها فيتحتم أن تعرف من جديد بعبارات سلوكية فحسب، وهكذا أصبح التفكير يسمى (التكلم دون الصوتي)، وقد أعلن واتسن أن (التكلم والتفكير، إذا فهما على الوجه الصحيح، يسهمان إسهاماً كبيراً في تحطيم الخرافة القائلة إن هناك شيئاً يدعى (الحياة العقلية)

وتتجلى مادية واتسن المنهجية أكثر حين يتحدث عن دواعي التصرفات الإنسانية فيقول: (إن الإنسان بوصفه نتيجة طبيعية للطريقة التي ركب بها وللمادة التي جبل منها، لابد له من أن يتصرف كما يتصرف بالفعل (إلى أن يعيد التعلم صياغته)

والسلوكية تطرح المادة وتركيبات المادة باعتبارها الأسباب الوحيدة لتصرفات الإنسان. والإنسان بهذا المنظار، قطعة هامدة من المادة لابد من تشغيلها بقوى خارجية.

وهم يستندون في هذا إلى قوانين الفيزياء التي تنص على أن الجسم الساكن يظل ساكناً ما لم تؤثر فيه قوة من الخارج، وبذلك فإن الإنسان لا يتصرف من تلقاء نفسه، بل يخضع لتصرفات تفرض عليه.

__________

(1) المرجع السابق، ص 77.

(2) المرجع السابق، ص 77.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (82)

ويذكر واتسن للسلوكية هدفين اثنين: (التنبؤ بالنشاط الإنساني)، و(صياغة قوانين ومبادئ يستطيع المجتمع المنظم بواسطتها ضبط تصرفات الإنسان). فإذا لم يكن الإنسان أكثر من كيان مادي فليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بعدم إمكانية برمجته كما تبرمج الآلة.

وقد عبر عن هذه الرؤية المادية وإلغائها لكل الحقائق والمشاعر المرتبطة بالإنسان، فقال: (الناس على استعداد للاعتراف بأنهم حيوانات، ولكنهم بالإضافة إلى ذلك شيء آخر.. وهذا الشيء الآخر هو الذي يخلق المشاكل.. ويندرج تحت هذا (الشيء الآخر) كل ما يعرف بالدين، والحياة بعد الموت، والأخلاق، وحب الأطفال والوالدين والوطن وما شاكل ذلك. والحقيقية العارية هي أنك، كعالم نفسي، لابد لك في هذه الحالة، إذا أردت أن تظل علمي المنهج، أن تصف سلوك الإنسان بعبارات لا تختلف عن تلك التي تستخدمها في وصفك لسلوك الثور الذي تنحره، وهذه الحقيقة قد صرفت وما فتئت تصرف الكثيرين من ذوي النفوس الرعديدة عن السلوكية) (1)

وقد لاقت نظريات واتس معارضة شديدة، اضطر بعدها إلى اعتزال المجتمع الأكاديمي نهائياً في عام 1921، وأخذ يشتغل بمهنة تجارية في الميدان الإعلاني.

ب ـ العقل بحسب الرؤية العلمية الجديدة

بخلاف الرؤية السابقة ـ والتي سببها انتشار الفلسفة المادية بعد الصراع الذي حصل مع الكنيسة ورجال الدين ـ ذهبت الرؤية العلمية الجديدة ـ بعد أن زال ذلك الانبهار بالعلم، وعرف العقل الإنساني محدوديته ـ إلى الإقرار بوجود العقل، وأنه خارج المادة، وأن له علاقة بالجسم، والدماغ خصوصا، ولكنه ليس الدماغ، وإنما شيء آخر.

وقد أثبت العلم ذلك بأدلة كثيرة، ابتدأت أولا ـ كما يذكر صاحبا كتاب [العلم في منظوره الجديد]ـ بتلك النظرة العلمية الجديدة للكون، والتي ظهرت بعد بنظرية النسبية

__________

(1) المرجع السابق، ص 78.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (83)

وميكانيكا الكم اللتين برهنتا على محورية العقل حتى في مجال الفيزياء.

ثم حظيت هذه النظرة الجديدة بتأييد كبار العلماء، في علم الأعصاب، والذين كشفوا النقاب عن أدلة تثبت استقلال العقل، واستحالة إرجاعه إلى المادة.

وهكذا ظهرت في علم النفس المعاصر حركة تتجه إلى النتيجة ذاتها، وهي أولية العقل، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية شعر كثيرون من علماء النفس أن إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي، وإلغاء العقل في السلوكية، قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته في علم النفس، معتبرين أن هذا موقف لا يطاق في فرع من فروع المعرفة مكرس لخدمة الجنس البشري، وبذلك التحمت في الخمسينات من هذا القرن (قوة ثالثة) في علم النفس إلى جانب القوتين الأخريين: التحليل النفسي والسلوكية (1).

وقد وصف العالم النفسي [فرانك ت. سفرين] هذه الحركة الجديدة بقوله: (إن أتباعها لا يتكلمون بصوت واحد، ولا يشكلون مدرسة فكرية مستقلة، ولا هم متخصصون في أي مجال ذي مضمون محدد. بل إن كل ما يجمع بينهم هو الهدف المشترك المتمثل في (أنسنة) علم النفس. ففي اجتماع وطني للرابطة الأمريكية لعلم النفس عقد في عام 1971، قررت هذه الحركة الجديدة أن تطلق على نفسها اسم (علم النفس الإنساني) (2)

وقد شرح العالم النفسي [ايرفن ل. تشايلد]، الأستاذ بجامعة بيل، المنحى الأساسي لعلم النفس الجديد فقال: (يعرف علم النفس الإنساني بالإنسان الذي يتخذه نموذجاً له، وبإصراره على أن جملة المعارف العلمية ستتنامى بأقصى قدر من المنفعة إذا هي اهتدت بتصور للإنسان كما يعرف هو نفسه، لا بأي محاكاة غير إنسانية) (3)

__________

(1) المرجع السابق، ص 79.

(2) المرجع السابق، ص 80.

(3) المرجع السابق، ص 81.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (84)

وقد علل هذا بأن ما قام به الماديون من اختيار نماذج أخرى للتعبير عن الإنسان أو وصفه كانوا مخطئين فيها، (فما الذي يجعلنا بحاجة إلى نموذج للإنسان إذا كنا نحن أنفسنا من بني الإنسان، فالنموذج شبه مؤقت يؤخذ من شيء يقع خارج موضوع البحث ذاته. وهو يفيد حين تكون طبيعة الشيء بعيدة عنا أو مبهمة. فالنموذج الكوكبي للذرة الذي وضعه [نيلزبور] يفيد في أغراض معينة، إذ لا سبيل أمامنا لنعرف ما هي أحاسيس الذرة، ولكن لدينا بالفعل معلومات من داخلنا عن كيفية إحساس الإنسان بنفسه) (1)

وبناء على ذلك، (فعلم النفس الإنساني، إذاً، يتكون من جميع تيارات علم النفس الفكرية التي ينظر فيها إلى الإنسان، على نحو ما، كما ينظر هو عادة إلى نفسه، أي بوصفه إنساناً، لا مجرد حيوان أو آلة. فالإنسان قوة واعية، وهذه هي نقطة الانطلاق. فهو يجرب، وهو يقرر، وهو يتصرف. فإذا وجدت ظروف يمكن في ظلها أن تتحقق منفعة بالنظر إلى الإنسان تماماً من الخارج، كما لو كان يستجيب لحافز خارجي استجابة آلية منتظمة يتسنى التنبؤ بها، فربما كان الأخذ بنموذج آلي مفيداً في مثل هذه الظروف. ولكن علم النفس الإنساني ينطلق من افتراض كون مثل هذه الظروف حالات خاصة، ومن أن تأسيس علم النفس بأكمله عليها سيكون افتقاراً لهذا العلم، وقيدا من شأنه أن يحول دون تطبيقه العام على فهم طبيعة الإنسان) (2)

وما ذكره علماء النفس من أتباع النظرة الجديدة حصل مثله في علم الأعصاب، بعد أن جاء القرن العشرون بكشوف رائعة عن الفسيولوجيا، والتي خالفت كل ما ادعاه أصحاب النظرة القديمة.

وقد بدأ ذلك ـ كما يذكر صاحبا كتاب [العلم في منظوره الجديد] بـ[السير تشارلز

__________

(1) المرجع السابق، ص 81.

(2) المرجع السابق، ص 81.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (85)

سرنغتون] الذي يعتبر مؤسس فسيولوجيا الأعصاب الحديثة، فنتيجة بحوثه الرائدة في الجهاز العصبي والدماغ خلص إلى هذه النتيجة المهمة التي عبر عنها بقوله: (هكذا ظهر فرق جذري بين الحياة والعقل؛ فالحياة هي مسألة كيمياء وفيزياء، أما العقل فهو يستعصي على الكيمياء والفيزياء) (1)

وهو يقصد بمصطلح [الحياة] هنا إلى ما سماه الفلاسفة [النفس الحيوانية]، وهي ما تحتاجه حياة الجسد من متطلبات كالتغذية الذاتية، واستقلاب الخلايا والنمو، ذلك أن هذه الظواهر تتم بواسطة قوانين الفيزياء والكيمياء، ويمكن تفسيرها بلغة هذين العلمين، بخلاف أنشطة العقل فهي تتجاوز آليات الفيزياء والكيمياء.

وقد وافقه على هذا [السير جون اكلس] المتخصص في علم الأعصاب، والذي عبر عن النتيجة التي أوصلته إليها أبحاثه، فقال: (التجارب التي تنم عن الوعي تختلف في نوعها كل الاختلاف عما يحدث في آلية الأعصاب، ومع ذلك فإن مايحدث في آلية الأعصاب شرط ضروري للتجربة. وإن كان هذا شرطاً غير كاف) (2)

ولتوضيح ذلك ساق المؤلفان مثالا توضيحيا يبين كيفية حصول الرؤية، وعلاقتها بالجسد والعقل، والمثال هو أن أشعة الشمس المنعكسة من الشجرة تدخل في بؤبؤ العين، ثم تمر من خلال العدسة التي تركز صورة مقلوبة ومصغرة للشجرة على شبكة العين، فتحدث فيها تغيرات فيزيائية وكيميائية..

لكن هذا ليس هو الإبصار.. إذ لو أن الذي حصل لعينه هذا كان فاقد الوعي، لم يبصر شيئا، مع أن تركيز تلك الصورة على شبكية عينيه، أحدث نفس التغيرات الفيزيائية والكيمائية.

__________

(1) المرجع السابق، ص 27.

(2) المرجع السابق، ص 28.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (86)

وهذا مثل تركيز آلة التصوير على صورة ما، حيث يتعرض الفيلم الموجود في الآلة لتغيرات فيزيائية وكيميائية، ولكن آلة التصوير لاتبصر بالمعنى الحرفي في الألوان والأشكال التي تسجلها.

وبذلك، فإننا إذا أردنا أن نفسر الإبصار نحتاج إلى بحث أكثر وأعمق، ذلك أن الشبكية، وهي صفحة من المستقبلات شديدة التراص (عشرة ملايين مخروط ومائة مليون قضيب) تبدأ حين ينشطها الضوء المنبعث من الشجرة بإرسال نبضات الى العصب البصري الذي ينقلها بدوره إلى قشرة الدماغ البصرية.. وكل هذا قابل لأن يفسر بلغة الفيزياء والكيمياء، (ولكن أين مكان اللون الأخضر من كل هذا؟ فالدماغ نفسه رمادي اللون أبيضه.. فكيف يستطيع أن يتلقى لونا جديداً دون أن يفقد لونه السابق؟ وكيف يستطيع الدماغ أن يبصر الضوء إذا كان مغلقاً ومعزولاً تماما عن أي ضوء؟) (1)

وبناء على هذا يؤكد [السير جون اكلس] على سر الإدراك الحسي فيتساءل: (أليس صحيحاً أن أكثر تجاربنا شيوعاً تقبل دون أي تقدير لما تنطوي عليه من غموض هائل؟ ألسنا لا نزال كالأطفال في نظرتنا إلى مانقبله من تجاربنا المتعلقة بالحياة الواعية. فلا نتريث إلا نادراً للتفكير في أعجوبة التجربة الواعية أو لتقديرها؟ فالبصر، مثلا، يعطينا في كل لحظة صورة ثلاثية الأبعاد لعالم خارجي، ويركب في هذه الصورة من سمات الإلتماع والتلون ما لاوجود له إلا في الإبصار الناشيء عن نشاط الدماغ. ونحن بالطبع ندرك الآن النظائر المادية لهذه التجارب المتولدة من الإدراك الحسي كحدة المصدر المشع والطول الموجي للإشعاع المنبعث، ومع ذلك فعمليات الإدراك ذاتها تنشأ بطريقة مجهولة تماما عن المعلومات المنقولة بالرموز من شبكية العين إلى الدماغ) (2)

__________

(1) المرجع السابق، ص 29.

(2) المرجع السابق، ص 29.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (87)

ويضرب مثلا على ذلك بالصورة التي تسلط على الشبكية، فهي (لا تعود أبدا إلى الظهور مجددا في الدماع، بل لابد للعقل الواعي من أن يعيد تركيبها من أنماط النبضات المرموزة، فكل عملية إدراك حسي تتكون من ثلاث مراحل: المنبه الأصلي لعضو الحس، والنبضات العصبية المرسلة إلى الدماغ، ونمط النشاط العصبي المثار في الدماغ) (1)

ويلخص أكلس هذه العملية فيقول: (إن عملية النقل من عضو الحس إلى قشرة المخ تستخدم نمطا من النبضات العصبية معبراً عنها برموز تشبه رموز مورس، وتنحصر فيها النقاط في تسلسلات زمنية شتى. ومن المؤكد أن هذا النقل المرموز يختلف تمام الإختلاف عن عملية الحفز الأصلي لعضو الحس المعني، كما أن النمط المكاني / الزماني للنشاط العصبي المثار في قشرة المخ مختلف هو الآخر كل الأختلاف، وعملية الترجمة المزدوجة هذه تضخم أعجوبة الإدراك الحسي. ذلك أن هذه السلسلة من الترجمات الفيزيائية/ الكيمائية تسفر عن تجربة حسية محددة كإبصار اللون الأخضر، وفي هذه النقلة ما يبعث على قدر من الذهول ليس أدنى إثارة للعجب من حالة شخص يفهم فجأة نصا ترجم له من لغة يجهلها إلى لغة أخرى يجهلها كذلك) (2)

وبناء على هذا فعالم الإحساس، وفقا للنظرة الجديدة، يتوقف على عالم الفيزياء والكيمياء، ولكنه ليس مقصوراً عليه، ذلك أنه من المؤكد أن وجود كتاب ما يتوقف على عناصر الورق والصمغ والحبر التي يتكون منها، ومن دونها لا يمكن أن يوجد الكتاب، ومع ذلك، فالكتاب لايٌفهم فهماً كافياً بمجرد إجراء تحليل كيميائي للحبر ولألياف الورق، وحتى لو عرفنا طبيعة كل جزء من جزيئات الورق والحبر معرفة كاملة فذلك لا يكشف لنا شيئا عن محتوى الكتاب، ذلك أن محتوى الكتاب يشكل نظاماً أسمى يتجاوز عالم

__________

(1) المرجع السابق، ص 29.

(2) المرجع السابق، ص 29.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (88)

الفيزياء والكيمياء، وبطريقة مماثلة تؤكد النظرة الجديدة أن أحاسيسنا تتوقف على أعضاء الجسم، ولكن لايمكن حصرها في الخواص الفيزيائية والكيميائية للمادة) (1)

و هكذا يستعمل [شرنغتون] مثال البصر لايضاح أن النظرة القديمة التى يسميها [مخطط الطاقة] لا تستطيع أن تعلل إحساسنا بنجم نراه، فمخطط الطاقة يتناول هذا الاحساس ويصف مرور الاشعاع من النجم إلى العين والصورة الضوئية الصغيرة التى تتشكل له فى قاع العين وما يسفر عنه ذلك من النشاط الضوئى الكيميائى فى الشبكية وسلسلة التفاعلات التى يحتمل أن تحدث ابتداء بالعصب وانتهاء بالدماغ، وكذلك التشويش الكهربائى فى الدماغ، ولكنه لا يقول شيئا عن إبصارنا للنجم، فمخطط الطاقة لا يفسر ادراكنا ان للنجم سطوعا واتجاها وبعدا ولا كيفية تحول الصورة فى قاع العين الى نجم نراه فوق رؤوسنا.

والنتيجة التي يذكرها مؤلفا كتاب [العلم في منظوره الجديد] هي أن (النشاط الفسيولوجى والكيميائى للدماغ وفقا للنظرة العلمية الجديدة أمر ضروري للإحساس متزامن معه، ولكنه ليس الإحساس بعينه، والمادة وحدها لا تستطيع أن تفسر الإدراك الحسى؛ فالنظرة القديمة تستطيع أن تتحدث عن الموجات الضوئية والتغيرات الكيميائية والنبضات الكهربائية فى الأعصاب ونشاط خلايا المخ، أما عن عمليات الإبصار والشم والذوق والسمع واللمس ذاتها فليس عند المادية ما تقوله) (2)

وبعبارة أخرى، (إن الإدراك الحسى حقيقة، ولكنه ليس المادة ولا هو من خواص المادة وليس فى مقدور المادة أن تفسره) (3)

__________

(1) المرجع السابق، ص 29.

(2) المرجع السابق، ص 29.

(3) المرجع السابق، ص 29.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (89)

وبناء على هذا كله يصرح [شرنغتون] بأن (كون وجودنا مؤلفا من عنصرين جوهريين أمر ليس فى تصورى أبعد احتمالا بطبيعته من اقتصاره على عنصر واحد، فالنظرة الجديدة تفترض وجود عنصرين جوهريين فى الإنسان: الجسم والعقل) (1)

وبذلك فإن العلم في رؤيته الجديدة، استطاع أن يكتشف وجود العقل، وانفصاله عن الجسد، أو كونه مكونا آخر للإنسان غير الجسد، عبر مثال بسيط هو الإدراك البصري، الذي هو نوع من أنواع الإدراك الحسى.

فكيف به عندما يريد أن يفسر سائر الإدراكات وعلاقتها ببعضها فـ (كلمة إدراك تعنى (المعرفة او الوعى) وبهذا المعنى فأى نشاط ينطوى على معرفة أو إدراك هو من أنشطة العقل المدرك، فالمسالة كلها تبدأ بالإدراك الحسى، والحواس الخارجية هى الأساس الأول لكل المعارف الإنسانية ومصدرها، ومن دون المعلومات الآتية من هذه الحواس لا يكون لدى الذاكرة أى شاء تتذكره، ولا للخيال أى شيء يتصوره، ولا للعقل أى شاء يفهمه، وكل حاسة من الحواس الخمس تدرك صفة محددة من صفات الأشياء المادية.. فنحن نستطيع مثلا أن نعرف حجم قطعة نقدية عن طريق حاسة البصر أو حاسة اللمس واللمس وحده بين الحواس الخارجية الخمس موزع على مختلف أنواع أجزاء الجسم أما الخواص الأربع الأخرى فكل منها يقتصر على عضو متخصص: العين أو الأذن أو الأنف أو اللسان) (2)

وإلى جانب هذه الحواس الخارجية (نجد تحت تصرفنا مجموعة كبيرة من ملكات الإحساس الداخلى، فنحن نملك القدرة على الإحساس لا بالبياض وبحلاوة الطعم فحسب، بل على ادراك الفارق بينهما، فالعين تدرك البياض ولا تدرك الحلاوة، واللسان

__________

(1) المرجع السابق، ص 29.

(2) المرجع السابق، ص 30.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (90)

يدرك الحلاوة، ولا يدرك البياض، فلا اللسان ولا العين يستطيعان التمييز بين البياض والحلاوة لأن أيا منهما لا يدرك الاثنين معا، ويصدق هذا القول نفسه على الفرق بين ارتفاع الصوت وارتفاع الحرارة، ذلك لأن أى ملكة قادرة على مقارنة شيئين لا بد لها من أن تعرفهما كليهما، وما من حاسة خارجية تستطيع أن تؤدى هذه المهمة تبعا لذلك لا بد من أن تكون فينا حاسة داخلية تستطيع أن تدرك جميع الصفات التى تدركها الحواس الخارجية وأن تميز بينهما) (1)

وهكذا (نحن نملك القدرة على أن نستدعى أمورا لم تعد حاضرة، فعملية التذكر شاء حاضر بالفعل، ولكن الشاء الذى نتذكره ليس كذلك، إذ إن إدراكنا الحسى الأصلى قد زال على نحو ما، ولكنه مع ذلك تحت تصرفنا فالذاكرة لا تستحضر التجربة الماضية فحسب، بل تستحضرها بوصفها حدثا ماضيا، وتستطيع ترتيبها من حيث صلتها بتجارب أخرى ماضية. بل إن الأدعى الى الدهشة هو قدرتنا على أن نجعل أنفسنا نتذكر الشاء المنسى. صحيح أن الذاكرة تخوننا أحيانا فلا نستطيع أن نتذكر اسم شخص ما، ولكننا نستطيع فى الغالب أن نحمل أنفسنا على تذكره بالتركيز على أمور أخرى مرتبطة بذلك الاسم) (2)

وهكذا نحن نملك الخيال، وهو (ملكة حسية داخلية أخرى نستطيع بواسطتها أن نتصور لا الأشياء المدركة بالحواس فحسب، بل الأشياء التى لا تدركها هذه الحواس كجبل من ذهب أو فيل بحجم البرغوث، فالخيال، بخلاف الذاكرة، يستخدم المعلومات الواردة من الحواس الخارجية الخمس بحرية وبطريقة إبداعية) (3)

__________

(1) المرجع السابق، ص 30.

(2) المرجع السابق، ص 31.

(3) المرجع السابق، ص 31.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (91)

وهكذا نحن نملك القدرة على (الإحساس بالعواطف، كالحب والغضب والفرح والخوف والأمل والرغبة والحزن، والتي تربطنا بالعالم بطريقة أخرى مختلفة كذلك. فكل عاطفة تنشأ من فعل ملكة حسية، سواء كانت حاسة خارجية كالخيال، أو الذاكرة فالغضب مثلا يثيره الإحساس بالضرر أو الإهانة والخوف يحركه تخيل وقوع شر يتهددنا فى المستقبل والحزن يسببه الإحساس بألم حاضر أو تذكر ألم مضى زمانه كذلك من طبيعة العاطفة أن يحس بها، بل إن العواطف تسمى أحيانا أحاسيس لوثاقة صلتها بحاسة اللمس، ورغم ذلك، ومع أن الأحاسيس تسبب وتلازم على الدوام كل عاطفة، فإن العواطف ذاتها ليست أفعالا تندرج تحت الإدراك الحسى. فالخوف لا يدل على مجرد الإحساس بشاء ما، وإنما يدل على موقف أو رد فعل إزاء ذلك الشاء. والعاطفة ليست عملية الإبصار، ولكنها رد الفعل إزاء الشاء المبصر والذى يجعلنا نميل إليه أو يدفعنا بعيدا عنه) (1)

وهكذا نحن نملك القدرة على (إدراك ماهية الأشياء، وهو أمر لا تستطيع الحواس القيام به، ولا ملكة الخيال ذاتها، فإذا حاولنا مثلا أن نتخيل ما هو الحيوان فالصورة التى ترتسم فى أخيلتنا الحسية تختص بحيوان بعينه له صفات محددة من حيث الحجم والشكل واللون ومن المستحيل تكوين صورة حسية لما يشترك فيه جميع الحيوانات ومع ذلك فليس من المستحيل على العقل أن يفهم ما هو الحيوان) (2)

بل نحن نملك القدرة على إدراك أشياء أكبر بكثير، مثل (المكان الذى يتحدث عنه أينشتاين)، والذي لا يمكن تصوره، كما قال عالم الفيزياء الفلكية [وليم كوفمان]: (ومن المستحيل عمليا أن نتصور متصل المكان والزمان الملتوى ذا الأبعاد الأربعة)، فالمكان الرباعى الأبعاد لا يستطيع أن يحس به أو يتخيله حتى علماء الفيزياء والرياضيات، ولكن

__________

(1) المرجع السابق، ص 31.

(2) المرجع السابق، ص 32.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (92)

يمكن فهمه.

وبذلك فإن العقل فى مجال العلوم (يسمو على قيود الخيال، وهو حاسة داخلية فالعقل البشرى إذا ليس متميزا من الخيال فحسب بل هو قدرة إدراكية تفوقه بكثير والعقل لا الحواس هو الذى يصنع العلم لأنه وحده يستطيع أن يستكشف ماهية الأشياء وعللها) (1)

بل نحن نملك القدرة على أشياء أكبر من الإدراك نفسه، وهى الإرادة (ومن اليسير التمييز بين الإرادة والعاطفة لأن الاثنين يمكن أن تتصادما والأعمال الجريئة تبرهن على أن الإرادة تفرض نفسها حتى على الخوف من الموت فالعواطف تثيرها الحواس ولكن الإرادة تختار وفقا لما يراه العقل، بل إننا كثيرا ما نقول إن فلانا من الناس قد تغلب على عاطفته لأنه كان عنده سبب وجيه للقيام بذلك فالحيوان يتبع حكم الإحساس والعاطفة ولكن الإنسان يتمتع بقدرة على الاختيار وفقا لما يفهمه عقله) (2)

وقد ذكر مؤلفا كتاب [العلم في منظوره الجديد] بمناسبة حديثهما عن علاقة الإرادة بالعقل، اكتشافا علميا رائعا، لا يمكن لمن يحترم عقله أن يرفضه، أو يتلاعب بنتائجه، أو يحاول الهروب منها، فهي تشكل دليلا حسيا على وجود العقل.

يقول المؤلفان في التقديم لهذا الاكتشاف: (وفيما يتعلق بالعلاقة بين العقل والإرادة تم بعض أروع اكتشافات القرن العشرين خلال عمليات جراحية أجراها ويلدربنفيلد على أدمغة ما يربو على ألف مريض فى حالة الوعى، وملاحظات بنفيلد حول وظيفة الدماغ تفوق فى حجيتها وكمالها جميع الأدلة السابقة غير المباشرة المستفادة من بحوث أجريت على حيوانات، ومن عمليات جراحية أجريت على أدمغة أشخاص مبنجين، وكان بنفيلد،

__________

(1) المرجع السابق، ص 32.

(2) المرجع السابق، ص 33.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (93)

والذى يعود له الفضل الأول فى ادماج مباحث الأعصاب وفسيولوجيا الأعصاب وجراحة الأعصاب، وقد شرع فى بحوثه الرائدة فى الثلاثينات من هذا القرن غير أن الآثار الكاملة المترتبة على اكتشافه لم تتضح إلا حين نشر كتابه المسمى [لغز العقل]) (1)

لقد اكتشف بنفيلد عام 1993 بمحض الصدفة أن تنبيه مناطق معينه فى الدماغ بالكهرباء تنبيها خفيفا يحدث استرجاعا فجائيا للذاكرة عند المريض الواعى.

لقد ساورت بنفيلد الشكوك أول الأمر، ثم أخذته الدهشة، فعندما لامس القطب الكهربائى قشرة مخ شاب تذكر هذا الشاب أنه كان جالسا يشاهد لعبة (بيسبول) فى مدينة صغيرة، ويراقب ولدا صغير يزحف تحت السياج، ليلحق بجمهور المتفرجين، وهناك مريضة أخرى سمعت آلات موسيقية تعزف لحنا من الألحان.. قال بنفليد: (أعدت تنبيه الموضع نفسه ثلاثين مرة محاولا تضليلها، وأمليت كل استجابة على كاتبه، وكلما أعدت تنبيه الموضع كانت المريضة تسمع اللحن من جديد، وكان اللحن يبدأ فى المكان نفسه، ويستمر من اللازمة إلى مقطع الأغنية، وعندما دندنت، مصاحبة الموسيقا، كان إيقاعها يسير بالسرعة المتوقعة له) (2)

لقد كان المرضى يحسون دائما بالدهشة لتذكر الماضى بمثل هذه التفاصيل الحية، ويفترضون على الفور أن الجراح هو المسؤول عن تنبيه الذاكرة التى ما كانت تتاح لولاه، وكان كل مريض يدرك أن التفاصيل هى من واقع تجاربه الماضية، وكان من الواضح أن الأشياء التى كان قد أولاها عنايته هى وحدها التى أودعها فى محفوظات دماغه.

وكان بنفيلد من وقت لآخر يحذر المريض أنه سينبه دماغه، ولكنه لا يفعل ذلك، وفى مثل هذه الحالات لم يكن المريض يذكر أى ردود فعل إطلاقا.

__________

(1) المرجع السابق، ص 33.

(2) المرجع السابق، ص 34.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (94)

ثم إن ملامسة المنطقة الخاصة بالنطق فى الدماغ تؤدى إلى فقدان مؤقت للقدرة على الكلام عند المريض، ونظرا لانعدام الإحساس فى الدماغ، فالمريض لا يدرك أنه مصاب بالحبسة إلا عندما يحاول أن يتكلم أو يفهم الكلام، فيعجز عن ذلك، وقد روى بنفيلد ما حدث، فقال: (أخذ أحد مساعدى يعرض على المريض صورة فراشة وضعت القطب الكهربائى حيث كنت أفترض وجود قشرة المخ الخاصة بالنطق، فظل المريض صامتا للحظات، ثم طقطق بأصابعه كما لو كان غاضبا، ثم سحبت القطب، فتكلم فى الحال، وقال: الآن أقدر على الكلام، إنها فراشة لم أكن قادرا على النطق بكلمة (فراشة) فحاولت أن أنطق بكلمة (عثة)

لقد فهم الرجل بعقله الصورة المعروضة على الشاشة، وطلب عقله من مركز الكلام فى دماغه أن ينطق بالكلمة التى تقابل المفهوم المائل فى ذهنه، وهذا يعنى أن آلية الكلام ليست متماثلة مع العقل، وإن كانت موجهة منه، فالكلمات هى أدوات تعبير عن الأفكار، ولكنها ليست الأفكار ذاتها، وحين عجز المريض عن التفوه بالكلمة لانسداد الكلام عنده استغرب، وأمر بالبحث عن اسم شئ مشابه هو (العثه) وعندما فشل في ذلك أيضا طقطق بأصابعه غضبا (إذ إن هذا العمل الحركى لا يخضع لمركز الكلام)، وأخيرا عندما انفتح مركز الكلام عند المريض شرح تجربته الكاملة مستخدما كلمات تناسب أفكاره، وقد استنتج بنفيلد أن المريض حصل على كلمات من آلية الكلام عندما عرض مفاهيم، ونحن نستطيع الاستعاضة عن ضمير الغائب فى عملية الاستبطان هذه بكلمة عقل فعمل العقل ليس عملا آليا)

وهكذا توصل بنفيلد إلى نتائج مماثلة فى مناطق الدماغ التى تضبط الحركات، قال: (عندما جعلت أحد المرضى يحرك يده بوضع القطب على القشرة الحركية فى أحد نصفى كرة دماغه كنت أسأله مرارا عن ذلك، وكان جوابه على الدوام (أنا لم أحرك يدى ولكنك أنت

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (95)

الذى حركتها) وعندما أنطقته قال: (أنا لم أخرج هذا الصوت أنت سحبته منى)

وقد لخص بنفيلد ذلك بقوله: (إن القطب الكهربائي يمكن أن يخلق عند المريض أحاسيس بسيطة متنوعة، كأن يجعله يدير رأسه أو عينيه أو يحرك أعضاءه أو يخرج أصواتا، وقد يعيد إلى الذاكرة إحساسا حيا بتجارب ماضية، أو يوهمه بأن التجربة الحاضرة هى تجربة مألوفة، أو أن الأشياء التى يراها تكبر وتدنو منه، ولكن المريض يظل بمعزل عن كل ذلك، وهو يصدر أحكاما على كل هذه الأمور وربما قال: إن الأشياء تكبر) ولكنه يستطيع مع ذلك أن يمد يده اليسرى، ويقاوم هذه الحركة.

ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة انتهى بنفيلد إلى أن عقل المريض الذي يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بد من أن يكون شيئا آخر يختلف كليا عن فعل الأعصاب اللاإرادي، ومع أن مضمون الوعي يتوقف إلى حد كبير على النشاط، فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك.

وباستخدام هذه الأساليب المراقبة استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسؤولة عن النطق والحركة وجميع الحواس الداخلية والخارجية غير أنه لم يكن في المستطاع تحديد موقع العقل أو الإرادة في أي جزء من الدماغ، فالدماغ هو مقر الإحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة، ولكنه ليس مقر العقل أو الإرادة.

وقد أعلن بنفيلد عن نتائج أبحاثه قائلا: (ليس في قشرة الدماغ أي مكان يستطيع التنبيه الكهربائي فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئا، والقطب الكهربائي يستطيع أن يثير الأحاسيس والذكريات غير أنه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقى، أو يحل مسائل فى الجبر، بل إنه لا يستطيع أن يحدث فى الذهن أبسط عناصر الفكر المنطقي، والقطب الكهربائي يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك، ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه، إنه لا يستطيع أن يكره الإرادة، فواضح أذا أن العقل البشرى والإرادة البشرية

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (96)

ليس لها أعضاء جسدية)

بعد هذا الاكتشاف، والذي أعقبته اكتشافات كثيرة تدل على ضرورة وجود العقل، وكونه كائنا آخر غير الجسد، نختم هذا المبحث ببعض ما ورد في حوارية ذكرها د. عمرو شريف في كتابه المهم [رحلة عقل]، وقد جرت ـ كما يذكر ـ بينه والدكتور جي موريلاند من جهة، باعتبارهما يمثلان الفكر الإيماني، مع بعض الملاحدة الماديين (1).

وقد بدأ فيه الملحد سؤاله عن تعريف الوعي، فأجاب المؤمن بقوله: (الوعي هو القدره على التأمل فيما حولنا وفيما بداخلنا، إنه يقف وراء الاحاسيس والافكار والمعتقدات والرغبات وحرية الاختيار؛ إنه ما يجعلنا نشعر بأننا أحياء.. إن الوعي ببساطه هو الفرق بين الانسان المستيقظ والانسان النائم.. ويمكن تشبيه الوعي بالتيار الكهربائي الذي لايعمل الكمبيوتر إلا به، إذا تتلاشى قدرات الكمبيوتر إذا تم فصل التيار الكهربائي عنه)

قال الملحد: يعتبر كثير من البيولوجيين أن العقل المسؤول عن الوعي نتاج مباشر للمخ المادي، تماماً كما تنتج الكليتان البول، لذلك يعتقد أنصار التطور الدارويني أنه ما إن وصل المخ إلى الحجم الحالي وتعقيده المذهل حتى بزغ العقل تلقائياً كخطوة تطورية.. لأكن أميناً معك، لايمكنني أن أتصور أن التطور العشوائي قادر على تشكيل العقل الإنساني بكل ملكاته فما رأيك أنت؟

أجاب المؤمن: لست وحدك الذي تجد صعوبة في ذلك، أنظر إلى مايقول أستاذ الفلسفة البريطاني بجامعة أكسفورد كولن ماكجين: (لا أستطيع أن أتصور أن المادة يمكن بأي آلية بيولوجية أن تكتسب العقل، إن العقل كالحياة ضيف جديد تماماً على الكون، إنه قفزة هائلة من نوع مختلف ولاينبغي أن يتهرب البيولوجيون التطوريون من المشكلة بأن يغضوا النظر عنها)

__________

(1) انظر: رحلة عقل، د. عمرو شريف، ص 233، فما بعدها.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (97)

وأضاف المؤمن: إن القائلين ببزوغ العقل من المخ المادي يواجهون أربع مشكلات:

1 - إن قولهم هذا يعني أن الماده تتميز بعقل كامن فيها، وعند وصول المادة إلى درجة معينة من تعقيد البنية تتفجر وتظهر هذه القدرات الكامنة، وقد أضفوا على المادة بذلك صفات تخالف تماماً المفاهيم المادية إنها صفات أقرب لمنظور المتدينين من منظور الماديين.

2 - إذا انبثق العقل من المادة دون استمداد من ذكاء مطلق أعلى فكيف نثق في أحكامه؟ ومن باب التشبيه إذا قام شخص متخلف عقلياً ببرمجة الكمبيوتر، هل تثق فيما نحصل عليه من مخرجات الكمبيوتر، فما أدراك لو لم يكن لهذا المبرمج عقلاً بالمرة.

3 - تؤمن عقولنا بالعديد من المفاهيم البديهية التي لانطلب دليلاً عليها وأولها اعتقادنا في سلامة عقولنا وأحكامنا فمن أين أتت هذه المفاهيم التي نبني عليها كل أمور حياتنا وكل أفكارنا ومفاهيمنا، وكيف تكون إفرازاً مباشراً للنشاط الكهروكيميائي وكيف يجعلنا المخ نثق في هذه المفاهيم البديهية بهذا اليقين؟

4 - إن بزوغ العقل من المادة يتطلب خضوعه لقوانينها الكيميائية والفيزيائية وماتتسم به من حتمية، إن افتراض الحتمية يتنافى مع مايتمتع به الإنسان من حرية الاختيار فأنت تستطيع أن تستكمل قراءة هذا الفصل أو أن تغلق الكتاب.

قاطع الملحد المؤمن قائلا: وماذا لو افترضنا أن العقل انبثاق مباشر من المخ كما يعتقد الماديون فما الذي يترتب على ذلك؟

أجاب المؤمن: لو صدق هذا المنظور لما وجد العقل الإنساني أصلاً، فإذا كان العقل نتاجاً مباشراً للمادة (المخ) لتبنى جميع البشر رأيا واحدا في كل قضية، إذ أن النظرة المادية واحدة كما نجد في العلوم الطبيعية معنى ذلك أن تختفي النظرة النسبية للأمور والتي هي أهم سمات العقل الإنساني.

قال الملحد: لقد طرحت العوائق المنطقية أمام فكرة انبثاق العقل من المخ المادي،

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (98)

واستنتجت من وجود هذه العوائق أن العقل ليس من نتاج المخ، إن مثل هذا الدليل يعتبر عند علماء المنطق دليلاً سلبياً، فهل لديك دليل إيجابي على ذلك؟

أجاب المؤمن: سأقدم لك أدلة تجريبية، ولاشك أن الدليل التجريبي هو أقوى الأدلة العلمية، لقد أجرى دكتور ويلدر بنفيلد مؤسس علم جراحة الأعصاب الحديث أكثر من ألف عملية جراحية لمرضى الصرع الذين لايستجيبون للعلاج، وقد حاول أثناء إجراء هذه الجراحات أن يتوصل إلى موضع العقل داخل المخ البشري، وذلك عن طريق التنشيط الكهربائي لمراكز القشرة المخية المختلفة في الوقت الذي يكون فيه المريض تحت التخدير الموضعي، وعند تنشيط منطقة معينة كانت يد المريض تتحرك فيحاول المريض أن يمنعها عن الحركة بيده الأخرى، وعندما ناقش بينفيلد مرضاه أجابوا بأنهم لايستطيعون منعها.. ومعنى ذلك أنه بينما كانت إحدى يدي المريض تحت التحكم المباشر للنشاط الكهربائي للقشرة المخية كانت إرادة المريض تحاول منعها باستخدام اليد الأخرى، وذلك يؤكد أن للإنسان إرادة منفصلة عن النشاط الكهروكيميائي للمخ، وبالرغم من أن دكتور بنفيلد كان يهدف من أبحاثه إلى إثبات أن مخ الإنسان هز كل شيء وليس وراءه شيء آخر فإنه أقر في النهاية بأن كل من المخ والعقل يمثل وجوداً مستقلاً وذو طبيعة مختلفة.

وكذلك أكد دكتور [روجر سبيري]، وهو حاصل على جائزة نوبل لأبحاثه حول اختلاف وظائف كل من نصفي المخ، بعد تجاربه وأبحاثه المستفيضة عن المخ البشري أن الوظائف العقلية لاتعتمد على نشاطات المخ المادي وإن كانت تستعمله كآلة.

قال الملحد: لاشك أن قضية مصدر العقل الإنساني من أهم القضايا في حياتنا وإن لم تثر اهتمام العامة، فهل هناك المزيد من الأدلة على أن العقل شيء والمخ شيء آخر؟

قال المؤمن: استميحك عذراً لدي موعد لزيارة الطبيب لإجراء بعض الفحوصات المعملية والإشعاعية ليطمئنني على وظائف قلبي ورئتي ومخي.. وكذلك رسم المخ

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (99)

الكهربائي للإطمئنان على صحة أو خطأ أفكاري ومشاعري..

ثم ضحك، وقال: لاشك أن أية فحوصات تجرى على المخ لن تستطيع أن تطلع على أفكارنا وتقوم صحتها أو خطأها إن مايدور في عقولنا أمر شديد الخصوصية.

قاطع الملحد المؤمن قائلاً: لقد أثبت العلم إمكانية الاطلاع على نشاطاتنا العقلية فالأطباء يستطيعون الآن عن طريق تسجيل نشاط المخ الكهربائي وملاحظة حركات العينين أثناء نومنا أن يحددوا متى نحلم.

قال المؤمن: هل تستطيع حركات العين ونشاط المخ الكهربائي أن يخبرانا بمحتوى أحلامنا، لابد أن نوقظ الشخص ليخبرنا عن مضمون حلمه.. إن النشاط الكهربائي الذي نسجله أثناء أحلامنا يعني أن هناك تلازما بين نشاطنا العقلي وبين نشاط المخ الكهربائي، لكن ذلك لايحدد أيهما السبب وأيهما النتيجة.

وقف الملحد متحفزا وقال: لدي دليل علمي قوي لا أحسبك قادرا على دفعه يؤكد أن المخ هو مصدر العقل، بل ومصدر الشعور بالذات.. لقد استطاع الانسان منذ قديم الزمان التحكم في درجة وعيه وحدة عقله وشعوره بذاته عن طريق العقاقير المخدره والمهلوسة والخمور.. كذلك استطاع أطباء الأمراض النفسية عن طريق العقاقير التي تعدل في كيمياء المخ أن يغيروا من مشاعر الإنسان بل ويغيروا من نظرته لذاته وللوجود، وقد استطاعوا عن طريق العقاقير أن يصلحوا الكثير مما يصيب الوعي والعقل والنفس.. ألا يثبت ذلك كله أن كيمياء المخ وراء كل شيء، ومن ثم فإن الوعي والعقل والشعور بالذات تنبثق جميعها من المخ؟

أجاب المؤمن مبتسماً: من التشبيهات التي تستخدم كثيراً وتعبر جيداً عن العلاقة بين عقل الإنسان ومخه هو تشبيهه بالعلاقة بين الموجات الكهرومغناطيسية التي تحمل البث التلفزيزني (العقل) وأجهزة التلفزيون المستقبلة (المخ)، ولاشك أننا نستطيع عن طريق

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (100)

التحكم في أجهزة التلفزيون أن نغير الكثير من مواصفات البث الذي نستقبله، فنحن نستطيع أن نجعل الصورة ملونة أو غير ملونة، زاهية أو معتمة، نجعلها صافية أو مشوشة، نرفع من شدة الصوت أو نخفضه بل ونستطيع أن نقوي من قدرة الجهاز على الاستقبال، كل ذلك والبث التلفزيزني لايتغير، هذا ماتفعله تماماً العقاقير المخدرة والمهلوسة والخمور والعقاقير الطبية في جهاز التلفزيون أقصد في (المخ).

قال الملحد: لقد أثبت لي تجريبياً ومنطقياً أن عقل الإنسان ظاهرة غير مادية، وليس نتاجاً للمخ البشري المادي، فهل العقل هو حقيقة الإنسان وظاهره وجوهره؟

أجاب المؤمن: لا، فإذا كان الوعي من وظائف العقل، فإن العقل من مظاهر الذات الإنسانية.

تساءل الملحد: وماهي الذات الإنسانية؟ ولما لاتقبل فكرة أن العقل هو آخر المطاف، وأنه هو ذات الإنسان؟

قال المؤمن: دعني أروي لك حكاية حقيقية مؤلمة لكنها تبين بوضوح ما أٌقصد، تعرضت إحدى طالباتي في الجامعة لحادث شديد أثناء شهر العسل فقدت على اثره الوعي لعدة أيام، وعندما استعادت وعيها، كانت تعاني من فقدان جزئي للذاكرة، أنساها بأنها متزوجة، كما كانت تعاني من تغير في شخصيتها وسلوكها وكخطوة علاجية عرضوا عليها تسجيلأ لحفل زفافها، فأدركت تدريجياً أنها متزوجة من ذلك الرجل كما استعادت تدريجياً شخصيتها وطبيعتها، لقد كانت سوزي طوال فترة غيابها عن وعيها هي سوزي بالنسبة لنا، كما كانت تدرك طوال فترة فقدانها الجزئي للذاكرة وتغير شخصيتها أنها سوزي ألا يثبت ذلك أن لنا وجوداً حقيقياً مختلفاً عن وعينا وذاكرتنا وشخصيتنا.. إننا نظل نحن حتى وإن غبنا عن وعينا ووهنت ذاكرتنا وتشوهت شخصيتنا وطبيعتنا.

إذا شرحنا مخ الإنسان، جزءاً جزءاً وإذا استطعنا أن ننظر داخل كل خلية من خلاياه

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (101)

فلن نضع أيدينا على موضع الذات الإنسانية، نحن لانعرف شخصية الإنسان عن طريق الفحوصات المعملية والإشعاعية ولكن عن طريق معرفة كيف يشعر هذا الإنسان، فيما يفكر، ماهي طموحاته، ماهي نظرته للوجود.. وهكذا.

والخلاصة أن حقيقة الإنسان تتجاوز جسمه ومخه وعقله ووعيه، فللجوهر الذي يشعر أنه وجود واحد متكامل يقول عن نفسه أنا، لذلك أعلن سير جونز إكيلز عند تسلمه لجائزة نوبل في الطب عن أبحاثه في بايولوجيا المخ قائلا: (أجدني مضطراً إلى القول بطبيعة غير مادية لذاتي وعقلي طبيعة تتفق مع مايسميه المتدينون الروح)

كذلك أعلن [السير شيرينجتون] قبل وفاته بخمسة أيام أن الروح هو جوهر الإنسان الذي لايفني بالموت.

اندفع الملحد قائلاً: لقد قفز شيرينجتون قفزة كبيرة بحديثه عن خلود جوهر الإنسان فما دليله العلمي على ذلك؟

أجابه المؤمن: لعلك سمعت عن خبرات الذين اقتربوا من الموت، فقد أظهرت العديد من الدراسات الموثقة حول هذا الموضوع أن إدراك الإنسان يمتد إلى مابعد توقف المخ عن العمل، واشتملت إحدى أهم هذه الدراسات على 63 مريضاً أصيبوا بنوبات قلبية شديدة، أُعلن إثرها وفاتهم اكلينيكياً لكنهم تماثلوا للشفاء، وحكى بعضهم أموراً عجيبة، حيث ذكر بعضهم أنهم شعروا أنهم مفارقون لأجسادهم، وأنهم يطوفون فوقها ويشاهدون الأطباء والممرضات وهم يتعاملون مع جسدهم المسجى ثم إذا بهم يهبطون ليدخلوا مره أخرى في أجسادهم، وذكر بعضهم أنه شاهد نفقاً طويلاً مظلماً ورأى آخره دائرة من النور، وذكر أحدهم أنه رأى حذاء للتنس ملقى فوق سطح المستشفى، وقد ثبت صحة ذلك.. لقد ذكروا أموراً شاهدوها وانطبعت في ذاكرتهم، وتجاوز بعضها قدرات حواسهم على الإدراك في فترة انقطع فيها الاكسجين عن المخ.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (102)

ألايعني ذلك أنه هناك ذاتاً مستقلة عن المخ لها قدرات إدراكية عالية وهي مصدر الشعور بالذات ومصدر العقل، وأن هذه الذات تظل على وعيها عندما يكاد عمل المخ أن يتوقف.

إذا كان هذا الاستنتاج غير مقبول من الماديين، فإن المنصفين منهم يقرون بعجزهم عن تفسير كيف تنبثق القدرات العقلية عن المخ المادي.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (103)

الفصل الثاني

البرزخ.. وتجليات الحقائق

بعد أن عرفنا اتفاق العقلاء والعلماء والأديان والفطر السليمة التي لم تدنس بالفلسفات المادية على أن سر الإنسان وحقيقته لن تفنى بموته، يتوقف العقل والعلم والفطر عن معرفة ما سيحصل بالضبط لذلك العقل أو تلك الروح التي لم يحصل لها ما حصل لجسدها الذي كانت تمتطيه.

وذلك لأن الإنسان في تلك المرحلة لم يعد محكوما بالقوانين التي تحكم هذا العالم، وإنما انتقل إلى عالم آخر له قوانينه الخاصة به، والتي لا يمكن للعقل أو العلم المجرد أن يكتشفها بأي سبيل من السبل.

ولهذا كان الملجأ الوحيد للتعرف على ذلك العالم هو الدين باعتباره النافذة التي يطل منها الإنسان على عالم الغيب، أو باعتباره المصدر الذي يبين حقائق الوجود التي لا يمكن للعقل المجرد أن يكتشفها.

ولهذا يطلق علماء العقائد على المباحث المرتبطة بهذا الجانب [السمعيات]، أي أن المصدر فيها هو النص الذي نسمعه من النبي، والذي ينقله عن ربه.

وليس في كونها [سمعيات] أي غضاضة، أو منافاة للعقل كما يدعي أصحاب الفلسفات المادية.. ذلك أننا لا نسلم بما نسمعه من النبي إلا بعد أن تثبت نبوته بالدلائل الكثيرة، والتي يسلم لها العقل، ويقر بها، ولا يجد مفرا منها.. وأكبر دليل على ذلك هو تسليم أصحاب العقول الكبيرة من آلاف الفلاسفة والعلماء للنبي.. وهم لم يسلموا له إلا بعد أن ثبتت لهم نبوته.

وهكذا بالنسبة للأصل الأول في العقائد، والذي يطلق عليه [الإلهيات]، فهي أيضا

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (104)

لم يسلم لها إلا بعد ثبوتها بالدليل العقلي، والدليل على ذلك أن كبار الفلاسفة ممن لم يؤمنوا بالأديان، أو لم يعرفوا الأديان يسلمون بوجود الله، وبالكثير من صفاته.

وكمثال يقرب ذلك، ويبين مدى معقوليته، أنه لو ثبت علميا أن هناك حياة في كوكب ما؛ فإن العلم لا يستطيع أن يتنبأ بنوع تلك الحياة، ولا تفاصيل أسرارها، ولا القوانين التي تحكمها.

لكنه إن تمكن من أن يرسل بعض رواد الفضاء، ليذهب لذلك الكوكب، ويكتشف أسراره، فإنه سيقبل كل ما جاء به، مع أنه لم يصل إلى تلك المعارف إلا عن طريق السمع المجرد.. ذلك أنه لا يمكن لكل الناس أن يرحلوا لذلك الكوكب.

وما لنا نذهب بعيدا.. فأكثر معارفنا مبنية على السماع، والثقة في الذين نسمع منهم، حتى لو لم يثبت لنا صدق ما ذكروه، أو لم نستطع تحليله في المخابر.

وأكبر دليل على ذلك أن كل علم التاريخ مبني على هذا، فلو لم نثق في المؤرخين الذين سجلوا الأحداث، لزال علم التاريخ.

وهكذا لو لم نثق في وكالات الفضاء، لما سلمنا بتلك المجرات والكواكب التي تذكرها، لأنه يمكن لأي شخص، وببرامج بسيطة أن ينشئ أي صورة شاء، أو أي فلم أراد.

وهكذا الأمر بالنسبة للمؤمنين الذين تواترت لديهم الأدلة على صدق الرسل عليهم السلام، ولذلك يسلمون لهم، ولكل ما جاءوا به، وخاصة مع عدم تنافره مع العقل، بل توافقه التام معه، ومع جميع القيم النبيلة، ذلك أن لتلك الحقائق المرتبطة بالبرزخ آثارها الكبيرة في السلوك والأخلاق والراحة النفسية، ولذلك كان البحث فيها مجديا ونافعا من كل الجوانب، على عكس ما يذكره أولئك الماديون الذين يتوهمون البحث فيما بعد الموت صارفا عن شؤون الحياة.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (105)

بناء على هذا نحاول في هذا الفصل التعرف على أسرار عالم البرزخ، وهو العالم الذي يبدأ من وفاة الإنسان، أو قبل وفاته بلحظات معدودة، وينتهي بالبعث، وبميلاد النشأة الآخرة.

وقد ذكر القرآن الكريم هذا المصطلح [البرزخ]، وبين بدايته ونهايته، فقال ذاكرا بدايته: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَاءِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100]، فهاتان الآيتان الكريمتان تذكران أن الإنسان عندما يأتيه الموت، أي في اللحظة التي تنزع فيها روحه، يشعر بالمصير الذي سيصير إليه.. ولذلك يطلب الرجوع.

ثم ذكر بعدها النهاية التي ينتهي إليها، فقال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وهي النفخ في الصور، الذي يكون بمثابة دق جرس نهاية الدنيا بملكها وملكوتها.

وهكذا ذكر في سورة الواقعة بعض المشاهد التي يراها الإنسان في ساعة احتضاره، وقبل موته: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} [الواقعة: 83 ـ 96]

وقد رأينا من خلال النصوص المقدسة الكثيرة الواردة في هذا العالم أن أحسن وصف له هو ما نص عليه قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]، فهذه الآية الكريمة تبين أن الإنسان بعد موته، أو حين موته تنكشف له

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (106)

الحقائق، ويتجلى له ما كان غافلا عنه، ذلك أنه لم يكن يرى سوى عالم الملك، وغافلا عن عالم الملكوت.. وبعد الموت يظهر له ما كان خافيا عنه من هذا العالم.

وهذان العالمان لا يمكن للعقل أن ينكرهما، أما عالم الملك، فهو عالم الشهادة الذي نعيشه، ونرى قوانينه، أما عالم الملكوت، فهو ذلك العالم الخفي الذي لا نتمكن من السفر إليه أو رؤيته.. ولكنا مع ذلك لا نستطيع أن ننكره.

وكيف ننكره، ونحن نرى الكثير من المظاهر التي تدل عليه، وأولها النوم، والذي قد نرى فيه الكثير من العجائب، بل قد نرى فيه المستقبل، أو ما خفي من الأمور.

ولهذا اعتبر القرآن الكريم النوم نوعا من الموت، فقال: {الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]

وهكذا يقر أكثر الفلاسفة والحكماء والأديان على أن هناك من يستطيع أن يدخل في نوع من الموت الاختياري، والذي يستطيع من خلاله أن يرى من الأشياء ما لا يراه غيره، وهو ما يعبر عنه بالكشف والمشاهدة.

أو كما أشار إليه قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]

فالآية الكريمة تشير إلى أن الحجاب بين عالم الملك والملكوت ليس الجسد، وإنما الغفلة، ولذلك يمكن لمن رفع الغفلة عن قلبه أن يرى الحقائق في الدنيا قبل الآخرة، كما أشار إلى ذلك ما ورد في الحديث عن الحارث بن مالك الانصاري، قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (كيف أصبحت يا حارث؟) قال: أصبحت مؤمنا حقا. فقال: (انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟) فقال: قد عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت لذلك ليلي، واطمأن نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (107)

فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال: (يا حارث عرفت فالزم) (1)

ولكن مع ذلك يظل الجسد ومتطلباته هو الحجاب الأكبر الذي يحول بين الإنسان وبين رؤية العالم الآخر، ولهذا كان الموت بمثابة رفع الغطاء والحجاب الذي تنكشف به الحقائق، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:

سوف ترى إذا انجلى الغبار... أفرس تحتك أم حمار

بناء على هذا سنحاول في هذا الفصل بيان تجليات الحقائق في عالم البرزخ، وقد رأينا أنه يمكن تصنيفها إلى أربع تجليات كبرى، كلها دلت عليها النصوص المقدسة، وهي:

1 ـ تجلي حقيقة المصير: فيعرف الميت محله من السعادة والشقاء، مثلما يعرف التلميذ بعد انتهاء الامتحان نجاحه أو رسوبه.

2 ـ تجلي حقيقة الإيمان: وذلك بعد الاختبار الذي يتعرض له، والذي يكشف عن حقيقة إيمانه، ومدى رسوخه فيه.

3 ـ تجلي حقيقة العمل: حيث يرى الميت عمله في صورة حسنة أو قبيحة، ويظل ملازما له، يتنعم به، أو يتعذب.

4 ـ تجلى حقيقة الدنيا: ذلك أن الميت في عالم البرزخ يمكنه ـ بقوانين سنراها ـ أن يتواصل مع عالم الدنيا، فيستفيد منهم، ويفيدهم.

هذه هي التجليات الكبرى التي دلتنا عليها النصوص المقدسة، والتي سنحاول شرحها، وبيان أدلتها، وفهم بعض أسرارها من خلال المباحث التالية:

أولا ـ البرزخ وتجليات حقيقة المصير

تذكر النصوص المقدسة أن أول التجليات وأخطرها تجلي المصير الذي ظل الميت

__________

(1) مصنف ابن أبي شيبة 6/ 170 ح (30425)، المعجم الكبير للطبراني 3/ 266 ح (3367)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (108)

طول عمره يؤسس له، ويبني بنيانه..

ولعل أقرب مثال يقرب صورة ذلك ما يفعله بعضهم في حياتنا الدنيوية عندما يؤتى به معصب العينين ليرى بنيانه الذي ظل سنين طويلة يبذل جهده في إكماله، وليكتشف المفاجأة السارة بنفسه.

وهكذا الأمر مع رفع تلك الحجب التي كانت تحول بين الإنسان وبين إدراك حقيقة البناء الذي كان يبنيه، وهل كان بناء سعادة، أم بناء شقاء.

حيث تذكر النصوص المقدسة أن ذلك التجلي لا يتم بعد الموت، وإنما قبله في لحظة الغرغرة، وهي اللحظة التي تكون مقدمة للموت، حينها يكتشف الإنسان الحقيقة، قبل أن يغادر عالم الدنيا، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: 83 - 87]

فالآيات الكريمة تشير إلى تلك اللحظة المفصلية التي يكتشف فيها الإنسان الحقائق التي كان غافلا عنها، وهو ما يدل على أن عالم الآخر مختلط بعالم الدنيا، وأنه ليس من فرق بينهما سوى في أدوات الإدراك التي يقتضيها التكليف.

وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7]، فالآية الكريمة تشير إلى أن الغفلة هي الحجاب الذي حال بين الإنسان وبين رؤية عالم الآخرة، وهي التي جعلته يكتفي بظاهر الحياة الدنيا، دون البحث عن باطنها، والذي تتشكل منه الآخرة.

وقد قال محمّد الحسين الحسيني الطهراني مبينا دلالة الآية الكريمة على هذا المعنى: (يمكن الاستنتاج من جعل ظاهر الحياة الدنيا في الآية الاولى في مقابل الآخرة انّ الآخرة هي باطن الدنيا وحقيقتها، وأنّ الحياة الدنيا لها ظاهر وباطن، وذلك بقرينة تقابلهما وكون

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (109)

أحدهما قسيماً للآخر) (1)

وهكذا استنتج هذا المعنى من قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]، ذلك أنه (من الممكن أن تكون عبارة [وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَرِضْوَانٌ] الواردة في الآية معطوفة على لفظ لعب؛ أي أنّ الحياة الدنيا هي في الأخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان؛ فالحياة الدنيا ظاهرها تلكم المراتب الخمس: لهو، ولعب، وزينة، وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد، وباطنها ـ أي الآخرة ـ عذاب شديد وغفران الربّ الودود ورضوانه) (2)

ومثله قال بهاء الدين العاملي مستدلا بقوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54]: (إنّ الحيّات والعقارب، بل والنيران التي تظهر في القبر والقيامة، هي بعينها الأعمال القبيحة والأخلاق الذميمة والعقائد الباطلة التي ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة وتجلببت بهذه الجلابيب، كما أنّ الروح والريحان والحور والثمار هي الأخلاق الزكية والأعمال الصالحة والاعتقادات الحقّة التي برزت في هذا العالم بهذا الزي وتسمَّت بهذا الاسم، إذ الحقيقة الواحدة تختلف صورها باختلاف الأماكن، فتحلّى في كلّ موطن بحلية، وتزيّى في كلّ نشأة بزيّ، وقالوا: إنّ اسم الفاعل في قوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54] ليس بمعنى الاستقبال بأن يكون المراد أنّها ستحيط بهم في النشأة الأُخرى) (3)

__________

(1) معرفة المعاد، ج 1، ص: 40.

(2) المرجع السابق، ج 1، ص: 40.

(3) نقلا عن: بحار الأنوار: 7/ 229.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (110)

وهذا المعنى لم يذكره الطهراني ولا العاملي فقط، وإنما ذكره الكثير من المتكلمين والعرفاء، والذي يذكرون أن الكشف الذي يفتحه الله على بصائر الأولياء يريهم حقائق ذلك العالم الذي لا تراه أبصارهم الحسية، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله) (1)

وقد ذكر الغزالي الكثيرة من الروايات الدالة على هذا، ثم علق عليها بقوله: (وما حكي من تفرس المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحصر.. والحكاية لا تنفع الجاحد ما لم يشاهد ذلك من نفسه، ومن أنكر الأصل أنكر التفصيل والدليل القاطع الذي لا يقدر أحد على جحده أمران: أحدهما عجائب الرؤيا الصادقة، فإنه ينكشف بها الغيب، وإذا جاز ذلك في النوم فلا يستحيل أيضا في اليقظة، فلم يفارق النوم اليقظة إلا في ركود الحواس، وعدم اشتغالها بالمحسوسات؛ فكم من مستيقظ غائص لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه، والثاني إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الغيب وأمور في المستقبل كما اشتمل عليه القرآن وإذا جاز ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاز لغيره إذ النبي عبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور وشغل بإصلاح الخلق، فلا يستحيل أن يكون في الوجود شخص مكاشف بالحقائق ولا يشتغل بإصلاح الخلق وهذا لا يسمى نبيا بل يسمى وليا) (2)

وبناء على هذا ذكر الغزالي إمكانية الاطلاع على كلا العالمين الظاهر والباطن، فقال: (فمن آمن بالأنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه لا محالة أن يقر بأن القلب له بابان: باب إلى خارج وهو الحواس، وباب إلى الملكوت من داخل القلب وهو باب الإلهام والنفث في الروع والوحي، فإذا أقربهما جميعا لم يمكنه أن يحصر العلوم في التعلم ومباشرة الأسباب المألوفة، بل يجوز أن تكون المجاهدة سبيل إليه فهذا ما ينبه على حقيقة ما ذكرناه من عجيب

__________

(1) رواه الترمذي (3127)

(2) إحياء علوم الدين (3/ 25)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (111)

تردد القلب بين عالم الشهادة وعالم الملكوت) (1)

ولعل ما ذكره كل هؤلاء يفسر بدقة ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فارتفعت ريح منتنة، فقال: (أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين) (2)

بناء على هذا نحاول في هذا المبحث التعرف على تجليات مصير الموتى، بحسب ما دلت عليه النصوص المقدسة، والتي ذكرت أن تلك التجليات تختلف بحسب اختلاف درجات العاملين، وهي درجات لا نهاية لها، لكن القرآن الكريم قسمها إلى ثلاثة أقسام كبرى: المقربين، وأهل اليمين، وأهل الشمال.

وسنوضح بعض ما ورد عنها في العناوين التالية:

1 ـ البرزخ.. وتجليات مصير المقربين

يذكر القرآن الكريم أن أفضل التجليات وأعظمها وأسعدها التجلي المرتبط بمصير المقربين، ذلك لأنهم كانوا أكثر الخلق رغبة في الله وفيما عنده، ولهذا بمجرد أن تزاح عن أعينهم غمامة الحجاب تبرز لهم الجنان العظيمة التي كانت مخفية عنهم، حيث يشمون روائحها العطرة، وهم ممتلئون بالبشارة.

وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 88، 89]، أي أنهم في تلك اللحظة التي تفصلهم عن الحياة الدنيا، يشمون الروح والريحان، ويرون الجنان..

فلذلك لا عجب أن يخرجوا من الدنيا بكل نشاط.. وكيف لا يكون ذلك كذلك، وأنفسهم قد صارت مليئة بالطمأنينة والراحة والسعادة، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في

__________

(1) المرجع السابق، (3/ 25)

(2) مسند أحمد 23/ 97 ح (14784 البخاري في "الأدب المفرد" (732)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (189)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (112)

خطاب هذا النوع من النفوس الممتلئة بسكينة الإيمان: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30]

وفي وصفه تعالى للنفس بكونها مطمئنة إشارة إلى صفة أخرى من صفات المقربين، وربما تكون السبب في جعل الموت يسيرا عليهم، وهو الإطمئنان الحاصل من الإيمان، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]

يقول ناصر مكارم الشيرازي مبينا مدى أسباب هذه الصفة وأهميتها: (ويعود اطمئنان النفس، لإطمئنانها بالوعود الإلهية من جهة، ولإطمئنانها لما اختارت من طريق.. وهي مطمئنة في الدنيا سواء أقبلت عليها أم أدبرت، ومطمئنة عند أهوال حوادث يوم القيامة الرهيبة أيضاً) (1)

وأشار إلى النزع اليسير المرتبط بهم مقارنة بالنزع المرتبط بأهل الشمال، فقال: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)} [النازعات: 1 - 4]

فمن الأقوال الواردة في تفسير الآيات الكريمة ما روي عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما أن المراد من [النازعات غرقا]: (الملائكة، حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعنف فتغرق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط) (2)

وروي عن الإمام علي قوله في تفسيرها: ([وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً] هي الملائكة تنزع

__________

(1) تفسير الأمثل (20/ 198)

(2) تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 312)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (113)

أرواح الكفّار، و[النَّاشِطَاتِ نَشْطاً] هي الملائكة تنشط أرواح الكفّار، ما بين الأظفار والجلد حتّى تخرجها، و[السَّابِحَاتِ سَبْحاً] الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين السماء والأرض، [فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً] هي الملائكة تسبق بعضها بعضاً بأرواح المؤمنين إلى الله تعالى) (1)

وهكذا ورد في القرآن الكريم وصف معاملة الملائكة لهم، وهم في تلك الحالة بين الحياة والموت، قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]

وقد وصف هؤلاء المقربون في الآية الكريمة بكونهم طيبين، أي أنه لا يوجد فيهم شيء من الخبث الذي قد يكون موجودا في أهل اليمين، وقد ذكر الفخر الرازي سر ذلك السلام الذي حظي به هؤلاء الطيبون من الملائكة في ذلك الموقف الحرج، فقال: (وقوله: طيبين كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة، وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به، واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة مبرئين عن الأخلاق المذمومة، ويدخل فيه كونهم مبرئين عن العلائق الجسمانية متوجهين إلى حضرة القدس والطهارة، ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح وأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله لا يتألم بالموت) (2)

ويشير إلى هذا أيضا قوله تعالى في سبب أهلية أهل الجنة للجنة: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]

وهذا يعني الصفاء التام لهؤلاء المقربين إما بعدم ارتكابهم المعاصي مطلقا، أو بتوبتهم منها توبة نصوحا بحيث أهلتهم لذلك المقام الرفيع.

__________

(1) كنز العمال 2: 545 ح 4686.

(2) تفسير الرازي (20/ 202)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (114)

ولعل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] يشير إلى هذا الصنف، والذي اعتبر سراطه هو السراط المستقيم، كما قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]

وقد ذكر القرآن الكريم العلاقة الطيبة بين هذا الصنف والملائكة، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64]

فقد روي أن الذي يقوم بالتبشير والتثبيت الملائكة عليهم السلام، وربط هذه البشارات بهم يدل على تلك الصحبة الطيبة التي كانت بين المؤمنين وبينهم، فقد كانوا نعم الرفاق والأصدقاء، ولذلك كانوا أولياءهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، بل في كل المحال.

وقد روي عن بعض الصالحين أنه كان إذا أصبح قال: (مرحبا بملائكة الله، اكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، وكان آخر يأخذ إفطاره، ثم يغمسه في الماء في جر كان له في بيت مظلم، ثم يقول: (يا ملائكتي طالت صحبتي لكما فإن كان لكما عندالله شفاعة فاشفعا لي)

ولهذا تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: (نحن كنا أولياءكم؛ أي: قرناءكم في الحياة الدنيا، نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله، وكذلك نكون معكم في الآخرة، نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم)

وكل هذه النصوص المقدسة تبين أن الموت ـ بالنسبة لهذا الصنف ـ ليس سوى لحظة من لحظات السعادة، بل من أجمل لحظاتها، ذلك أنهم في تلك اللحظة تزاح عنهم كل الهموم

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (115)

والآلام والأحزان، ولذلك لا يشعرون أبدا بأي ألم لمفارقتهم للحياة الدنيا، وكيف يشعر بالألم من وصل إلى مبتغاه الذي ظل طول عمره يسعى إليه؟

وقد روي في هذا عن الإمام الصادق أنه سئل: (صف لنا الموت؟) فقال: (هو للمؤمنين كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه، فينقطع التعب والألم كله عنه. وللكافر كلسع الأفاعي، وكلدغ العقارب وأشد)، فقيل له: (فإن قوماً يقولون هو أشد من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، ورضخ بالحجارة، وتدوير قطب الأرحية في الأحداق؟)، فقال: (كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين، ألا ترون منهم من يعاين تلك الشدائد، فذلك الذي هو أشد من هذا، إلا عذاب الآخرة، فإنه أشد من عذاب الدنيا)، قيل: (فما لنا نرى كافراً يسهل عليه النزع فينطفئ وهو يتحدث ويضحك ويتكلم، وفي المؤمنين من يكون أيضاً كذلك. وفي المؤمنين والكافرين من يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد؟)، فقال: (ما كان من راحة هناك للمؤمنين فهو عاجل ثوابه. وما كان من شدة فهو تمحيصه من ذنوبه، ليرد إلى الآخرة نقياً نظيفاً مستحقاً لثواب الله، ليس له مانع دونه. وما كان من سهولة هناك على الكافر، فليوفى أجر حسناته في الدنيا، ليرد الآخرة وليس له إلا ما يوجب عليه العذاب، وما كان من شدة على الكافر هناك، فهو ابتداء عقاب الله عند نفاد حسناته. ذلكم بأن الله عَدْلٌ لا يجور) (1)

وقال الإمام الحسين لأصحابه يوم عاشوراء بعدما عاين مدى صدقهم وتضحياتهم: (صبراً بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسع والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟ وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، انّ أبي حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبت ولا

__________

(1) عيون أخبار الرضا: 1/ 274.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (116)

كُذبت) (1)

ولهذا لا نرى صحة تلك النصوص التي وردت في بعض كتب الحديث والمواعظ، والتي تصور معاناة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشديدة مع الموت (2) في نفس الوقت الذي تصور فيه تيسير موت الصالحين، وفرحهم به.

وقد علق الفيض الكاشاني على ما ورد من ذلك في [إحياء علوم الدين] فقال متعجبا في الباب الخاص بـ[كلام المحتضرين من الصالحين]: (وقد ذكر أبو حامد في هذا الباب أقاويل الصحابة والتابعين وطائفة من الصوفية عند موتهم وبكاء بعضهم حينئذ وضحك بعضهم ونسب إلى بعضهم الطرب والاستبشار والسرور عند موته مع أنه ذكر في باب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه اشتد في النزع كربه، وظهر أنينه، وترادف قلقه، وارتفع حنينه، وتغير لونه، وعرق جبينه، واضطربت في الانقباض والانبساط شماله ويمينه، حتى بكى لمصرعه من حضره، وانتحب لشدة حاله من شاهد منظره، ولم يمهله ملك الموت ساعة، وذكر في الحكايات السابقة أن ملك الموت أمهل رجلا حتى توضأ وصلى ركعتين، وذكر في شأن الخليل والكليم في باب سكرات الموت ما سمعت، وهذا من أعجب العجائب، ولنطو ما ذكره في هذا الباب طيا فإن بعضه كلمات لا طائل تحتها وبعضه رعونات ودعاوي، ينادي أكثرها بالإعجاب) (3)

__________

(1) بحار الأنوار: 6/ 154.

(2) من الأمثلة على تلك الرويات ما روي عن عائشة: (أنّ رسول الله (كانت بين يديه رَكْوَة، أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده) (رواه البخاري (6510)

ومنها ما روي عنها أنها قالت: (مات النبي (وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي () (رواه البخاري (4446)

وعنها قالت: (ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله () (رواه الترمذي (979)

(3) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 8، ص: 282.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (117)

ويدل لهذا ما ورد في تيسير موت الشهداء، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما يجد الشهيد من مس القتل، إلا كما يجد أحدكم مس القرصة) (1)

وقد علق عليه المناوي بقوله: (يعني أنه تعالى يهون عليه الموت ويكفيه سكراته وكربه، بل رب شهيد يتلذذ ببذل نفسه في سبيل الله طيبة بها نفسه؛ كقول خبيب الأنصاري حين قتل: ولست أبالي حين أقتل مسلما.. علي أي شق كان لله مصرعي) (2)

فإذا كان هذا كرامة من الله تعالى للشهداء، فإن أولى الناس بها سيدهم ومولاهم ومن بذل حياته كلها في سبيل الله، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

لذلك نرى أن كل ما يروى في وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، ما عدا مرضه وألمه لمرضه، من آثار الفئة الباغية التي حاولت أن تسيء إليه صلى الله عليه وآله وسلم في كل شيء، حتى في كيفية وفاته.

وإلا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي عاش حياته كلها مشتاقا إلى الله، كان أسعد الناس بتلك اللحظات التي تقربه لذلك اللقاء..

وقد أشار ابن كثير إلى ذلك الكم من الروايات الموضوعة حول وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (وقد ذكر الواقدي وغيره في الوفاة أخبارًا كثيرةً فيها نكارات وغرابة شديدة، أضربنا عن أكثرها صفحا لضعف أسانيدها، ونكارة متونها، ولا سِيَّما ما يورده كثير من القُصَّاص المتأخرين وغيرهم، فكثير منه موضوع لا محالة) (3)

إلى جانب تلك النصوص القرآنية ورد في الروايات الكثير من الأحاديث التي تفصل بعض تلك المجملات، والتي لا يمكن قبولها بكل ما فيها، لأن بعضها قد يكون من تصرف الرواة، وبعضها من الدخيل الموضوع.

__________

(1) رواه أحمد (7953)، والترمذي (1668)، والنسائي (3161)، وابن ماجة (2802)، وابن حبان (4655)، والبيهقي (18525)

(2) فيض القدير (4/ 182)

(3) البداية والنهاية" (5/ 256)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (118)

ومن تلك الأحاديث ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً، قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، وربّ غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقول: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله تبارك وتعالى فإذا كان الرجل السُّوءُ: قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغسّاق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لَكِ أبواب السماء، فيرسل بها من السماء، ثم تصير إلى القبر) (1)

حيث نلاحظ في هذه الأحاديث تلك اللغة التجسيمية التي نجدها عند كعب الأحبار وتلاميذه من الصحابة، وهي قوله: (حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله تبارك وتعالى)، مع أنهم تناقض قولهم في كون الله فوق السموات، وأنه فوق العرش، وأن السموات والأرض بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة.

وهذا لا يعني طرح الحديث جميعا، فقد يكون صحيحا، ويكون الموضوع فيه هو ذلك النص فقط، ذلك أن الكثير من رواة الحديث، لم يكونوا يكتفون برواية الحديث، وإنما كانوا يضيفون إليه شروحهم وتفسيراتهم بالإضافة إلى روايتهم له بالمعنى.

ومن الأمثلة على هذا ما روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. تقول المرأة: إما

__________

(1) رواه ابن ماجه (3456)، وأحمد (2/ 364) (8754)، والطبري في (مسند عمر) (2/ 503) وقال: إسناده صحيح

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (119)

أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني) (1)

وقد روي أن أباهريرة سئل بعد روايته للحديث، فقيل له: يا أبا هريرة، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: (لا، هذا من كيس أبي هريرة) (2)

وبناء على هذا، فلو أن أولئك الذين سمعوا ذلك الحديث لم يسألوه، لما تبين لنا الفرق بين ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان من فهمه وتفسيره الخاص به، وهو وإن احترمناه إلا أنه لا يمكن اعتباره أبدا نصا مقدسا.

وبناء على هذا يمكن التعامل مع كل الأحاديث الواردة في هذا الباب، والتي اختلط فيها التفسير البشري، أو الرؤية البشرية مع الحقائق المقدسة.

ولعل من أكثرها وضوحا ما رواه البراء بن عازب قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقعد وقعدنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وهو يلحد له، فقال: (أعوذ بالله من عذاب القبر، ثلاث مرات، ثم قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه الملائكة، كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها، يعني على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه

__________

(1) رواه أحمد 2/ 252 (7423) وفي 2/ 476 (10175)، والبخاري: 5355 وأبو داود: 1676..

(2) التخريج السابق.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (120)

بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب، أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي) (1)

ومثل ذلك ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا حُضِر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضياً عنك، إلى روح الله وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً، حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض!، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهب به إلى أمه الهاوية، وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله ـ عز وجل ـ؛ فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب الأرض،

__________

(1) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (121)

فيقولون: ما أنتن هذه الريح! حتى يأتون به أرواح الكفار) (1)

فهذان الحديثان يذكران تكفين نفس الإنسان أو روحه عند قبضها، وهو يعني أنها تموت هي الأخرى، وهو يتنافى مع النصوص التي تبين أن الموت لا علاقة له بالنفس ولا بالروح، وإنما علاقته لا تتعدى الجسد، أو انفصال ارتباط الروح بالجسد.

وربما يكون المقصود بذلك هو توفير الجسد الجديد الذي تنزل فيه نفس الإنسان بعد وفاته.. والذي يتناسب مع طبيعتها، كما سنذكر ذلك في المبحث الثاني.

ويشير إليه قوله تعالى في وصف مصير الشهداء، وكونهم أحياء حياة حقيقية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169، 170]

ويشير إليه من الحديث ما ورد في الرواية عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ رد السلام، ثم قال: (يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل وإسرافيل سلموا علينا فردي عليهم السلام، وقد أخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا قبل ممره على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث أو أربع، فقال: لقيت المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاثا وسبعين بين رمية وطعنة وضربة، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت، ثم أخذت بيدي اليسرى فقطعت، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل أنزل من الجنة حيث شئت، وآكل من ثمارها ما شئت)، فقالت أسماء: (هينئاً لجعفر ما رزقه الله من الخير، ولكن أخاف أن لا يصدق الناس فاصعد المنبر أخبر به)، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (يا أيها الناس إن جعفرا مع جبريل وميكائيل، له جناحان عوضه الله من يديه سلم علي، ثم أخبرهم كيف كان أمره

__________

(1) رواه النسائي (4/ 8)، وابن حبان (7/ 284) (3014)، والحاكم (1/ 504) وقال: سنده صحيح.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (122)

حيث لقي المشركين)، فاستبان للناس بعد اليوم الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جعفر لقيهم، فلذلك سمي الطيار في الجنة) (1)

فهذا الحديث يشير إلى أن جعفر بن أبي طالب عوض مباشرة جسدا جديدا متناسبا مع نفسه المطمئنة الممتلئة بالإيمان، وأنه في تلك اللحظات مباشرة، صار يطير مع الملائكة، ويتعامل مع كلا العالمين: عالم الدنيا، وعالم الآخرة، أو عالم الملك وعالم الملكوت.

وهذا الحديث أيضا يتنافى مع تلك الأحاديث التي تصور أرواح الشهداء، وكونها توضع في حواصل طير خضر تسرح متنقلة في رياض الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرض، بخلاف أرواح غيرهم من المؤمنين، والتي توضع في أجواف طير يعلق بثمر الجنة ولا ينتقل في أرجائها (2).

فهذه الأحاديث لا تختلف عن تلك الأحاديث التي تصور الملائكة بصورة الحيوانات، مثلما يروون عن العباس بن عبد المطلب قال: كنا بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمرت سحابة، فقال: تدرون ما هذه، قالوا: سحاب، قال: والمزن، قالوا: والمزن، قال: والعنان، ثم قال: تدرون كم بعد ما بين السماء والأراضين، قالوا: لا، قال: إما واحدة أو اثنتين أو ثلاث وسبعين سنة، ثم السماء فوق ذلك، حتى عد سبع سموات، ثم

__________

(1) رواه الحاكم (3/ 209 - 210 و212) ورواه الطبراني في الأوسط مختصراً -كما في مجمع الزوائد (9/ 272)

(2) من الأحاديث الواردة في ذلك ما روي عن مسروق قال: سألنا عبدالله (هو ابن مسعود) عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، قال: أَمَا إنَّا سألنا عن ذلك، فقال: (أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضْر، لها قناديل معلَّقة بالعرش، تسرحُ من الجنة حيث شاءتْ، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربُّهم اطلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يَسْأَلوا، قالوا: يا رب، نريد أن تردَّ أرواحَنا في أجسادِنا حتى نقتلَ في سبيلك مرةً أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا) [مسلم (1887)]

ومنها ما روي عن أم هانئ أنها سألت رسول الله (: أنتزاور إذا متْنَا، ويرى بعضنا بعضًا؟ فقال رسول الله (: (تكون النسم طيرًا تعلق بالشجر، حتى إذا كانوا يوم القيامة دخلتْ كل نفس في جسدِها) [رواه أحمد (27387)]

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (123)

فوق السابعة بحر بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك كله ثمانية أملاك أوعال، ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهم العرش بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك) (1)

فكل هذه الأحاديث من الأوهام التي وضعتها الفئة الباغية لتصرف عن المعاني القرآنية، وتملأ القلوب نفرة منها.. ولذلك كان فيما ورد في القرآن الكريم، غنى عن أكثر تلك التفاصيل التي يوردونها.

فالقرآن الكريم يكتفي بذكر النعيم العظيم الذي يجده هؤلاء المقربون بمختلف أصنافهم، ويذكر فرحهم الشديد به، ويذكر حياتهم الحقيقية، ويكتفي بذلك، لأن التفاصيل المرتبطة بذلك العالم لا يمكن لمن في هذا العالم أن يدركها.

وقد أشار الإمام الصادق إلى هذا المعنى عندما سئل عن أرواح المؤمنين، فقال: (في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة، وانجز لنا ما وعدتنا)، وسئل عن أرواح المشركين، فقال: (في النار يعذبون، ويقولون ربّنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا) (2)، وهذا يدل على أن لهم أجسادهم الخاصة بهم، ولم يوضعوا في حواصل الطيور وغيرها.

بل قد روي ما يدل على إنكاره لتلك الروايات، فقد قيل له: (جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش)، فقال: (لا، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير، لكن في أبدان كأبدانهم) (3)، وفي رواية: (فإذا قبضه الله عزّوجلّ صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم

__________

(1) رواه وأبو داود في سننه، (5/ 93)، والدارمي في الرد على بشر المريسي: ص 448...

(2) بحار الأنوار: 6/ 269، الحديث 122 و126.

(3) بحار الأنوار: 6/ 268.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (124)

القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا) (1)

2 ـ البرزخ.. وتجليات مصير أصحاب اليمين

وقد ذكر القرآن الكريم التجليات المرتبطة بمصير هؤلاء، فقال: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} [الواقعة: 90، 91]

وهي تشير إلى الرتبة التالية لرتبة الفائزين، والتي يعبر عنها بعض العلماء برتبة الناجين، ولهذا وصف القرآن الكريم جزاءها بكونه سلاما، بخلاف جزاء المقربين الذي وصفه بكونه روحا وريحانا وجنة نعيم.

وقد وصفهم الإمام الصادق، وفرق بينهم وبين الصادقين، فقال: (المؤمن مؤمنان، فمؤمن صدَّق بعهد الله ووفى بشرطه، وذلك قول الله عز وجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ، فذلك الذي لاتصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة، وذلك ممن يَشفع ولا يُشفع له. ومؤمنٌ كخامة الزرع، تعوجُّ أحياناً وتقوم أحياناً، فذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا وأهوال الآخرة وذلك ممن يُشفع له ولا يَشفع) (2)

وفي رواية: (ومؤمن زلت به قدم، فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ، وذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا والآخرة، ويشفع له وهو على خير)

ويدخل في هؤلاء من يسميهم القرآن الكريم [المقتصدين]، والذين وضعهم الله تعالى ضمن أصناف المؤمنين المتبعين لورثة الكتاب: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]

ويدخل فيهم أولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ

__________

(1) بحار الأنوار: 6/ 270.

(2) الكافي:2/ 248.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (125)

خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102]

وما ورد في النصوص المقدسة يشير إلى أن نعيم البرزخ بصورته الكاملة الجميلة لا يناله إلا المقربون، أما أصحاب اليمين، فنعيمهم أقل بكثير، بل قد يختلط نعيمهم ببعض العذاب الناتج عن تقصيرهم في الطاعات أو قيامهم ببعض المعاصي، كما سنرى ذلك في المبحث الثاني.

ولهذا، فإن هؤلاء، وإن نعموا بالسلام في هذا المحل، إلا أنهم لم ينعموا بالفوز الحقيقي الذي جعله الله للمقربين الطيبين، ولهذا يتحول البرزخ لهم إلى مدرسة تستمر فيها تربيتهم وإصلاحهم حتى يتخلصوا من تلك الرعونات التي كانت تختلط مع أعمالهم الصالحة.

وتبدأ تلك الدروس التربوية والتصحيحية من لحظات الموت نفسها، فشعور هؤلاء بالموت يختلف عن شعور السابقين المقربين الذين رأينا شوقهم له، ومسارعتهم إليه، وهوانه عليهم، وسبب ذلك هو عدم طمأنينتهم الكاملة، بسبب المعاصي والتقصير الذي وقعوا فيه.

وقد روي عن الإمام علي أنّه قال: (ما من المؤمنين عبدٌ يقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتَّى يُبتلى ببليّة تُمحَّصُ بها ذنوبه، إمّا في مالٍ، وإمّا في ولدٍ، وإمّا في نفسه، حتَّى يلقى الله عزّ وجلّ وما له ذنبٌ، وإنّه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيُشدَّدُ به عليه عند موته) (1)

وروي أن الإمام الكاظم دخل على رجل قد غرق في سكرات الموت وهو لا يجيب داعيا، فقالوا له: يا ابن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف حال صاحبنا؟ فقال: (الموت هو المصفاة تصفي المؤمنين من ذنوبهم، فيكون آخر ألم يصيبهم كفارة آخر وزر بقي

__________

(1) الخصال: ج 2 ص 635.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (126)

عليهم، ويصفي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذة أو راحة تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم، وأما صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب نخلا وصفي من الآثام تصفية وخلص حتى نقي كما ينقى الثوب من الوسخ وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد) (1)

ومن الروايات الواردة في شدة تلك السكرات ما حدث به شداد بن أوس قال: (الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمنين، والموت أشد من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وغلي في القدور، ولو أن الميت نُشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت، ما انتفعوا بعيش، ولا لذوا بنوم) (2)

وروي عن عوانة بن الحكم قال: (كان عمرو بن العاص يقول: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فلما نزل به قال له ابنه عبد الله: يا أبتِ إنك كنت تقول: عجباً لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه؟ فصف لنا الموت قال: (يا بنيّ الموت أجل من أن يوصف، ولكن سأصف لك منه شيئاً، أجدني كأن على عنقي جبال رضوى، وأجدني كأن في جوفي الشوك، وأجدني كأن نفسي تخرج من ثقب إبرة) (3)

وقد حاول الغزالي أن يقرب صورة ذلك الاحتضار المؤلم، فقال: (واعلم أن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، ومن لم يذقها فإنما يعرفها إما بالقياس إلى الآلام التي أدركها، وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النَزع على شدة ما هم فيه.. فأما القياس: الذي يشهد له فهو أن كل عضو لا روح فيه فلا يحس بالألم، فإذا كان فيه الروح فالمدرك للألم هو الروح، فمهما أصاب العضو، جرح أو حريق سرى الأثر إلى

__________

(1) معاني الأخبار: (289) ح 6..

(2) ابن أبي الدنيا، (الموت) (ص: 69)

(3) رواه ابن سعد في (الطبقات الكبرى) (4/ 260)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (127)

الروح، فبقدر ما يسري إلى الروح يتألم، يتفرق على اللحم والدم وسائر الأجزاء، فلا يصيب الروح إلا بعض الألم؛ فإن كان من الآلام ما يباشر نفس الروح ولا يلاقي غيره فما أعظم ذلك الألم وما أشده، والنَزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه، حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم.. فألم النَزع يهجم على نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه؛ فإنه المنْزوع المجذوب من كل عرق من العروق، وعصب من الأعصاب، وجزء من الأجزاء، ومفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعرة وبشرة من العرق إلى القدم.. فلا تسل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ولو كان المجذوب عرقاً واحداً لكان ألمه عظيماً، فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم، لا من عرق واحد، بل من جميع العروق، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجياً، فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى يبلغ بها إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها) (1)

ولهذا قد يشعر هؤلاء بسكرات الموت الشديدة، ويتألمون لها، وربما يتذكرون حينها ما اقترفوا من المعاصي، ويندمون عليها، وبذلك يتخلصون من الكثير منها.

فإن لم يكف ذلك عاينوا من أنواع الآلام في فترة البرزخ ما يساهم في تطييبهم وتطهيرهم.. فإن لم يكف ذلك، أو كانت معاصيهم من الذنوب المتعدية، مروا على مواقف الحساب، وهناك يتعرضون للمزيد من عمليات التطهير والإصلاح التي تؤهلهم لدخول الجنة المناسبة لمرتبتهم.

وقد ورد في الروايات ما يدل على أن مصير بعض هؤلاء يبقى مجهولا لغرض التهذيب، ومنها ما روي عن الإمام الصادق أنه سئل: (صف لنا الموت)، فقال: (على الخبير سقطتم، هو أحد أمور ثلاثة يرد عليه: إما بشارة بنعيم الأبد، وإما بشارة بعذاب الأبد، وإما

__________

(1) إحياء علوم الدين (4/ 461)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (128)

تخويف وتهويل وأمر مبهم لا يدري من أي الفرق هو؟ فأما ولينا والمطيع لأمرنا فهو المبشربنعيم الأبد، وأما عدونا والمخالف لأمرنا فهو المبشر بعذاب الأبد، وأما المبهم أمره الذي لا يدري ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه، لايدري ما يؤول إليه حاله، يأتيه الخبرمبهماً مخوفاً ثم لن يسويه الله تعالى بأعدائنا، ولكن يخرجه من النار بشفاعتنا، فاعملوا وأطيعوا ولا تتكلوا ولاتستصغروا عقوبة الله، فإن من المسرفين من لا تلحقه شفاعتنا إلا بعد عذاب الله بثلاث مائة ألف سنة) (1)

ولهذا، فإن النصوص المقدسة تبين أن العدل الإلهي يأبى أن يسوي بين جميع المؤمنين، فهم وإن اتفقوا في الإيمان إلا أنهم يختلفون في درجته، وفي مسلتزماتها من العمل الصالح، وقد قال الله تعالى مفرقا بين المؤمنين في ذلك: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَفَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95]

وهذا الاختلاف في الدرجات يستدعي اختلاف التعامل مع كل درجة، بحيث يكون لكل إنسان جزاؤه الخاص به، والذي يختلف فيه عن غيره، وإن كان يصنف ضمن صنف معين، فليس كل المقربين بدرجة واحدة، وليس كل أهل اليمين بدرجة واحدة.

3 ـ البرزخ.. وتجليات مصير أصحاب الشمال

اهتم القرآن الكريم بعرض مشاهد كثيرة لأصحاب الشمال، وهم الذين حادوا الله، إما بعدم الإيمان مطلقا، أو بعدم الخضوع لما يتطلبه الإيمان من تكاليف، مع الإصرار على ذلك.

وهي كلها تدخل ضمن دائرة العدل الإلهي، ذلك أن إقامة الحجة على العباد، وبيان

__________

(1) اعتقادات الصدوق، 29.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (129)

المصير الذين ينتظرهم عندما يخالفون الأوامر من الضروريات التي تقتضيها العدالة، ولذلك نرى كل القوانين لا تكتفي بذكر الجرائم، وإنما تضع بجانبها العقوبات المرتبطة بها.

وهذا يدخل أيضا ضمن دائرة الإنذار التي هي من وظائف الرسل الكبرى، فكلهم كانوا مبشرين ومنذرين، ولهذا عندما يعترض المجرمون يوم القيامة على العقوبات التي تسلط عليهم تجيبهم الملائكة الموكلة بهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 71، 72]

بل إن الله نفسه يتولى سؤال عباده عن ذلك، ويقول لهم: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130]

ولهذا، فإن الذين يزهدون في الحديث عن أمثال هذه المسائل، أو يعتبرونها تشويها لمفهوم الألوهية في الإسلام، أو يملأون الناس بالرجاء الكاذب، يخالفون المقاصد التي وردت النصوص الكثيرة بها، لا نصوص السنة وحدها، بل نصوص القرآن الكريم أيضا.

حيث نجد فيه المشاهد الكثيرة التي تصور أنواع الآلام التي يمر بها المجرمون في المراحل المختلفة التي تمر بها حياتهم ابتداء من البرزخ، وانتهاء بدار القرار، ومن تلك المشاهد ما ورد من نصوص حول بيان مصيرهم عند الموت، ومنها ما ورد في آخر سورة الواقعة بعد ذكر المقربين وأصحاب اليمين، قال تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 92 - 94]

وهي تدل ـ كما ذكرنا سابقا ـ على أن هذا الصنف كان يعيش في هذه الأجواء بروحه ونفسه، وباطن دنياه، ولذلك بمجرد أن يرفع عنه الحجاب في تلك اللحظات الخطيرة، يكتشف الحقيقة، ويعرف أنه لم يكن سوى مثل ذلك المخدر الذي يعيش كل ألوان العذاب،

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (130)

وإن كان يتوهم أنه يعيش بسلام وطمأنينة.

وبناء على هذا، فإن هذا الصنف يعاين العذاب ابتداء من تلك اللحظات، وهو جزاء موافق لعمله، لأنه لا يبدو له حينها إلا الصور الحقيقية لأعماله التي قدمها.

وقد ورد في النصوص المقدسة ما يدل على أن هذا الصنف، وفي تلك اللحظات العصيبة، يطلب العودة للحياة لتصحيح ما أخطأ فيه، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَاءِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} [المنافقون: 9 - 11]

وقد ذكر القرآن الكريم أن هذه الحسرة تظل في قلوبهم يرددونها كل حين، مع علمهم أنها لن تجديهم شيئا، قال تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 44، 45]

ومن المشاهد القرآنية التي صورت تلك المعاناة الشديدة التي يلاقيها هذا الصنف عند الموت، ما ورد في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)} [الأنفال: 50، 51]

وعلل ذلك، وبين سببه في موضع آخر، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (131)

نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَالله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ الله وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 26 - 28]

ولتقريب هذا، نذكر أن الملائكة عليهم السلام يمثلون الولاء المطلق لله تعالى، ولذلك فإن كل تصرفاتهم مبنية على ذلك الولاء، فهم رحمة ولطف وأدب مع المؤمنين الصادقين.. وهم في نفس الوقت شدة وعذاب وقسوة على الظالمين الجاحدين.

وهذا الوصف هو الذي دعا الله المؤمنين إلى تمثله، حتى يكونوا سلما لمن سالم، وحربا لمن حارب، كما قال تعالى في وصف الفائزين بمعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]

وهكذا، فإن النزع المرتبط بهؤلاء شديد جدا، وهو يشير إلى مدى تشبثهم بالدنيا، وحرصهم الشديد عليها، كما يشير إلى أنهم بعد معاينتهم لما ينتظرهم من أهوال يزداد خوفهم وحرصهم، ولهذا يحصل لهم ما وصفه الله تعالى في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)} [الأنعام: 93، 94]

ولهذا يرد الله تعالى على أولئك العتاة المجرمين المطالبين بأدلة حسية على وجود الملائكة أو غيرهم من العالم الغيبي بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)} [الفرقان: 21 - 23]

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (132)

ومنذ ذلك الحين تبدأ مشاهد العذاب الكثيرة تعرض على هؤلاء، وتمارس معهم إلى أن تقوم القيامة، كما قال تعالى عن آل فرعون: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45، 46]

وليس في الآيات الكريمة ـ كما يزعم المنكرون لهذا النوع من العذاب ـ أي دلالة على كون ذلك العذاب خاصا بهم، وكيف يستقيم ذلك مع العدالة الإلهية، والتي تضع القوانين والسنن، وتطبقها على الجميع بحسب أعمالهم، لا بحسب أشخاصهم.

وقد ورد في الأحاديث والروايات عرض الكثير من المشاهد المرتبطة بهذا الصنف، وهي ـ كما ذكرنا سابقا ـ منها ما حافظ الرواة على ألفاظه ومعانيه، ويمكن قبوله قبولا مطلقا لموافقته لما ورد في القرآن الكريم، ومنها ما تصرفوا فيه، بالرواية بالمعنى، أو إضافة بعض الشروحات والإيضاحات، ولهذا لا نستطيع الجزم بقبوله، وقد نجزم برفضه.

ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى،

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (133)

فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت، فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول رب لا تقم الساعة) (1)

وهذا الحديث يصور مشهدا من المشاهد المرتبطة بهؤلاء، وهو لا يعني أن الجميع يكون هذا حالهم، بدليل أن هناك من لا يدفن في المقابر، وهناك من يحترق، فلا يبقى منه شيء، وهناك من تأكله السباع.. ولهذا، فإن العبرة فيه بالمعنى العام، أو بكونه يصور مشهدا من المشاهد، وليس كل المشاهد.

وقد ذكرنا هذا، لأن البعض يتشبث ببعض الألفاظ الواردة في الحديث، ثم يلغيه جميعا بسبب تلك اللفظة، وهذا غير صحيح.

ثانيا ـ البرزخ وتجليات حقيقة العمل

بما أن البرزخ مدرسة من أهم المدارس التربوية التي يربي الله فيها عباده، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويخلصهم من رعونات نفوسهم وأهوائهم التي تسلطت عليهم، ولم يستطيعوا في الدنيا الفكاك منها، فإن تجليات حقيقة العمل، من أهم الدروس التي تقدم في هذه المرحلة.

ذلك أن المعاصي والشهوات والشبهات وكل أنواع الضلال تبرز بصورتها الحقيقية

__________

(1) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (134)

التي كان يخفيها ذلك التزيين الذي زُينت به، سواء من الشيطان، أو من النفس الأمارة بالسوء.

ولذلك عندما يكتشف الإنسان الحقيقة، ويتألم لها ألما شديدا، يساهم ذلك مساهمة كبيرة في تخليصه منها، إن كان مستعدا لذلك التخليص، وإلا فإنه يحتاج إلى دور تربوية أخرى، قد تكون جهنم من بينها.

فالإنسان بذلك بين أمرين: بين أن يسوى أموره في الدنيا، بإصلاح نفسه، والاتباع الصادق للرسل، وعدم محادة الله ورسوله.. وبين أن يترك ذلك للآخرة، والتي يرى فيها من الأهوال ما لا يمكن تصوره، لتكون هي التي تربيه، مثلما يُفعل مع الكسول الذي يحتاج إلى التأنيب، أو المجرم الذي يحتاج إلى العقاب.

وقد أشار الغزالي إلى هذا المعنى عند حديثه عن ضرورة التوبة، فقال: (ازدوج في طينة الإنسان شائبتان، واصطحب فيه سجيتان، وكل عبد مصحح نسبه إما إلى الملك أو إلى آدم أو إلى الشيطان؛ فالتائب قد أقام البرهان على صحة نسبه إلى آدم بملازمة حد الإنسان، والمصر على الطغيان مسجل على نفسه بنسب الشيطان؛ فإما تصحيح النسب إلى الملائكة بالتجرد لمحض الخير فخارج عن حيز الإمكان، فإن الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجنا محكما لا يخلصه إلا إحدى النارين: نار الندم، أو نار جهنم؛ فالإحراق بالنار ضرورى في تخليص جوهر الإنسان من خبائث الشيطان، وإليك الآن اختيار أهون النارين، والمبادرة إلى أخف الشرين، قبل أن يطوى بساط الاختيار، ويساق إلى دار الاضطرار، إما إلى الجنة، وإما إلى النار) (1)

وما ذكرناه وذكره الغزالي، وإن كان مرتبطا بكل المعاصي، إلا أن هناك معاصي لا يكفي فيها الندم، ولا التوبة، ولا غيرهما، ولا تكفي فيها مرحلة البرزخ.. وهي المعاصي

__________

(1) إحياء علوم الدين (4/ 2)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (135)

المتعدية، والتي نصبت لها موازين خاصة، ولها مواقف يوم القيامة، عندما يجتمع الخلائق في صعيد واحد، وهناك تعاد الخصومات من جديد لترد الحقوق إلى أصحابها، وفق قوانين العدالة الإلهية المطلقة.

وبما أن مرحلة البرزخ مرحلة تربوية محضة، يذوق فيها الإنسان آلام ذنوبه، ليمتلئ نفورا منها، فقد ورد في الروايات خلوها من الشفاعة، إلا أنها تعوض بدل ذلك بوصول جزاء تلك الأعمال المتعدية التي قام بها صاحبها، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (1)

ومن الروايات الواردة في هذا ما روي عن الإمام الصادق أنه قال: (أما في القيامة فكلكم ـ يقصد المؤمنين الصالحين ـ في الجنة بشفاعة النبي المطاع، أو وصي النبي، ولكني والله أتخوف عليكم في البرزخ)، قلت: وما البرزخ؟ قال: (القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة) (2)

ومع هذا، فإن هذا الأمر قد لا يكون عاما، ذلك لأن لكل إنسان في ذلك العالم حكمه الخاص، وذلك بحسب درجته ومرتبته ونوع معاصيه.. ولهذا ورد في النصوص ما قد يشير إلى إمكانية الشفاعة هناك كما في سائر المحال.

بناء على هذا نحاول في هذا المبحث التعرف على مراتب الموتى في البرزخ، وأنواع نعيمهم وعذابهم، ومدى ارتباط ذلك بالعمل، مع التنبيه إلى أننا ذكرنا بتفصيل الرد على ما يطرحه من يدعون التنوير من إنكار ما يرتبط بهذا العالم من نعيم أو عذاب في كتاب [التنويريون والصراع مع المقدسات]

1 ـ مراتب النعيم والعذاب في البرزخ

__________

(1) أحمد 2/ 372 (8831)

(2) الكافي 3/ 242.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (136)

بناء على كون العدالة الإلهية، وتربية الله لعباده، من أهم تجليات النشأة الأخرى، والمرتبطة بجميع المراحل التي يمر بها الإنسان، ابتداء من الموت، وانتهاء بدار القرار؛ فإن للموتى في البرزخ، سواء قبروا، أو لم يقبروا، مراتب كثيرة، ربما تساوي في عددها عدد البشر أنفسهم، ذلك أنه من المستبعد أن يتساوى اثنان من البشر في جميع ما فعلوه.

ولذلك فإن أول المراحل التي يكتشف فيها الإنسان مرتبته مرحلة البرزخ، وابتداء من الموت، كما ذكرنا ذلك سابقا.

وأول ما يكتشفه إيمانه، وهل كان إيمانا حقيقيا راسخا، أم كان مجرد ألفاظ يرددها، ولذلك ورد في النصوص القطعية الكثيرة ما يدل على ذلك الاختبار الإلهي الذي يكشف عن حقيقة الإيمان، بل إن القرآن الكريم أشار إليه في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]

وقد ورد في تفسيرها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (المسلم إذا سئل في القبر، شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}) (1)

وفي حديث آخر توضيح أكثر تفصيلا، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من روحها

__________

(1) صحيح البخاري برقم (4699)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (137)

وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره) (1)

وطبعا هذا الحديث ليس عاما لكل المؤمنين، ذلك أن منهم من يعذب، وإن كان مؤمنا بسبب معاصيه، كما سنرى ذلك.

أما الذي لم يكن صادقا في إيمانه، أو كان إيمانه مجرد ألفاظ يرددها دون أن يكون لها أي معنى في نفسه، فإنه يعجز عن الإجابة، أو يجيب إجابات خاطئة، كما وضع ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار. فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه) (2)

وهذا لا يعني اقتصار الامتحان على هذه الأسئلة، ذلك أن البرزخ مدرسة تربوية، والقائمون فيه من الملائكة يقومون بالدورين جميعا، دور الامتحان لتبلى السرائر، وتكشف الحقائق، ودور التربية والتوجيه من خلال ما يحصل فيه من أنواع النعيم أو العذاب، والذي لا يعدو أن يكون صورا مجسمة وحية للأعمال التي قام بها صاحبها..

ومن النصوص التي تدل على أن هناك أسئلة أخرى غير تلك الأسئلة، ما نص عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97 - 99]

ومن الروايات التي تدل على أن هناك أسئلة أخرى غير تلك الأسئلة، ما رواه عبد

__________

(1) رواه أحمد (4/ 287) وسنن أبي داود برقم (4753) وسنن النسائي برقم (4/ 78) وسنن ابن ماجة برقم (1548)

(2) رواه أحمد (4/ 287) وسنن أبي داود برقم (4753) وسنن النسائي برقم (4/ 78) وسنن ابن ماجة برقم (1548)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (138)

الله بن سلام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أوّل ملك يدخل في القبر على الميّت قبل منكر ونكير، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ملك يتلألأ وجهه كالشمس اسمه: رومان يدخل على الميّت، ثمّ يقول له: اكتب ما عملت من حسنة وسيّئة، فيقول: بأيّ شي ء أكتب؟ أين قلمي ودواتي ومدادي؟ فيقول: ريقك مدادك وقلمك إصبعك، فيقول: على أيّ شي ء أكتب وليس معي صحيفة؟ قال: صحيفتك كفنك فاكتب، فيكتب ما عمله في الدنيا خيرا، وإذا بلغ سيّئاته يستحي منه، فيقول له الملك: يا خاطئ ما تستحي من خالقك حين عملته في الدنيا فتستحي الآن، فيرفع الملك العمود ليضربه، فيقول: ارفع عنّي حتّى أكتبها، فيكتب فيها جميع حسناته، وسيئاته ثمّ يأمره أن يطوي ويختم، فيقول: بأيّ شي ء أختم؟ وليس معي خاتم، فيقول: اختمها بظفرك وعلّقها في عنقك إلى يوم القيامة كما قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13]) (1)

وهذا الحديث يصور ما يحصل بصورة تقريبية، لأنه لا يمكن لمن في هذا العالم أن يعرف حقيقة ما يجري في ذلك العالم بكل دقة، والغرض الذي سقناه من أجله هو في قول الملك للإنسان: (يا خاطئ ما تستحي من خالقك حين عملته في الدنيا فتستحي الآن)

وهذه الكتابة تشبه ما يطالب به المحققون في المباحث المجرمين من كتابة جرائمهم، وتوضيحها بكل دقة، ليكون الاعتراف مقدمة للجزاء والعقوبة.

وللأسف، فإن البعض من النقاد لا ينظرون للمعاني التي تحويها أمثال هذه الأحاديث، وإنما يتعجبون من الكتابة على الكفن، ونحو ذلك، بل إن بعضهم يشكل على الحديث بأنه لو حصلت تلك الكتابة، لرأيناها في الكفن.. وهذا من عدم فهم ما يجري في ذلك العالم، وكيفيته، كما سنرى ذلك إن شاء الله في المطلب التالي لهذا.

ومن الأحاديث الواردة في الاختبارات المرتبطة بعالم البرزخ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذه الأمة

__________

(1) الشيرازي، رياض السالكين، ج 2، ص 66 - 67..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (139)

تبتلى في قبورها فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه، جاء مَلَكٌ شديد الإنتهار فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل) (1)

ولهذا نرى الأحاديث المرتبطة بهذه الاختبارات تذكر ملائكة آخرين غير منكر ونكير.. وهو يدل على أن لكل مرحلة الملائكة المكلفين بها، مثلما يحصل في الدنيا، من توكيل كل علم إلى أساتذته المختصين فيه.

وقد قال الكتاني يذكر بعض ما ورد في هذا: (فَتَّانُو القبر أربعة منكر ونكير وناكور، وسيدهم رومان.. وإن الحافظ ابن حجر سئل: هل يأتي الميت ملك إسمه رومان؟ فأجاب بأنه ورد بسند فيه لين، وذكره الرافعي في تاريخ قزوين عن الطوالات لأبي الحسن القطان، بسنده برجال موثقين إلى ضمرة بن حبيب قال: فتان القبر أربعة: منكر ونكير وناكور وسيدهم رومان، وهذا الوقف له حكم الرفع، إذ لا يقال مثله من قبل الرأي فهو مرسل) (2)

وقد ورد في الروايات ـ عند الفريقين ـ ما يدل على أن أمثال هذه الأسئلة لا تطرح لكل الموتى، ولا لكل الأمم، وإنما لمن قامت عليهم الحجة، وأرسل إليهم الرسل، ووردتهم البينات الدالة على صدقه؛ ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلو لا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه) (3)

وقد قال ابن عبد البر معلقا على أمثال تلك الروايات: (الآثار الثابتة في هذا الباب إنما تدل على أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق، ممن كان في الدنيا منسوباً إلى أهل القبلة ودين الإسلام، ممن حقن دمه بظاهر الشهادة. وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودينه ونبيه، وإنما يسأل عن هذا أهل الإسلام) (4)

__________

(1) رواه أحمد (3/ 346)

(2) تنزيه الشريعة للكتاني/372.

(3) صحيح مسلم (8/ 161)

(4) التمهيد (22/ 252)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (140)

وقال الصنعاني مبينا السر في ذلك: (واعلم أنه قد وردت أحاديث على اختصاص هذه الأمة بالسؤال في القبر دون الأمم السالفة. قال العلماء: والسر فيه أن الأمم كانت تأتيهم الرسل، فإن أطاعوهم فالمراد، وإن عصوهم اعتزلوهم وعولجوا بالعذاب. فلما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب وقَبِل الإسلام ممن أظهره سواء أخلص أم لا، وقيض الله لهم من يسألهم في القبور ليخرج الله سرهم بالسؤال، وليميز الله الخبيث من الطيب) (1)

ولسنا ندري مدى دقة هذا التعليل أو صحته، لأن عالم البرزخ ليس مرتبطا بالأمم بقدر ارتباطه بالأفراد، ذلك أن لكل فرد في ذلك العالم حكمه الخاص به، والمرتبط بعمله.

ولذلك فإن التعليل الأحسن من هذا ربطه بالإيمان والكفر، لا بهذه الأمة وغيرها، وقد ورد في ذلك عن الإمام الصادق أنه سئل: (أصلحك الله مَن المسؤولون في قبورهم؟)، قال: (من مُحِضَ الإيمان ومن محض الكفر)، فقيل له: (فبقية هذا الخلق؟)، قال: (يلهى والله عنهم، ما يُعبأ بهم) (2)

وبناء على كل هذا، فإن الأسئلة والاختبارات التي يتعرض لها الإنسان في عالم البرزخ لا يمكن حصرها، ولكن ورد في الروايات ما يدل على بعضها، ومنها السؤال عن موالاة المؤمنين الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بموالاتهم، ومعاداة الأعداء الذين أمرت هذه الأمة بعداوتهم، ذلك أن بنيان الدين لا يستقيم إلا بموالاة الصالحين، واتباعهم، ومعادة الفجرة، ومواجهتهم.

ومن تلك الروايات ما روي عن الإمام الصادق أنه قال: (إن المؤمن إذا أخرج من بيته شيعته الملائكة إلى قبره يزدحمون عليه، حتى إذا انتهي به إلى قبره قالت له الأرض: مرحبا

__________

(1) سبل السلام (2/ 113)

(2) الكافي الكليني (3/ 284)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (141)

بك وأهلا، أما والله لقد كنت أحب أن يمشي علي مثلك، لترين ما أصنع بك. فتوسع له مد بصره، ويدخل عليه في قبره ملكا القبر وهما قعيدا القبر منكر ونكير، فيلقيان فيه الروح إلى حقويه، فيقعدانه ويسألانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولان: ومن نبيك؟ فيقول: محمد. فيقولان: ومن إمامك؟ فيقول: فلان. قال: فينادي مناد من السماء: صدق عبدي، أفرشوا له في قبره من الجنة، وافتحوا له في قبره باباً إلى الجنة، وألبسوه من ثياب الجنة حتى يأتينا، وما عندنا خير له. ثم يقال له: نم نومة عروس، نم نومة لا حلم فيها.. وإن كان كافراً خرجت الملائكة تشيعه إلى قبره يلعنونه، حتى إذا انتهى به إلى قبره قالت له الأرض: لا مرحباً بك ولا أهلاً، أما والله لقد كنت أبغض أن يمشي عليَّ مثلك، لاجرم لترين ما أصنع بك اليوم، فتضيق عليه حتى تلتقي جوانحه! قال: ثم يدخل عليه ملكا القبر وهما قعيدا القبر منكر ونكير، ويلقيان فيه الروح إلى حقويه فيقولان له: من ربك؟ فيتلجلج ويقول: قد سمعت الناس يقولون. فيقولان له: لا دريت! ويقولان له: ما دينك؟ فيتلجلج، فيقولان له: لا دريت! ويقولان له: من نبيك؟ فيقول: قد سمعت الناس يقولون، فيقولان له: لا دريت! ويسأل عن إمام زمانه. قال: فينادي مناد من السماء: كذب عبدي، أفرشوا له في قبره من النار وألبسوه من ثياب النار، وافتحوا له باباً إلى النار حتى يأتينا، وما عندنا شر له، فيضربانه بمرزبة ثلاث ضربات ليس منها ضربة إلا يتطاير قبره ناراً، لو ضرب بتلك المرزبة جبال تهامة لكانت رميماً) (1)

ومنها ما روي عن الإمام السجاد، فقد روي أنه وعظ الناس قائلا: (أيّها الناس اتّقوا الله، واعلموا أنّكم إليه ترجعون، فتجد كلّ نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه، ويحك ابن آدم، الغافل، وليس بمغفول عنه. ابن آدم انّ أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً

__________

(1) الكافي (3/ 239)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (142)

يطلبك ويوشك ان يدركك، وكأن قد أُوفيتَ أجلك وقبض الملك روحك، وصرتَ إلى منزل وحيداً فرد إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكاك: منكراً ونكيراً، لمساءلتك وشديد امتحانك، ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبده، وعن نبيِّك الذي أُرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاّه، ثمّ عن عمرك فيما أفنيته؟ ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته؟ فخذ حذرك وانظر لنفسك) (1)

بناء على هذه الأسئلة وغيرها يميز بين الموتى، فمنهم من يكون في مرتبة الفائزين، ومنهم من يكون في مرتبة الهالكين، ومنهم من يكون في مرتبة الناجين، وهكذا.. مثلما يحصل في الامتحانات البشرية التمييز بين الممتحنين.

وقد ضرب الغزالي لذلك مثلا مقربا، وذلك عند حديثه عن [كيفية توزع الدرجات والدركات في الآخرة على الحسنات والسيئات في الدنيا]، قال في مقدمته: (اعلم أن الدنيا من عالم الملك والشهادة، والآخرة من عالم الغيب والملكوت. وأعنى بالدنيا حالتك قبل الموت، وبالآخرة حالتك بعد الموت. فدنياك وآخرتك صفاتك وأحوالك يسمى القريب الداني منها دنيا، والمتأخر آخرة. ونحن الآن نتكلم من الدنيا في الآخرة فإنا الآن نتكلم في الدنيا وهو عالم الملك، وغرضنا شرح الآخرة وهي عالم الملكوت) (2)

ثم بين أنه لا (يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال.. وهذا لأن عالم الملك نوم بالإضافة إلى عالم الملكوت.. وما سيكون في اليقظة لا يتبين لك في النوم، إلا الأمثال المحجوبة إلى التعبير، فكذلك ما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبين في نوم الدنيا

__________

(1) بحار الأنوار: 6/ 223.

(2) إحياء علوم الدين (4/ 23)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (143)

إلا في كثرة الأمثال. وأعنى بكثرة الأمثال ما تعرفه من علم التعبير) (1)

وبناء على هذا ذكر أنه لا يمكن (تعريف توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات، إلا بضرب المثال)

والمثال الذي ذكره هو أنه في حال استيلاء ملك من الملوك على إقليم من الأقاليم؛ فإنه سيتعامل مع أهله بحسب تعاملهم معه، (فيقتل بعضهم فهم الهالكون، ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون، ويخلى بعضهم فهم الناجون، ويخلع على بعضهم فهم الفائزون) (2)

وبناء على ذلك، فإن المراتب الكبرى لأهل البرزخ، بحسب رؤية الغزالي، أربعة: الهالكون، والمعذبون، والناجون، والفائزون.

ولكل مرتبة الأعمال التي تتعلق بها، (فإن كان الملك عادلا، لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق، فلا يقتل إلا جاحدا لاستحقاق الملك، معاندا له في أصل الدولة.. ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلو درجته.. ولا يخلى إلا معترفا له برتبة الملك، لكنه لم يقصر ليعذب ولم يخدم ليخلع عليه.. ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة، ثم ينبغي أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة، وإهلاك الهالكين إما تحقيقا بحز الرقبة، أو تنكيلا بالمثلة، بحسب درجاتهم في المعاندة، وتعذيب المعذبين في الخفة، والشدة، وطول المدة وقصرها، واتحاد أنواعها واختلافها، بحسب درجات تقصيرهم فتنقسم كل رتبة من هذه الرتب إلى درجات لا تحصى ولا تنحصر) (3)

__________

(1) المرجع السابق، (4/ 23)

(2) المرجع السابق، (4/ 23)

(3) المرجع السابق، (4/ 24)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (144)

وبناء على هذا، فإن (الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون. فمن هالك، ومن معذب مدة، ومن ناج يحل في دار السلامة، ومن فائز.. والفائزون ينقسمون إلى من يحلون في جنات عدن، أو جنات المأوى أو جنات الفردوس.. والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب قليلا، وإلى من يعذب ألف سنة إلى سبعة آلاف سنة.. وكذلك الهالكون الآيسون من رحمة الله تتفاوت دركاتهم. وهذه الدرجات بحسب اختلاف الطاعات والمعاصي) (1)

ثم ذكر الأعمال المرتبطة بكل مرتبة، فذكر أن المرتبة الأولى مرتبة الهالكين لا تكون إلا (للجاحدين والمعرضين، والمتجردين للدنيا، المكذبين بالله ورسله وكتبه، فإن السعادة الأخروية في القرب من الله والنظر إلى وجهه، وذلك لا ينال أصلا إلا بالمعرفة التي يعبر عنها بالإيمان والتصديق. والجاحدون هم المنكرون، والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الآباد، وهم الذين يكذبون برب العالمين، وبأنبيائه المرسلين، إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة، وكل محجوب عن محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه لا محالة، فهو لا محالة يكون مخترقا نار جهنم بنار الفراق) (2)

وأما المرتبة الثانية، فمرتبة المعذبين، وهي مرتبة (من تحلى بأصل الإيمان، ولكن قصر في الوفاء بمقتضاه فإن رأس الإيمان هو التوحيد، وهو أن لا يعبد إلا الله. ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهه هواه، فهو موحد بلسانه لا بالحقيقة) (3)

ثم بين وجوه التقصير وعلاقتها بالعذاب، فقال: (ولما كان الصراط المستقيم الذي لا يكمل التوحيد إلا بالاستقامة عليه أدق من الشعر، وأحد من السيف، مثل الصراط الموصوف في الآخرة، فلا ينفك بشر عن ميل عن الاستقامة ولو في أمر يسير، إذ لا يخلو عن

__________

(1) المرجع السابق، (4/ 24)

(2) المرجع السابق، (4/ 25)

(3) المرجع السابق، (4/ 25)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (145)

اتباع الهوى ولو في فعل قليل، وذلك قادح في كمال التوحيد، بقدر ميله عن الصراط المستقيم.. فذلك يقتضي لا محالة نقصانا في درجات القرب. ومع كل نقصان ناران: نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان، ونار جهنم كما وصفها القرآن، فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم معذبا مرتين من وجهين، ولكن شدة ذلك العذاب وخفته، وتفاوته بحسب طول المدة، إنما يكون بسبب أمرين: أحدهما قوة الإيمان وضعفه، والثاني كثرة اتباع الهوى وقلته) (1)

وأما المرتبة الثالثة، فمرتبة الناجين، وهم ـ كما يذكر الغزالي ـ (قوم لم يخدموا فيخلع عليهم، ولم يقصروا فيعذبوا. ويشبه أن يكون هذا حال المجانين والصبيان من الكفار، والمعتوهين، والذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، وعاشوا على البله وعدم المعرفة، فلم يكن لهم معرفة، ولا جحود، ولا طاعة، ولا معصية، فلا وسيلة تقربهم، ولا جناية تبعدهم، فما هم من أهل الجنة ولا من أهل النار) (2)

وسنذكر المصير المرتبط بهؤلاء في الفصل الثالث، عند الحديث عن العدالة الإلهية، وسنرى الروايات التي تدل على أنهم يتعرضون لاختبارات خاصة تكشف عن جواهرهم وسرائرهم؛ فمن نجح فيها نال ثوابه، ومن لم ينجح نال عقابه.. وبذلك يتساوى البشر جميعا في الاختبار، وهو من مقتضيات العدالة.

وأما المرتبة الرابعة، فمرتبة الفائزين، وهم ـ كما يذكر الغزالي ـ (العارفون دون المقلدين. وهم المقربون السابقون. فإن المقلد وإن كان له فوز على الجملة بمقام في الجنة، فهو من أصحاب اليمين. وهؤلاء هم المقربون. وما يلقى هؤلاء يجاوز حد البيان) (3)

__________

(1) المرجع السابق، (4/ 26)

(2) المرجع السابق، (4/ 26)

(3) المرجع السابق، (4/ 26)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (146)

2 ـ كيفية النعيم والعذاب في البرزخ

من الإشكالات الكبرى التي يطرحها المنكرون لما يجري في عالم البرزخ ما يرتبط بالتصورات المتعلقة بكيفية حصول ذلك، وهو من الأمور العجيبة، ذلك أن الله تعالى أعظم من أن يقترح عليه، ولذلك يكفي المؤمن أن يعتقد بما ورد في النصوص المقدسة، دون أن يكلف خياله، ولا عقله معرفة كيفية ذلك، فقدرة الله لا حدود لها.

وهؤلاء المنكرون، أو الذين يثيرون الشغب في مثل هذه المسائل، بدعوى العلمية، لا حظ لهم منها، ذلك أنه إذا رأينا عالما كبيرا اخترع آلاف الاختراعات الدقيقة، لا نتعجب إن استطاع أن يضيف إليها اختراعا جديدا توهم البشر جميعا صعوبته أو استحالته.

فإن جاز ذلك لهذا العقل البسيط، الذي لم يكن له من دور سوى تقليد بعض مخلوقات الله باختراعاته؛ فكيف بالصانع البديع، الذي لا يمكن إحصاء مصنوعاته ومخترعاته وإبداعاته؟

ولهذا رد الله تعالى على المنكرين للبعث بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 78 - 83]

وربما يكون من الأسباب التي دعتهم إلى ذلك أيضا تصورهم أن ما ورد في الأحاديث والروايات يدل على الواقع بحسب ما تتوهمه أخيلتهم، وهذا غير صحيح؛ فالنصوص المقدسة تتحدث عن هذه الأمور من باب [خاطبوا الناس على قدر عقولهم]، وليس من باب الحقيقة المطلقة، تلك التي لا يمكن اكتشافها إلا لمن عاشها.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (147)

ولهذا قال ابن عباس عن نعيم الجنة، وعلاقته بنعيم الدنيا: (ليس في الجنة شيءٌ يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء) (1)

بالإضافة إلى أن هناك من الروايات ما يدل على أن عالم البرزخ يشبه كثيرا عالم الأحلام، ولذلك تُرى فيه الأشياء الرمزية بصيغتها المجسمة، كما ورد في الرواية التي تقول: (السخاء شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصن منها أدته إلى الجنة والبخل شجرة في النار وأغصانها في الدنيا فمن تعلق بغصن منها أدته إلى النار) (2)

وذلك كله من مقتضيات التربية ووسائلها، والتي تستعملها الملائكة مع أهل البرزخ لإخراجهم من الظلمات إلى النور، عبر تعريفهم بحقائق الوجود التي لم يستطيعوا هضمها في حياتهم الدنيا.

ومن هذا الباب أيضا توهمهم أن المراد من عذاب القبر ونعيمه، ارتباطه بالقبر الحقيقي المعروف، وهذا غير صحيح، فهذه التسمية جاءت من باب الغالب، لا من باب الحقيقة المطلقة، والتسمية الصحيحة لذلك، بحسب ما يذكر القرآن الكريم هي [البرزخ]، وهي المرحلة الفاصلة بين الحياتين الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَاءِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]

ولهذا نرى العلماء ينبهون كل حين إلى أن المراد بالقبر هي حياة البرزخ، لا القبر في حد ذاته، كما قال النووي: (لا يمنع من سؤال الملكين وعذاب القبر كون الميت قد تفرقت أجزاؤه، كما نشاهد في العادة، أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك، فكما أن الله تعالى يعيده للحشر، وهو سبحانه وتعالى قادر على ذلك، فكذا يعيد الحياة إلى جزءٍ منه أو أجزاءٍ وإن أكلته السباع والحيتان، فإن قيل: فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره، فكيف

__________

(1) رواه أبو نُعَيْم في صفة الجنة (21/ 2)

(2) الاختصاص: (252)، وورد باختلاف في ألفاظه في أمالي الطوسي (2): (89).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (148)

يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد ولا يظهر له أثر؟! فالجواب أن ذلك غير ممتنعٍ، بل له نظير في العادة، وهو النائم، فإنه يجد لذةً وآلامًا لا نحس نحن شيئًا منها، وكذا يجد اليقظان لذةً وآلمًا لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يشاهد ذلك جليسه منه، وكذا كان جبرائيل يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيخبره بالوحي الكريم ولا يدركه الحاضرون، وكل هذا ظاهر جلي، وأما ضربه بالمطارق فلا يمتنع أن يوسع له في قبره فيقعد ويضرب) (1)

وقد حاول العلماء لرد تلك التخيلات والأوهام والشبهات أن يبسطوا هذا المعنى، ويقربوه خاصة لأولئك الذين يذكرون أنهم يرون الموتى بصورة عادية، ولا يرون أي آثار للعذاب عليهم.

ومنهم الغزالي الذي عقب على تلك النصوص المقدسة التي تذكر الحيات والعقارب وأنواع العذاب، بذكر درجات الإيمان بهذا؛ فقال: (فأمثال هذه الأخبار لها ظواهر صحيحة، وأسرار خفيّة، ولكنها عند أرباب البصائر واضحة، فمن لم تنكشف له حقائقها فلا ينبغي أن ينكر ظواهرها. بل أقل درجات الإيمان التصديق والتسليم، فإن قلت: فنحن نشاهد الكافر في قبره مدة ونراقبه، ولا نشاهد شيئا من ذلك، فما وجه التصديق على خلاف المشاهدة؟) (2)

ثم راح يجيب على هذا السؤال، بأن للمؤمن ثلاث مقامات في التصديق بأمثال هذا، سنذكرها مع بعض التفاصيل المرتبطة بها من خلال العناوين التالية:

أ ـ الوجود الحسي للنعيم والعذاب في البرزخ

وهو أكملها وأظهرها وأصحها وأسلمها وأكثرها أدبا مع الله، وهو يعني التصديق بأنها ـ أي الحيات والعقارب ـ موجودة فعلا، كما ورد في النصوص المقدسة، وهي تلدغ

__________

(1) مسلم بشرح النووي جـ 9 صـ 224.

(2) إحياء علوم الدين (4/ 500)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (149)

الميت، ولكنا لانشاهدها، لأن (هذه العين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية، وكل ما يتعلق بالآخرة فهو من عالم الملكوت. أما ترى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانوا يؤمنون بنزول جبريل، وما كانوا يشاهدونه، ويؤمنون بأنه عليه السلام يشاهده؟) (1)

ثم خاطب الغزالي من يشكك في هذا، بقوله: (فإن كنت لا تؤمن بهذا فتصحيح أصل الإيمان بالملائكة والوحي أهم عليك. وإن كنت آمنت به، وجوّزت أن يشاهد النبي ما لا تشاهده الأمة، فكيف لا تجوّز هذا في الميت؟ وكما أن الملك لا يشبه الآدميين والحيوانات، فالحيات والعقارب التي تلدغ في القبر ليست من جنس حيات عالمنا، بل هي جنس آخر، وتدرك بحاسة أخرى) (2)

ونحب أن نذكر هنا رأيا نراه، ونستغفر الله من الخطأ فيه، وهو أن في جسد الإنسان قسمان: قسم يبلى، ويتحول إلى تراب، وهو كل خلاياه، وأجهزته، التي قد تتحول إلى أعضاء في كائنات أخرى، من بينها إخوانه في الإنسانية نفسها.

وأما الثاني، فهو ذلك الجزء البسيط غير المرئي الذي يختصر فيه الإنسان؛ والذي يمكن من خلاله التعرف على كل أجهزته وخصائصه، باعتبره الشيفرة التي تمثله، فهناك شيفرة تمثل الكبد، وأخرى القلب، وأخرى الرئة.. وهكذا حتى خصائص الإنسان الجسمية نجدها في تلك الشيفرات الصغيرة جدا، والتي يقر العلم بوجودها.

ولذلك نرى أن كل ما ورد من النصوص المقدسة فيما يتعلق بعلاقة الروح بالجسد مرتبط بذلك الجزء البسيط، الذي قد لا يرى حتى بالمجاهر.

وقد دلنا على هذا المعنى ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف ما يحصل عند البعث: (ثم يُنزل اللهُ من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا

__________

(1) المرجع السابق، (4/ 500)

(2) المرجع السابق، (4/ 500)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (150)

يبلى، إلا عظماً واحداً، وهو عجْب الذنَب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة) (1)

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كل ابن آدم يأكله الترابُ إلا عَجْب الذَّنَب، منه خُلِق وفيه يُركَّب)، وفي رواية: (وليس من الإنسان شيء إلا يَبلى إلا عظمًا واحدًا وهو عَجْب الذَّنَب، ومنه يُركَّب الخلق يوم القيامة) (2)

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يأكل الترابُ كلَّ شيء من الإنسان إلا عَجْب ذَنَبه)، قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: (مثلُ حَبة خَرْدلٍ منه يَنشأ) (3)

فهذا الحديث يشير إلى أن هذا المحل من الإنسان هو الذي نشأ منه، وانتقل إليه من آبائه وأجداده، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، فالآية الكريمة تشير إلى أن كل البشر كانوا في ذلك الجزء البسيط من جسد آدم عليه السلام، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى ذريته..

وهكذا ورد في الرواية عن أئمة أهل البيت، فعن الإمام الصادق أنه قال: (البدن يبلى إلا طينته التي خلق منها فإنها لا تبلى، تبقي في القبر مستديرة، حتى يخلق منها كما خلق أول مرة) (4)

ولا أحب أن أذكر هنا ما يورده المهتمون بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم، من الربط بين هذه النصوص، وما يذكره العلم الحديث، لأني أرى أن اكتشاف هذا الأمر بدقة، لم يحن بعد، والبحوث العلمية التي يذكرونها لا يمكن الاستشهاد بها في هذا المحل.

ولو أني أقر بأن العلم الحديث قرب الكثير من الأشياء التي كانت مستبعدة في هذا

__________

(1) رواه البخاري (4651) ومسلم (2955)

(2) سنن أبي داود ج 4 الحديث رقم 4743.

(3) صحيح ابن حبان ج 5/ 55.

(4) الكافي:3/ 251.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (151)

الجانب، ومن بينها ذلك الاستغراب الذي يحصل في فهم الآية السابقة، والتي تذكر أن البشر جميعا خاطبهم الله تعالى من خلال خطابه لبذورهم التي كانت موجودة في جسد آدم عليه السلام.

ب ـ الوجود المتخيل للنعيم والعذاب في البرزخ

وقد ذكره الغزالي لتقريب المسألة، والرد على المستبعدين المنكرين، وليس للحقيقة المطلقة، وقد عبر عنه بقوله: (أن تتذكر أمر النائم، وأنه قد يرى في نومه حية تلدغه، وهو يتألم بذلك، حتى تراه يصبح في نومه، ويعرق جبينه، وقد ينزعج من مكانه. كل ذلك يدركه من نفسه، ويتأذى به كما يتأذى اليقظان، وهو يشاهده، وأنت ترى ظاهره ساكنا، ولا ترى حواليه حية، والحية موجودة في حقه، والعذاب حاصل، ولكنه في حقك غير مشاهد. وإذا كان العذاب في ألم اللدغ، فلا فرق بين حية تتخيل أو تشاهد) (1)

وطبعا؛ فإن مراد الغزالي من هذا هو التقريب، لا الحقيقة المطلقة، لأنها غيب، والذي خلق النوم، وأودع فيه تلك القدرات، يمكن أن يخلق غيره، ولا عجب في ذلك عند صاحب القدرة المطلقة.

ولهذا عرف الإمام الباقر الموت عندما سئل عن حقيقته بقوله: (هو النوم الذي يأتيكم في كل ليلة إلا أنه طويل مدته، لا يُنْتَبَهُ منه إلا يوم القيامة، فمنهم من رأى في منامه من أصناف الفرح ما لا يُقَادَرُ قَدْرُه، ومنهم من رأى في نومه من أصناف الأهوال ما لايقادر قدره، فكيف حال من فرح في الموت ووجل فيه! هذا هو الموت فاستعدوا له) (2)

وسئل الإمام الصادق عن صفة الموت، فقال: (هو للمؤمنين كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه، فينقطع التعب والألم كله عنه. وللكافر كلسع الأفاعي، وكلدغ العقارب

__________

(1) إحياء علوم الدين (4/ 501)

(2) الإعتقادات للصدوق/53.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (152)

وأشد)

وربما يشير إلى هذا من القرآن الكريم قوله تعالى: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52]

وهذا لا يعني عدم التنعم والعذاب، ذلك أننا عند النوم نشعر بكل المشاعر التي يشعر بها المستيقظون، حيث نمتلئ سعادة، أو حزنا، من دون أن يقلل النوم من ذلك شيئا.

وإن شئنا الحقيقة، فإن النصوص المقدسة تدل على أن كل حياة متدنية تعتبر موتا ونوما بالنسبة لما قبلها، كما وردت الإشارة إلى ذلك في الأثر: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) (1)

ج ـ الوجود التشبيهي للنعيم والعذاب في البرزخ

وهو أدنى المراتب، وقد عبر عنه الغزالي بقوله: (.. أنك تعلم أن الحية بنفسها لا تؤلم، بل الذي يلقاك منها وهو السم، ثم السم ليس هو الألم، بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم؛ فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر، وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي يفضي إليه في العادة.. وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب: والسبب يراد لثمرته لا لذاته) (2)

ثم ختم هذه المراتب ـ كعادته ـ بنصيحة غالية قال فيها: (والذي أوصيك به أن لا تكثر نظرك في تفصيل ذلك، ولا تشتغل بمعرفته، بل اشتغل بالتدبير في دفع العذاب كيفما كان، فإن أهملت العمل والعبادة واشتغلت بالبحث عن ذلك، كنت كمن أخذه سلطان وحبسه ليقطع يده ويجدع أنفه، فأخذ طول الليل يتفكر في أنه هل يقطعه بسكين، أو بسيف،

__________

(1) رواه البيهقي في الزهد الكبير (515) من قول سهل التستري، ورواه أبو الفضل الزهري في حديثه (710) من قول بشر بن الحارث..

(2) إحياء علوم الدين (4/ 501)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (153)

أو بموسى، وأهمل طريق الحيلة في دفع أصل العذاب عن نفسه، وهذا غاية الجهل، فقد علم على القطع أن العبد لا يخلو بعد الموت من عذاب عظيم، أو نعيم مقيم، فينبغي أن يكون الاستعداد له. فأما البحث عن تفصيل العقاب والثواب ففضول وتضييع زمان) (1)

وقد ذكر ابن أبي العز الحنفي ما أشار إليه الغزالي من التسليم لأمور الغيب من دون بحث فيها، ولا في كيفيتها، لتجاوزها حدود العقول؛ فقال: (قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلًا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا يتكلم في كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عَوْدَ الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا، وسؤال الملكين في القبر يكون للروح والبدن جميعًا، وكذلك عذاب القبر يكون للروح والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم الروح وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به) (2)

3 ـ صور النعيم والعذاب في البرزخ

من أهم المسائل المرتبطة بقوانين النشأة الأخرى، ما عبر عنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَالله رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]، وقوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14]

__________

(1) المرجع السابق، (4/ 501)

(2) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي جـ 2 صـ 163.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (154)

وغيرها من الآيات الكريمة التي تبين أن الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حياته الدنيا هي نفسها التي تتجسم له بعد ذلك في صور من النعيم والعذاب.

وهو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) (1)

ومثله ما ورد من أحاديث تتعلق بعالم البرزخ وتجلي العمل فيه في صورة حسنة للمؤمن، وقبيحة لغير المؤمن، ففي الحديث الذي يصف فيه صلى الله عليه وآله وسلم مصير المؤمن، وبعد أن ينجح في الإجابة على الأسئلة التي تطرح عليه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة، قال: ربِّ عجل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن) (2)

وفي المقابل ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن العبد الكافر أو الفاجر بعد أن يسيء الإجابة (ينادي منادٍ في السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه في قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت

__________

(1) صحيح مسلم 4/ 1994 ح (2577)

(2) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557)، والبيهقي في (شعب الإيمان) (1/ 300)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (155)

فبشرك الله بالشر، من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله، فجزاك الله شرا) (1)

وورد في حديث آخر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإذا أُخرجوا من قبورهم خرج مع كلّ إنسان عمله الذي كان عمله في دار الدنيا، لأنّ عمل كلّ إنسان يصحبه في قبره) (2)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته لقيس بن عاصم: (يا قيس، إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وان لكلّ شيء حسيباً، وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكلّ سيئة عقابا، وإن لكل أجل كتاباً، وإنه - يا قيس - لابد لك من قرين، يدفن معك وهو حيُّ وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تحشر إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، ولا تبعث إلا معه، فلا تجعله إلا صالحاً، فإنه إن كان صالحاً لم تأنس إلا به، وإن كان فاحشاً لم تستوحش إلا منه وهو عملك) (3)

وهكذا ورد في الرواية ما يدل على الصحبة الدائمة للعمل الصالح للإنسان، وفي مراحله المختلفة، فعن الإمام الصادق أنه قال: (إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه، كلّما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة، قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزّوجلّ حتى يقف بين يدي الله عزّوجلّ فيحاسبه حساباً يسيراً، ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه، فيقول له المؤمن: يرحمك الله نعم الخارج، خرجت معي من قبري، وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله عزّوجلّ منه لأُبشّرك) (4)

__________

(1) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 295) (18637)

(2) البرهان: 4/ 87.

(3) بحار الأنوار: 175:77.

(4) بحار الأنوار: 7/ 197.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (156)

وقال مبينا تجسم الأعمال المختلفة في الصور المناسبة لها: (إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستُ صور، فيهن صورة هي أحسنهنّ وجهاً، وأبهاهنّ هيئة، وأطيبهنّ ريحاً، وأنطقهنّ صورة، قال: فيقف صورة عن يمينه، وأُخرى عن يساره، وأُخرى بين يديه، وأُخرى خلفه، وأُخرى عند رجليه، ويقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه، فإن أتى عن يمينه، منعته التي عن يمينه، ثمّ كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست، قال: فتقول أحسنهنّ صورة من أنتم جزاكم الله عني خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه، أنا الصيام، وتقول التي خلفه، أنا الحج والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا بر من وصلت من إخوانك، ثمّ يقلن: من أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً، وأطيبنا ريحاً، وأبهانا هيئة، فتقول: أنا الولاية لآل محمّد) (1)

وبما أن هذه المسألة من المسائل المشكلة التي وقع الاعتراض عليها، خاصة من طرف أولئك الذين ينكرون أو يؤولون ما ورد من النصوص حول هذا العالم، لذلك سنذكر هنا ما أورده المتكلمون من أدلة على ذلك، مصنفين لها، بحسب نوعها إلى نقلية وعقلية.

أ ـ الأدلة النقلية على تجسم الأعمال

أورد المتكلمون المؤيدون لتجسم الأعمال الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على ذلك، وسنقتصر هنا على ما ذكره العلامة جعفر السبحاني في تفسيره الموضوعي [مفاهيم القرآن]، مع بيان وجوه الاستدلال التي ذكرها، والتي قد نضيف إليها ما نراه مناسبا (2):

1 ـ قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ

__________

(1) بحار الأنوار (6/ 235)

(2) انظر: مفاهيم القرآن،.8/ 332، فما بعدها.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (157)

يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ} [الحديد: 12 - 14]

فهذه الآيات الكريمة تبين أن نور المؤمنين يسعى أمامهم وبين أيديهم، ليضيء لهم الظلمات التي تملأ ذلك الموقف، كما تبين أن مبدأ اكتساب ذلك النور كان في الدنيا، وبالعمل الصالح. ولهذا يطلبون من المنافقين العودة للدنيا لاكتساب ذلك النور.. وهو يدل على أن نفس ذلك العمل تحول إلى ذلك النور.

2. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35]، والآية صريحة في أن الذهب والفضة يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباه المكنزين وجلودهم وظهورهم، كما أنها صريحة في أن النار نفس ما اكتنزوه في النشأة الأولى، فكأن للكنز ظهورين: ظهورا بصورة الفلز وآخر بصورة النار المكوية، وهذا يدل على أن لكل عمل من خير وشر ظهورين ووجودين حسب اختلاف النشآت.

3 ـ قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180]، فهذه الآية الكريمة تبين أن ما كان يبخل به الإنسان من الذهب والفضة وغيرهما يظهر في النشأة الأُخرى بهيئة سلسلة من نار تُطوِّق العنق وتلتف حوله، وتقحمه النار.

4 ـ قوله تعالى: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (158)

السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، فالآية الكريمة تدل على أن نفس العمل يؤتى به يوم القيامة، فيؤتى بالصلاة والزكاة بثوبهما المناسب للنشأة الأُخروية، وهكذا الحال في الأعمال غير الصالحة.

5 ـ قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8]، فالضمير في قوله: (يَرَهُ) يرجع إلى العمل المستفاد من قوله: (يَعْمَلْ) أو إلى الخير والشر، وعلى كلا التقديرين فالإنسان يرى عمله من صالح وطالح، فيرى السرقة والنميمة بوجودهما المناسب لتلك النشأة كما يرى الإحسان والعمل والخير بظهورها المناسب لتلك النشأة.

ويؤيد هذا ما روي عن الإمام السجاد، أنه قال في بعض مواعظه: (واعلم يا ابن آدم! أنّ من وراء هذا أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة.. يوم لا تقال فيه عثرة، ولا يؤخذ من أحد فدية، ولا تقبل من أحد معذرة، ولا لأحد فيه مستقبل توبة ليس إلّا الجزاء بالإحسان والجزاء بالسيّئات، فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرّة من خير وجده، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرّة من شرّ وجده) (1)

وقال الإمام الباقر في تفسير تلك الآيات الكريمة: (إن كان من أهل النار وقد كان عمل في الدنيا مثقال ذرّة خيرا يره يوم القيامة حسرة إن كان عمله لغير الله، ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره. يقول: إن كان من أهل الجنّة رأى ذلك الشرّ يوم القيامة ثمّ غفر له) (2)

وهذه الرواية تدل على الغرض التربوي من ذلك الشر الذي يراه المؤمن مجسما بعينيه، وهو ما يجعله يندم على فعله، ويستغفر، وبذلك يستحق المغفرة بفضل الله، لكفاية ذلك في إصلاحه.

__________

(1) الكافي 8: 61..

(2) تفسير القمى 2: 434..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (159)

6 ـ قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ الله شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران: 10]، وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]

فهذه الآيات الكريمة تعتبر العصاة والأصنام والأوثان (الحجارة) وقوداً لنار جهنم، والوقود ما تشعل به النار، فيصير وجود الإنسان والأصنام المعبودة بؤرة نار تؤجج به نار الجحيم.

7 ـ قوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]، وقوله: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54]، وقوله: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات: 38، 39]، فالآيات الكريمة واضحة في أن الجزاء هو نفس العمل وليس شيئاً وراء العمل؛ فبظهوره حسب النشأة الأُخرى يجزى به الإنسان من صالح وطالح.

8 ـ قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، فالآية الكريمة تدل على أنّ الإنسان كان في غفلة من يوم الوعيد، وانّ لكلّ نفس سائقاً وشهيداً، وأن هذه الحقيقة كانت مستورة عن الإنسان في هذه النشأة ويرتفع الغطاء عن بصره وبصيرته فيرى ما خفي عليه ويتذكره.

ب ـ الأدلة العقلية على تجسم الأعمال

وقف المتكلمون من الأدلة النصية السابقة موقفين: موقف يرى أنها على ظاهرها،

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (160)

احتراما لظاهرها، ولعدم امتناع ذلك عقلا، وموقف يرى تأويلها، بناء على تصوره لاستحالة ذلك عقلا.

ولذلك فإن مناقشة هذه المسألة من الناحية العقلية، يحتاج أولا إلى التعرف على أدلة المنكرين لها، لنرى مدى وجاهتها.

وقد لخص هذه الأدلة المجلسي في قوله: (القول باستحالة انقلاب الجوهر عرضاً، والعرض جوهراً في تلك النشأة مع القول بإمكانها في النشأة الآخرة قريب من السفسطة، إذ النشأة الآخرة ليست إلاّ مثل تلك النشأة، وتخلّل الموت والإحياء بينهما لا يصلح أن يصير منشأ لأمثال ذلك، والقياس على حال النوم واليقظة أشد سفسطة إذ ما يظهر في النوم إنّما يظهر في الوجود العلمي، وما يظهر في الخارج فإنّما يظهر بالوجود العيني، ولا استبعاد كثيراً في اختلاف الحقائق بحسب الوجودين، وأمّا النشأتان فهما من الوجود العيني ولا اختلاف بينهما إلاّ بما ذكرنا، وقد عرفت أنّه لا يصلح لاختلاف الحكم العقلي في ذلك)

ثم ذكر كيفية التعامل مع النصوص التي تشير إلى ذلك، بقوله: (وأمّا الآيات والأخبار فهي غير صريحة في ذلك، إذ يمكن حملها على أنّ الله تعالى يخلق هذه بازاء تلك أو هي جزاؤها، ومثل هذا المجاز شائع، وبهذا الوجه وقع التصريح في كثير من الأخبار والآيات) (1)

وقد رد على هذا القائلون بتجسم الأعمال بأدلة كثيرة خصت بالتأليف منها رسالة كتبها محمد إسماعيل الخواجوئي بعنوان [رسالة تجسم الأعمال]، قال في مقدمتها: (هذه رسالة وجيزة في ترجيح القول بتجوهر الأعراض، وتجسّد الأعمال، مبنيّة على مقدّمة وفصول أربعة، نذكر فيها ما كان حاضرا للبال، وما سيحضره في تضاعيف البحث، بفيض

__________

(1) بحار الأنوار: 7/ 229.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (161)

من يفيض العلوم والإفضال) (1)

وقد أورد فيها بالإضافة إلى النصوص المقدسة، وما يؤديها من الروايات والأخبار، الكثير من الأدلة العقلية، إما منفصلة أو كإجابة على الإشكالات المطروحة.

ومن ردوده فيها ما نقله عن ابن سينا من قوله: (كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يردك عنه قائم البرهان)، وقد علق عليه بقوله: (وتجسيم الأعراض وإن كان من الغرائب إلّا أنّه لم يرد عنه قائم البرهان، فهو في بقعة الإمكان، فقد تقرّر أنّ قدرة الله القادر صالحة لإيجاد كلّ ممكن، وأنّ نسبة الكائنات بأسرها إلى قدرته سبحانه نسبة واحدة، ففي الحقيقة لا غرابة فيه فضلا عن الامتناع، فلمّا كان ممكنا وأخبر به الصادق ـ على ما في كثير من الآيات والروايات الواردة ـ وجب الإيمان به، والتصديق بصدقه، وترك تأويل ما دلّ ظاهرا على جوازه بل وقوعه، فان تأويل الظاهر إنّما يجوز إذا دلّ على خلافه القاطع، وهنا ليس كذلك) (2)

وهكذا نقل عمن أطلق عليهم محققي الحكماء، بعض النصوص في ذلك، باعتبار أنه لو كان غير مقبول عقلا ما قبله الكثير من الحكماء، ومن تلك النصوص ما نقله عن فيثاغورس من قوله: (اعلم أنّك ستعارض بأفكارك وأقوالك وأفعالك، وسيظهر من كلّ حركة فكريّة أو قوليّة أو فعليّة صور روحانيّة وجسمانيّة، فإن كانت الحركة غضبيّة شهويّة صارت مادّة شيطان يؤذيك في حياتك، ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك. وإن كانت الحركة عقليّة صارت ملكا تلتذّ بمنادمته في دنياك، وتهتدي بنوره في أخراك إلى جوار الله وكرامته. وأمثال هذا ممّا يدلّ على تجسّد الأعمال في كلامه كثيرة) (3)

__________

(1) رسالة تجسم الأعمال، ص 85.

(2) رسالة تجسم الأعمال، ص: 89.

(3) المرجع السابق.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (162)

ومن الردود على تلك الشبه ما أورده صدر المتألّهين في كتابه [المبدأ والمعاد]، والذي حاول أن يقرب المسألة للعقول بطرق مختلفة، اعتمد فيها منهجه في الحكمة المتعالية، منها قوله: (كما أنّ كلّ صفة تغلب على باطن الإنسان في الدنيا وتستولي على نفسه بحيث تصير ملكة لها، يوجب صدور أفعال منه مناسبة لها بسهولة يصعب عليه صدور أفعال أضدادها غاية الصعوبة، وربما بلغ ضرب من القسم الأوّل حدّ اللزوم، وضرب من القسم الثاني حدّ الامتناع، لأجل رسوخ تلك الصفة. لكن لما كان هذا العالم دار الاكتساب والتحصيل قلما تصل الأفعال المنسوبة إلى الإنسان الموسومة بكونها بالاختيار في شيء من طرفيها حدّ اللزوم والامتناع بالقياس إلى قدرة الإنسان وإرادته دون الدواعي والصوارف الخارجية لكون النفس متعلّقة بمادة بدنية قابلة للانفعالات والانقلابات من حالة إلى حالة، فالشقي ربما يصير بالاكتساب سعيداً وبالعكس، بخلاف الآخرة فانّها ليست دار الاكتساب والتحصيل، كما أشير إليه بقوله تعالى: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]، وكلّ صفة بقيت في النفس ورسخت فيها وانتقلت معها إلى الدار الآخرة صارت كأنّها لزمتها ولزمت لها الآثار والأفعال الناشئة منها بصورة تناسبها في عالم الآخرة والأفعال والآثار التي كانت تلك الصفات مصادر لها في الدنيا، وربما تخلفت عنها لأجل العوائق والصوارف الجسمانية الاتفاقية، لأنّ الدنيا دار تعارض الأضداد وتزاحم المتمانعات بخلاف الآخرة لكونها دار الجمع والاتفاق لا تزاحم ولا تضاد فيها، والأسباب هناك أسباب وعلل ذاتية كالفواعل والغايات الذاتية دون العرضية فكلّما يصلح أثر الصفة النفسانية لم يتخلّف عنها هناك كما يتخلف عنها هاهنا لمصادفة مانع له ومعاوقة صارف عنه، إذ لا سلطنة هناك للعلل العرضية والأسباب الاتفاقية ومبادئ الشرور بل الملك لله الواحد القهار) (1)

__________

(1) المبدأ والمعاد: 341.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (163)

ولتقريب ذلك ضرب مثالاً من طبيعة الإنسان، عبر عنه بقوله: (إنّ شدة الغضب في رجل توجب ثوران دمه، واحمرار وجهه، وحرارة جسده، واحتراق موادّه، على أنّ الغضب صفة نفسانية موجودة في عالم الروح الإنساني وملكوته والحركة والحمرة والحرارة والاحتراق من صفات الأجسام وقد صارت هذه الجهات والعوارض الجسمانية نتائج لتلك الصفة النفسانية في هذا العالم، فلا عجب من أن يكون سورة هذه الصفة المذمومة مما يلزمها في النشأة الأُخرى نار جهنم التي تطّلع على الأفئدة فاحترقت صاحبها كما يلزم هاهنا عند شدة ظهورها وقوة تأثيرها إذا لم يكن صارف عقلي أو زاجر عرفي يلزمها من ضربان العروق واضطراب الأعضاء وقبح المنظر ربما يؤدي إلى الضرب الشديد والقتل لغيره بل لنفسه، وربما يموت غيظاً فإذا تأمل أحد في استتباع هذه الصفة المذمومة لتلك الآثار فيمكن أن يقيس عليها أكثر الصفات المؤذيات والاعتقادات المهلكات وكيفية انبعاث نتائجها ولوازمها يوم الآخرة من النيران وغيرها، وكذا حال أضدادها من حسنات الأخلاق والاعتقادات وكيفية استنباط النتائج والثمرات من الجنات والرضوان والوجوه الحسان) (1)

وضرب مثالا آخر من الطبيعة، فقال: (إنّ الجسم الرطب متى فعل ما في طبعه من الرطوبة في جسم الآخر قَبِلَ الجسم المنفعل الرطوبةَ فصار رطباً مثله، ومتى فعل فعله الرطوبة في قابل غير جسم كالقوة الدراكة الحسية والخيالية إذا انفعلت عن رطوبة ذلك الجسم الرطب، لم يقبل الأثر الذي قبله الجسم الثاني ولم يصر بسببه رطباً بل يقبل شيئاً آخر من ماهية الرطوبة لها طور خاص في ذلك كما يقبل القوة الناطقة متى نالت الرطوبة أو حضرتها في ذاتها شيئاً آخر من ماهية الرطوبة وطبيعتها من حيث هي، ولها ظهور آخر عقلي فيه بنحو وجود عقلي مع هوية عقلية، فانظر حكم تفاوت النشآت في ماهية واحدة لصفة

__________

(1) المبدأ والمعاد: 343..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (164)

واحدة، كيف فعلت وأثرت في موضع الجسم شيء وفي قوة أُخرى شيئاً آخر، وفي جوهر شيئاً آخر وكلّ من هذه الثلاثة حكاية للآخرين، لأنّ الماهية واحدة والوجودات متخالفة، وهذا القدر يكفي المستبصر لأن يؤمن بجميع ما وعد الله ورسوله أو توعد عليه في لسان الشرع من الصور الأُخروية المرتبة على الاعتقادات الحقّة أو الباطلة أو الأخلاق الحسنة والقبيحة المستتبعة للذات والآلام إن لم يكن من أهل المكاشفة والمشاهدة) (1)

وما ذكره صدر المتألهين وغيره في هذا المجال أصبح أكثر وضوحا في عصرنا هذا بسبب القوانين العلمية المرتبطة بالمادة، وتحولها إلى طاقة، أو العكس.. بالإضافة إلى تحول الطاقة إلى أشكال مختلفة، وقد ورد في الموسوعة البريطانية: (المادة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة، المادة عبارة عن الطاقات المتراكمة، وربما تتبدّل المادة في ظروف خاصة إلى الطاقة، فتكون الطاقة وجوداً منبسطاً للمادة، كتبدّل مادة الغذاء الذي يتناوله الإنسان إلى حركة، وكتبدّل وقود الحافلات إلى طاقة حركية.. ويعتبر مفهوم حفظ الطاقة أحد المفاهيم الأساسية الذي يكون حاكماً على كافة الظواهر الطبيعية، بمعنى أنّ كافة التفاعلات والتحولات التي تحدث في عالم الطبيعة لا تخرج عن هذا الإطار العام وهو أنّ عموم الطاقة لا يتغير فيها أبداً. فالطاقة يمكن أن تتبدّل إلى أنواع مختلفة، وهذه الأنواع تشمل الطاقة الحركية، الحرارية، الكهربائية، الكيميائية، والنووية) (2)

وقد حاول السبحاني أن يربط بين تجسم الأعمال، وما ذكره العلم حول المادة والطاقة، فقال: (كلّ عمل يقوم به الإنسان ـ سواء كان طاعة أو معصية ـ يعدّ جزءاً من عالم المادة وليس له حقيقة إلاّ تبدل جزء ضئيل من المادة إلى طاقة حركية، فتعود حقيقة العمل

__________

(1) المرجع السابق، 341.

(2) دائرة المعارف البريطانية: 6/ 894.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (165)

في الإنسان إلى تبدل المادة إلى طاقة) (1)

ثم فسر ذلك بأن تجسّم الأعمال يبتني على قواعد أربع:

1. حقيقة العمل، وهو تبديل المادة إلى طاقة.

2. الطاقة الموجودة في العالم ثابتة لا تتغير.

3. المادة والطاقة حقيقتها واحدة.

4. كما أنّ المادة تتبدّل إلى الطاقة فهكذا تتبدّل الطاقة في ظروف خاصة إلى المادة.

وبناء على هذه المقدمات نستنتج أن (تجسم الأعمال الذي ترجع حقيقته إلى تبدّل الطاقة إلى المادة أمر ممكن وإن لم يكن واقعاً في عالم الطبيعة، ولعلّ العلم سيحقق هذه الأمنية) (2)

بالإضافة إلى ما ذكره السبحاني وغيره، يمكن تقريب المسألة بما نراه الآن في عصرنا من تحويل الصوت أو الصورة إلى هيئة رقمية، يمكن تحويلها إلى مجسمات إذا ما وضعت القوانين الخاصة بذلك..

وبذلك تزول كل تلك الإشكالات التي يذكرها النافون لتجسم الأعمال، أما ما عداها من الإشكالات، وهي تعارض التجسم مع نصوص أخرى، فقد ذكرها السبحاني، وأجاب عليها، وأهمها هذان الاعتراضان:

الأول: ما ورد من النصوص التي تدل على أنّ الجزاء يوم القيامة أمر جعلي أشبه بمجازات المجرمين أو بإثابة المطيعين، وعلى ذلك يكون الجزاء أمراً خارجاً عن نطاق عمل الإنسان بل مفروضاً عليه من الخارج.

وقد أجاب عليه بأن الجمع بين النصوص المقدسة يقتضي ذلك، بالإضافة إلى أنه (لا

__________

(1) مفاهيم القرآن، 8/ 347.

(2) المرجع السابق، 8/ 347.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (166)

مانع من أن يكون هناك نعمة ونقمة من خلال تجسّم الأعمال وتمثّلها، وجنة ونار خارجين عن إطار عمل الإنسان وفعله، فالجزاء الأوّل أمر تكويني يلازم وجود الإنسان، والثاني أمر جعلي مفروض عليه حسب ما اكتسب من الحسنات والسيّئات) (1)

الثاني: ما ورد من الشفاعة، ذلك أنه إذا كانت الصور المثالية أمراً تكوينياً من لوازم وجود الإنسان بحيث لا ينفك عن وجوده مهما نزل أو سكن، فما معنى الشفاعة التي تمحو المجازات الجعلية المفروضة عليه من خارج وجوده؟

وقد أجاب عليه السبحاني، بـ (أنّ الملكات المكتسبة وإن كانت خلاّقة للصور المثالية جميلة كانت أو قبيحة شاء أم أبى، لكن ثمة مرتبة من الشفاعة تؤثر في صميم الإنسان وذاته بنحو تؤثر على ملكاته السيئة وليس تأثير الشفيع في ملكات المشفوع له بأصعب من تأثير دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الاعجاز في عالم الكون حيث يعود ـ بفضل دعائه ـ الميت حياً والأعمى بصيراً والسقيم صحيحاً، فكما انّ دعاء النبي وإرادته تؤثر في التكوين، فهكذا الحال في شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآخرة تؤثر في الملكات السيئة وتقلبها رأساً على عقب، ونظير ذلك دعاء المذنب في هذه الدنيا واستغفاره قبل الموت حيث إنّه يؤثر فيما اكتسب من الملكات ويقلبها إلى غيرها.. وبذلك فإن تأثير الملكات في الصور المثالية يتم على نحو المقتضي لا العلة التامة، فهي تؤثر مادام العامل الخارجي وإلاّ فلا، وبذلك يمكن الجمع بين القول بالشفاعة وتجسّم الأعمال) (2)

4 ـ نماذج من صور النعيم والعذاب في البرزخ وأسبابها

بناء على ما سبق من الاختلاف الشديد في مراتب المنعمين والمعذبين، وهيئات الأعمال التي تظهر لهم، فيتنعمون بها أو يعذبون، وبناء على عدم إمكانية حصر ذلك، لأن

__________

(1) المرجع السابق، 8/ 348.

(2) مفاهيم القرآن، 8/ 349.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (167)

لكل شخص عالمه الخاص به، والذي شكله بنفسه طيلة حياته، فإنا نكتفي هنا بذكر بعض النماذج عن صور النعيم والعذاب الواردة في النصوص المقدسة، والتي لم يقصد منها الحصر، وإنما قصد منها التنبيه، والعاقل هو الذي لا يكتفي بالمذكور، وإنما يعبر منه لغير المذكور، لأن ما لم يذكر قد لا يكون أقل خطرا مما ذكر.

فمن الأمثلة والنماذج على ذلك ما ورد تلك الموعظة التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأمة من خلال وصفه لبعض ما يحصل في ذلك العالم، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس، ورجل قائم بيده كلُّوب من حديدٍ (الحديدة التي يؤخذ بها اللحم ويعلق)، يدخل ذلك الكلوب في شدقه (جانب فمه) حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم (يشفى) شدقه هذا، فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجلٍ مضطجعٍ على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهرٍ (بحجر ملء الكف) ـ أو صخرةٍ ـ فيشدخ (يكسر) به رأسه، فإذا ضربه تدهده (تدحرج) الحجر، فانطلق إليه ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه، فضربه، قلت: من هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا إلى ثقبٍ مثل التنوُّر، أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نارًا، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة، فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على نهرٍ من دمٍ فيه رجل قائم على وسط النهر، وعلى شط النهر رجُلٌ بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجرٍ في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجرٍ، فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضةٍ خضراء، فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي في الشجرة، وأدخلاني دارًا لم أرَ قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب،

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (168)

ونساء، وصبيان، ثم أخرجاني منها، فصعدا بي الشجرة، فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل، فيها شيوخ وشباب) (1)

وبعد أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه المشاهد التي رآها، وملأ القلوب شوقا لمعرفة أسرارها، راح يوضح ذلك، ويبينه، ليربي أمته من خلاله، فقد قال مخبرا عن تفسير الملائكة لما رآه: (أما الذي رأيته يشق شدقه، فكذاب يحدث بالكذبة، فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشدخ رأسه، فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة، والذي رأيته في الثقب فهم الزناة، والذي رأيته في النهر آكلو الربا، والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام، والصبيان حوله فأولاد الناس، والذي يوقد النار مالك خازن النار، والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء) (2)

ومن الأمثلة على ذلك ما أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من ضغطة القبر، والتي وقع الخلاف في شمولها أو عدم شمولها، لاختلاف الروايات الواردة في ذلك.

فمن الروايات الواردة في شمولها للناس جميعا، قوله صلى الله عليه وآله وسلم عند وفاة سعد بن معاذ: (هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة، ثم فرج عنه) (3)

وروي عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال حينها: (إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجياً منها نجا سعد بن معاذ) (4)، وفي رواية: (لو نجا أحد من ضمة القبر، لنجا سعد بن معاذ، ولقد ضمَّ ضمة،

__________

(1) رواه البخاري حديث: 1386.

(2) رواه البخاري حديث: 1386.

(3) رواه النسائي (4/ 100)، والطبراني (6/ 10) (5340)

(4) رواه أحمد (6/ 98) (24707)، والبيهقي في (شعب الإيمان) (1/ 358) (396)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (169)

ثم رخي عنه) (1)

بل روي أنه لا ينجو منها حتى الصبية، ففي الحديث أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو أفلت أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي) (2)

وبناء على هذا نص أكثر العلماء على هذا الشمول، فقد قال أبو بكر الدمياطي الشافعي: (صرحت الروايات والآثار بأن ضمة القبر عامة للصالح وغيره، وقد قال الشهاب ابن حجر: قد جاءت الأحاديث الكثيرة بضمة القبر، وأنه لاينجو منها صالح ولا غيره) (3)

بل إن بعضهم راح يروي ما يخفف تلك الضغطة، ويبين علتها، فقد روى صاحب [السيرة الحلبية] أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة: (ياعائشة إن ضغطة القبر على المؤمن كضمة الأم الشفيقة يديها على رأس ابنها، يشكو إليها الصداع! وضرب منكر ونكير عليه كالكحل في العين! ولكن يا عائشة ويل للشاكين الكافرين أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطاً يقبض على الصخر) (4)

وروى السيوطي عن محمد التيمي قوله: (كان يقال أن ضمة القبر إنما أصلها أنها أمهم، ومنها خلقوا، فغابوا عنها الغيبة الطويلة، فلما رُدَّ إليها أولادها ضمتهم ضمة الوالدة غاب عنها وَلَدُها ثم قدم عليها) (5)

لكن ذلك لا يستقيم مع تلك الروايات التي يروونها، والتي تنص على أنه (يلتئم

__________

(1) رواه الطبراني في (المعجم الكبير) (10/ 334) (10849)، وفي (المعجم الأوسط) (6/ 349) (6593)

(2) رواه الطبراني في (المعجم الكبير) (4/ 121) (3859)، وفي (المعجم الأوسط) (3/ 146) (2753)، وابن عدي في (الكامل) (2/ 322)

(3) إعانة الطالبين (2/ 164)

(4) السيرة الحلبية:2/ 673.

(5) شرح النسائي (4/ 103)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (170)

عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال يعذب حتى يبعث) (1)، أو (يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويسُلّط عليه في قبره تسعة وتسعون تِنِّيناً، لكل تنين سبعة رؤوس تنهشه وتخدش لحمه حتى يُبعث. ولو أن تنيناً منها ينفخ في الأرض لم تنبت زرعاً) (2)

وكل هذه الروايات كان يمكن قبولها، لو أنها ربطت الأمر بالأعمال، وموازين العدالة المرتبطة بها، أما تعميمها، لتشمل الجميع حتى الصبية الصغار، فإنا نرى اختلافها مع القرآن الكريم، بل مع الأحاديث النبوية التي تصور المؤمن ممتلئا بالسعادة منذ اللحظة الأولى التي يرى فيها ملائكة الموت، وهي تطوف به، وتبشره؛ فلا يستقيم التبشير مع ذلك العذاب الذي ينتظره، إلا إذا كان له من الأعمال ما يستوجب ذلك.

وهذا ما ذهب إليه أئمة أهل البيت، فقد علل الإمام الصادق الضغطة بالتقصير في شكر النعم، فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ضغطة القبر للمؤمن، كفارة لما كان منه من تضييع النعم) (3).

وروي أنه سئل عنها، فقيل له: أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ فقال: (نعوذ بالله منها، ما أقل من يفلت من ضغطة القبر) (4)، وهذا يدل على أن هناك من يفلت منها، وأن الأمر مرتبط بالعمل.

وروي عنه التصريح بنجاة المؤمنين الصادقين منها، لعدم استحقاقهم لها، فعنه قال ـ يصف موت المؤمن ـ: (فإذا أدرج في أكفانه ووضع على سريره، خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قدماً. وتَلَقَّاه أرواح المؤمنين يسلمون عليه ويبشرونه بما أعد الله له جل ثناؤه من النعيم. فإذا وضع في قبره رُدَّ إليه الروح إلى وركيه، ثم يسأل عما يعلم، فإذا جاء بما يعلم

__________

(1) معالم التنزيل للبغوي (3/ 235)

(2) تفسير الثعلبي (6/ 265)

(3) علل الشرائع (1/ 309)

(4) الكافي (3/ 236)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (171)

فتح له ذلك الباب الذي أراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيدخل عليه من نورها وضوئها وبردها وطيب ريحها)، فقيل له: جعلت فداك فأين ضغطة القبر؟ فقال: (هيهات ما على المؤمنين منها شئ، والله إن هذه الأرض لتفتخر على هذه فتقول: وطأ على ظهري مؤمن ولم يطأ على ظهرك مؤمن، وتقول له الأرض: والله لقد كنت أحبك وأنت تمشي على ظهري، فأما إذا وليتك فستعلم ماذا أصنع بك، فيفسح له مد بصره) (1)

وبناء على هذا، فإن كل ما ورد في النصوص المقدسة يدل على ارتباط كل جزاء أو عقوبة بالأعمال التي تناسبها، بل ورد فيها ما يدل على إمكانية ممارسة أعمال معينة في الدنيا، لتجنب أنواع معينة من العذاب، وهذا ما يدل على البعد التربوي للعقائد الإسلامية، وأثرها في تقويم السلوك.

ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في الروايات التي تذكر إمكانية تجنب ضغطة القبر، والأعمال المرتبطة بذلك، وهو ما يجعل من القول بعدم شمولها أكثر جدوى، بالإضافة لكونها أقرب لعدالة الله ورحمته بعباده.

بناء على هذا سنذكر هنا بعض النماذج الواردة في الأحاديث والروايات، عن أنواع النعيم والعذاب الموجودة بالبرزخ مع ذكر أسبابها.

أ ـ نماذج من صور النعيم وأسبابها

بناء على أنه لا يمكن حصر الأعمال الصالحة التي يراها المؤمن في البرزخ على هيئة نعيم ولذات وسعادة، فإن الأحاديث ذكرت بعض ذلك، لا من باب الحصر ـ كما ذكرنا ـ وإنما من باب التنبيه إلى أهمية كل عمل صالح، ودوره في إسعاد المؤمن، وإبعاد كل أسباب الشقاء عنه.

ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف حال الميت المؤمن، وكيف تدافع عنه أعماله

__________

(1) الكافي (3/ 130)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (172)

الصالحة، وهو ما يدل على تجسمها في صور حسية يراها: (إن الميت يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين، فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصوم عن يمينه، وكانت الزكاة عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلاة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ويؤتى من عن يمينه، فيقول الصوم ما قبلي مدخل، ويؤتى من عن يساره فتقول الزكاة ما قبلي مدخل، ويؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات ما قبلي مدخل، فيقال له: اقعد فيقعد، وتمثل له الشمس قد دنت للغروب فيقال له ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم، وما تشهد به؟ فيقول: دعوني أصلي، فيقولون: إنك ستفعل ولكن أخبرنا عما نسألك عنه قال: وعم تسألوني عنه؟ فيقولون: أخبرنا عما نسألك عنه، فيقول: دعوني أصلي. فيقولون: إنك ستفعل ولكن أخبرنا عما نسألك عنه، قال: وعم تسألوني؟ فيقولون: أخبرنا ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم وما تشهد به عليه؟ فيقول: محمدا، أشهد أنه عبد الله، وأنه جاء بالحق من عند الله، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب من قبل النار فيقال له: انظر إلى منزلك وإلى ما أعد الله لك، لو عصيت فيزداد غبطة وسرورا، ثم يفتح له باب من قبل الجنة فيقال له: انظر إلى منزلك، وإلى ما أعد الله لك فيزداد غبطة وسرورا) (1)

وورد في بعض الروايات ما تقوله تلك الأعمال الصالحة في الدفاع عن المؤمن الذي قام بها، ومنها هذه الرواية التي تذكر أنه (إذا مات العبد الصالح فوضع في قبره أتي بفراش من الجنة، وقيل له: نم هنيئاً لك قرة العين، فرضي الله عنك، قال ويفسح له في قبره مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة، فينظر إلى حسنها ويجد ريحها وتحتوشه أعماله الصالحة: الصيام، والصلاة، والبر، فتقول له: أنصبناك واظمأناك وأسهرناك فنحن اليوم بحيث تحب، نحن

__________

(1) المستدرك على الصحيحين للحاكم (1/ 535)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (173)

أنساؤك حتى تصير إلى منزلك من الجنة) (1)

وفي رواية أخرى: (إذا وضع العبد الصالح في قبره احتوشته أعماله الصالحة الصلاة والصيام والحج والجهاد والصدقة، قال: وتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه فتقول الصلاة: إليكم عنه فقد أطال القيام لله عليهما، قال: فيأتون من قبل رأسه فيقول الصيام: لا سبيل لكم عليه فقد أطال ظمأه لله تعالى في الدنيا، قال فيأتون من قبل جسده فيقول الجهاد والحج: إليكم عنه فقد أنصب نفسه، وأتعب بدنه، وحج وجاهد لله عز وجل لا سبيل لكم عليه، قال: فيأتون من قبل يديه فتقول الصدقة: كفوا عن صاحبي فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين حتى وقعت في يد الله عز وجل ابتغاء وجهه فلا سبيل لكم عليه، فيقال: هنيئاً طيباً حياً وميتاً، قال: ويأتيه ملائكة الرحمة فتفرشه فراشاً من الجنة ودثاراً من الجنة ويفسح له في قبره مد البصر، ويؤتى بقنديل من الجنة فيستضيء بنوره إلى يوم يبعثه الله من قبره) (2)

وهكذا ورد في الأحاديث والروايات أن لسور بعينها تأثير خاص في الوقاية من عذاب القبر، وهذا يدل على أن لكل سورة قرآنية آثارها الخاصة التي يجدها المؤمن يوم القيامة، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك) (3)

وقد فسر ذلك عبد الله بن مسعود بقوله: (من قرأ تبارك الذي بيده الملك كل ليلة منعه الله بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسميها المانعة، وإنها في كتاب الله سورة من قرأ بها في كل ليلة فقد أكثر وأطاب) (4)

__________

(1) نقلا عن: أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور، لابن رجب، (ص: 31)

(2) نقلا عن: المرجع السابق، (ص: 31)

(3) رواه الترمذي (2891) وأبو داود (1400) وابن ماجه (3786)

(4) رواه النسائي (6/ 179)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (174)

ومثل ذلك ما ورد في فضل قراءة سورتي البقرة وآل عمران، ودورهما في الدفاع عن المهتم بهما، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) (1)

وهكذا نرى الأحاديث الكثيرة التي تصور النعيم العظيم الذي يناله المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة، ومن الروايات الواردة في ذلك، والتي تصور بعض النعيم الذي يعيشونه طيلة فترة البرزخ، ما حدث به الإمام علي قال: (يُفتح لولي الله من منزله من الجنة إلى قبره تسعة وتسعون باباً، يدخل عليها روحها وريحانها وطيبها ولذتها ونورها إلى يوم القيامة، فليس شئ أحب إليه من لقاء الله، فيقول: يا رب عجل عليَّ قيام الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فإذا كانت صيحة القيامة خرج من قبره مستورةً عورته، مسكنةً روعته، قد أعطي الأمن والأمان، وبشر بالرضوان والروْح والريحان والخيرات الحسان، فيستقبله الملكان اللذان كانا معه في الحياة الدنيا، فينفضان التراب عن وجهه وعن رأسه ولا يفارقانه، ويبشرانه ويمنيانه) (2)

وعن الإمام الصادق قال: (المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيَّرَ روحه في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكلون ويشربون. فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا.. لو رأيته لقلت فلان) (3)

ب ـ نماذج من صور العذاب وأسبابها

__________

(1) رواه مسلم (804)

(2) المفيد في الإختصاص/349.

(3) رواه الشيخ الطوسي في التهذيب (1/ 466)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (175)

بما أن البرزخ مدرسة من المدارس التربوية التي يربي الله فيها عباده، لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وتهذيب نفوسهم لتصلح للدخول للجنة التي لا يدخل إليها إلا الطيبون، فقد اهتمت النصوص المقدسة بأنواع الدروس التي تقدم في هذه المرحلة أكثر من اهتمامها بالنعيم الذي يلقاه المقيمون فيها.

ولذلك اشتهرت مسائل البرزخ، باصطلاح [عذاب القبر]، ذلك لورود النصوص الكثيرة التي تبين الأسباب التي يتعذب بها المقيمون في هذه المرحلة.

وهي تدخل ضمن الإنذار النبوي، وهو لا يقل أهمية عن التبشير النبوي، إن لم يكن يفوقه، فالتبشير قد يكفي فيه الحديث والحديثان، لكن الإنذار يحتاج إلى المزيد من التفاصيل.

ولهذا عندما نذهب إلى الطبيب لأي علة من العلل، لا نجده يصف لنا ما يجوز أكله، وإنما يصف لنا ما يضرنا أكله، ويحذرنا منه، ويبين العواقب التي تنجر وراء ذلك.. وهكذا فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما يربط الأعمال السيئة بما تستوجبه من العقوبات.

والإنذار نفسه يتضمن تبشيرا، ذلك أن التحذير من تلك الجرائم والذنوب، يبين أن الابتعاد عنها، يقي صاحبها من المهالك التي تعترضه، وفي ذلك أعظم بشارة، ولذلك قيل: (لأن تلقى قوما يخوفونك حتى تجد الأمان، خير من أن تجد من يؤمنك إلى أن تجد المخافة)

وقد حاول ابن القيم في كتاب الروح أن يجمع الكثير من الأحاديث من المصادر السنية، والتي ذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأسباب الموجبة للعذاب في البرزخ، فقال: (إن عذاب القبر أثر غضب الله تعالى وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخَطه في هذه الدار ثم لم يتُبْ، ومات على ذلك كان له من عذاب القبر بقدر غضب الله وسخطه عليه، وعذاب القبر هو نتيجة لمعاصي القلب، والعين، والأذن، والفم، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرِّجل، والبدن كله؛ فالنمام، والكذاب، والمغتاب، وشاهد الزور، وقاذف

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (176)

المحصن، والداعي إلى البدعة، والقائل على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا علم له به، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السحت من الرشوة، وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد، وشارب الخمر، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا، ومعطيه، وكاتبه، وشاهداه، والمحتال على إسقاط فرائض الله تعالى، وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين، ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل الله، والمفتي بغير ما شرعه الله، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم الله، والمُعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه على سنة رسول صلى الله عليه وآله وسلم، والنائحة، والمستمع إليها، والمغنون الغناء الذي حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والمستمع إليهم، والمطففون في الكيل والميزان، والجبارون، والمتكبرون، والمراؤون، والهمازون، واللمازون، والطاعنون على السلف الصالح، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرَّافين فيسألونهم ويصدقونهم، وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي إذا خوفته بالله تعالى وذكَّرته به لم ينزجر، فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وكفَّ عما هو فيه، والذي يجاهر بالمعصية ويفتخر بها بين الناس، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان البذيء الذي تركه الناس اتقاء شره، والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها، ولا يذكر الله فيها إلا قليلًا، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، والذي لا يبالي بما حصل من المال، من حلال أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين، ولا الأرملة، ولا اليتيم، ولا الحيوان البهيم، بل يزجر اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي الناس بعمله؛ ليكسب مدحهم له، ويمنع الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه - فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم، بحسب كثرتها وقلتها، وصغيرها وكبيرها) (1)

__________

(1) الروح لابن القيم، ص 101..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (177)

وسنكتفي هنا بذكر بعض ما ورد في النصوص المقدسة من ذلك، لنرى من خلالها دور الإيمان بالبرزخ في التربية والإصلاح.

1. الظلم والطغيان والاستبداد: ولعله من أكبر أسباب العذاب في البرزخ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) (1)، ويوم القيامة، لا يشمل الموقف فقط، بل يبدأ من الموت نفسه، كما ورد في الحديث: (إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته) (2)

ومن النصوص الدالة على هذا قوله تعالى عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، فهذه الآية الكريمة أخبرت أنهم وفي الوقت الحالي يعرضون على النار غدوا وعشيا، ولم يملك صبحي منصور ـ وهو من المنكرين لعذاب البرزخ ـ بعد إيراده لها إلا أن يسلم بها، لكنه راح يحتال عليها بكون عذاب البرزخ مرتبطا فقط بآل فرعون، ولسنا ندري ما وجه التخصيص، مع أن القرآن الكريم يعتمد الأمثال والنماذج ليقرر الحقائق، والعاقل هو الذي يفهم الحقائق بإطلاقها، لا ذلك الذي يقصرها على شواهدها.

ومنها قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور:45 - 47]، وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر، لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا، أو المراد أعم من

__________

(1) صحيح مسلم 4/ 1996 ح (2578)

(2) رواه أبو نعيم في (الحلية) (6/ 267 - 268)، وابن عساكر في (تاريخه) (37/ 214)، وأورده الديلمي في (مسند الفردوس) (1/ 285/1117)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (178)

ذلك.

ومنها قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تتوعد الظلمة بالعذاب الشديد، وهي تنطبق على جميع المراحل التي يمر بها الإنسان في حياته، ابتداء من حياته الدنيا.. والتي جعل الله فيها الكثير من أنواع العذاب للظلمة، والتي قد لا يشعر بها غيرهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]

2. الكفر والنفاق: ويشير إليه قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101]، فقوله: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) يشير إلى أن أحدهما في الدنيا، والآخر في البرزخ، كما ذكر ذلك المفسرون.

وقد رأينا سابقا ما ورد من العذاب الذي يلقاه هذان الصنفان، وقد ورد التصريح باسم المنافق، أو المرتاب في كثير من الروايات، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (.. وأما الكافر والمنافق فيُقال له..) (1)

وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى عمرو بن عامر الخزاعي (يجر قصبه في النار ـ أمعاءه ـ؛ كان أول من سيب السوائب) (2)، وكان أيضا أول من غير دين إبراهيم بالشرك وتحريم ما لم يحرمه الله.

3 ـ الذنوب المرتبطة باللسان: كالغيبة والنميمة وغيرها، والتي ورد فيها قوله صلى الله عليه وآله وسلم

__________

(1) البخاري (1374)

(2) رواه البخاري (4623)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (179)

لمعاذ بن جبل: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)، قال: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، وقال: (كف عليك هذا)، قال: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: (ثكلتك أمك وهل يكب الناس على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!) (1)

وقد ورد في الأحاديث والروايات ما يدل على ذلك، ومنها ما روي عن ابن عباس قال: (ليلة أسري بنبي الله صلى الله عليه وآله وسلم نظر في النار فإذا قوم يأكلون الجيف قال من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ورأى رجلا أحمر أزرق جدا قال من هذا يا جبريل؟ قال هذا عاقر الناقة) (2)

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) (3)

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم مررت على نساء ورجال معلقين بثديهن فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال هؤلاء الهمازون واللمازون وذلك قوله - عز وجل -: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]) (4)

وفي حديث آخر عن ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) (5)

وفي حديث آخر، يصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يحصل في البرزخ للكذابين، فعنه قال: (فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي

__________

(1) رواه الترمذي [رقم: 2616] وقال: حديث حسن صحيح..

(2) البعث والنشور للبيهقي 1/ 146 ح (188)

(3) سنن أبي داود 4/ 269 ح (4878)

(4) رواه البيهقي في شعب الإيمان، 5/ 2301.

(5) رواه البخاري (218) ومسلم (292)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (180)

أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى. قال: قلت: سبحان الله! ما هذان؟).. ثم قال عن هذا المعذب في آخر الحديث: (إنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) (1)

4 ـ الذنوب المرتبطة بالطهارة: وقد أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن عامة عذاب القبر من البول؛ فتنزهوا منه) (2)

5 ـ الذنوب المرتبطة بالأموال: وقد أشار إليها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فانطلقنا فأتينا على نهر أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا فينطلق يسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجرا) إلى أن قال: (وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر فإنه آكل الربا) (3)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الرجل الذي غل الثوب (4) في بعض مغازيه: (والذي نفسي بيده إن الشملة [ثوب] التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا) (5)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الإخبار عن عقوبة اللصوص: (لقد جيء بالنار، وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه

__________

(1) رواه البخاري (7074)

(2) رواه البخاري (7076)

(3) البخاري حديث: 1386.

(4) الغلول: هو أخذ الغازي شيئا من الغنيمة دون عرضه على ولي الأمر لقسمته.

(5) البخاري (4234) ومسلم (115)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (181)

في النار؛ كان يسرق الحاج بمحجنه (1)، فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به) (2)

ومنها ما ورد في المتهاونين في أداء ما عليهم من ديون، فعن سعد بن الأطول قال: مات أخي وترك ثلاث مائة دينار، وترك ولدا صغارا، فأردت أن أنفق عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أخاك محبوس بدينه، فاذهب فاقض عنه). قال: فذهبت فقضيت عنه، ثم جئت فقلت: يا رسول الله، قد قضيت عنه ولم يبق إلا امرأة تدعي دينارين، وليست لها بينة. قال: (أعطها، فإنها صادقة) (3)

6 ـ الذنوب المرتبطة بالأعراض: ويشير إليها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق: (فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا [أي: صاحوا] قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟) وفي آخره: (وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني).

7 ـ الذنوب المرتبطة بالتهاون بالعبادات: وقد أشار إليها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في المتهاونين في قراءة القرآن الكريم: (أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر ها هنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى. قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟)، وفيه: (والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار)

__________

(1) المحجن: عصا معوجة الرأس.

(2) رواه مسلم (904)

(3) رواه أحمد (16776) وابن ماجه (2/ 82)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (182)

وفي رواية أخرى تذكرهم، وتذكر المتهاونين في الصلاة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أما الرجل الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة)

وفي حديث آخر يذكر المتهاونين في صيام رمضان، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، وأتيا بي جبلا فقالا لي: اصعد. فقلت: إني لا أطيقه. فقالا: إنا سنسهله لك. قال: فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل، إذا أنا بأصوات شديدة، فقلت: ما هذه الأصوات؟ قال: هذا عواء أهل النار. ثم انطلق بي، فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دما، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هم الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) (1)

7 ـ الذنوب المرتبطة بالمسيئين للدين: وهم الذين يمثلونه تمثيلا خاطئا، فيقفون حجابا بين الخلق والدين الصحيح، وإليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟!) (2)

وفي رواية: (أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفت، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به) (3)

ثالثا ـ البرزخ والصلة بالحياة الدنيا

بما أن البرزخ محل من محال الجزاء الإلهي، والذي يرتبط بأسماء الله الحسنى، فإن من تجلياته التعامل مع أهله بحسب أعمالهم، ومواقفهم، وما في قلوبهم، وذلك ما تقتضيه عدالة

__________

(1) رواه ابن حبان والحاكم (1/ 290،210)

(2) رواه أحمد (3/ 120)

(3) رواه البيهقي في شعب الإيمان، انظر: صحيح الجامع (128)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (183)

الله التي تأبى التسوية بين المختلفين، وتأباه كذلك ربانية الله، والتي تقتضي أن يتعامل مع كل خطيئة بما يناسبها من أساليب التربية.

وبما أن أهم المواقف التي طولب المؤمنون بها، الموقف من الحياة الدنيا، وعدم الاستغراق فيها، وعدم تبديلها بالدار الآخرة، بل طولبوا بأن يعتبروها دار ممر، لا دار مقر، ودار فناء، لا دار خلود، ودارا لزراعة العمل الصالح، لا للانشغال عنه بما وضع فيها من متاع وزينة.

بناء على هذا كله، فإن تلك المواقف تبرز في الآخرة بأنواع التواصل والانقطاع مع هذه الحياة، فالنصوص المقدسة تشير، بل تؤكد على أن الزاهدين في الدنيا، الراغبين في الله، لن تنقطع صلتهم بالحياة الدنيا، ولا بأهلها، ولا بالتأثير فيها، بأي وجه من وجوه التأثير.

بخلاف أولئك الذين استغرقوا في الحياة الدنيا، واطمأنوا لها، وتصوروا أنهم مخلدون فيها، وأنه ليس هناك حياة غيرها؛ فإن هؤلاء يعاقبون بالانقطاع التام عن هذه الحياة، وإن أتيح لهم ذلك، فهو من باب تربيتهم، حتى يعرفوا قيمة ذلك الاستغراق والحب الذي صرفهم عن الله.

وأما غيرهم من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فإن صلتهم بالحياة الدنيا، تكون بحسب أعمالهم، وزهدهم، وورعهم، ورغبتهم فيما عند الله، وقد ذكرنا أنه لا يمكن عد درجات ذلك، لأن لكل إنسان عالمه الخاص به، والمرتبط بما قدمه من أعمال.

بناء على هذا، سنذكر في هذا المبحث ما ورد في النصوص عن صلة الموتى بالحياة الدنيا، اتصالا وانقطاعا.

وقبل ذلك ننبه إلى ما نبهنا إليه سابقا من أن قوانين النشأة الأخرى تختلف عن قوانين هذه النشأة، ولذلك فقد يكون الشخص في الجنة أو في غيرها، وفي نفس الوقت تكون له علاقة بقبره، أو زواره، أو غيرهم.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (184)

وننبه كذلك إلى أن الجنة والنار المرتبطة بأهل البرزخ ـ كما ورد في الروايات ـ ليست هي نفس الجنة والنار التي لا يدخلها أهلها إلا بعد الحساب ونصب الموازين، لتكون دار قرارهم.

وقد ورد في ذلك عن الإمام الصادق أنه سئل عن قوله تعالى في حق آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، فقال: (ما تقول الناس فيها؟)، فقيل له: يقولون إنها في نار الخلد، وهم لا يعذبون فيما بين ذلك، فقال: (فهم من السعداء؟) فقيل: فكيف هذا؟ فقال: (إنما هذا في الدنيا، وأما في نار الخلد فهو قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]

وهكذا يشير إلى هذا قوله تعالى عن الجنة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، ويشير إليه ما ورد من أن جنة آدم عليه السلام غير جنة الخلد، وقد روي عن الإمام الصادق أنه سئل عن جنة آدم، فقال: (جنة من جنات الدنيا تطلع عليه فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنات الخلد ما خرج منها أبداً) (1)

1 ـ البرزخ.. والتواصل مع الحياة الدنيا

ورد في النصوص الكثيرة ما يدل على دوام الصلة بين المؤمنين في البرزخ، وإخوانهم من المؤمنين في الدنيا، كما يدل على ذلك قوله تعالى عن الشهداء: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169، 170]

وورد في الحديث عن أنس، قال: بعث قوم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن: ابعث إلينا من يعلمنا

__________

(1) علل الشرائع: 2/ 600، والكافي:3/ 247.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (185)

القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء وفيهم خالي حرام، يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل، ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة، وللفقراء، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا أنا قد لقيناك فرضيت عنا، ورضينا عنك، قال: فأتى رجل خالي حراما من خلفه فطعنه بالرمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن إخوانكم قد قتلوا، وقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك ورضينا عنك ورضيت عنا) (1)

ومثله ما روي عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ رد السلام، ثم قال: (يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب مع جبريل وميكائيل وإسرافيل سلموا علينا فردي عليهم السلام، وقد أخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا قبل ممره على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث أو أربع، فقال: لقيت المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاثا وسبعين بين رمية وطعنة وضربة، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت، ثم أخذت بيدي اليسرى فقطعت، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل أنزل من الجنة حيث شئت، وآكل من ثمارها ما شئت)، فقالت أسماء: (هينئاً لجعفر ما رزقه الله من الخير، ولكن أخاف أن لا يصدق الناس فاصعد المنبر أخبر به)، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (يا أيها الناس إن جعفرا مع جبريل وميكائيل، له جناحان عوضه الله من يديه سلم علي، ثم أخبرهم كيف كان أمره حيث لقي المشركين)، فاستبان للناس بعد اليوم الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن جعفر لقيهم، فلذلك سمي الطيار في الجنة) (2)

__________

(1) الجهاد لابن أبي عاصم 2/ 494 ح (185)، مستخرج أبي عوانة 4/ 462 ح (7345)

(2) رواه الحاكم (3/ 209 - 210 و212) ورواه الطبراني في الأوسط مختصراً -كما في مجمع الزوائد (9/ 272)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (186)

بل إن ابن القيم نفسه ـ وهو تلميذ ابن تيمية، الذي ينفي صلة الأحياء بالموتى وتأثيرهم ـ عقد في كتابه [الروح] فصلا خاصا بعنوان [هل يعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا]، ومما جاء فيه قوله: (قال ابن عبد البر ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)، فهذا نص في أنه بعينه، ويرد عليه السلام، وفي الصحيحين عنه من وجوه متعددة أنه أمر بقتلى بدر، فألقوا في قليب ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم: يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؛ فإني وجدت ما وعدني ربى حقا؟ فقال له عمر: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا، فقال: (والذي بعثنى بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابا)، وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد) (1)

ولكن هذه الصلة ووثاقتها وتأثيرها يعتمد على الدرجة التي بلغها المؤمن بإيمانه، ذلك أن من المؤمنين من يكتفي بذلك النعيم الذي أعد له، بسبب عمله الصالح، أو ربما يحصل له ما يشبه النوم الممتلئ بالراحة في انتظار البعث، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قبر الميت أتاه ملكان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ثم ينور له فيه ثم يقال له: نم فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه

__________

(1) الروح (ص: 5)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (187)

إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك) (1)

أما المقربون، أو الساعون في خدمة الإسلام، فإن الصلة بينهم وبين الحياة الدنيا تبقى وثيقة جدا، ذلك أنهم يراقبون كل ما يحصل، ويعينون المؤمنين بالدعاء وغيره.

بناء على هذا سنذكر هنا ما يدل على كلا الصلتين من خلال المصادر المقدسة، وهي ما يخرج عالم البرزخ من كونه عالما غيبيا محضا إلى عالم له علاقة بعالم الشهادة، وهو ما يعطي مبررا آخر لاسمه [البرزخ]

أ ـ التواصل الممتد

وهو التواصل الخاص بالمنعم عليهم، والذين امتلأوا زهدا في الدنيا، كما امتلأوا حبا لله، وتضحية في سبيله، ولذلك هيأ الله تعالى لهم هذا الجزاء الذي يتناسب مع اهتماماتهم وحرصهم؛ فهم لا يريدون النعيم الخاص بهم فقط، بل هم كذلك، وفوقه حريصون على الإسلام الذي عاشوا حياتهم كلها من أجله.

وقد أشار إلى هذا الصنف قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، وقد قال بعدها: {لِيَجْزِيَ الله الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 24]

ومن مقتضيات ذلك الجزاء، كما هو العادة في الكرم الإلهي، إعطاء من يجزون ما تقتضيه رغبتهم وحاجتهم.

ويشير إلى هذا شوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرؤية المؤمنين الذين لم يكتب لهم أن يعيشوا في عهده، بل سماهم [إخوانا]، وهذا يدل على أن له صلة وثيقة بهم، لا تقل عن صلته بأصحابه، بل إن الأخوة في اللغة أكرم وأرفع درجة من الصحبة، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وددت أني لقيت إخواني)، قال: فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوليس نحن

__________

(1) رواه الترمذي (1071)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (188)

إخوانك؟ قال: (أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني) (1)

ويشير إلى هذا أيضا قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة:105)، فهذه الرؤية لا تقتصر على المؤمنين الأحياء، بل تشمل غيرهم أيضا.

وهي تتجاوز الرؤية المجردة، بل إنها رؤية مؤثرة، ذلك أن أصحاب البرزخ يمكنهم أن يساهموا في خدمة الأحياء عبر دعائهم، كما دل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا) (2)

وهذا النص يبين أن مجال التأثير مرتبط بالاهتمام، فإن كان اهتمام المؤمن قاصرا على أقاربه وعشيرته امتد تأثيره إليها فقط، وإن كان متعديا شمل كل الدائرة التي يهتم بها.

ولهذا وردت الأحاديث تبين مدى سعة دائرة تأثير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياة الأمة جميعا، وهم لذلك يمكنهم أن يتوسلوا به أو يستغيثوا مثلما كانوا يفعلون في حياته تماما، لأن موته صلى الله عليه وآله وسلم لم يقطع صلته بالله، بل إنه زادها، ولذلك كان اللجوء إليه لجوءا إلى وسيلة شرعية من أعظم الوسائل.

ولهذا فهم كل العلماء ـ ما عدا التكفيريين ـ من قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا الله تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] شمولها لكل الأزمنة، وعدم اقتصارها على زمان حياته صلى الله عليه وآله وسلم.

والروايات الكثيرة حول الاستدلال بالآية من لدن السلف الأول، تدل على اشتهار ذلك، واعتباره، حتى أصبح معروفا لدى العامة والخاصة، وقد روى العتبي (توفى 228

__________

(1) رواه أحمد 20/ 38 ح (12579)، وأبو يعلي (3390)، والطبراني في الأوسط (5490)

(2) قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (2/ 327): رواه الطبراني في الكبير والأوسط.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (189)

هـ) في ذلك ـ وهو من مشايخ الشافعي، وحدّث عن سفيان بن عيينة وغيره ـ عن محمد بن حرب الهلالي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثمَّ قال: (يا خير الرسل، إنّ الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا الله تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، وإنّي جئتك مستغفراً ربّك من ذنوبي مستشفعاً فيها بك. ثمَّ بكى وأنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه... فطاب من طيبهنّ القاع والأكمُ

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه... فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ

ثمَّ استغفر وانصرف (1).

وقد ذكر الشوكاني وجه الاستدلال بها، فقال: (ووجه الاستدلال بها أنه صلى الله عليه وآله وسلم حي في قبره بعد موته كما في حديث: الأنبياء أحياء في قبورهم، وقد صححه البيهقي وألف في ذلك جزءا) (2)

وقال السبكي: (دلت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة، فهي رتبة له لا تنقطع بموته، تعظيما له.. والآية وردت في أقوام معينين في حالة الحياة، فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتى قبره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلو هذه الآية ويستغفر الله تعالى) (3)

بل إن فقهاء الصحابة استدلوا بهذه الآية على ذلك، فقد روي عن عبد الله بن مسعود

__________

(1) أخرج هذه الرواية ابن الجوزي في (مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن) وابن عساكر في (تاريخ دمشق) والقسطلاني بأسانيدهم، انظر: شفاء السقام: 62 - 63، مختصر تاريخ دمشق 2: 408، والمواهب اللدنية 4: 583.

(2) نيل الأوطار 3/ 105.

(3) شفاء السقام: 81 - 82..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (190)

قال: (إن في النساء لخمس آيات ما يسرني بهن الدنيا وما فيها، وقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها وذكر منها: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا الله تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]) (1)، ففرح ابن مسعود بهذه الآية ظاهر في أنها عامة.

وقد أيد ذلك بأحاديث كثيرة تشير إلى مدى تأثير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياة الأمة، بعد وفاته، ومنها قوله حديث الرجل الضرير الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادعُ الله أن يعافيني، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئت دعوتُ، وإن شئتَ صبرتَ وهو خير؟ قال: فادعُهُ، فأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويُصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبي الرحمة يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللهمّ شفّعه فيّ)، قال الراوي: فوالله ماتفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضُرّ (2).

وقد فهم الصحابة وكل العلماء ـ ما عدا التكفيريين ـ من الحديث شموله لحياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعدها، حتى راوي الحديث فهم منه ذلك، فقد روي عن عثمان بن حنيف أنّ رجلاً كان يختلف على عثمان بن عفان في حاجته، وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة ثم ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين وقل: اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي. وتذكر حاجتك ورُح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاءه البواب حتى أخذ بيده

__________

(1) معجم الطبراني 9/ 220، قال الهيثمي 7/ 71: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح)

(2) رواه أحمد في المسند (4/ 138)، والترمذي (تحفة 10/ 132، 133)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 417)، وابن ماجة في السنن (1/ 441) والبخاري في التاريخ الكبير (6/ 210) والطبراني في المعجم الكبير (9/ 19)، وفي الدعاء أيضاً (2/ 1289) والحاكم في المستدرك (1/ 313، 519) وصححه وسلمه الذهبي والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 166)، وفي الدعوات الكبير.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (191)

فأدخله على عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: حاجتك، فذكر حاجته وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجّة، فاذكرها، ثم إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمتَه فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمتُه فيك، ولكنّي شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. إلى آخر الحديث (1).

وهكذا ورد في الروايات ما يدل على علاقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمته، ومعرفته بها، وتواصله معها، ومن تلك الأحاديث ما رواه عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم) (2)

وهذا الحديث واضح في الدلالة على علاقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمته، وعدم اقتصارها على حياته الدنيوية، وقد اتفق أكثر المحدثين على تصحيحه، فقد رواه البزار في مسنده (3) بإسناد رجاله رجال الصحيح، كما نص على ذلك الحافظ نور الدين الهيثمي (4)، وقال الحافظ السيوطي: سنده صحيح (5)، وقال الحافظان العراقيان – الزين وابنه ولي الدين –: (إسناده جيد) (6)، وروى الحديث ابن سعد بإسناد حسن مرسل (7).

__________

(1) المعجم الكبير للطبراني:9/ 30 و31.

(2) رواه البزار (كشف الأستار 1/ 397) قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 24) رجاله رجال الصحيح.

(3) كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 397)

(4) مجمع الزوائد (9/ 24)

(5) الخصائص الكبرى (2/ 281)

(6) طرح التثريب (3/ 297)

(7) الطبقات (2/ 194)، وانظر: فيض القدير (3/ 401)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (192)

وقد ألف فيه المحدث الكبير عبد الله بن الصديق الغماري جزءا حديثيا خاصا سماه (نهاية الآمال في صحة وشرح حديث عرض الأعمال) قرظه له شقيقه الحافظ السيد أحمد بن الصديق الغماري الحسني، وذكر فيه بتفصيل كلمات من صححوه من أمثال الحافظ النووي، والحافظ ابن التين، والقرطبي، والقاضي عياض، وابن حجر العسقلاني، والحافظ زين الدين العراقي، وولده الحافظ ولي الدين العراقي أبو زرعة، والحافظ السيوطي، والحافظ الهيثمي كما في (مجمع الزوائد)، والمناوي في (فيض القدير)، والحافظ المحدث السيد أحمد الغماري، وعبد الله بن الصديق وغيرهم كثير.

بالإضافة إلى هذا، فقد أكد هذا الحديث بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره) (1)

بل إن المحدث الكتاني ذكر تواتر ذلك، فقد قال في [نظم المتناثر]: (قال السيوطي في مرقاة الصعود: تواترت بحياة الأنبياء في قبورهم الأخبار، وقال في [إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء] ما نصه: (حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء معلومة عندنا علما قطعيا، لما قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت بها الأخبار الدالة على ذلك، وقد ألف الأمام البيهقي رحمه الله تعالى جزءا في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم)، وقال ابن القيم في كتاب الروح: (صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء خصوصا بموسى، وقد أخبر بأنه: (ما من مسلم يسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا

__________

(1) صحيح مسلم 4/ 1791 ح (2288)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (193)

موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم أحياء موجودون ولا نراهم) (1)

ويدل لهذا أيضا ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفس أبي القاسم بيده لينزلن عيسى بن مريم إماما مقسطا وحكما عدلا، فليكسرن الصليب ويقتلن الخنزير وليصلحن ذات البين وليذهبن الشحناء وليعرضن المال فلا يقبله أحد، ثم لئن قام على قبري فقال يا محمد لأجبته)، وقد رواه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وسلمه الذهبي (2).

وهذه النصوص وغيرها، لا تدل على اقتصار هذا الجزاء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل إنها تدل على شموله لكل ورثته الصادقين الذين عاشوا حياتهم جميعا يحملون نفس حرصه واهتمامه بالأمة، ولذلك يتاح لهم من التأثير ما يتاح له صلى الله عليه وآله وسلم.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن صلة المقربين أو غيرهم بالحياة الدنيا، لا تتنافى مع كونهم في الجنة، أو غيرها، ذلك أن ما نعرفه من كون الشخص لا يكون في مكانين في نفس الوقت مرتبط بالحياة الدنيا، وقوانينها، أما الحياة الأخرى، فلها قوانينها الخاصة بها.

وقد دلت النصوص على إمكانية أن يكون الشخص هناك في مكانين أو عدة أمكنة في نفس الوقت.. بل دلت على أنه يمكن أن يستمع لملايين الناس، ويرد عليهم في نفس الوقت، مثلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه، أنه يرد السلام على من سلم عليه.. وقد يكون أولئك المسلّمون بالملايين، وفي نفس الوقت..

وذلك لا يعني انشغال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتسليم، بل يعني أنه يمارس ذلك الدور مع غيره من الأدوار في نفس الوقت، مثلما تقوم أجهزتنا الحسية بالقيام بأعمالها من دون أن يطغى بعضها على بعض، ففي وقت واحد نسمع بآذاننا، ونرى بعيوننا، ونشم بأنوفنا،

__________

(1) نظم المتناثر 135 (حديث رقم 115)

(2) المستدرك (2/ 595)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (194)

ويمارس قلبنا وجميع أجهزتنا أدوارها بكل دقة من غير أن يطغى بعضها على بعض، أو يمنع بعضها بعضا.

وقد ورد في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم الأنبياء، وصلى بهم، وفي نفس الوقت رآهم في السموات، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (.. وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى عليه السلام قائم يصلى، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلى أشبه الناس به صاحبكم ـ يعني: نفسه ـ فحانت الصلاة فأممتهم) (1)

وعن ابن عباس قال: (فلما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد الأقصى قام يصلي، فالتفت، ثم التفت فإذا النبيون أجمعون يصلون معه) (2)

ب ـ التواصل المحدود

وهو التواصل الخاص بأهل اليمين، أو بالمؤمنين الذي لم ترق هممهم إلى همم المقربين والمنعم عليهم، وهؤلاء لهم تواصل أيضا مع أهل الحياة الدنيا، ولكنه محدود بقدر هممهم.

وقد أقر بهذا التواصل كل العلماء بما فيهم المنكرون للتوصل المؤثر، فقد ذكر ابن القيم إجماع السلف على ذلك، حيث قال: (والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به) (3)

ثم ساق أمثلة كثيرة عن ذلك منها ما رواه عن ابن أبى الدنيا في [كتاب القبور] في باب [معرفة الموتى بزيارة الأحياء]، ومنها أن ما رواه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم) (4)

__________

(1) رواه مسلم (172)

(2) رواه أحمد (4/ 167)

(3) المرجع السابق، ص 6.

(4) المرجع السابق، ص 6.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (195)

ومنها ما روي أن بعضهم سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا رسول الله! إنّ طريقي على الموتى، فهل من كلام أتكلم به إذا مررت عليهم؟)، فقال: (قل السّلام عليكم يا أهل القبور من المسلمين والمؤمنين، أنتم لنا سلف، ونحن لكم تبع، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون)، فقيل له: (يا رسول الله؛ يسمعون؟)، قال: (يسمعون، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا). قال: (يا أبا رزين؛ ألا ترضى أن يردّ عليك من الملائكة) (1)

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من أحد يمرّ على قبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلّم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام) (2)

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم وقف على مصعب بن عمير حين رجع من أحد، فوقف عليه وعلى أصحابه، فقال: (أشهد أنكم أحياء عند الله، فزوروهم، وسلّموا عليهم، فو الذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلا ردّوا عليه إلى يوم القيامة) (3)

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عنده، إلا استأنس وردّ عليه، حتى يقوم) (4)

ومنها ما رواه عن رجل من آل عاصم الجحدرى قال: رأيت عاصما الجحدرى في منامى بعد موته بسنتين فقلت: أليس قدمت قال: بلى قلت: فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزنى فنتلقى أخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم أرواحكم؟ قال: هيهات بليت

__________

(1) خرّجه العقيلي في (الضعفاء) (4/ 1191/ ترجمة: 1576 - الصميعي).

(2) قال ابن رجب: رواه ابن عبد البر، وقال عبد الحق الإشبيلي: إسناده صحيح. يشير إلى أن رواته كلهم ثقات، أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور، ص: 81.

(3) أخرجه الحاكم (2/ 248) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين) وتعقبه الذهبي بقوله: (كذا قال؛ وأنا أحسبه موضوعا، وقطن لم يرويا له، وعبد الأعلى لم يخرجا له).

(4) ابن أبي الدنيا في كتاب (القبور)، وكتاب (من عاش بعد الموت)، رقم (41)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (196)

الاجسام وإنما تتلاقى الأرواح، قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعم نعلم بها عشية الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس، قال: قلت: فكيف ذلك دون الأيام كلها قال لفضل يوم الجمعة وعظمته) (1)

وغيرها من النصوص الكثيرة التي تبين الصلة الوثيقة بين المؤمنين في البرزخ مع إخوانهم المؤمنين في الدنيا.

وهذه الصلة ـ كما تشير النصوص الكثيرة ـ ليست صلة عادية فقط، وإنما هي صلة مؤثرة من الجهتين، أي أن الموتى يمكنهم أن ينفعوا الأحياء، والأحياء يمكنهم أن ينفعوا الموتى.

أما نفع الموتى للأحياء، فيشير إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا) (2)

وأما انتفاع الموتى بالأحياء، فله أدلة كثيرة جدا، واختلفت الأمة فيه بين من يجعله محدودا، وفي طاعات محدودة جدا، ويمثله من يحاولون قطع صلة الأحياء بالموتى، ويؤولون كل النصوص الواردة في ذلك، وبين من يرى اتساع ذلك لكل الأعمال الصالحة.

وقد أشار ابن القيم إلى الأقوال الواردة في ذلك، فقال جوابا على سؤال يقول (هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعى الأحياء أم لا؟): (الجواب أنها تنتفع من سعى الأحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السنة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير، أحدهما ما تسبب إليه الميت في حياته، والثاني دعاء المسلمين له واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع ما الذي يصل من ثوابه هل ثواب الإنفاق أو ثواب العمل، فعند الجمهور يصل ثواب العمل

__________

(1) المرجع السابق، ص 6.

(2) قال في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (2/ 327): رواه الطبراني في الكبير والأوسط..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (197)

نفسه، وعند بعض الحنفية إنما يصل ثواب الإنفاق، واختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف وصولها وهو قول بعض أصحاب أبى حنيفة نص على هذا الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال قال قيل لأبى عبد الله الرجل يعمل الشيء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه قال أرجو أو قال الميت يصل إليه كل شيء من صدقة أو غيرها وقال أيضا اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات وقل هو الله أحد وقل اللهم إن فضله لأهل المقابر والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن ذلك لا يصل، وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شيء البتة لادعاء ولا غيره) (1)

وقال ابن قدامه رحمه الله: (وأي قربة فعلها، وجعل ثوابها للميت المسلم، نفعه ذلك، إن شاء الله، أما الدعاء، والاستغفار، والصدقة، وأداء الواجبات، فلا أعلم فيه خلافا، إذا كانت الواجبات، مما يدخله النيابة) (2)

وقال المحقق الحلي: (كل ما يفعله الحي من القُرَب يجوز أن يجعل ثوابها للميت، لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعمرو بن العاص: لو كان أبوك مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه، بلغه ذلك، ومن طريق الأصحاب ما رواه عمر بن يزيد عن الإمام الصادق: يُصَلَّى عن الميت؟ فقال: (نعم، حتى أنه يكون في ضيق فيُوسع عليه)، ويقال له: (خُفف عنك بصلاة أخيك عنك)، وقال: (من عمل من المسلمين عن ميت عملاً صالحاً، أضعف له أجره، ونفع الله به الميت) (3)

وقد حاول الشهيد الثاني في كتابه [ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة] جمع الأدلة

__________

(1) الروح (ص: 117)

(2) المغني (2/ 226)

(3) المعتبر (1/ 340)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (198)

الكثيرة على ذلك ردا على المخالفين، ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]

وهكذا استدل بما روي أن امرأة من جُهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إن أُمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحجُّ عنها؟ قال: (نعم، حُجِّي عنها، أرأيت لو كان على أمّك دينٌ، أكنتِ قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) (1)

ومثله ما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: (نَعَمْ) (2)

وروى عن الإمام الصادق قوله: (إن الميت يفرح بالترحم عليه والإستغفار له، كما يفرح الحي بالهدية تهدى إليه)، وعنه قال: (ستة تلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له، ومصحف يخلفه، وغرس يغرسه، وصدقة ماء يجريه، وقليب يحفره، وسنة يؤخذ بها من بعده)، وقال: (من عمل من المسلمين عن ميت عملاً صالحاً، أضعف له أجره ونفع الله عز وجل به الميت) (3)

وروى أنه سئل: يصل إلى الميت الدعاء والصدقة والصلاة ونحو هذا؟ فقال: (نعم)، فقيل له: أو يعلم من صنع ذلك به؟ قال: نعم.. يكون مسخوطاً عليه، فيُرضى عنه)

__________

(1) رواه البخاري 2/ 656، حديث رقم (1754)، ومسلم 2/ 804، حديث رقم (1148)

(2) رواه البخاري (1388)، ومسلم (1004)

(3) الشيعة في أحكام الشريعة (2/ 66)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (199)

وروى عنه قوله: (إن الصلاة والصوم والصدقة والحج والعمرة، وكل عمل صالح، ينفع الميت. حتى أن الميت ليكون في ضيق فيوسع عليه، ويقال إن هذا بعمل ابنك فلان، وبعمل أخيك فلان، أخوه في الدين)

وروى عن الإمام الكاظم أنه سئل عن الرجل يحج ويعتمر ويصلي ويصوم ويتصدق عن والديه وذوي قرابته؟ قال: (لا بأس به، يؤجر فيما يصنع، وله أجر آخر بصلته قرابته)، فقيل له: وإن كان لا يرى ما أرى وهو ناصب؟ قال: (يخفف عنه بعض ما هو فيه)

وهذه الأحاديث والروايات تدل على مدى اتساع الرحمة الإلهية التي تجعل للميت الفرص الكثيرة التي تعوض عن كثير من التقصير الذي وقع فيه، وخاصة إن أوصى بذلك، أو ترك من الأولاد الصالحين من يقوم بذلك.

2 ـ البرزخ.. والانقطاع عن الحياة الدنيا

ورد في النصوص المقدسة ما يدل على ذلك الانقطاع الذي يعاقب به الحريصون على الحياة الدنيا، والذين أضاعوا دينهم بسببها، ويشير إليه من القرآن الكريم قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المطففين: 7 - 10]

والذي فسره ذلك الحديث الذي يصف ما يحصل للظلمة والكفار عند موتهم، ففيه قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (200)

قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى) (1)

وعن الإمام الصادق أنه سئل عن أرواح المشركين فقال: (في النار يعذبون يقولون: ربنا لا تقم لنا الساعة، ولا تنجز لنا ما وعدتنا، ولا تلحق آخرنا بأولنا) (2)

وكما ذكرنا سابقا، فإن هذا لا نستطيع تعميمه على كل الأحوال، لأنه قد يكون من مقاصد العدالة والتربية والجزاء الإلهي أن يريه من الدنيا ما يؤدب به.

وقد روي في ذلك عن الإمام الصادق قوله: (إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب، ويستر عنه ما يكره. وإن الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحب. قال: ومنهم من يزور كل جمعة، ومنهم من يزور، على قدر عمله) (3)

وقال: (ما من مؤمن ولا كافر إلا وهو يأتي أهله عند زوال الشمس، فإذا رأى أهله يعملون بالصالحات، حمد الله على ذلك، وإذا رأى الكافر أهله يعملون بالصالحات كانت عليه حسرة) (4)

__________

(1) رواه أبو داود (4753)، وأحمد (4/ 287) (18557).

(2) الكافي (3/ 245)

(3) الكافي (3/ 230)

(4) الكافي (3/ 231)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (201)

الفصل الثالث

المعاد.. وتجليات العدالة

من أهم الحقائق الوجودية التي لا يمكن فهم النشأتين الأولى والأخرى إلا من خلالها ما يمكن أن نطلق عليه قانون [البدء والإعادة]، وهما قانونان متجليان في كل شيء، وينطلقان من كون الله تعالى [مبدئا معيدا]

فهذان الاسمان من أسماء الله الحسنى يحلان الإشكالات والعقد الكثيرة المرتبطة بحقائق هذه النشأة الدنيوية المبدئية البسيطة، وحقائق تلك النشأة الأخروية التي يتحقق فيها المعاد، بصورته المثالية، المستندة لتجليات الأسماء الحسنى.

وعدم فهم هذين الاسمين، والحقائق المرتبطة بهما، يجعل من المعاد وحقائقه وتجلياته المختلفة مجرد مظاهر متنافرة لا شيء يجمع بينها.

وحتى نبسط هذا المفهوم لعقولنا البسيطة مع الاحتفاظ بقدسية الله وتعاليه عن ضرب الأمثال، ومع بيان أن الأمثال لا يؤخذ بها من جميع النواحي، بل يكتفى فيها بالجهة التي ضرب من أجلها فقط، نذكر أنه لو أعطي الإنسان فرصتان.. فرصة نسميها البداية، وفرصة نسميها المعاد.

أما في فرصته الأولى، فتضطره الظروف لأن يسكن بلدة بعينها، ويكون له جيران، وتكون له وظيفة تبنى على أساس تكوين علمي معين.. ويكون له هوى لأطعمة معينة، أو غيرها، وقد يحصل له في هذه الفترة أمراض بسبب ذلك.. وقد يحصل له مشاكل بسبب تصرفات تصرفها.

وبعد أن تنتهي هذه الفرصة الأولى.. يقال له: منحناك فرصة أخرى.. ولحياة جديدة، تكون فيها بكامل صحتك ووعيك وعقلك.. وأنت فيها بالخيار بين أن تعيد نفس

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (202)

الحياة السابقة، أو تبدأ حياة جديدة، ومع جميع الخيارات التي تريد.

فمن البديهي لكل عاقل تتاح له هذه الفرصة أن يبني حياته الجديدة، وفق الدروس التي استفادها من حياته الأولى.. فإن كان له في فرصته الأولى، أو مبدئه أصدقاء خانوه، وآخرون وفوا له، فإنه لاشك سيختار في فرصته الثانية الأصدقاء الذين وفوا له، وكانوا متناسبين مع طبيعته..

وهكذا في اختياره لبيته وجيرانه ووظيفته وتخصصه الدراسي.. وهو في كل شيء، ومع كل قرار، يستفيد من كل ما فاته في فرصته السابقة.

بل إنه يتدارك صحته قبل أن يحل به المرض الذي حل به في فرصته الأولى، فيتجنب كل ما يسببه، ويتجنب معه كل الأسباب التي جعلته يقع في مشاكل مع محيطه أو غيره.

والخلاصة أن حياته الثانية ستكون أكثر مثالية وجمالا من حياته الأولى، لأنه استطاع أن يستفيد من كل تجاربه السابقة.

بناء على هذا، فإن اسم الله تعالى [المعيد]، يعني وضع حياة جديدة للذين يريد إعادتهم، تتشكل وفق رغباتهم وأهوائهم والمباني التي بنيت عليها نفوسهم، والتي أسسوها بمحض رغبتهم وحريتهم طيلة الفترة التي أتيحت لهم فيها كل الفرص.

وعندما نعود للقرآن الكريم ـ بصحبة هذا المثال التقريبي ـ لتأمل ما ورد فيه حول هذين الاسمين، أو حول هذا الاسم المركب، والقوانين المرتبطة به، نجد هذا المعنى واضحا جليا.

ومن الأمثلة على ذلك، ما ورد في سورة البروج، فقد ذكر فيها هذان الاسمان مرتبطان بفعل الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج: 13]، وكأنهما تعللان سر تلك الفتنة التي حصلت للمؤمنين، والبطش الشديد الذي حل بهم من طرف أولئك الطغاة المستبدين..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (203)

وكأنها تذكر بأن من مقتضيات البداية أن تكون بذلك الشكل لتتميز الأنواع، ويختار كل صنف ما يشتهي، وبعد الإعادة يتحقق التمييز، وينال كل صنف ما أسس عليه شخصيته في حياته الأولى.

ولذلك يمكننا أن نقرأ هذه الآيات الكريمة، لنرى فيها العزاء الإلهي للمؤمنين، والتحذير الإلهي للمستبدين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج: 10 - 17]

وهذا المعنى نراه في قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ الله حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 4]، فالآية الكريمة واضحة في بيان سر الإعادة، وأنه إعطاء كل شيء ما يستحقه مما يتناسب مع طبيعته.

وانطلاقا من هذا المعنى فإن كل الثغرات التي تكون في المبدأ تُصلح في المعاد، ولهذا سمى الله تعالى هذه الحياة بالحياة الدنيا، باعتبارها مجرد بداية، أو مجرد فرصة للجميع، ليختاروا فيها ما يتناسب مع طبائعهم.

وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بشاة ميتة شائلة برجلها، فقال: (أترون هذه هينة على صاحبها؟ فوالذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها، ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها قطرة أبدا) (1)

وروي عن الإمام الصادق أنه قال: (لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل

__________

(1) سنن ابن ماجه 2/ 1376 ح (4110).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (204)

ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الاعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها وكانت دنياهم أقل عندهم مما يطؤونه بأرجلهم، ولنعموا بمعرفة الله عز وجل وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله، إن معرفة الله عز وجل انس من كل وحشة، وصاحب من كل وحدة، ونور من كل ظلمة، وقوة من كل ضعف، وشفاء من كل سقم) (1)

وقبل ذلك وصف الله تعالى الدنيا بالهوان، وأنها مجرد دار للتمييز، ولذلك يختلط فيها الخبيث بالطيب، كما في قوله تعالى مقارنا بين الحياة الدنيا، أو حياة المبدأ، والحياة الآخرة، أو حياة المعاد: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]

وقال مخاطبا الذين تثاقلوا إلى الحياة الدنيا، جوابا على اعتراضهم الذي عبروا عنه بقولهم: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: 77]: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]

وقال مقارنا بين كلا الحياتين: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]

بل إنه اعتبر الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية، لا هذه الحياة الدنيا، فقال: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]

ولهذا فإن المعاملة في المعاد، ستكون وفق الخصائص التي اكتسبها الإنسان، أو شكل منها طبيعته في المبدأ، قال تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ

__________

(1) الكافي، ح 347: 8/ 202.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (205)

نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51]

وبناء على هذا، فإن كل المواقف التي ذُكرت في النصوص المقدسة حول المعاد لا يقصد منها سوى تمييز الأصناف بعضها على بعض، بحيث ينزل كل صنف المحل المناسب لطبيعته.

وقد عبر هذا المعنى صدر المتألهين بقوله في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]: (إن لجميع الموجودات الطبيعية حركة جوهرية ذاتية، وتحولاً من صورة إلى صورة حتى يقع لها الرجوع إلى الله بعد صيرورتها غير نفسها، بحسب الصورة السابقة، وتحولها إلى نشأة أخرى، ولو كانت هذه الطبائع ثابتة الجوهرية مستمرة الهوية، لم تنتقل هذه الدار إلى دار الآخرة، ولم تتبدل الأرض غير الأرض، ولا السماوات غير السماوات) (1)

وهذا يعني أن الإنسان في مرحلته الأولى أتيح له أن يرى أنماطا مختلفة من الناس، ومظاهر مختلفة من الحياة، ولكنه ـ بمحض رغبته ـ اختار نمطا معينا، وحياة معينة، ولذلك كان من مقتضيات العدالة والرحمة الإلهية، وقوانين المبدأ والمعاد، أن يوفر له عند إعادته كل ما كان يميل إليه، ويرغب فيه.

ولهذا الإشارة بقوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} (التكوير:7)، وقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات: 22)، وقوله: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} (الفرقان:13)

فقد ورد في تفسير هذه الآيات أن المراد منه الجمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف (2)، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير الآية: (يقرن كل رجل مع كل

__________

(1) أسرار الآيات، ص 86.

(2) انظر هذه النصوص في: الدر المنثور:8/ 429.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (206)

قوم كانوا يعملون كعمله)

وقال ابن عباس: (ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة، السابقون زوج - يعني صنفا - وأصحاب اليمين زوج، وأصحاب الشمال زوج)

وعنه أيضا: (قرن كل شكل بشكله من أهل الجنة وأهل النار، فيضم المبرز في الطاعة إلى مثله، والمتوسط إلى مثله، وأهل المعصية إلى مثله)

وقال ابن مسعود: (لو أن رجلاً قام بين الركن والمقام يعبد الله سبعين سنة لبعثه الله يوم القيامة مع من يحب)

وقد بينت النصوص علة هذا التفريق بقوله تعالى: {لِيَمِيزَ الله الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (لأنفال:37)

فالبشر في ذلك مثل الشوائب التي تختلط بالمعادن النفيسة، فإنها بعد عرضها على كير الامتحان يميز الذهب، فيوضع في أعناق الحسان، ويرمى بالشوائب إلى القمامات.

وبما أن ذلك التمييز يحتاج إلى أدوات تمييز، وموازين، ومقاييس تميز بها المعادن النفيسة ومراتبها، والمعادن الخسيسة ومراتبها، وخبراء يشرفون على كل ذلك، فقد وضع الله تعالى لدار المعاد كذلك من الموازين ما تقتضيه العدالة الإلهية، ولو أن الله تعالى قادر على التمييز بينهم من دون حاجة لتلك الموازين.. ولكن عدالة الله تأبى إلا أن تتعامل مع العباد وفق السنن، لتقيم الحجج عليهم.

وقد كان من مقتضيات تلك العدالة ذلك التمايز العظيم بين الخلق، والقائم على أساس صورة النفس التي تشكلت في الدنيا، ونوع المعدن الذي تمخضت عنه الأنا، يقول الغزالي: (الناس في الآخرة ينقسمون أصنافاً وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتاً لا يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها ولا تفارق

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (207)

الآخرة في هذا المعنى أصلاً البتة، فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له. وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها) (1)

وقد أشار إلى هذا التمايز الشديد قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الاسراء:21) أي (ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من تفاوتهم الدنيا، فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم من يكون في الدرجات العلى ونعيمها وسرورها، ثم أهل الدركات يتفاتون فيما هم فيه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون)

ولكن هذا التمييز يحتاج إلى محال كثيرة للتفريق بين الأصناف بعضها عن بعض، وسنحاول في هذا الفصل التعرف على هذه المحال، وعلاقتها بالعدل الإلهي، ذلك أن العدل يقتضي أن يوضع كل شيء في محله المناسب، ولا يجازى إلا بما يستحق.

وقد رأينا من خلال استقراء النصوص أن هناك محلين كبيرين لذلك التمييز:

أولهما ما يطلق عليه النشر والحشر: وهو ما ورد في النصوص الكثيرة من الأهوال التي يراها البشر عند قيام القيامة، لتثبت لهم من قدرة الله ما كانوا يجحدونه، ويروا بأعينهم الأدلة الحسية التي كانوا يطالبون بها.

ثانيهما الحساب والموازين والكتب والسراط وغيرها: والتي تعرض فيها الأعمال، وتقاس بالموازين المختلفة، حتى يميز بين البشر، وفق أعمالهم، وأحوالهم، ومواقفهم، وتوجهاتهم.

وسنشرح هذه المعاني، والنصوص المقدسة التي تدل عليها من خلال المباحث التالية:

__________

(1) إحياء علوم الدين، (4/ 24)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (208)

أولا ـ النشر والحشر.. وتجليات العدالة

بعد تلك الفترة الطويلة التي يمر بها أهل البرزخ، والتي يتلقون فيها دروسا كثيرة، ومن مختلف الأنواع، ومن أصناف مختلفين من الملائكة، كل حسب تخصصه، تقوم القيامة، وتقع الواقعة، ويفترق الناس ثلاث فرق كبرى، نص عليها قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 1 - 11]

وهذه الآيات الكريمة تشير إلى بدء نشأة أخرى بعد انتهاء تلك النشأة بقسميها [الدنيوي والبرزخي]، يصنف الخلق على أساسها إلى أصنافهم الحقيقية، وفق موازين الله، لا وفق الموازين التي وضعوها بأهوائهم.

وقد ذكر القرآن الكريم أن من أهم خصائص هذه المرحلة أنها [خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ]، فهي تخفض المرتفعين المستكبرين، وتريهم صورهم الحقيقية التي كانوا يسترونها بكبريائهم وطغيانهم.

وفي نفس الوقت ترفع أولئك البسطاء الذين خفضهم الظلمة، واحتقرهم الناس، لتريهم صورهم الحقيقية الممتلئة بالجمال، والذي كان مغطى بذلك الوشاح الدنيوي الذي حال بين البشر ورؤيتهم.

وقد ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى الكثير من القوانين التي تحكم ذلك العالم الجديد، والذي لن يكون خاضعا لما نعرفه في عالمنا من قوانين الفيزياء والاجتماع وغيرها..

حتى صور البشر في ذلك العالم لن تكون هي نفسها صورهم اليوم.. ذلك أن الحكم هناك للأعمال المتجسدة في كل شيء، حتى في الصور، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وُجُوهٌ

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (209)

يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22 - 25]

وقال في موضع آخر: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} [عبس: 38 - 40]

وقال في موضع آخر: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)} [الغاشية: 1، 2]، وفي مقابلها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)} [الغاشية: 8 - 10]

وقال في موضع آخر: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106، 107]

ولذلك فإن كل معايير الجمال التي نراها في هذه الدنيا ترتفع هناك، حيث يصبح جمال الخُلق هو المؤثر في جمال الخلقة؛ فمن كان أحسن الناس خُلقا في الدنيا، فهو ملك جمال ذلك العالم، أما من عداه، فهو ممتلئ بالكدورة والغشاوة والغبرة.. لأنه انشغل بجسده عن روحه، وبقالبه عن قلبه.. ولذلك رأى وجهه هناك بصورته الحقيقية التي كان يسترها في الدنيا بألوان الطلاء.

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن الأمر لا يرتبط فقط بالألوان، وإنما يرتبط بالقوالب الجسمية أيضا، تلك القوالب التي أشار إليها قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5]، وقوله: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34]

فقد ورد في الكثير من الأحاديث بيان ذلك، ووصف عجائب الصور التي يتحول

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (210)

إليها الظلمة والمجرمون بسبب جرائمهم.. ففي الحديث في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34]، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد أن رأى استغرابهم في ذلك وسؤالهم عنه ـ: (أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة) (1)

وقد علق ابن حجر على هذا الحديث بقوله ـ ردا على الذين حاولوا تأويله عن ظاهره ـ (قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أليس الذي أمشاه) ظاهر في أن المراد بالمشي حقيقته؛ فلذلك استغربوا حتى سألوا عن كيفيته) (2)

ثم علل ذلك بقوله: (والحكمة في حشر الكافر على وجهه: أنه عوقب على عدم السجود لله في الدنيا، بأن يسحب على وجهه في القيامة؛ إظهارا لهوانه، بحيث صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات) (3)

ومثله ذكر ناصر مكارم الشيرازي الأقوال الكثيرة في المسألة، ورجح ظاهر النص القرآني، فقال: (أقوال كثيرة بين المفسّرين في ما هو المقصود بحشر هذه الفئة من المجرمين على وجوههم، بعضهم فسّروا ذلك بنفس معناه الحقيقي، وقالوا: إنّ ملائكة العذاب يسحبونهم إلى جهنم وهم ملقَون على وجوههم إلى الأرض، وهذا علامة على مهانتهم وذلتهم، لأنّهم كانوا في الدنيا في غاية الكبر والغرور والإستهانة بخلق الله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تجسيد لضلالتهم في هذا العالم، ذلك أن من يسحبونه بهذه الصورة لا يرى ما أمامه بأي شكل، وغافل عما حوله، والبعض الآخر أخذوا بمعناه الكنائي، فقالوا تارة هذه الجملة كناية عن تعلق قلوب أولئك بالدنيا، فهم يسحبون إلى جهنم لأن وجوه قلوبهم

__________

(1) رواه البخاري (6158)، ومسلم (7265)

(2) فتح الباري) (11/ 382)

(3) فتح الباري) (11/ 382)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (211)

لا زالت مرتبطة بالدنيا وقالوا تارةً اُخرى: إنها كناية مستعملة في الأدب العربي حيث يقولون: فلان مرَّ على وجهه، يعني أنّه لم يكن يدري أين يذهب.. لكن الواضح أنّنا مع عدم الدليل على المعنى الكنائي، لابدّ من حملها على المعنى الأوّل، وهو المعنى الحقيقي) (1)

وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صفة خلقة المستكبرين الظلمة، فقال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر (2) في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان) (3)، وفي رواية: (يبعث الله يوم القيامة ناساً في صور الذر يطؤهم الناس بأقدامهم، فيقال: ما هؤلاء في صور الذر؟ فيقال: هؤلاء المتكبرون في الدنيا) (4)، وفي رواية: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال؛ يغشاهم الذل من كل مكان؛ يساقون إلى سجن في جهنم يقال له: (بولس)، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار: طينة الخبال) (5)

وهذا يتناسب تماما مع ذلك الخلق الذي شكلوا منه نفوسهم في الدنيا، وهو ما جعلهم يرون لها من الشرف والفضل ما ليس لغيرها؛ ولذلك كانوا يطالبون غيرهم أن ينحنوا لهم، ويذلوا بين أيديهم، ولهذا جازاهم الله بكأس الذل التي جرعوها لخلق الله، ليذوقوها، ويتأدبوا بتذوقها.

وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هيئة أولئك الذين يذلون أنفسهم في الدنيا من غير حاجة، فيقفون بين يدي الأكابر والأصاغر يتسولون، ويمرغون كرامتهم، وربما يبيعون

__________

(1) تفسير الأمثل مكارم الشيرازي (11/ 250)

(2) قدرٌ ضئيل جدًّا، بالغ الصِّغر، مُثِّل بالنملة الصغيرة أو برأس النملة أو الهباءَة المنبثّة في الهواء ويمكن رؤيتها في شعاع الشّمس الداخل من النافذة.

(3) رواه الترمذي (2492)، وأحمد (2/ 179) (6677)، والبخاري في (الأدب المفرد) (557). قال الترمذي: حسن صحيح

(4) رواه البزار كما في (مجمع الزوائد) (10/ 337)

(5) البخاري في الأدب المفرد، والترمذي وحسنه، انظر: المشكاة (5112).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (212)

دينهم بسبب ذلك، فقال: (ما يزال الرجل يسأل الناس؛ حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم) (1)، وقال: (من سأل وله ما يغنيه؛ جاءت خموشاً أو كدوحاً في وجهه يوم القيامة) (2)، وقال: (لا يزال العبد يسأل وهو غني؛ حتى يخلق وجهه، فلا يكون له عند الله وجه) (3)

وقد فسر الحديث بأنه (يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطاً لا قدر له ولا جاه، أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه، لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء، لكونه أذل وجهه بالسؤال، أو أنه يبعث ووجهه عظم كله؛ فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به)، لكن الحفاظ على ظاهره هو الأصل الذي تدل عليه كل الأدلة.

وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هيئة المختلسين والمرتشين واللصوص، والذين كانوا ينصبون في الدنيا من المحامين من يخرجهم من جرائمهم كما تخرج الشعرة من العجين، لكنهم في الدار الآخرة لا يملكون ذلك، لأن العدالة المطلقة هي التي تحكم ذلك العالم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء، فينادي: يا محمد، يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملا له رغاء، فيقول: يا محمد، يا محمد. فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا له حمحمة، ينادي: يا محمد، يا محمد. فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك. ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعا من أدم، ينادي: يا محمد، يا محمد. فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك) (4)

__________

(1) رواه البخاري (1474)، ومسلم (1040)

(2) رواه أبو داود (1626)، والترمذي (650)، والنسائي (5/ 97)، وابن ماجه (1502)، وأحمد (1/ 388) (3675)، والحاكم (1/ 565)، والبيهقي (7/ 24) (13586)

(3) رواه الطبراني (20/ 333) (17546)، والبزار كما في (مجمع الزوائد) (3/ 99)

(4) تفسير الطبري (7/ 358).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (213)

وفي حديث آخر عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر فقال: (ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي. أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر)، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ثم قال: (اللهم هل بلغت) ثلاثا (1)

وهو ما صرح به قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]

هذه مجرد نماذج عن بعض الصور والمشاهد التي تدل على حقيقة ذلك العالم، وكونه مبنيا على صورة النفوس التي تشكلت في الدنيا، أو في مرحلة البرزخ.

ونفس الشيء ينطبق على القوانين والظواهر الطبيعية، حيث ستكون مختلفة تماما عما نراه من قوانين وظواهر، ذلك أنها لا تكون عامة، بل ترتبط بكل فرد، حسب طبيعته، والعمل الذي قام به في الدنيا.

ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في العرق الشديد الذي يصيب الخلائق، والذي يتفاوت بحسب أعمالهم، مع أن قوانين الدنيا لا تقبل ذلك، فالحر إن نزل أصاب الجميع، لكنه هناك يصيبهم بحسب أعمالهم.

ففي الحديث وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار الميل.. فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق. فمنهم من يكون إلى كعبيه. ومنهم من يكون إلى ركبتيه. ومنهم من يكون إلى حقويه. ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً) وأشار

__________

(1) صحيح البخاري برقم (2597، 7174) وصحيح مسلم برقم (1832).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (214)

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده إلى فيه) (1)

وهذا لا يعني أن المراد بالشمس في هذا الحديث هي هذه الشمس التي نعرفها، وإنما هو مثل تقريبي، فالكون حينذاك يختلف تماما عن الصورة التي نراه بها اليوم، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]

وفي نفس الوقت الذي يمتلئ فيه أولئك بالعرق والحر الشديد، يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أحوال المؤمنين الصادقين الذين تحملوا حر المجاهدات في الدنيا، ولذلك جازاهم الله تعالى بالظل الظليل في الآخرة، قال صلى الله عليه وآله وسلم في الترغيب في ذلك الظل: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه) (2)

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم: قال: (الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سألوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم) (3)

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله في ظله) (4)

وهكذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن دور الصدقة في حماية صاحبها من ذلك الحر الشديد، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الرجل فى ظل صدقته حتى يقضى بين الناس) (5)

__________

(1) رواه مسلم (2864)

(2) رواه البخاري (660)، مسلم (1031).

(3) رواه أحمد رقم 65 - 67..

(4) صحيح مسلم (3006).

(5) رواه القضاعى (1/ 94، رقم 103)، وأبو يعلى (3/ 300، رقم 1766)، والديلمى (2/ 285، رقم 3316)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (215)

وهكذا ورد في النصوص ما يدل على أن كل القوانين الاجتماعية التي نعرفها في الدنيا، تنهار هناك، حيث {يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37]

بل إن الأمر أخطر من ذلك كله، فقد ورد في النصوص المقدسة ما يذكر تلك المشاهد التي تصور كيف يساق المستبدون الظلمة، وأمام الناس جميعا، بالأغلال والسلاسل، كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِالله الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة: 25 - 37]

في نفس الوقت الذي يجد فيه المؤمنون كل ألوان الراحة والسعادة والسرور، حتى أن ذلك الموقف الطويل يخفف على المؤمن؛ فيمر عليه كما تمر الصلاة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)، فقيل: ما أطول هذا اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا) (1)، وفي رواية: (يهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب)، وفي رواية: (إن الله ليخفف على من يشاء من عباده طوله كوقت صلاة مفروضة)

وهكذا نرى أن الحكم في كل شيء في ذلك الموقف للعمل، فالزمان والمكان والصور وكل شيء مرتبط بتلك التشكلات التي تشكلت بها النفوس في الدنيا.

__________

(1) رواه أبو يعلى والبيهقي في الشعب، انظر: المغني عن حمل الأسفار (ص: 1901)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (216)

بناء على هذا نحاول في هذا المبحث تتبع الأحداث الكبرى التي تحدث ذلك اليوم ابتداء من النفخ بالصور، وانتهاء بحشر الخلائق للحساب.

1 ـ النفخ في الصور

وقد ورد الحديث عنه في مواضع متعددة من القرآن الكريم (1)، وبصيغ مختلفة، وكلها تقرب الحقيقة التي لا يمكن تصورها ولا تخيل كيفيتها، وهي تدل على أن ذلك الحدث العظيم ستنتهي به النشأة الأولى، وتبدأ به النشأة الثانية، ولذلك ورد في القرآن الكريم ذكر نفختين في الصور، إحداهما تعلن نهاية النشأة الأولى، والثانية تعلن بداية النشأة الثانية، بشكلها الجديد، وقوانينها الجديدة..

والأمر لا يقتصر على مجرد الإعلان، وإنما يتعداه إلى الدور التكويني، أي أن النفخة الأولى تكون سببا في نهاية النشأة التكوينية الأولى، والنفخة الثانية تكون سببا في نهاية النشأة التكوينية الثانية، كما يشير إلى ذلك كون النفخ في طين الإنسان سببا في تشكل الإنسان، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28، 29]

وكما أشار إليه ما كان يفعله المسيح عليه السلام من النفخ في الطين، فيتحول إلى طير بإذن الله، كما قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 49]

وهكذا، فإن لتينك النفختين أثرهما التكويني سواء بالصعق والإماتة، أو بالإحياء من جديد، وفق القوانين الجديدة..

والصعق والإماتة لا تعنيان إعدام الموجودات، كما عرفنا في النشأة الأولى، وإنما تعني

__________

(1) ورد الحديث عن (النفخ في الصور) في أكثر من عشر آيات قرآنية هي: هي: (الكهف ـ 99) و(المؤمنون ـ (101)، (يس ـ 51)، (الزمر ـ 68)، (ق ـ 20)، (الحاقة ـ 13)، (الأنعام ـ 73)، (طه ـ 102)، (النمل ـ 87)، (النبأ ـ 18)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (217)

التحول إلى هيئة أخرى متناسبة مع الوضع الجديد، وقوانينه.

ومع ما ورد في القرآن الكريم حول النفخ في الصور، وردت كذلك الكثير من الأحاديث والروايات، والتي نرى أنها جميعا محاولة لتقريب صورة الحدث لتلك المجتمعات البدوية البسيطة، والتي لا يمكنها أن تستوعب القوانين التي يسير عليها الكون، ولذلك خوطبت على قدر عقولها.

ولذلك سنكتفي هنا بما ورد في القرآن الكريم، ففيه الإشارات الكثيرة الكافية، لتبيين أهمية ذلك الحدث وقيمته، بل وعلاقته بالعدالة أيضا.

ومن تلك الآيات قوله تعالى في بيان الغرض من كلا النفختين: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]

وهذا يدل على انحصار عدد النفخات في اثنتين، لا كما يذكره البعض من أنها ثلاثة بناء على ما فهموه من قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87]، حيث توهموا أنها نفخة أخرى عدا نفخة الصعق، ونفخة الإحياء.

وذهب آخرون إلى أنها أربع نفخات، بناء على فهمهم لقوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53]، ولذلك ذكروا أن الغرض من هذه النفخة جمع الخلق وإحضارهم، وأنها نفخة أخرى بالإضافة للنفخات السابقة.

ولا مانع من أن يكون هناك هذه الصيحة المرتبطة بالجمع والإحضار، ولكنها لا تعتبر من النفخ في الصور، لأن القرآن الكريم، وفي مواضع أخرى حدد العدد باثنتين، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات: 6 - 9]

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (218)

والخلاصة من كل هذا أن تلك النفخة تشبه ذلك الجرس الذي يدق لنهاية الحصص الدراسية، والذي تتخلله بعض الراحة، ليدق من جديد، لتبدأ حصص أخرى، أو هو نهاية هذه النشأة بقوانينها، وبداية النشأة الجديدة بقوانينها الجديدة، والتي يقر العلم الحديث إمكانيتها.

فكل العلماء الآن ـ على خلاف الماضين الذين كانوا يتوهمون للكون صورة واحدة ـ يرون أن للكون صورا كثيرة جدا لا نهاية لها، ولكل كون قوانينه الخاصة به، وطبعا هم يذكرون هذا من باب الاحتمال، لا من باب الواقع.

ولذلك ما المانع أن ينشأ كون جديد، بناء على معطيات جديدة، ويكون له من التنظيم والدقة ما يفوق هذا الكون بكثير؟

وهذا ما تدل عليه النصوص المقدسة، فالقرآن الكريم مع إشاراته الكثيرة إلى دقة هذا الكون ونظامه وجماله، وكونه مرآة لتجلي الحقائق لجميع العقلاء، لكنه في نفس الوقت يذكر أن النشأة الأخرى أكثر دلالة على ذلك كله، لأنها مبنية على القدرة، بخلاف هذه النشأة المبنية على الحكمة، لأنها من مقتضيات الابتلاء والاختبار.

وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73

فالآية الكريمة تشير إلى أنه مع كون الله تعالى مالكا وملكا في كل الأوقات، وعلى كل الأكوان، إلا أن ذلك يتجلى بوضوح عند النفخ في الصور، وعند النشأة الثانية، وقد قال السبحاني تعليقا عليها: (حكومة الله على عالم الوجود ومالكيته له قائمتان منذ بداية الخلق حتى نهايته وفي يوم القيامة، ولا يختص ذلك بيوم القيامة وحده، لكن هناك عوامل وأسباباً تؤثر في مسار هذه الدنيا وتقدمها نحو أهدافها، لذلك قد يغفل الإِنسان أحياناً عن وجود

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (219)

الله وراء هذه الأسباب والعوامل، أمّا في ذلك اليوم الذي تتعطل فيه جميع الأسباب والعوامل، فإِنّ حكومة الله ومالكيته تكونان أجلى وأوضح من أي وقت سابق) (1)

ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 15، 16]

وهذا يدل على أن الفزع الذي يصيب الخلائق لا يرتبط بالمؤمنين الذين كانوا يعلمون، ويوقنون بقدرة الله المطلقة، وإنما يفزع له من لم يكن يؤمن بذلك، كما قال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 8 - 10]

وبذلك فإن الاستثناء الوارد في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] خاص بأولئك المؤمنين الموقنين الذين لا يدهشهم ما يرونه من مظاهر القدرة الإلهية، لأنهم كانوا أصلا موقنين بها، بل ربما يكون ذلك مدعاة لسعادتهم وفرحهم (2).

وقد قال الغزالي مشيرا إلى هذا المعنى: (واذا انكشفت الغطاء عن أعين الغافلين؛ فشاهدوا الأمر كذلك، سمعوا عند ذلك نداء المنادي {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}

__________

(1) تفسير الأمثل، (4/ 340)

(2) ذكر العلماء أقوالا كثيرة في المستثنين من الصعقة، وقد جمعها ابن حجر في عشرة أقوال، فقال [فتح الباري (11/ 320)]: (وحاصل ما جاء في ذلك عشرة أقوال: الأول: أنهم الموتى كلهم لكونهم لا إحساس لهم.. الثاني: هم الشهداء.. الثالث: الأنبياء والى ذلك جنح البيهقي.. قال ووجهه عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء، وقد جوز النبي (أن يكون موسى ممن استثنى الله.. الرابع: قال يحيى بن سلام في تفسيره: بلغني أن آخر من يبقى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.. الخامس: يمكن أن يؤخذ مما في الرابع.. السادس: الأربعة المذكورون وحملة العرش وقع ذلك في حديث أبي هريرة الطويل.. وسنده ضعيف مضطرب.. السابع: موسى وحده أخرجه الطبري بسند ضعيف.. الثامن: الولدان الذين في الجنة والحور العين.. التاسع: هم وخزان الجنة والنار وما فيها من الحيات والعقارب.. العاشر: الملائكة كلهم جزم به أبو محمد بن حزم.. قال البيهقي: استضعف بعض أهل النظر أكثر هذه الأقوال)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (220)

[غافر: 16]، ولقد كان الملك لله الواحد القهار كل يوم، لا ذلك اليوم على الخصوص، ولكن الغافلين لا يسمعون هذا النداء إلا ذلك اليوم؛ فهو نبأ عما يتجدد للغافلين من كشف الأحوال حيث لا ينفعهم الكشف؛ فنعوذ بالله الحليم الكريم من الجهل والعمى، فإنه أصل أسباب الهلاك) (1)

ويشير إلى هذا، بل يصرح به قوله تعالى في ذكر السابقين: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 101 - 103]

وقد ورد في الحديث أنه لما عاد رسول الله من تبوك إلى المدنية المنورة، قدم إليه عمرو بن معدي كرب فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أسلم يا عمرو يؤمنك الله من الفزع الأكبر)، قال: يا محمد وما الفزع الأكبر؟ فإني لا أفزع فقال: (يا عمرو إنه ليس كما تظن وتحسب، إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة فلا يبقى ميت إلا نشر ولا حي إلا مات إلا ما شاء الله، ثم يصاح بهم صيحة أخرى فينشر من مات ويصفون جميعا، وتنشق السماء، وتهد الأرض، وتخر الجبال هدا، وترمى النار بمثل الجبال شررا فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبه وذكر دينه وشغل بنفسه إلا ما شاء الله، فأين أنت يا عمرو من هذا؟ قال: ألا إني أسمع أمرا عظيما.، فآمن بالله ورسوله، وآمن معه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهم) (2)

ولذلك فإن من مظاهر العدالة المرتبطة بالنفخ في الصور ذلك الاستثناء، لأن الله تعالى أرحم من أن يصيب عباده الصالحين المقربين بالفزع، وكيف يصيبهم به، وهم كانوا يقرون له بذلك قبل أن يروه، ويعلمون أنه صاحب القدرة المطلقة، وأنه لا يعجزه شيء في

__________

(1) إحياء علوم الدين (4/ 90)

(2) بحار الأنوار (7/ 110)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (221)

الأرض، ولا في السماء.

بعد هذا، وبناء على أن من أغراض هذا الكتاب تقريب المعارف المرتبطة بالمعاد إلى العقول، ونفي الشبهات التي تثار حوله، فإنا سنذكر هنا بعض الصور التقريبية للنفخ في الصور، والتي تساهم لا في كشف حقيقته، فذلك مستحيل، وإنما في توضيحه وتقريبه ونفي الشبهات عنه.

فالنفخ في الصور، قد يكون مرتبطا بالصوت، وقد يكون مرتبطا بالصور، وقد يكون تأثيرا في الكون جميعا، مثلما نفعل عندما نضع تيارا كهربائيا عاليا على مساحة معدنية معينة، وإذا بها تهتز جميعا، وقد يكون على شكل التأثير الذي يطلق عليه [الحرب الالكترونية]، وغيرها من الأشكال الكثيرة التي لا نستطيع حصرها.

وقد ذكر بعض المهتمين بربط الحقائق القرآنية بحقائق العلم بعض ما يقرب ذلك، مستندا إلى ما ورد في القرآن الكريم من إهلاك الأمم بالصيحات، كما قال تعالى مخبرا عما حصل لثمود: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 67]، وقال مخبرا عما حصل لأهل مدين: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 94، 95]، وقال عما حصل لقوم لوط: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 73، 74]، وقال مخبرا عن أنواع الهلاك التي أصابت الأمم الجاحدة لأنبيائها: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]

وبناء على هذا، رأى أن هذه الصيحة نوع من الأسلحة الصوتية، التي دل العلم على

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (222)

أن لها تأثيرها الكبير، وإن لم تتوصل التقنية العلمية بعد إلى اختراعها.

يقول في ذلك: (هناك علاقة بين الصوت والصعق، لأن الصوت المرتفع جداً يملك قوة تدميرية، ويمكن أن يحرق أكثر من النار نفسها، والعلماء حتى اليوم يحاولون الحصول على صوت يكون له أثر تدميري، ولكن تجاربهم لا تزال محدودة، لأن المشكلة في تصميم الجهاز الذي يصدر هذا الصوت) (1)

ثم بين علاقة الصوت بالبوق، فقال: (يقول الباحثون في هذا المجال إن أفضل طريقة لتوليد أخطر أنواع الذبذبات الصوتية الفعالة والشديدة، هي أن نولد الصوت من خلال ما يشبه البوق على شكل حلزون هوائي، وهو جهازا يشبه القرن، لأن هذه الطريقة ستولد الموجات الصوتية ذات الترددات تحت الصوتية، والتي تعتبر الأخطر على الإنسان والحيوان والجماد) (2)

وبين الأثر الإيجابي للصوت في بعث الحياة وتنشيطها، فقال: (للصوت تأثيرات كثيرة، فقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن كل شيء في الكون له تردده الخاص به، ويسمى الرنين الطبيعي، فعندما نعرض هذا الجسم لتردد صوتي محدد يساوي الرنين الطبيعي لهذا الجسم فإنه يبدأ بالاهتزاز والتجاوب. ولذلك فإن الترددات الصوتية إذا كانت ذات مجال ترددي واسع سوف تستجيب لها كل الموجودات على الأرض.. وإذا علمنا أن للصوت تأثيرات على الخلايا الحية، فالخلية تصدر ترددات صوتية وتتأثر بالترددات الصوتية، والترددات الصوتية تؤثر على نشاط الخلايا فتكون سبباً في شفائها.. كذلك للصوت قدرات عجيبة على تدمير الخلايا السرطانية، وبنفس الوقت يمكن للذبذبات الصوتية أن

__________

(1) انظر مقالا بعنوان: النفخ في الصور: حقيقة علمية وقرآنية، المهندس عبد الدائم كحيل، موقع أسرار الإعجاز العلمي..

(2) المرجع السابق.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (223)

تطيل عمر الخلية وتنشطها وتجعلها أكثر حيوية) (1)

ونقل عن بعض الباحثين من أمثال الفرنسي [فابيان]، (أن للصوت قدرة على تفجير الخلايا السرطانية، وبنفس الوقت قدرة على تنشيط الخلايا وإعادة الحيوية والطاقة لها) (2)

طبعا، وكما هو ظاهر، فنحن لم ننقل هذه النصوص لتصوير ما سيحصل بالضبط، فذلك مستحيل، وإنما هو محاولة تقريبية لصد تلك الشبه التي ينشرها أولئك الذين يتصورون أنهم وحدهم من يصدقون العلم، ومن يتبعون المنهج العلمي، مع أن المنهج العلمي أكثر تواضعا من أن يقول ذلك، ومثله التأمل العقلي، وقد قال [فرنسيس بيكون] في الرد على هؤلاء: (القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان.. إذا أمعن (العقل) النظر وشهد سلسلة الأسباب كيف تتصل حلقاتها فأنه لا يجد بدًا من التسليم بالله) (3)

2 ـ التبديل والتهيئة

ويشير إليه قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]

والتبديل ـ كما تشير النصوص المقدسة ـ يبدأ مباشرة بعد النفخة الأولى، بتلك الزلزلة العظيمة التي يعاينها الخلائق، والتي وصفها الله تعالى بقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ (2)} [الحج: 1، 2]

__________

(1) المرجع السابق.

(2) المرجع السابق.

(3) نقلا عن: مُلحدون محدثون معاصرون، د. رمسيس عوض، ص 58..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (224)

بل إن هناك سورة خاصة بها، وبما يحدث أثناءها، وهي سورة الزلزلة، والتي يقول الله تعالى فيها: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: 1 - 5]

ويبدو من خلال هذه الآيات، ومن خلال تتمتها، وهي قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 6 - 8] أن هذه الزلزلة ـ الواردة في هذه السورة ـ بخلاف الزلزلة الأولى، مرتبطة بالنفخة الثانية، والتي يتم فيها بعث الخلائق، وتشكل الأرض بشكلها الجديد، مع قوانينها الجديد، ولهذا ذكر الله تعالى أن الأرض تجيب البشر، وتحدثهم، وتخبر بوحي الله لها، وهو من الظواهر العادية في النشأة الأخرى، بخلاف النشأة الأولى.

وهكذا يذكر القرآن الكريم أن من أغراض ذلك التبديل، وتلك التهيئة توفير محل مناسب للعرض، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]، وقال: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ اليوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]

ويبدو كذلك أن الأرض في تلك النشأة الجديدة، وبالقوانين الجديدة، ستكون أكبر من الأرض التي نعرفها، ومختلفة في تضاريسها ومناخها عنها، كما قال تعالى يصفها: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)} [الانشقاق: 3 - 5]

وحتى الجبال والمرتفعات التي كانت تشكل حواجز كبرى فيها، تدك، كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة: 13 - 15]

وأخبر الله تعالى أنها تتحول عن صلابتها وقسوتها؛ فتصبح هينة لينة كالرمل الناعم،

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (225)

قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً} [المزمل:14]، أي أنها تصبح ككثبان الرمل بعد أن كانت حجارة صماء، والرمل المهيل: هو الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده.

وأخبر أنها تصبح كالعهن، وهو الصوف، قال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج: 9]، وقال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5]

وأخبر عن إزالتها بتسييرها ونسفها، فقال: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3]، وقال: {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:10]

وبين حال الأرض بعد ذلك التسيير والنسف، فقال: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47]

وبذلك تصبح الأرض ظاهرة لا ارتفاع فيها، ولا انخفاض، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107]

وقد ورد تقريب صفة تلك الأرض التي يقع فيها العرض والحساب في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس فيها معلم لأحد) (1)

وهكذا ورد وصف الأهوال التي تحدث في البحار، وأنها تفجر وتشتعل ناراً، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3]، وقال: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6]

أما السماء، فقد ورد أنها تمور وتضطرب اضطراباً عظيماً، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور: 9]، ثم تنفطر وتتشقق، كما قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]، وقال: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1 - 2

__________

(1) صحيح البخاري برقم (6521) وصحيح مسلم برقم (2790)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (226)

وعند ذلك تصبح واهية، كما قال تعالى: {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16]

وقد ورد فوق ذلك كله في القرآن الكريم ما يشير إلى معاينة الخلق لبعض تلك الأهوال الشديدة، وفزعهم منها، مثلما رأينا في الآيات التي تتحدث عن الزلزلة بشقيها: الزلزلة الأولى، والزلزلة الثانية.

وورد كذلك في الحديث ما يدل على معاينة البشر لبعض تلك التغيرات التي تحصل بعد النفخة الثانية، وبعد البعث، ومنها ما ورد في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]، فقد سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (هم في الظلمة دون الجسر) (1)، وهو محل لا يمكننا أن نعرف حقيقته، ولكن المهم فيه هو أنه يجيب على الإشكال الذي يطرحه من لا يستطيع الجمع بين معاينة الأهوال، والبقاء على قيد الحياة، ذلك أن تلك الأحداث كفيلة بألا تبقي أحدا حيا.

ونرى ـ مثلما ذكرنا سابقا، وبناء على العدالة الإلهية ـ أن المؤمنين الذين كانوا يسلمون للقدرة الإلهية، ويؤمنون بها معفون من الفزع المرتبط بتلك الأهوال، وإن كانوا لا يعفون من رؤيتها باعتبارها تشكل المزيد من الطمأنينة لهم، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]

فمع كون إبراهيم عليه السلام كان موقنا بإحياء الله للموتى، ولكنه أحب أن يعاين مشاهد ذلك، لتكون ضمن ما عبر عنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]

وهكذا، فإن معاينة المؤمنين لتلك المشاهد العظيمة، لا يكون بصحبة الفزع، وإنما

__________

(1) صحيح مسلم برقم: (315).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (227)

يكون بصحبة الخشية والتعظيم لله، والخشية هي خوف مختلط بالرجاء، أو بالتقدير والتعظيم.

ونحب أن نذكر هنا ردا على أولئك الذين يتصورون أن القيامة مرتبطة فقط بالأرض، وبالإنسان خصوصا، بأن الأمر ليس كذلك، بل هي مرتبطة بكل الكون الذي نعرفه، وبكل سكانه، سواء كانوا من البشر أو غيرهم، ولو أن النصوص المقدسة لم تحدثنا إلا على البشر، لعدم طاقة العقول الحديث عن غيرهم.

ويشير إلى هذا قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]

وحتى نتصور ما يحصل من أهوال في ذلك الموقف نعرض هنا بدايات ثلاث سور قرآنية وردت الدعوة لقراءتها، لتصور ما يحدث، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَنْ سرّه أنْ ينظر إلى يوم القيامة كأنّه رأي عين، فليقرأ: (إذا الشمس كورت) و(إذا السماء انفطرت) و(إذا السماء انشقت) (1)

أما السورة الأولى، سورة التكوير، فقد بدئت بقوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)} [التكوير: 1 - 14]

وأما سورة الانفطار، فقد بدئت بقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا

__________

(1) رواه الترمذي (2/ 235)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (228)

قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)} [الانفطار: 1 - 6]

وأما سورة الانشقاق، فقد بدئت بقوله تعالى: إ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)} [الانشقاق: 1 - 5]

فهذه الآيات الكريمة تصور بعض المشاهد التي تحصل ذلك الحين، أو تقربها، وما قاله المفسرون حولها مجرد توضيح بحسب الثقافة المتاحة لعصرهم، لا الحقيقة بعينها، لأنها لا يمكن تصورها، والقرآن الكريم يستعمل اللغة التي يفهمها الناس جميعا، ولا يمكن لتلك اللغة أن تعبر عن تلك الأحداث بصورتها الكاملة.

وبناء على ذلك نذكر هنا ما قاله العلماء حول بعض تلك المعاني الواردة في القرآن الكريم، والتي قد يجد الشيطان منها ثغرات للتسلل وبث الشبهات، ولا نذكرها من باب كونها الحقيقة التي ستجري بالضبط، لأن ذلك غيب محض.

ومن ذلك ما ورد في شأن الشمس والنجوم، مثل قوله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات: 8]، وقوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)} [التكوير: 1، 2]، فقد أثبت العلم أن الشمس، وغيرها من النجوم ـ على خلاف النظرة التقليدية القديمة المبنية على ثبات الكون ـ تموت وتنطمس، ولها نهاية تنتهي إليها.

وقد أثبتت الاكتشافات العلمية الحديثة أن (النجوم تولد وتمر بمراحل عديدة، فهي تخلق ثم تصير إلى مرحلة تسمى فيها هذه النجوم بنجوم النسق الرئيسي، ويستمر النجم على هذا الطور غالبية عمره، وبعد ذلك يستمر التحول إلى مرحلة جديدة وهكذا حتى يتحول إلى نجم منكدر لا ضوء فيه) (1)

__________

(1) حياة النجوم بين العلم والقرآن الكريم، للدكتور محمد صالح النواوي، نقلا عن موقع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (229)

وتذكر هذه الدراسات أن (الشمس ستتمدد ويصبح حجمها كبيراً، وبالتالي فإنها لن تستطيع أن تستمر طويلاً في الإمساك بتلابيب أطرافها، فتهرب الطبقات الخارجية منها تدريجياً ـ في شكل حلقات غازية تخرج متتابعة في منظر مهيب ـ وفي تلك الحالة ستطال تلك الحلقات جميع الكواكب الخارجية حتى (بلوتو)، بل وجميع أطراف المنظومة الشمسية. وتعرف تلك المرحلة من حياة النجوم بمرحلة (السدم الكوكبية)، حيث تلفظ النجوم طبقاتها الخارجية في شكل حلقات مستديرة تشبه في منظرها الخارجي الكواكب في استدارة شكلها. ونجم (القيثارة) هو أحد أشهر تلك الأمثلة التي يعرفها الفلكيون من بين آلاف النجوم التي رصدناها، وهي تلفظ طبقاتها الخارجية) (1)

وفي تلك المرحلة (تفقد الشمس ما يزيد عن ثلث كتلتها لتصبح بعد ذلك لباً عارياً صغيراً حرارته شديدة، ويتوقف نبض التفاعلات النووية في الباطن لتبرد الشمس تدريجياً ويتصاغر حجمها كثيراً وتدخل إلى مقابر النجوم فيما يعرف بمرحلة (الأقزام البيضاء). وفي تلك المرحلة تكون كثافة المادة عالية بدرجة رهيبة، حيث يزن السنتيمتر المكعب من مادة القزم الأبيض حوالي طن واحد من مادة الأرض، كما أن حجم الشمس في تلك المرحلة سيتصاغر ليصبح في حجم الأرض تقريباً) (2)

وغيرها من الأحداث التي تقرب كثيرا ما ورد في قوله تعالى عن الشمس في ذلك اليوم: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]، فمما ورد في معناها (ذهب ضوؤها، وأظلمت)

وبما أن الشمس نجم من النجوم، والقوانين التي تسري عليها تسري على سائر النجوم، فإن ما ذكره العلم حولها ينطبق عليها أيضا.

__________

(1) المرجع السابق.

(2) المرجع السابق.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (230)

وهكذا ذكروا فيما ورد في شأن تفجير البحار وتسجيرها ردا على أولئك الذين لم تستطع عقولهم أن تستسيغ تلك الحرائق المهولة التي تصيب البحار، فمن الحقائق العلمية المتفق عليها أن الماء يتكون من مادتين هما الهيدروجين (ذرتين).. والاكسجين (ذرة واحدة)، والهيدروجين: عنصرشديد الاشتعال ويستعمل في عمليات الصهر، والاكسجين عنصر يساعد على الاشتعال وهو وقود النار.

وسبب عدم احتراق الماء يعود لكون (العنصرين قد احترقا أصلا بعملية الدمج فيما بينهما وأصبحا عاليا الكثافة، ولهذا فإنه متى تم الجمع بين الهيدوجين والاكسجين كيميائيا فانهما يفقدان خاصتيهما، ويتحولان إلى مادة أخرى لا تشتعل بل تساعد على إطفاء الحرائق)

لكن إذا تم كسر الرابطة التساهمية التي تربط بين ذرتي الهيدروجين والأكسجين بواسطة الإنشطار، فإن ذلك (ينتج عنه طاقة خيالية، نسميها في وقتنا الحاضر بالقنبلة الهيدروجينية، وهي أشد انفجارا بكثير من القنبلة النووية)

وهذا لا يعني تفسيرنا للتسجير بهذا المعنى، وإنما هو مجرد تقريب لما قد يحصل بناء على المعطيات العلمية المتوفرة لدينا، أما الحقيقة التي ستحصل بالضبط، فتحتاج منا إلى معرفة أسرار أخرى للكون أكبر وأعظم، والعلم أضعف من أن يصل إليها.

3 ـ البعث والنشور

يمكن اعتبار القرآن الكريم المصدر الوحيد من بين جميع الكتب السماوية التي تذكر حقائق البعث والنشور، وبلغة علمية عقلية راقية؛ لم يزدها التطور العلمي الكبير الذي شهدناه في عصرنا إلا قوة ورسوخا.

ففي أحاديثه الكثيرة عن البعث والنشور، وعن رد الشبه التي يثيرها المشركون حوله، والتي يمكننا أن نجد من خلالها مادة علمية كافية، تجعلنا نستغني بها عن كثير من المباحث الكلامية والفلسفية، بل تجعلنا فوق ذلك نرد على ما يثار حوله من شبه، بكل

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (231)

بساطة ويسر.

فالعرض القرآني للبعث يتضمن كلتا الناحيتين: ناحية حقيقة البعث، وعلاقته بالجسد والروح والنفس.. وناحية البراهين المثبتة لذلك، والأمثلة المقربة له.

وسنحاول هنا انطلاقا من الآيات المرتبطة بالبعث أن نستخلص أهم خصائص هذه المرحلة الخطيرة من المراحل التي يمر بها الإنسان في مسيرته التكاملية:

أ ـ البعث والحركة التكاملية

من أهم الملاحظات التي نراها في القرآن الكريم عند ذكره للبعث ـ وفي مواضع متعددة منه ـ ربطه له بالمراحل والتطورات التي مرت بها خلقة الإنسان كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 12 - 14]

وبعد أن ذكر كل هذه المراحل ـ والتي اكتشف العلم الحديث مدى واقعيتها وصدقها على الرغم من مخالفتها لثقافة البيئة التي نزل فيها (1) ـ راح يذكر المرحلة الأخيرة في سلم الترقي نحو الكمال الإنساني، والتي عبر عنها قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} [المؤمنون: 15 - 17]، وهذا يدل على أن ذلك البعث مرحلة جديدة من مراحل التطور الإنساني نحو الكمال.

وهكذا ورد في قوله تعالى في سورة الحج عند تعداد مراحل تطور الخلقة الإنسانية باعتبارها برهانا من براهين البعث، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ

__________

(1) ذكرنا ذلك بتفصيل في كتاب معجزات علمية (ص: 354، فما بعدها)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (232)

يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]

ثم قال بعدها معللا سر ذلك: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج: 6، 7]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تعتبر النشأة الثانية مرحلة تطورية كبرى عقب انتهاء مراحل النشأة الأولى، وهي تشير كذلك إلى أن تلك النشأة مختلفة في طبيعتها وشكلها عن النشأة الأولى، وأكثر تطورا منها.

وقد أشار صدر المتألّهين إلى ذلك في قوله: (الآيات التي ذكرت فيها النطفة وأطوارها الكمالية، وتقلّباتها من صورة النقص إلى صورة أكمل، ومن حال أدون إلى حال أعلى، فالغرض من ذكرها، إثبات أنّ لهذه الأطوار والتحولات غاية أخيرة، فللإنسان توجّه طبيعي نحو الكمال، ودين إلهي فطري في التقرّب إلى المبدأ الفعّال، والكمال اللائق بحال الإنسان المخلوق أوّلاً من هذه الطبيعة، وإلاّ كان لا يوجد في هذا العالم الأدنى، بل في عالم الآخرة التي إليها الرجعى، وفيها الغاية والمنتهى، فبالضرورة إذا استوفى الإنسان جميع المراتب الخلقية الواقعة في حدود حركته الجوهرية الفطرية، من الجمادية والنباتية، والحيوانية، وبلغ أشدّه الصوري، وتمّ وجوده الدنيوي الحيواني، فلابدّ أن يتوجه نحو النشأة الآخرة ويخرج من القوة إلى الفعل، ومن الدنيا إلى الأُخرى، ثم المولى، وهو غاية الغايات، ومنتهى الأشواق والحركات) (1)

وقال السبحاني معبرا عن هذا المعنى بلغة أكثر عصرية: (نرى أنّ الإنسان منذ تكونه نطفة فعلقة فمضغة، إلى أن يفتح عينه على الوجود، في حال حركة دائمة وسعي متواصل

__________

(1) الأسفار، ج 9، ص 159.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (233)

ليس له ثبات ولا قرار، وهو يطلب بحركته وسعيه شيئاً يفقده؛ فعلى ذلك لا بدّ من وجود يوم يزول فيه وصف اللاقرار، ويدخل منزلاً فيه القرار والثبات، يكون غاية المطاف) (1)

وبناء على هذا، فإن (الحركة وإن كانت تتوقف بالموت ولا يرى بعدها في الإنسان سعي، لكنّ تفسير الموت ببطلان الإنسان وشخصيته الساعية، إبطال للغاية التي كان يتوخاها من حركته، فلابدّ أن يكون الموت وروداً إلى منزل آخر، يصل فيه إلى الغاية المتوخاة من سعيه وجهاده، وذلك المنزل هو النشأة الأخروية) (2)

ثم رد على الوجوديين والماديين الذين يعتبرون الغاية من الحركة والسعي والكدح، هو نيل اللذائذ المادية والتجملات الظاهرية، بأن (الإنسان مهما نال منها، لا يخمد عطشه، بل يستمر في سعيه وطلبه، وهذا يدلّ على أنّ له ضالة أُخرى يتوجّه نحوها، وإن لم يعرف حقيقتها، فهو يطلب الكمال اللائق بحاله، ويتصور أنّ ملاذّ الحياة غايته، ومنتهى سعيه، ولكنه سوف يرجع عن كل غاية يصل إليها، ويعطف توجهه إلى شي آخر) (3)

ويدعم هذا المعنى الكثير من البراهين الفلسفية، فالحركة لابد لها من غاية تنتهي إليها، وإلا كانت عبثا مجردا لا معنى له، ولهذا نرى القرآن الكريم يعتبر البعث غاية مكملة لتلك الحركة التكاملية التي حصلت في النشأة الأولى، ويعتبر أنها ضرورة يقتضيها الحق ويستلزمها، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 6]

وهكذا يذكر القرآن الكريم أنه لولا هذه النشأة المكملة لتلك الحركة لكانت النشأة الأولى نشأة عبثية لا معنى لها، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا

__________

(1) الإلهيات، جعفر السبحاني، ج 4،ص 176.

(2) المرجع السابق، ص 178.

(3) المرجع السابق، ص 179.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (234)

تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 115، 116]

ولذلك نرى القرآن الكريم ينص على الغاية التي تسير إليها كل الكائنات، وأنها معرفة الله والتواصل معه، لأنها البداية التي أسس من أجلها الكون جميعا، قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]

وهكذا يصور البعث باعتباره رجوعا إلى الله، كما قال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 26 - 30]، وقال: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8]

وهومعنى قولنا [إنا لله وإنا إليه راجعون]، والذي يردده المؤمن كل حين، كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، وذلك ليذكر نفسه بأن ما فاته ليس هو الغاية، وإنما الغاية الله.

ب ـ البعث والتكامل الكوني

لا يكتفي القرآن الكريم بتقرير تلك الحقائق، وربطها بعالم الإنسان، بل إنه يشمل بها جميع الكائنات، ففي النشأة الأخرى يبعث كل شيء كان في النشأة الأولى، ولكن بصورة جديدة تتناسب مع طبيعته واختياراته المتاحة له.

وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى عن عالم الحيوانات: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]، فهذه الآية الكريمة لا تكتفي بتقرير حقيقة تلك العوالم، وأنها أمم قائمة بذاتها، وإنما تضيف إليها كونها تحشر إلى الله، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5]

وهذا كله ينسجم مع الغائية التكاملية التي يسير بها الكون جميعا، كما أشار إلى ذلك

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (235)

قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)} [الأنبياء: 16، 17]، وهذا يعني أن كل شيء خلق لغاية، ولم يخلق عبثا، وذلك ما ينفي عن البعث تلك الصورة البسيطة التي نتوهمه بها، والتي تجعله خاصا بالإنسان، وإنما هو حركة تشمل كل شيء، ليصاغ من جديد وفق ما تقتضيه النشأة الثانية من قوانين.

وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى عندما ذكر أن أعمال الحيوانات أيضا تعرض في ذلك الموقف بعد بعثها، فقال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء) (1)

وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال لأبي ذر: يا أبا ذر، هل تدري فيم تنتطحان؟ قال؟ لا، قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما) (2)

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يقضي الله بين خلقه الجن والإنس والبهائم، وإنه ليقيد يومئذ الجماء من القرناء) (3)

لكن هذا الحديث أدرج فيه للأسف ما لا نراه منه، أو ما نرى أنه إضافة تحتاج إلى أدلة أكثر قوة، وهي ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (حتى إذا لم يبق تبعة عند واحدة لأخرى قال الله: كونوا ترابا، فعند ذلك يقول الكافر: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40])

ومثله ما ورد في حديث الصور الطويل، والذي رفعه أبو هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمما ورد فيه: (فيميز الله الناس، وينادي الأمم داعيا لكل أمة إلى كتابها، والأمم جاثية من الهول.. فيقضي الله بين خلقه إلا الثقلين، الإنس والجن، فيقضي بين الوحوش والبهائم،

__________

(1) صحيح مسلم 4/ 1997 ح (2582)

(2) رواه أحمد 5/ 162 (21768)

(3) ابن جرير في تفسيره (30/ 17 - 18).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (236)

حتى إنه ليقيد الجماء من ذات القرن، فإذا فرغ الله من ذلك، فلم تبق تبعة عند واحدة لأخرى، قال الله لها: كوني ترابا، فعند ذلك {يَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40])

فهذه الإضافة التي تبين مصير كل تلك العوالم من الحيوانات بمختلف أنواعها لا يمكن أن نعتقدها من خلال هذه الروايات المتوقفة على آحاد الرواة، بالإضافة إلى أنها لا تتناسب مع عدالة الله.. فالله تعالى أعدل وأرحم وأكرم من أن يحول الحيوانات إلى تراب، لأنه بذلك ينزلها عن مرتبتها التي كانت عليها من غير ذنب ارتكبته.

بالإضافة إلى ذلك يتنافى مع الربوبية ذلك أن من معانيها النماء والرفعة والبركة.. أي أنه سبحانه وتعالى ينقل الأشياء من حالة أسوأ إلى حالة أحسن.. إلا لمن رضي لنفسه أن ينحدر وينزل، وذلك لا يكون في الحيوانات التي لم يكلفها الله تعالى.

والذي دفعنا إلى ذلك ما ورد في النصوص الكثيرة من معرفة تلك الحيوانات بالكثير من المعارف الإيمانية (1)، ولذلك كان تحويلها من مرتبتها الراقية إلى مرتبة دونية، لا يتناسب مع الحركة التكاملية التي أشارت إليها النصوص المقدسة.

وقد قال الإمام السجاد يبين ما لتلك البهائم من المعارف: (ما بهمت البهائم عنه فلم تبهم عن أربعة: معرفتها بالرب تبارك وتعالى، ومعرفتها بالموت، ومعرفتها بالانثى من الذكر، ومعرفتها بالمرعى الخصب) (2)

وهكذا ورد في الأحاديث الكثيرة ما يبين كثرة ذكر الحيوانات لله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اركبوها سالمة، ودوعها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق،

__________

(1) أشرنا إليها بتفصيل في كتاب [أكوان الله]

(2) بحار الأنوار (61/ 50)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (237)

فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه) (1)

وروي في بعض الآثار: (ما أحد سب شيئا من الدنيا دابة ولا غيرها ويقول: أخزاك الله أو لعنك الله إلا قالت: بل أخزى الله تعالى أعصانا لله تعالى)

وهكذا نرى أن هناك مخلوقات أخرى يرتبط بها البعث، بناء على ما ورد في القرآن الكريم من وجود سكان آخرين في الكون غير البشر، كما ورد التصريح بذلك في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49]

بل ورد فيه ما يدل على بعثهم، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29]

وفي قوله تعالى [وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ] دلالة على إمكانية توفر الفرصة للبشر لملاقاة سكان أهل السماء، وهو التطلع الذي لا يزالون يتطلعون إليه.

وهكذا نجد في الروايات ما يبين أن هناك خلقا آخرين سيتعرضون لنفس ما تعرض له أهل هذه النشأة، ليكون مصيرهم مرتبطا أيضا بخياراتهم، ومنها ما روي أن الإمام الباقر سئل عن قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]، فقال: (تأويل ذلك أن الله عز وجل إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم، وأسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جدد الله عزوجل عالما غير هذا العالم، وجدد خلقا من غير فحولة ولا اناث يعبدونه ويوحدونه، وخلق لهم أرضا غير هذه الارض تحملهم، وسماء غير هذه السماء تظلهم، لعلك ترى أن الله عزوجل إنما خلق هذا العالم الواحد وترى أن الله عزوجل لم يخلق بشرا غيركم؟ بلى والله لقد خلق الله تبارك وتعالى ألف ألف عالم وألف ألف آدم، أنت في

__________

(1) أحمد 3/ 439 (15714) و3/ 440 (15731)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (238)

آخر تلك العوالم وأولئك الآدميين) (1)

وفي رواية أخرى: (لقد خلق الله عزوجل في الارض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم، خلقهم من أديم الارض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه، ثم خلق الله عزوجل آدم أبا البشر، وخلق ذريته منه، ولا والله ما خلت الجنة من أرواح المؤمنين منذ خلقها، ولا خلت النار من أرواح الكفار والعصاة منذ خلقها عزوجل، لعلكم ترون أنه إذا كان يوم القيامة وصير الله أبدان أهل الجنة مع أرواحهم في الجنة، وصير أبدان أهل النار مع أرواحهم في النار أن الله تبارك وتعالى لا يعبد في بلاده، ولا يخلق خلقا يعبدونه ويوحدونه؟! بلى والله، ليخلقن الله خلقا من غير فحولة ولا إناث، يعبدونه ويوحدونه ويعظمونه، ويخلق لهم أرضا تحملهم وسماء تظلهم، أليس الله عزوجل يقول: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] وقال الله عزوجل: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]) (2)

ج ـ البعث وخاتمة الحركة الدنيوية

ورد في النصوص الكثيرة ما يبين مدى علاقة البعث بالنهاية التي ينتهي إليها السير التكاملي للإنسان، والذي يبين نهاية الخيارات التي ارتضاها لنفسه في حياته الدنيا، وربما يدخل فيها تصحيحاته لها في حياته البرزخية إن تمكن من ذلك.

ولذلك ورد ما يدل على أنه من الخاتمة تصاغ البداية التي يتشكل منها الإنسان في نشأته الجديدة، وورد فيها أن الخاتمة هي التي تحدد مصيره، والشكل الذي يكون عليه، ولهذا قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]

__________

(1) بحار الأنوار - العلامة المجلسي (8/ 374)

(2) بحار الأنوار - العلامة المجلسي (54/ 319)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (239)

وقد بين ذلك أحاديث كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبين خطر الخاتمة وأهميتها، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة) (1)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيسبق عليه الكتاب) لايعني الجبر، ولا أن الله فرض عليه ذلك، ولكنه يعني ـ حسبما تدل النصوص الكثيرة ـ على أنه الخيار الذي اختاره الإنسان بمحض رغبته، وهو طبعا لن يخالف ما في علم الله عنه، كما شرحنا ذلك بتفصيل في كتاب [أسرار الأقدار]

وروي عن سهل، قال: (التقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركون في بعض مغازيه، فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه، فقيل: يا رسول الله، ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان، فقال: (إنه من أهل النار)، فقالوا: أينا من أهل الجنة، إن كان هذا من أهل النار؟ فقال رجل من القوم: لأتبعنه، فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح، فاستعجل الموت، فوضع نصاب سيفه بالأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: (وما ذاك)، فأخبره، فقال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وإنه لمن أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة) (2)

ولذلك كان أكثر خوف الصالحين من الخاتمة المغيب شأنها، والتي يجتمع فيها كل القرارات المصيرية التي يتخدها الإنسان طيلة حياته، ولذلك يمكن اعتبارها الخلاصة التي ينتهي إليها الإنسان.

وقد أشار الغزالي إلى سر ذلك، فقال: (اعلم أن سوء الخاتمة على رتبتين: إحداهما

__________

(1) رواه البخاري (3208) ومسلم (2643)

(2) صحيح البخاري 5/ 133 ح (4207)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (240)

أعظم من الأخرى؛ فأما الرتبة العظيمة الهائلة فأن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله إما الشك وإما الجحود، فتقبض الروح على حال غلبة الجحود أو الشك فيكون ما غلب على القلب من عقدة الجحود حجابا بينه وبين الله تعالى أبدا، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد.. والثانية وهي دونها أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا وشهوة من شهواتها؛ فيتمثل ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسع لغيره؛ فيتفق قبض روحه في تلك الحال؛ فيكون استغراق قلبه به منكسا رأسه إلى الدنيا وصارفا وجهه إليها، ومهما انصرف الوجه عن الله تعالى حصل الحجاب، ومهما حصل الحجاب نزل العذاب، إذ نار الله الموقدة لا تأخذ إلا المحجوبين عنه، فأما المؤمن السليم قلبه من حب الدنيا المصروف همه إلى الله تعالى، فتقول له النار: جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي، فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلبة حب الدنيا، فالأمر مخطر لأن المرء يموت على ما عاش عليه) (1)

ولهذا ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يبعث كل عبد على ما مات عليه) (2)، وورد في الأحاديث ذكر بعض الأمثلة على ذلك، ومنها أن المحرم بالحج أو العمرة إذا مات وهو كذلك، بعث يوم القيامة ملبيا، فقد روي عن ابن عباس في الرجل الذي وقصته ناقته وهو محرم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) (3)

ومثله روي أن الشهيد يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يكلم أحد في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يكلم في

__________

(1) إحياء علوم الدين (4/ 173)

(2) رواه مسلم برقم (2878)

(3) رواه البخاري برقم (1265)، رواه مسلم برقم (1206)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (241)

سبيله ـ إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب، اللون لون دم، والريح ريح مسك) (1)

وعلى خلافهم يكون حال المنحرفين عن السراط المستقيم، وقد ورد في القرآن الكريم عن الغال من الغنيمة قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]

وورد فيه عن آكل الربا، وكيف يبعث يوم القيامة كالمجنون الذي أصابه المس قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]

وورد في الحديث عن الغادر، وأنه ترفع له راية يوم القيامة تبين غدرته، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان) (2)

د ـ البعث والمعاد الجسماني

ربما تعتبر مسألة المعاد وكيفيته من أهم المسائل التي خاض فيها الفلاسفة والمتكلمون، واختلفوا فيها اختلافا شديدا إلى الدرجة التي وصل فيها الأمر حد التكفير، مع أن المسألة لا تستدعي كل ذلك.

فالجميع حاولوا أن يقحموا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به؛ فالمادة التي يتكون منها الإنسان بعد البعث وشكلها وهيئتها والقوانين التي تخضع لها، وغير ذلك من المباحث نوع من البحث فيما لا يطيقه العقل، لافتقاده للأشباه والنظائر، ولهذا يكتفى فيها بما ورد من التقريبات والتوضيحات.

ونحسب أن القرآن الكريم عندما عرض المسألة، ورد فيها على المشركين كان اهتمامه

__________

(1) رواه البخاري برقم (2803)، رواه مسلم برقم (1876)

(2) رواه البخاري برقم (3186، 3187)، رواه مسلم برقم (1735)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (242)

بالمعاد، وبكونه حقيقة ملموسة، ولم يعرض لتفاصيل كيفيتها، ولو عرض لها، فإنه من باب التقريب، مثلما يذكر عن الجنة والنار ونحوهما.

ولهذا فإن إنكار المعاد ـ حسب تصوري ـ لا يرتبط بأمثال تلك التصورات، لأنها مجرد محاولات لفهم ما يحصل بالضبط، والجميع كما ذكرنا لا ينكره، ولكن قد ينكر هيئة من الهيئات المرتبطة به، ولذلك لا يصح اتهامه بالكفر، فهو خطير جدا، خاصة مع إيمان هذا الفريق بالمعاد، وإيمانه قبل ذلك بالله تعالى.

وسنسوق هنا بعض ما ذكروه من آراء في المسألة، ونعقب عليها بما نراه، ومن خلال فهمنا للنصوص المقدسة حول الموضوع.

ومن أحسن تلك التحقيقات في نوع الخلاف وأسبابه ما نص عليه صدر المتألهين بقوله: (اتّفق المحققون من الفلا سفة والملّيين على أحقّية المعاد، وثبوت النشأة الباقية، لكنهم اختلفوا في كيفيته، فذهب جمهور الإسلاميين وعامة الفقهاء وأصحاب الحديث إلى أنه جسماني فقط، بناء على أنّ الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم، والماء في الورد، والزيت في الزيتون، وذهب جمهور الفلا سفة وأتباع المشّائين إلى أنّه روحاني أي عقلي فقط لأنّ البدن ينعدم بصوره وأعراضه لقطع تعلق النفس بها، فلا يعاد بشخصه تارة أخرى، إذ المعدوم لا يعاد، والنفس جوهر باق لا سبيل للفناء إليه، فتعود إلى عالم المفارقات لقطع التعلقات بالموت الطبيعي، وذهب كثير من أكابر الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتكلمين كالغزالي والكعبي والحليمي والراغب الأصفهاني وكثيرمن أصحابنا الإمامية كالشيخ المفيد، وأبي جعفر الطوسي، والسيد المرتضى، والمحقق الطوسى، والعلامة الحلّي، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين إلى القول بالمعادين، ذهاباً إلى أنّ النفس مجرّدة تعود إلى البدن) (1)

__________

(1) الأسفار، ج 9، ص 165.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (243)

وإلى جانب هذا نجد النصوص الكثيرة من السنة والشيعة في تكفير جاحد المعاد الجسماني، ومن أمثلتها قول الشيخ محمد بن خليل حسن هرّاس، وهو من كبار علماء المدرسة السلفية المعاصرين: (ويجب الإيمان بالبعث على الصفة التي بينها الله في كتابه، وهو أنه جمع ما تحلل من أجزاء الأجساد التي كانت في الدنيا، وإنشاؤها خلقا جديدا، وإعادة الحياة إليها، ومنكر البعث الجسماني ـ كالفلاسفة والنصارى ـ كافر، وأما من أقر به ولكنه زعم أن الله يبعث الأرواح في أجسام غير الأجسام التي كانت في الدنيا؛ فهو مبتدع وفاسق) (1)

وقال عضد الدين الإيجي، وهو من كبار علماء المدرسة السنية من الأشاعرة.: (المعاد الجسماني هو المتبادر من إطلاق أهل الشرع، إذ هو الّذي يجب الاعتقاد به، ويكفر من أنكره، وهوحق، لشهادة نصوص القرآن في مواضع متعددة بحيث لا تقبل التأويل، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 77 - 80]، قال المفسرون نزلت هذه الآية في أُبىّ بن كعب فإنه خاصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأتاه بعظم قد رمّ وبلى، ففتّه بيده، وقال: يا محمد، أترى الله يحيي هذه بعدما رمّت، قال: (نعم، ويبعثك ويدخلك النار)، وهذا مما يقلع عرق التأويل بالكلية، ولذلك قال الإمام الرازى: (إنّه لا يمكن الجمع بين الإيمان بما جاء به النبي وإنكار الحشر الجسماني) (2)

وقال المجلسي، وهو من كبار علماء المدرسة الشيعية: (إعلم أنّ القول بالمعاد الجسماني ممّا اتفق عليه جميع المليين وهو من ضروريات الدين ومنكره خارج من عداد المسلمين،

__________

(1) شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص: 64)

(2) شرح العقائد العضدية، ج 2، ص 247.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (244)

والآيات الكريمة على ذلك ناصّة لا يعقل تأويلها، والأخبارفيه متواترة لا يمكن ردّها ولا الطعن فيها) (1)

ولكنا مع كوننا نؤمن بما ورد في النصوص المقدسة من التجسد الحسي ـ لا لأهل النشأة الأخرى فقط، بل حتى لأعمالهم أيضا ـ نرى عدم التسرع في التكفير في مثل هذه المسائل، لأن غرض المنكرين لا يرتبط بإنكار حقيقة المعاد، وإنما يرتبط بشكله وصورته، وقد ذكرنا سابقا أن كل ذلك غيب محض، لأن الصور المتوهمة للأجساد في الآخرة تختلف كثيرا عما نعهده من صور، كما ذكرنا ذلك في مقدمة هذا المبحث.

بقيت الآن بعض الإشكالات في هذا الجانب يطرحها الفلاسفة أو غيرهم من القائلين بالمعاد الروحاني، أو بعدم المعاد مطلقا، وقد أجاب عليها علماء الكلام قديما وحديثا إجابات كثيرة، وهي مبنية على توهم أن هذا الجسد الذي نعيش به في الدنيا هو نفسه الذي سيبعث، وليس المادة الأساسية المشكلة له، والمتضمنة في الخارطة الجينية، والتي يمكنها في ظل الظروف المناسبة، أن تعود للحياة من جديد.

وسنذكر هنا ملخصا مبسطا لأهم تلك الشبهات، معتمدين على ما كتبه بخصوصها الشيخ مكارم الشيرازي، باعتباره حاول طرحها وفق منهج [علم الكلام الجديد]، من حيث التبسيط والأمثلة ونحوها.

الشبهة الأولى

وهي الشبهة التي يطلق عليها [شبهة الآكل والمأكول] وهي من أقدم الشبه، وخلاصتها، أننا لو فرضنا أن إنساناً حين القحط والمجاعة تغذى على لحم آخر بحيث أصبح جزءا من بدن الإنسان الأول، أو جميعه من لحم الإنسان الثاني، فهل ستنفصل هذه الأجزاء في المعاد عن الإنسان الثاني أم لا؟ فإن كان الجواب بالإيجاب أصبح بدن الإنسان

__________

(1) بحارالأنوار، ج 7، ص 46.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (245)

الثاني ناقصاً، وإن كان الجواب بالسلب كان بدن الإنسان الأول ناقصاً (1).

ومثلها ما يجري دائماً في الطبيعة حيث يموت الناس، ويصبح بدنهم تراباً، ويصبح التراب جزءاً من الأرض، ثم يتبدل بعد امتصاصه من قِبل جذور الأشجار تدريجياً إلى نبات يتغذى عليه سائر الناس، أو الحيوانات، وعليه فأجزاء الأفراد السابقين تصبح من هذا الطريق جزءاً من بدن الأفراد اللاحقين.

ولاينبغي لكم أن تتعجبوا إذا ما علمتم بأنّ هذه التفاحة التي توضع أمامنا قد تكون أصبحت لعشر مرات جزءاً من بدن إنسان ثم عادت إلى التراب، وامتصت ثانية من قبل جذور وتحولت إلى تفاحة ثم تناولها إنسان آخر وأصحبت جزءاً من بدنه، وعلى هذا الأساس فإن كان المعاد جسماني تصارعت عشرة أبدان يوم القيامة على بعض الأجزاء وسيكون لكل جزء من يدعيه له، فكيف سيكون المعاد جسمانياً؟

والجواب على هذه الشبهة ـ كما يذكر المتكلمون من أمثال نصير الدين الطوسي والعلّامة الحلي وغيرهم ـ كما ينقل عنهم مكارم الشيرازي ـ يعتمد على التفريق بين (الأجزاء الأصلية) و(الأجزاء غير الأصلية)، فهم يذكرون أن لبدن الإنسان قسمين: الأجزاء الأصلية، والأجزاء الإضافية.

أما الأجزاء الأصلية، فهي الأجزاء التي تبقى طيلة عمر الإنسان، فلا تتعوض ولا تفنى ولا تصبح جزءاً من بدن إنسان آخر أبداً، حتى وإن تناولها شخص آخر فلا تصبح جزءاً من بدنه.

أمّا الأجزاء الإضافية فهي قابلة للتغيير والتعويض وهي دائماً في حالة تغيّر، ويمكن أن تكون جزءاً من بدن إنسان أو حيوان آخر.

وهكذا تحلّ المشكلة، يوم القيامة، ذلك أن الأجزاء الأصلية لبدن كل شخص تنمو

__________

(1) المعاد وعالم الآخرة، ص 203.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (246)

في مدّة قصيرة كبذور النباتات أو نطفة الإنسان وتصنع البدن الأصلي.

والسؤال الذي يعرض بعد هذا يتعلق عن الأجزاء الأصلية، وكيف يمكن تمييزها عن سائر الأجزاء؟

وقد أجاب المتكلمون عن هذا بمجموعة إجابات، من بينها ما ذكره المتكلمون المحدثون من أن (الأجزاء الأصلية هي (الجينات) الواقعة على الكروموسومات في وسط نواة الخلايا، وعليه فهذه الجينات جزء من نواة الخلية الثابتة الوضع طيلة العمر وتشكل الأجزاء الأصلية لبدن الإنسان) (1)

ومنها أنها (الفقرة الأخيرة في العمود الفقري، أي أسفل عظم في هذا العمود هو الجزء الأصلي لبدن الإنسان حيث لايزول أبداً، ولايستقطبه بدن حيوان أو إنسان آخر)

ومنها أنها (الأجزاء التي لا نعرفها على وجه الدقة، إلّاأنّنا نعلم أنّها موجودة في بدن الإنسان وخاصيتها أنّها لا تزول أبداً ولا تنتقل إلى بدن حيوان أو إنسان آخر)

وكل هذه احتمالات ليس لدينا من الأدلة ما يقوي أيا منها، ولذلك يوكل الأمر إلى القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء.

الشبهة الثانية

وهي الشبهة التي تذكر [قلّة التربة على الأرض] مقارنة بعدد الذين سيبعثون، وملخص هذه الشبهة هي أنه (لو تقرر أنّ تعود أجساد كافة أفراد بني الإنسان يوم القيامة بهذا البدن المادي؛ فإن التراب الذي على الأرض لا يكفي لكل هؤلاء الأفراد، وعليه ستكون لنا مشكلة المواد الأساسية لبناء كل هؤلاء الأفراد) (2)

وقد أجاب الشيخ مكارم الشيرازي على هذه الشبهة بقوله: (يبدو أنّ من يطلق هذا

__________

(1) المعاد وعالم الآخرة، ص: 205.

(2) المرجع السابق، ص 212..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (247)

الكلام ويتحدّث عن أزمة التراب اللازم لبناء جميع أفراد البشر إنّما يطلق سهمه في ظلام دامس وقد خاب سهمه، فما أحرى من يتفوه بذلك أن يتناول ورقة وقلماً ويحسب الأمر بصورة رياضية ليعلم مدى الخطأ الذي يرتكبه في هذا المجال) (1)

ثم راح يقوم ببعض الحسابات البسيطة التي ترد على هذه الشبهة، فذكر أنّ الماء يشكل 65 - 70 بالمئة من جسم الإنسان، وعليه فإنّ المواد المعدنية والآلية لبدن الإنسان تقريباً ثلث وزن بدنه، يعني الإنسان الذي يزن ستين كيلو غرام تقريباً عشرون كيلواً أو أقل من بدنه تراب ومواد معدنية وآلية والباقي ماء.

وبناء على هذا، فلو كان لدينا متراً مكعباً من التراب، فإنه يكفي لأكثر من مئة شخص، (والآن تستطيع التعرف بسهولة على أنّ الكيلو متر المكعب من التراب يكفي لمئة مليار إنسان، وهذا المقدار من التراب يكفي لخمس وعشرين ضعفاً من سكان الكرة الأرضية، وهذا المقدار من التراب يشغل مساحة زهيدة من سطح الكرة الأرضية) (2)

الشبهة الثالثة

وهي حول [الجسم الذي يشمله المعاد]، وخلاصة هذه الشبهة هي أنه إذا كان المعاد جسمانياً، فأي بدن من الأبدان التي اكتسبها الإنسان طيلة عمره سيكون معاده، ذلك أن الجسم يتغير عدّة مرّات طيلة عمر الإنسان.. فهل يعود بمجموع هذه الأبدان بحيث يصبح مركبا عجيبا، أم أنه يعود ببدن واحد منها، وذلك ترجيح بلا مرجح، بالإضافة إلى أن لكل بدن صحيفة أعمال خاصة به؟

وهذا السؤال منتف تماما مع ما دل عليه النص من أن المعاد من جسم الإنسان هو أصله، أما الباقي، فمجرد غذاء تشكل منه الجسم، ويمكن تعويضه بأي بدائل أخرى..

__________

(1) المرجع السابق، ص 212..

(2) المرجع السابق، ص 212..

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (248)

وهو في ذلك يشبه بالونا صغيرا يمكننا بالنفخ فيه أن يتحول إلى شكله الحقيقي الضخم.

هذا بناء على ما ذكرنا، لكن بناء على ما ذكره من يقول بعودة الجسم نفسه، فقد أجاب عليه الشيخ مكارم الشيرازي بأن كل بدن يجتذب جميع مميزات وصفات البدن السابق، وعليه فآخر بدن هو مخزن جميع الصحف طيلة العمر، وهو خلاصة وعصارة لجميع مميزات الأبدان السابقة، ولذلك فإنّ عودة وبعث آخر بدن تعني عودة جميع الأبدان وبعثها (1).

4 ـ الحشر والعرض

وقد ورد التعبير عن الحشر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158]، وقوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 172، 173]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تبين أن غاية النشر هي الحشر، وغاية الحشر، هي الحساب والمساءلة والموازين وغير ذلك.

ولهذا وصف الله تعالى الحشر بكونه مجالا للاحتجاجات والجدل والخصومة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22]، ثم بين موقفهم فقال: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَالله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، ثم رد عليهم، فقال: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 24]

وهذا يدل على أن الكثير من الظروف توفر لأولئك الذين سيحاسبون ويناقشون،

__________

(1) المعاد وعالم الآخرة، ص: 215.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (249)

حتى يتمكنوا من المحاجة عن أنفسهم، أو الدفاع عنها، أو التلاقي مع غيرهم سواء من سادتهم أو أتباعهم أو خصومهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]، وقال: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28، 29]، ثم أخبر ما يحصل للنفوس حينها، فقال: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى الله مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30]

وتدل النصوص على مبلغ الهلع الذي يصيب الظالمين والمحادين لله في ذلك الموقف الشديد الذي ينتظرون فيه المحكمة الإلهية، كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، وقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الله غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 42 - 43]

ومظاهر العدالة في الحشر كثيرة جدا، نحاول تلخيصها ـ بحسب ما تدل عليه النصوص المقدسة ـ في العناوين الثلاثة التالية:

أ ـ مواقف أهل الحشر

تدل النصوص المقدسة الكثيرة على أن الخلق في أرض المحشر يصنفون تصنيفات كثيرة، منها ما يرجع إلى محلاتهم وجيرانهم وأقاربهم من أهل عصرهم، حتى يستطيعوا محاجة بعضهم بعضا، وطلب حقوق بعضهم من بعض، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (250)

(36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 33 - 37]

ومثله قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [المعارج: 11 - 14]، وهذا يدل على أنه توفرت له الفرصة لرؤيتهم، وإلا لما طلب ذلك.

ولهذا وصف الله تعالى يوم المحشر بكونه {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]

وقد ورد في بعض الآثار تصوير ذلك، ففيه: (يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه، أي بعل كنت لك؟ فتقول: نعم البعل كنت! وتثني بخير ما استطاعت، فيقول لها: فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو مما ترين. فتقول له: ما أيسر ما طلبت، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف. قال: وإن الرجل ليلقى ابنه فيتعلق به فيقول: يا بني، أي والد كنت لك؟ فيثني بخير. فيقول له: يا بني، إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى. فيقول ولده: يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا) (1)

ومن تلك التصنيفات ما يرجع إلى المراتب والأعمال، مثلما نص على ذلك قوله تعالى في سورة الواقعة: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 7 - 11]، ولسنا ندري هل هذا التقسيم يكون بعد الحساب والمساءلة والموازين، أم أنه يكون قبل ذلك، أم أنه يكون في الفترتين جميعا؟

ومن تلك التصنيفات وأهمها التصنيف المرتبط بالأمم التي كانوا ينتسبون إليها، كما قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}

__________

(1) تفسير ابن كثير (8/ 325).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (251)

[الجاثية: 28]

ولذلك تعرف الأمم حينها بأنبيائها وأئمتها وهداتها، كما قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء: 71]

وقد ورد في الحديث ما يشير إلى هذا التصنيف، وكيفيته، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (عرضت علي الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم، فقلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ قيل: بل هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سواد عظيم قد ملأ الأفق، ثم قيل لي: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء، فإذا سواد قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب) (1)

لكن هذا الانتماء، كما ورد في النصوص، ليس مثل الانتماء في الدنيا، والذي يكفي فيه ذلك الإيمان الوراثي، بل يميز الناس فيه على أساس اتباعهم الصادق لرسلهم، ولهذا يخرج من أتباع الرسل الكثير من الذين حرفوا وبدلوا.

وقد ورد في الحديث ما يشير إلى هذا، ويشير معه إلى أنواع من الفضل تتاح في ذلك الموقف لأتباع الأنبياء الصادقين، وهو ذلك الشراب العظيم الذي يتلقونه من أيدي أنبيائهم وورثتهم جزاء لهم على إخلاصهم وصدق اتباعهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لكل نبي حوضا، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني أرجو أن أكون أكثرهم) (2)

وقد ورد في أحاديث كثيرة وصف حوض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآنيته وشرابه، وغير ذلك، وكلها من التقريبات التي تبسط الأمر لعقولنا، لأن الحقيقة أعظم من ذلك، ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض من اللبن، وريحه

__________

(1) رواه البخاري 10/ 179.

(2) الترمذي (2367).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (252)

أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها فلا يظمأ أبدا) (1)

وفي حديث آخر أنه سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن شرابه؛ فقال: (أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، يغت (يصب) فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من ورق (فضة) (2)

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (نزلت علي آنفا سورة، فقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر: 1 - 3].. أتدرون ما الكوثر؟.. إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء، فيختلج (3) العبد منهم، فأقول: رب، إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك؟) (4)

وهذا يدل على أن من خواص هذا الحوض أنه لا يمكن أن يشربه إلا الصادقون من أتباع الأنبياء، ولذلك يُمنع المحرفون والمبدلون لسنن أنبيائهم عن الاقتراب والشرب منه، كما صور ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (والذي نفسي بيده لأذودن رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض) (5)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي: اختلجوا دوني، فلأقولن، أي رب، أصيحابي، أصيحابي، فليقالن لي، إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) (6)

__________

(1) رواه البخاري (6093) ومسلم (4244).

(2) صحيح مسلم (4256)

(3) الاختلاج: الاستلاب والاجتذاب.

(4) مسلم (2/، 13 7/ 71)

(5) البخاري في صحيحه (2194) ومسلم (4257)

(6) رواه البخاري 11/ 412، ومسلم رقم (2304).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (253)

وقد ورد ما يدل على أن كل أمة تقف كالطوابير بين يدي حوض نبيها، فلا يمر إلا من كان حقيقا بذلك، ففي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمَّ، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى. ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت ما شأنهم؟ قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى! فلا أراه يخلص منهم إلا مِثْلُ هَمَل النَّعَم) (1)

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا الحوض يشمل جميع الصادقين من أمته، وفي جميع الأزمنة، وهو ما يؤكد أن معية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستمرة في الأمة، وليست خاصة بزمان معين، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا) قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: (أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: (أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟)، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم: ألا هلم؛ فيقال إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا) (2)

وقد كان الأصل في هذه الأحاديث، وما تحمله من التحذير عن مخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مدعاة للتقوى والورع والحرص على الاتباع الصحيح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحرص على وحدة الأمة، لكنها للأسف صارت مدعاة للتفرقة والتباهي، كما عبر القرطبي عن ذلك، وهو يحكي تلك التعاليم الطائفية التي استفادها من أساتذته: (قال علماؤنا رحمهم الله

__________

(1) رواه البخاري (7/ 208).

(2) رواه مسلم (367)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (254)

أجمعين: فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع) (1)

ب ـ النعيم والعذاب

مثلما عرفنا سابقا، فإن ذلك الموقف، وبناء على العدالة والرحمة الإلهية لا يخلو من النعيم والعذاب بشقيه الحسي والمعنوي، وذلك على حسب الأعمال التي تتجسد في ذلك الحين، لتكون نعيما للصالحين، وشقاء للمنحرفين.

وتجسد الأعمال ـ كما تشير إلى ذلك النصوص الكثيرة ـ يختلف بحسب المواقف والمراحل التي يمر بها الإنسان في النشأة الأخرى، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد النص عليه من النور الجميل الذي تتجسد فيه الأعمال، لتقي أصحابها من الظلمات التي يعيشها الظلمة وغيرهم في ذلك الموقف، والتي تجسدت نتيجة أعمالهم المملوءة بالظلمة، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)} [الحديد: 12 - 16]

__________

(1) التذكرة للقرطبي (306).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (255)

ففي هذا المشهد المرتبط بالحشر وموقف الخلق في الآخرة، نسمع هذا الحوار الجاري بين المؤمنين وغيرهم، والذي يبين للمنافقين حقيقة الخداع والتلبيسات التي كانوا يلبسون بها على أنفسهم في الدنيا.

والأمر ـ كما ورد في النصوص المقدسة ـ لا يقتصر على ذلك، بل إن أرض المحشر تكون بمثابة الجنة للصالحين، بل إنهم قد يرون فيها من الفضل والنعيم ما لا يجدونه في الجنة نفسها.

ومن الأمثلة على ذلك ما ورد النص عليه في الأحاديث التي تذكر جلوس بعض أهل الموقف على منابر النور، وهم في غاية الروح والسرور يعاينون أهل الموقف، وانتظارهم للحساب، وقد يكون من بينهم أولئك المظلومين المحتقرين الذين لم ينصفوا؛ فينصفهم الله تعالى في ذلك الموقف، بأن يروا المحاكمة العادلة التي تجري لمن ظلموهم، والتي حرموا منها في الدنيا.

ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض خطبه: (اعقلوا واعلموا أن لله عبادا ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء لمكانهم وقربهم من الله)، فقام أعرابي، فقال يا رسول الله، من هم حلهم لنا فسر وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقول الأعرابي؛ فقال: (هم قوم لم تصل منهم أرحام متقاربة من أفناء الناس ونوازع القبائل، تحابوا في جلال الله عز وجل، وتصافوا فيه وتزاوروا فيه، وتباذلوا فيه، يضع الله لهم منابر من نور فيجلسون عليها، وإن ثيابهم لنور، ووجوههم نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يفزعون إذا فزع الناس، أولئك أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (1)

وفي حديث آخر ذكر بعض صفاتهم، وهي القسط، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المقسطين عند الله

__________

(1) نوادر الأصول في أحاديث الرسول (4/ 82)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (256)

على منابر من نور.. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) (1)

وقد ورد ما يدل على أن هؤلاء الجالسين على منابر النور، لا يجلسون في انتظار الحساب، وإنما ليعاينوا أهل الموقف، وكيفية حسابهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين: 34 - 36]

وقد ورد في الحديث ما يدل عليه، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الشهداء ثلاثة رجال: رجل خرج بماله ونفسه محتسباً في سبيل الله لا يريد أن يقتل ولا يقتل ليكثر سواد المسلمين، فإن مات أو قتل غفرت ذنوبه كلها وأجير من عذاب القبر وأومن من الفزع الأكبر وزوج من الحور العين، ووضع على رأسه تاج الوقار، ورجل جاهد بنفسه وماله يريد أن يقتل ولا يقتل فإن مات أو قتل كانت ركبته مع ركبة إبراهيم خليل الرحمن في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والثالث: رجل خرج بنفسه وماله محتسباً يريد أن يقتل ويقتل؛ فإن مات أو قتل جاء يوم القيامة شاهراً بسيفه واضعه على عنقه والناس جاثون على الركب يقول: ألا فأفسحوا لنا فإنا قد بذلنا دماءنا وأموالنا لله عز وجل، والذي نفسي بيده لو قالوا ذلك لإبراهيم خليل الرحمن، أو لنبي من الأنبياء لتنحى لهم عن الطريق لما يرى من واجب حقهم، حتى يأتوا منابر من نور، ويجلسون ينظرون كيف يقضي بين الناس لا يجدون غم الموت، ولا يغتمون في البرزخ، ولا تفزعهم الصيحة، ولا يهمهم الحساب، ولا الميزان ولا الصراط، ينظرون كيف يقضى بين الناس ولا يسألون شيئاً إلا أعطوه ولا يشفعون إلا شفعوا فيه، ويعطى من الجنة ما أحب وينزل من الجنة حيث أحب) (2)

وربما يكون لهؤلاء علاقة بأصحاب الأعراف، كما سنرى في المبحث الثاني بعد

__________

(1) الحميدي (588).وأحمد (2/ 160) (6492)، ومسلم (6/ 7)

(2) الترغيب والترهيب لقوام السنة (1/ 464).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (257)

استعراض الأقوال الواردة فيهم.

وهكذا ورد في النصوص المقدسة المشاهد الكثيرة لأولئك الذين لم يجدوا من أعمالهم الصالحة ما يكون نورا وطهرا وطيبا لهم؛ فلذلك تظل صور أعمالهم السيئة، والتي صنعوها بأنفسهم تطاردهم في كل محل، حتى يتحقق لهم الطهر النهائي منها إن كانوا أهلا لذلك.

وقد ذكرنا سابقا بعض العذاب الذي يحصل لهم نتيجة تغير أشكالهم وصورهم وألوانهم إلى الشكل الذي صمموه بأنفسهم في حياتهم الدنيا، ذلك أن الأخلاق في ذلك الموقف هي التي تحدد صورة الخلقة.

ولهذا نرى القرآن الكريم يذكر المشاهد الكثيرة للآلام النفسية التي تعتري أولئك الذين وقفوا ذلك الموقف الطويل، وهم ينتظرون المحكمة الإلهية، وعلى بالهم وأمامهم صور كل ما فعلوه في تلك الفرصة التي أتيحت لهم لكنهم ضيعوها.

ومن تلك المشاهد ما نص عليه قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]

ومنها ما نص عليه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ الله مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]

ومنها ما نص عليه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29]

ومنها ما نص عليه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [يونس: 54]

ومنها ما نص عليه قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (258)

بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)} [سبأ: 31 - 33]

ولذلك كان من أسماء يوم القيامة يوم التغابن، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]

وقد ورد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير سر تلك التسمية، حيث قال: (يفتح للعبد يوم القيامة على كل يوم من أيام عمره أربعة وعشرون خزانة ـ عدد ساعات الليل والنهار ـ فخزانة يجدها مملوءة نورا وسرورا فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزع على أهل النار لادهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها ربه، ثم يفتح له خزانة اخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمها، وهي الساعة التي عصى فيها ربه، ثم يفتح له خزانة اخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسره ولا ما يسوؤه وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشئ من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والاسف على فواتها حيث كان متمكنا من أن يملاها حسنات ما لا يوصف، ومن هذا قوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]) (1)

ومن أسمائه يوم الحسرة، ذلك أن الآلام النفسية فيه ربما تفوق الآلام الحسية، كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39]

وهكذا نرى فيه المشاهد الكثيرة لتحسر الكافرين، ومنها هذا المشهد الذي يذكر

__________

(1) بحار الأنوار: 7/ 262.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (259)

خطاب الله تعالى لأولئك المجرمين في ذلك الموقف، والذين قضوا حياتهم كلها يكذبون به: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ الله حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 30، 31]

ومنها تلك الصيحات التي يصيحها أولئك المحادون لله في ذلك الموقف الشديد، والتي تعبر عن حسرتهم الشديدة، قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)} [الزمر: 55، 56]

وهي حسرة لا تصيب الكفار فقط، بل تشمل المؤمنين أيضا، من الذين قصروا في حق الله، أو تساهلوا في التعامل مع حدوده.

ومن الذين وردت النصوص بتحسرهم أولئك الذين كانوا يلهثون وراء المناصب من غير أن يؤدوا حق الله فيها، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم معبرا عن حسرتهم: (نعم الشاء الإمارة لمن أخذها بحقها، وبئس الشاء الإمارة لمن أخذها بغير حقها، فتكون عليه حسرة يوم القيامة) (1)

ومنهم أولئك الذين قصروا في ذكر الله، وخاصة بعد أن يروا الأنوار العظيمة التي ينعم بها الذاكرون في ذلك الموقف الممتلئ بالأهوال، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما جلس قوم مجلسا قط لم يذكروا الله إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة) (2)، وقال: (ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا

__________

(1) المعجم الكبير للطبرانى: 5/ 138؛ وقال الهيثمى: رواه الطبرانى فى الكبير ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد: 3/ 303.

(2) قال الهيثمى: رواه الطبرانى فى الأوسط، وفيه عمرو بن الحصين العقيلى وهو متروك. مجمع الزوائد: 10/ 80.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (260)

الله فيه إلا كان عليهم ترة، وما من رجل مشى طريقا فلم يذكر الله عز وجل إلا كان عليه ترة، وما من رجل أوى إلى فراشه فلم يذكر الله عز وجل إلا كان عليه ترة) (1)

ج ـ الانتظار والشفاعة

ورد في الروايات الكثيرة ذكر الانتظار الطويل الذي يعانيه البشر في أرض المحشر للمحكمة الإلهية، والبت في قضاياهم، ومن تلك الروايات ما روي عن الإمام الصادق أنه قال: (إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئاً إلا أعطاه، فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله عز ذكره. فإذا علم الله عز وجل ذلك من قلبه لم يسأله شيئاً إلا أعطاه؛ فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها، فإن للقيامة خمسين موقفاً، كل موقف مقداره ألف سنة ثم تلا: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5]) (2)

ومع جمال هذه الرواية، والأبعاد العرفانية والتربوية الكثيرة التي تحملها، نرى للأسف الكثير من الروايات التي دس فيها ما لا يتوافق مع النصوص القطعية من القرآن الكريم والحديث الشريف، ولذلك لا يمكن قبول كل ما فيها، بل تناقش على ضوء ما يعارضها من النصوص المقدسة.

ومن أشهر تلك الروايات تلك الرواية الطويلة التي حدث بها أبو هريرة، والتي تردد كثيرا على المنابر، ويكاد يعرفها الناس جميعا،، وقد ذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أتي بلحم فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى

__________

(1) رواه أحمد، والترمذي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 80)

(2) الكافي (8/ 143)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (261)

ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح، إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات ـ فذكرهن أبو حيان في الحديث ـ نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى فيأتون، موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى ابن مريم، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدا فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (262)

فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا، لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفع فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، كما بين مكة وحمير، أو كما بين مكة وبصرى) (1)

ونحن لا نتجرأ على إنكار كل ما في هذا الحديث من تفاصيل، فقد يكون في بعضه بعض الصدق، ولكن بما أن الرواة يضيفون أحيانا بعض ما يعتبرونه توضيحات للحديث، فلذلك مناقشتنا له محاولة لتنقية الحديث من تلك الإضافات.

بناء على هذا؛ فإن أهم الانتقادات الموجهة لهذا الحديث تتمثل في:

أولا ـ أن أهل المحشر ـ كما ذكرت النصوص المقدسة ـ متفاوتون جدا في نعيمهم وعذابهم بحسب أعمالهم المجسدة لهم، ولذلك وضعهم جميعا في محل واحد، واعتبارهم جميعا يطلبون الشفاعة للتعجيل بانعقاد المحكمة الإلهية ـ كما ورد في الرواية ـ غير صحيح.

بالإضافة إلى ذلك، فقد ورد في النصوص ما يدل على أن الزمن في الآخر يكون مرتبطا بالأعمال، ولذلك تمر على المؤمن كل تلك الفترة الطويلة من الانتظار قصيرة جدا لا يكاد يشعر بها، وقد سبق أن ذكرنا ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)، فقيل: ما أطول هذا اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا) (2)، وفي رواية: (يهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس للغروب إلى أن تغرب)، وفي رواية: (إن الله

__________

(1) البخاري (4712)، ومسلم (194)، والترمذي (2434)

(2) رواه أبو يعلى والبيهقي في الشعب، انظر: المغني عن حمل الأسفار (ص: 1901)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (263)

ليخفف على من يشاء من عباده طوله كوقت صلاة مفروضة)

ولذلك نرى أن الناس المذكورين في الرواية ليسوا جميع الخلق، وإنما هم الكفار، أو ربما أولئك الذين واجهوا الأنبياء ولم يعرفوا حرمتهم، لكنهم أدركوا قيمتها في ذلك الحين.

بالإضافة إلى ذلك فإن تلك الرواية تتنافى مع هذا المشهد القرآني الذي صور النفخ في الصور، وما يحصل بعده، فقد قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)} [الزمر: 68 - 71]

وبعدها أخبر الله تعالى مباشرة عن القرار الذي يقر فيه كل شخص بحسب عمله، فقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)} [الزمر: 71 - 74]

ثانيا ـ أن الحديث يذكر معنى خطيرا لا يتناسب مع عظمة الله، ولا مع ما ورد في النصوص المقدسة عن رحمة الله في الآخرة، ففيه: (إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)

فهل يمكن أن تكون رحمة الله التي وسعت كل شيء قد زالت في ذلك الحين، وحل بدلها الغضب.. أم أن رحمة الله تعالى موجودة في كل حين، كما أن غضبه موجود في كل

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (264)

حين.. ولكن الاختلاف بحسب القابل والمحل.. أما الله فأعظم من أن تغيره الأحوال، أو تجري عليه الأحداث؟

مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ذكر في الحديث أن رحمة الله تعالى في الآخرة، وبحسب القابل لها، تكون أعظم ظهورا من رحمته في الدنيا، لضيق وعاء الدنيا، كما ورد في الحديث: (إن الله خلق مائة رحمة، رحمة منها قسمها بين الخلائق وتسعة وتسعين إلى يوم القيامة) (1)

ثالثا ـ من التفاصيل التي وردت في الرواية، والتي لا نرى مناسبة لها، ما ذكره من أن الأنبياء عليهم السلام يبررون عدم تقدمهم للشفاعة باهتمامهم بأنفسهم، وذلك غير صحيح، فالأنبياء ممتلئون رحمة بالخلق، مثلهم مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولذلك أن يستحيل أن يكون ذلك هو السبب.

ومثل ذلك ادعاؤهم أن لهم أخطاء تحول بينهم وبين الدعاء، وذلك غير صحيح أيضا، فلا يكون النبي نبيا حتى يكون عارفا بالله، والعارف بالله يعلم أن رحمة الله أوسع من أن تضيق بخاطئ.

أما ما نراه في هذا في حال صحته، فهو أن الأنبياء عليهم السلام في ذلك المحل تبع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما ورد في الحديث: (لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعنى) (2)، بل كما نص على ذلك بصراحة قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81، 82]

ولهذا فإن الأنبياء عليهم السلام في ذلك المحل الذي طلب منهم فيه دعوة الله تعالى

__________

(1) رواه الطبرانى (11/ 374، رقم 12047). قال الهيثمى (10/ 214): رواه الطبرانى والبزار، وإسناده حسن.

(2) رواه أحمد (3/ 387، رقم 15195) قال الهيثمى (1/ 174): رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (265)

أرسلوا من طلب منهم ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا باعتبارهم خاطئين، ولا باعتبار حرصهم على أنفسهم، وإنما باعتبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك المحل هو الإمام الذي لا يصح أن يتقدم عليه أحد.

والعجب أن هذا الحديث يذكر أن نوحا عليه السلام أعطاه الله تعالى دعوة واحدة، وأن نصيبه من الدعاء قد انتهى، كما ورد في الحديث: (وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي)، فهل نزل كرم الله إلى هذه الدرجة بحيث يمنح لعباده المقربين دعوة واحدة.

ثم إنا نرى الله تعالى يثني على نوح عليه السلام، ويثني على ما قام به من الدعاء على قومه، فكيف نضرب القرآن بهذا الحديث الذي يوهم أن نوحا عليه السلام أخطأ في الدعاء على قومه.

وهكذا نرى الحديث يرمي إبراهيم عليه السلام بالكذب، بل بثلاث كذبات خطيرة، وأن تلك الكذبات حالت بينه وبين أن يدعو الله..

بناء على هذا؛ فإن الجزء المتيقن في هذا الحديث إثبات الشفاعة العظمى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بعد المعاناة الطويلة التي يعانيها المنحرفون عنه في الانتظار والبحث عمن يتكفل بذلك.

وهي نوع من الدروس المقدمة لهم في هذا المجال، لأن أساس الإجرام الذي وقع فيه المنحرفون الانحراف عن الأنبياء وعدم تعزيرهم وتوقيرهم وطاعتهم، ولذلك يكتشفون في ذلك الموقف قيمتهم، وأهمتيهم، ويعرفون مدى نصحهم، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27]

وهكذا نرى روايات أخرى تخص هذا الجانب، وربما يتوجه لها من النقد أكثر مما يتوجه لهذا الحديث، ومن أشهرها ما ورد في حديث طويل يفصل أحداث اليوم الآخر

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (266)

بطريقة بعيدة جدا عن المنهج القرآني، وما ورد في الأحاديث القطعية (1).

فمن المشاهد الواردة فيه، والتي تخالف التصوير القرآني لأحداث اليوم الآخر هذا المشهد: (ثم تقفون موقفا واحدا، مقدار سبعين عاما لا ينظر إليكم، ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون دماء وتعرقون حتى يبلغ ذلك منكم أن يلجمكم، أو يبلغ الأذقان، فتضجون، وتقولون: من يشفع لنا إلى ربنا ليقضي بيننا؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلا، فيأتون آدم، فيطلبون إليه ذلك، فيأبى، فيقول: ما أنا صاحب ذلك، ثم يسعون للأنبياء نبيا نبيا، كلما جاءوا نبيا أبى عليهم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حتى تأتوني، فأنطلق، حتى آتي الفحص، فأخر ساجدا. قال أبو هريرة: يا رسول الله: ما الفحص قال: موضع قدام العرش حتى يبعث الله إلي ملكا، فيأخذ بعضدي، فيرفعني، فيقول لي: يا محمد، فأقول: نعم لبيك يا رب، فيقول ما شأنك؟ - وهو أعلم- فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك، فاقض بينهم، فيقول شفعتك، أنا آتيكم، فأقضي بينكم) (2)

فهذا المشهد التجسيمي، والذي يجعل الخلق جميعا مؤمنهم وكافرهم يستوون في ذلك الموقف والتألم فيه لمدة سبعين سنة يتنافى مع ما ورد في النصوص المقدسة من اختلاف مواقف الناس في القيامة.

ومن المشاهد التجسيمية الواردة في الحديث، والتي يتعلق بها المجسمة مع تنافيها التام مع ما ورد في القرآن الكريم من تنزيه الله، هذا المشهد الذي يرفعه أبو هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي يقول فيه: (فأرجع فأقف مع الناس، فبينما نحن وقوف، إذا سمعنا حسا من

__________

(1) انظر: النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير: (1/ 270)، وقد ذكر ابن كثير أنه رواه جماعات من الأئمة في كتبهم، كابن جرير في تفسيره، والطبراني في المطولات، والحافظ البيهقي في كتابه: البعث والنشور، والحافظ أبي موسى المديني في المطولات أيضا من طرق متعددة عن إسماعيل ابن رافع قاص أهل المدينة.

(2) النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير: (1/ 270)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (267)

السماء شديدا، فينزل أهل السماء الدنيا مثل من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا وهو آت، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار تبارك وتعالى في ظلل من الغمام والملائكة، ويحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة، أقدامهم على تخوم الأرض السفلى، والأرض والسموات إلى حجرهم والعرش على مناكبهم، لهم زجل من تسبيحهم، يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يهتف بصوته، فيقول: يا معشر الجن والإنس، إني قد أنصت لكم من يوم خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع قولكم، وأرى أعمالكم، فأنصتوا إلي، فإنما هي أعمالكم، وصحفكم، تقرأ عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) (1)

فهذا المشهد يصور الله تعالى راكبا في الغمام، ثم يجلس على الكرسي، وعلى الأرض، ثم يخاطب عباده بحرف وصوت.. وهي جميعا مشاهد يغرم بها المجسمة، لأنهم لا يستطيعون أن يؤمنوا بإله ليس كمثله شيء.

د ـ الابتلاء والاختبار

من أهم تجليات العدالة الإلهية في أرض المحشر ما وردت الإشارة إليه، بل التصريح به في نصوص كثيرة حول تلك الابتلاءات والاختبارات التي تجري لهم، بغية تصنيفهم وتمحيصهم، وربما يدخل فيها أيضا تربيتهم وتطهيرهم، مثلما حصل ذلك في البرزخ، ومثلما يحصل في كل المواقف بناء على ربانية الله، وتربيته لعباده لإخراجهم من الظلمات إلى النور.

ولذلك كان طول تلك الفترة، واختلافه باختلاف الأعمال، مبنيا على هذا الأساس،

__________

(1) النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير: (1/ 270)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (268)

أو هو اعتبار من الاعتبارات المقصودة بالأصالة، مثلما يحصل في نشأتنا هذه من مكوث بعض الطلبة أثناء الامتحان بحسب تحضيرهم لها.. فبعضهم يكتفي بالدقائق المعدودة، وبعضهم لا تكفيه الساعات الطويلة مع أن الامتحان واحد، وقد تكون إجابة الذي أنهى مبكرا أفضل من الذي تأخر في خروجه.

ولعل تلك الآيات الكريمة التي تبين أن التمييز القطعي في القضايا المختلف فيها يؤجل إلى يوم القيامة يقصد به هذا المحل، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92]

ومثله ما أخبر به عن الاختلاف الحاصل بين الشرائع، كما قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]

ومثله ما أخبر به عن الاختلاف الحاصل بين العقائد، كما قال تعالى في شأن المسيح عليه السلام، والخلاف العقدي الذي وقع حوله: {إِذْ قَالَ الله يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَالله لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)} [آل عمران: 55 - 57]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تدعو إلى التعايش بين البشر في ظل المختلف فيه، إلى أن يكشف الله الحقائق في يوم المحشر.

وبذلك فإنها تبين أن المعارف الحقيقية الكبرى ستكتسب هناك، لمن لم يكتسبها في

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (269)

الدنيا، أو تكبر على اكتسابها فيها، وذلك بعد مروره بأنواع كثيرة من الاختبار.

بالإضافة إلى هذا، فقد ورد في الروايات المتفق عليها بين المدارس الإسلامية ما يشير إلى الاختبارات الخاصة بأولئك الذين لم يتح لهم في الدنيا أن ينعموا بشروط التكليف، وخاصة العقل، ذلك الذي لا يثاب الشخص أو يعاقب إلا على أساسه، كما روي عن الإمام الباقر قوله: (لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له، أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب وإياك أثيب) (1)

ومثل فاقد العقل أولئك الذين عاشوا في زمن الفترة، ولم يكن لهم رسول، أو وصلتهم الرسالة، ولكنها مشوهة مغيرة مبدلة لا تقوم بها الحجة، ولذلك لم يحاسبوا على أساسها، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]

لكن هؤلاء لو قلنا بدخولهم الجنة مباشرة من غير أن يمحصوا بالتكليف قد تثور ثائرة أولئك الذين كلفوا، ويصيحوا بانعدام العدل، ذلك أنه كيف يكلف قوم، ويدخلون النار آمادا طويلة، بينما لا يكلف آخرون، ويدخلون الجنة هكذا من دون عمل عملوه.

وقد قلنا في كتاب [أسرار الأقدار] عند الحديث عن هذه المسألة في الفصل الخاص بأسرار العدالة: (قد عرفنا أن أمر المكلف بيده، فإن أحسن فلنفسه، وإن أساء فعليها، ولا حجة له بعد أن قامت عليه كل الحجج.. لكن كيف يتحقق العدل مع غير المكلف؟.. مع ذلك الصبي الذي مات وهو يحمل بذور الخير والشر، والتي لم تسق بعد فتنبت.. أو مع ذلك الفلاح الذي عاش في أقاصي الأرض منهمكا مع محراثه لا يعلم بإله، ولا يعرف نبيا.. أو مع ذلك المعتوه الذي يرمى بالحجارة، ولو كان عاقلا لتبين معدنه، وتحقق خبثه أو طيبه.. إن قلنا بأنهم يدخلون الجنة، فبأي عمل عملوه؟ وإن قلنا بأنهم يدخلون النار، فبأي جناية

__________

(1) الكافي، ج 1، ص 10.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (270)

جنوها؟.. وإن قلنا: إن أمرهم للمشيئة، أو لعلم الله فيهم، فلماذا لم يكن أمر الخلق جميعا للمشيئة، فلم تقم محكمة القيامة، ولم يكن هناك حساب ولا كتب ولا موازين؟.. وإن قلنا: إن أمرهم للرحمة، فقد يقول البالغ: لماذا يارب لم تتوفني صبيا لتشملني رحمتك التي شملت الصبي؟.. ويقول العاقل: لم يارب لم تذهب عقلي لأبصر من الرحمة ما يبصره المجنون؟.. ويقول الفيلسوف: لم يا رب لم تجعلني في غياهب الجهل التي حميت بها ذلك الفلاح البسيط من التعرض لمقتك وعقابك؟) (1)

ثم ذكرنا الأقوال المختلفة في المسألة، وبينا أن أكثرها لا يمكن اعتمادها، بناء على مجافاتها للرحمة أو العدالة الإلهية..

فمن أمثلة الأقوال المجافية للرحمة تلك التي تنص على أنهم في النار، وللأسف فإن هؤلاء يعتمدون بعض الأحاديث التي يظهر عليها الوضع والتدليس وتشويه النبوة، ومن أمثلتها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن أولاد المسلمين أين هم؟، فقال: (في الجنة) وسئل عن أولاد المشركين أين هم يوم القيامة؟، فقال: (في النار)، فقيل له: (لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام) قال: (ربك أعلم بما كانوا عاملين، والذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار) (2)

وهذا الحديث الذي يظهر عليه الوضع لا يصح أن يستدل به على مثل هذا، زيادة على معارضته النصوص المحكمة والأحاديث الصحيحة.

__________

(1) أسرار الأقدار، ص 280.

(2) الحديث أورده ابن حجر في الإصابة (174/ 175) قال البيهقي: هذا منكر وقد خبط فيه يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف جدا. وهكذا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 57) وقال رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به، وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح قال احمد بن حنبل يحيى بن المتوكل يروي عن بهية احاديث منكرة وهو واهي الحديث وقال يحيى ليس بشيء وقال علي والفلاس والنسائي هو ضعيف قال ابن حبان ينفرد باشياء ليس لها اصول وقال السعدي سألت عن بهية كي اعرفها فأعيانا، انظر: العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي: 2/ 924.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (271)

ومن الأحاديث الموضوعة الخطيرة التي تروى في هذا المجال من دون تحقيق أو تمحيص، ومن دون عرضها على محكم القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فيغتر بها، ما يروى عن سلمة بن يزيد الجعفي: قال: أتيت أنا وأخي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلنا: (إن أمنا ماتت في الجاهلية، وكانت تقري الضيف، وتصل الرحم، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء؟)، قال: (لا) قلنا له: (فإن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث) فقال: (الموؤودة والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم) (1)

وهذا الحديث زيادة على تناقضه مع عدالة الله المطلقة والتي قد تدرك بالعقل يتناقض مع القرآن الكريم الذي نص على أن المؤودة تسأل عن أي ذنب قُتلت ليكون ذلك تهديداً لقاتلها، فإنه إذا سئل المظلوم فما ظن الظالم، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (التكوير:8 ـ 9)

زيادة على ذلك تصريح النصوص الصحيحة بعكس ذلك، وأنها في الجنة، وقد يكون ذلك رحمة خاصة بها، ولذلك قرنت بالشهيد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والموؤدة في الجنة) (2)

لكن للأسف، ومع مخالفة ذلك الحديث للقرآن الكريم، ولقيم العدالة، حيث تعفى الوائدة الظالمة من العذاب، في نفس الوقت الذي تتوعد الموءوة الصغيرة المظلومة به، نجد من يدافع عنه، لا لشيء إلا للحرص على أولئك الرواة الذين رووه، حتى لا يتهموا بالكذب.

ومن الأمثلة على ذلك قول ابن عبد البر عند كلامه عن هذا الحديث: (وهو حديث

__________

(1) رواه أبو داود (4717 وأحمد (15493) البخاري في التاريخ الكبير (4 ص:72) والدارقطني في العلل (5/ 161)

(2) رواه ابن سعد (7/ 84) وأحمد (5/ 58 و409) وأبو داود (2521)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (272)

صحيح من جهة الإسناد إلا أنه محتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصودة، فكانت الإشارة إليها والله أعلم، وهذا أولى ما حمل عليه هذا الحديث لمعارضة الآثار له، وعلى هذا يصح معناه، والله المستعان) (1)

وقال ابن القيم: (الجواب الصحيح عن هذا الحديث: أن قوله (إن الوائدة والموءودة في النار) جواب عن تينك الوائدة والموءودة، اللتين سئل عنهما، لا إخبار عن كل وائدة وموءودة، فبعض هذا الجنس في النار، وقد يكون هذا الشخص من الجنس الذي في النار) (2)

وقال الألباني: (إن الحديث خاص بموءودة معينة وحينئذ (ال) في (المؤودة) ليست للاستغراق بل للعهد. ويؤيده قصة ابني مليكة) (3)

وغيرها من الأقوال التي قيل بها بسبب الحرص على الرواة، لا على القيم التي جاء بها القرآن الكريم، ودعا إلى تفعيلها في كل شيء.

بناء على هذا، فإن كل الأحاديث التي تخالف العدالة والرحمة الإلهية تخالف القرآن الكريم، وبذلك لا يمكن قبولها، ومنها ما رووه من احتجاج الجنة والنار، وأن الله تعالى ينشئ للنار خلقا يسكنهم إياها، وهذا الحديث غير محفوظ به الصيغة، بل لفظه الصحيح، هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين؛ وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله عزَّ وجلَّ، للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار فلا تمتليء حتى يضع رجله فيها فتقول: قط قط فهنالك

__________

(1) التمهيد 18/ 120

(2) أحكام أهل الذمة (2/ 95)

(3) مشكاة المصابيح (1/ 39)

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (273)

تمتليء وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عزَّ وجلَّ من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله عزَّ وجلَّ ينشيء لها خلقاً آخر) (1)

ولو فرضنا صحة ما استدلوا به، أو فرضنا أن المراد بالرجل في الحديث خلق من خلق الله، فقد يكون لهذا الخلق خاصية التنعم بالنار، فتكون جهنم نعيما لهم، أو أن لا يكون لها أي تأثير عليهم، كما أنه ليس لها أي تأثير على خزنة جهنم وزبانية النار.

ومما استدلوا به كذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور:21)، فقاسوا ذرية الكافرين بذرية المؤمنين، وهو قياس غير صحيح؛ فليست هناك أي علة يمكن الرجوع إليها في هذا، والقياس لا يصح في الغيبيات.

ومثل ذلك تلك الأقوال التي تذكر أنهم في الجنة، فهي وإن اتفقت مع الرحمة الإلهية إلا أنها لا تتفق مع العدالة المطلقة، ومن الروايات التي يروونها في هذا المجال أن رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم قال يحكي رؤيا رآها: (فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط) ثم قال: (وأما الولدان حوله فكل مولود مات على الفطرة) فقال بعض المسلمين: (يا رسول الله وأولاد المشركين)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وأولاد المشركين) (2)

ولهذا فإن أرجح الأقوال في المسألة، والذي وردت به الرواية في مصادر الفريقين، هو إعطاء الفرصة لهؤلاء لاختبار تمحص به حقائقهم، وتبلى به سرائرهم؛ فهذا القول ينسجم مع عدالة الجزاء، وقد تجمع على أساسه النصوص المختلفة.

ومن أحسن تلك الروايات ما روي عن الإمام الباقر أنه قال: (إذا كان يوم القيامة

__________

(1) رواه البخاري برقم (7449) ومسلم برقم (2846).

(2) رواه البخاري 12/ 385 و386 و387 و388 ومسلم رقم (2275).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (274)

احتجّ الله عزّ وجلّ على سبعة: على الطفل، والذي مات بين النبيّين، والشيخ الكبير الذي أدرك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يعقل، والأبله، والمجنون الذي لا يعقل، والأصم، والأبكم، كلُّ واحدٍ منهم يحتجّ على الله عزّ وجل، قال: فيبعث الله عزّ وجل إليهم رسولاً فيؤجّج لهم ناراً ويقول: إنّ ربّكم يأمركم أن تَثِبوا فيها، فمن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن عصى سِيقَ إلى النّار) (1)

أما الروايات الواردة في المصادر السنية، فهي مع إقرارها بالامتحان والاختبار الإلهي لهم، إلا أنها تخلط ذلك بالجبر، وبكونهم يدخلون النار جميعا، ولذلك نرى أن تلك الأجزاء من تصرف الرواة، ومن الأمثلة عليها ما رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أربعة يمتحنون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، أما الأصم فيقول: (يا رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا) وأما الأحمق فيقول: (يا رب قد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر) وأما الهرم فيقول: (يا رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئا) وأما الذي مات في الفترة فيقول: (ما أتاني لك رسول)، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار)، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما، ومن لم يدخلها سحب إليها) (2)

ومثله ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوخ عقلا: يا رب لو آتيتني عقلا ما كان ما آتيته عقلا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك في الفترة: لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرا: يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني، فيقول الرب سبحانه: إني آمركم بأمر أفتطيعوني؟ فيقولون: نعم وعزتك

__________

(1) الخصال، ص 283..

(2) رواه أحمد (16301).

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (275)

فيقول: اذهبوا فادخلوا النار، ولو دخلوها ما ضرهم، فتخرج عليهم قوابس يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله عز وجل من شيء، فيأمرهم فيرجعون سراعا يقولون: خرجنا يا رب وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابس ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله عز وجل من شيء، فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك فيقولون مثل قولهم فيقول الله عز وجل سبحانه: قبل أن تخلقوا علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون ضميهم، فتأخذهم النار) (1)

ومثلها ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم عز وجل فيقولون: لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول ربهم: أرايتم إن أمرتكم بأمر تطيعونه؟ فيقولون: نعم، فيأمرهم أن يعبروا جهنم فيدخلونها فينطلقون حتى إذا دنوا منها سمعوا لها تغيظا وزفيرا فيرجعون إلى ربهم فيقولون: ربنا أخرجنا منها، فيقول: ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني، فيأخذ على ذلك من مواثيقهم فيقول: اعمدوا لها فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا فرجعوا فقالوا: ربنا! فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها، فيقول: ادخلوها داخرين)، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فلو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما) (2)

وغيرها من الروايات التي يمكن أن نقبل منها الاختبار الإلهي لأولئك الذين لم يتح لهم التكليف في الدنيا، ولكنا لا نستطيع أن نقبل منها ما عدا ذلك لمخالفته لقيم العدالة والرحمة الإلهية.

وقد وقف العلماء في المدرسة السنية من تلك الأحاديث موقفين؛ فمنهم من أنكرها

__________

(1) رواه الطبراني في الكبير (20/ 83 - 84) والأوسط (7951) ومسند الشاميين (2205) وأبو نعيم في الحلية (5/ 127 و9/ 305 - 306).

(2) رواه البزار وابن مردويه، جمع الجوامع 1/ 769

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (276)

لضعفها الشديد (1)، ومنهم من دافع عنها ـ للأسف ـ جملة من دون تحديد المقبول منها من المرفوض.

ومن أمثلة المدافعين عنها ابن كثير الذي قال فيها بعد عرضها: (إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها) (2)

ومنهم ابن حجر الذي قال ـ عند عرضه للأقوال في المسألة ـ: (سابعها: أنهم يُمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها: كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أَبَى: عُذِّب، أخرجه البزار من حديث أنس، وأبي سعيد، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل، وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون، ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في [كتاب الاعتقاد] أنه المذهب الصحيح) (3)

وأيدها ابن القيم بجملة وجوه، منها (4):

1. أن هذه الأحاديث كثرت بحيث يشد بعضها بعضا، وقد صحح الحفاظ بعضها.

2. أن غاية ما يقدر فيه أنه موقوف على الصحابي، ومثل هذا لا يقدم عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد، بل يجزم بأن ذلك توقيف لا عن رأي.

3. أن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضا فإنها قد تعددت طرقها، واختلفت مخارجها، فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، زيادة على أنه قد رواها أئمة الإسلام ودونوها ولم يطعنوا فيها.

__________

(1) ومنهم ابن عبد البر معللا ذلك بأن الآخرة دار جزاء، وليست دار تكليف، وليس ثمة أوامر ونواهي في الآخرة.

(2) تفسير ابن كثير: 5/ 58.

(3) فتح الباري (3/ 246).

(4) أحكام أهل الذمة: 2/ 1147.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (277)

4. أنه وإن أنكرها بعض المحدثين، فقد قبلها الأكثرون، والذين قبلوها أكثر من الذين أنكروها وأعلم بالسنة والحديث، وقد حكى الأشعري اتفاق أهل السنة والحديث على القول بها.

5. اتفاقها مع العدالة، وذلك حتى لا يتأسف العاقل على أنه لم يكن مجنونا، أويتأسف البالغ على انه لم يمت صبيا، قال ابن القيم: (فهي تفصيل لما أخبر به القرآن أنه لا يعذب أحد إلا بعد قيام الحجة عليه، وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله في الدنيا، فلا بد أن يقيم حجته عليهم، وأحق المواطن أن تقام فيه الحجة يوم يقوم الأشهاد وتسمع الدعاوى وتقام البينات ويختصم الناس بين يدي الرب وينطق كل أحد بحجته ومعذرته فلا تنفع الظالمين معذرتهم وتنفع غيرهم) (1)

6. اتفاقها مع الرحمة، فإن الله تعالى يكلف هؤلاء بعد معاينتهم لأمر الآخرة، ويكون التكليف حينها مع شدته هينا.

7. اجتماع النصوص على أساسها، فلأن من هؤلاء من يطيع الله، فيدخل الجنة، ومنهم من يعصيه، فيدخل النار، وبذلك كله وردت النصوص.

أما الاعتراض الذي قد يوجه لهذا القول، وهو ما ساد اعتقاده من أن الدار الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف، فكيف يكلف هؤلاء بالعمل، فقد أجاب عليه ابن القيم بأن لهؤلاء أحوالهم الخاصة التي قد لا يشاركهم فيها غيرهم، بالإضافة إلى أن الأدلة متظافرة على أن هذا الاعتقاد السائد ليس على عمومه، وقد قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (القلم:42)

زيادة على ذلك ما ثبت في النصوص الكثيرة من الامتحانات والأسئلة التي يتعرض لها أهل القبور.

__________

(1) المرجع السابق، 2/ 1149.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (278)

أما تصور استحالة أن يكلفهم الله دخول النار، لأن ذلك ليس في وسعهم، فغير صحيح لأن ذلك في وسعهم من جهة، وهو مع مشقته لا يختلف كثيرا عن الكثير من التكاليف التي يطلب بها الفوز بسعادة الأبد، ومنها أن الله تعالى يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.

ومنها ما ثبت في السنّة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً، وهذا يشبه إلى حد كبير هذا الامتحان الذي تعرض له هؤلاء.

ومنها أن الكثير من الأوامر التي أمر الله تعالى بها في الدنيا نظير الأمر بدخول النار (فإن الأمر بإلقاء نفوسهم بين سيوف أعدائهم ورماحهم وتعريضهم لأسرهم لهم وتعذيبهم واسترقاقهم لعله أعظم من الأمر بدخول النار) (1)

زيادة على ذلك كله، فإن أمرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم، وكيف يعاقبهم على غير ذنب؟ (وإنما هو امتحان واختبار لهم هل يطيعونه أو يعصونه فلو أطاعوه ودخلوها لم تضرهم وكانت عليهم بردا وسلاما، فلما عصوه وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره، والملوك قد تمتحن من يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظاهر، هل يوطن نفسه عليه أم لا؟ فإن أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أعفوه منه، وإن امتنع وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه) (2)

__________

(1) المرجع السابق، 2/ 1154.

(2) المرجع السابق،2/ 1152.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (279)

ومن هذا الباب أمر الله تعالى الخليل عليه السلام بذبح ولده، ولم يكن مراده تعالى من ذلك سوى امتحانه على مدى امتثاله وتسليمه وتقديمه محبة الله على محبة الولد، فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح.

بل إن عباد النار ـ مع كفرهم ـ يتهافتون فيها ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان، ولا يقولون: ليس ذلك في وسعنا مع تألمهم بها غاية الألم، (فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسعهم وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم) (1)

فليس أمرهم بدخول النار من باب العقوبة في شيء، لأن (الله تعالى اقتضت حكمته وحمده وغناه ورحمته ألا يعذب من لا ذنب له، بل يتعالى ويتقدس عن ذلك كما يتعالى عما يناقض صفات كماله، فالأمر باقتحام النار للخلاص منها هو عين الحكمة والرحمة والمصلحة، حتى لو أنهم بادروا إليها طوعا واختيارا ورضي حيث علموا أن مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صلاحهم وسبب نجاتهم، فلم يفعلوا ذلك ولم يمتثلوا أمره، وقد تيقنوا وعلموا أن فيه رضاه وصلاحهم، بل هان عليهم أمره وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمة وإحسانا لا عقوبة) (2)

هذا ما ذكره ابن القيم في الدفاع عن ذلك التكليف، ونحب أن نعقب عليه بأن تلك الروايات الواردة في الاختبار، والتي قد يصعب قبول ذلك الاختبار الوارد فيها.. لا يمكن الحكم عليها انطلاقا من عالمنا، ذلك أن أولئك سيختبرون في محل آخر مختلف تماما عن عالمنا، وربما يكون للأمر بدخول النار في ذلك العالم ما يؤيده من الحكمة والعدالة والقيم الثابتة.

__________

(1) المرجع السابق، 2/ 1155.

(2) المرجع السابق، 2/ 1156.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (280)

ذلك أن التكليف بالمستحال كما هو محال في الدنيا؛ فهو محال أيضا في الآخرة، وفي كل محل، ذلك أن رحمة الله تعالى وعدالته وكل أسمائه الحسنى تتنافى مع ذلك.

وربما يكون أحسن المواقف في هذا هو القبول بكون أولئك الذين لم تتح لهم فرصة الاختبار في الدنيا تتاح لهم الفرصة هناك في أرض المحشر، من غير تحديد للكيفية، لأن ذلك يرتبط بالمعطيات الخاصة بذلك العالم.

وقد يقال هنا: بان هؤلاء الذين عاينوا فترة البرزخ، وما بعدها من أحداث سيسهل عليهم النجاح في الاختبار بخلاف الذين لم يروا كل ذلك، وبذلك تنتفي العدالة، لأن بعض الممتحنين عاينوا الإجابة بخلاف غيرهم.

والجواب على هذا وارد في النصوص المقدسة، والتي تخبر أن الله تعالى هو المتحكم في كل أجهزة الإنسان من الذاكرة وغيرها، ولذلك إن أراد تكليفه، فإنه ما أسهل أن يزيل من ذاكرته كل ما يحول بينه وبين ذلك التكليف.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ الله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] لكن الله تعالى رد عليهم بأن ذلك ليس في طاقتهم، وإنما هو لله، فقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]

ومن أحسن الأمثلة على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من أخذ العهد على بني آدم، فقد أخبر الله تعالى أن البشر جميعا سمعوا ذلك العهد وأقروا به، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173]

لكنهم نسوه في مرحلة التكليف، حتى تبلى سرائرهم، وتمحص حقائقهم، ويظهر

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (281)

معها طيبهم أو خبثهم.

ثانيا ـ الحساب والموازين.. وتجليات العدالة

بعد تلك الفترة التي يقف فيها أهل المحشر بحسب أعمالهم وتوجهاتهم وأممهم، والتي يختلف زمنها بحسب كل شخص منهم، تبدأ مرحلة جديدة في ذلك العالم، هي مرحلة التجلي الأعظم للعدالة المطلقة، والذي وردت الكثير من تفاصيلها في النصوص المقدسة.

ومن خلال استقراء تلك النصوص نجد أنه يمكننا تقسيمها إلى أربعة مراحل على هذا الترتيب، والذي قد يقع الخلاف في بعض تفاصيله:

الأولى: عرض الأعمال: وهي أن يتاح لكل شخص أن يستعرض كتاب أعماله، ليطلع على ما فيه، ويتأكد من كل شيء فعله، وأنه لم يضف فيه، ولم ينقص منه.

الثانية: طلب الشهود: وفي هذه الحالة يمكنه طلب التأكد مما كتب، أو طلب الشهود إن لم يثق بما ورد في الكتب.

الثانية: الامتحان والحساب: وهو إتاحة الفرصة لكل شخص ليدلي بحججه، ويجيب عن الأسئلة التي تطرح عليه، وذلك أثناء مناقشة كل عمل قام به، ويدخل في هذا الحساب تلك الذنوب المتعدية التي تتعلق بحقوق الآخرين، والتي يسمح فيها للمتخاصمين بأن يلتقي بعضهم بعضا، ويدلي كل واحد منهم بما لديه من حجج.

الثالثة: وضع الأعمال وغيرها في الموازين: والتي تقوم بوزن كل عمل صالح أو غير صالح، ووزن صاحبها ومقاصده وكل شيء يرتبط به، وبعد هذه الموازين تظهر النتيجة التي تبين المصير الذي يصير إليه الشخص، إما الجنة، وإما النار.

الرابعة: الشفاعة والشهادة والسراط: فبعد أن تظهر نتائج عمل كل شخص، يتدخل الشفعاء والشهداء ويعرض الشخص على السراط، لأن هناك من السيئات ما قد

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (282)

يعفى عنه، ومنها ما لا يمكن أن يعفى عنه، ولذلك يكون الشهداء والسراط ممحصات أخرى بالإضافة للموازين.

وسنستعرض هذه المراحل الأربعة، وكيفيتها، وتجليات العدالة المرتبطة بها، في هذا المبحث، وقبل ذلك نسوق نصا من كلام الإمام علي، يرد فيه على بعض الإشكالات التي تجعل البعض يتوهم تعارض النصوص المقدسة بناء على عدم فهم ما يجري من أحداث في ذلك العالم.

فقد روي أن رجلا أتى الإمام علي، فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد شككت في كتاب الله المنزل، فقال له الإمام: ثكلتك أمك، وكيف شككت في كتاب الله المنزل، فقال الرجل: لأني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضا، فكيف لا أشك فيه، فقال له الإمام: (إن كتاب الله ليصدق بعضه بعضا، ولا يكذب بعضه بعضا ولكنك لم ترزق عقلا تنتفع به، فهات ما شككت فيه من كتاب الله عز وجل!) (1)

ثم عرض له الرجل ما توهمه من تعارضات، ومنها قوله: (وجدت الله عز وجل يقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، ويقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94]، ويقول: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، ويقول: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]، فمرة يقول: يوم يأتي ربك، ومرة يقول: يوم يأتي بعض آيات ربك، فأنى ذلك يا أمير المؤمنين، وكيف لا أشك فيما تسمع؟! وغيرها من الإشكالات.

ومن إجابات الإمام علي قوله: (وأما قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا

__________

(1) الصدوق في التوحيد/254.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (283)

يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، وقوله: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ} [العنكبوت: 25]، وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64]، وقوله: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق: 28]، وقوله: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، فإن ذلك في موطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم، الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، يجمع الله عز وجل الخلائق يومئذ في مواطن، ويكلم بعضهم بعضا، ويستغفر بعضهم لبعض، أولئك الذين كان منهم الطاعة في دار الدنيا. ويلعن أهل المعاصي الرؤساء والأتباع الذين بدت منهم البغضاء، وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا، المستكبرين والمستضعفين، يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا. والكفر في هذه الآية البراءة، يقول: يبرأ بعضهم من بعض، ونظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22]، ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيه، فلو أن تلك الأصوات بدت لأهل الدنيا لأذهلت جميع الخلق عن معائشهم، ولتصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله، فلا يزالون يبكون الدم.. ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، فيختم الله تبارك وتعالى على أفواههم، ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود، فتشهد بكل معصية كانت منهم.. ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ.. ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون، فيفر بعضهم من بعض، فذلك قوله عز وجل: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 34، 35]، فيستنطقون فـ: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، فيقوم الرسل صلى الله عليهم فيشهدون في هذا الموطن، فذلك قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، ثم يجتمعون في موطن آخر، يكون فيه

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (284)

مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو المقام المحمود، فيثني على الله تبارك وتعالى بما لم يثن عليه أحد قبله، ثم يثني على الملائكة كلهم، فلا يبقى ملك إلا أثنى عليه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يثني على الرسل بما لم يثن عليهم أحد قبله ثم يثني على كل مؤمن ومؤمنة، يبدأ بالصديقين والشهداء ثم بالصالحين، فيحمده أهل السماوات والأرض.. ثم يجتمعون في موطن آخر ويدال بعضهم من بعض. وهذا كله قبل الحساب فإذا أخذ في الحساب شغل كل إنسان بما لديه)

إلى آخر الحديث، وهو يبين أن اختلاف النصوص الواردة في المحشر، لا يدل على التعارض، وإنما يدل على اختلاف المواقف، كما رأينا ذلك في المباحث السابقة، وكما سنراه في سائر المباحث.

1 ـ الأعمال وكتبها

أول تجليات العدالة الإلهية في أرض المحشر، وقبل الحساب والموازين ـ كما تدل النصوص المقدسة ـ عرض سجلات الأعمال على أصحابها لينظروا فيها، ويتأكدوا منها، قبل أن يحاسبوا عليها.

وقد أخبر القرآن الكريم أن الذي تولى تسجيل تلك الكتب والسجلات هم الملائكة عليهم السلام، والمختصين بهذا الجانب، لتناسبه مع طبيعتهم وخصائصهم، ولهذا سماهم الله تعالى (كراماً كاتبين)، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار:10 ـ 12)

وقبل أن نذكر أنواع الأعمال المسجلة في تلك الكتب، وكيفية قراءتها، نحب أن نذكر ما ذكره بعض المعاصرين من التصويرات التي تقرب ذلك للعقول، وخاصة تلك التي لا زالت على بدائيتها، متوهمة استحالة تسجيل الأعمال.

ومن تلك التقريبات ما ذكره وحيد الدين خان في كتابه [الإسلام يتحدى] عند ذكره لبراهين الآخرة، ورده على المشككين فيها، وقد قدم لذلك بقوله: (إن الحياة، كما نتصور،

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (285)

ليست (غدوا ورواحا)، كما يراها الفيلسوف الألماني (نيتشه)، والتي تمتلاء وتخلو كالساعة، ولاهدف لها أكثر من ذلك.. إن الحياة (الآخرة) ذات هدف عظيم، هو المجازاة على أعمال الدنيا، خيرا كانت أو شرا) (1)

ثم بين مدى مساهمة العلم الحديث في تقريب ذلك، فقال: (وهذا الجزء من نظرية الآخرة يكاد يتضح جليا حين نعلم أن أعمال كل انسان تحفظ وتسجل بصفة دائمة، وبغير توقف، فللإنسان ثلاثة أبعاد، يعرف من خلالها، هي: نيته، وقوله، وعمله. وهذه الأبعاد الثلاثة تسجل بأكملها. فكل حرف يخرج عن لساننا، وكل عمل يصدر عن عضو من أعضائنا يسجل في الأثير (الفضاء)؛ ويمكن عرضه في أي وقت من الأوقات بكل تفاصيله، لنعرف إذا شئنا كل ما قاله، أو فعله أي انسان في هذه الحياة الدنيا، من خير أو شر) (2)

ثم بدأ يذكر ما توصل إليه العلم من كيفية تسجيل الأفكار والخواطر، فقال: (إن الأفكار تخطر على بالنا، وسرعان ما ننساها، ويبدو لنا أنها انتهت، فلم يعد لها وجود، ولكنا، بعد فترة طويلة، نراها رؤى خلال النوم، أو نذهب نتكلم عنها في حالات الهستريا أو الجنون، دون أن ندري شيئا مما نقول. وهذه الوقائع تثبت قطعيا أن العقل أو الحافظة ليست تلك التي نشعر ونحس بها فحسب، وإنما هناك أطراف أخرى من هذه الحافظة لانشعر بها، وهي ذات وجود مستقل، وذات كيان قائم بنفسه، وقد أثبتت التجارب العلمية أن جميع أفكارنا تحفظ في شكلها الكامل، ولسنا قادرين على محوها أبدا، وأثبتت هذه التجارب أيضا أن الشخصية الانسانية لاتنحصر فيما نسميه (الشعور)، بل هناك أجزاء أخرى من الشخصية الانسانية تبقى وراء الشعور، يسميها فرويد: (ماتحت الشعور)، أو (اللاشعور). وهذه الأجزاء تشكل جانبا كبيرا من شخصيتنا، بل هي الجانب الأكبر منها فمثلها لمثل جبل

__________

(1) الإسلام يتحدى، ص 87.

(2) المرجع السابق، ص 87.

أسرار ما بعد الموت بين الدين والعقل (286)

من الجليد في أعالي البحار أجزاؤه الثمانية مستكنة تحت الماء، على حين لايطفو منه الا الجزء التاسع. وتلك هي مانسميه: (تحت الشعور)، الذي يسجل ويحفظ كل مانفكر فيه، أو ننتويه) (1)

ثم نقل عن (فرويد) قوله: (إن قوانين المنطق، بل أصول الأضداد أيضا، لاتحول دون عمل (اللاشعور)، وإن الأماني المتناقضة موجودة فيه جنبا إلى جنب، دون أن تقضى واحدة منها على الأخرى، ولاشيء في اللاشعور يشبه أن يكون (رفضا) لشيء من هذه المتناقضات. إننا نتحير لما نشاهده من أن أللاشعور يبطل رأي فلاسفتنا القائلين بأن جميع أفعالنا العقلية الشعورية تتم في زمن محدد، ولكن لاشيء في اللاشعور يطابق الفكر الزمني، ولايوجد فيه أي رمز لمضي الوقت وسريانه، وهي حقيقة محيرة. ولم يحاول الفلاسفة أن يتأملوا حقيقة، هي أن مضى الزمن لايحدث أي تغيير في العمل الذهني؛ إن الدوافع الحبيسة التي لم تخرج قط عن اللاشعور، وحتى التأملات الخيالية التي دفنت في اللاشعور تكون أزلية في الحقيقة والواقع، وتبقى محفوظة لعشرات السنين، وكأنها لم تحدث الا بالأمس) (2)

وذكر أن هذه النظرية التي اعتمدها فرويد، ليست