الكتاب: مدارس النفس اللوامة
الوصف: أربعون رسالة في مناهج التزكية ومدارسها
السلسلة: رسائل التزكية والترقية
المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1441 هـ
عدد الصفحات: 654
ISBN: 978-620-3-85905-8
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
النفس اللوامة هي النفس التي تقع في المرتبة الثانية بعد النفس الأمارة، لتحضر صاحبها لأن تتحول نفسه إلى نفس مطمئنة..
ودورها بذلك محدود ومؤقت، ويمكن تحديده في جانبين، أو وظيفتين:
أولاهما: تزكية النفس وتهذيبها من كل مثالب النفس الأمارة، ذلك أنه لا يمكن أن تبنى الأخلاق الطيبة إلا بعد اجتثاث ما يخالفها من الأخلاق الخبيثة.
وثانيها: ترقية النفس إلى المحال التي تطمئن فيها للإيمان، لتصبح بذلك أهلا لدرجة النفس المطمئنة.
وهذان الدوران يحتاجان إلى التعرف على المناهج الصحيحة التي يمكن أن تسير بالنفس سيرا صحيحا، حتى لا ينحرف بها صاحبها في الوقت الذي يريد فيه تهذيبها والرقي بها.
ولذلك حاولنا في هذه الرسائل أن نذكر المناهج التي يمكن أن تقوم بذينك الدورين، مع بيان أدلتها الشرعية، والأخطاء التي تسربت إليها، وحالت بينها وبين أداء أدوارها الصحيحة.
مدارس النفس اللوامة (10)
النفس اللوامة هي النفس التي تقع في المرتبة الثانية بعد النفس الأمارة، لتحضر صاحبها لأن تتحول نفسه إلى نفس مطمئنة..
ودورها بذلك محدود ومؤقت، ويمكن تحديده في جانبين، أو وظيفتين:
أولاهما: تزكية النفس وتهذيبها من كل مثالب النفس الأمارة، ذلك أنه لا يمكن أن تبنى الأخلاق الطيبة إلا بعد اجتثاث ما يخالفها من الأخلاق الخبيثة.
وثانيها: ترقية النفس إلى المحال التي تطمئن فيها للإيمان، لتصبح بذلك أهلا لدرجة النفس المطمئنة.
وهذان الدوران يحتاجان إلى التعرف على المناهج الصحيحة التي يمكن أن تسير بالنفس سيرا صحيحا، حتى لا ينحرف بها صاحبها في الوقت الذي يريد فيه تهذيبها والرقي بها.
ولذلك حاولنا في هذه الرسائل أن نذكر المناهج التي يمكن أن تقوم بذينك الدورين، مع بيان أدلتها الشرعية، والأخطاء التي تسربت إليها، وحالت بينها وبين أداء أدوارها الصحيحة.
وقد حاولنا ـ مثلما فعلنا في الرسائل السابقة ـ الاهتمام بالجانب العملي، مع تأييده بما يدل عليه من التأصيل النظري.. ولذلك ذكرنا الكثير من النماذج العملية في كل رسالة، لا قصدا منا لحصرها، وإنما للدلالة عليها، وعلى مثيلاتها.
ومثلما فعلنا في الرسائل السابقة من تأييد ما نذكره من مناهج بالنصوص المقدسة؛ فقد فعلنا ذلك معتمدين على القرآن الكريم أولا باعتباره المصدر الأكبر للتزكية.
ثم نتبعه بما ورد في السنة المطهرة، ومثلها عن أئمة الهدى، من المصادر المختلفة
مدارس النفس اللوامة (11)
بحسب المنهج الذي نتبناه في صحة الأحاديث أو قبولها، وهو موافقتها للقرآن الكريم والقيم التي جاءت بها الشريعة، ولذلك لا نهتم بأقوال المحدثين وأحكامهم، وخاصة مع اختلافها، وإنما نكتفي بإيراد المصادر الحديثية.
بالإضافة إلى ذلك نذكر ما قاله علماء التزكية، والمهتمون بها، من غير ذكر أسمائهم في العادة، لأنه قد يختلف في الموقف من بعضهم، وذلك ما يشغل القارئ عن الهدف من الرسائل، وهي تزكية النفس، وليس الجدل ولا الشغب.
وقد رأينا من خلال التجربة أن ذكر أسماء علماء التزكية، يثير الكثير من الحساسيات من جهات مختلفة، ذلك أنه يصرف النظر عن الأقوال إلى القائلين بها، ولذلك رأينا من الحكمة أن نذكرهم باسم الحكماء، باعتبار أن ما قالوه حكمة يمكن الاستفادة منها، والحكمة ضالة المؤمن، أين وجدها فهو أحق بها.
ومثل ذلك أعرضنا عن الخلافات الواردة في الكثير من المسائل ذلك أن القصد هو التزكية والترقية.. لا الجدل والشغب والوساوس التي يثيرها في النفس.
مع العلم أننا ـ مع تبسيطنا للمسائل المطروحة، ووضعها بشكل يفيد كل القراء بمختلف مستوياتهم ـ إلا أن معظم ما ذكر في كتب التزكية في تلك الجوانب ذكرناه، ولكن بصياغة بسيطة مهذبة، بحيث يمكن استفادة الجميع منها.. لا في التزكية العملية وحدها، وإنما في المعارف العلمية المرتبطة بها.
مدارس النفس اللوامة (12)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تشكرني على رسائلي التي أجبتك فيها عن أسئلتك حول [مثالب النفس الأمارة]، وذكرت لي أنها ـ بفضل الله وعونه ـ أثرت فيك تأثيرا كبيرا؛ فصرت تعرف ما كنت تجهله من المثالب والعيوب، وتعرف منابعها وثمارها وكيفية مواجهتها وعلاجها..
وأخبرتني أن ذلك العلم لم يبق محصورا في دائرة عقلك، وإنما امتد إلى مراكز إرادتك وعزيمتك؛ فراح يدعوها لتطهير نفسك منها، وحمايتها من كل مسالك الشيطان والهوى المؤدية إليها.
وأخبرتني أن ذلك جعلك أكثر ورعا؛ فصرت تتوقف قبل عقد أي نية، أو النطق بأي قول، أو القيام بأي عمل، أو اتخاذ أي موقف، قبل أن تعرف حكم الله فيه، وعلاقته بتلك المثالب، حتى لا يكون صادرا من هواك، أو نفسك الأمارة.
وأخبرتني أنك صرت تلوم نفسك كثيرا، وتحاسبها على النقير والقطمير، وتترجى كل من شعرت أنك آذيته بأن يبرئ ذمتك، وتسارع لكل من قصرت في حقه بالوفاء بما يطلبه الواجب منك.
لكنك بعد هذا ذكرت لي أن همتك أعلى من أن تتوقف عند تطهير نفسك من خبثها ومكايد الشيطان المتربصة بها.. وأنك تطمح إلى أن تسير في طريق الأولياء والصالحين والصديقين، لتنزل المنازل التي نزلوها، وتتنزل عليك المعارف والمواهب التي تنزلت عليهم.
وطلبت مني لذلك أن أذكر لك المناهج العملية المؤدية لذلك، وأن أقتصر فيها على ما دل عليه الدليل، ووافقت عليه الشريعة، ونصت عليه النصوص المقدسة، أو أشارت
مدارس النفس اللوامة (13)
إليه.
وقد ذكرت لي أنك سترسل لي رسائل تطلب مني توضيح الطرق والمناهج المرتبطة بذلك، مثلما فعلت مع رسائلك حول مثالب النفس الأمارة.. وطلبت مني أن يتسع صدري لذلك، وألا يضيق بما قد أبديه لك من نقد أو عتاب حول ما قد تنفر نفسك منه، أو تشعر أنه يصطدم مع ما تفهمه من الشريعة ونصوصها المقدسة.
ثم ختمت رسالتك لي بطلب أن أذكر لك ما دلت عليه النصوص المقدسة من المجامع التي تجتمع فيها كل المناهج والمدارس والطرق الشرعية للسير إلى الله، حتى تكون معينة لك على فهم الطريق إجمالا، قبل معرفته تفصيلا.
وقد سرتني ـ أيها المريد الصادق ـ رسالتك كثيرا، وخاصة ما ذكرت لي فيها من عزمك على نقد ما تراه مخالفا للشريعة؛ وهذا ظني بك؛ فلا ينبغي للمريد الصادق مع الله أن يكون شيخه أولى عنده من ربه أو نبيه أو كتابه أو من جعلهم الله ممثلين للحقيقة وهداة إليها.
وجوابا لطلبك في هذه الرسالة أذكر لك أن الله تعالى ـ برحمته ولطفه ـ وفر لعباده ـ مراعاة لطبائعهم وأمزجتهم وعزائمهم ـ الكثير من المناهج والوسائل والطرق التي إن التزموها، سارت بهم إلى الله تعالى، ورفعت عن عيون قلوبهم كل الحجب التي تحول بينهم وبين الحقائق، ورفعت عن أنفسهم كل الموانع التي تحول بينها وبين إنسانيتها المكرمة، حتى قال بعضهم في ذلك: (لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق)
ولذلك ترى السائرين إلى الله مختلفي الأذواق والأمزجة والمناهج.. ومع ذلك تجمعهم طريق الله الواحدة التي تصفي نفوسهم، وتهذب طباعهم، لتجعلها صالحة للحق، كما عبر بعض الصالحين عن ذلك، فقال:
عباراتنا شتى وحسنك واحد... وكل إلى ذاك الجمال يشير
وقال الآخر مبينا الوئام الموجود لدى السائرين في طريق الله مقارنة مع النزاع الموجود لدى المتكلمين والفلاسفة وغيرهم:
وكم بين حذّاق الجدال تنازع... وما بين عشّاق الحبيب تنازع
وعبر آخر عن ذلك بقوله: (تعدد وجوه الحسن، يقضي بتعدد الاستحسان)
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشار إلى ذلك، فقال: (يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقةٌ، فكل تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكر صدقةٌ) (1)
وقال: (الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستون شعبةً: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان) (2)
وغيرها من الأحاديث التي تدل على كثرة أبواب الخير، وأن كل من سلك بابا منها، يمكنه أن يكون وسيلته إلى الله تعالى، ووسيلته إلى تهذيب نفسه.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن ابتغاء الوسائل المؤدية إلى تهذيب النفس وتزكيتها وترقيتها واجب شرعي لا يقل عن الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها.. ذلك أن الإنسان لا يمكنه أن يتحول إلى الصيغة المراد أن يكون عليها، إلا بعد أن يقوم بذلك.
وقد صرحت النصوص المقدسة بوجوب استعمال كل الوسائل والمناهج المؤدية لذلك، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]
فقد قرن الله تعالى في هذه الآية الكريمة تقوى الله بابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيل
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
مدارس النفس اللوامة (14)
الله.. ليبين أنه لا يمكن تحقيق التقوى إلا باستعمال الوسائل المؤدية لذلك، والتي قد تستدعي الكثير من المجاهدات حتى تتخلص النفس من رعونتها، وتستقيم في السير إلى ربها.
وهكذا وصف الله تعالى عباده الصالحين، وحرصهم على القرب منه، وابتغاؤهم لذلك كل الوسائل، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]، وهو يدل على أن وصولهم إلى تلك المراتب لم يكن إلا باستعمالهم الوسائل التي أتاحت لهم ذلك.
وهذه سنة الله تعالى في خلقه؛ فلكل شيء وسائله المؤدية إليه، ولا يمكن تحقيق المقاصد من دون الوسائل؛ فلا يمكن أن يتعلم المرء من دون القراءة، ولذلك أمرت الشريعة بالقراءة، فقد قال الله تعالى في أول ما نزل من القرآن الكريم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]
ولا يمكن العلاج من الأدواء من دون استعمال الأدوية، وزيارة الأطباء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أنزل الله داء، إلا قد أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله) (1)
وهكذا تطهير النفس وتزكيتها، والتي أخبر الله تعالى عن ارتباط الفلاح والفوز بها، لا يمكن تحقيقها إلا بالبحث عن الوسائل المعينة لذلك، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]
وهذه الآيات الكريمة تدل على أن النفس طيعة لصاحبها، يمكنه أن يزكيها، كما يمكنه أن ينتكس بها وينزلها بها إلى عوالم لا تمت لها بصلة.
__________
(1) البخاري (7/ 158)، وابن ماجة (3439)
مدارس النفس اللوامة (15)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الله تعالى ذكر المجامع التي تؤول إليها كل المناهج والمسالك، لتنضبط بها، حتى لا تصبح عرضة للوسائل التي تسنها الأمزجة والأهواء، وقد يدس فيها الشيطان ما يصرف عن الله ويبعد عنه، بدل أن يقرب إليه.
ومن تلك المجامع ما نص عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] والتي وردت بعد الآيات المخبرة عن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تزكية أمته، وأمرها بالذكر والشكر اللذين يمثلان علامة التزكية الحقيقية، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151، 152]
ومثلها ما ورد في قوله تعالى خطابا لبني إسرائيل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وقد وردت كذلك في معرض بيان التكاليف الشرعية المؤدية للتزكية، قال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 42 - 44]
وبذلك؛ فإن الآيتين الكريمتين تصفان المجامع الكبرى التي يمكن اعتبارها البحر الذي تجتمع فيه روافد السير والسلوك إلى الله.. أو تنطلق منه.
وقد تأملت ـ أيها المريد الصادق ـ في كل المسالك والمناهج التي اعتبرها السائرون إلى الله، أو قاموا بتنفيذها على أنفسهم، أو على مريديهم، فوجدتها جميعا تنطلق من هاتين الآيتين الكريمتين.. ووجدت مقابل ذلك أن كل البدع والانحرافات التي انحرفت بسير السائرين كان سببها اختلافها مع ما ورد في الآيتين الكريمتين من منهج الاستعانة على النفس.
مدارس النفس اللوامة (16)
ولذلك يمكن اعتبار جميع المناهج الشرعية للسير إلى الله مظاهر وتجليات للصلاة والصبر.. وكل منهج خالفهما، يكون منهجا مبتدعا، لأنه خالف الأصول التي أمر الله تعالى بالاستعانة بها.
وبذلك ـ أيضا ـ يمكن اعتبار الصلاة والصبر المدرستين أو الجامعتين اللتين تدرب المنتمين إليها على كل مقررات السير والسلوك..
وذلك لا يعني حرفية الصبر والصلاة في الآيتين الكريمتين، بحيث تختصر مناهج السير فيهما؛ فهذا لا يتوافق مع القرآن الكريم نفسه، ذلك أن الله تعالى اعتبر كثيرا من الأعمال الشرعية من مناهج السير إلى الله، كما قال في جميع الشعائر التعبدية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]
وضرب المثل لذلك بالصيام، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
وغيرها من الآيات الكريمة، ومثلها من الأحاديث والروايات التي تدل على أن كل أعمال الخير ليست سوى وسائل للتربية والتهذيب والتزكية والترقية.
ولذلك فإن المراد بالاستعانة بالصبر والصلاة أشمل من أن تختصر في المعنى الحرفي لهما، بل هما يدلان على الأصول المرتبطة بمناهج السير إلى الله، وهما أصلان:
الأول: المجاهدات والرياضات التي تحتاج إلى الصبر، حتى تُهذب النفس، وتبتعد عن رعونتها، وتتحلى بالقيم التي تجعلها أهلا للقرب الإلهي.. ولذلك قدم الله تعالى الصبر على الصلاة.. لأن الصلاة الحقيقية لا تكون إلا بعد تهذيب النفس وتربيتها..
والغرض الأكبر من هذه المجاهدات هو تحقيق القيم الأخلاقية في النفس، حتى تتأدب مع الله ومع أوليائه وخلقه، لتكون أهلا لتنزل الفضل الإلهي.
مدارس النفس اللوامة (17)
الثاني: الصلاة، وتعني كل الوسائل المؤدية إلى الصلة بالله، من إقامة الصلاة والذكر والدعاء والمناجاة والتضرع والابتهال والتدبر والتفكر والتأمل وغيرها، وجميعها تؤدي إلى تزكية الروح لتصبح أهلا للمحبة والأنس والتوكل وجميع المنازل التي تنزلها النفس المطمئنة، وتصبح مع ذلك أهلا لتنزل المعارف والمواهب الإلهية.
وكلا الأمرين يحتاج بعضهما إلى بعض؛ فالصبر ومناهجه لا يمكن أن يتم من دون استعمال الصلاة ومناهجها.. ومثل ذلك الصلاة لا يمكن أن تؤتي مفعولها ما لم يصحبها الصبر.
وبناء على هذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تنظر في كل مناهج السير إلى الله، والتي تراها في الواقع، لترى مدى قربها من هذين الأصلين اللذين دل عليهما القرآن الكريم؛ فإن كانا متوافقين معهما؛ فهما شرعيان، وإلا كانا من المناهج المبتدعة.
ومن الأمثلة على ذلك ما يطلق عليه [الخلوة]، والتي يعتمدها بعض السائرين إلى الله؛ فهي إن كانت خلوة وتفرغا للذكر والتقرب إلى الله، ومن غير انقطاع كلي عن الخلق، أو التقصير في أداء التكاليف الشرعية؛ فهي خلوة مشروعة، ذلك أنها مرتبطة بالصلاة، لأنها تحوي ذكر لله، وتحاول التواصل معه، وهي مرتبطة بالصبر لأن فيها مجاهدة للنفس على التفرغ لذلك.
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تسأل عن أي منهج تراه في واقع السالكين، لترى من خلاله مدى صلته بالمنهجين اللذين نص عليهما القرآن الكريم، واعتبرهما من المناهج الكبرى التي لا يمكن أن يقوم بها إلا الخاشعون الصادقون.
وبما أن هذين المنهجين هما قادة المناهج، فسأذكر لك بعض ما ورد حولهما في النصوص المقدسة مما يبين فضلهما، وأهميتهما في السير والسلوك.
مدارس النفس اللوامة (18)
أما المدرسة الأولى ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مدرسة الصبر، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهميتها وضرورتها للسائرين إلى الله؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، فقد ربط الله تعالى الفلاح بالصبر والمصابرة والمرابطة، وهو لا يعني الفوز بالجنة فقط، وإنما يعني تهذيب النفس وتطهيرها وتطييبها، لأنه لا يدخل الجنة إلا الطيبون الطاهرون.
وهي تشير إلى استعمال كل أنواع الصبر، وفي كل المجالات، ولو تكلفا، وهي تحوي في معناها الكثير من المناهج التي مارسها السالكون إلى الله، كالمشارطة والمعاهدة والمرابطة والمجاهدة والمحاسبة والمعاقبة وغيرها.
ولذلك أخبر الله تعالى أن من صفات الصالحين من عباده [الصبر]، وهو يدل على أنه ركن في شخصيتهم، وأنه لولاه لم يتحقق لهم الصلاح، بل إن الله تعالى أكد ذلك بكونه السبب في صلاحهم، فقال ـ عند ذكر سبب اختياره لأئمة الهدى ـ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]،وتقديمه للصبر على اليقين دليل على أن اليقين الذي هو أعلى مراتب المعرفة لا يصل إليه إلا الصابرون الذين جاهدوا أنفسهم في الله.
وهكذا وصف الله تعالى الرسل عليهم السلام بالصبر، فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]
وأخبر أن كل الأعمال الصالحة تحتاج إلى الصبر، سواء في أدائها، أو في الاستمرار عليها، أو في إقامتها وفق الرضى الإلهي.
ومن ذلك الإحسان الذي هو من المنازل العظمى للنفس المطمئنة، فقد قرنه الله تعالى
مدارس النفس اللوامة (19)
بالصبر، فقال: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115]، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]
وسر ذلك واضح، ذلك أن المحسن الذي يتقن عمله، ويؤديه وفق ما يتطلبه، يحتاج إلى صبر كبير، بخلاف الذي يؤدي عمله من غير مراعاة الإتقان.
وهكذا يقترن الصبر بالتوكل، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 42]، وقال عن الرسل وخطابهم لقومهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12]
وسر ذلك واضح، ذلك أن المتوكل الذي أسند أموره لله ثقة به، وبقدرته المطلقة، لا يستعجل النصر، ولا يتألم إذا لم يهزم أعداؤه أمامه، لأنه يعلم أن تحديد آجال ذلك لله تعالى، بخلاف الذي يفتقد الصبر، والذي ينهار في أقرب فرصة.
وهكذا يقترن الصبر بالصدق والثبات والجهاد وغيرها من صفات الصالحين، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110]
وأخبر عن قول السحرة لفرعون: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]
وأخبر عن قول موسى عليه السلام لقومه: {اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]
وأخبر عن الاختبارات التي أجراها طالوت للذين أرادوا صحبته للجهاد في سبيل الله، ثم بين أنه لم ينجح منهم إلا من كان متسلحا بسلاح الصبر، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو الله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
مدارس النفس اللوامة (20)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 249، 250]
وقد أخذ الكثير من السائرين في طريق الله بمنهج طالوت في تربية جنده، عندما أمرهم بالصبر أمام الماء، كما قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249]
فلذلك راحوا يستعملون أنواع المجاهدات التي تتيح لهم تربية أنفسهم على الأخلاق الطيبة، التي لا يمكن التحقق بها من دونها، بل إنهم راحوا يضعون أنواع العقوبات التي ترتبط بالتقصير، حتى يكون ذلك العقاب الدنيوي المحدود رادعا لهم عن العقاب الأخروي.
وهكذا أخبر الله تعالى عن علاقة الصبر بمواجهة كل مثالب النفس الأمارة المرتبطة بالعدوان، وتحقيقها بالسماحة والحلم والعفو والكرم، كما قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35]، وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]
وأخبر عن علاقة الصبر بالتقوى التي تجتمع عندها كل المكارم، فقال: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]
وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن المواهب الإلهية التي تتنزل على النفوس المرضية مرتبطة بمدى صبرهم، فقد شرط الله تعالى تنزل المدد الإلهي على المؤمنين بالصبر والتقوى.
مدارس النفس اللوامة (21)
ومثل ذلك أخبر عن أنواع كثيرة من الفضل، لم يكن لها من سبب سوى الصبر، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]، وقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11]
وغيرها من الآيات الكريمة التي تخبر عن الجزاء العظيم الذي يناله الصابرون، مثل قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]، وقال: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 75، 76]، وقال: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54]، وقال: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 12، 13]، وقال ذاكرا خطاب الملائكة عليهم السلام لهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24]
ومثلها ما ورد في الأحاديث الشريفة كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض. ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستّمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش) (1)
وكل هذه النصوص المقدسة وغيرها تشير إلى كون الصبر دعامة أساسية للتقوى، وأن التحقق به يجعل من صاحبه مستعدا لنيل كل الكمالات، ولذلك ذكر الله تعالى أن
__________
(1) الكافي ج 2 ص 75.
مدارس النفس اللوامة (22)
الأجور المعدة للذين أدمنوا على الصبر، وأتقنوا التعامل معه، من دون حساب، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]
قد تسألني ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا عن سر كل هذا الفضل الذي توفر للصبر، وجعله دعامة من دعامات التربية والإصلاح، وجوابا على ذلك أذكر لك أن الصبر هو تلك الملكة الشريفة التي تجعل النفس ثابتة أمام الأهواء؛ فلا تستسلم لها، ولا تذعن لمقتضياتها.. وتجعلها ثابتة أمام المصائب والبلاء؛ فلا تجزع ولا تيأس ولا تقنط.. وتجعلها ثابتة عند التعرض للجهلة؛ فلا تكتفي بكظم غيظها عنهم، وإنما تحلم عليهم، وتعفو عنهم وتحسن إليهم.. وتجعلها ثابتة عند ملاقاة الأعداء، فلا تجبن، ولا يصيبها الخور، ولا تولي الدبر، بل تواجههم بكل شجاعة وقوة وثبات.. وتجعلها ثابتة عند عروض الشهوات؛ فتعف عنها، ولا تستسلم لها، ولا تركن إليها..
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجد الصبر عنصرا أساسيا في كل عمل صالح، وافتقاده يؤدي إلى كل المثالب التي حذرتنا منها النصوص المقدسة، والتي تحطم الإنسان، وتنتكس به وبطبيعته.
ولهذا عرف الحكماء الصبر بأنه (ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى)، وهم يقصدون بباعث الدين الفطرة الأصيلة التي تريد الأهواء الانحراف بها، والتي جاءت الشريعة الحكيمة للتحذير منها، وبيان الصفات الحقيقية للإنسان، لا الصفات التي يريدها الشيطان والأهواء.
وأما باعث الهوى؛ فهو كل المصادر التي تريد أن تنتكس بالإنسان عن حقيقته، سواء كانت داخلية كغلبة الشهوة والغضب، أو خارجية كوساوس شياطين الإنس والمجتمع.
ولكون الحرب بين هذين الباعثين دائمة مستمرة؛ فإن الصبر هو المدد الذي يظل
مدارس النفس اللوامة (23)
الإنسان محتاجا إليه كل حين إلى أن يلقى ربه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وهو معنى المرابطة في الصبر الوارد في الآية التي تأمر بالصبر بكل أنواعه.
وسبب الحاجة إلى المرابطة في الصبر هو أن الشياطين تظل مناصرة لباعث الهوى، والذي قد ينتصر على باعث الدين إن افتقد للصبر والعزيمة عليه.
وكما أن الثبات في المعارك مختلف الدرجات؛ فكذلك الصابرون؛ درجاتهم مختلفة بحسب ثبات باعث الدين فيهم، كما عبر بعضهم عن ذلك عند حديثه عن الموقف من الصبر عند الشدائد، فقال: (أهل الصبر على ثلاث مقامات: الأول: ترك الشكوى، وهذه درجة التائبين، الثاني: الرضا بالمقدر، وهذه درجة الزاهدين، الثالث: المحبة لما يصنع به مولاه، وهذه درجة الصديقين)
وروي أن الإمام الباقر قال لجابر، وقد رآه مريضا: كيف تجد حالك؟ قال جابر: أنا في حال الفقر أحب إليّ من الغنى، والمرض أحب اليّ من الصحة، والموت أحب إلي من الحياة. فقال له الامام: (أما نحن أهل البيت، فما يرد علينا من الله من الفقر والغنى والمرض والصحة والموت والحياة، فهو أحب إلينا) (1)
وهكذا يمكنك أن تجد في كل عمل المراتب المختلفة، والتي تدل على درجة صبر صاحبها؛ فبقدر صبره بقدر مرتبته ودرجته.
أما المدرسة الثانية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مدرسة الصلاة، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهميتها وضرورتها في السير إلى الله؛ فقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ
__________
(1) جامع السعادات، ج 3، ص: 285.
مدارس النفس اللوامة (24)
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت:45)
وهي تشير إلى أن من أدوار الصلاة الكبرى التي شرعت من أجلها الدور التطهيري، بنهيها صاحبها عن الفحشاء والمنكر، ومثل ذلك ما ورد في تهذيب نفس المداوم عليها، كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19 - 23]
ولهذا ورد في الأحاديث الكثيرة ما يبين دور الصلاة في تطهير الإنسان من الرذائل، والتي قد يكنى عنها بالسيئات والخطايا، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال مخاطبا أصحابه: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه؟)، قالوا: لا يبقي من درنه شيئا، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا) (1)
فهذا الحديث لا يشير فقط إلى تطهير سجل المؤمن من السيئات، وإنما يشير إلى تطهير نفسه منها أيضا، وذلك بحسب تعامله معها، وحرصه عليها، وخشوعه فيها.. فهي مثل العلاج الذي يقضي على كل الأمراض مهما كانت مستفحلة، لكن بشرط أدائه في وقته، ومع الحمية المناسبة له.
ولا أرى ـ أيها المريد الصادق ـ أي داع لذلك الخلاف الذي انتشر بين الفقهاء حول نوع الخطايا التي تكفرها الصلاة، وهل هي الكبائر أم الصغائر، ذلك أن قوة الصلاة في محو الخطايا تخلف باختلاف اهتمام صاحبها بها، وهي في ذلك تشبه تركيز الدواء، فقد يكون الدواء خفيفا للدرجة لا يمكنه أن يحدث أي تغيير، وقد يتوهم صاحب الدواء أنه يستعمله، لكنه لا يفعل ذلك، وقد تكون قوية شديدة الفاعلية والتأثير، بحيث تغير صاحبها تغييرا
__________
(1) البخاري- الفتح 2 (528) ومسلم (667)
مدارس النفس اللوامة (25)
كليا، كما ورد في بعض الآثار: (إنّ الرجلين ليقومان إلى الصلاة وركوعهما وسجودهما واحد، وإنّ ما بين صلاتيهما ما بين السماء والأرض)
وقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: (و الله إنّه ليأتي على الرجل خمسون سنة ما قبل الله منه صلاة واحدة، فأيّ شي ء أشدّ من هذا، والله إنّكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلّي لبعضكم ما قبلها منه لاستخفافه بها، إنّ الله لا يقبل إلّا الحسن فكيف يقبل ما استخفّ به) (1))
ولهذا ورد في الحديث عن عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فأخفها، فقيل له: خففت يا أبا اليقظان فقال: هل رأيتموني نقصت من حدودها شيئا؟ قالوا: لا قال: إني بادرت سهو الشيطان، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له نصفها، ولا ثلثها ولا ربعها ولا خمسها ولا سدسها ولا عشرها)، وكان يقول: (إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها) (2)
وروي أنه بينما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا في المسجد إذ دخل رجل فقام فصلّى فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (نقر كنقر الغراب، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني) (3)
لذلك كانت الصلاة مفتقرة للصبر، لأنها لا يمكن أن تؤدي دورها في التهذيب والإصلاح والتزكية ما لم يجاهد صاحبها نفسه على الخشوع والخضوع وحضور القلب، والتمعن في أسرار كل حركة يتحركها أو قول يقوله أو إشارة يشير بها.
ذلك أن الصلاة ـ أيها المريد الصادق ـ ليست شعيرة تعبدية واحدة، بل هي مجمع من
__________
(1) التهذيب ج 1 ص 204.
(2) أحمد وأبو داود والنسائي.
(3) الكافي ج 3 ص 268، والتهذيب ج 1 ص 204.
مدارس النفس اللوامة (26)
الشعائر التعبدية؛ فكل ركن من أركانها مدرسة قائمة بذاتها، لها دورها في التهذيب والتصفية، كما أن لها دورها في العروج والترقي، ولذلك اعتبرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمود الإسلام، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصّلاة، وذروة سنامه الجهاد) (1)
وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث بين الصلاة والجهاد، لاحتياج بعضها لبعض؛ فالصلاة الحقيقية تستدعي المجاهدة والرياضة وحضور القلب، والجهاد الحقيقي يحتاج التواصل الدائم مع الله، حتى يتحقق الثبات والسكينة والقدرة على المواجهة.
هذا جوابي المختصر على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ وأحسب أن فيها ما طلبته من مجامع المناهج والمدارس التربوية، ويمكنك أن ترسل لي ما تشاء من أسئلة حول تفاصيل ما شرحته لك.
ذلك أن كلا من الصبر والصلاة يتضمنان الكثير من المناهج.. فهناك مناهج مرتبطة بالصبر وحده.. وهناك مناهج مرتبطة بالصلاة وحدها.. وهناك مناهج مرتبطة بهما جميعا.. وبهذه المناهج جميعا تتحقق النفس بطيبتها، لتتحول من نفس أمارة أو لوامة إلى نفس مطمئنة راضية مرضية.
__________
(1) الترمذي (2616) وابن ماجة (3973) وأحمد (5/ 231، 237، 245)
مدارس النفس اللوامة (27)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تخبرني عن فهمك العام لمناهج السير والسلوك إلى الله تعالى من خلال قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، واستيعابها لكل فروع المناهج ومدارسها مع كثرتها.
وقد طلبت مني أن أفصل لك الحديث في النية باعتبارها أول ركن من أركان الصلاة، وكيف يمكن أن تتحول إلى مدرسة تربوية، تهذب النفس وتزكيها، وتعرج بها وترقيها، وعن علاقة ذلك بالصبر والمصابرة والمجاهدة.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن النية ليست مجرد ركن من أركان الصلاة، أو ركن من أركان أي عمل صالح، بل هي في حد ذاتها مدرسة للتزكية؛ فلا يمكن أن تنطلق التزكية ولا التربية ولا الترقية من دون أن تتوفر النية الداعية لذلك كله.
ذلك أنها الواسطة بين العلم والعمل، (إذ ما لم يعلم أمر لم يقصد، وما لم يقصد لم يفعل، فالعلم مقدم على النية وشرطها، والعمل ثمرتها وفرعها، إذ كل فعل وعمل يصدر عن فاعل مختار، فإنه لا يتم إلا بعلم وشوق وإرادة وقدرة) (1)
ولذلك كان الاهتمام بها وبتصحيحها أولى من كل الأعمال؛ فرب أعمال كثيرة، وجهود عظيمة، تفتقر إلى النية الصالحة الخالصة؛ فتتحول إلى هباء منثور لا يغني صاحبها شيئا، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]
بل إنها قد تنتقل من الطاعة إلى المعصية، وينتقل الجزاء المرتبط بها من سجل الحسنات إلى سجل السيئات، وينتقل محل صاحبها من الجنة إلى النار، مع أن العمل واحد، لكن الدافع الذي دفع إليه هو الذي تسبب في ذلك التحول العظيم العميق.
__________
(1) جامع السعادات، ج 3، ص: 108.
مدارس النفس اللوامة (28)
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن (الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (1)
وذكر الإمام الصادق سر خلود أهل الجنة والنار في المنازل التي أعدت لهما، وعلاقة ذلك بالنية، فقال: (إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدّنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله تعالى أبدا، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدّنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا؛ فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ثمّ تلا قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]، يعني على نيّته) (2)
بل ورد في الحديث أن مراتب الناس في الآخرة، لا تتحدد بالأعمال فقط، وإنما بالنيات أيضا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّما الدّنيا لأربعة نفر، عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتّقي فيه ربّه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النّيّة. يقول: لو أنّ لي مالا لعملت بعمل فلان فهو نيّته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتّقي فيه ربّه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أنّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو نيّته، فوزرهما سواء) (3)
وقد روي في أخبار الأنبياء عليهم السلام أنّ رجلا مرّ بكثبان رمل في مجاعة فقال في نفسه، وهو صادق في قوله: (لو كان هذا الرّمل طعاما لقسّمته بين الناس)، فأوحى الله تعالى إلى نبيّهم أن قل له: (إنّ الله قد قبل صدقتك وشكر حسن نيّتك وأعطاك ثواب ما لو كان
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) الكافي ج 2 ص 85.
(3) الترمذي (2325) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
مدارس النفس اللوامة (29)
طعاما فتصدّقت به)
فهذا الرجل، وأولئك النفر الذين ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نالوا أجورهم وطهروا نفوسهم من غير أعمال عملوها، إلا النية الصالحة الصادقة، التي نظر الله إليها، وأعطاهم جزاءها.
وسر ذلك يعود إلى أن النية هي روح العمل، والمقصد الأول منه، كما قال الله تعالى في الأضاحي والهدي: {لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]
ولذلك كان سبب نجاح إبراهيم عليه السلام في الامتحان الذي امتحن فيه نيته الصادقة الخالصة لله، ولذلك بمجرد أن نجح في ذلك الاختبار الصعب، نهي عن تطبيقه عمليا؛ قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 103 - 107]
ولهذا ورد في النصوص المقدسة ما يدل على خسران أولئك الذين راعوا الأعمال وكثرتها، ولم يراعوا النيات وصدقها، فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنّ العبد ليعمل أعمالا حسنة فتصعد بها الملائكة في صحف مختتمة فتلقى بين يدي الله عزّ وجلّ فيقول: ألقوا هذه الصحيفة فإنّه لم يرد بما فيها وجهي، ثمّ ينادي الملائكة اكتبوا له كذا وكذا فتقولون يا ربّنا إنّه لم يعمل شيئا من ذلك، فيقول: إنّه نواه إنّه نواه) (1)
وهكذا في الجهاد، والذي يمثل أشق الأعمال، وأكثرها بذلا وتضحية، ومع ذلك، فإن جزاءه بقدر النية فيه، فقد ينال أجور المجاهدين من لم يبذل أي جهد سوى نيته الطيبة الصالحة الصادقة، كما روي في الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال في غزوة تبوك: (إن بالمدينة لقوما ما
__________
(1) رواه الدارقطني.
مدارس النفس اللوامة (30)
سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم فيه)، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: (وهم بالمدينة حبسهم العذر) (1)
وهؤلاء الصادقون الذين ظفروا بنيات المجاهدين، ولو لم يحضروا معهم هم الذين أشار إليهم قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91، 92]
في نفس الوقت الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: (من غزا وهو لا ينوي إلّا عقالا فله ما نوى) (2)، وقال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (استعنت برجل ليغزو معي، فقال: لا حتّى تجعل لي جعلا فجعلت له، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ليس له من دنياه وآخرته إلّا ما جعلت له) (3)
وروي أن رجلا قتل في بعض المعارك، وكان يظن أنه قتل في سبيل الله، لكنه عرفوا أنه قتل في سبيل الحمار، حتى صار يدعى [قتيل الحمار] لأنّه قاتل رجلا ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك (4).
ولهذا ورد في الأحاديث والآثار ما يدل على أن النية خير من العمل (5)، فقد روي
__________
(1) البخاري (2838) و(2839)، و(4423)، وابن أبي عاصم في الجهاد (264)، وأبو يعلى (3839)
(2) النسائي في السنن ج 6 ص 24.
(3) الطبراني في مسند الشاميين.
(4) رواه أبو إسحاق الفراوي مرسلا في السنن.
(5) من المعاني التي فسر بها الحديث: أن المؤمن بمقتضى إيمانه ينوي خيرات كثيرة لا يوفق لعملها، إما لعدم تمكنه من الوصول إلى أسبابها، أو لعدم مساعدة الوقت على عملها، أو لممانعة رذيلة نفسانية عنها بعد الوصول إلى أسبابها، كالذي ينوي إن آتاه الله ما لا ينفقه في سبيله، ثم لما آتاه يمنعه البخل عن الإنفاق، فهذا نيته خير من عمله، وأيضا المؤمن ينوي دائما أن تقع عباداته على أحسن الوجوه، لأن ايمانه يقتضي ذلك. ثم إذا اشتغل بها لا يتيسر له ذلك. ولا يأتي بها كما يريد، فما ينويه دائما خير مما يعمل به في كل عبادة، وإلى هذا أشار الإمام الباقر بقوله: (نية المؤمن خير من عمله، وذلك لأنه ينوي الخير ما لا يدركه، ونية الكافر شرّ من عمله، وذلك لأن الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر ما لا يدركه)، وبه فسر كذلك قول الإمام الصادق الذي ذكرناه. [انظر: جامع السعادات، ج 3، ص: 121]
مدارس النفس اللوامة (31)
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (نية المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته، وكل يعمل على نيته؛ فإذا عمل المؤمن عملا ثار في قلبه نور) (1)
وقد سئل الإمام الصادق عن معناها، فقال: (لأنّ العمل ربما كان رياء للمخلوقين، والنيّة خالصة لربّ العالمين، فيعطي عزّ وجلّ على النيّة ما لا يعطي على العمل) (2)
ومما يروى في هذا أن بعض المريدين كان يطوف على العلماء، ويقول: (من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملا لله تعالى؛ فإني لا أحب أن تأتي علي ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله تعالى)، فقال له بعض الحكماء: (أنت قد وجدت حاجتك، فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهم بعمله، إذ من هم بعمل الخير كمن يعمل به)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن أول ما على السائر في طريق الله أن يتدرب عليه، تصحيح نيته، وتنميتها وإصلاحها؛ فلا يمكن أن يطهر نفسه من دون ذلك.
ذلك أن النية هي التي تحدد أهداف الأعمال وغاياتها، وهي التي تحميها من كل وساوس الشيطان التي تعرض لها، وهي التي تدفع إلى الإتقان والإحسان، وتحمي العمل من كل الثغرات التي قد تعرض له.
أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك ستذكر لي أن النية ليست من قبيل الأعمال الاختيارية التي يمكن لصاحبها أن يتحكم في فعلها أو عدم فعلها، بل هي من الأعمال الوجدانية التي لا يستطيع أن يتحكم فيها؛ فلذلك لا يمكن للجائع أن يقول شبعت، ولا للكسول أن
__________
(1) الطبراني في معجمه الكبير (6/ 185) وأبو نعيم في الحلية (3/ 255)، الكافي ج 2 ص 69 ح 2.
(2) علل الشرائع: 1/ 524.
مدارس النفس اللوامة (32)
يكتفي بقوله قمت..
وجوابا على سؤالك أذكر لك أن النية ـ وإن كانت من الأعمال الوجدانية ـ إلا أنه يمكن توجيهها ببعض المعارف والعلوم والتدريبات والمجاهدات إلى أن يصبح في الإمكان التحكم فيها.
وسر تلك المعارف والتدريبات يعود إلى أن النية، باعتبارها الباعث الذي يبعث على العمل، يرجع لأهواء النفس؛ فإن كان هوى النفس في السمعة والشهرة والجاه العريض، وهي شهوات النفس الأمارة، كانت النية رياء محضا، ولم يكن فيها أدنى صدق أو إخلاص..
وإن كان صاحبها يحمل مع تلك النية بعض الإيمان باليوم الآخر، والجزاء المعد على الأعمال الصالحة فيها، تكون نيته مشوبة بين تحقيق غرضه الدنيوي، وغرضه الأخروي.
وإن كان صاحبها صاحب نفس مطمئنة، متجرد الهوى للآخرة، لا يطلب غيرها، ولا يطلب غير وجه ربه؛ فإن عمله سيكون خالصا لله تعالى، وبحسب درجة إخلاصه تكون مرتبة عمله.
ولذلك كان الطريق إلى تصحيح النية، وتحقيق الإخلاص فيها، تنمية البواعث الإيمانية حتى تتجرد النفس لها، وتتخلص من كل الشوائب التي تفسد أعمالها.
ولهذا ورد في النصوص المقدسة ما ينمي تلك البواعث الطيبة، ويحققها في النفس لتتجرد للحق، ويخلص عملها من كل الشوائب التي تكدره.
وبناء على طلبك ـ أيها المريد الصادق ـ في شرح كيفية التحقق بالنية الصالحة أذكر لك البواعث التي يمكنك بالتأمل فيها ـ قبل القيام بأي عمل ـ أن تجرد نيتك من كل ما يفسدها، لتتعلم الإخلاص والصدق من خلالها.
مدارس النفس اللوامة (33)
وقبل أن أذكر لك ذلك، أضرب لك مثالا يقرب لك الحقيقة، فالأمثال جند الله التي تُوضح بها الحقائق، وتقرب بها المعاني.
وينطلق هذا المثال من حقيقة الدنيا، وكونها سوقا للأعمال، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30]
ولذلك توهم نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ في سوق عظمية قد اجتمع فيها المخلصون والمراؤون:
أما المخلصون؛ فلا يبيعون أعمالهم إلا لمن يدفع لهم أضعاف الأجور التي يستحقونها، ثم لا يكتفون بذلك، بل يضيفون إليها كل ألوان التكريم والثناء والشكر.. في نفس الوقت الذي يكون فيه أولئك التجار الذي اشتروا منهم بضاعتهم ممتلئين بكل أنواع الكرم والسماحة واللطف، ويعدونهم بكل ألوان الإكرام في حال زيارتهم لهم.
أما المراؤون؛ فيبيعون أعمالهم للعوام والدهماء البسطاء الذين لا يغنون عنهم شيئا، في نفس الوقت الذي يكتفون فيه من أجورهم بنظرة استحسان يلقونها، ثم ينصرفون عنهم، وكأنهم لم يقدموا لهم شيئا.
فهذا المثال ـ أيها المريد الصادق ـ يقرب لك حال المخلصين والمرائين في سوق التجارة الذي أقامه الله لعباده؛ وهي لا تمثل الحقيقة، ولا ما هو أدنى منها، ذلك أن الأجور التي يلقاها المخلصون لا يمكن وصفها، والحسرة والندامة والآلام التي تعتري المرائين لا يمكن تحديدها، لأنها ليست مرتبطة بالدنيا فقط، وإنما تظل تبعاتهم تلحقهم في كل المحال في الدنيا والآخرة.
وخلاصة البواعث الطيبة التي تحول النية من الفساد إلى الصلاح يمكن اختصارها
مدارس النفس اللوامة (34)
في باعثين، كلاهما وردت به النصوص المقدسة، أحدهما يتعلق بتحصين الأعمال حتى لا يدب فيروس الرياء، فيفسدها، وثانيهما، تحصيل الأجور ومضاعفتها باستعمال إكسير النية الخالصة.
فأول ما ينفرك عن النية السيئة، ويدفعك إلى النية الخالصة ـ أيها المريد الصادق ـ علمك بأن كل أعمالك الصالحة محفوظة في صندوق النية، فإن كانت لله، حفظت، ولم تمسها يد اللصوص، ولقيت أجورها كاملة يوم القيامة، أو قد تعجل لك بعض أجورها في الدنيا شكرا من الله تعالى.
وإن أنت لم تحفظها، ورحت تسارع إلى إظهارها والفرح بذلك، لتنال حظوظك الدنيوية بسببها من الشهرة والصيت والسمعة، وما قد يتبعها من المال والثراء؛ فإنك بذلك تكون قد بعتها أو عرضتها للصوص في الدنيا، ولن تجد لها أي جزاء في الآخرة، بل قد تجد العقوبة على استعمالك الدين في طلب الدنيا، وتوسلك بالخالق في طلب الخلق.
وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) (1)
وروي عن الإمام الصادق أنّه قال لعبّاد بن كثير البصريّ: (ويلك يا عبّاد إيّاك والرّياء؛ فإنّه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له) (2)، وقال: (كلّ رياء شرك، إنّه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ومن عمل لله كان ثوابه على الله) (3)
__________
(1) مسلم (2985)
(2) الكافي، ج 2 ص 293.
(3) الكافي، ج 2 ص 293.
مدارس النفس اللوامة (35)
وقال في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]: (الرّجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله إنّما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمّع به الناس فهذا الّذي أشرك بعبادة ربّه)، ثمّ قال: (ما من عبد أسرّ خيرا فذهبت الأيّام أبدا حتّى يظهر الله له خيرا، وما من عبد يسرّ شرّا فذهبت الأيّام أبدا حتّى يظهر الله له شرّا) (1)
وما ذكره الإمام الصادق يشير إلى أن من العقوبات التي يسلطها الله على المرائين أن يسلب منهم ذلك الفرح الهزيل البسيط الذي باعوا به رضوان الله؛ فسيتبدل به ألما وحزنا في الدنيا قبل الآخرة، ذلك أن أولئك الذين قصدوهم بالأعمال سيرتدون عليهم، ويتحولون من حبهم إلى بغضهم، ومثل ذلك في الآخرة، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]
ومما يروى في هذا أن بعضهم رؤي في المنام فقيل له: كيف وجدت أعمالك؟ فقال: (كل شيء عملته لله وجدته، حتى حبة رمان لقطتها من طريق، وحتى هرة ماتت لنا رأيتها في كفة الحسنات، وكان في قلنسوتي خيط من حرير فرأيته في كفة السيئات، وكان قد نفق حمار لي قيمته مائة دينار فما رأيت له ثوابا، فقلت: موت سنور في كفة الحسنات، وموت حمار ليس فيها! فقيل لي: إنه قد وجه حيث بعثت به، فإنه لما قيل لك قد مات، قلت: في لعنة الله، فبطل أجرك فيه، ولو قلت: في سبيل الله، لوجدته في حسناتك، وكنت قد تصدقت بصدقة بين الناس فأعجبني نظرهم إلي، فوجدت ذلك لا علي ولا لي)
والتحصين المرتبط بالعمل ـ أيها المريد الصادق ـ لا يرتبط بحفظ أجوره فقط، بل يتعلق بكل جوانبه، حتى ذلك المدد الإلهي الذي يمد الله به عباده، متوقف على نياتهم
__________
(1) الكافي، ج 2 ص 293.
مدارس النفس اللوامة (36)
وصدقهم وإخلاصهم؛ فإن كانوا صادقين مع الله ظل المدد ساريا فيهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وإن زال صدقهم أو اختلط بغيره رفع عنهم المدد.
وقد روي في هذا أنّ عابدا كان يعبد الله دهرا طويلا، فجاءه قوم فقالوا: إن ها هنا قوما يعبدون شجرة من دون الله تعالى، فغضب لذلك، وأخذ فأسه على عاتقه، وقصد الشجرة ليقطعها. فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمك الله؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة. قال: وما أنت وذاك؟ تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرعت لغير ذلك. فقال: إن هذا من عبادتي. قال: فإني لا أتركك أن تقطعها. فقاتله، فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض، وقعد على صدره. فقال له إبليس: أطلقني حتى أكلمك، فقام عنه، فقال له إبليس: يا هذا إن الله قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك، وما تعبدها أنت، وما عليك من غيرك ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض، ولو شاء لبعثهم إلى أهلها، وأمرهم بقطعها. فقال العابد: لا بد لي من قطعها. فنابذه للقتال. فغلبه العابد وصرعه، وقعد على صدره، فعجز إبليس، فقال له: هل لك في أمر فصل بيني وبينك، وهو خير لك وأنفع؟ قال العابد: وما هو؟ قال: أطلقني حتى أقول لك. فأطلقه، فقال إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك، إنما أنت كل الناس يعولونك، ولعلك تحب أن تتفضل على إخوانك، وتواسي جيرانك، وتشبع وتستغني عن الناس. قال: نعم. قال: فارجع عن هذا الأمر، ولك علي أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين، إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت على نفسك وعيالك، وتصدقت على إخوانك، فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يغرس مكانها، ولا يضرهم قطعها شيئا، ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إياها. فتفكر العابد فيما قال، وقال: صدق الشيخ، لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا أمرني الله أن أقطعها فأكون عاصيا بتركها، وما ذكره أكثر منفعة. فعاهده على الوفاء بذلك، وحلف
مدارس النفس اللوامة (37)
له. فرجع العابد إلى متعبده فبات، فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه، فأخذهما، وكذلك الغد، ثم أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم ير شيئا، فغضب وأخذ فأسه على عاتقه، فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال له: إلى أين؟ قال: أقطع تلك الشجرة. فقال: كذبت والله، ما أنت بقادر على ذلك، ولا سبيل لك إليها، فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة، فقال: هيهات، فأخذه إبليس وصرعه، فإذا هو كالعصفور بين رجليه، وقعد إبليس على صدره وقال: لتنتهين عن هذا الأمر أو لأذبحنك. فنظر العابد، فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا غلبتني فخل عني، وأخبرني كيف غلبتك أولا وغلبتني الآن؟ فقال: لأنك غضبت أول مرة لله، وكانت نيتك الآخرة، فسخرني الله لك. وهذه المرة غضبت لنفسك وللدنيا، فصرعتك (1).
فتأمل ـ أيها المريد الصادق ـ في هذه الحكاية، ولا يهمك أن تكون صحيحة ثابتة أو ملفقة مزورة، فالحقائق كلها تدل عليها، ولذلك احرص على إخلاص النية، ولو في العمل القليل؛ فذلك أجدى لك، وأكثر بركة من العمل الكثير الذي يخلو من الإخلاص، ويخلو معه من المدد الإلهي.
لا يقتصر النية الخالصة على تحصين الأعمال وحفظها من أن تدب إليها الأهواء، فتفسدها، وإنما لها دور كبير في تحصيل الأجور ومضاعفتها، حتى أنها تحول المباحات إلى طاعات، وبذلك يمكن أن يصبح نومك وأكلك وشربك وكل تصرفاتك التي ترغب فيها نفسك إلى طاعة لله تعالى إذا ما تعلمت كيف تؤدي حق النية الصالحة فيها.
وذلك لا يعني ـ أيها المريد الصادق ـ ما قد يتبادر إلى الذهن من خلو الأجور من
__________
(1) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 8، ص: 127.
مدارس النفس اللوامة (38)
التأثير في النفس وتطهيرها وترقيتها، وارتباطها فقط بالجزاء الأخروي، فذلك غير صحيح، فلكل حسنة تجليات مختلفة منها ما يظهر في الآخرة بصورة النعيم المقيم، ومنها ما يظهر في الدنيا بصورة الطهارة والطيبة التي تمتلئ بها النفس حتى تصبح حياتها كلها بالله ولله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]
ولهذا أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاستفادة من هذه الهدية الإلهية التي ننال بها الأجور من غير تعب ولا مشقة، فقال ـ في وصيته لأبي ذر ـ: (يا أبا ذرّ، ليكن لك في كلّ شيء نيّة، حتّى في النوم والأكل) (1)
ولذلك كان الصالحون يتوقفون قبل القيام بأي عمل انتظارا للنية الصالحة فيه، حتى يكون قربة لهم عند الله تعالى، وقد روي عن بعضهم أنه إذا سئل عن أي عمل من أعمال البر يقول: (إن رزقني الله تعالى نية فعلت)
وقد ضرب بعض الحكماء على إمكانية مضاعفة الأجور بتكثير النيات الصالحة بالقعود في المسجد، والتي يمكنها أن تحوله من مجرد قعود لا يُقصد به سوى الراحة إلى قعود تنال به الأجور العظيمة، فذكر منها أن يعتقد أنه قاعد ببيت الله، وأن داخله زائر الله، فيقصد به زيارة مولاه، رجاء لما وعده به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى، وحق على المزور إكرام زائره) (2)
ومنها أن ينوي انتظار الصلاة بعد الصلاة، فيكون في جملة انتظاره في الصلاة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدّرجات؟) قالوا: بلى يا رسول الله!. قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصّلاة بعد
__________
(1) الوسائل، ج 1 ص 48 ح 8.
(2) ابن حبان في الضعفاء، وللبيهقي في الشعب نحوه.
مدارس النفس اللوامة (39)
الصّلاة. فذلكم الرّباط) (1)
ومنها أن ينوي التفرغ للتأمل والتفكر والتدبر، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تفكر ساعة خير من قيام ليلة) (2)، وقال: (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة) (3)
ومنها نية التجرد لذكر الله أو لاستماع ذكره، وللتذكر به، أو يقصد إفادة العلم بأمر بمعروف ونهي عن منكر، أو يستفيد أخا في الله.. وغيرها كثير.
وقد أشار الإمام علي إلى كل ذلك وغيره، فقال: (من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخا مستفادا في الله، أو علما مستطرفا، أو آية محكمة، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو كلمة تردّه عن ردى، أو رحمة منتظرة، أو يترك ذنبا خشية أو حياء) (4)
وهكذا يمكن أن تتحول المباحات إلى طاعات بالنية الطيبة، ومن الأمثلة التي ذكرها بعض الحكماء على ذلك التعطر والتطيب، والذي هو حظ من حظوظ النفس، فقد قال: (اعلم أن من يتطيب مثلا يوم الجمعة، وفي سائر الأوقات، يتصور أن يقصد التنعم بلذات الدنيا، أو يقصد به إظهار التفاخر بكثرة المال ليحسده الأقران، أو يقصد به رياء الخلق ليقوم له الجاه في قلوبهم ويذكر بطيب الرائحة، أو ليتودد به إلى قلوب النساء الأجنبيات إذا كان مستحلا للنظر إليهن، ولأمور أخر لا تحصى.. وكل هذا يجعل التطيب معصية، فبذلك يكون أنتن من الجيفة في القيامة، إلا القصد الأول وهو التلذذ والتنعم، فإن ذلك ليس بمعصية، إلا أنه يسأل عنه. ومن نوقش الحساب عذب، ومن أتى شيئا من مباح الدنيا لم
__________
(1) مسلم (251)
(2) أبو الشيخ في العظمة.
(3) أبو الشيخ في العظمة.
(4) التهذيب ج 1 ص 324.
مدارس النفس اللوامة (40)
يعذب عليه في الآخرة، ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره، وناهيك خسرانا بأن يستعجل ما يفنى، ويخسر زيادة نعيم لا يفنى) (1)
ثم ذكر بعض النيات الحسنة التي يمكن أن تحول من ذلك الغرض النفسي إلى طاعة، ومنها أن ينوي اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التعطر والتطيب، وتعظيم المسجد، إن كان عند التطيب قاصدا له، أو ترويح من يجلس إليه، أو دفع الروائح الكريهة التي تؤدى إلى إيذاء مخالطيه، حتى يحسم عن نفسه باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة، فيعصون الله بسببه، فمن تعرض للغيبة وهو قادر على الاحتراز منها فهو شريك في تلك المعصية.
ثم ذكر عن بعض الصالحين أنه كان يقول: (إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلى، وشربي، ونومى، ودخولي إلى الخلاء)
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تحول من كل شيء يحصل لك في حياتك عملا صالحا، حتى لا يضيع عليك أجره.
ومن الأمثلة التي ذكرها الصالحون لذلك نية من ضاع منه شيء؛ فبدل التأسف والتحسر، يحوله إلى صدقة في سبيل الله، وبذلك ينال ثوابه.. ولو أنه اكتفى بالجزع، لم ينل إلا سيئات ذلك الجزع وآلامه.
وهكذا ينوي بالسكوت عن خصومه، وعدم الرد عليهم، نيل الأجور العظيمة التي تناله بسبب ذلك، وقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن العبد ليحاسب فتبطل أعماله لدخول الآفة فيها حتى يستوجب النار، ثم ينشر له من الأعمال الصالحة ما يستوجب به الجنة، فيتعجب، ويقول: يا رب هذه أعمال ما عملتها قط: فيقال: هذه أعمال
__________
(1) إحياء علوم الدين، 5/ 171.
مدارس النفس اللوامة (41)
الذين اغتابوك وآذوك وظلموك) (1)
وهكذا يمكنك أن تملأ نفسك بالبواعث الطيبة على العمل الصالح، لتنال أجورها حتى لو قصرت في أدائها، وقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من جرح جرحا في سبيل الله جاء يوم القيامة لونه لون الزعفران، وريحه ريح المسك عليه طابع الشهداء، ومن سأل الله الشهادة مخلصا أعطاه الله أجر شهيد، وإن مات على فراشه ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة) (2)
وعن الإمام الصادق أنه قال: (إنّ العبد لينوي من نهاره أن يصلّي بالليل فتغلبه عينه فينام، فيثبت الله له صلاته، ويكتب نفسه تسبيحا، ويجعل نومه عليه صدقة) (3)
وقال: (إنّ المؤمن ليهمّ بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات، وإنّ المؤمن ليهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه) (4)
بل ورد ذلك في حديث قدسي، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل كتب الحسنات، والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن عملها، كتبت له عشر حسنات، إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن هو هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن عملها كتبت له سيئة واحدة) (5)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فإياك أن تقيس قياس إبليس، فتتوهم أن المعصية
__________
(1) أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس.
(2) ابن حبان (3191) و(4618)، والطبراني في الكبير، 20/ (206)، والبيهقي في السنن 9/ 170.
(3) الوسائل ج 1 ص 53 ح 15 وص 54، العلل ج 2 ص 524.
(4) الوسائل ج 1 ص 51.
(5) أحمد (5/ 384)
مدارس النفس اللوامة (42)
يمكنها أن تتحول بالنية الصالحة إلى طاعة؛ فذلك غير صحيح؛ بل إن ذلك سخرية بالشريعة ومحادة لله تعالى.
ولذلك؛ فالغيبة تظل غيبة، ولو قصدت بها تأليف قلوب الذين تجلس إليهم، وتطييب خواطرهم، ذلك أنك تطيب خواطرهم بما تسيء به إلى خواطر آخرين.. وهكذا، فإن لكل معصية من المثالب والعيوب ما لا يمكن للنية الطيبة أن تحولها إلى عمل صالح، وهي في ذلك مثل روائح المستنقعات التي لا تزيدها الأمطار إلا انتشارا وقوة.. فاحذر أن يغرك الشيطان عن نفسك، ويدخل إليك من خلال تكثير النيات أو تصحيحها إلى ما يفسدها، أو يفسد عملك كله.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن أكبر ما يهتم له الشيطان إفساد نيتك، ولذلك يستعمل كل حيله في ذلك، ومن ذلك أن يأتي للمصلّي المخلص في صلاته؛ فيقول له: حسّن صوتك حتّى ينظر إليك هذا الحاضر بعين الوقار والصلاح ولا يزدريك ولا يغتابك (1).
فإن فطن المصلي لهذه الحيلة، وأخذ حذره منها، يقول له: أنت متبوع ومقتدى بك ومنظور إليك، وما تفعله يؤثر عنك، ويتأسّى بك غيرك؛ فيكون لك ثواب أعمالهم إن أحسنت، وعليك الوزر إن أسأت؛ فأحسن عملك بين أيديهم؛ فعساهم يقتدون بك في الخشوع وتحسين العبادة.
وهكذا يستعمل الشيطان كل أدوات الحيلة حتى يصرف المصلي عن إخلاص نيته لربه، لذلك كان حفظ الأعمال بالإخفاء والستر أجدى لها وأكثر أمنا وحيطةكأك.
ولهذا ورد في الحديث الأمر بالإتيان بالنوافل في البيت، باعتبار أن الفرائض مما يتساوى فيه الناس جميعا، ولذلك قد لا يتطرق إليها الرياء، مثلما يتطرق للنوافل.
__________
(1) انظر: المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 8، ص: 134.
مدارس النفس اللوامة (43)
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً) (1)
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ حجرة من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلَّى بصلاته ناسٌ من أصحابه؛ فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم، فقال: (قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) (2)
بل إن الله تعالى ذكر ذلك في الصدقات؛ فقال: {نْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله)، وذكر منهم: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، ومنهم الذي (ذكر الله خاليا ففاضت عيناه) (3)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (صدقة السر تطفئ غضب الرب) (4)
وقد روي عن الإمام السجاد أنه كان يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: (إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب)، وروى بعضهم عنه قال: (كان ناس من المدينة يعيشون، لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين، فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل)، وقال بعضهم: (ما فقدنا صدقة السر حتى توفي علي
__________
(1) رواه البخاري (422) ومسلم (777)
(2) رواه البخاري (698) ومسلم (781)
(3) البخاري، (1/ 440)، برقم (1423)، وصحيح مسلم، (2/ 715)، برقم (1031)
(4) المعجم الصغير، للطبراني (2/ 95)
مدارس النفس اللوامة (44)
بن الحسين) (1)
وروي عن بعض الصالحين أنه صام عشرين سنة، ولم يعلم به أهله؛ كان يأخذ غداءه ويخرج إلى السوق، فيتصدق به في الطريق، فأهل السوق يظنون أنه قد أكل في البيت، وأهل البيت يظنون أنه قد أكل في السوق.
وقال آخر يصف بعض الصالحين: (إن كان الرجل يجمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل يفقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته، وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركت أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا، لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]) (2)
ومع ذلك كله؛ فإن إبداء الصدقات أو الأعمال الصالحة إن تجردت نية صاحبها لله تعالى، ورأى أن في إبدائها دعوة لغيره، وخاصة إن كان محل قدوة، فلا حرج في ذلك، بل قد ينال الأجر العظيم إن لم يكن ينوي بذلك إلا الدعوة إلى الله، لا الدعوة لنفسه.
وقد روي في الحديث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء قوم عراة مجتابي النمار ـ أي لابسيها ـ قد خرقوها في رءوسهم مقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1)، والآية التي
__________
(1) سير أعلام النبلاء، (4/ 386)
(2) تفسير ابن كثير، (2/ 221)
مدارس النفس اللوامة (45)
في سورة الحشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر:18) تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة.. فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تهلل كأنه مدهنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) (1)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير) (2)
هذا جوابي عن سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تتدبر فيما أوردته عليك من المعاني؛ فدرب نفسك عليها، واستحضرها عند كل عمل تريد القيام به، وسترى أن الله تعالى يشكر لك ذلك الاهتمام بتحصيل النية الصالحة، فينزل عليك من أنوارها ما يمتلئ له قلبك من غير عنت ولا مشقة.
فكما أن النية هي روح كل عمل، وسره، فكذلك نيتك في تحصيل النية، وحرصك على نفي الرياء، ومجاهدتك لنفسك في نهيها عن كل الشوائب التي تشوب عملك، سيكون وسيلة لك إلى الله تعالى ليهديك إليها، ويمن بها عليك.. فكل شيء بالله ومن الله وإلى الله.. والصادق هو الذي لا يعتمد على نفسه في تحقيق الهداية، وإنما يعتمد على ربه، ويتضرع إليه كل حين، لينقذه من نفسه وأهوائها، ويخلصه من كل ما يحول بينه وبينه.
__________
(1) رواه مسلم وغيره.
(2) رواه ابن ماجه وغيره.
مدارس النفس اللوامة (46)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن سر ارتباط الصلاة بالذكر، وكونه من مقاصدها العظمى، وسر تلك الأوامر القرآنية الكثيرة التي تحض على الإكثار منه، وتعتبره من صفات عباد الله المخلَصين.. وعن علاقة ذلك كله بالتزكية والترقية.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الذكر ـ بحسب ما تدل النصوص المقدسة ـ أعظم مدرسة تربوية وروحية منّ الله تعالى بها على عباده؛ فهو لا يكتفي بوصلهم بربهم فقط، وإنما يهذب نفوسهم ويربيها، ويزيل عنها كل رعوناتها وخبثها ومثالبها، ليحل بدلها كل أنواع المكارم والخلال الطيبة.
وكيف لا يكون للذكر ذلك الدور العظيم، وهو تواصل مع الله تعالى، والذاكر بمثابة الزائر لله، الذي لا يخرج من ذكره إلا بأنواع التحف الإلهية، أو هو بمثابة المريض الذي يزور الطبيب الذي يعالج من كل الأدواء؛ فلا يرجع من عنده إلا وهو معافى من كل ما يؤذيه.
وكيف لا يكون له ذلك الدور العظيم، وفيه يغيب الإنسان عن نفسه وعيوبها وأمراضها، ويتصل بربه، ليتلقى منه كل إشعاعات النور والهداية، التي تطهر أرض نفسه من كل أدناسها، لتحرره من كل قيوده التي كانت تحول بينه وبين حقيقته، وبينه وبين ربه؟
وكيف لا يكون له ذلك الدور العظيم، وهو المدرسة التي حض عليها كل الأنبياء والأولياء، ومارسها كل الصديقون، وجربها كل الصالحون، وشهد لها الجميع بأنه لا يتخرج منه إلا من نور الله قلبه بالهداية.
ولذلك كان الذكر ـ مثل النية الخالصة ـ روح الأعمال، بل لا معنى للنية بدونه، ذلك أنها في حقيقتها ليست سوى تذكر لله، وإهداء للأعمال والقربات إليه.
مدارس النفس اللوامة (47)
ومثل ذلك كل الأعمال؛ فالقصد منها جميعا التقرب إلى الله، والتعرف عليه، والتواصل معه، والتأدب بين يديه.
ودوره التربوي الإصلاحي يشبه استرخاء المريض على سرير الطبيب الحاذق ليترك له الحرية في أن يعالجه بالطريقة التي يشاء.. ولهذا كلما كان الذاكر أكثر حضورا مع ربه، وكلما أدمن ذلك الحضور، كلما تيسر له التخلص من علله.
ولذلك كان الذكر أسهل المدارس التربوية، وأكثرها ضمانا، ذلك أنه لا يتطلب الكثير من المعارف والعلوم، ولا يحتاج إلى شيء من الجدل والفلسفة، بل يكفي فيه الحضور مع الله، واستشعار وجوده وعظمته وصفاته وكماله، ليكون لكل ذلك تأثيره في الروح والنفس وكل اللطائف.
ولهذا ورد في الحديث أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أبواب الخير كثيرة، ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بما شئت أتشبَّثُ به، ولا تكثر عليَّ فأنسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله تعالى) (1)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن سر ذلك التأثير الذي خص الله تعالى به الذكر، فقال: (مَثَلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مَثَلُ الحيِّ والميتِ) (2)، وهو يشير إلى أن القائم بأي عمل صالح إن لم يستحضر ذكر الله فيه يكون بمثابة الآلة الجامدة التي تؤدي دورها من دون أن تستفيد منه، ولا أن تكون حاضرة فيه.
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قيمة كل عمل بقدر حضور العامل فيه مع ربه، وذكره له، فقد روي أنه قال مخاطبا أصحابه: (ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا
__________
(1) الترمذي (3435 - تحفة)، وابن ماجه (2793)، والحاكم (1/ 495)
(2) البخاري (11/ 212 - فتح)، ومسلم (6/ 68 - نووي)
مدارس النفس اللوامة (48)
عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم) قالوا: بلى يا رسول الله قال: (ذكر الله) (1)
وهذا لا يعني ما يفهمه بعض المقصرين في أداء شعائر الله، والذين يتوهمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث ينسخ كل الشريعة بالذكر، وإنما المراد منها تفضيل الذاكر على الغافل، حتى لو كان ذلك الغافل يمارس كل أنواع الخير.. أما من يذكر الله وهو يمارسها؛ فلا شك في كونه الأفضل، لجمعه بين الحسنيين: العمل الصالح، وذكر الله.
وسر ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ يرجع إلى أن الذاكر في حال ذكره في صحبة الله تعالى ومعيته الخاصة، كما ورد ذلك في الحديث القدسي، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملإٍ خيرٍ منهم، وإن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبْت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيتُه هَرولة) (2)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن صحبة الذاكر للملائكة، وانتشار أنوارها إليه في حال ذكره، فقال: (لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده) (3)
وهذا كله يدعم التأثير الغيبي في التزكية، وهو أهم أنواع التأثير وأسهلها، وأشملها، ذلك أن الذي يتولى تصفية النفس وتربيتها هو خالقها العالم بها.
وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]؛ فالله تعالى يتولى إصلاح كل من اتصل به، وملأ قلبه بالهداية.
__________
(1) الترمذي، رقم 3377 وابن ماجه، رقم 3780.
(2) البخاري (13/ 521 - فتح)، ومسلم (17/ 2 - 3 و11 و12)
(3) مسلم، برقم 2700.
مدارس النفس اللوامة (49)
ولذلك أمرنا أن ندعو الله تعالى بذلك في كل صلاة، ففي سورة الفاتحة نردد في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو، فيقول: (اللهمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر. اللهمّ آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها. أنت وليّها ومولاها اللهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها) (1)، فأكثر ما ورد في هذا الدعاء مما يرتبط بإصلاح النفس وتهذيبها.
ولذلك لا تتوهم ـ أيها المريد الصادق ـ أنه لا ينال التزكية إلا العلماء الخبراء الذين فتشوا بطون الكتب، ودرسوا في الجامعات، وعند الأساتذة والمشايخ، كلا.. فالله تعالى أرحم بعوام المؤمنين من أن يحرمهم من تهذيب أنفسهم بسبب قلة علومهم، أو عدم تفرغهم.. بل هو يتولى ذلك عنهم.
ولا يشترط لذلك سوى شرط واحد، هو نفس الشرط الذي يشرط على المريض الذي استعصى داؤه.. وهو كثرة التردد على المختصين من الأطباء، واستعمال الأدوية التي ينصحون بها.
ولذلك نجد القرآن الكريم يخص الذكر وحده من بين العبادات جميعا بالدعوة إلى الإكثار منه، ذلك أن تأثيره الحقيقي يكون في ذلك الإكثار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41]
والربط بين إخراج الله تعالى عباده من الظلمات إلى النور والذكر يدل على أنه من
__________
(1) رواه مسلم.
مدارس النفس اللوامة (50)
أعظم وسائل التزكية، ذلك أن الذنوب والمعاصي ليست سوى ظلمات تحجب قلب صاحبها عن الحقائق، وعند الذكر تنجلي تلك الظلمات، وتتوضح الحقائق من غير تكلف دليل ولا حجة.
ولهذا يخبر الله تعالى عن قلة ذكر المنافقين لله، وهو يدل على أنه السبب في إصابتهم بمرض النفاق، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]
بل إن الله تعالى يذكر أن الاستفادة الحقيقية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو التربية على يديه، لا تكون إلا للمكثرين من ذكر الله، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]
ولهذا يعتبر الله الذكر الكثير من صفات الصالحين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]
وقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: (ما من شي ء إلّا وله حدّ ينتهي إليه إلّا الذكر، فليس له حدّ ينتهي إليه، فرض الله عزّ وجلّ الفرائض فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ، وشهر رمضان فمن صامه فهو حدّه، والحجّ فمن حجّ فهو حدّه إلّا الذكر فإنّ الله عزّ وجلّ لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدّا ينتهي إليه، ثمّ تلا هذه الآية:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41]، وقال: (لم يجعل الله عزّ وجلّ له حدّا
مدارس النفس اللوامة (51)
ينتهي إليه)
ثم تحدث عن والده الإمام الباقر، فقال: (وكان أبي كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله، ولقد كان يحدّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكنت أرى لسانه لازقا بحنكه يقول: (لا إله إلّا الله) وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطلع الشمس ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا ومن كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر) (1)
وقال الإمام علي: (اذكروا الله في كل مكان فإنه معكم.. أكثروا ذكر الله عزّ وجلّ إذا دخلتم الأسواق، وعند اشتغال الناس، فإنه كفارةٌ للذنوب، وزيادةٌ في الحسنات، ولا تُكتبوا في الغافلين) (2)
وقال: (أكثروا ذكر الله تعالى على الطعام ولا تطغوا، فإنها نعمةٌ من نعم الله ورزقٌ من رزقه، يجب عليكم فيه شكره وحمده) (3)
وقال: (إذا لقيتم عدوكم في الحرب فأقلّوا الكلام، وأكثروا ذكر الله عزّ وجلّ) (4)
ولهذا، فإن القرآن الكريم لا يكتفي بالدعوة إلى الإكثار من الذكر، بل إنه يحض عليه في كل الأوقات والمناسبات.. فيدعو إليه في المعارك وعند اشتدادها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]
ويدعو إلى التزامه في الصباح والمساء، قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ
__________
(1) الكافي ج 2 ص 361.
(2) الخصال 2/ 157.
(3) الخصال 2/ 158.
(4) الخصال 2/ 159.
مدارس النفس اللوامة (52)
تَرْضَى} [طه: 130]، وقال: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18]
وفي الليل والنهار، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]
وعند الحج وبعده، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا الله عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198]، وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200]، وقال: {وَاذْكُرُوا الله فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203]
وعند الصلاة وبعدها، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]
ويدعو إلى استعمال كل الهيئات فيه، والتي يتيسر على النفس ممارستها والدوام عليها من غير تكلف، قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 205، 206]
ولذلك يمكن للذاكر أن يذكر الله، من غير أن يحرك شفتيه، ولا أن يتعب أي جارحة من جوارحه، بل يكتفي بحضوره مع ربه، أو ترديده للأذكار في سره.
ولارتباط الذكر بالكثرة، وكون تأثيره مرتبطا بها أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تلك
مدارس النفس اللوامة (53)
الحسرات التي يجدها الإنسان عند أي ساعة لم يذكر الله تعالى فيها، فقال: (ما من ساعة تَمُرُّ بابن آدم لا يذكر الله تعالى فيها إلا تحسَّر عليها يوم القيامة) (1)
وأخبر عن الحسرة التي يجدها أولئك الذين يقضون أوقاتهم في اللهو واللعب بعيدا عن ذكر الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه؛ إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة) (2)، وفي رواية: (ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلُّوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَةً؛ فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم) (3)
بل ورد في الحديث أن أهل الجنة أنفسهم يندمون على أي لحظة لم يذكروا الله فيها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ أهل الجنّة لا يندمون على شي ء من أمور الدنيا إلّا على ساعة مرّت بهم في الدنيا لم يذكروا الله فيها) (4)
وسر ذلك ـ كما ورد في أحاديث أخرى ـ أن نعيم الجنة يتشكل من تلك الحروف التي يذكرها الذاكرون، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لقيتُ ليلة أُسري بي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعانٌ، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) (5)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده؛ غُرست له نخلة في الجنة) (6)
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تذكر لي ـ تعقيبا على هذه الأحاديث ـ ما يذكره بعضهم
__________
(1) أبو نُعيم في الحلية (5/ 361 – 362)، والبيهقي في شعب الإيمان.
(2) أبو داود (4855)، وأحمد (2/ 389 و494 و527)، والحاكم (1/ 492)
(3) الترمذي (3440 – تحفة)، وأحمد (2/ 446 و453 و481 و495)، والحاكم (1/ 496)
(4) لئالى الأخبار ج 1 ص 14
(5) الترمذي (3462) وحسنه.
(6) الترمذي (3464)
مدارس النفس اللوامة (54)
من زهده في الجنة، وأن مطلبه الله تعالى؛ فطلبك لله تعالى لا يزهدك في الجنة، بل يجعلك أكثر حرصا عليها.
فهي الدار التي يجتمع فيها الأنبياء والأولياء والمقربون والصالحون.. وتمتلئ جنباتها بالملائكة الذاكرين المسبحين.. فهل يمكن لامرئ أن يزهد في دار تمتلئ بهم، وهي سكن لهم، وهو الذي يسير في الدنيا المسافات الطويلة ليزور مشاهدهم، ويتبرك بآثارهم.. فهل يمكن لمن يتبرك بآثارهم في الدنيا، أن يزهد في الدار التي تجمعه بهم في الآخرة.
ولذلك انظر إلى الجنة بهذا الاعتبار، فهي دار الذاكرين والصالحين، وهي مسجد الله الأعظم الذي تعقد فيه كل ألوان الحلق التي يذكر فيها الله، ويتقرب فيها إليه.. فهل يمكن لأحد يدعي الزهد أن يزهد في مساجد الله، وفي صحبة أولياء الله.
بل إن الزاهد الحقيقي هو الذي لا يكتفي بجنة الآخرة، وإنما يسعى ليحول دنياه إلى جنة بعمارتها بذكر الله، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه، فقال لهم: (يا أيها الناس! ارتعوا في رياض الجنة)، فقالوا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: (مجالس الذكر)، ثم قال: (اغدوا وروحوا واذكروا، فمن كان يجب أن يعلم منزلته عند الله؛ فلينظر كيف منزلة الله تعالى عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه) (1)
وكيف لا تكون مجالس الذكر مجالس من الجنة، وهي محفوفة بالملائكة مثل الجنة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرن الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا) (2)
وكيف لا تكون مجالس الذكر كذلك، والإنسان في حرز من الشيطان ما دام في ذكر
__________
(1) الحاكم (1/ 671 رقم 1820)
(2) البخاري (11/ 212 – فتح)، ومسلم (17/ 14 – 15 – نووي)
مدارس النفس اللوامة (55)
الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وآمركم أن تذكروا الله تعالى؛ فإن مَثَلَ ذلك مَثَلُ رجل خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى إلى حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) (1)
وهكذا يظل في حفظ الله ما دام يذكره في أي محل يحل به، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء) (2)
وقال: (من قال إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: كفيت ووقيت وهديت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي) (3)
وقال: (من قال في يوم مئة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كانت له حرزًا من الشيطان حتى يمسي) (4)
وهذه الأحاديث ـ أيها المريد الصادق ـ تشير إلى الدور التربوي للذكر، ذلك أن الذاكر بحضوره مع الله يفر منه الشيطان، وتتوفر له البيئة المناسبة للصلاح، ذلك أن كل الانحرافات التي يقع فيها الإنسان بذور من إلهامات الشياطين.
ولذلك كان فرار الشيطان مشابها لعزل المريض الذي أصيب بأي نوع من أنواع الجراثيم من البيئة التي تسببت له في ذلك، ووضعه في بيئة معقمة تيسر عليه الشفاء.
__________
(1) الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) رواه مسلم رقم 2018.
(3) الترمذي رقم 3429، وابن ماجه برقم 3886.
(4) البخاري (3293) و(6403)، ومسلم (2691)
مدارس النفس اللوامة (56)
وهكذا يمكنك أن تفهم من جميع النصوص المقدسة الواردة في فضل الذكر؛ فهي لا تتحدث عن فضل غيبي فقط، وإنما تتحدث عن دور حقيقي تكويني يقوم به في تصفية الإنسان وتطهيره وتزكيته وترقيته، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]
فالآية الكريمة تربط بين الغفلة عن ذكر الله واتباع الهوى، واختلاط الأمور على صاحبها، باعتبار أن كل ما حصل له كان بسبب غفلته عن الله، كما قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]، وقال عن المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]
وأخبر عن استحواذ الشيطان على الإنسان بسبب غفلته عن الله، فقال: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]
ولهذا كانت الغفلة عن ذكر الله أعظم أسباب موت القلوب ومرضها وقسوتها، وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السّلام قوله: (يا موسى، لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كلّ حال، فإنّ كثرة المال تنسي الذنوب، وإنّ ترك ذكري يقسي القلوب) (1)، وفي مناجاة أخرى: (يا موسى، لا تنسني على كلّ حال، فإنّ نسياني يميت القلب)
وروي أنه سأل ربّه فقال: يا ربّ، أ قريب أنت منّي فاناجيك أم بعيد فاناديك، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا موسى، أنا جليس من ذكرني، فقال موسى: فمن في سترك يوم لا ستر إلّا سترك؟ فقال: الذين يذكرونني فأذكرهم ويتحابّون فيّ فأحبّهم، فأولئك الذين
__________
(1) الكافي ج 2 ص 360 ح 7
مدارس النفس اللوامة (57)
إذا أردت أن أصيب أهل الأرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم (1).
وروي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السّلام: (يا داود، من أحبّ حبيبا صدّق قوله، ومن رضي بحبيب رضى بفعله، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه، ومن اشتاق إلى حبيب جدّ في السير إليه.. يا داود، ذكري للذاكرين، وجنّتي للمطيعين، وحبّي للمشتاقين، وأنا خاصّة للمحبّين.. أهل طاعتي في ضيافتي، وأهل شكري في زيادتي، وأهل ذكري في نعمتي، وأهل معصيتي لا آيسهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن دعوا فأنا مجيبهم، وإن مرضوا فأنا طبيبهم، أداويهم بالمحن والمصائب، ولأطهّرهم من الذنوب والمعايب) (2)
وروي أن لقمان قال لابنه: (يا بنيّ، اختر المجالس على عينك فإن رأيت قوما يذكرون الله جلّ وعزّ فاجلس معهم، فإن تكن عالما نفعك علمك، وإن تكن جاهلا علّموك، ولعلّ الله أن يظلّهم برحمته فيعمّك معهم، وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإن تكن عالما لم ينفعك علمك، وإن كنت جاهلا يزيدوك جهلا، ولعلّ الله أن يظلّهم بعقوبة فيعمّك معهم) (3)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الذكر أعظم من أن يختصر فيما اصطلح عليه لقب [الأذكار]، مما يردد في الصباح والمساء، أو في الأحوال المختلفة، وإنما هو شامل لكل ما يذكرك بربك، وبأسمائه الحسنى، سواء كان آيات من القرآن الكريم، أو أدعية أو مناجاة أو ما اصطلح عليه بلقب الذكر، سواء مما ورد النص على صيغته، أو لم يرد، حتى لو كانت أشعارا منظومة، أو كلمات منثورة، بل حتى لو كانت أناشيد تلحن بأصوات عذبة، وتنفعل النفس معها مثلما تنفعل مع الأذكار.
__________
(1) الكافي ج 2 ص 360 ح 4
(2) عدّة الداعي ص 237.
(3) الكافي ج 1 ص 30.
مدارس النفس اللوامة (58)
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى ذلك: (مَن أطاع الله فقد ذكر الله، وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته، ومَن عصى الله فقد نسي الله، وإن كثُرت صلاته وصيامه وتلاوته) (1)
وقال الإمام الصادق: (مَن كان ذاكراً لله على الحقيقة فهو مطيعٌ، ومَن كان غافلاً عنه فهو عاصٍ، والطاعة علامة الهداية، والمعصية علامة الضلالة، وأصلهما من الذكر والغفلة.. فاجعل قلبك قبلةً، ولسانك لا تحركه إلا بإشارة القلب، وموافقة العقل، ورضا الإيمان، فإن الله تعالى عالمٌ بسّرك وجهرك.. وكن كالنازع روحه، أو كالواقف في العرض الأكبر، غير شاغل نفسك عمّا عناك مما كلّفك به ربك في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، ولا تُشغلها بدون ما كلّفك.. واغسل قلبك بماء الحزن، واجعل ذكر الله من أجل ذكره لك، فإنه ذَكَرك وهو غنيٌّ عنك، فذكْره لك أجلُّ وأشهى وأتمُّ من ذكرك له وأسبق) (2)
لكن الشريعة الحكيمة مع إتاحتها الفرصة للنفس أن تستعمل من الصيغ ما تشاء من الأذكار التي تتناسب مع حاجاتها، وبالأساليب التي ترغب فيها، وضعت الكثير من الصيغ المختصرة اليسيرة التي تلبي جميع الحاجات، وبأصح الطرق، وأجمل الأساليب.. فاهتم بالبحث عنها، وعن أسرارها، والتزم بها؛ فهي أدوية ربك الأصلية التي تعالجك، وتصلح كل عطب يحصل لك.
ومثلما كانت الأدوية عامة تستعمل في كل الأوقات، ولكل الحاجات، ومنها ما هو خاص بمناسبات معينة؛ فكذلك أدوية الأذكار، منها ما ورد الحث على الإكثار منه، وفي كل المناسبات، ومنها ما خصت به مناسبات معينة، والهدف منها جميعا تربية النفس وتهذيبها والسمو بها.
__________
(1) معاني الأخبار ص 399.
(2) مصباح الشريعة ص 5.
مدارس النفس اللوامة (59)
أما الأذكار العامة ـ أيها المريد الصادق ـ فهي تلك الأذكار التي ورد الحث على آحادها من دون تحديد مناسبات خاصة بها، أو حددت لها بعض المناسبات، لكنها ليست على سبيل الحصر.
ومن الأمثلة عنها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي ذر: (ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟)، ثم قال له: (إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده) (1)
فهذه الصيغة التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حب الله لها، والتي لم تقيد بمناسبة خاصة من الأذكار العامة، وهي تجمع كل ما يحتاجه العارف من معرفة الله.. فـ (سبحان الله) تعني تنزيهه عن كل ما لا يليق به.. والمريد السالك هو الذي يبدأ فينزه الله عن كل ما لا يليق به، فلا يمكن أن يتحقق بمعرفة الله من يحمل في وعيه بذور التشبيه والشرك التي تدنس محل الإيمان من قلبه.. و(الحمد لله) إثبات الكمالات لله بشمولها وتمامها.. فلا يمكن أن يعرف الله من لا يعرف كماله.
ومنها ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) (2)
وروي أن ناسا قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور (3) بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) الدثور: جمع دثر، وهو المال الكثير.
مدارس النفس اللوامة (60)
تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) (1)
وهذه الصيغة المركبة من أربعة مفردات تحمل الكثير من الحقائق؛ فـ[سبحان الله]، تعني تنزيه الله عما لا يليق به، ولا يعرف الله من لم ينزهه.. و[الحمد لله] ثناء على الله، ولا يعرف الله من لم يدرك أنه لا يستحق أحد ثناء غيره، فكل خير من الله وبالله.. و[لا إله إلا الله] توحيد لله، ولا يعرف الله من لا يعلم أنه لا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا حاكم ولا معبود ولا من اكتمل له الوجود إلا الله.. و[الله أكبر] تعظيم لله، ولا يعرف الله من لم يعتقد أن الله أكبر من أن يدرك، وأكبر من أن يعرف، وأكبر من أن يحاط به.. ولذلك لا تطلب همة العارف العالية إلا الله.. ومن ترك الأكبر ونزل إلى الأصغر انحدر إلى أسفل سافلين.
ومنها ما علمه صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه عندما قال له: علمني كلاما أقوله؟ قال: قل: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)، قال: فهؤلاء لربي، فما لي؟ قال: قل: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني) (2)
وقد جمعت هذه الكلمات الطيبات كل المعارف؛ فمن عرف وحدانية الله وعظمته؛ فأثنى عليه، ونزهه، واستعاذ من حول نفسه وقوته ليعتمد على حول الله وقوته، فقد اكتملت معرفته.
ومنها ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم، وفي حديث آخر قريب منه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي (ف قال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا، فعلمني ما يجزئني منه، قال: (قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، قال: يا رسول الله، هذا لله عز وجل، فما لي؟ قال: (قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني)، فلما قام قال هكذا بيده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أما هذا فقد ملأ يده من الخير) رواه أبو داود.
مدارس النفس اللوامة (61)
أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) (1)، وقوله: (ما على الأرض أحد يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كفرت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر) (2)
وهذه الوصفة المعرفية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصل بين التنزيه والتعظيم والتوكل.. فلا يتوكل على الله إلا من وثق فيه.. ولا يثق فيه إلا من عرف عظمته.. ولا يعرف عظمته إلا من جمع في معرفته بين التنزيه والتعظيم، ولم ينحجب بإحداهما عن الأخرى.
ومنها ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك) (3)
وقد اعتبر الحكماء هذا الذكر خصوصا مفتاح التوكل على الله.. ذلك أن التوكل ينبني على التوحيد الذى يترجمه (لا إله إلا الله وحده لا شريك له).. والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها (له الملك).. والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليها (وله الحمد).. فمن قال (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير) تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل.
ومنها ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه أحمد والترمذي.
(3) رواه البخاري ومسلم.
مدارس النفس اللوامة (62)
الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) (1)
ومنها ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (قل: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة) (2)، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة) (3)
وهكذا اشتملت هذه الأذكار على كل ما يملأ العقل والقلب بكل أصناف المعارف التي يحتاجها، وفي جمل قصيرة يسيرة لذيذة، تحمل من روعة البيان ما ينسجم مع معانيها الرفيعة.
وهذا يريك ـ أيها المريد الصادق ـ مدى بعد أولئك الذين نفرت نفوسهم من تلك الأذكار النبوية، وراحوا يضعون من عندهم أنفسهم أذكارا مملوءة بالألغاز والشطحات التي قد يتفوه بها من يدرك معانيها ومن لا يدرك، بخلاف التعابير النبوية الواضحة التي ينهل منها الخواص والعوام كل بحسب طاقته، وبحسب همته.. فالماء واحد.. والشارب متعدد.
أما الأذكار الخاصة ـ أيها المريد الصادق ـ فتشمل نوعين من الأذكار؛ أولها تلك الأذكار التي تستعمل لحاجات خاصة؛ فمن غلب عليه التشبيه أكثر من التسبيح.. ومن غلب عليه الشرك أكثر من التهليل.. ومن أراد أن يملأ قلبه بعظمة الله أكثر من التكبير.. ومن أراد أن يملأه بفضل الله عليه وعلى كل شيء أكثر من الحمد.. ومن أراد أن يحصل كل
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه أحمد.
مدارس النفس اللوامة (63)
ذلك جمع كل ذلك.. ومن أراد غير ذلك وجد في الأذكار النبوية ما يشفي غليله، ويسد حاجته.
ومن الأمثلة عنها ما روي عن الإمام الصادق أنه قال: (عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع: عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، فإني سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]، وعجبت لمَن اغتم كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، فإني سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]، وعجبت لمن مُكر به كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: {أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]، فإني سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: {فَوَقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45]، وعجبت لمن أراد الدُّنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله: {مَا شَاءَ الله لَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله} [الكهف: 39]، فإني سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف: 39، 40]، وعسى موجبة) (1)
وعن الإمام السجاد، أنه قال: (مجدوا الله في خمس كلمات)، فسئل عنها، فقال: (إذا قلت: (سبحان الله وبحمده) رفعت الله تبارك وتعالى عما يقول العادلون به، فاذا قلت (لا إله إلا الله وحده لا شريك له فهي كلمة الاخلاص التي لا يقولها عبد إلا أعتقه الله من النار، إلا المستكبرين والجبارين، ومن قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) فوض الامر إلى الله عز وجل، ومن قال: (أستغفر الله وأتوب إليه) فليس بمستكبر ولا جبار، إن المستكبر من
__________
(1) الخصال 1/ 103
مدارس النفس اللوامة (64)
يصر على الذنب الذي قد غلبه هواه فيه، وآثر دنياه على آخرته ومن قال: (الحمد لله) فقد أدى شكر كل نعمة لله عز وجل عليه) (1)
ومنها ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (شكا آدم إلى الله عزّ وجلّ ما يلقى من حديث النفس والحزن، فنزل عليه جبريل، فقال له: يا آدم، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقالها، فذهب عنه الوسوسة والحزن) (2)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن تظاهرت عليه النعم فليقل: الحمد لله رب العالمين، ومَن ألحّ عليه الفقر فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنه كنز من كنوز الجنة، وفيه شفاء من اثنين وسبعين داء، أدناها الهمُّ) (3)
وغيرها من الأذكار الكثيرة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأئمة الهدى، والتي يمكن استعمالها بحسب الأحوال المختلفة.
أما النوع الثاني من الأذكار الخاصة؛ فهي تلك التي تردد في الأوقات والمناسبات المختلفة، مثل تلك التي دعا إليها قوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الأحزاب:42)، وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (قّ:39)
ومنها ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم يضره شيء) (4)
__________
(1) الخصال ج 1 ص 143.
(2) أمالي الصدوق ص 324
(3) أمالي الصدوق ص 332
(4) رواه الترمذي.
مدارس النفس اللوامة (65)
ومنها ما رغب فيه بقوله: (من قال حين يصبح وحين يمسي (سبحان الله وبحمده) مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه) (1)
وغيرها من الأذكار التي قد أحدثك عنها، وعن أسرار معانيها في رسائل لاحقة.. فالتزم ـ أيها المريد الصادق ـ بهذه الهدايا الإلهية التي توفر لك أقصر الطرق لإصلاح نفسك وتهذيبها، لتصبح أهلا للقاء ربك، والسعادة بجواره، فلا طمأنينة إلا بذلك، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]
__________
(1) رواه مسلم.
مدارس النفس اللوامة (66)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن التكبير والتهليل، وعلاقتهما بالسير والسلوك، والمعاني المرتبطة بهما، والثمار التي يثمرانها في تزكية النفس وترقيتها، وسر ما ورد حولهما، وحول فضلهما من النصوص المقدسة.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التكبير والتهليل ليسا من أركان الإصلاح المرتبط بالنفس فقط، وإنما هما الركنان العظيمان اللذان لا يمكن أن يتحقق الإصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي وغيرها من دونهما.
ولذلك أمر بإشاعتهما في كل المناسبات، وأنت ترى كيف يردد المؤذنون، وفي جميع المحال، تلك التكبيرات والتهليلات، ويكررونها، وبصوت عال، ليكون الله تعالى في المجتمع هو الأكبر والأعظم والأولى بأن يعبد ويرجع إليه في كل شيء.. وأن يكون وحده في ذلك لا شريك له.. لا من الملوك ولا السلاطين.. ولا الأغنياء ولا الأثرياء.. ولا الوجهاء ولا الملأ.. ولا رجال الدين، ولا رجال الدنيا.
ولذلك لم يكن التهليل والتكبير مجرد أذكار شرعية، أُمر بها، ودُعي إليها، وإنما هما شعارات سياسية تقف في وجه الظلمة والطواغيت والمستبدين.. لتصيح في خلدهم كل حين بأن الله تعالى أكبر منكم، ومن جبروتكم وطغيانكم، وتدعوهم لأن يتخلوا عن كبريائهم، ليرتدوا ثوب الإيمان والعبودية والتواضع، ويوحدوا الله تعالى أثناء أدائهم لممارساتهم السياسية، كما يوحدونه أثناء أدائهم لممارساتهم الدينية؛ فالله تعالى رب الدين والدنيا جميعا.
وهي شعار في وجه من يريدون تفكيك المجتمع بالعصبية والقبلية والنعرات الجاهلية.. لتقول لهم: إن الله أكبر من أنسابكم وأحسابكم وجاهكم.. وعند الله يتساوى
مدارس النفس اللوامة (67)
الجميع.. والكل عند الله صغير.. والمُكرم عند الله هو التقي الصالح، لا صاحب المال، ولا صاحب السلطان، ولا صاحب الجاه العريض، والحسب والنسب.
وهي شعار في وجه أباطرة المال، والمستبدين في الاقتصاد، والمحتكرين للسلع، والغاشين للمحتقرين المظلومين، لتقول لهم: إن الله أكبر من أموالكم وخزائنكم.. وهي لا تساوي جناح بعوضة من خزائنه.. فارجعوا إلى أنفسكم، وتوبوا إلى ربكم، وارحموا المستضعفين قبل أن تخرجوا من الدنيا، كما جئتم إليها، لا تملكون شيئا، ويظل الملك لله وحده.
وهي شعار في وجه أباطرة الفن والثقافة الذين يخربون المجتمعات باسم الإبداع والجمال.. لتقول لهم: إن الله أكبر وأعظم مبدع، ولا إبداع إلا منه، ولا إبداع ولا فن إلا بصحبته، وفي ظل القيم النبيلة التي أمر بها.
وهكذا.. فإن التكبير والتهليل ـ أيها المريد الصادق ـ شعار يسري في عالم النفس كما يسري في عالم المجتمع، لينزع عن الإنسان ذله وهوانه، وليملأه بالشجاعة والجرأة، ليقول كلمة الحق في وجه كل الظلمة، من دون خوف ولا وجل، وكيف يخاف، والله هو الأكبر، وهو الأوحد؟
وهو شعار يتحول إلى ماء طهور يغسل عن النفس جميع مثالبها وأدرانها، وهل يمكن لأي مثلب أو ذنب كبيرا كان أو صغيرا أن يقف مع توحيد الله وتكبيره؟
وهل يمكن لأي نفس أن تمتلئ عجبا، وهي ترى عظمة الله وكبرياءه وجبروته؟
وهل يمكن أن تغتر، وهي تعلم أن قوانين الله تعالى جادة دقيقة صارمة، لا يمكن لأحد مهما كان أن يتجاوزها؟
وهل يمكن أن تتكبر، وهي تعلم أن الله هو الأكبر، وأن من نازعه ونافسه في كبره،
مدارس النفس اللوامة (68)
لم ينل إلا الضلال والخسارة؟
وهل يمكن أن تبطر وتظلم، وهي تعلم أن الله أكبر من قوتها، وأنه سينتصف للمظلوم لا محالة؟
وهكذا؛ فإن التكبير والتهليل من أعظم المدارس التربوية والروحية، ومن أدمن على دروسهما، وحفظها، ورددها كل حين؛ فإنه لا محالة سيخرج من سجون النفس الأمارة، ليلتحق بجنات أصحاب النفوس المطمئنة.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن سر اهتمام النصوص المقدسة بهما، ودعوتها إلى ترديدها في كل المحال، لا يهدف فقط إلا ترطيب اللسان بهما، ولكن لما لهما من الآثار البعيدة في النفس والمجتمع.
لذلك فاقرأ تلك النصوص بهذا الفهم، ولا تلتفت لأولئك الذين حولوا الشريعة إلى طقوس يؤدونها من دون فقه لأسرارها وحقائقها؛ فراحوا يوالون الظلمة، ويساندون المستكبرين، في نفس الوقت الذي يلهجون فيه بالتكبير والتهليل، وكأن الله تعالى أمرنا أن نعبده، ونقيم دينه بالألفاظ والطقوس، لا بالحقائق والمعاني.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن القرآن الكريم كتاب التزكية الأكبر، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معلم التزكية الأعظم، وأئمة الهدى والتقوى الذين مثلوا الهدي النبوي أحسن تمثيل، وحفظوا الدين الأصيل أحس حفظ، كلهم اتفقوا على تعظيم التهليل والتكبير، والحث عليهما، وفي كل المناسبات، وبيان الأجور العظيمة، والدرجات العالية التي يستحقها من يكثر منهما، ويداوم عليهما.
أما التكبير، وهو قول [الله أكبر] بصيغها المختلفة؛ فقد ورد الحث عليه في أوائل ما
مدارس النفس اللوامة (69)
نزل من القرآن الكريم، فقد ورد في سورة المدثر، وهي من أوائل سور القرآن الكريم، قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3]، وقد قرنها بالأمر بالإنذار، فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2]، ليبين من خلالها أنه لا يمكن أن يقوى أحد أو يصدق في الدعوة إلى ربه، من دون أن يكون مزودا بهذه المعرفة الجليلة معرفة عظم الله وكبره، حتى يصغر أمامه كل شيء.
وهكذا ورد في سورة الإسراء قوله تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] بعد آيات كثيرة تبين المعاناة العظيمة التي عاناها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع تلك القلوب القاسية التي كانت تخاطبه بقوله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِالله وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 90 - 93]
وهكذا يقرن القرآن الكريم بين وصف الله تعالى نفسه بالكبر والعلو مع وصف الأصنام التي تعبد من دون الله بالضعف والهوان، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]، وقال: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لله الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12]
وقد كان من حكمة الله تعالى أن تكون الصيغة الدالة على كبر الله وجلاله وعظمته، على وزن أفعل التفضيل من غير تحديد للمفضول، وذلك حتى يدخل كل شيء ما يعقل وما لا يعقل..
بل قد ورد عن الإمام الصادق النهي عن تحديد أي شيء للدلالة على أكبرية الله عليه، لأن في ذلك تحديدا وتقييدا، فقد روي أنه قال لبعض أصحابه: أي شيء الله أكبر؟
مدارس النفس اللوامة (70)
فقال: الله أكبر من كل شيء، فقال: فكان ثم شيء فيكون أكبر منه؟ فقلت: فما هو؟ فقال: (الله أكبر من أن يوصف) (1)
وروي أن رجلا قال أمامه: الله أكبر من كل شيء، فقال له: حددته، فقال الرجل: وكيف أقول؟ فقال: (الله أكبر من أن يوصف) (2)
ولذلك كان التكبير الصادق المبني على المعرفة الإلهية، والمؤدي إليها من أكبر المعارج التي تعرج بقلب صاحبها إلى الله، كما روي في الحديث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ قال رجلٌ من القوم: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من القائل كذا وكذا؟)، فقال رجلٌ: أنا يا رسول الله، قال: (عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء) (3)
وفي حديث آخر أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن التكبير يصل ويملأ ما بين السماء والأرض، فقال: (التسبيح نصف الميزان، والحمد يملؤه، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض) (4)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه من الباقيات الصالحات، ومن أحب الكلام إلى الله، وهي أربع: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) (5)، وعن الإمام الصادق أنه قال: (أكثروا من التهليل والتكبير فانه ليس شئ أحب إلى الله من التكبير والتهليل) (6)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن وصية إبراهيم الخليل أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به، فقال: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمّد أقرأ أمّتك منّي السّلام، وأخبرهم أنّ الجنّة طيّبة التّربة عذبة الماء،
__________
(1) معانى الاخبار ص 11.
(2) المحاسن ص 241.
(3) مسلم (601)
(4) أحمد (38/ 170) (23073)
(5) مسلم (2137)
(6) ثواب الاعمال ص 5.
مدارس النفس اللوامة (71)
وأنّها قيعان، وأنّ غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر) (1)
وأخبر عن مرتبة كلمة التوحيد من الإيمان، ودورها في تحقيقه، فقال: (الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله) (2)، وهذا الحديث يشير إلى أن كل شعب الإيمان مؤسسة على كلمة التوحيد، ومتفرعة عنها.
ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا الشريعة الحكيمة بذلك الترغيب العام، الذي قد يجد من يقصر فيه، وإنما ربطه بالكثير من العبادات والمواطن، وبالصيغة الجهرية، حتى يرددها المؤمن بكل قوة، ويسمعها لنفسه ولغيره.
فالتكبير ركن من أركان الصلاة، ولا يدخل المؤمن الصلاة إلا به، يردده عند كل رفع، وخفض، عشرات المرات كل يوم (3)، لينفي عن نفسه كل ما يتوهم كبره، وليستطيع أن يقرأ القرآن أو يسبح التسبيحات، وهو موقن بأن ربه هو الأعظم من كل شيء، فلا يشغله عنه أي شاغل.. وهكذا شرع قبل الصلاة ا?ذان وا?قامة، وكلاهما مضمختان بعطر التكبير.. وهكذا شرع بعدها التسبيحات، والتي يختلط فيه التسبيح بالتحميد بالتكبير.
وهكذا شرع ا?ذان في أذن المولود اليمنى، والإقامة في اليسرى، ليكون أول ما يسمعه التكبير، وقد روي عن أبي رافع قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذّن في أذن الحسن بن عليّ
__________
(1) الترمذي (3462) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2) مسلم (35) (58)
(3) يبلغ عدد التكبيرات في المواطن التي لها ارتباط بالصلاة عند الجمهور: (447)، وعند الحنفية (457)، وعدد التكبيرات في الصلاة المكتوبة (94) تكبيرة؛ قال النووي: (ففي كل صلاة ثنائية إحدى عشرة تكبيرة؛ وهي: تكبيرة الإحرام وخمس في كل ركعة، وفي الثلاثية سبع عشرة تكبيرة؛ وهي: تكبيرة الإحرام، وتكبيرة القيام من التشهد الأول، وخمس في كل ركعة، وفي الرباعية اثنتان وعشرون. ففي المكتوبات الخمس: أربع وتسعون تكبيرة) [انظر شرحه على صحيح مسلم (4/ 98)]، وعددها في ا?ذان: (30)، وعددها في ا?قامة عند الجمهور: (20) وعند الحنفية (30) وعدد التكبير بعد الصلاة (165)
مدارس النفس اللوامة (72)
حين ولدته فاطمة بالصّلاة) (1)
وهكذا في سائر الصلوات المرتبطة بالمناسبات المختلفة، كلها تمتلئ بالتكبير، وقد سئل ابن عبّاس عن استسقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج متبذّلا متواضعا متضرّعا حتّى أتى المصلّى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير، وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في العيد) (2)
وهكذا في الصلاة على الميت؛ فهو يكبر أربع أو خمس تكبيرات بحسب اختلاف المذاهب الفقهية.. وهكذا في صلاة العيدين، عيد الفطر وعيد ا?ضحى؛ فالتكبير يكون في ليلة عيد الفطر حتى صلاة العيد، كما قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، وقد روي في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة، سبعا في الأولى، وخمسا في الآخرة، ولم يصل قبلها ولا بعدها) (3)
وهكذا ينهي المصلون صلاتهم بالتكبير، خاصة إن كانوا في صلاة الجماعة، يكبرون بعد تكبير الإمام، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر) (4)
وهكذا يرتبط التكبير بالحج، الشعيرة التي يختلط فيها الجانب التعبدي بالجانب السياسي، فقد ورد الأمر بالتكبير عند رمي الجمرات، وعند الصعود من منى إلى عرفات، وعند الطواف، وغيرها من مواطن التكبير في المناسك.
وقد ورد الأمر با?كثار منه في أيام الحج، وخصوصا في العشر من ذي الحجة، فقد
__________
(1) الترمذي 4 (1514)؛ وأبو داود 4 (5105)
(2) الترمذي (555)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجة (1266)
(3) أحمد (11/ 283) (6688)
(4) البخاري ومسلم
مدارس النفس اللوامة (73)
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أهل مهلٌ قط، ولا كبر مكبرٌ قط، إلا بشر)، قيل: يا رسول الله بالجنة؟ قال: (نعم) (1)
وقال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) (2)
وهكذا أمر بالتكبير عند الذبح، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضَحَّى بكبشين أملحين أقرنين، وهو يقول: (باسم الله، والله أكبر) (3)
وهكذا يرتبط التكبير بكل المناسبات، فأول ما يبدأ به المؤمن شهره تكبير الله، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى الهلال قال: (الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله) (4)
وهكذا يردده المؤمن إذا ما سمع خبرا سارا، وقد روي أنه عندما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة)، حمدوا وكبروا (5)
وهكذا يردده المؤمن إذا ما حصل مكروه، فيسرع إلى دفعه بصحبة التكبير، ليتقوى على ذلك، وليدفعه بسلاح الغيب والشهادة، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا رأيتم الحريق، فكبروا، فإن التكبير يطفئه)، وفي رواية: (استعينوا على إطفاء الحريق بالتكبير) (6)
وهكذا يستصحب المؤمن التكبير في سفره، مثلما يستصحبه في إقامته؛ فيُكبِّرُ كلما صعد مرتفعا، أو هبَطَ واديًا، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُوصِي المُسافرَ بقوله: (عليك بتقوَى الله،
__________
(1) الطبراني في المعجم الأوسط (7779)
(2) أحمد، (6154)
(3) مسلم (1966)
(4) الدارمي (1729)
(5) البخاري (3348)، ومسلم (222)
(6) قال السخاوي في المقاصد الحسنة (1/ 86) (63): رواه الطبراني في الدعاء، وهو عند البيهقي في الدعوات.
مدارس النفس اللوامة (74)
والتكبير على كل شرَف) (1)
ويروى أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا علا شرفاً ـ أي: المكان المرتفع ـ كبر (2)، وكان يقول: (من هبط واديا فقال: لا إله إلا الله، والله أكبر، ملأ الله الوادي حسنات، فليعظم الوادي بعدا أو ليصغر) (3)
وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يكبر إذا استوَى على ظهر المركب الذي يمتطيه، ثم يقول: (الْحَمْدُ لله)، ثم يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13، 14]، ثم يقول: (الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر) ثم يقول: (سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) (4)، وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا) (5)
هذه ـ أيها المريد الصادق ـ نماذج عن المواطن التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على التكبير فيها، وهي مجرد أمثلة عن حرصه عليه، ودعوته له.. فاحرص على تربية نفسك بالتكبير، وتهذيبها به، فلا يدخل الجنة، ولا ينال درجاتها الرفيعة، ولا يطمع في تهذيب نفسه إلا من سار خلف نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يؤثر عليه شيئا.
ومثلما كان للتكبير ذلك الفضل العظيم، كان لصنوه [التهليل] ما لا يقل عليه في الفضل، بل هما قرينان، لا يكاد يذكر أحدهما إلا ذكر معه الآخر، ذلك أن من مقتضيات
__________
(1) الترمذي (3445)
(2) البخاري (1797)
(3) المحاسن ص 33.
(4) أبو داود (2602)
(5) مسلم (1342)
مدارس النفس اللوامة (75)
التكبير انفراد الله بالعظمة، وبكل صفات الكمال، ومن مقتضيات التوحيد أن يكون الله هو الأكبر.
ولذلك كان التهليل من الباقيات الصالحات التي يحبها الله تعالى، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من الكلام كلمة أحب إلى الله عز وجل من قول لا إله إلا الله، وما من عبد يقول: لا إله إلا الله يمد بها صوته فيفرغ إلا تناثرت ذنوبه تحت قدميه، كما يتناثر ورق الشجر تحتها) (1)
وهذا الحديث لا يشير فقط إلا تناثر السيئات من سجلات الملائكة، وإنما يشير إلى تناثر آثارها في النفس الأمارة، كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (كل جبار عنيد من أبى أن يقول: لا إله إلا الله) (2)، وهو يعني أن من وحد الله يستحيل أن يكون جبارا عنيدا.
ولهذا ورد في الحديث القدسي أن الله عز وجل قال: (لا إله إلا الله حصني من دخله أمن عذابي) (3)
واعتبر رسول الله التهليل أفضل عبادة، فقال: (أفضل العبادة قول لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وخير الدعاء الاستغفار، ثم تلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]) (4)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما قلت ولا قال القائلون قبلي مثل لا إله إلا الله) (5)
وقد فسر الإمام علي سر ذلك الفضل العظيم، وذلك ببيانه لدورها في تهذيب النفس، فقال: (ما من عبد مسلم يقول: لا إله إلا الله، إلا صعدت تخرق كل سقف لا تمر
__________
(1) كتاب التوحيد ص 6.
(2) أمالى الصدوق ص 119.
(3) أمالى الطوسى ج 1 ص 286.
(4) المحاسن ص 291.
(5) التوحيد ص 3.
مدارس النفس اللوامة (76)
بشيء من سيئاته إلا طلستها، حتى تنتهي إلى مثلها من الحسنات فتقف) (1)
وفسر ذلك الإمام الباقر، فقال: (ما من شئ أعظم ثوابا من شهادة أن لا إله إلا الله، لأن الله عز وجل لا يعدله شئ، ولا يشركه في الامر أحد) (2)
ولهذا كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى ترديدها في كل المحال، وقد روي عن زينب بنت جحش أنّها قالت: استيقظ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من النّوم محمرّا وجهه، وهو يقول: (لا إله إلّا الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) (3)
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كان إذا استيقظ من اللّيل قال: (لا إله إلّا أنت سبحانك اللهمّ أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب) (4)
وروي أنها قال لمن سألها: (بم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح قيام اللّيل؟): (لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكبّر عشرا ويحمد عشرا ويسبّح عشرا ويهلّل عشرا ويستغفر عشرا ويقول: (اللهمّ اغفر لي واهدني وارزقني وعافني. أعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة) (5)
وعن ابن عبّاس أنّه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهمّ لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكّلت وإليك أنبت وبك خاصمت. اللهمّ إنّي أعوذ بعزّتك لا إله إلّا أنت أن تضلّني. أنت الحيّ الّذي لا يموت. والجنّ والإنس يموتون) (6)
__________
(1) التوحيد ص 5.
(2) التوحيد ص 3.
(3) البخاري [فتح الباري]، 13 (7059) ومسلم (2280)
(4) أبو داود (5061) والحاكم (1/ 540)
(5) النسائي (3/ 209) وأبو داود (5085) وابن ماجة (1356)
(6) البخاري [فتح الباري]، 13 (7383) ومسلم (2717)
مدارس النفس اللوامة (77)
وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو بهنّ ويقولهنّ عند الكرب، يعني (لا إله إلّا الله العظيم الحليم، لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات الأرض وربّ العرش الكريم) (1)
وعن عبد الله بن مسعود أنّه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمسى قال: (أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، اللهمّ أسألك خير هذه اللّيلة، وأعوذ بك من شرّ هذه اللّيلة وشرّ ما بعدها، اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، اللهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب في النّار وعذاب في القبر) (2)
وعن عبد الله بن عمر أنّه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا قفل من غزو أو حجّ أو عمرة يكبّر على كلّ شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثمّ يقول: (لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، آيبون تائبون عابدون لربّنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده؛ وهزم الأحزاب وحده) (3)
وروي أنه كان يقول في دبر كلّ صلاة إذا سلّم: (لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، اللهمّ لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ) (4)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أيها المريد الصادق ـ يفعل ذلك تأويلا، وتنفيذا لما ورد في حقها في القرآن الكريم؛ فهو صلى الله عليه وآله وسلم القرآن الناطق المبين للحقائق والقيم، والمجسد لها.
__________
(1) البخاري [فتح الباري]، 13 (7426) ومسلم (2730)
(2) مسلم (2723)
(3) البخاري [فتح الباري]، 11 (6385) ومسلم (1342)
(4) البخاري [فتح الباري]، 11 (6330) ومسلم (593)
مدارس النفس اللوامة (78)
فالله تعالى اعتبر الاهتداء إلى كلمة التوحيد، وترديدها والدعوة إليها من أعظم أسباب الفتح الإلهي، والذي تزكى به النفس، وتطهر، وترتقي في معارج العرفان الكبرى، والتي تتيح لها القابلية لتنزلات الملائكة وما معها من روح القدس، قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل:2)
واعتبرها العروة الوثقى، التي لا يتمسك بها إلا الناجون، فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِالله فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 256)، وقد ذكر المفسرون أن المراد منها كلمة التوحيد (1).
واعتبرها العهد الذي عهد به إلى عباده، قال تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} (مريم: 87)، وقد قال ابن عباس في تفسيرها: (العهد شهادة أن لا إله إلا الله، ويبرأ إلى الله من الحول والقوة إلا بالله، ولا يرجو إلا الله تعالى)
واعتبرها الحسنى (2) التي لا ينال اليسرى إلا من صدق بها، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (الليل: 5 ـ 7)
واعتبرها كلمة الحق كما في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 86).
واعتبرها كلمة التقوى، كما في قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح: 26).
واعتبرها القول الثابت، كما في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي
__________
(1) قاله سعيد بن جبير والضحاك.
(2) قاله أبو عبدالرحمن السلمي، والضحاك عن ابن عباس.
مدارس النفس اللوامة (79)
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} (إبراهيم: 27).
واعتبرها الكلمة الطيبة، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم: 24)
وهذه الآية الكريمة تشير إلى الآثار التي يحدثها ذكر الله تعالى في النفس؛ فالله تعالى شبه كلمة التوحيد بالنخلة، لأنها لا تنبت في كل أرض، وكذلك كلمة التوحيد لا تستقر في كل قلب، بل في قلب المؤمن فقط.. والنخلة عرقها ثابت بالأرض، وفرعها مرتفع، وكذلك كلمة التوحيد أصلُها ثابت في قلب المؤمن، فإذا تكلم بها وعمل بمقتضاها عرجت به في سموات المكارم والقيم الرفيعة، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10).. والنخلة تؤتي ثمرها كل حين، وكذلك عمل المؤمن يصعد به ويرتقي كل حين.
ولهذا كله كانت المحور الأعظم الذي تدور حوله دعوة الرسل عليهم السلام، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)
وأخبر أنهم جميعا دعوا إليها، فكلهم قال لقومه {اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 73)
وهكذا ترى ـ أيها المريد الصادق ـ كيف عظمت النصوص المقدسة هذه الكلمة، وكيف اعتبرتها مفتاح الفلاح والفوز والنجاة في الدنيا والآخرة؛ فاعلم ذلك، واحرص على ترديدها في كل الأوقات؛ فلا يزال قلبك متعلقا بالله ما دمت مدمنا عليها..
وإياك أن يكون حظك منها لسانك، بل اسع لأن تشرك قلبك في ذكرك؛ حتى يمتد أثرها إلى كل لطائفك؛ فتملأها بالصلاح والتقوى.
مدارس النفس اللوامة (80)
واعتبر بما أمر الله به من تعلم علومها، والتحقق بحقائقها، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الله} (محمد: 19)، وقال: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 86)
وإن شئت أن تبحث عن علومها؛ فكل ما في الكون من علوم أدلة عليها، وآيات تشير إليها:
فللهِ في كل تحريكةٍ... وتسكينةٍ أبداً شاهدُ
وفي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ... تَدُلُّ على أنَّه واحِدُ
وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 18)
وأخبر عن الفرق العظيم بين من يعلمون ومن لا يعلمون، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9)، وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28)
فإذا فعلت ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ كانت علومك كلها توحيدا وذكرا وتواصلا مع الله، كما أخبر الله تعالى عن أولي الألباب، وكيف يمزجون ذكرهم بالنظر في خلق الله، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191]
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الإدمان على العلم والذكر هو الذي يحميك من ذلك الشك الذي يعتري الغافلين الجاهلين، ولهذا وصف الله تعالى المؤمنين باليقين، وعدم الارتياب والشك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ
مدارس النفس اللوامة (81)
هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: 4)، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: 15)
وذم المنافقين، ورماهم بالشك والريب والتردد لعدم سعيهم للتحقق بما يتطلبه اليقين من مجاهدات، قال تعالى: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة: 45)
ولهذا شرط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنجاة الموحدين اليقين، فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة) (1)
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن من علامات التوحيد الحقيقي التسليم المطلق لله، وفي كل الشؤون؛ فالله رب العالمين، ورب كل شيء ومليكه، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (البقرة: 208)، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36)
ومن علامات الموحد الإنابة إلى الله، والإسلام له، وعدم التعقب على شيء من أحكامه، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (الزمر: 54)، وقال {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} (النساء: 125)، وقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (لقمان: 22)، وقال مثنياً على إبراهيم عليه السلام {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (البقرة: 131)
ولهذا نفى الله تعالى الإيمان على من لم يسلموا له، أو وجدوا حرجا في أنفسهم من شرائعه، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65).
وكل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ لا يؤتي ثماره ما لم يتحقق القلب بالإخلاص، ولهذا
__________
(1) رواه مسلم.
مدارس النفس اللوامة (82)
تسمى كلمة التوحيد كلمة الإخلاص، قال تعالى: {أَلا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر: 3)، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: 5)، وقال: {قُلْ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (الزمر: 14).
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) (1)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) (2)
هذه رسالتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فتأمل ما فيها من مناهج السلوك، وأكثر من ذكر هاتين الكلمتين العظيمتين إلى أن يمتلئ بها قلبك وكل جوانحك.. لتثمر بعد ذلك في نفسك كل الثمار الطيبة.
__________
(1) البخاري (6570)
(2) رواه البخاري ومسلم.
مدارس النفس اللوامة (83)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن التسبيح والتقديس، ودورهما في السير والسلوك، وفي التخلق والتحقق، وسر ما ورد حولهما في النصوص المقدسة، والجوانب العملية المرتبطة بكل ذلك.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التسبيح والتقديس من أركان السير إلى الله التي وردت الدعوة إليها في النصوص المقدسة، ولا يمكن لأي سالك، أو طالب لمعرفة الله أو التواصل معه، أو التخلق بأخلاق الأولياء والصديقين إلا أن يسبح الله ويقدسه في كل حين، وبكل لطائفه؛ والتقصير في ذلك انحدار وسقوط وبعد وحجاب.
ذلك أن التسبيح والتقديس يتعلق بأعظم حقائق الوجود، وهو الله تعالى، والذي لا يمكن معرفته من غير تنزيهه عن كل ما لا يليق به، وقد ورد في الحديث أن رجلا من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن الكلمات التي اختارهن الله لإبراهيم عليه السلام، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، فسأله اليهودي عن تفسيرها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (علم الله جل وعز أن بني آدم يكذبون على الله، فقال: سبحان الله، تبريا مما يقولون، وأما قوله: الحمد لله، فإنه علم أن العباد لا يؤدون شكر نعمته، فحمد نفسه قبل أن يحمدوه، وهو أول الكلام، لولا ذلك لما أنعم الله على أحد بنعمته، وقوله: لا إله إلا الله يعني وحدانيته لا يقبل الله الأعمال إلا بها، وهي كلمة التقوى، يثقل الله بها الموازين يوم القيامة، وأما قوله: الله أكبر فهي أعلى الكلمات، وأحبها إلى الله عز وجل، يعني أنه ليس شئ أكبر مني لا تفتتح الصلوات إلا بها لكرامتها على الله) (1)
ولهذا يقترن التسبيح بذكر مقولات الذين كذبوا على الله، قال تعالى مخبرا عن تنزهه
__________
(1) بحار الأنوار، (90/ 167)
مدارس النفس اللوامة (84)
عما يقوله المشركون: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]
وأخبر عن أولئك الذين تصوروا الله جاهلا لا يعلم ما لا يعلمون، فقال: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
وهكذا يقترن التسبيح بالشرك وبكل ما لا يليق بالله تعالى مما يذكره الجاهلون بقدر الله، قال تعالى في معرض رده على مقولات المشركين، وبعدها عن مقتضيات العقول: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 40 - 43]
ولهذا تقترن كلمة التسبيح بكلمة (تعالى)، والتي تعني تعالي الله وتقدسه وتنزهه، كما قال تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، وقال: {أَتَى أَمْرُ الله فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1]، وقال: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43]
وتقترن ـ كذلك ـ بكلمة التقديس، كما في قوله تعالى عند ذكره لقول الملائكة عليهم السلام: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]
كما تقترن بالتعجب من العقول وجهلها وعدم استعمالها في إدراك الحقائق، كما قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ
مدارس النفس اللوامة (85)
مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68]
وهذا يدل على أن التسبيح والتقديس علامة نضج العقل واكتماله، لأن كل البراهين العقلية مرشدة لذلك، ودالة عليه، ولذلك كان المشبه والمشرك وكل من يصف ربه بما لا يليق به ممتلئا بالغفلة والغباء، حتى لو اشتهر بالعبادة والزهد والتقوى.
ومما يروى في هذا أنه وُصف للإمام الصادق بعض الناس، وذكر له من عبادته ودينه وفضله، لكن الإمام لم يلتفت لذلك، وإنما راح يسأل عن عقله، فقال الواصف: لا أدري، فقال الإمام: (إن الثواب على قدر العقل، إن رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر خضراء نضرة كثيرة الشجر ظاهرة الماء، وإن ملكا من الملائكة مر به فقال: يا رب أرني ثواب عبدك هذا فأراه الله تعالى ذلك، فاستقله الملك فأوحى الله تعالى إليه: أن اصحبه؛ فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد الله معك فكان معه يومه ذلك، فلما أصبح قال له الملك: إن مكانك لنزه وما يصلح إلا للعبادة فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيبا فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربنا بهيمة فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع فان هذا الحشيش يضيع، فقال له [ذلك] الملك: وما لربك حمار، فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش؛ فأوحى الله إلى الملك إنما اثيبه على قدر عقله) (1)
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله، فإنما يجازي بعقله) (2)
وإن شئت أن تعتبر بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ فتوهم صديقا من أصدقائك، يبالغ في إكرامك، والثناء عليك، ثم تراه بعد ذلك يتهمك بأي تهمة، أو يظن بك ظنون السوء؛
__________
(1) الكافي: 1/ 11.
(2) الكافي (1/ 15)
مدارس النفس اللوامة (86)
فهل يمكن أن تعتبر مثل هذا صديقا؟
وهل يمكن أن يكون إكرامه لك ببعض الطعام أو الهدايا ناسخا لتلك التهم التي رماك بها، وأشاعها عنك؟
وهكذا؛ فإن التسبيح والتقديس ليسا مرتبطين بالمعارف الإلهية فقط، وإنما يرتبطان بالقيم الأخلاقية؛ فالذي لا ينزه الله عما لا يليق به لا يختلف عن ذلك الذي يقذف الناس بما ليس فيهم؛ فيبهتهم ويظلمهم، وقد قال الله تعالى في توجيهاته للذين وقعوا في الإفك: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ الله عَظِيمٌ} [النور: 15]، بل إنه ربط ذلك بالتسبيح، فقال: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ليشير بذلك إلى أن الذي ينزه لسانه عن الكذب والافتراء على الخلق، أولى أن ينزهه عن الافتراء والكذب على الله.
ولهذا يذكر الله تعالى فداحة جرم من ينسبون له الولد، قال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 4 ـ 5]
بل ذكر في آيات أخرى تأثر الكون جميعا بتلك الاتهامات التي يتهم بها الله، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93]
ولهذا ترد الإشارات القرآنية الكثيرة إلى أن الكون كله أعظم معرفة بالله من أولئك المشركين أو الغافلين الذين يصفون الله تعالى بما لا يليق به، قال تعالى يذكر تسبيح السموات
مدارس النفس اللوامة (87)
والأرض، وما فيها من الكائنات: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَالله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41]، وقال: {يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1]
وقال عن تسبيح الرعد والملائكة: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13]
وقال عن تسبيح الجبال والطير: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79]
ولهذا؛ فإن تسبيح الله وتقديسه من الأمور الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها، ولا تجاهلها، ولا السير إلى الله من دونها..
بل إن السائرين إلى الله في الحقيقة لا يقومون سوى بتطهير عقولهم وقلوبهم ونفوسهم من كل تلك المعارف والظنون التي كانوا يتوهمون أنهم يثنون بها على الله، ثم يكتشفون أن جلال الله أعظم من أن يعبر عنه بذلك الثناء، ولذلك يرد التسبيح والتقديس بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار.
وإلى هذا المعنى الإشارة بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان يقول في دعائه: (اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) (1)
__________
(1) رواه أَحمد (1/ 96 و18 أو 150)، وأبو داود (1427)، والنسائي (3/ 248 - 249)، وابن ماجه (1179)
مدارس النفس اللوامة (88)
وقد ذكر بعض الحكماء سر التدرج الوارد في الحديث، فقال: (نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصفات، فاستعاذ ببعضها من بعض، فإن الرضا والسخط وصفان، ثم زاد قربه فاندرج القرب الأول فيه فرقي إلى الذات، فقال أعوذ بك منك، ثم زاد قربه بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب، فالتجأ إلى الثناء، فأثنى بقوله لا أحصي ثناء عليك، ثم علم أن ذلك قصور، فقال أنت كما أثنيت على نفسك) (1)
وهذه الإشارة العرفانية تدل على الحقيقة التي ذكرها القرآن الكريم بصيغ مختلفة، ومنها قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]، وقوله: {فَفِرُّوا إِلَى الله إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]
وإليها الإشارة بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله) (2)، وقد قال بعض الحكماء في تفسيره: (لما كانت روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تزل في الترقي إلى مقامات القرب تستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس، وكانت خطى النفس تقصر عن مداهما في العروج، فمما نهضت به الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تتقطع علاقة النفس عنه، فيبقى العباد محرومين فكان صلى الله عليه وآله وسلم يفزع إلى الاستغفار، لقصور النفس عن ترقي القلب)
ولذلك؛ فإن التسبيح والتقديس ـ أيها المريد الصادق ـ لا ينقطع أبدا حتى في الجنة، ذلك أن المؤمن يكتشف فيها كل يوم قصوره في معرفة ربه، وأنه أعظم من أن يحاط به، وقد قال تعالى يذكر ذلك: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ} [يونس: 10]
__________
(1) إحياء علوم الدين (1/ 293)
(2) رواه مسلم.
مدارس النفس اللوامة (89)
وروي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنّ أهل الجنّة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوّطون ولا يمتخطون). قالوا: فما بال الطّعام؟، قال: (جشاء (1) ورشح كرشح المسك، يلهمون التّسبيح والتّحميد، كما يلهمون النّفس) (2)
ولهذا كله يذكر الله تعالى تسبيح الملائكة الدائم مع معرفتهم بالله، للدلالة على عدم محدودية تنزيه الله، قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، وقال: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصِّلت: 38]
ومثل ذلك الرسل عليهم السلام، الذين يذكر القرآن الكريم تسبيحهم لله مع عظم معرفتهم به، أو للدلالة على معرفتهم به، فقد أخبر الله تعالى عن يونس عليه السلام أنه قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} [الأنبياء: 87]، وأخبر عن موسى عليه السلام أنه قال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، وأخبر عن المسيح عليه السلام أنه قال: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]، وأخبر أنه أمر زكريا عليه السلام بالتسبيح، فقال: {وَسَبِّحْ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]، وأخبر أن زكريا عليه السلام أمر قومه بالتسبيح، فقال: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن التسبيح والتقديس مثل سائر الأذكار التي يعرج بها السالك إلى الله، لا يكفي فيه ترديد اللسان، ولا كثرة أعداد التسبيحات، بل
__________
(1) جشاء: هو تنفس المعدة من الامتلاء.
(2) مسلم (2835)
مدارس النفس اللوامة (90)
ينبغي أن يشمل كل اللطائف، وأولها العقل؛ فهو أول المسبحين والمقدسين، ومن لم يسبح عقله ربه، وقع في مستنقعات التشبيه والتجسيم والشرك والضلالة، ولو سبح بلسانه ملايين المرات.
وإياك أن تتوهم أن كونك مسلما، كاف في تنزهك عن رمي ربك بما لا يليق به، أو أنه كاف في تخلصك من التشبيه والتجسيم وكل أنواع الضلالات التي وقعت فيها الأمم السابقة؛ فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيقع لهذه الأمة من الانحراف ما وقع في الأمم السابقة.
وقد صدق ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث دخلت الكثير من الضلالات المسيئة لتنزيه الله، والتي حولت الله تعالى إلى وثن من الأوثان، وجرم من الأجرام.
وقد روي أن الإمام الصادق ذكرت له بعض الروايات التجسيمية التي كانت تنتشر في عصره، وخاصة بين المحدثين، فقال: (سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]،لا يحد ولا يحس ولا يجس ولا تدركه الأبصار ولا الحواس ولا يحيط به شئ ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد) (1)
وقال: (إن الله تعالى لا يشبهه شيء، أي فحشٍ أو خنى أعظمُ من قولٍ من يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة أو بخلقة أو بتحديد وأعضاء، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) (2)
وقال: (من زعم أن الله في شيء، أو من شيء، أو على شيء فقد أشرك. إذ لو كان على شيء لكان محمولا، ولو كان في شيء لكان محصورا، ولو كان من شيء لكان محدثا- أي مخلوقا) (3)
__________
(1) الكافي للكليني 1/ 104.
(2) الكافي 1/ 105.
(3) الرسالة القشيرية (ص/ 6)
مدارس النفس اللوامة (91)
ومثله قال الإمام الكاظم لما ذكر له بعض المجسمة ممن يزعمون صحبته: (قاتله الله أما علم أن الجسم محدود والكلام غير المتكلم، معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد وكل شيء سواه مخلوق، إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق بلسان) (1)
وهكذا قال الإمام الرضا: (إنه ليس منا من زعم أن الله عز وجل جسم، ونحن منه برآء في الدنيا والآخرة، إن الجسم محدث، والله محدثه ومجسمه) (2)
ولهذا؛ فإن التأمل والتدبر والتفكير وحده كاف في حماية عقلك ـ أيها المريد الصادق ـ من كل تلك التشويهات والتحريفات التي أساءت بها بعض الطوائف من هذه الأمة إلى الله؛ فجعلته جرما كالأجرام وجسما كالأجسام؛ فاحذر أن تسلك سبيلهم، أو أن تسلم عقلك لعقولهم، فهم لا يختلفون عن ذلك العابد الذي حكى الإمام الصادق، والذي راح يشبه الله بنفسه.
وكذلك أولئك الذين انحرفوا عن التنزيه والتقديس الذي جاء به القرآن الكريم، وراحوا ينسبون لله تعالى المكان والأعضاء والحدود والمقادير، مع أن كل ذلك يؤدي إلى الشرك، بل هو الشرك عينه.
وقد روي عن الإمام علي أنه قال: (من زعم أنّ إله الخلق محدود فقد جهل الخالق المعبود) (3)، وقال: (من حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله) (4)
وروي أن بعضهم طلب من الإمام الرضا أن يحدّ الله تعالى له، فقال له الإمام: لا حدّ
__________
(1) الكافي 1/ 106.
(2) التوحيد للصدوق 104.
(3) التوحيد، الشيخ الصدوق، ح 34، ص 77.
(4) نهج البلاغة،، خطبة 152، ص 278 ـ 279.
مدارس النفس اللوامة (92)
له. قال الرجل: ولم؟ قال الإمام: لأنّ كلّ محدود متناه إلى حدّ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة. وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان. فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزئ) (1)
وإن كنت ترى أن عقلك ـ أيها المريد الصادق ـ أقل من أن يستنبط الحجج الدالة على التنزيه والتقديس، ورأيت أن التشبيه والتجسيم قد غلباك على أمرك، بحيث استحال عليك أن تعقل موجودا ليس له صفات الأجسام، فعليك بكتب المتكلمين، وحججهم، فانظر فيها، واستعن بها، من غير أن تكتفي بما فيها.. فمعرفة الله أعظم من أن تحد بأي حدود، أو تقيد بأي قيود.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وانسجم عقلك مع تنزيه الله تعالى، وصرت تضحك على تلك العقول التي توهمت أن لله تعالى حدودا ومقادير ومكانا وأعضاء، وغير ذلك؛ فلا تكتف بذلك؛ فالتسبيح والتقديس أعظم من أن يحصر في دوائر الذهن والعقل.
ولذلك؛ فانتقل إلى قلبك، الذي هو محل مشاعرك ومواجيدك وأذواقك؛ فتذوق ذلك المعنى الجليل الذي يدل عليه التسبيح والتقديس، واستشعره بكل كيانك، وامتلئ بالانبهار والدهشة، وأنت تطالع صفحات الكمال الإلهي المنزه عن كل نقص وقصور.
فتسبيح الله الأعظم هو تسبيح قلبك، الذي هو حقيقتك، وليس تسبيح لسانك فقط، والذي ليس سوى جارحة من جوارحك؛ فإياك أن تتوهم اقتصار التسبيح عليه؛ فتظلم نفسك، وتظلم هذه العبادة العظيمة التي اشتغل بها الكون جميعا (2).
__________
(1) التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 36، ح 3، ص 246.
(2) اتفق العلماء على تقسيم الذكر إلى ذكر القلب واللسان، وعلى أن الأفضل هو الجمع بينهما، وأن ذكر القلب أفضل من ذكر اللسان المجرد، قال ابن حجر: (ثم الذكر يقع تارة باللسان، ويؤجر عليه الناطق، ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النطق: الذكر بالقلب: فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونفي النقائص عنه: ازداد كمالا) [فتح الباري (11/ 209)]
مدارس النفس اللوامة (93)
ولذلك يذكر الصادقون في سيرهم إلى الله انبهارهم بتلك المعاني التي تلوح على قلوبهم كل حين، وهم يطالعون قدوسية الله وجلاله، كما عبر عن ذلك الشاعر بقوله:
ومع تفنن واصفيه بحسنه... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
وعبر آخر عن ذلك، فقال:
زدني بفرط الحب فيك تحيُّرا... وارحم حشى بلظى هواك تسعَّرَا
وتلك الحيرة والانبهار هي الوحيدة التي تملأ النفس بالطمأنينة والسعادة، ذلك أن النفس لا تستقر عند المحدود المقيد، بل هي تطلب العظمة المطلقة المنزهة عن كل نقص، والتي لا تجدها إلا عند الله.
ولذلك يرتبط ذكر الله بالطمأنينة، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]
وبين آثار الذكر على القلب، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]
ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يلجأ للتسبيح حتى يصد تلك الحملات الظالمة التي كانت موجهة إليه، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97، 98]
بل إن الله تعالى علق الرضى بالتسبيح، واعتبره وسيلة من وسائله، فقال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]
مدارس النفس اللوامة (94)
ولهذا يقترن التسبيح بالصبر، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39، 40]، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48، 49]
ومن أسرار ذلك أن الشيطان قد ينفخ في قلب الإنسان حال غفلته، وبسبب البلاء الذي تعرض له، بتلك الوساوس التي تملأ النفس بالكدر، فتتوهم ما يتوهمه الغافلون من أن الكون مؤسس على الظلم والجور والشر، وأنها هي المتحكمة فيه.. ولذلك كان تنزيه الله، تذكيرا لها بالعدالة المطلقة التي لا يشوبها أي ظلم، وبالرحمة المطلقة التي لا تختلط بأي قسوة، وذلك كله مما يعين على الصبر، بل على الرضى.
ولهذا يذكر الله تعالى عن يونس عليه السلام قوله عندما حصل له ذلك البلاء العظيم: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]
وقد أخبر الله تعالى عن إنقاذه من ذلك البلاء الذي وقع فيه بسبب تسبيحه، فقال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]، وقال: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 142 - 144]
وهذا يدل على أن التسبيح ليس وسيلة للتعرف على الله تعالى فقط، وإنما هو حبل ممدود من الله تعالى لعباده، لإنقاذهم من كل ما قد يلم بهم من ألوان المصائب، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب
مدارس النفس اللوامة (95)
الله له) (1)
والتسبيح ـ بذلك ـ ليس مجرد ألفاظ تردد، وإنما يمتد أثره للحياة جميعا، فيملأها بالعبودية الصادقة المضمخة بعطر كل القيم الجميلة.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ واندمج عقلك مع قلبك في تسبيح الله، وامتلأت جميع مشاعرك بالتقديس والتعظيم؛ فإن آثار ذلك لا محالة ستسري إلى جوارحك، وتجعلها ممتلئة بالعبودية.
ولذلك كانت الأعمال الصالحة ثمرة من ثمار تسبيح الله، ذلك أن من يعرف الله، وينزهه، يستحيل عليه أن يعصي أمره، أو يتعدى حدوده، أو يقع فيما يقع فيه المغترون من الجمع بين المعاصي والدعاوى.
ذلك أن من ضروريات تسبيح الله معرفة صدقه في وعده ووعيده، وأن كلماته لا تبدل ولا تغير، وأن كل ما جاء به أنبياؤه عليهم السلام حق لا باطل فيه، وواقع لا فرار منه، وذلك ما يدعو إلى الحذر والخشية، وهما المحركان للتقوى والورع، وهما الجامعان لكل الفضائل.
ولذلك كان في تكرار تسبيح الله تذكيرا للنفس بهذه المعاني، حتى لا تحدث نفسها بالآثام الظاهرة والباطنة، وحتى لا تتسرب إليها وساوس الشياطين، وما يدلون به من حبال الغرور.
وقد كان من رحمة الله تعالى بعباده أمره لهم بتسبيحه بألسنتهم، ذلك أن الظاهر يؤثر في الباطن، وما تكرر ذكره على اللسان تقررت حقيقته في القلب.. ولذلك يلجأ العقلاء إلى
__________
(1) رواه الترمذي.
مدارس النفس اللوامة (96)
ما يطيقونه، وهو جوارحهم، ليتحكموا بها في قلوبهم.
ولهذا اقترن الحث على التسبيح في القرآن الكريم بتطهير الله لقلوب عباده، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42]، ثم بين عاقبة من يلتزم بذلك، فقال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]
وبما أن الباطن لا يتأثر بالظاهر إلا بتكرره الكثير، مع الاستمرارية والدوام؛ فقد دعا القرآن الكريم إلى التسبيح في كل الأوقات التي يمكن أن يكون له فيها من التأثير ما ليس لغيره.
ومن أهم تلك الأوقات الغدو والآصال، أو حين يبدأ الإنسان يومه، ليبدأ صحبته فيه لله، أو حين يكاد ينهيه، لينشغل فيه بربه، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8]
ومن الآيات الكريمة التي تحث على ذلك، بل تدعو إلى قيام مجالسه في المجتمع، حتى يتنور، وتتنزل عليه بركات الله قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36، 37]، ثم ذكر الجزاء الذي وفره لهم على هذه العبودية؛ فقال: {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 38]
ومن تلك الأوقات ما حدده الله تعالى مواقيت للصلاة، كما قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18]، وهي تشبه مواقيت الصلاة الواردة في قوله تعالى: {أَقِمِ
مدارس النفس اللوامة (97)
الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، وكأن التسبيح يهيئ النفس للصلاة، أو يجعلها أكثر قابلية لآثارها.
وهكذا نرى اهتمام النصوص المقدسة بصيغ التسبيح، والذي تكفلت به الكثير من الأحاديث النبوية مع بيان أعدادها والجزاء المرتبط بها، ليكون في ذلك الترغيب الشديد في المداومة عليها.
ومن تلك الصيغ [سبحان الله]، أو [سبحان ربي]، وهي من الصيغ المختصرة التي لا ترهق من يريد حفظها أو تكرارها وترديدها، وقد روي في فضلها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل أصحابه: (أيعجز أحدكم أن يكسب، كل يوم ألف حسنة؟)، فقالوا: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: (يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة) (1)
ومنها [سبحان الله وبحمده]، ومما ورد في فضلها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر) (2)
وقال في حديث آخر: (من قال: حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده، مائة مرة، لم يأت أحدٌ يوم القيامة، بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ قال مثل ما قال أو زاد عليه) (3)
ومنها [سبحان الله العظيم وبحمده]، ومما ورد في فضلها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلةٌ في الجنة) (4)
ومنها [سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم]، ومما ورد في فضلها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
__________
(1) رواه مسلم: 2698
(2) رواه البخاري: 6405، ومسلم: 2691
(3) رواه مسلم: 2692
(4) رواه الترمذي، وقال حسن صحيح غريب: 3464
مدارس النفس اللوامة (98)
(كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) (1)
ومنها [سبحان الله والحمد لله]، والتي ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها (تملأ ما بين السماوات والأرض) (2)
ومنها [سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر]، والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) (3)
ومنها [سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته]، ومما ورد في فضلها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أنها تعدل وقتا طويلا من الذكر، فقد قال لمن رآه يذكر من بعد صلاة الصبح إلى الضحى: (لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) (4)
وهذا من فضل الله العظيم على عباده، ذلك أنه أتاح للمقصرين أن يستدركوا بمثل هذه الصيغ ما قد فاتهم من الفضل، ومما يروى في هذا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لبعض أصحابه: (ألا أخبرك بأكثر أو أفضل من ذكرك الليل مع النهار، والنهار مع الليل؟ أن تقول: سبحان الله عدد ما خلق، وسبحان الله ملء ما خلق، وسبحان الله عدد ما في الأرض والسماء، وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه، وسبحان الله عدد كل
__________
(1) رواه البخاري: 6406، ومسلم: 2694
(2) رواه مسلم: 223
(3) رواه مسلم: 2695
(4) رواه مسلم: 2726.
مدارس النفس اللوامة (99)
شيء، وسبحان الله ملء كل شيء، وتقول الحمد مثل ذلك) (1)
ومما له علاقة بهذا أنه بينما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي، إذ قال رجلٌ: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من القائل كلمة كذا وكذا؟) قال رجلٌ من القوم: أنا، يا رسول الله، فقال: (عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء)، قال الراوي: (فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك) (2)
وهذا الحديث يدل على أنه يمكن أن يسبح المؤمن بأي صيغة يخترعها أو ينشئها من عند نفسه، ما لم تكن مصادمة للحقائق الشرعية، وأن ذلك ليس بدعة، لأن الله تعالى أمر بمطلق التسبيح والذكر، ومن غير تحديد أي صيغة.
ولم تكتف الشريعة الحكيمة بالحث على تسبيح الله في تلك المواقيت، وبتلك الصيغ، وإنما أضافت إليها ربطها بالشعائر التعبدية، وخصوصا الصلاة.
ومن تلك الصيغ ما ورد الأمر بقوله عند الركوع والسجود، والتي ذكر الإمام الرضا سرها، فقال: (إنّما جُعل التسبيح في الركوع والسجود ليكون العبد مع خضوعه وخشوعه، وتورّعه واستكانته، وتذلله وتواضعه، وتقرّبه إلى ربّه مقدِّساً له، ممجّداً مسبّحاً، معظماً شاكراً لخالقه ورازقه، وليستعمل التسبيح والتحميد، كما استعمل التكبير والتهليل، وليشغل قلبه وذهنه بذكر الله، فلا يذهب به الفكر والأماني إلى غير الله) (3)
ومن تلك الصيغ، ما ورد في الحديث أنه لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اجعلوها في ركوعكم)، فلما نزلت {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ
__________
(1) رواه أحمد: 22144، وابن خزيمة: 754، وابن حبان: 830
(2) رواه مسلم: 601
(3) الوسائل ج 4 ص 924.
مدارس النفس اللوامة (100)
الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: (اجعلوها في سجودكم) (1)
ومن تلك الصيغ ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) (2)
ومنها أنه كان يقول في ركوعه وسجوده (سبوحٌ قدوسٌ، رب الملائكة والروح) (3)
ومنها أنه قال في ركوعه أو سجوده: (سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت) (4)
ومنها أنه قال في قيام الليل عند ركوعه: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة) (5)
ومنها قوله إذا سلم في الوتر ثلاثا: (سبحان الملك القدوس) (6)، وروي أنه كان يقولها عشرا قبل شروعه في صلاة الليل (7).
ومن المواضع التي ورد الحث على التسبيح فيها، أو التخيير بينها وبين القراءة، ما أجاب به الإمام الباقر من سأله، فقال: (ما يجزي من القول في الركعتين الأخيرتين؟)، قال له الإمام: (أن تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، وتكبر وتركع) (8)
__________
(1) الدارمي (1305)، وأبو يعلى (1738)، وابن خزيمة (600) و(670)
(2) رواه البخاري: 794، ومسلم: 484
(3) رواه مسلم: 487
(4) رواه مسلم: 485
(5) رواه أبو داود: 873.
(6) رواه أبو داود: 1430
(7) رواه أبو داود: 5085
(8) الوسائل ج 4 ص 782.
مدارس النفس اللوامة (101)
وعن بعضهم، أنّه صحب الإمام الرضا من المدينة إلى مرو، فكان يسبّح في الأخراوين يقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ثلاث مرّات، ثمّ يركع) (1)
بالإضافة إلى هذا كله لا يكاد يوجد ذكر من الأذكار المرتبطة بالمناسبات المختلفة إلا ويكون التسبيح أحد مكوناته، ومن ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أوصى به من تعار من الليل، أو أصابه الأرق: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله)، ثم يقول: (اللهم اغفر لي)، وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل ذلك، فقال: (فإن دعا استجيب له، وإن توضأ وصلى قبلت صلاته) (2)
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسبح عند أي شيء يحصل، وقد حدثت أمّ سلمة قالت: استيقظ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (سبحان الله، ما ذا أنزل من الخزائن، وما ذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجر ـ يريد به أزواجه ـ حتّى يصلّين، ربّ كاسية في الدّنيا عارية في الآخرة) (3)
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من قول: (سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه)، فقلت: يا رسول الله، أراك تكثر من قول (سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه)؟. فقال: (خبّرني ربّي أنّي سأرى علامة في أمّتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] (فتح مكّة) {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
__________
(1) الوسائل ج 4 ص 782.
(2) رواه البخاري، الفتح 3/ 144.
(3) البخاري [فتح الباري]، 10 (6218)
مدارس النفس اللوامة (102)
وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 2، 3]) (1)
هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على هذه الشعيرة العظيمة، والتزم بها؛ فالله تعالى أكرم من أن يترك عبده الذي يسبحه ويقدسه لنفسه الأمارة؛ فكما تسبح الله وتنزهه وتبرئه من كل ما لا يليق به؛ فسيكرمك الله بتنزيهك وتقديسك وإبعاد كل ما لا يليق بك، وبإنسانيتك المكرمة.
__________
(1) البخاري [فتح الباري]، (794) مختصرا، ومسلم (484)
مدارس النفس اللوامة (103)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الحمد والتمجيد، ودورهما في التزكية والترقية، وفي التخلق والتحقق، وسر ما ورد حولهما في النصوص المقدسة، والجوانب العملية المرتبطة بكل ذلك.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الحمد والتمجيد من الأركان الضرورية للتزكية والترقية، مثلهما مثل التسبيح والتقديس، والتكبير والتهليل.. ذلك أن من يكتفي بتوحيد الله، أو تنزيهه عما لا يليق به، ثم لا يثبت له المحامد، ولا الكمالات لم يسبحه ولم يقدسه ولم يكبره.. لأن كمال الله ليس مرتبطا بتنزيهه فقط، وإنما بإثبات جميع صفات الكمال له.
بل إن التمجيد والحمد مندرج في التقديس والتنزيه؛ فلا يمكن أن يكون الله تعالى قدوسا وسبوحا ما لم يكن حميدا مجيدا.. ومثل ذلك التمجيد والتحميد، فهما مفتقران للتقديس والتنزيه؛ فلا يمكن ثبوت الكمال ما لم يثبت نفي النقص.
ولهذا يجتمع في القرآن الكريم كلا المعنيين: التقديس والتمجيد، كما قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98]، وقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58]، وقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]، وقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]، وغيرها من الآيات الكريمة.
ولذلك، فإن أكثر ما ورد في الأحاديث الشريفة من الثناء على التسبيح وبيان فضله
مدارس النفس اللوامة (104)
والأجور المرتبطة به، له علاقة بالحمد والتمجيد، ذلك أنهما مقترنان في أكثر ما ورد من صيغ الذكر.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن حمد الله وتمجيده لا يعني ما نفهمه من المديح والتزلف والتملق والثناء الذي يقوم به الخلق بعضهم تجاه بعض، ليستفيد بعضهم من بعض، ويتقرب بعضهم من بعض.. كلا.. فما ذلك إلا تملق وتودد، وهو يجانب الحقائق في أكثره، وقد عرفت في رسائلي إليك سر نهي الشرع عن المبالغة في المدح، والأمر باجتناب المادحين.
أما تمجيد الله والثناء عليه؛ فهو تذكير للنفس بعظمة خالقها، ودعوتها للجوء إليه، وعدم تضييع الفرصة في التواصل معه، ولذلك فإن مصلحته المجردة تعود على العبد، أما الله، فهو غني بذاته عن أن يصل إليه النفع منه؛ فكيف يصله من غيره.
وذلك يشبه ـ أيها المريد الصادق ـ من يبحث عن طبيب أو مهندس أو خبير في أي شأن من الشؤون.. فإذا وجده، وسجل اسمه وعنوانه في دفتره.. لا يفعل ذلك إلا لحاجته إليه.
وهكذا ـ ولله المثل الأعلى ـ تذكير النفس بكون الله قادرا أو مريدا أو رحيما أو لطيفا أو عليما، أو غيرها من معاني عظمة الله ومجده، فهي إشعار للنفس بأنها في كنف إله يغنيها في كل حاجاتها، ويدعوها إلى التواصل معه، وعدم الاحتجاب عنه بأي حجاب.
وهو ما يدعوها إلى الابتعاد عن كل العيوب والمثالب التي تحول بينها وبينه، فالكريم لا يقبل بصحبة البخيل، والصادق لا يقبل صحة الكاذب، والعدل لا يقبل صحبة الظالم الجائر، والرحيم لا يقبل صحبة القاسي، والعليم لا يقبل صحبة الجاهل.
وهكذا فإن حمد الله ومجده لا يرتبط فقط بالجوانب الروحية، وإنما يرتبط أيضا بالجوانب الأخلاقية والتربوية، ذلك أن كل معنى من المعاني التي يُمجد بها الله تعالى له
مدارس النفس اللوامة (105)
تأثيره في النفس بالدعوة للتخلق بأخلاقه، والتأدب بعظيم صفاته.
ولهذا؛ كان القرآن الكريم كتاب التمجيد والحمد الأعظم؛ فلا تكاد تخلو سورة أو آية من آياته من تمجيد الله وعظمته، ولذلك كانت تلاوته أعظم وسيلة للتزكية والترقية والتحقق بكل القيم الروحية والتربوية، بالإضافة إلى كونه تعبيرا عن الحقائق الوجودية العظيمة، والتي لا يمكن الاستفادة منها من دون معرفتها.
ولهذا، فإن أول وأعظم سورة في القرآن سورة الفاتحة، والتي جعل الله تعالى تلاوتها ركنا في الصلاة، تقرأ في كل ركعة، افتتحت بالثناء على الله تعالى، قال تعالى: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2 - 4]
وقد ورد في الحديث القدسي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله عز وجل: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 2)، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 3)، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4)، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6، 7)، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) (1)
ونلاحظ ـ كما ورد في الحديث القدسي ـ كيف أن الله تعالى بدأ بذكر تمجيده، وحمده، ثم رتب عليه الدعاء والطلب، وهو يشبه ذلك الذي يذهب إلى الطبيب، ويقول له: بما أنك طبيب ومختص في كذا وكذا؛ فإني أطلب منك أن تعالجني بما هو في دائرة اختصاصك.
ولذلك، يرد الحمد والتمجيد في القرآن الكريم مقترنا بالطلب والدعاء، كما في قوله
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
مدارس النفس اللوامة (106)
تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 191، 192]
ويذكر الله تعالى كيف قدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله قبل دعائه، فقال: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى الله مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 38، 39]، ثم ذكر طلبه بعدها، فقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 40، 41]
وهكذا نجد في السنة المطهرة اقتران الأدعية النبوية، وما ورد عن أئمة الهدى من أدعية بالتمجيد والثناء على الله، لأنه أعظم وسيلة لتحقيق المطلوب، بل نراهم في بعض الأدعية يكتفون بالثناء وحده، لأنه كاف في تحقيق المطلوب.
وهذا لا يعني أن الغرض من تمجيد الله هو تحقيق المطالب.. كلا.. فالله تعالى مقصود لذاته، ومطلوب لذاته.. ولذلك كان تمجيده مقصودا بالأصالة، لأنه يعبر عن الحقائق، والنفس الكاملة لا تفرح بشيء كما تفرح بالحقائق.
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن آية الكرسي أنها أعظم آي القرآن الكريم لكونها كلها ثناء على الله تعالى، قال الله تعالى: {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]
وهكذا مثلها من آيات القرآن الكريم المتعلقة بحمد الله والثناء عليه وبيان صفاته
مدارس النفس اللوامة (107)
العظيمة، فهي لا شك أولى من غيرها من الآيات المتعلقة بالأحكام أو القصص أو المواعظ، وإن كان القرآن الكريم كله كلام الله، ولكن موضوع الكلام له تأثيره في الأفضلية.
ولهذا اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة الإخلاص ثلث القرآن الكريم، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوما: (أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثُلثَ القرآن؟)، قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: (قل هو الله أحد، تعدِلُ ثلث القرآن) (1)
ولهذا؛ فإن لآيات الحمد والثناء منزلة خاصة في القرآن الكريم، ولهذا افتتحت به أول سورة، كما افتتحت به أربع سور غيرها، وهي الأنعام، قال تعالى: {الْحَمْدُ لله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، والكهف، قال تعالى: {الْحَمْدُ لله الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]، وسبأ، قال تعالى: {الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1]، وفاطر، قال تعالى: {الْحَمْدُ لله فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1]
ومثل ذلك ما ورد بصيغة التبريك، وهو مثل الحمد، والذي افتتحت به سورتا الفرقان والملك، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 1 - 2]، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 1 - 3].
__________
(1) رواه مسلم: 1886.
مدارس النفس اللوامة (108)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن القرآن الكريم هو كتاب التمجيد الأعظم، فاحرص عليه، وتدبر آياته؛ ففيها كل ما يعرفك بربك، ويملأ قلبك بالمحبة له.
لكن الظفر بذلك قد يستدعي منك بعض المجاهدات والرياضات التي تمكن للمعاني القرآنية من التأثير في نفسك، وهي تشمل عقلك وقلبك وجوارحك.
فأول ما عليك ـ أيها المريد الصادق ـ لاستعمال هذه الوسيلة العظيمة من وسائل التزكية والترقية أن تبدأ بتنوير عقلك بالهدايات المرتبطة به؛ فعقلك جزء منك، ولا يمكنك تجاهله أو تجاهل تساؤلاته، أو الشبهات التي يعرضها عليك.
ولذلك خاطبه باللغة التي يفهمها، والأدلة التي يستوعبها، فقناعته بالحقائق ستسري لكل كيانك، وتؤثر فيه تأثيرا بليغا، بخلاف ذلك الذي يكتفي بأن يلهج لسانه بالمجد والثناء من غير تحقيق ولا تفكير ولا تأمل.
ولذلك إن قرأت قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1)، فلا تكتف بالقراءة، وإنما تأمل وتدبر بعقلك عن حقيقة العلي الأعلى، وكيف كان الله تعالى وحده الحقيق بها، وسيدلك عقلك على أن العلي الأعلى هو الذي لا رتبة فوق رتبته، وجميع المراتب منحطة عنه.. وأنه الذي لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته.. وأنه ليس كمثله شيء في كل نعوته.. وأنه الذي قهر بعزته وعلوه الخلق كلّهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان لا يمانعه فيه ممانع، وما لم يشأ لم يكن.. فلو اجتمع الخلق على إيجاد ما لم يشأه الله لم يقدروا، ولو اجتمعوا على منع ما حكمت به مشيئته لم يمنعوه.
وهكذا إن قرأت قوله تعالى: {سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ
مدارس النفس اللوامة (109)
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 1 - 3]
فتأمل في هذه الآيات الكريمة بعين عقلك، وسترى كيف أنه سيردد من حيث لا يشعر ما قاله الشاعر الصالح:
الله قل وذر الوجود وما حوى... إن كنت مرتاداً بلوغ كمال
فالكل دون الله أن حققته... عدم على التفصيل والإجمال
واعلم بأنك والعوالم كلها... لولاه في محو وفي اضمحلال
من لا وجود لذاته من ذاته... فوجوده لولاه عين محال
والعارفون بربهم لم يشهدوا... شيئاً سوى المتكبر المتعال
ورأوا سواه على الحقيقة هالكا... في الحال والماضي والاستقبال
وهكذا إن قرأت قوله تعالى: {هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الحشر:24)، وقال: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الأنعام:102)، وقال: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الزمر:62)
فلا تكتف بالقراءة المجردة، وإنما تأمله بعين عقلك، وسترى كيف يجعلك ترى كل شيء من تصميم الله وصناعته وخلقه.. فلا شيء إلا من الله.. ولا شيء إلا بالله.
وهكذا يمكنك أن تستعين بكل المعارف والعلوم؛ فكلها قطرات من بحر العلم الإلهي والقدرة الإلهية.. ولذلك تعلم علومها بهذه النية، ولا تكتف بما تفيدك به من شؤون الدنيا، وإنما اعبر منها إلى ربك.. فالذي خلق ما تراه قادر على خلق غيره.. فلا تحتجب بما تراه عما لا تراه، وإنما اعبر مما تراه إلى ما لا تراه.. فلا خير فيمن سكن في الحضيض، وهو قادر على أن يرتقي إلى سموات الكمال.
مدارس النفس اللوامة (110)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ واطمأنت به نفسك، فانتقل من تمجيد العقل لربه إلى تمجيد القلب.. الذي هو محل مشاعرك وعواطفك؛ فانظر إلى آثار نعم الله عليك، وتأمل فيها، وتأمل في النعم التي لا تزال تنتظرك في دار السعادة العظمى التي أعدها لك، وسترى كيف يمتلئ قلبك بالتمجيد الحقيقي، والحمد الحقيقي، وقد قال الشاعر معبرا عن آثار النعم في النفس:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة... يدي ولساني والضمير المحجبا
ولهذا، فإن حمد القلب وتمجيده ينطلق من تصور النعمة، والاعتراف بها للمنعم، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له) (1)
ولا تكتف ـ أيها المريد الصادق ـ بالشكر والتمجيد الخاص بما تراه من نعم خصك الله بها فقط، بل اعتبر كل شيء نعمة من النعم العظمى، وأولها وأعظمها ربك الذي خلقك، وهدايته لك إليه، فذلك أكبر النعم، لأنه سبيل السعادة الوحيد.
ولهذا ذكر الله تعالى عن المؤمنين حمدهم على نعمة الهداية عندما يرون ثمارها في الجنة، قال تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا الله} [الأعراف: 42، 43]
واذكر عند حمدك لله تعالى على هذه النعمة، قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]، وقوله: {وَلَوْ
__________
(1) رواه مسلم.
مدارس النفس اللوامة (111)
شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، لتعرف أن تلك النعمة ليست بحولك ولا قوتك، وإنما هي فضل عظيم من الله عليك، فاحرص عليه، واشكره، واحذر من أن يسلب منك.
فإذا امتلأ قلبك شعورا بمنن الله عليك، ثم رحت بمرآة قلبك تطالع جميل صفاته؛ فإن ذلك سينقلك من الهداية العامة إلى الهداية الخاصة، ومن عوام الناس إلى خواصهم، أولئك الذين وصفهم الله تعالى، فقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13)
وذلك ما يملؤك بالرضا عن ربك، وهو من أعظم مقامات السالكين، قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا، ومن لم تكن فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا، من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضّله به عليه كتبه الله شاكرا صابرا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من فوقه فأسف على ما فاته منه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا) (1)
وقال: (عجبا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير. وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن إن أصابته سرّاء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضرّاء صبر. فكان خيرا له) (2)
__________
(1) الترمذي (2512) وبعضه في مسلم (2963) وابن ماجة (4142)
(2) مسلم (2999)
مدارس النفس اللوامة (112)
وقال: (أول من يدعى إلى الجنة الحمادون، الذين يحمدون الله في السراء والضراء) (1)
فإذا حمدت الله تعالى بكل قلبك، وامتلأت رضا عنه، تحركت كل جوارحك بالشكر لله وتمجيده وتعظيمه، وعدم استعمال نعمه في معصيته.
وأول تلك الجوارح وأعظمها تأثيرا لسانك؛ ذلك أنه وسيلة من الوسائل العظمى التي جعلها الله لك لتنتقل الحقائق منه إلى قلبك، وتؤثر فيه تأثيرها العظيم.. فالحمد والتمجيد الذي ينطق به قد يكون ثمرة للمعارف، وقد يكون وسيلة إليها.
ولذلك أمر الله تعالى بشكره وتمجيده، حتى يعبر الشكر من اللسان إلى القلب، ومن القلب إلى كل اللطائف، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (البقرة:152)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة:172)، وقال: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ الله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (النحل:114)
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنّ الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشّربة فيحمده عليها) (2)
ولهذا ورد في السنة المطهرة الكثير من صيغ الحمد والتمجيد، والتي هي قبس من وظيفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العظمى المرتبطة بالتزكية، والتي تسري في الأمة في جميع عصورها، ولا ينالها إلا من اهتدى بهديه، واستن بسنته، ولم يرغب عنها، ولم يتكبر عليها، ولم يقل: حسبنا كتاب الله.
__________
(1) مكارم الاخلاق ص 354.
(2) مسلم (2734)
مدارس النفس اللوامة (113)
ومن تلك الأحاديث ما ورد من الحمد والتمجيد في الصلاة، وهي كثيرة جدا، ومنها قوله عند الاستفتاح بالصلاة ما بين تكبيرة الإحرام والقراءة: (الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، والحمد لله كثيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا) (1)
ويقول: (اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق، والساعة حق اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت. فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم، وأنت المؤخر لا إله إلا أنت أنت إلهي لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله) (2)
وكان يقول عند الرفع من الركوع: (ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه) (3)، ثم يضيف: (ملء السموات وملء الأرض، وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد. أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) (4)
وكان من دعائه بعد التشهد الأخير في الصلاة: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا
__________
(1) أبو داود، 1/ 203، وابن ماجه، 1/ 265، وأحمد، 4/ 85، برقم 16739.
(2) البخاري مع الفتح، 3/ 3، ومسلم مختصرا بنحوه، 1/ 532، برقم 769.
(3) البخاري مع الفتح، 2/ 284، برقم 796.
(4) مسلم، 1/ 346، برقم 477.
مدارس النفس اللوامة (114)
إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار) (1)
ومن الأذكار التي كان يقولها بعد السلام: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير [ثلاثا]، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) (2)
ويقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) (3)
ويقول: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر (ثلاثا وثلاثين) لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (4)، ويرغب فيها قائلا: (من قال ذلك دبر كل صلاة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)
وهكذا كان إذا استيقظ من النوم يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) (5)
ويقول: (الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره) (6)
وكان يحث على الدخول إلى البيوت بصحبة الحمد والتمجيد، ويعتبر ذلك وقاية وحجابا للبيت، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخل الرجل بيته، أو أوى إلى فراشه ابتدره ملكٌ وشيطانٌ،
__________
(1) أبو داود، برقم 1495، والترمذي، برقم 3544، وابن ماجه، برقم 3858، والنسائي، برقم 1299.
(2) البخاري، 1/ 255، برقم 844، ومسلم، 1/ 414، برقم 593
(3) مسلم، 1/ 415 برقم 594.
(4) مسلم، 1/ 418، برقم 597
(5) البخاري:6325
(6) الترمذي (3401)، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) (866)، وابن السني في (عمل اليو والليلة) (9)
مدارس النفس اللوامة (115)
فيقول الملك: افتح بخير، ويقول الشيطان: افتح بشر، فإن ذكر الله طرد الملك الشيطان وظل يكلؤه، فإذا انتبه من منامه ابتدره ملكٌ وشيطانٌ، فيقول الملك: افتح بخير، ويقول الشيطان: افتح بشر، فإن هو قال: الحمد لله الذي رد إلي نفسي بعد موتها ولم يمتها في منامها، الحمد لله الذي يمسك السموات السبع أن تقع على الأرض إلا بإذنه، إلى آخر الآية، فإن هو خر من فراشه فمات كان شهيدا، وإن هو قام يصلي صلى في فضائل) (1)
وهكذا كان يدعو إلى حمد الله عند الطعام والشراب، ويذكر الأجر العظيم المرتبط بذلك، فيقول: (إن المؤمن يشبع من الطعام والشراب فيحمد الله، فيعطيه الله من الاجر ما يعطي الصائم، إن الله شاكر يحب أن يحمد) (2)
وكان يقول إذا فرغ من طعامه: (الحمد لله الذي كفانا وأروانا، غير مكفي ولا مكفور.. الحمد لله ربنا، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى، ربنا) (3)
وكان يقول في الصباح: (أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر ما في هذا اليوم وشر ما بعده، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر) (4)
ويذكر فضل حمد الله في الصباح والمساء، فيقول: (من قال حين يصبح: اللهمّ ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك. فلك الحمد ولك الشّكر. فقد أدّى شكر
__________
(1) ابن أبي الدنيا في (التهجد والقيام) (515)، وابن السني في (عمل اليوم والليلة) (12)
(2) مشكاة الانوار ص 28.
(3) البخاري:5459
(4) مسلم، 4/ 2088، برقم 2723.
مدارس النفس اللوامة (116)
يومه، ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدّى شكر ليلته) (1)
وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى حمد الله عند كل نعمة، فيقول: (أربع من كن فيه كتبه الله من اهل الجنة: من كانت عصمته شهادة ان لا اله الا الله، ومن إذا انعم الله عليه النعمة قال: (الحمد لله، ومن إذا أصاب ذنبا قال: (استغفر الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال: (انا لله وانا إليه راجعون) (2)
وقد أخبر القرآن الكريم عن حمد إبراهيم عليه السلام لربه عندما رزقه إسماعيل عليه السلام، فقال: {الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]
وأخبر عن داود وسليمان عليهما السلام، ومسارعتهما لحمد الله كل حين، فقال: {) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لله الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]
وغيرها من النصوص الكثيرة التي تحث على الحمد، وتبين مواضعه، ومثلها غيرها من النصوص الممتلئة بتمجيد الله من غير تحديد أوقات بعينها، فالتمسها ـ أيها المريد الصادق ـ واجتهد في الالتزام بها، ففيها من الحقائق ما يملأ قلبك باليقين والإيمان.
وإياك أن تكتفي بها، وترغب عما تركه أئمة الهدى من تمجيد وحمد لله، فكما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستن بسنته، أمرنا أن نستن بسنة أئمة الهدى من بعده، فقال: (عليكم بسنتي وسنه الخلفاء المهديين الراشدين (3) تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) (4)
__________
(1) أبو داود (5073) والنسائي في اليوم والليلة (7)
(2) تفسير العياشي ج 1 ص 69.
(3) بالمفهوم النبوي الذي تدل عليه وعلى مصاديقه الكثير من الأحاديث النبوية، لا بالمفهوم التاريخي..
(4) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن ماجة.
مدارس النفس اللوامة (117)
ومن تلك التمجيدات الشريفة ما روي عن الإمام السجاد أنه كان يقول: (الحمد لله الأول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين. ابتدع بقدرته الخلق ابتداعا، واخترعهم على مشيته اختراعا. ثم سلك بهم طريق إرادته، وبعثهم في سبيل محبته، لا يملكون تأخيرا عما قدمهم إليه، ولا يستطيعون تقدما إلى ما أخرهم عنه. وجعل لكل روح منهم قوتا معلوما مقسوما من رزقه، لا ينقص من زاده ناقصٌ، ولا يزيد من نقص منهم زائدٌ. ثم ضرب له في الحياة أجلا موقوتا، ونصب له أمدا محدودا، يتخطى إليه بأيام عمره، ويرهقه بأعوام دهره، حتى إذا بلغ أقصى أثره، واستوعب حساب عمره، قبضه إلى ما ندبه إليه من موفور ثوابه، أو محذور عقابه، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. عدلا منه، تقدست أسماؤه، وتظاهرت آلاؤه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)
ويقول: (الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة، وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة، لتصرفوا في مننه فلم يحمدوه، وتوسعوا في رزقه فلم يشكروه. ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانية إلى حد البهيمية فكانوا كما وصف في محكم كتابه: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44])
ويقول: (الحمد لله على ما عرفنا من نفسه، وألهمنا من شكره، وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيته، ودلنا عليه من الإخلاص له في توحيده، وجنبنا من الإلحاد والشك في أمره. حمدا نعمر به فيمن حمده من خلقه، ونسبق به من سبق إلى رضاه وعفوه. حمدا يضيء لنا به ظلمات البرزخ، ويسهل علينا به سبيل المبعث، ويشرف به منازلنا عند مواقف الأشهاد، يوم تجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون. حمدا يرتفع منا إلى أعلى عليين في كتاب مرقوم يشهده المقربون. حمدا تقر به عيوننا
مدارس النفس اللوامة (118)
إذا برقت الأبصار، وتبيض به وجوهنا إذا اسودت الأبشار. حمدا نعتق به من أليم نار الله إلى كريم جوار الله. حمدا نزاحم به ملائكته المقربين، ونضام به أنبياءه المرسلين في دار المقامة التي لا تزول، ومحل كرامته التي لا تحول. والحمد لله الذي اختار لنا محاسن الخلق، وأجرى علينا طيبات الرزق. وجعل لنا الفضيلة بالملكة على جميع الخلق، فكل خليقته منقادةٌ لنا بقدرته، وصائرةٌ إلى طاعتنا بعزته)
ويقول: (الحمد لله الذي أغلق عنا باب الحاجة إلا إليه، فكيف نطيق حمده أم متى نؤدي شكره.. والحمد لله الذي ركب فينا آلات البسط، وجعل لنا أدوات القبض، ومتعنا بأرواح الحياة، وأثبت فينا جوارح الأعمال، وغذانا بطيبات الرزق، وأغنانا بفضله، وأقنانا بمنه. ثم أمرنا ليختبر طاعتنا، ونهانا ليبتلي شكرنا، فخالفنا عن طريق أمره، وركبنا متون زجره، فلم يبتدرنا بعقوبته، ولم يعاجلنا بنقمته، بل تأنانا برحمته تكرما، وانتظر مراجعتنا برأفته حلما.. والحمد لله الذي دلنا على التوبة التي لم نفدها إلا من فضله، فلو لم نعتدد من فضله إلا بها لقد حسن بلاؤه عندنا، وجل إحسانه إلينا وجسم فضله علينا فما هكذا كانت سنته في التوبة لمن كان قبلنا، لقد وضع عنا ما لا طاقة لنا به، ولم يكلفنا إلا وسعا، ولم يجشمنا إلا يسرا، ولم يدع لأحد منا حجة ولا عذرا. فالهالك منا من هلك عليه، والسعيد منا من رغب إليه)
ويقول: (الحمد لله بكل ما حمده به أدنى ملائكته إليه وأكرم خليقته عليه وأرضى حامديه لديه حمدا يفضل سائر الحمد كفضل ربنا على جميع خلقه. ثم له الحمد مكان كل نعمة له علينا وعلى جميع عباده الماضين والباقين عدد ما أحاط به علمه من جميع الأشياء، ومكان كل واحدة منها عددها أضعافا مضاعفة أبدا سرمدا إلى يوم القيامة. حمدا لا منتهى لحده، ولا حساب لعدده، ولا مبلغ لغايته، ولا انقطاع لأمده حمدا يكون وصلة إلى طاعته
مدارس النفس اللوامة (119)
وعفوه، وسببا إلى رضوانه، وذريعة إلى مغفرته، وطريقا إلى جنته، وخفيرا من نقمته، وأمنا من غضبه، وظهيرا على طاعته، وحاجزا عن معصيته، وعونا على تأدية حقه ووظائفه. حمدا نسعد به في السعداء من أوليائه، ونصير به في نظم الشهداء بسيوف أعدائه، إنه وليٌ حميدٌ) (1)
ومن تمجيدات الإمام الصادق لله قوله: (الحمد لله الذي نعمته تغدو علينا وتروح، ونظل نهارا ونبيت فيها ليلا فنصبح فيها برحمته مسلمين، ونمسي فيها بمنه مؤمنين من البلوى معافين الحمد لله المنعم المفضل المحسن المجمل ذي الجلال والاكرام ذي الفواضل والنعم، الحمد لله الذي لم يخذلنا عند شدة، ولم يفضحنا عند سريرة، ولم يسلمنا بجريرة.. الحمد لله على علمه، والحمد لله على فضله علينا وعلى جميع خلقه، وكان به كرم الفضل في ذلك ما الله به عليم) (2)
ومنها ما روي عنه أنه قال: (إنّ الله يمجّد نفسه في كلّ يومٍ وليلة ثلاث مرّات، فمَن مجّد الله بما مجّد به نفسه ثم كان في حال شقوة حُوِّل إلى سعادة، فقلت له: (كيف هو التمجيد؟).. قال (ع): (تقول: (أنت الله لا إله إلاّ أنت ربّ العالمين.. أنت الله لا إله إلاّ أنت الرحمن الرحيم.. أنت الله لا إله إلاّ أنت العليّ الكبير.. أنت الله لا إله إلاّ أنت منك بدأ كلّ شيءٍ وإليك يعود.. أنت الله لا إله إلاّ أنت لم تزل ولا تزال.. أنت الله لا إله إلاّ أنت خالق الخير والشرّ.. أنت الله لا إله إلاّ أنت خالق الجنّة والنار.. أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. أنت الله لا إله إلاّ أنت الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبر، سبحان الله عمّا يشركون.. أنت الله الخالق البارئ المصوّر، لك الأسماء الحسنى، يُسبّح لك ما في السّموات والأرض، وأنت العزيز الحكيم.. أنت الله لا
__________
(1) الصحيفة السجادية.
(2) قرب الاسناد ص 6.
مدارس النفس اللوامة (120)
إله إلاّ أنت الكبير، والكبرياء رداؤك) (1)
وغيرها من الأدعية والمناجيات والأذكار التي تقتبس من هدي القرآن الكريم، ونور النبوة، فالتزمها، وتدبر فيها؛ فلعل الله تعالى أن ينقلها من لسانك إلى عقلك، ومن عقلك إلى قلبك، ومن قلبك إلى روحك، ومن روحك إلى سرك.. ولعل الله أن ينقلك بها من درك الجاحدين لنعمه إلى درجات الشاكرين لها؛ فلا يمكن أن ينال أحد تلك المراتب الرفيعة من دون أن يستعمل كل الوسائل المؤدية لها، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
وإن عجزت عن كل ذلك، أو لم تسمح لك أشغالك وأوقاتك به؛ فيمكنك أن تردد بلسانك تلك الكلمة المختصرة التي لن تكلفك أي عنت، وهي قولك [الحمد لله]، فأدمن عليها، ولو من دون تحريك شفتيك، واستشعر وأنت ترددها كل معاني الفرح والسرور بالله وبفضله العظيم الذي وصلك، والذي ينتظرك.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك لن تظفر بالمزيد حتى تؤدي حق ما أعطيته من النعم؛ فقد رتب الله المزيد عليها، فقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]
وإياك أن تغتر بالمزيد الذي يُزود به الجاحدون؛ فهو ليس مزيدا مباركا، بل هو مزيد مسموم، ولم يقصد منه النعمة، وإنما قصد به الابتلاء والاختبار، كما قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]
فاحذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكون من أهل الاختبار، لا من أهل النعيم الحقيقي؛
__________
(1) بحار الأنوار: 83/ 371، عن: ثواب الأعمال ص 14.
مدارس النفس اللوامة (121)
والعلامة التي تجعلك منهم حمدك الدائم لله، وفرحك بفضله، وعدم استخدام نعمه في معصيته.. فما أشد حسرة من يستعمل نعم الله في غضب الله.
مدارس النفس اللوامة (122)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى التعرف على أسماء الله الحسنى، ودعاء الله تعالى بها، وما ارتبط بذلك من إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفضل إحصائها، وعلاقة ذلك بالتزكية والترقية.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن أسماء الله الحسنى هي المعارف التي أذن الله تعالى فيها لوسائل إدراكنا البسيطة أن تتعرف بها على كمالات الألوهية، من غير تحديد أو تقييد لها، ذلك أن أسماء الله تعالى لا نهاية لها، وما كشف لنا منها ليس سوى قطرة من بحر كمال الله الذي لا حدود له.
ولكنها ـ مع ذلك ـ هي المنافذ الوحيدة التي تتيح لنا التعرف على الله تعالى وعظمته، حتى نتجنب كل تلك الضلالات التي وقعت بسبب الإلحاد في أسماء الله، وتحريفها، وتغييرها، ليتحول الله تعالى بموجبها إلى إله غير الإله الحقيقي الذي دعت إليه الرسل، وعرفت به كلماته المقدسة، ودل عليه الكون جميعا.
ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن وجود تسعة وتسعين اسما حقيقيا من أسماء الله الحسنى، من عرفها وفهمها وتواصل معها وتخلق بأخلاقها نال الفوز والفلاح، فقال: (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة) (1)
وبما أنك سألتني ـ أيها المريد الصادق ـ عن حقيقة الإحصاء، وسر ما ورد فيه من الأجر، وعلاقته بالتزكية والترقية؛ فإني سأذكر لك أربعة مراتب له، لا يتحقق الإحصاء من دونها.
وهي تبدأ بالبحث عن أسماء الله الحسنى، ثم فهمها، ثم التأثر والانفعال الوجداني
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجة.
مدارس النفس اللوامة (123)
لها، ثم السلوك بحسب مقتضياتها.. وهي بذلك تجعل من أسماء الله الحسنى مدرسة من أعظم المدارس الروحية والتربوية.
أما الإحصاء الأول ـ أيها المريد الصادق ـ فيبدأ من البحث عنها، والتحقيق فيها، حتى لا نسمي الله تعالى بما لم يسم به نفسه، كما حصل لأولئك الغافلين الجهلة الذين سموا الله مخادعا ومستهزئا وماكرا، لمجرد نسبة هذه الكلمات لله تعالى، من غير معرفة منهم للمقتضيات اللغوية الداعية لذلك.
وهكذا لا يصح تسميه الله تعالى بما نعتقده كمالا فينا، لأن كمالنا قد يكون نقصا لله تعالى، ولهذا لا يُطلق على الله تعالى اسم [العفيف] مع كون دلالته حسنة بالنسبة لنا، ذلك أن فيه من شوائب النقص ما لا يليق بالله.. فالعفيف لا يكون كذلك إلا كان يملك غريزة وشهوة، ثم يحاربها وينتصر عليها.. ومعاذ الله أن ينسب لله تعالى كل ذلك النقص.
وهكذا لا يطلق عليه اسم [الشجاع] مع كون دلالته حسنة بالنسبة لنا، ذلك أن الشجاعة تقتضي إقدام الأجسام على المخاطر والمهالك من دون خوف، ويستحيل على الله تعالى الجسمية ومقتضياتها.
ولهذا كان من الأدب مع الله ألا نسميه إلا بما سمى نفسه به، أو سماه رسوله وورثة الهداية الذين اكتفوا بنبع النبوة، ولم يخلطوا معه غيره، ولذلك فإن كل ما عندهم قبس من مشكاة النبوة.
ولهذا، فإن أول الإحصاء ـ أيها المريد الصادق ـ أن تطهر دينك من تلك الأسماء المبتدعة والصفات التي لا تليق بربك، والتي حصرته في الحدود والقيود والأمكنة والأزمنة، وجعلته جرما كالأجرام.
مدارس النفس اللوامة (124)
وقد قال الإمام الكاظم محذرا من تلك الأسماء المبتدعة: (إنّ الله أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه، وكفّوا عمّا سوى ذلك) (1)
وقال الإمام الرضا: (إنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به، جلّ عمّا وصفه الواصفون، وتعالى عمّا ينعته الناعتون) (2)
إذا عرفت ـ أيها المريد الصادق ـ هذا؛ فابدأ في إحصائك لأسماء ربك من القرآن الكريم، فهو كتاب المعرفة الأعظم، فقد ذكر الله تعالى فيه أسماءه الحسنى ودعا إلى دعائه بها، قال تعالى: {وَلله الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]
وذكر بعض تلك الأسماء، ودعا إلى ذكره بها، فقال: {قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]
وذكر أسماء أخرى، فقال: {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 23، 24]
وهكذا؛ فإنك ـ أيها المريد الصادق ـ تجد القرآن الكريم، وفي فواصل أكثر آياته، أسماء كثيرة لله تعالى (3)، وهي أمهات أسماء الله الحسنى، وعليها يعرض كل ما ورد من الأسماء
__________
(1) الكافي، ح 6، ص 102.
(2) بحار الأنوار، ج 4، ص 290.
(3) ذكر بعض الباحثين أنه ورد في القرآن الكريم مائة وثمانية وعشرون اسماً لله تعالى وهي: الإله، الأحد، الأوّل، الآخر، الأعلى، الأكرم، الأعلم، أرحم الراحمين، أحكم الحاكمين، أحسن الخالقين، أهل التقوى، أهل المغفرة، الأقرب، الأبقى، البارئ، الباطن، البديع، البرّ، البصير، التوّاب، الجبّار، الجامع، الحكيم، الحليم، الحيّ، الحقّ، الحميد، الحسيب، الحفيظ، الحَفِيّ، الخبير، الخالق، الخلّاق، الخير، خير الماكرين، خير الرازقين، خير الفاصلين، خير الحاكمين، خير الفاتحين، خير الغافرين، خير الوارثين، خير الراحمين، خير المنزلين، ذو العرش، ذو الطّوْل، ذو الانتقام، ذو الفضل العظيم، ذو الرحمة، ذو القوّة، ذو الجلال والإكرام، ذو المعارج، الرّحمن، الرحيم، الرؤوف، الربّ، رفيع الدرجات، الرزّاق، الرقيب، السميع، السلام، سريع الحساب، سريع العقاب، الشهيد، الشاكر، الشكور، شديد العقاب، شديد المِحال، الصمد الظاهر، العليم، العزيز، العَفوّ، العليّ، العظيم، علّام الغيوب، عالم الغيب والشهادة، الغني، الغفور، الغالب، غافر الذنب، الغفّار، فالق الأصباح، فالق الحبّ والنوى، الفاطر، الفتّاح، القوي، القدّوس، القيّوم، القاهر، القهّار، القريب، القادر، القدير، قابل التوب، القائم على كلّ نفس بما كسبت، الكبير، الكريم، الكافي، اللطيف، المَلِك، المؤمن، المهيمن، المتكبّر، المصوّر، المجيد، المجيب، المبين، المَوْلى، المحيط، المقيت، المتعال، المحيي، المتين، المقتدر، المستعان، المبدئ، المعيد، مالك الملك، النّصير، النور، الوهّاب، الواحد، الولي، الوالي، الواسع، الوكيل، الودود، الهادي.
مدارس النفس اللوامة (125)
التي وردت بها الروايات.
ومثل ذلك ما ورد في السنة المطهرة من الأحاديث التي تعرف بأسماء الله الحسنى، ومنها ما ورد تعقيبا على حديث الإحصاء، فمما ورد في بعض رواياته من أسماء الله الحسنى، كما حدث بذلك الإمام الصادق عن آبائه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلّا واحداً، من أحصاها دخل الجنّة وهي: (الله، الإله، الواحد، الأحد، الصمد، الأوّل، الآخر، السميع، البصير، القدير، القاهر، العلي، الأعلى، الباقي، البديع، البارئ، الأكرم، الظاهر، الباطن، الحيّ، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحقّ، الحسيب، الحميد، الحفي، الربّ، الرحمن، الرحيم، الذارئ، الرزّاق، الرقيب، الرؤوف، الرائي، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، السيّد، السبّوح، الشهيد، الصادق، الصانع، الطاهر، العدل، العَفُوّ، الغفور، الغني، الغياث، الفاطر، الفرد، الفتّاح، الفالق، القديم، الملِك، القدّوس، القوي، القريب، القيّوم، القابض، الباسط، قاضي الحاجات، المجيد، المولى، المنّان، المحيط، المُبين، المُقيت، المصوّر، الكريم، الكبير، الكافي، كاشف الضرّ، الوِتْر، النور، الوهّاب، الناصر، الواسع، الودود، الهادي، الوفي، الوكيل، الوارث، البرّ، الباعث، التوّاب، الجليل، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديّان، الشكور، العظيم،
مدارس النفس اللوامة (126)
اللطيف، الشافي) (1)
ومنها ما روي عن طريق غيره، وهي (هو الله الّذي لا إله إلّا هو الرّحمن الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار، القهّار، الوهّاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المُعِزّ، المُذِلّ، السميع، البصير، الحكم، العَدْل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المُقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المُجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدِّم، المؤخِّر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، البَرّ، التوّاب، المنتقم، العفوّ، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، الوالي، المتعال، المُقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضّارّ، النّافع، النّور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور) (2)
وهكذا يمكن أن تجد في السنة المطهرة الموافقة للقرآن الكريم الكثير من الأحاديث التي تذكر أسماء الله الحسنى، والتي تبين أنها أعظم من أن تقيد في الأعداد والحدود، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما قال عبد قط، إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وأبدله
__________
(1) التوحيد للصدوق، ص ??4، ح ?.
(2) رواه الترمذي، وابن المنذر، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، انظر: الدرّ المنثور: ? / 6?4.
مدارس النفس اللوامة (127)
مكان حزنه فرحا) (1)
وحتى تعرف قيمة هذا النوع من الإحصاء ـ أيها المريد الصادق ـ أذكر لك أن المريض الذي لا يعرف أن فلانا من الناس طبيب، وله القدرة على علاج كل الأمراض، لن يستفيد منه، ولو صاحبه عشرات السنين، ذلك أنه يجهل كونه مختصا بالطب، فهو يسميه باسمه، وربما يثني عليه بأسماء أخرى، لكن لجهله باسمه الطبيب، ضاعت منه فرصة العلاج على يديه.
فاعبر من هذا المثال إلى معرفتك بربك؛ فأكثر القانطين واليائسين والمحبطين لا يعرفون أسماء الله الحسنى، ولو أنهم اجتهدوا في البحث عنها، كما يجتهدون في البحث عن العقاقير التي تخلصهم من كآبتهم وإحباطهم، لحققوا أغراضهم، وبأقصر الطرق.
إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الإحصاء الثاني هو التأمل في تلك الأسماء التي أحصيتها وجمعتها، لتبحث في حقائقها، والمعاني الدالة عليها.
واعلم أن كل معنى سليم موافق للغة العربية، يمكنه أن يكون شرحا لذلك الاسم، حتى لو كثرت معاني الاسم الواحد؛ بشرط واحدة، وهو أن تكون معاني حسنة.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكر الحكماء في اسم الله العزيز، فقد قال بعضهم عنه: (هو الخطير الذي يقل وجود مثله، وتشتد الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه.. فما لم يجتمع عليه هذه المعاني الثلاثة لم يطلق عليه اسم العزيز.. فكم من شيء يقل وجوده، ولكن إذا لم يعظم خطره، ولم يكثر نفعه لم يسم عزيزا، وكم من شئ يعظم خطره، ويكثر نفعه، ولا يوجد
__________
(1) رواه ابن حبان.
مدارس النفس اللوامة (128)
نظيره ولكن إذا لم يصعب الوصول إليه لم يسم عزيزا، كالشمس مثلا فإنه لا نظير لها، والأرض كذلك والنفع عظيم في كل واحد منهما، والحاجة شديدة إليهما، ولكن لا يوصفان بالعزة لأنه لا يصعب الوصول إلى مشاهدتهما.. ثم في كل واحد من المعاني الثلاثة كمال ونقصان.. فالكمال في قلة الوجود أن يرجع إلى واحد إذ لا أقل من الواحد، ويكون بحيث يستحيل وجود مثله) (1)
ثم بين انطباق هذه المعاني على الله تعالى، فقال: (وليس هذا إلا الله تعالى، فإن الشمس وإن كانت واحدة في الوجود فليست واحدة في الإمكان، فيمكن وجود مثلها في الكمال والنفاسة.. وشدة الحاجة أن يحتاج إليه كل شيء حتى في وجوده وبقائه وصفاته وليس ذلك على الكمال إلا لله عز وجل.. والكمال في صعوبة المنال أن يستحيل الوصول إليه على معنى الإحاطة بكنهه، وليس ذلك على الكمال إلا لله عز وجل، فلا يعرف الله إلا الله، فهو العزيز المطلق الحق لا يوازيه غيره)
وقال آخر في اسم الله [الحكيم]: (للحكمة معنيان: معنى علمي، ومعنى عملي.. أما المعنى العلمي، فهو معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم.. وأجل الأشياء هو الله سبحانه وتعالى، ولا يعرف كنه الله غير الله، ولذلك فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم.. إذ أجل العلوم هو العلم الأزلي الدائم الذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء ولا شبهة، ولا يتصف بذلك إلا علم الله سبحانه وتعالى.. وأما المعنى العملي، فإنه يقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويحكمها ويتقن صنعتها حكيم، وكمال ذلك أيضا ليس إلا لله تعالى فهو الحكيم الحق الذي دل على حكمته كل شيء) (2)
__________
(1) المقصد الأسنى (ص: 73)
(2) الباحثون عن الله (ص: 451)
مدارس النفس اللوامة (129)
إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الإحصاء الثالث هو الانفعال والتأثر لها، نتيجة التعمق في معانيها، وهو ما يجعلك تتعامل بكل اسم بحسب ما يقتضيه من تعظيم وإجلال.
ولهذا ارتبط ذكر أسماء الله تعالى بالسجود الدال على التعظيم، كما قال تعالى في اسم الله [الرحمن]، ونفور المشركين منه لعدم إيمانهم به، وإحصائهم له: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]
والسجود يعني الانفعال الأعظم، والتأثر الأكبر، والذي لا يكتفي بالقلب، وإنما يسري إلى الجوارح، ويجعلها خاشعة خاضعة مستكينة ذليلة لخالقها.. ولذلك كان السجود علامة القرب، كما قال تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]
ومن آثار الانفعال ـ أيها المريد الصادق ـ أن يجعلك غنيا بربك عمن سواه، ذلك أنك تجد في أسمائه الحسنى كل الطلبات التي تريدها.
ولذلك كان من الإحصاء دعاء الله بأسمائه الحسنى المرتبطة بالحاجات المختلفة، كما قال تعالى: {وَلله الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف:180)
وذلك لأن الدعاء ـ في أصله ـ مقتضى من مقتضيات المعرفة بالله، فالمعرفة بأسماء الله وصفاته العليا هي التي تدعو إلى الثقة فيه، وهي التي تدعو إلى سؤاله، ولهذا نرى امتزاج أدعيته صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء الله.
ومما يروى في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا ورجل يصلي، ثم دعا قائلا: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، فقال
مدارس النفس اللوامة (130)
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد دعا الله باسمه العظيم) (1)
وقد علم صلى الله عليه وآله وسلم من أصابه هم أو حزن أن يقول: (اللهم إني عبدك، ابن عبدك ابن أمتك في قبضتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب غمي) (2)، ثم بين أثر ذلك في نفسه، فقال: (فما قالها عبد قط إلا أبدله الله بحزنه فرحا)
وعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته أن تقول إذا وافقت ليلة القدر: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى) (3)
ولهذا؛ فإن من آداب الدعاء أن يذكر العبد ما يرتبط بأسماء الله الحسنى مما يتعلق بحاجته، فإذا كانت حاجته الرزق، قال: (يا رزاق، يا وهاب، يا جواد، يا مغني، يا منعم، يا مفضل، يا معطي، يا كريم، يا واسع، يا مسبب الأسباب، يا منان، يا رزاق من يشاء بغير حساب)
وإن كانت حاجته (المغفرة والتوبة)، قال: (يا تواب، يا رحمن، يا رحيم، يا رؤوف، يا عطوف، يا صبور، يا شكور، يا عفو، يا غفور، يا فتاح، يا ذا المجد والسماح، يا محسن، يا مجمل، يا منعم)
وإن كانت حاجته صد أعدائه الظلمة المستكبرين قال: (يا عزيز، يا جبار، يا قهار، يا منتقم، ياذا البطش الشديد، يا فعال لما يريد، يا قاصم المردة، يا طالب، يا غالب، يا مهلك، يا مدرك، يا من لا يعجزه شيء)
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجة وغيرهم.
(2) رواه ابن السني وابن حبان.
(3) رواه ابن النجار.
مدارس النفس اللوامة (131)
وإن كانت حاجته طلب العلم والفهم والمعرفة، قال: (يا عالم، يا فتاح، يا هادي، يا مرشد، يا معز، يا رافع)
ولهذا يختم كل مقطع من مقاطع دعاء الجوشن الكبير بهذه الخاتمة (سبحانك يا لا اله إلا انت الغوث الغوث خلصنا من النار يا رب)
وهذا الدعاء ـ أيها المريد الصادق ـ يشبه دعاء الذي يكاد يغرق؛ فهو يستعمل كل الوسائل لنجاته، ولهذا روي أن الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام: (ادعني دعاء الحزين الغريق الذي ليس له مغيث، يا عيسى، سلني ولا تسأل غيري، فيحسن منك الدعاء ومني الإجابة)
ولذلك كان ذلك الدعاء العظيم الذي يحتوي على مائة مقطع، وكل مقطع يحتوي على عشرة أسماء من أسماء الله الحسنى تنتهي بطلب الإغاثة من أحسن وسائل الإحصاء والتعرف على الله والتواصل معه.
ففيه يقول العبد المتلهف مستغيثا بربه: (اللهم اني اسألك باسمك يا الله يا رحمن يا رحيم يا كريم يا مقيم يا عظيم يا قديم يا عليم يا حليم يا حكيم سبحانك يا لا اله إلا انت الغوث الغوث خلصنا من النار يا رب) (1)
وفيه يقول: (يا سيد السادات يا مجيب الدعوات يا رافع الدرجات يا ولي الحسنات يا غافر الخطيئات يا معطي المسألات يا قابل التوبات يا سامع الاصوات يا عالم الخفيات يا دافع البليات)
وفيه يقول: (يا خير الغافرين يا خير الفاتحين يا خير الناصرين يا خير الحاكمين يا خير الرازقين يا خير الوارثين يا خير الحامدين يا خير الذاكرين يا خير المنزلين يا خير
__________
(1) انظر الدعاء في المصباح، الكفعمي، ص 246.
مدارس النفس اللوامة (132)
المحسنين)
وفيه يقول: (يا من تواضع كل شيء لعظمته يا من استسلم كل شيء لقدرته يا من ذل كل شيء لعزته يا من خضع كل شيء لهيبته يا من انقاد كل شيء من خشيته يا من تشققت الجبال من مخافته يا من قامت السماوات بأمره يا من استقرت الارضون بإذنه يا من يسبح الرعد بحمده يا من لا يعتدي على اهل مملكته)
إلى آخر الدعاء الذي يمكنك التزامه، والتأمل في الأسماء الحسنى الواردة فيه، والانفعال لها؛ فهو من أحسن طرقك إلى ربك، ومن أكثر الأدعية اشتمالا على أسماء الله الحسنى.
ولا يغرنك عن نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ من يزهدك فيه لعدم ورود أحاديثه من طرق بعينها.. فدين الله أعظم من أن يحتكره أحد من الناس.. والعبرة بالمعنى، وبالحقائق، لا بتلك الطرق التي خلطت الحق بالباطل، والتنزيه بالتجسيم، والسنة بالبدعة.
إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الإحصاء الرابع هو التخلق بأخلاقها، والانصياع العملي لمقتضياتها، وقد اتفق على اعتبار هذا إحصاء كل الحكماء والعلماء وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك: (فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من: الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات) (1)
ثم يقول مفصلا أسباب ذلك: (ذكرُ الله بأوصاف الجمال موجب للرحمة، وبأوصاف الكمال موجب للمهابة، وبالتوّحد بالأفعال موجب للتوكل، وبسعة الرحمة موجب للرجاء، وبشدة النقمة موجب للخوف، وبالتفرّد بالإنعام موجب للشكر)
__________
(1) شجرة المعارف والأحوال، ص 1.
مدارس النفس اللوامة (133)
ويبين آخر تأثير أسماء الله الحسنى في كل عبادة من العبادات الظاهرة والباطنة: (لكل صفة عبوديةٌ خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح) (1)
ثم يذكر الأمثلة الموضحة لذلك، فيقول: (فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضرّ والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة: يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً، وعلمه بسمعه تعالى وبصره، وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة، وأنه يعلم السر، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور: يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه على كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك: الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء... وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه، تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة، هي موجباتها.. فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات)
ويبين أثر التعبد بأسماء الله تعالى في الوقاية من الأمراض القلبية، كالحسد، والكبر، اللذين هما منبع كل أمراض القلوب، فيقول: (لو عرف ربّه بصفات الكمال ونعوت الجلال، لم يتكبر ولم يحسد أحداً على ما آتاه الله؛ فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته) (2)
ويبين أثر التعبد بأسماء الله تعالى وصفاته في الوقوف الصلب أما المحن والبلايا،
__________
(1) مفتاح دار السعادة: 2/ 90 باختصار، وانظر: طريق الهجرتين، ص 43.
(2) الفوائد، ص 150.
مدارس النفس اللوامة (134)
فيقول: (من صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما كره أعظم منها فيما يحب) (1)، ويقول: (فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يد ظالم، فالمسلط له أعدل العادلين، كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} (الاسراء:5)
وذكر آخر سر الوصول إلى هذه الدرجة من هذه الإحصاء، فقال: (ولن يتصور أن يمتلئ القلب باستعظام صفة واستشرافها إلا ويتبعه شوق إلى تلك الصفة وعشق لذلك الكمال والجلال وحرص على التحلي بذلك الوصف إن كان ذلك ممكنا للمستعظم بكماله فإن لم يكن بكماله فينبعث الشوق إلى القدر الممكن منه لا محالة)
وذلك ـ أيها المريد الصادق ـ يشبه التلميذ النجيب المتأثر بأستاذه؛ فإنه إذا شاهد كمال أستاذه في العلم انبعث شوقه إلى التشبه والاقتداء به، وهكذا في كل الشؤون يكون الشوق هو الحادي الذي يدفع إلى السلوك، فالجوارح تبع للقلب، وبقدر إعجابه وتعظيمه وتأثره وانفعاله يكون انقيادها.
فاحرص ـ أيها المريد الصادق ـ على أن تتحقق بهذه المراتب؛ فهي وسيلتك إلى ربك في الدنيا والآخرة، وبقدر اهتمامك بها، وإرادتك لها، بقدر ما يهبك الله من فضله.
واحذر من أن يكون غرضك من إحصاء أسماء الله الحسنى ما يفعله الملحدون فيها والجاهلون بقدرها، أولئك الذين حولوها إلى طلاسم يصطادون بها الدنيا وأهواءها، بدل
__________
(1) الفوائد، ص 85.
مدارس النفس اللوامة (135)
أن يصطادوا بها الحقائق وآثارها.
مدارس النفس اللوامة (136)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تخبرني أنك بعد إرسال رسالتي السابقة إليك، والتي أجبتك فيها عن معنى إحصاء الأسماء، وآثارها الروحية والتربوية، رحت تطبق ذلك على بعض الأسماء الحسنى، وأنك قد رأيت تأثيرها الكبير عليك، وعلى ترسيخ معانيها في نفسك.
لكنك عند ذكرك لاسم [الله]، أو ما يطلق عليه [الاسم المفرد]، وبعد أن وجدت حلاوته في قلبك إثر ترديدك الكثير له، وردتك نصيحة من بعض إخوانك، يذكر لك فيها بدعية ذلك الترديد، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعله، وأن السنة في تركه، وذكر لك من مقولات العلماء ما يثبت ذلك.
ومن أهم ما ذكر لك من أدلة على ذلك أن الذكر بالاسم المفرد ليس مفيدا لمعنى من المعاني بخلاف غيرها من الأذكار المفيدة لذلك، وقد نقلت لي قول بعضهم في هذا، حيث قال: (الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلاما تاما مفيدا مثل لا إله إلا الله ومثل الله أكبر ومثل سبحان الله والحمد لله ومثل لا حول ولا قوة إلا بالله) (1)، وقال: (وأما الاسم المفرد مظهرا أو مضمرا فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهى ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يعطى القلب بنفسه معرفة مفيدة ولا حالا نافعا، وإنما يعطيه تصورا مطلقا لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات فان لم يقترن به من معرفة القلب وحالة ما يفيد بنفسه وإلا لم يكن فيه فائدة والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره) (2)
__________
(1) فتاوى ابن تيمية: 10/ 556.
(2) مجموع الفتاوى 10/ 226.
مدارس النفس اللوامة (137)
بل نقلت لي عن آخر ما هو أعظم من ذلك، حيث قال: (فإن إطلاق الجلالة منفردا عن إخبار عنها بقولهم (الله الله) ليس بكلام ولا توحيد، وإنما هو تلاعب بهذا اللفظ الشريف بإخراجه عن لفظه العربي ثم إخلاؤه عن معنى من المعاني، ولو أن رجلا عظيما صالحا يسمى بزيد وصار جماعة يقولون (زيد زيد) لعد ذلك استهزاء وإهانة وسخرية، ولا سيما إذا زادوا إلى ذلك تحريف اللفظ) (1)
إلى آخر النصوص الكثيرة التي نقلتها لي، وذكرت أنها لجهابذة العلماء وحفاظ الحديث، وغيرهم، والذين لا يمكنني التشكيك في صدقهم وإخلاصهم واجتهادهم، لكني مع ذلك يمكنني التشكيك في فهمهم، وفي الأدلة التي يعرضونها.
وأول ذلك اعتبارهم اسم الله مشابها لاسم زيد أو عمرو.. ومعاذ الله أن يقال مثل هذا.. فزيد بشر، ولا يمكن التلفظ باسمه مجردا عن الغرض الذي ذكر لأجله.. واسم زيد قد ينطبق على مئات وآلاف من الأشخاص.. وزيد لم يطالب بأن يسبح أو ينزه أو يقدس أو يكبر..
أما اسم الله فمختلف تماما، ذلك أن مجرد التلفظ به مع حضور القلب يجعل صاحبه حاضرا مع الله، مستشعرا لوجوده وعظمته وكماله وتنزيهه وكل الحقائق التي تصل القلب به.
ولا يضر أن لا يذكر تلك المعاني التي يستحضرها قلبه؛ لأن المطلوب الأصيل في الذكر هو ذلك الشعور الذي يجده القلب، والذي يعين عليه اللسان.. فاللسان ليس مقصودا من ذاته، وإنما الغرض منه تنبيه القلب حتى يعيش معنى الذكر.
ولهذا ترى القرآن الكريم قد يستغني عن ذكر بعض الألفاظ التي لا تتم المعاني إلا
__________
(1) الصنعاني في تطهير الاعتقاد ص 48.
مدارس النفس اللوامة (138)
بها، نتيجة حضورها في الذهن من غير حاجة لذكرها، هو ما يسميه العلماء مجاز الحذف، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]، فإن المراد الظاهر منها هو أهل القرية، وليس القرية بحد ذاتها..
ومثله قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] أي أمره أو عذابه أو ملائكته، لأن العقل دل على أصل الحذف، ولاستحالة مجيء الله تعالى عقلا، فالمجيء من سمات الحدوث.
وغيرها من الآيات الكريمة التي تستغني عن ذكر الكثير من التفاصيل بناء على ورودها في الذهن من غير حاجة للألفاظ التي تدل عليها.
وهكذا الأمر بالنسبة للذاكر لاسم الله، فهو يعبر أثناء ذكره لله عن معاني مختلفة ترد على نفسه أثناء ذلك الذكر.. فقد يكون حينها سائلا، أو منزها، أو مكبرا، أو مسبحا.. أو غيرها من المعاني التي لا يمكن حصرها أو التعبير عنها.
ولذلك ورد في دعاء كميل الذي علّمه الإمام علي للصحابي الجليل كميل بن زياد قوله: (يَا مَنِ اسْمُهُ دَواءٌ وَذِكْرُهُ شِفاءٌ)، وهو يعني أن اسم [الله] نفسه دواء.. أي هو الوسيلة التي يتحقّق من خلالها شفاء الصدور من أسقامها، ورقي الروح إلى بارئها، كما تتحقق به كل الحاجات في الدنيا والآخرة.
ولذلك، إياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تعتقد أن اسم الله لا يختلف عن اسم زيد أو عمرو من الناس، فمعاذ الله أن يقول ذلك مسلم.
وكيف يقوله، والله تعالى يدعو في القرآن الكريم إلى ذكر اسمه صريحا، ومن دون ربطه بأي معنى من المعاني، لا التسبيح ولا التحميد ولا التكبير، ولا غيرها من المعاني، قال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، وقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً
مدارس النفس اللوامة (139)
وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25]
واعتبر من المقاصد الكبرى لبناء المساجد ذكر اسم الله، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36]
واعتبر من الظلم العظيم منع ذكر اسمه فيها، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ الله أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114]
وهكذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر اسمه عند إعراضه عن المستهزئين: {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]
بالإضافة إلى هذا كله، فإن القرآن الكريم يدعو إلى ذكر أسماء الله الحسنى، واسم الله أحدها، بل هو أكثرها ترددا، فهو مصاحب لكل الأذكار، قال تعالى: {وَلله الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]، وقال: {قُلِ ادْعُوا الله أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]
وهكذا ورد في السنة المطهرة ما يشير إلى مشروعية ذلك، واستحبابه، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: (الله الله (1)) (2) وفي رواية (لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول الله الله) (3)
و أبلغ شاهد يُعتمد عليه في هذا الحديث، (هو مجيء لفظ الجلالة مكررًا فكان صريحا في إرادته ذكر ذلك الاسم، أما لو جاء غير مكرر لاحتمل أن يكون المراد به، حتى لا يبقى
__________
(1) قال الإمام النووي في شرح مسلم 2/ 178: (قوله (على أحد يقول (الله الله) هو برفع اسم الله تعالى وقد يغلط فيه بعض الناس فلا يرفعه، واعلم أن الروايات كلها متفقة على تكرير اسم الله تعالى في الروايتين وهكذا هو في جميع الأصول قال القاضي عياض رحمه الله: وفى رواية بن أبى جعفر يقول: لا إله إلا الله، والله سبحانه وتعالى أعلم)
(2) صحيح مسلم 1/ 131
(3) مسند البزار (13/ 169)
مدارس النفس اللوامة (140)
على وجه الأرض من يعتقد وجود (الله) أما مع وجود التكرار فلا احتمال) (1)
وعلى فرض أنه لا يوجد في الشرع الشريف أي دليل على جواز تكرار ذلك الاسم، (فكذلك لا يوجد فيه أيضا ما يفيد المنع من تكراره على اللسان، أو مروره على القلب، بل ليس في الشرع على ما يظهر ما يمنع من تكرير أي اسم من أسماء المحدثات، إذا صح هذا، فكيف يوجد ما يمنع من التلفظ باسم من أسماء الله الحسنى؟ فحاشا أن يوجد في الشرع ما هو قبيل هذه التعسفات والتنطعات، التي تلزم المؤمن أن لا يردد اسم مولاه على لسانه، بأن يقول (الله الله)، أو ما في معناه من بقية أسمائه) (2)
وهكذا وردت الروايات الكثيرة عن الصحابة التي تدل على ذلك، ومنها ما روي عن عطاء قال: كنت عند سعيد بن المسيب فذكر بلالا فقال: (كان شحيحا على دينه وكان يعذب في الله عز وجل، وكان يعذب على دينه فإذا أراد المشركون أن يقاربهم قال: (الله الله) (3)
وعن ابن مسعود قال: (فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: (أحد أحد) (4)
وهكذا كان شعار الصحابة في غزوة بدر (أحد أحد) (5)
__________
(1) ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص 19.
(2) المرجع السابق، ص 19.
(3) مصنف عبد الرزاق 11/ 234 وشعب البيهقي 2/ 238 وتاريخ ابن عساكر 10/ 443 والاستيعاب لابن عبد البر 1/ 181
(4) مصنف ابن أبي شيبة 6/ 396 ومسند أحمد 1/ 404 وسنن ابن ماجه 1/ 53 وصحيح ابن حبان 15/ 558 ومستدرك الحاكم في 3/ 320
(5) سيرة ابن هشام 3/ 182
مدارس النفس اللوامة (141)
وقد كتب بعض المشايخ رسالة في الرد على المنكرين على الذكر بالاسم المفرد، ذكر سبب كتابته لها، فقال: (أما بعد أيها الأخ المحترم، فقد كنتُ تشرفتُ بزيارتكم صحبة صديق الجميع حضرة الشيخ... وبمناسبة ما دار بيننا من الحديث، في تلك السويعات التي رأيتكم فيها موغر الصدر على إخوانكم، حسبما لاح لي في ذلك الحين، لا لذنب ارتكبوه سوى أنهم مولعون بإجراء الاسم المفرد على ألسنتهم، وهو قولهم: (الله)، فظهر لكم أن ذلك مما يستحق عليه العتاب، أو نقول العقاب، لأنكم قلتم إنهم يلهجون بذكر ذلك الاسم بمناسبة أو غير مناسبة، سواء عليهم في الأزقة، أو غيرها من الأماكن التي لا تليق للذكر، حتى أن أحدهم إذا طرق الباب يقول: (الله)، وإذا ناداه إنسان يقول: (الله)، وإذا قام يقول: (الله)، وإذا جلس يقول: (الله)، إلى غير ذلك مما جرى به الحديث) (1)
ثم رد عليه بوجوه من الأدلة منها أن الذكر ورد في الشرع مطلقا لم يحدد (بوقت دون وقت، أو مكان دون مكان، والمعنى أن سائر الأزمنة والأمكنة مناسبة لذكر الله، والإنسان مطلوب في جميع ذلك بعمارة أوقاته، وبرفع لوازم الغفلة، من أن تستحكم على مشاعره وتستولي على إدراكاته.. وبعبارة أخرى: إن الذكر محمود على كل حال، والغفلة مذمومة على كل حال) (2)
ومنها ورود النصوص القرآنية والنبوية الدالة على تحريم الغفلة والتحذير منها، وهو ما يقتضي ذكر الله في كل الأحوال، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة يوم القيامة) (3)
__________
(1) ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد ص 6.
(2) المرجع السابق، ص 21.
(3) أبو داود سليمان بن الأشعث السِّجِسْتاني، سنن أبي داود، المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، (4/ 264)
مدارس النفس اللوامة (142)
ومنها ورود النصوص الخاصة بدليل جواز مثل هذا أو استحبابه، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (عليك بتقوى الله ما استطعت، واذكر الله عند كل شجر وحجر) (1)، والمراد من الإطلاق تعميم الزمان والمكان.. ومثل ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم (كان يذكر الله على كل أحيانه) (2)
ومنها أن الأحكام الشرعية لا يرجع فيها للاشمئزار أو للرضى، وإنما يرجع فيها إلى المصادر الشرعية، وقد قال له في ذلك: (و على فرض أن تشمئز منه بعض النفوس غير المتعودة على استماع الأذكار، فالواجب على المصنف إذا أراد الحكم على غيره، أن لا يحكم إلا بما يراه حكما عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، لا بما يختاره هو بطبيعته، ويستحسنه في نظره، وغير خاف أن كون الإنسان قد يستحسن شيئا ويستقبحه غيره، ولهذا كان الواجب علينا أن لا نرجع للاستحسانات، ونكتفي باختيارات دون اختيارات الشرع لنا، وإذًا فالواجب على من يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يقف عند النصوص الشرعية، ويعمل بمقتضاها، بدون ما يختار من عند نفسه شيئا إلا ما اختاره الله له، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] (3)
وهكذا راح يجيب على الإشكالات التي أوردها المخالفون، والتي ذكرت لك بعضها، ومنها اعتبارهم أنه لا يؤلف جملة مفيدة تامة يحسن السكوت عليها، كقولنا (الله غفور)، وقد عبر الشيخ عن هذا الإشكال، فقال: (من جهة أخرى أنكم كنتم ترون أن هذا الاسم، لا يصلح أن يكون ذكرا، ولا هو من أقسام الكلام المفيد، جريا منكم على ما اشترطه
__________
(1) قال في مجمع الزوائد: (رواه الطبراني وإسناده حسن) (انظر: الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الفكر، بيروت، طبعة 1412 هـ، الموافق 1992 ميلادي، (10/ 15)
(2) صحيح البخاري (1/ 83)
(3) ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص 23.
مدارس النفس اللوامة (143)
النحويون، من لزوم التركيب، في تعريفهم الكلام المفيد) (1)
وقد رد على هذا الإشكال بوجوه من الأدلة، منها أن النحويين عند اشتراطهم لزوم التركيب فيما يعتبر كلاما أرادوا من خلال ذلك تعريف الكلام الذي تتوقف عليه إفادة السامع، وهذا القيد (بعيدٌ أن ينطبق على الأذكار، وما يخصها من جهة المشروعية أو عدمها، وما يترتب على ذلك من الثواب ونحوه، ولاشك أنك لو سألتهم في ذلك الحين، أو هذا الحين، لأجابوك قائلين: إن ما قررناه هو مجرد اصطلاح نعتمده في عرفنا، ولا مشاحة في الاصطلاح) (2)
ومنها أن الاصطلاح الذي اصطلح عليه أهل الفنون والعلوم المختلفة لا علاقة له بالأحكام الشرعية، ولا تأثير له عليها، ولهذا قد نجد المصطلح الواحد يتداوله أصحاب العلوم المختلفة، وكل يريد منه غير ما يريد الآخر.
ومنها أنه حتى لو طبقنا المقاييس التي ذكرها المتكلمون، فإنها لا تنطبق على هذا الذكر ذلك أن (ما اشترطه النحويون من لزوم التركيب، هو خاص بمن يريد بكلامه إفادة غيره، أما الذاكر فلا يقصد بذكره إلا إفادة نفسه، وتمكين معنى ذلك الاسم من قلبه، أو ما يشبه تلك المقاصد) (3)
ومنها أن النحويين لم يشترطوا هذا الشرط في كل الأحوال، بل إنهم في حق المتوجه أو المتأوه لم يشترطوا وجود التركيب فيما يبرز من لسانه، لأن قصده غير قصد النحويين، ومن البعيد أن يقول النحوي للمتوجه أو للمتأوه: (إنني ما فهمتُ مقصودك من تأوهك)، لأنه لفظ غير مركب يحتاج إلى خبر أو شبه ذلك! وهذا كله لا يتفق مع مقصود المتوجع، لأنه لا
__________
(1) المرجع السابق، ص 7.
(2) المرجع السابق، ص 7.
(3) المرجع السابق، ص 7.
مدارس النفس اللوامة (144)
يقصد إفادة غيره، إنما يقصد الترويح بذلك اللفظ على نفسه.. وهكذا ذاكر الاسم، لا يقصد إلا تمكين أثر ذلك الاسم من نفسه) (1)
ومنها أن لكل كلمة في اللغة تأثيرها الخاص في النفس، فإذا كررها صاحبها أحدثت في نفسه تأثيرا خاصا، وهذه حقيقة يقررها علم النفس الحديث، يقول الشيخ: (و أنت تعلم يا حضرة الأخ، من أن لكل اسم أثرا يتعلق بنفس ذاكره، ولو من غير الأسماء الإلهية، حتى إن الإنسان إذا ردد على لسانه ذكر الموت مثلا، فإنه يحس بأثر يتعلق بالنفس، من ذكر ذلك الاسم، بالخصوص إذا داوم عليه، ولا شك أن ذلك الأثر هو غير الأثر المستفاد من ذكر المال، أو العز، أو السلطان، ولولا مراعاة ذلك الأثر، لما ورد في الحديث الشريف: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) (2) يعني الموت، ولا شك أنها كلمة مفردة، وقد ورد أنها كانت وردا لبعض السلف) (3)
ومنها أنه يمكن، وعن طريق كلام النحويين، أن نثبت أن الاسم المفرد ليس كلمة مجردة، وإنما جملة مفيدة، يقول الشيخ: (ثم أقول: إن جميع ما قدمناه هو جري من على سبيل الفرض، من جهة كونه اسما مفردا غير منظم لشيء، ولو على سبيل التقدير. أما إذا استطلعنا الحقيقة وأمطنا القناع، فإننا نستطيع أن نقول: إنه مما يجوز ذكره حتى على قول من يشترط التركيب. لأنه في الواقع منادى، والمنادى عندهم من أقسام الكلام المفيد، لأنهم أولوا حرف النداء بمعنى أدعو، وحذفه جائز وشائع في لغة العرب، وكثيرًا ما يدعو المقام لحذفه لزوما، كما في القضية هنا مراعاة لما تطلبه منا الآداب القرآنية والتعاليم الإسلامية، التي قد يكون
__________
(1) المرجع السابق، ص 8.
(2) سنن الترمذي (4/ 639)
(3) ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص 8.
مدارس النفس اللوامة (145)
منها للسادة الصوفية أكثر مما لغيرهم) (1)
وبناء على هذا يمكن اعتبار ذاكر الاسم المفرد، وكأنه يقول: يا الله ارحمنا، أو اغفر لنا أو نحو ذلك، واستدل له بما ذكره النحويون في هذا، وهو معروف مشهور (2).
ومنها أن استدلال المخالف باشتراط النقل من فعل السلف صعب جدا ذلك أنه (لا يتأتى حصر ما كان يجري على ألسنة السلف من صيغ الأدعية والأذكار، حتى نستطيع أن نقول هذا الاسم لم يكن ذكرًا للسلف على سبيل القطع، أو هذا الاسم كانوا لا يرونه ذكرًا، كل ذلك لقصورنا عن الإحاطة بجميع ما كان يجري على ألسنتهم في خلواتهم وجلواتهم وسقمهم وعافيتهم، ومن البعيد أن نعتقد كون الصحابة ما كان يمر على ألسنتهم اسم الجلالة مكررا (الله الله) برأهم الله من مثل ذلك) (3)
تلك بعض الأدلة التي يمكنك أن تعرف بها مشروعية ذكر اسم [الله]، وإن كان عجيبا أن تُطرح هذه المسألة، ذلك أنها من الوضوح بحيث لا تحتاج أي دليل يدل عليها؛ فاسم الله من العظمة والقداسة ما لا يمكن أن يقاس به أي اسم من الأسماء، ولذلك كان له وحده من التأثير ما لا يمكن تصوره.
ولو أن أولئك الذين أنكروا ترديد هذا الاسم وذكره، اطلعوا على ما ورد في السنة الشريفة من إقرار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قام به أصحابه من أنواع الذكر من دون حاجة لسماعها منه، لعرفوا أن الشريعة لم تقيد هذا الباب بأي قيد، سوى قيد موافقة الذكر لحقائق الدين وقيمه.
__________
(1) المرجع السابق، ص 10.
(2) المرجع السابق، ص 10.
(3) المرجع السابق، ص 14.
مدارس النفس اللوامة (146)
ومن الأمثلة على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟. فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أخبروه أن الله يحبه) (1)
ومثله ما روي أن رجلا من الأنصار كان يؤم الناس في مسجد قباء وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما تقرأ به افتتح بـ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] حتى يفرغ منها ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمه أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه الخبر فقال: يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة فقال: إني أحبها، فقال: (حبُّك إياها أدخلك الجنة) (2)
وهذا الحديث ظاهر في أن هذين الرجلين كانا يقرآن في الصلاة بـ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] اجتهاداً منهما، لأنه صفة الرحمن جل وعلا، فكان جزاؤهما أن يحبهما الله تعالى لحبهما لها، وهو دليل على اعتبار التأثر في الذكر، فمن تأثر لذكر أو دعاء معين، وأحس بأثره في تزكيته وترقيته، فله أن يذكره بقدر طاقته، ذلك أن كل الأذكار أدوية إلهية، ويمكن لأي شخص أن يستعمل ما يشاء منها من غير أي حرج.
ومثله أو قريب منه ما روي عن ابن عمر قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال رجل من القوم: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)، فقال
__________
(1) صحيح البخاري ـ حسب ترقيم فتح الباري (9/ 141)
(2) صحيح البخاري، (1/ 197)
مدارس النفس اللوامة (147)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من القائل كلمة كذا وكذا؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء) (1)
والظاهر من سياق الرواية أن ذلك الصحابي لم يكن قد سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً في جعل هذا الذكر في استفتاح الصلاة، ولو كان ذلك عن أمره وتعليمه لما عجب لذلك، وإنما كان ذلك عن اجتهاد من ذلك الصحابي، ومحل الشاهد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقره على ذلك الاجتهاد، ولو كان من المحظور على المرء المسلم أن يأتي بشيء في العبادة دون دليل خاص لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولقال له كيف تفعل في الصلاة شيئاً قبل أن آذن لك فيه؟!
ومثله ما روي عن رفاعة بن رافع أنه قال: كنا يومَ نصلي وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لى، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءه: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، فلما انصرف قال: من المتكلم؟. قال: أنا. قال: (رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول) (2)
وهذا إقرار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للذي قال هذه الكلمات، وقد يكون قائلها قد سمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل، لكن الظاهر أنها ليست مما علمه أن يقوله في الصلاة، وأنه قالها في ذلك الاعتدال اجتهادا منه بإلهام من الله تبارك وتعالى.
ومثله ما روي أن خُبَيْبا أحدث صلاةَ ركعتين حين قدّمته قريش للقتل صبراً فأقرها وكانت بعده سنة (3).
وكل هذه الأحاديث تشير إلى أن باب الذكر مفتوح ما دام بالصيغ الشرعية، وأنه لا يحتاج إلى دليل عملي خاص به.. ذلك أنه يكفي أن يأمر الله بذكر أسمائه الحسنى، ليختار أي
__________
(1) صحيح مسلم (2/ 99)
(2) صحيح البخاري ـ حسب ترقيم فتح الباري (1/ 202)
(3) صحيح البخاري (4/ 83)
مدارس النفس اللوامة (148)
شخص الاسم الذي يريد، ويردده متى يشاء وكيف يشاء، كما عبر عن ذلك بعضهم فقال: (المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه فلو كلف أن ينسي ذكره لما قدر ولو كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر كيف ينسي المحب ذكر حبيب اسمه في فؤاده مكتوب، كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول أحد أحد، فإذا قالوا له قل واللات والعزى قال لا أحسنه يراد من القلب نسيانكم وتأبي الطباع على الناقل، وكلما قويت المعرفة صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه: (الله الله)، ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح كما يلهمون النفس وتصير لا إله إلا الله لهم كالماء البارد لأهل الدنيا) (1)
وكل ما ذكرته ـ أيها المريد الصادق ـ لا يدل فقط على مشروعية ذكر الاسم المفرد، وإنما يدل على مشروعية الاستفادة من أي تجربة روحية لأي شخص ما دامت في الإطار الشرعي.. فمن جرب طريقة معينة لتزكية نفسه وإصلاحها، فإنه يمكن الاستفادة منه في ذلك، ما لم تكن مصادمة لأصول الشريعة وقيمها.
ولهذا، فإن اتفاق أكثر الأمة على جدوى وتأثير ذكر الاسم المفرد له دور كبير في تأكيد مشروعيته، لأن غرض الأذكار ليس سوى تزكية الإنسان وتربيته ووصله بربه.
وقد ذكر الغزالي تأثير هذا الذكر، واهتمام مشايخ التربية به في عصره، فقال: (وعند ذلك يلقن الشيخ المريد ذكرا من الأذكار حتى يشغل به لسانه وقلبه فيجلس ويقول مثلا (الله الله) أو سبحان الله سبحان الله أو ما يراه الشيخ من الكلمات؛ فلا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان، وتكون الكلمة كأنها جارية على اللسان من غير تحريك، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يسقط الأثر عن اللسان وتبقي صورة اللفظ في القلب، ثم لا يزال
__________
(1) جامع العلوم والحكم 1/ 446.
مدارس النفس اللوامة (149)
كذلك حتى يمحى عن القلب حروف اللفظ وصورته وتبقى حقيقة معناه لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ عن كل ما سواه) (1)
وقد نقل عنه قوله يحكي عن بداية سلوكه، وعلاقتها بالاسم المفرد: (لقد أردتُ في بداية أمري سلوك هذا الطريق بكثرة الأوراد، والصوم والصلاة، فلما علم الله صدق نيتي، قيض لي ولياً من أوليائه قال لي: يا بُني، اقطع عن قلبك كل علاقة إلا الله وحده، واخل بنفسك، واجمع همتك وقل: الله الله الله) (2)
وهكذا ذكر في كتابه [المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى] حين تحدث على اسم الجلالة (الله)، فقال: (ينبغي أن يكون حظ العبد من هذا الاسم التأله وأعني به أن يكون مستغرق القلب والهمة بالله عز وجل لا يرى غيره ولا يلتفت إلى سواه ولا يرجو ولا يخاف إلا إياه وكيف لا يكون كذلك وقد فهم من هذا الاسم أنه الموجود الحقيقي الحق وكل ما سواه فان وهالك وباطل إلا به) (3)
ومثله الفخر الرازي الذي قال: (أما قوله: (الله) فاعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي (الله)، فإذا مت أقول (الله)، وإذا سئلت في القبر أقول (الله)، وإذا جئت يوم القيامة أقول (الله)، واذا أخذت الكتاب أقول (الله)، وإذا وزنت أعمالي أقول الله، وإذا جزت الصراط أقول (الله)، وإذا دخلت الجنة أقول (الله)، وإذا رأيت الله قلت (الله) (4)
ومثله قال الشيخ عبد القادر الجيلاني: (الله هو الاسم الأعظم وإنما يستجاب لك إذا قلت: (الله) وليس في قلبك غيره. ولهذا الاسم خواص وعجائب منها أن من داوم عليه في
__________
(1) الإحياء 3/ 77.
(2) ابن عليوة، القول المعتمد في مشروعية الذكر بالاسم المفرد، ص 16.
(3) المقصد الأسنى (ص: 62)
(4) التفسير الكبير: 1/ 155.
مدارس النفس اللوامة (150)
خلوة مجردا بأن يقول (الله الله) حتى يغلب عليه منه حال شاهد عجائب الملكوت) (1)
ومثله قال الشيخ أبو العباس المرسي: (ليكن ذكرك (الله، الله) فإن هذا الاسم سلطان الأسماء، وله بساط وثمرة، فبساطه العلم، وثمرته النور، فينبغي الإكثار من ذكره، لتضمنه جميع ما في لا اله إلا الله من العقائد والعلوم والآداب والحقائق) (2)
ومثله قال الشيخ ابن عطاء الله الاسكندري: (منهم من اختار لا إله إلا الله محمد رسول الله في الابتداء والانتهاء، ومنهم من اختار لا إله إلا الله في الابتداء، وفي الانتهاء الاقتصار على الله وهم الأكثرون، ومنهم من اختار (الله الله) (3)
ومثله قال الشيخ أحمد زروق: (ولهذا اختاره المشايخ [أي الذكر بالاسم المفرد] ورجحوه على سائر الأذكار وجعلوا له خلوات ووصلوا به إلى أعلى المقامات والولايات وإن كان فيهم من اختار في الابتداء (لا إله إلا الله) وفي الانتهاء (الله الله) (4)
ومثله قال الشيخ الغرناطي الكلبي: (وأما الأسماء التي معناها الاطلاع والإدراك كالعليم والسميع والبصير والقريب وشبه ذلك فثمرتها المراقبة وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فثمرتها شدة المحبة فيه والمحافظة على اتباع سنته وأما الاستغفار فثمرته الاستقامة على التقوى والمحافظة على شروط التوبة مع إنكار القلب بسبب الذنوب المتقدمة) (5)
ومثله الشيخ زكريا الأنصاري، وقد قال بعضهم يصف ذكره لله: (ومنهم شيخ الإسلام الشيخ زكريا الأنصاري الخزرجي أحد أركان الطريقين الفقه، والتصوف، وقد
__________
(1) حاشية إعانة الطالبين للدمياطي 1/ 10.
(2) نور التحقيق لحامد صقر ص 174.
(3) مفتاح الفلاح ص 35.
(4) مضار الابتداع للشيخ على محفوظ، ص 294.
(5) تفسيره المسمى التسهيل 1/ 64.
مدارس النفس اللوامة (151)
خدمته عشرين سنة فما رأيته قط في غفلة ولا اشتغال بما لا يعني لا ليلا، ولا نهاراً، وكان رضي الله عنه مع كبر سنه يصلي سنن الفرائض قائماً، ويقول لا أعود نفسي الكسل، وكان إذا جاءه شخص، وطول في الكلام يقول: بالعجل ضيعت علينا الزمن، وكنت إذا أصلحت كلمة في الكتاب الذي أقرؤه عليه أسمعه يقول: بخفض صوته (الله الله) لا يفتر حتى أفرغ) (1)
ومثله الشيخ عبد الرؤوف المناوي، فقد قال (قالوا وليس للمسافر إلى الله في سلوكه أنفع من الذكر المفرد القاطع من الأفئدة الأغيار وهو الله) (2)
وقال: (ويقعد فارغ القلب مجموع الهم ولا يفرق فكره بقراءة ولا غيرها بل يجتهد أن لا يخطر بباله شيء سوى ذكر الله فلا يزال قائلا بلسانه: (الله الله) على الدوام مع حضور قلبه إلى أن ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية عليه ثم يصير إلى أن ينمحي أثره من اللسان فيصادف قلبه مواظبا على الذكر ثم تنمحي صورة اللفظ ويبقى معنى الكلمة مجردا في قلبه لا يفارقه وعند ذلك انتظار الفتح) (3)
و قال في شرح حديث أسماء بنت عميس: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلمات أقولهن عند الكرب (الله الله ربي لا أشرك به شيئا) (4): (الله الله) وكرره استلذاذا بذكره واستحضارا لعظمته وتأكيدا للتوحيد فإنه الاسم الجامع لجميع الصفات الجلالية والجمالية والكمالية) (5)
وغيرها من الأقوال التي تعمدت ذكر بعضها لك، لتذكر لصاحبك الذي نصحك،
__________
(1) طبقات الشعراني الكبرى 1/ 350.
(2) فيض القدير 2/ 309.
(3) مرجع سابق، 3/ 116.
(4) رواه ابن ماجه 2/ 1277 وأبو داود 2/ 87.
(5) فيض القدير 1/ 286.
مدارس النفس اللوامة (152)
وتقول له تعقيبا عليها: إن هؤلاء الذين ذكرت لك مواقفهم حول الاسم المفرد لا يقلون علما عن أولئك الذين نقلت عنهم، وهم مشتهرون ـ بالإضافة إلى علمهم ـ بالدعوة لتزكية النفس وإصلاحها، ولهم تجاربهم المفيدة في ذلك.. فلذلك كان لك أن تأخذ برأي من شئت من المشايخ من غير أن تبدع ولا أن تحرج على من أخذ بقول غيرهم، خاصة إن ساندتهم المصادر المقدسة، وأيدهم دليل العقل الذي لا يمكن أن يشكك أحد في قوته ولا صحته.
وهل يمكن لعاقل أن يرى أن ذكر اسم الله وترديده لا قيمة له، ولا أثر له في النفس.. وكيف يكون ذلك، وكل الذين ذكروه وجربوه أخبروا عن تأثيره في نفوسهم، وامتلائها بكل المعاني التي قصد الذكر من أجلها.. وأولها الشعور بحضور الله وعظمته ومحبته.
مدارس النفس اللوامة (153)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الدعاء والمناجاة، وارتباطهما بالتزكية والترقية، والتخلق والتحقق، وعن آدابهما في الظاهر والباطن، وعن سر النصوص المقدسة الواردة في فضلهما، وطلبت مني أن أرشدك إلى بعض الأدعية والمناجيات التي يفيدك التزامها وترديدها في تربية نفسك وتهذيبها والرقي بها.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الدعاء من الوسائل العظمى لتهذيب النفس وتزكيتها وتصحيح مسارها لتسير إلى ربها على السراط المستقيم الذي هيأه لها، والذي لا يمكن أن تتحقق بالكمالات المتاحة لها من دونه.
وهو لذلك، أعظم من أن يقتصر دوره على تحقيق الحاجات، أو تبليغ الأمنيات، بل هو سلم يرقى بك إلى سموات الكمالات، لتطلع على الحقائق من مرائيها الصقيلة التي لم تدنس.
ولذلك ورد الأمر به في النصوص المقدسة، واعتبر الغافل أو المستغني عنه مستكبرا، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]
وأنت ترى ـ أيها المريد الصادق ـ كيف قرن الله تعالى الدعاء بالعبادة، واعتبر ترك الدعاء استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار، وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو خالقه، ورازقه، وموجده من العدم، ومحييه، ومميته، ومثيبه، ومعاقبه، وخالق العالم أجمع.. فلا شك أن هذا الاستكبار طرف من الجنون، وشعبة من كفران النعم) (1)
ولذلك ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التصريح بكون الدعاء عبادة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:
__________
(1) تحفة الذاكرين للشوكاني ص 28.
مدارس النفس اللوامة (154)
(الدعاء هو العبادة) (1)
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبره من أكرم العبادات على الله، فقال: (ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء) (2)
وأخبر عن حب الله للدعاء والداعين، فقال: (سلوا الله من فضله؛ فإن الله يحب أن يُسأل) (3)
ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، فيكون لبعض النفوس مندوحة في تركه، بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن غضب الله على من ترك الدعاء، فقال: (من لم يسأل الله يغضبْ عليه) (4)
وقد عبر الشاعر عن ذلك، فقال:
لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجة... وسل الذي أبوابه لا تُحجَبُ
الله يغضب إن تركت سؤالَهُ... وبُنَيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ
قد تذكر لي ـ أيها المريد الصادق ـ أنه لا يوجد أحد في الدنيا إلا ويرفع يديه إلى الله بالدعاء، ولكن مع ذلك لم ينالوا حظوظهم من تهذيب نفوسهم، ولا تربيتها، بل إن بعض أدعيتهم أو كثير منها لا يزيدهم إلا انحرافا وضلالا، لأنهم يبرزون فيها ما تمتلئ به نفوسهم من أحقاد وأمراض.
وذلك صحيح، بل إن الله تعالى أشار إليه، وحذر منه حين قال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]
__________
(1) رواه الترمذي (2969)، وأبو داود (1479)، وابن ماجة (3828)
(2) رواه أحمد 2/ 362، والبخاري في الأدب المفرد (712)، وابن ماجة (3829)
(3) رواه الترمذي (3571)
(4) أحمد 2/ 442، والترمذي (3373)، وابن ماجة (3827)
مدارس النفس اللوامة (155)
وذكر نماذج عنه، ومنها قول ذلك المشرك المستكبر: {اللهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]
أو ذلك الذي ذكره الله تعالى، فقال: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 1، 2]
أو أولئك الذين قال الله تعالى فيهم: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (العنكبوت:53)، وقال: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} (ص:16)
أو تلك الأمم السالفة، التي راحت تسخر من الدعاء، وتقول مقالة قوم شعيب: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الشعراء: 187)
ولذلك؛ فإن الدعاء مثل القرآن الكريم، قد يكون دواء، وقد يكون داء، وقد يكون نورا، وقد يكون ظلمة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رب تال للقرآن والقرآن يلعنه) (1)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الدعاء الحقيقي الذي جعله الله تعالى مدرسة لتزكية عباده، يحتاج جملة من الآداب والمعارف، مثلما يحتاج كل دواء إلى ذلك، حتى لا يصبح الدواء سما.
ولذلك فإن للدعاء علاقة بكلا الركنين الكبيرين للتزكية والترقية، وهما: التحقق والتخلق.. التحقق الذي يثمر القرب من الله.. والتخلق الذي يثمر كل القيم النبيلة التي دعا الله إليها، وأمر عباده بها.
أما علاقة الدعاء بالتحقق والمعرفة الإلهية؛ فقد عبر عن الآداب والشروط المرتبطة
__________
(1) ابن أبي حاتم في تفسيره ج:6 ص:2017.
مدارس النفس اللوامة (156)
به بعض الحكماء، فقال: (لا يكن طلبك سببا إلى العطاء منه فيقلّ فهمك عنه، وليكن طلبك لإظهار العبوديّة وقياما بحقوق الربوبيّة)
وعبر عنه آخر، فقال: لا يكن حظك من الدعاء الفرح بقضاء حاجاتك فتكون من المحجوبين وليكن همك مناجاة محبوبك)
ويعني بذلك أن غرض العارفين من الطلب من الله ليس تحقيق حاجاتهم فقط، فالله أعلم بها منهم، ولكن غرضهم إظهار العبودية، والقيام بحقوق الربوبية، وإلا فإن كرم الله أعظم من أن ينتظر الدعاء أو الطلب، كما عبر عن ذلك الحكيم بقوله: (كيف يكون طلبك اللاحق سببا في عطائه السابق.. جلّ حكم الأزل أن يضاف إلى العلل) (1)
وقال: (عنايته فيك لا لشيء منك، وأين كنت حين واجهتك عنايته، وقابلتك رعايته؟ لم يكن في أزله إخلاص أعمال، ولا وجود أحوال، بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال ووجود النّوال) (2)
وقال آخر: (التوحيد أن تعلم أن قدرة الله في الأشياء بلا علاج، وصنعه لها بلا مزاج، وعلة كل شيء صنعه، ولا علة لصنعه، وليس في السموات العليا ولا في الأرضين السفلى مدبر غير الله، وكل ما يخطر ببالك فالله مخالف لذلك)
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تسيء فهم هذه الكلمات، فتترك الدعاء، أو تتعالى عليه، أو تتوهم أنك لا تدعو إلا لتنفيذ ما أمرت به، وأنك مستغن عن حاجتك التي تطلبها؛ فذلك سوء أدب منك.
بل إن معنى هذه الكلمات، أن تتأدب مع الله تعالى حين دعائك له، حتى لا يكون
__________
(1) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 363.
(2) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 364.
مدارس النفس اللوامة (157)
نظرك لما تطلب أعظم من نظرك لمن تطلب.. وحتى لا تشتغل بالنعمة التي تطلبها عن المنعم الذي تطلب منه.
وهذا هو الأدب الذي يجعلك تشعر بأن مجرد دعائك لله، وتذللك بين يديه مكسب من المكاسب العظيمة، ولا تهتم بعدها، هل تحقق مطلبك الذي طلبته أم لم يتحقق، لأن مجرد دعائك لله كاف في تحقيق جميع مطالبك.
ولهذا تجد أدعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى من بعده مليئة بالمعارف الإلهية، لأن القصد منها ليس تحقيق المطالب الحسية المحدودة فقط، وإنما تنبيه القلب إلى العظيم الذي تتوجه إليه بالدعاء.
فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا كربه أمر، يقول: (يا حيّ يا قيّوم، برحمتك أستغيث) (1)
وروي أنه كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع، ورب الأرض، ورب العرش الكريم) (2)
وكان يقول: (ما أصاب عبدا قطّ همّ ولا حزن، فقال: اللهمّ إنّي عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي، إلّا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحا)، قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلّمهنّ؟
__________
(1) الترمذي (3524)
(2) البخاري (الفتح 11/ 6345) ومسلم (2730)
مدارس النفس اللوامة (158)
قال: (بلى ينبغي لمن سمعهنّ أن يتعلّمهنّ) (1)
وعن الإمام علي قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين) (2)
وكان يقول في دعائه: (اللهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت الحنّان المنّان بديع السّماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حيّ يا قيّوم) (3)
فهذه الأدعية جميعا ممتلئة بالمعارف الإلهية، وكأن الغرض منها تنبيه الذهن إلى قدرة الله تعالى على إزاله كل كرب أو حزن أو بلاء، وأنه فوق قدرته رحيم لطيف بعباده عليم بأحوالهم.. وكل ذلك يجعل القلب مستعدا لأن يعيش تلك الحقائق، لا أن يرددها بلسانه فقط.
وهكذا نجد أدعية أئمة الهدى ممتلئة بالمعارف الإلهية، وبأحسن عبارة، وأدق إشارة، وبلغة جميلة بسيطة يفهمها العامة والخاصة، كل بحسبه.
ومن أجمل تلك الأدعية، دعاء الإمام الحسين يوم عرفة، فهو وحده مدرسة عقدية كاملة، تؤسس لعلاقة إيمانية وثيقة مع الله، تختلف عن ذلك الجدل والتحريف الذي أسست له الكثير من المدارس الكلامية.
ومن الأمثلة على ذلك أنه عند مطالعة المقطع الأول من الدعاء، والذي يبدأ بقول الإمام الحسين: (الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع، ولا كصنعه صنع صانع) (4)، وينتهي بقوله: (وليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، اللطيف الخبير، وهو
__________
(1) أحمد (712) وابن حبان (2372) والحاكم (1/ 509)
(2) أحمد (1/ 91)
(3) أبو داود (1495) والنسائي 3/ 25، وابن ماجه (3858)
(4) انظر الدعاء كاملا في: البلد الامين والدرع الحصين، ص 251، بحار الأنوار: 95/ 217.
مدارس النفس اللوامة (159)
على كل شي ء قدير) نرى الكثير من المعارف المتعلقة بالكمال الإلهي، والمصاغة بطريقة لا يمكن أن نجد مثلها في المتون، ولا كتب العقائد التي صاغها المتكلمون والممتلئة بالجفاف.
فهو يذكر إرادة الله وقضاءه الذي لا يمكن لأحد أن يدفعه: (الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع)، وهو يرد بذلك على كل التيارات التي حدت من إرادة الله، أو تصورت إمكانية معارضتها.
وهو يذكر جود الله وكرمه المنبني على قدرته المطلقة: (ولا لعطائه مانع)، (وهو الجواد الواسع)
وهو يذكر قدرة الله وإبداعه في صنعه: (ولا كصنعه صنع صانع.. فطر أجناس البدائع، وأتقن بحكمته الصنائع)
وهو يذكر رقابة الله وسمعه وبصره وحضوره مع كل شيء، وعدم غياب شيء عنه: (لا يخفى عليه الطلائع)
وهو يذكر خلق الله تعالى للخلق ورحمته ورأفته بهم وهدايته لهم: (وهو للخليقة صانع، وهو المستعان على الفجائع، جازي كل صانع، ورائش كل قانع، وراحم كل ضارع، ومنزل المنافع والكتاب الجامع بالنور الساطع)
وهو يذكر أفعال الله المرتبطة بخلقه، وسماعه لأدعيتهم، ورفعه لكرباتهم، ومجازاته للمسيئين منهم: (وهو للدعوات سامع، وللدرجات رافع، وللكربات دافع، وللجبابرة قامع، وراحم عبرة كل ضارع، ودافع ضرعة كل ضارع)
وهكذا لو تأملنا هذا المقطع وحده وجدنا فيه الكثير من المعارف الإلهية المرتبطة بالأسماء الحسنى، ولذلك أنصحك ـ أيها المريد الصادق ـ به وبكل الأدعية الواردة عن أئمة الهدى، فكلها أدعية مباركة، تملأ قلبك يقينا وإيمانا وتجعلك في تواصل دائم مع الله.
مدارس النفس اللوامة (160)
أما علاقة الدعاء بالتخلق والسلوك؛ فإن مضامين كل الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أئمة الهدى ممتلئة بالمعاني الأخلاقية، والتي تجعل من الداعي حريصا على رياضة نفسه عليها، والاستعانة بالله على ذلك.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في الدعاء الذي استعاذ فيه صلى الله عليه وآله وسلم من جملة من الأخلاق السيئة، وهو: (اللهمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر. اللهمّ آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها. أنت وليّها ومولاها اللهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها) (1)
فهذا الدعاء ليس مجرد استعاذة من تلك الخلال السيئة فقط، وإنما هو تنبيه للنفس إلى كونها خلالا سيئة ينبغي الحذر والابتعاد عنها، وذلك ما يجعل النفس أكثر استعدادا لتلقي العلاجات التي تخلصها منها.
ومثل ذلك ما ورد في بعض أدعية الصباح والمساء، وهو (اللهمَّ فاطر السمواتِ والأرضِ، عالِمَ الغيب والشَّهادة، ربَّ كل شيءٍ ومليكَه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرِّ نفْسي، وشرِّ الشيطان وشركه) (2)
ومثله ما ورد في بعض دَعَوات المكروب، وهو (اللهم رحمتَك أرجو، فلا تَكِلْني إلى نفسي طَرْفَةَ عين، وأَصلِح لي شَأني كلَّه، لا إله إلا أنت) (3)
__________
(1) رواه مسلم.
(2) الترمذي (3389)
(3) أبو داود (5090)
مدارس النفس اللوامة (161)
ومثله ما ورد عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي: يا حُصَينُ، كم تَعبُد اليوم إلهًا؟ قال: سبعة: سِتَّة في الأرض، وواحدًا في السماء، قال: فأيهم تعدُّ لرهبتك ورغبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: يا حصينُ، أمَا إنك لو أسلمتَ عَلَّمْتُك كلمتين تنفَعَانِك، قال: فلما أسلم حُصين، جاء فقال: يا رسولَ الله، علِّمْني الكلمتين اللتين وعدتني، قال: (قل: اللهمَّ ألهِمني رُشدي، وأعِذْني من شرِّ نفسي) (1)
فمثل هذه الأدعية تنبه إلى شر النفس، وكونه لا يختلف عن شر الشيطان، وهو ما يدعو إلى الحذر من الغرور والعجب وكل الأمراض النفسية.
وهكذا نجد الأدعية الكثيرة التي تنبه إلى القيم الروحية، ومن ذلك ما ورد في دعاء النوم، والذي فيه الحقائق الدالة على التوكل وتفويض الأمور كلها لله: وهو (اللهمَّ أسلمتُ نَفْسي إليك، ووجَّهْتُ وجهي إليك، وفوَّضْتُ أمْري إليك، وألجأتُ ظَهْري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، وبنبيِّك الذي أرسلت، فإنك إن متَّ في ليلتك متَّ على الفطرة، وإن أصبحتَ أصبتَ خيرًا) (2)
ومثله الدعاء الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن داود عليه السلام كان يدعو به، وهو مرتبط بحب الله، وكل ما يثمره من محاب، وهو: (اللهم إني أسألك حبَّك، وحبَّ من يُحِبُّكَ، وحبَّ العمل الذي يبلِّغني حبَّك، اللهم اجعل حبَّك أحبَّ إليَّ من نفْسي وأهلي ومالي، ومن الماء البارد) (3)
وغيرها من الأدعية الكثيرة المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي تشكل مدرسة كاملة في التزكية والترقية.. ومثلها أدعية أئمة الهدى الكثيرة، ومن الأمثلة الواضحة عنها دعاء
__________
(1) الترمذي.
(2) البخاري، ومسلم.
(3) رواه الترمذي
مدارس النفس اللوامة (162)
مكارم الأخلاق، والممتلئ بكل القيم الأخلاقية الرفيعة.
فمن مقاطع الدعاء قوله بعد الصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين: (اكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غدا عنه، واستفرغ أيامي فيما خلقتني له، وأغنني وأوسع علي في رزقك، ولا تفتني بالنظر، وأعزني ولا تبتليني بالكبر، وعبدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب، وأجر للناس على يدي الخير ولا تمحقه بالمن، وهب لي معالي الأخلاق، واعصمني من الفخر) (1)
ويقول في مقطع آخر: (لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزا ظاهرا إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها)
ويقول: (متعني بهدى صالح لا أستبدل به، وطريقة حق لا أزيغ عنها، ونية رشد لا أشك فيها، وعمرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعا للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إلي، أو يستحكم غضبك علي)
ويقول: (اللهم لا تدع خصلة تعاب مني إلا أصلحتها، ولا عائبة أونب بها إلا حسنتها، ولا أكرومة في ناقصة إلا أتممتها)
ويقول: (أبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبة، ومن حسد أهل البغي المودة، ومن ظنة أهل الصلاح الثقة، ومن عداوة الأدنين الولاية، ومن عقوق ذوي الأرحام المبرة، ومن خذلان الأقربين النصرة، ومن حب المدارين تصحيح المقة، ومن رد الملابسين كرم العشرة، ومن مرارة خوف الظالمين حلاوة الأمنة)
__________
(1) الصحيفة السجادية، الدعاء 20.
مدارس النفس اللوامة (163)
ويقول: (سددني لأن أعارض من غشني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبر، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة)
ويقول: (حلني بحلية الصالحين، وألبسني زينة المتقين، في بسط العدل، وكظم الغيظ، وإطفاء النائرة، وضم أهل الفرقة، وإصلاح ذات البين، وإفشاء العارفة، وستر العائبة، ولين العريكة، وخفض الجناح، وحسن السيرة، وسكون الريح، وطيب المخالقة، والسبق إلى الفضيلة، وإيثار التفضل، وترك التعيير، والإفضال على غير المستحق، والقول بالحق وإن عز، واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي، واستكثار الشر وإن قل من قولي وفعلي، وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة، ولزوم الجماعة، ورفض أهل البدع، ومستعملي الرأي المخترع)
ويقول: (لا أظلمن وأنت مطيقٌ للدفع عني، ولا أظلمن وأنت القادر على القبض مني، ولا أضلن وقد أمكنتك هدايتي، ولا أفتقرن ومن عندك وسعي، ولا أطغين ومن عندك وجدي)
ويقول: (اللهم وأنطقني بالهدى، وألهمني التقوى، ووفقني للتي هي أزكى، واستعملني بما هو أرضى. اللهم اسلك بي الطريقة المثلى، واجعلني على ملتك أموت وأحيا.. ومتعني بالاقتصاد، واجعلني من أهل السداد، ومن أدلة الرشاد، ومن صالح العباد، وارزقني فوز المعاد، وسلامة المرصاد)
ويقول: (نبهني لذكرك في أوقات الغفلة، واستعملني بطاعتك في أيام المهلة، وانهج لي إلى محبتك سبيلا سهلة، أكمل لي بها خير الدنيا والآخرة)
وهكذا ترى ـ أيها المريد الصادق ـ هذا الدعاء وغيره مليئا بالمعاني الأخلاقية التي تنبه
مدارس النفس اللوامة (164)
النفس إلى ضرورة التزكية والإصلاح، فالدعاء ليس طلبا فقط، وإنما هو مدرسة تربوية متكاملة.
مدارس النفس اللوامة (165)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن التضرع والاستغاثة وعلاقتهما بالدعاء، وهل هما نفسه أم غيره، وعن آثارهما في التزكية والترقية، وعن سر ما ورد حولهما في النصوص المقدسة.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التضرع إلى الله والاستغاثة به، وإن كانا يتفقان مع الدعاء في كون كليهما مرتبطا بطلب الحاجات من الله إلا أن الفرق بينهما هو في كون الدعاء قد يكون بتضرع واستكانة وقد لا يكون كذلك.. فقد يكون الداعي غافلا لاهيا غير مضطر لحاجته، ولا ملحا في تحصيلها، ولذلك قد يكرر أنواع الأدعية التي يحفظها، أو يسمعها من غير أن يكون جادا ولا صادقا في طلبها.
أما التضرع؛ فهو تلك المسكنة التي يظهرها الداعي إلى الله، إما بسبب معرفته لله، أو بسبب حاجته الشديدة لما يطلبه، ولذلك يظهر كل أنواع المسكنة والمذلة لتحقيقها..
ولذلك يرتبط التضرع في القرآن الكريم بأنواع البلاء التي يصبها الله تعالى على عباده، لإخراجهم من كبرهم وغرورهم، ليستشعروا حاجتهم إلى الله، وفقرهم إليه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]
لكن فريقا من هؤلاء ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ ولقسوة قلوبهم، بل موتها، يؤثرون المعاناة والألم على التضرع إلى الله، كما قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]
وقال ـ جامعا بين الاستكانة والتذلل والتضرع ـ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]
مدارس النفس اللوامة (166)
ويذكر القرآن الكريم أن هناك فرقا أخرى من الناس، لا تبدي ذلك الصبر على المعاناة، مثلما فعل الفريق السابق، وإنما تتلون بتلون الأحوال؛ فإن أصابها البلاء تضرعت، وإن كشف عادت إلى طبيعتها، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63، 64]
ولهذا يدعو الله تعالى المؤمنين إلى ألا يكونوا أمثال هؤلاء الذين يعبدون الله على حرف، وإنما من أولئك الذين يتضرعون إلى الله في كل حين؛ فلا يكون دعاؤهم لله إلا تضرعا واستغاثة واستكانة، كما قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]
وهكذا يدعو إلى التضرع أثناء الذكر، قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]
وبذلك فإن التضرع ـ أيها المريد الصادق ـ لا يرتبط بالدعاء فقط، وإنما هو تلك الحال التي يظهر عليها العابد لله تعالى، سواء كان ذاكرا أو داعيا أو مصليا أو في أي حال من أحواله، وقد ورد في الصلاة قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (إنما أقبل الصلاة ممن يتواضع لعظمتي، ويكف نفسه عن الشهوات من أجلي، ويقطع نهاره بذكري ولا يتعظم على خلقي، ويطعم الجائع، ويكسو العاري، ويرحم المصاب، ويؤوي الغريب، فذلك يشرق نوره مثل الشمس، أجعل له في الظلمة نوراً، وفي الجهالة حلما، أكلأه بعزتي وأستحفظه ملائكتي، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، فمثل ذلك العبد عندي كمثل جنات الفردوس لا يسبق أثمارها، ولا تتغير عن حالها) (1)
__________
(1) رواه البزار (ص 65 - زوائده)
مدارس النفس اللوامة (167)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الصّلاة مثنى مثنى، تشهّد في كلّ ركعتين وتخشّع، وتضرّع، وتمسكن، وتذرّع (1) وتقنع (2) يديك ـ يقول: ترفعهما إلى ربّك مستقبلا ببطونهما وجهك ـ وتقول: يا ربّ يا ربّ! ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا) (3)
وقد اعتبر الإمام السجاد ذلك من حقوق الصلاة، فقال: (فأما حقوق الصلاة، فأن تعلم أنها وفادة إلى الله، وأنك فيها قائم بين يدي الله، فإذا علمت ذلك كنت خليقا أن تقوم فيها مقام العبد الذليل الراغب الراهب الخائف الراجي المستكين المتضرع المعظم مقام من يقوم بين يديه، بالسكون والوقار، وخشوع الاطراف، ولين الجناح، وحسن المناجاة له في نفسه والطلب إليه في فكاك رقبته التي أحاطت بها خطيئته، واستهلكتها ذنوبه، ولا قوة إلا بالله) (4)
وهكذا ورد في السنة العملية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى، فقد ورد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان (إذا قام إلى الصلاة يريد وجهه خوفا من الله تعالى، وكان لصدره أو لجوفه أزيز كأزيز المرجل)، وفي رواية: (كان إذا قام إلى الصلاة كأنه ثوب ملقى) (5)
وورد في صفة صلاة الإمام علي أنه (إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون، فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جاء وقت أمانة الله التي عرضها على السماوات والارض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان، فلا أدري احسن أداء ما حملت أم لا) (6)
وورد في صفة صلاة الإمام السجاد أنه كان (إذا قام في الصلاة كأنه ساق شجرة لا
__________
(1) تذرّع: تتوسل.
(2) تقنع: أي تمدّ يديك مسترحما ربك.
(3) الترمذي (385)، وابن ماجة (1325) وأحمد (1/ 211)
(4) بحار الأنوار (46/ 64)
(5) فلاح السائل ص 161.
(6) بحار الأنوار (46/ 64)
مدارس النفس اللوامة (168)
يتحرك منه شئ إلا ما حركت الريح منه) (1)
ووصف الإمام الباقر صلاة أبيه السجاد، فقال: (كان علي بن الحسين إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله وكان يصلي صلاة مودع يرى أن لا يصلي بعدها أبدا) (2)
وورد في صفة صلاة الإمامين الباقر والصادق أنهما كانا (إذا قاما إلى الصلاة تغيرت ألوانهما حمرة ومرة صفرة كأنما يناجيان شيئا يريانه) (3)
وهكذا وردت النصوص المقدسة الكثيرة الحاثة على التضرع في الدعاء، وعدم الاكتفاء بترديد الألفاظ الخالية من مشاعر التذلل والمسكنة، وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام: (يا عيسى!.. ادعني دعاء الغريق والحزين الذي ليس له مغيثٌ.. يا عيسى!.. أذلّ لي قلبك، وأكثر ذكري في الخلوات، واعلم أنّ سروري أن تبصبص إليّ، وكن في ذلك حيّاً ولا تكن ميّتاً، وأسمعني منك صوتاً حزيناً) (4)
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه) (5)
وعن الإمام الصادق أنه قال: (تقدّموا في الدعاء!.. فإنّ العبد إذا دعا فنزل به البلاء فدعا قيل: (صوتٌ معروفٌ، وإذا لم يكن دعا فنزل به البلاء فدعا قيل: (أين كنت قبل اليوم؟) (6)
__________
(1) فلاح السائل ص 161.
(2) الخصال ج 2 ص 100
(3) فلاح السائل ص 161.
(4) بحار الأنوار: 90/ 341، عن: عدة الداعي ص 97.
(5) رواه الترمذي، 3/ 164.
(6) بحار الأنوار: 90/ 339.
مدارس النفس اللوامة (169)
ومما ورد في أخبار بني إسرائيل التي يمكن اعتبارها والاعتبار بها أن موسى عليه السلام مر على قرية من قرى بني إسرائيل فنظر إلى أغنيائهم قد لبسوا المسوح، وجعلوا التراب على رؤوسهم وهم قيام على أرجلهم تجري دموعهم على خدودهم، فبكى رحمة لهم فقال: إلهي هؤلاء بنو إسرائيل حنوا إليك حنين الحمام وعووا عوى الذباب، ونبحوا نباح الكلاب، فأوحى الله إليه: ولم ذاك، لأن خزانتي قد نفدت؟ أم لأن ذات يدي قد قلت؟ أم لست أرحم الراحمين؟ ولكن أعلمهم أني عليم بذات الصدور، يدعونني وقلوبهم غائبة عني مائلة إلى الدنيا) (1)
وهكذا كانت السيرة العملية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وورثته، ممتلئة بكل معاني الخضوع والخشوع والتذلل لله، والتأمل فيها وحده كاف لتربية النفس على تلك المعاني العظيمة، وقد وصف ابن عبّاس بعض مواقفه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متبذّلا متواضعا متضرّعا، حتّى أتى المصلّى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في العيد) (2)
وفي الحديث أنه (لمّا كان يوم بدر، نظر النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيّف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم القبلة، ثمّ مدّ يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثمّ قال: (اللهمّ أين ما وعدتني، اللهمّ أنجز ما وعدتني، اللهمّ إنّك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا)، فما زال يستغيث ربّه عزّ وجلّ ويدعوه حتّى سقط رداؤه؛ فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّه، ثمّ التزمه من ورائه، ثمّ قال: يا نبيّ الله، كفاك مناشدتك ربّك، فإنّه سينجز لك ما وعدك) (3)
__________
(1) بحار الأنوار (93/ 319)
(2) الترمذي (558) وأبو داود (1165)، والنسائي (3/ 156) وابن ماجة (1266) وأحمد (1/ 230)
(3) أحمد (1/ 30 ـ 31) رقم (209)
مدارس النفس اللوامة (170)
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك التضرع والاستغاثة التي حصلت يوم بدر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من الصحابة، وذكر أنها سبب إغاثتهم من الله تعالى، فقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]
وهكذا عند تأملك ـ أيها المريد الصادق ـ لما ورد من الأدعية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى؛ فإنك تجدها مملوءة بكل صيغ التضرع والتذلل والمسكنة، ومن الأمثلة عليها تلك الشكوى التي شكا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قومه إلى ربه عندما قال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لكن لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) (1)
ومما ورد عن أئمة الهدى من ذلك قول الإمام الحسين في الدعاء المشهور الذي يستجير فيه بالله تعالى من شرور أعدائه: (اللهمّ يا عدّتي عند شدّتي، ويا غوثي عند كربتي، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك عليّ، فلا أهلك وأنت رجائي، اللهمّ إنّك أكبر وأجلّ وأقدر مما أخاف وأحذر. اللهمّ بك أدرأ في نحره، وأستعيذ من شرّه، إنّك على كل شيء قدير) (2)
وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ تأصيلا يعلمك كيفية التضرع والتذلل إلى الله في دعائك، فاعلم أنه مما ييسر لك ذلك أمران: شعورك بالافتقار والحاجة، ومعهما شعورك بتقصيرك وتفريطك في حق ربك، ومعهم جميعا علمك بعظمة الله تعالى وكماله وغناه
__________
(1) سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، (2/ 439)
(2) نور الأبصار: 146، وفيات الأعيان 2: 294
مدارس النفس اللوامة (171)
وقدرته على كل شيء.. فإن وفرت لنفسك هذين الركنين من أركان التضرع، خرجت عبادتك ودعاؤك من عالم الغفلة إلى عالم الحضور، ومن عالم الاستغناء إلى عالم الافتقار، والصدقات لا تعطى إلا للفقراء.
وقد أشار الله تعالى إلى كلا الركنين، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15)، وقال: {وَالله الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (محمد: 38)
وأشار إلى ضده، فقال: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6 ـ 7)، فقد أخبر تعالى بأن رؤية الإنسان لغناه، تجعله طاغية ظالما متعديا لحدوده.
وأشار إليهما الإمام الباقر بقوله: (غفر الله عز وجل لرجل من أهل البادية بكلمتين دعا بهما، قال: اللهم إن تعذبني فأهل ذلك أنا، وإن تغفر لي فأهل ذلك أنت، فغفر الله له) (1)
أما الأول ـ أيها المريد الصادق ـ فمرتبط بمعرفة حقيقتك، وأنك عبد لله تعالى، وأنه لولا فضل الله عليك لم تكن شيئا مذكورا، ولذلك لا تلتفت لأعمالك، ولا تحتجب بها، وإنما تلتفت إلى فضل ربك مع شعورك بالتقصير في حقه؛ فذلك الشعور قد يكون أعظم من الأعمال الصالحة نفسها، وقد روي أنّ عابداً عبد الله سبعين عاماً صائماً نهاره قائماً ليله، فطلب إلى الله حاجةً فلم تُقضَ، فأقبل على نفسه وقال: (من قبلك أُتيت، لو كان عندك خيرٌ قُضيت حاجتك، فأنزل الله إليه ملكاً فقال: (يا بن آدم!.. ساعتك التي أزريت فيها نفسك، خيرٌ من عبادتك التي مضت) (2)
وقد قال بعض الحكماء معبرا عن هذا المعنى: (معصية أورثت ذلّا وافتقارا، خير من طاعة أورثت عزّا واستكبارا)، وسر كون (المعصية التي توجب الانكسار أفضل من الطاعة
__________
(1) أمالى الصدوق ص 238.
(2) بحار الأنوار: 90/ 342، عن: عدة الداعي.
مدارس النفس اللوامة (172)
التي توجب الاستكبار لأن المقصود من الطاعة هو الخضوع والخشوع والانقياد والتذلل والانكسار، (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) فإذا خلت الطاعة من هذه المعاني واتصفت بأضدادها فالمعصية التي توجب هذه المعاني وتجلب هذه المحاسن أفضل منها، إذ لا عبرة بصورة الطاعة، ولا بصورة المعصية، وإنما العبرة بما ينتج عنهما، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم، وإنّما ينظر إلى قلوبكم) (1)، فثمرة الطاعة هي الذل والانكسار، وثمرة المعصية هي القسوة والاستكبار، فإذا انقلبت الثمرات انقلبت الحقائق فصارت الطاعة معصية، والمعصية طاعة) (2)
وقال آخر: (إنما مراد الله سبحانه من عباده قلوبهم، فإذا تكبر العالم أو العابد، وتواضع الجاهل والعاصي وذل هيبة لله عز وجلّ وخوفا منه فهو أطوع لله عز وجلّ من العالم والعابد بقلبه) (3)
ولهذا؛ تمتلئ أدعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى بهذه المعاني التي أساء فهمها المقصرون؛ فتوهموا أنهم يقرون بأخطائهم وذنوبهم مع أن مرادهم هو الاعتراف بالتقصير في حق الله، وهو لا يعني أبدا وقوع المعترف في التقصير.
وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60، 61]
وقد ورد في تفسير الآية أن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال: (لا، ولكن هم الذي يصومون ويصلون ويتصدقون، ويخافون أن لا يتقبل منهم {أُولَئِكَ
__________
(1) رواه مسلم (4/ 1986)
(2) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 237
(3) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 237، القائل هو المحاسبي.
مدارس النفس اللوامة (173)
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]) (1)
ومن الأمثلة على هذا قول الإمام الحسين في دعائه يوم عرفة، وقوله: (ثم أنا يا إلهى المعترف بذنوبي فاغفرها لي، أنا الذي أخطأت، أنا الذي أغفلت، أنا الذي جهلت، أنا الذي هممت، أنا الذي سهوت، أنا الذي اعتمدت، أنا الذى تعمدت، أنا الذي وعدت، أنا الذي أخلفت، أنا الذي نكثت، أنا الذي أقررت، إلهى أعترف بنعمتك عندي، وأبوء بذنوبي فاغفر لي يا من لا تضره ذنوب عباده، وهو الغني عن طاعتهم، والموفق من عمل منهم صالحا بمعونته ورحمته، فلك الحمد إلهى أمرتني فعصيتك، ونهيتني فارتكبت نهيك، فأصبحت لا ذا براءة فأعتذر، ولا ذا قوة فأنتصر، فبأي شئ أستقبلك يا مولاي، أبسمعى أم ببصري أم بلساني أم برجلي؟ أليس كلها نعمك عندي، وبكلها عصيتك يا مولاي، فلك الحجة والسبيل علي، يا من سترني من الاباء والامهات أن يزجروني، ومن العشائر والاخوان أن يعيروني، ومن السلاطين أن يعاقبوني ولو اطلعوا يا مولاي على ما اطلعت عليه مني، إذا ما أنظروني ولرفضوني وقطعوني) (2)
وقوله في القطعة المنسوبة إليه من دعاء عرفة: (إلهي منِّي ما يليق بلؤمي، ومنك ما يليق بكرمك. إلهي كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما آيستني أوصافي أطمعتني مننك. إلهي مَن كانت محاسنه مساوئ فكيف لا تكون مساوئه مساوئ، ومن كانت حقائقه دعاوى فكيف لا تكون دعاواه دعاوى) (3)
ومثله قوله في دعائه بالكعبة: (إلهي نعّمتني فلم تجدني شاكراً، وأبليتني فلم تجدني صابراً، فلا أنت سلبت النعمة لترك الشكر، ولا أدمت الشدة لترك الصبر، إلهي ما يكون
__________
(1) رواه الترمذي رقم (3174) وصححه الحاكم 2/ 394.
(2) البلد الأمين ص: 255.
(3) بحار الأنوار، 95/ 227.
مدارس النفس اللوامة (174)
من الكريم إلاّ الكرم) (1)
ومثل ذلك قول الإمام السجاد في دعاء أبي حمزة: (أنا يا رب الذي لم أستحيك في الخلاء ولم أراقبك في الملأ أنا صاحب الدواهي العظمى أنا الذي على سيده اجترا، أنا الذي عصيت جبار السما، أنا الذي أعطيت على معاصي الدليل الرُشى، أنا الذي حين بُشرت بها خرجت إليها أسعى، أنا الذي أمهلتني فما ارعويت وسترت عليَّ فما استحييت وعملت بالمعاصي فتعديت) (2)
وقوله فيه: (إلهي أنا عبدك الضعيف المذنب، ومملوكك المنيب المغيث فلا تجعلني ممن صرفت عنه وجهك، وحجبه سهوه عن عفوك، إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر ابصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق ابصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة، وتصير ارواحنا معلقة بعز قدسك.. إلهي واجعلني ممن ناديته فأجابك، ولاحظته فصعق بجلالك، فناجيته سرا، وعمل لك جهرا، إلهي لم أسلط على حسن ظني قنوط الإياس، ولا انقطع رجائي من جميل كرمك، إلهي إن كانت الخطايا قد اسقطتني لديك، فاصفح عني بحسن توكلي عليك، إلهى إن حطتنى الذنوب من مكارم لطفك، فقد نبهني اليقين إلى كرم عطفك، إلهى إن أنامتني الغفلة عن الاستعداد للقائك، فقد نبهتني المعرفة بكرم آلائك، إلهى إن دعانى إلى النار عظيم عقابك فقد دعانى إلى الجنة جزيل ثوابك) (3)
ومثل ذلك قوله في دعاء [التذلل لله عز وجل]: (رب أفحمتني ذنوبي، وانقطعت مقالتي، فلا حجة لي، فأنا الأسير ببليتي، المرتهن بعملي، المتردد في خطيئتي، المتحير عن قصدي، المنقطع بي، قد أوقفت نفسي موقف الأذلاء المذنبين، موقف الأشقياء المتجرئين
__________
(1) إحقاق الحقّ، السيّد نور الله التستريّ، 11/ 595.
(2) البلد الأمين ص: 209.
(3) بحار الأنوار (94/ 99)
مدارس النفس اللوامة (175)
عليك، المستخفين بوعدك.. سبحانك أي جرأة اجترأت عليك، وأي تغرير غررت بنفسي.. مولاي ارحم كبوتي لحر وجهي وزلة قدمي، وعد بحلمك على جهلي، وبإحسانك على إساءتي، فأنا المقر بذنبي، المعترف بخطيئتي، وهذه يدي وناصيتي أستكين بالقود من نفسي، ارحم شيبتي، ونفاد أيامي، واقتراب أجلي، وضعفي ومسكنتي، وقلة حيلتي.. مولاي وارحمني إذا انقطع من الدنيا أثري، وامحى من المخلوقين ذكري، وكنت من المنسيين كمن قد نسي.. مولاي وارحمني عند تغير صورتي وحالي، إذا بلي جسمي، وتفرقت أعضائي، وتقطعت أوصالي، يا غفلتي عما يراد بي مولاي وارحمني في حشري ونشري، واجعل في ذلك اليوم مع أوليائك موقفي، وفي أحبائك مصدري، وفي جوارك مسكني يا رب العالمين) (1)
فردد ـ أيها المريد الصادق ـ هذه الأدعية وغيرها بحضور قلب؛ فلا شك أنها ستؤثر فيك أيما تأثير؛ فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى لم يقصدوا أن يدعو بها لأنفسهم فقط، وإنما قصدوا أن يربوا بها الأمة، ويعلموها كيف تتضرع إلى ربها وتستكين له، حتى تخرج عبوديتها من حجب الغفلة إلى رياض اليقظة، ومن دركات النفس الأمارة إلى درجات النفس المطمئنة.
أما الركن الثاني من أركان التضرع إلى الله؛ فشعورك ـ أيها المريد الصادق ـ بعظمة ربك واستغنائه عنك وعن كل خلقه، وأنك أنت الذي تحتاج إليه في كل شيء، ولذلك فإن المنة له وحده، وهو ما يحميك من كل الأمراض التي يسببها الاستغناء عن الله بسبب الاستغناء بالنفس.
__________
(1) الصحيفة السجادية.
مدارس النفس اللوامة (176)
وقد أشار الله تعالى إلى هذا الركن، وعلاقته بالركن السابق في قوله في دعاء يونس عليه السلام: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، فقد تضمن هذا الدعاء كلا المعنيين: توحيد الله وتنزيهه الدالين على عظمته وغناه، كما تضمن الاعتراف بالتقصير والعجز والحاجة.
ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم في فضل ذلك الدعاء: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له) (1)
ولذلك تمتلئ أدعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وورثته من بعده بذكر كمال الله وعظمته إلى جانب الاعتراف بالحاجة والضعف والقصور، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم وأنه كان يقول: (يا حي، يا قيوم، برحمتك أستغيث الله، الله، الله، لا شريك لك شيئا يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، ويا كاشف كرب المؤمنين، ويا أرحم الراحمين، اكشف كربي وغمي فإنه لا يكشفه إلا أنت تعلم حالي وحاجتي) (2)
وكان يقول: (اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت) (3)
وغيرها من الأدعية الكثيرة، قد أشار الإمام علي إلى هذا الركن، وارتباطه بالركن السابق، وذلك أثناء تعليمه لبعض أصحابه لكيفية التضرع إلى الله تعالى، فقد روي عن نوف البكالي أنه قال للإمام علي: يا أمير المؤمنين إني خائف على نفسي من الشره، والتطلع إلى
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
(3) رواه أبو داود.
مدارس النفس اللوامة (177)
طمع من أطماع الدنيا)، فقال له الإمام: (وأين أنت عن عصمة الخائفين، وكهف العارفين؟)، فقلت: دلني عليه، قال: (الله العلي العظيم تصل أملك بحسن تفضله، وتقبل عليه بهمك، واعرض عن النازلة في قلبك، فإن أجلك بها فأنا الضامن من موردها، وانقطع إلى الله سبحانه فإنه يقول: (وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل من يؤمل غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة في الناس، ولأبعدنه من قربي، ولأقطعنه عن وصلي، ولأخملن ذكره حين يرعى غيري، أيؤمل ويله لشدائده غيري، وكشف الشدائد بيدي، ويرجو سواي وأنا الحي الباقي، ويطرق أبواب عبادي وهي مغلقة ويترك بأبي وهو مفتوح، فمن ذا الذي رجاني لكثير جرمه فخيبت رجاءه؟ جعلت آمال عبادي متصلة بي، وجعلت رجاءهم مذخورا لهم عندي، وملأت سمواتي ممن لا يمل تسبيحي، وأمرت ملائكتي أن لا يغلقوا الابواب بيني وبين عبادي، ألم يعلم من فدحته نائبة من نوائبي أن لا يملك احد كشفها إلا باذني، فلم يعرض العبد بأمله عني، وقد أعطيته ما لم يسألني، فلم يسألني وسأل غيري، أفتراني ابتدئ خلقي من غير مسألة، ثم أسأل فلا أجيب سائلي؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي أو ليس الدنيا والآخرة لي؟ أو ليس الكرم والجود صفتي؟ أو ليس الفضل والرحمة بيدي؟ أو ليس الآمال لا ينتهي إلا إلي؟ فمن يقطعها دوني؟ وما عسى أن يؤمل المؤملون من سواي.. وعزتي وجلالي لو جمعت آمال أهل الارض والسماء ثم أعطيت كل واحد منهم، ما نقص من ملكي بعض عضو الذرة، وكيف ينقص نائل أنا افضته، يا بوسا للقانطين من رحمتي، يا بؤسا لمن عصاني وتوثب على محامي، ولم يراقبني واجترأ علي)
ثم قال: يا نوف ادع بهذا الدعاء: (إلهي إن حمدتك فبمواهبك، وإن مجدتك فبمرادك، وإن قدستك فبقوتك وإن هللتك فبقدرتك، وإن نظرت فإلى رحمتك، وإن عضضت فعلى نعمتك.. إلهي ما أوحش طريقا لا يكون رفيقي فيه أملي فيك، وأبعد سفرا لا يكون رجائي
مدارس النفس اللوامة (178)
منه دليلي منك، خاب من اعتصم بحبل غيرك، وضعف ركن من استند إلى غير ركنك، فيا معلم مؤمليه الأمل فيذهب عنهم كآبة الوجل، ولا ترمني صالح العمل، واكلاني كلاءة من فارقته الحيل، فكيف يلحق مؤمليك ذل الفقر وأنت الغني عن مضار المذنبين، إلهي وإن كل حلاوة منقطعة، وحلاوة الايمان تزداد حلاوتها اتصالا بك، إلهي وإن قلبي قد بسط أمله فيك، فأذقه من حلاوة بسطك إياه البلوغ لما أمل، إنك على كل شئ قدير.. إلهي أسئلك مسألة من يعرفك كنه معرفتك من كل خير ينبغي للمؤمن أن يسلكه، وأعوذ بك من كل شر وفتنة أعذت بها أحباءك من خلقك، إنك على كل شئ قدير..) (1)
إلى آخر الدعاء الطويل، الممتلئ بكل المعاني التي تعلمك ـ أيها المريد الصادق ـ كيفية التضرع والتذلل والاستغاثة بالله، ومثله ما روي عن الإمام السجاد، فقد حدث طاووس اليماني، قال: مررت بالحجر فاذا أنا بشخص راكع وساجد، فتأملته فاذا هو علي بن الحسين، فقلت: يا نفس رجل صالح من أهل بيت النبوة، والله لأغتنمن دعاءه، فجعلت أرقبه حتى فرغ من صلاته، ورفع باطن كفيه إلى السماء وجعل يقول: سيدي سيدي هذه يداي قد مددتهما إليك بالذنوب مملوءة، وعيناي بالرجاء ممدودة، وحق لمن دعاك بالندم تذللا أن تجيبه بالكرم تفضلا، سيدي أمن أهل الشقاء خلقتني فأطيل بكائي أم من أهل السعادة خلقتني فابشر رجائي.. سيدي لو أن عذابي مما يزيد في ملكك لسألتك الصبر عليه غير أني أعلم أنه لا يزيد في ملكك طاعة المطيعين، ولا ينقص منه معصية العاصين، سيدي ما أنا وماخطري؟ هب لي بفضلك، وجللني بسترك، واعف عن توبيخي بكرم وجهك، إلهي وسيدي ارحمني مصروعا على الفراش تقلبني أيدي أحبتي، وارحمني مطروحا على المغتسل يغسلني صالح جيرتي، وارحمني محمولا قد تناول الاقرباء اطراف جنازتي، وارحم في ذلك
__________
(1) بحار الأنوار (94/ 95)
مدارس النفس اللوامة (179)
البيت المظلم وحشتي وغربتي ووحدتي)
قال طاووس: فبكيت حتى علا نحيبي، والتفت إلي فقال: ما يبكيك يا يماني؟ أو ليس هذا مقام المذنبين؟ فقلت: حبيبي حقيق على الله أن لا يردك، وجدك محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ فبينا نحن كذلك إذ أقبل نفر من أصحابه فالتفت إليهم فقال: معاشر اصحابي! وأوصيكم بالآخرة، ولست أوصيكم بالدنيا، فإنكم بها مستوصون، وعليها حريصون، وبها مستمسكون، معاشر أصحابي إن الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا يخفى عليه أسراركم وأخرجوا من الدنيا قلوبكم، قبل أن تخرج منها أبدانكم، أما رأيتم وسمعتم ما استدرج به من كان قبلكم من الامم السالفة، والقرون الماضية، ألم تروا كيف فضح مستورهم، وأمطر مواطر الهوان عليهم، بتبديل سرورهم، بعد خفض عيشهم ولين رفاهيتهم، صاروا حصائد النقم ومدارج المثلات، اقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم) (1)
ومن أدعيته في هذا قوله: (إلهي وعزتك وجلالك وعظمتك، لو أني منذ بدعت فطرتي من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك بكل شعرة في كل طرفة عين سرمد الابد بحمد الخلائق وشكرهم أجمعين لكنت مقصرا في بلوغ أداء شكر أخفى نعمة من نعمتك علي، ولو أني كربت معادن حديد الدنيا بأنيابي، وحرمت أرضيها بأشفار عيني وبكيت من خشيتك مثل بحور السماوات والارضين دما وصديدا، لكان ذلك قليلا في كثير ما يجب من حقك علي، ولو أنك إلهي عذبتني بعد ذلك بعذاب الخلائق أجمعين، وعظمت للنار خلقي وجسمي، وملأت جهنم وأطباقها مني، حتى لا تكون في النار معذب غيري، ولا يكون لجهنم حطب سواي، لكان ذلك بعدلك علي قليلا في كثير ما استوجبته من
__________
(1) بحار الأنوار (94/ 89)
مدارس النفس اللوامة (180)
عقوبتك) (1)
وغيرها من الأدعية الكثيرة؛ فاحرص ـ أيها المريد الصادق ـ على التزامها، والتأدب بآدابها؛ فهي من هدي نبيك صلى الله عليه وآله وسلم وورثته الصادقين الذين لم يغيروا أو يبدلوا، وإياك أن تلتفت لأولئك المشككين في أسانيدها؛ فما ينفعك التشكيك، وما يضرك عدم صحتها عنهم، وكل معانيها مما ورد به القرآن الكريم، ووردت به الروايات المتظافرة عنهم.
__________
(1) أمالى الصدوق ص 180.
مدارس النفس اللوامة (181)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الافتقار والاضطرار اللذين يتحدث عنهما علماء التربية والتزكية كثيرا، ويعتبرون أنهما من المناهج التي لا يمكن لأحد أن يتخلص من رعونات نفسه، أو يصل إلى الله من دونها، ولذلك يلقبون السالك بالفقير إلى الله؛ فلا يكتفون بكونه مريدا لله، حتى يضموا إليها افتقاره إلى الله.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن هذا المعنى ليس من إبداع علماء التزكية والترقية، ولا من المناهج التي سنوها لأنفسهم، وإنما هو منهج قرآني لا يمكن لمن يريد السير إلى الله إلا أن ينتهجه؛ فلا يمكن أن يكون السالك مريدا لله، ما لم يشعر بفاقته وفقره إلى الله.. فالفقر هو الذي يولد الإرادة، وينهض الهمة، وهو الذي يجعل السالك في حركة دؤوبة لطلب الكمال؛ فإن شعر بالكفاية، واستغنى، توقف سيره، وتوقفت حركته، وتوقف معهما كماله.
وحين يتوقف الكمال يبدأ النقص، ويبدأ معه الانحدار، والنزول إلى أسفل سافلين، ذلك أنه لا ثبات في الكون، بل كل ما في الكون بين حالين إما الصعود، وإما النزول، ومن توقف عن الصعود، فسيجد نفسه نازلا، شعر أو لم يشعر.
وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، فهي تشير إلى أن قانون الصدقات واحد؛ فكما أنه لا يعطى من مواهب الدنيا إلى من أظهر فقره وحاجته، فكذلك مواهب الآخرة وكمالاتها لا تعطى إلا لمن أبدى ذلك.
ولا يتوقف ذلك على مواهب الآخرة، بل إن الله تعالى أخبر أن مواهب الدنيا مرتبطة بالشعور بالافتقار، كما قال تعالى عن قانون النصر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]
مدارس النفس اللوامة (182)
وقال في التمكين والتعزيز وتكثير السواد: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]
وفي المقابل ذكر قانون الاستغناء وسننه الحاكمة فيه، فقال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]
ولذلك اتفق الحكماء على أن (الأشياء كامنة في أضدادها؛ فالعز كامن في الذل، والغنى في الفقر، والقوة في الضعف، والعلم في الجهل) (1)
بل إن الله تعالى أشار إلى ذلك، وصرح به، فقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)} [القصص: 5]
وأشار إلى ذلك في قوله ـ عند الحديث عن قوانين الفرج الإلهي ـ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]، والذي فسره صلى الله عليه وآله وسلم بقوله لابن عباس: (واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العسر يسرا) (2)
وقد اتفق الحكماء على أنه كلما اتصف العبد بأوصافه، كلما من الله تعالى عليه بما هو أهله من الكرم والجود والفضل.. وقد قال بعضهم في ذلك: (تحقّق بأوصافك يمدّك بأوصافه، وتحقّق بذلّك يمدّك بعزّته، وتحقق بعجزك يمدّك بقدرته، وتحقق بضعفك يمدك بحوله وقوّته)
وقال آخر: (من أراد أن يمده الله بالعز الذي لا يفنى فليتحقق بالذل لله والتواضع بين خلقه، فمن تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره، ومن أراد أن يمده الله بالقدرة الخارقة للعوائد فليتحقق بعجزه، ويتبرأ من حوله وقوته، ومن أراد أن يمده الله بالقوة على طاعة
__________
(1) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 245.
(2) رواه الطبراني في الكبير (11/ 123)، والحاكم في المستدرك (3/ 624)، والبيهقي في الشعب (2/ 28)
مدارس النفس اللوامة (183)
مولاه ومجاهدة نفسه وهواه فليتحقق بضعفه، ويسند أمره إلى سيده، فبقدر ما تعطي تأخذ، وبقدر ما تتخلق تتحقق، وبقدر ما تتحقق بوصفك يمدك بوصفه) (1)
وقد قال الشاعر معبرا عن ذلك:
تحقق بوصف الفقر في كل لحظة... فما أسرع الغنى إذا صحح الفقر
وإن تردن بسط المواهب عاجلا... ففي فاقة ريح المواهب ينشر
وإن تردن عزّا منيعا مؤيدا... ففي الذل يخفى العز بل ثم يظهر
وإن تردن رفعا لقدرك عاليا... ففي وضعك النفس الدنية يحضر
زإن تردن العرفان فافن عن الورى... وعن كل مطلوب سوى الحقّ تظفر
ترى الحق في الأشياء حين تلطّفت... ففي كل موجود حبيبي ظاهر
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الافتقار والاضطرار، وإن كانا يشتركان في الحاجة والضعف والقصور، إلا أنهما يختلفان في المدى الذي يكون فيه ذلك.
أما الفقر؛ فهو يعني الحاجة، ولو كانت محدودة ضعيفة قاصرة، كالحاجة إلى الكمالات التي لا يضر غيابها، وأما الاضطرار؛ فمقصور على الحاجات الضرورية التي يؤدي افتقادها إلى ضرر كبير.
وإلى المعنيين الإشارة بما حصل لموسى عليه السلام عند ذهابه المدين، وافتقاره للطعام، وعند فراره من فرعون، وملاقاته للبحر، وقد لجأ في كلا الحالين إلى الله، فقال في حال افتقاره: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، وقال في حال اضطراره: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن للتحقق بكلا المعنيين وسائل عليك
__________
(1) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 377.
مدارس النفس اللوامة (184)
مراعاتها، ومعارف عليك إقناع نفسك بها؛ فالمشاعر والمواجيد لا يمكن فرضها على النفس من غير أن تقتنع بها، وتسلك السبل المؤدية لها.
أما الافتقار ـ أيها المريد الصادق ـ والذي يعني شعورك بالحاجة الدائمة إلى الله، وفي الصغير والكبير، فكل الحقائق تدل عليه؛ ذلك أن الفقر هو سمة الكون جميعا.. أما الغني الوحيد في هذا العالم فهو الله تعالى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15)
والعقل ـ كالنقل ـ يقول بذلك، فالفقر في حقيقته هو الحاجة، وهي ليست مختصرة فيما اصطلح عليه الناس من أصناف الحاجات، بل هي كل شيء وهبه الله تعالى لعباده ابتداء من وجودهم، وانتهاء بالأرزاق التي تفاض عليهم في كل حين.
وبما أن في الإنسان من الحاجات بحسب عدد خلاياه.. بل بحسب عدد الذرات التي يتشكل منها بنيانه، فإن فيه لذلك من الفقر بحسب عدد تلك الذرات.. ذلك أن في كل ذرة حاجة من الحاجات.. وفاقة تستدعي أن تسد (1).
وغفلة الإنسان هي التي تجعله يتصور أنه مستغن، مع أن أي مصيبة تحل به قد تذكره بفقره الشديد، وحاجته الدائمة، وقد روي في المواعظ أن حكيما دخل على بعض الملوك، وبيده كوز ماء يشربه، فقال له: (عظنى) فقال: (لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشان، فهل كنت تعطيه؟ قال: نعم فقال: (لو لم تعط إلا بملكك كله، فهل كنت تتركه؟ قال: نعم قال: (فلا تفرح بملك لا يساوى شربة ماء)
ولذلك يعلمنا ربنا أن نعدد نعمه علينا، لنشعر بفقرنا وفاقتنا إليه، قال تعالى: {وَإِنْ
__________
(1) ذكرنا ذلك بتفصيل، وعلى شكل حوار في كتاب: كنوز الفقراء (ص: 250)
مدارس النفس اللوامة (185)
تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (ابراهيم: 34)، وفي الحديث القدسي قال تعالى: (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم) (1)
وهو يبين أن سبب الغفلة عن تلك النعم هو الشعور بكونها ذاتية لنا، لا هبة من الله إلينا؛ فيقول: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 53، 54]
لذلك كان الافتقار هو الشعور المعبر عن الحقيقة الواقعية.. والمفتقر مثل ذلك الذي ينام على سرير المرض، وقد ركبت له كل الأجهزة التي تمده بالحياة، ولو قطع عنه واحد منها لمات.. فهل يمكن لذلك المريض أن يستعلي أو يتصور أن بإمكانه الاستغناء عن تلك الأجهزة، أم أنه يشعر أنها سبب حياته وبقائه، ويشعر بفضل الأطباء عليه بسبب إغاثتهم له بها.
ولذلك كان الافتقار مدرسة تربوية وأخلاقية عظيمة، لا تربطك بالله فقط، وإنما تحسن علاقتك مع خلقه، وتجعلك أكثر أدبا معهم، ذلك أن أصل العدوان الذي يمارسه المعتدون نابع من شعورهم الزائد بذواتهم، واستكبارهم بها، ولو علموا فاقتهم وحاجتهم، وأن كل شيء يملكونه هبة من الله لهم، لاستحيوا من أنفسهم، وتأدبوا مع الخلق.
وحتى تيسر على نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ استشعار هذه المعاني، والتأدب بآدابها؛ فعليك بالقرآن الكريم، فقراءته وتدبره تجعلك تشعر بفقرك وحاجتك إلى الله، وفي كل نفس من أنفاسك.. ذلك أن كل شيء بيد الله، ولو قطع الله عنك مدد لطفه وفضله في أي لحظة من اللحظات لعانيت كل ألوان العناء التي لا يخرجك منها إلا جوده وإغاثته وفضله.
__________
(1) رواه مسلم.
مدارس النفس اللوامة (186)
ومثله عليك بأنوار النبوة والولاية؛ فاستمسك بها، وردد ما ورد عنها من أنواع الأدعية التي تشعرك بفقرك وحاجتك إلى الله، وفي كل الأحوال والأوقات، حتى تلك التي تتوهم فيها غناك، كما يروى في دعاء يوم عرفة: (إلهي، أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرا في فقري؟! إلهي، أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولا في جهلي؟!) (1)
ومن تلك الأدعية وأكثرها جمعا للمعاني التي تربي فيك ـ أيها المريد الصادق ـ معاني الافتقار إلى الله ما ورد في مناجاة المفتقرين، والتي يقول فيها الإمام السجاد: (إلهي كسري لا يجبره إلا لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلا عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكنها إلا أمانك، وذلتي لا يعزها إلا سلطانك، وأمنيتي لا يبلغنيها إلا فضلك، وخلتي لا يسدها إلا طولك، وحاجتي لا يقضيها غيرك، وكربي لا يفرجها سوى رحمتك، وضري لا يكشفه غير رأفتك وغلتي لا يبردها إلا وصلك، ولوعتي لا يطفئها إلا لقاؤك، وشوقي إليك لا يبله إلا النظر إلى وجهك، وقراري لا يقر دون دنوي منك، ولهفتي لا يردها إلا روحك، وسقمي لا يشفيه إلا طبك، وغمي لا يزيله إلا قربك، وجرحي لا يبرئه إلا صفحك، ورين قلبي لا يجلوه إلا عفوك، ووسواس صدري لا يزيحه إلا أمرك)
وبعد أن يذكر نفسه بهذه الحقائق العظيمة، يمد يده بالسؤال إلى الله، ذاكرا صفاته التي تغني المفتقرين، وتسد كل حاجاتهم قائلا: (فيا منتهى أمل الآملين، ويا غاية سؤل السائلين، ويا اقصى طلبة الطالبين ويا أعلى رغبة الراغبين، ويا ولي الصالحين، ويا أمان الخائفين، ويا مجيب المضطرين، ويا ذخر المعدمين، ويا كنز البائسين، ويا غياث المستغيثين، ويا قاضي حوائج الفقراء والمساكين، ويا أكرم الاكرمين، ويا ارحم الراحمين، لك تخضعي
__________
(1) هذه المناجاة مروية عن الإمام الحسين، وعن ابن عطاء الله السكندري.. ولا حاجة للتحقيق في الأصح منهما، لأن المعاني الواردة فيها معان ورد مثلها عن أهل البيت.. والعبرة بالمعاني لا بكسوة الألفاظ.
مدارس النفس اللوامة (187)
وسؤالي، وإليك تضرعي وابتهالي. أسألك أن تنيلني من روح رضوانك وتديم علي نعم امتنانك، وها أنا بباب كرمك واقف، ولنفحات برك متعرض وبحبلك الشديد معتصم، وبعروتك الوثقى متمسك، إلهى ارحم عبدك الذليل ذا اللسان الكليل، والعمل القليل، وامنن عليه بطولك الجزيل، واكنفه تحت ظلك الظليل، يا كريم يا جميل يا ارحم الراحمين) (1)
وهكذا تجد الأدعية الكثيرة في مدرسة النبوة والولاية، والتي يكفيك التأمل فيها، والتزامها، والشعور بمعانيها، في أن تستشعر فقرك وحاجتك إلى الله، حتى يصير ذلك ملكة في نفسك، لا يمكن لأي غنى يصيبك أن يسلبها منك.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الاضطرار هو تلك الحالات الشديدة التي يمر بها الإنسان، والتي قد يبتليه الله بها ليعلم فقره وحاجته، ويخرجه من الغفلة التي تجعله يتوهم أنه مالك للنعم، وليس مستفيدا منها.
ولذلك، لا تتوهم أن الغرض مما ينزل من البلاء على الخلق ـ حتى لو كانوا كفارا ـ عقوبة أو انتقاما، وإنما هو في حقيقته تأديب وتربية وتنبيه إلهي، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94]
ولهذا اعتبر الله تعالى إجابته المضطرين من دلائل توحيده، فقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ الله قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]
وهكذا ذكر الله تعالى دور الضرورة والاضطرار في التربية والهداية، فقد ذكر في قصة
__________
(1) بحار الأنوار (94/ 149)
مدارس النفس اللوامة (188)
صاحب الجنتين الفرق الكبير بين حال الغنى الذي كان عليه، وحال الفقر الذي آل إليه، فقال ـ عن الحال الأول ـ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 35، 36]
وقال عن الحال الثاني بعد أن {أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42] أنه صار يردد: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 42]
ومثل ذلك ذكر عن أصحاب الجنة، الذين {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17، 18]، و{انْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 23 - 25]
لكن بعد أن {رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم: 26 - 32]
وهكذا كان لذلك البلاء دوره الكبير في تنبيههم وتوجيههم وتربيتهم، ولذلك ذكر بعضهم أن السبب الذي حمل فرعون على قوله: {أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى} (النازعات:24) طول العافية والغنى، ذلك أنه لبث مدة طويلة لم يتصدع رأسه، ولم يضرب عليه عرق، ولو أخذته الشقيقة ساعة واحدة لشغله ذلك عن دعوى الربوبية.
ولهذا كان من رحمة الله بعباده إنزاله العافية بعد البلاء، ذلك أنه لا يستشعر قيمة العافية من لم يذق خطر البلاء، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى:28)، وقال: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ
مدارس النفس اللوامة (189)
قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} (الروم:49)، وقال: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)
ولهذا، فإن المتوسمين من عباد الله يستدلون بوجود الفاقات على قرب الصدقات، لأن الفاقة تحقق صاحبها بالافتقار والاضطرار، وهما يؤهلان صاحبهما لكل ألوان الفضل الإلهي.
ولهذا يعتبرون أفعال الله تعالى فيهم وفي غيرهم رسائل رحمة ومودة.. ولا يفهمون من تلك البلايا التي تصيبهم إلا أنها حروف من الله تشهدهم وجود فاقتهم، وتشعرهم بحقيقتهم، لتشغلهم بالله عن أنفسهم.
لقد أشار بعضهم إلى هذا فقال: (خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك، وترد فيه إلى وجود ذِلتك)
وأشار إليه في حكمة أخرى بقوله: (فاقتك لك ذاتية، وورود الأسباب مذكرات لك بما خفي عليك منها، والفاقة الذاتية لا ترفعها العوارض)
وأشار آخر إلى ذلك، فقال ـ متحدثا عن حكم الأمراض والمصائب ـ: (دار الدنيا هذه ما هي إلّا ميدانُ اختبار وابتلاء، وهي دارُ عمل ومحل عبادة، وليست محلَّ تمتّع وتلذذ ولا مكان تسلّم الأجرة ونيل الثواب.. فمادامت الدنيا دارَ عمل ومحلَّ عبادة، فالأمراضُ والمصائب عدا الدينية منها وبشرط الصبر عليها تكون ملائمةً جداً مع ذلك العمل، بل منسجمةً تماماً مع تلك العبادة، حيث إنها تمد العملَ بقوة وتشدّ من أزر العبادة، فلا يجوز التشكّي منها، بل يجب التحلي بالشكر لله بها، حيث إن تلك الأمراضَ والنوائب تحوّل كلَّ ساعة من حياة المصاب عبادةً ليوم كامل) (1)
__________
(1) اللمعات لبديع الزمان النورسي، ص 13.
مدارس النفس اللوامة (190)
ثم ذكر أن العبادة قسمان: قسم إيجابي، وقسم سلبي.. أما الأول فهو تلك الشعائر التعبدية المعروفة، وأما الثاني، (فإن البلايا والضر والأمراض تجعل صاحبَها يشعر بعَجزه وضَعفه، فيلتجئ إلى ربه الرحيم، ويتوجّه إليه ويلوذ به، فيؤدي بهذا عبادة خالصة.. هذه العبادة خالصةٌ زكيّةٌ لا يدخل فيها الرياءُ قط.. فإذا ما تجمّل المصابُ بالصبر وفكّر في ثواب ضرّه عند الله وجميلِ أجره عنده، وشكَر ربَّه عليها، تحولت عندئذ كلُّ ساعة من ساعات عمره كأنها يومٌ من العبادة، فيغدو عمرُه القصير جداً مديداً طويلاً، بل تتحول عند بعضهم كلُّ دقيقة من دقائق عمره بمثابة يوم من العبادة)
ثم ذكر حاله مع بعض أصحابه، فقال: (لقد كنتُ أقلق كثيراً على ما أصاب أحد إخوتي في الآخرة وهو (الحافظ احمد المهاجر) بمرض خطير، فخطر إلى القلب ما يأتي: (بشّره، هنّئه، فإن كلَّ دقيقة من دقائق عمره تمضي كأنها يومٌ من العبادة) (1)
ومما يروى في هذا المعنى أن بعضهم كان يطوف حول الكعبة، ويقول:
مؤتزر بشملتي كما ترى... وصبية باكية كما ترى
وامرأتي عريانة كما ترى... يا من يرى الذي بنا ولا يرى
أما ترى ما حل أما ترى
فسمعه بعضهم، فجمع له كسرا ودفعها إليه، فقال له: إليك عني لو كان معي شي ء لما أمكنني أن أقول هذا القول.
ولهذا يعتبر الصالحون الفاقات أعيادا لهم، وقد قال بعضهم في ذلك:
قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه... فقلت خلعة ساق حبه جرعا
فقر صبرهما ثوباي تحتهما... قلب يرى ألفه الأعياد والجمعا
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به... يوم التزاور في الثوب الذي خلعا
وقال آخر:
قالت هنا العيد بالبشرى فقلت لها... العيد والبشر عندي يوم لقياك
الله يعلم أن الناس قد فرحوا... فيه وما فرحتي إلا برؤياك
ومما يعينك على استشعار هذه المعاني ـ أيها المريد الصادق ـ ترديدك لما ورد من الأدعية المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وورثته من أئمة الهدى، فكلها ممتلئة بألوان الاستغاثة والافتقار والاضطرار إلى الله.
ومنها ما روي عن بعضهم أنه كان يقول في بداية دعائه: (يا الله يا الله يا الله، يا مجيب دعوة المضطرين، يا كاشف كرب المكروبين، يا غياث المستغيثين، ويا صريخ المستصرخين، يامن هو أقرب إلى من حبل الوريد ويا من يحول بين المرء وقلبه، يامن هو بالمنظر الاعلى، وبالأفق المبين، ويامن هو الرحمن الرحيم، ويا من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.. ويامن لا تخفى عليه خافيه، ويامن لا تشتبه عليه الاصوات، ويامن لا تغلطه الحاجات، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحين، يا مدرك كل فوت، ويا جامع كل شمل، ويا بارئ النفوس بعد الموت.. يا من هو كل يوم في شان، يا قاضي الحاجات، يا منفس الكربات، يا معطى السؤالات، يا ولي الرغبات، يا كافي المهمات. يامن يكفى من كل شئ ولا يكفى منه شئ في السموات والأرض) (2)
ثم يبدأ دعاءه بعدها، وهذا هو الأدب الرفيع مع الله؛ فالعاقل هو الذي يجعل من دعائه وسيلة تقربه إلى ربه، وتملؤه روحانية وسموا، وليس ذلك الذي يستعجل حاجته، ويكتفي بذكرها، من دون أن يجعل من حاجته وضرورته وفاقته وسيلة يطهر بها نفسه،
__________
(1) اللمعات لبديع الزمان النورسي، ص 13.
(2) بحار الأنوار (101/ 296)
مدارس النفس اللوامة (191)
ويزكي بها روحه، ويرتقي بها إلى سموات الحقائق التي هي أعظم من كل الحاجات التي يطلبها.
مدارس النفس اللوامة (192)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الإنابة والاستغفار، وسر ما ورد في فضلهما في النصوص المقدسة، وهل يمكن اعتبارهما من منازل النفس المطمئنة، أم من مناهج سير النفس اللوامة؟
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن كل منازل النفس المطمئنة يمكن اعتبارها مناهج للنفس اللوامة.. والفرق بينهما أن صاحب النفس المطمئنة يكون مطمئنا مستقر الحال، قد ثبتت فيه تلك الصفات، وأصبحت جزءا منه، لا يستطيع الفكاك منها، ولا تستطيع الفكاك منه، بينما صاحب النفس اللوامة يجاهد نفسه لتحصيلها، وهو لذلك حريص على بقائها، خائف من نفورها.
وكمثال على ذلك ما طلبت مني الحديث عنه من الإنابة والاستغفار.. فقد وصف الله تعالى بالإنابة خير خلقه، وهم رسله عليهم الصلاة والسلام، فقال عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]
وقال عن شعيب عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]
وقال عن داود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]
وقال عن سليمان عليه السلام: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 34، 35]
مدارس النفس اللوامة (193)
وقال عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]
ولهذا أمر الله تعالى باتباع سبيل المنيبين الذين لا يغفلون عن الله أبدا، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]
وهذه الآيات جميعا تشير إلى أن الإنابة وما يتبعها من الاستغفار، صفة راسخة في نفوس أصحاب النفوس المطمئنة تدعوهم إلى العودة في كل الحين إلى ربهم، ومن غير أي فاصل زمني يتدخل فيه الهوى أو الشيطان.
بخلاف غيرهم من أصحاب النفوس اللوامة، والذين قد يحتاجون إلى أنواع المجاهدات حتى تتحول الإنابة فيهم إلى صفة راسخة..
ذلك أن الصفات الراسخة يحتاج تثبيتها إلى مجاهدة وزمن وحرص وصفات كثيرة.. فالشاعر لا يمكن اعتباره شاعرا بكتابته لقصيدة أو قصيدتين، وإنما يسمى كذلك بعد أن ترسخ فيه ملكة الشعر، وبعد القصائد الطويلة التي يكتبها، والتي تجعل الشعر هينا لينا سهلا لا يحتاج إلى معاناة لكتابته.
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الصدق قد يبدأ اجتهادا وتكلفا، لكن بالإدمان عليه، والاستمرار في الحرص عليه يتحول إلى صفة راسخة، لا يستطيع صاحبها الكذب أبدا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب
مدارس النفس اللوامة (194)
عند الله كذابا) (1)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فلا تشتغل بالخلافات التي قد تراها بين علماء التزكية والترقية في مراتب ومنازل السالكين، وعلاقتها بأنواع النفوس، فهي خلافات لفظية لا ضرر فيها، والعبرة بالمعاني، ولا مشاحة في الاصطلاح.
وإن شئت دليلا على ذلك من العقل والواقع، فانظر إلى لقب الغني، وعلى من يطلقه قومك؛ فسترى أنهم يطلقونه على الذي يتخلص من فقره وحاجته، ولو كان ذلك في أدنى الأحوال.. كما يطلقونه على من يملك الأموال الكثيرة، والخزائن الضخمة، والتي لا يساوي أمامها الغني الأول شيئا.. بل قد يعتبر فقيرا بالنسبة لها.
وكذلك منازل النفس المطمئنة أو مناهج النفس اللوامة.. فهي وإن اتحدت في الاسم، لكنها تختلف في المسمى اختلافا شديدا، ولذلك تعتبر الصلاة منهجا لتزكية النفس اللوامة، وهي في نفس الوقت منزلة من منازل النفس المطمئنة.. والفرق بينهما في حال المصلي.. فصاحب النفس اللوامة يجاهد نفسه لتحصيل الحضور والخشوع، وصاحب النفس المطمئنة لا يحتاج لذلك، لأن الصلاة صارت قرة عينه، وفرح قلبه، فلا يشغله عنها شيء، وكيف ينشغل عنها، وكل لذته فيها.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأذكره لك من مناهج تحصيل كلا الصفتين، لتتحول من حال التكلف والمجاهدة والرياضة والمعاناة إلى حال راسخة ثابتة مستقرة تطمئن بها نفسك، ويفرح لها قلبك.
أما الإنابة ـ أيها المريد الصادق ـ فهي تعني ـ في مرحلة النفس اللوامة ـ تلك
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وصححه.
مدارس النفس اللوامة (195)
المجاهدات التي يجاهد بها السالك نفسه ليخرجها من ظلمات المعصية إلى أنوار الطاعة، ومن الغفلة إلى الذّكر، ومن الوحشة من الحقائق إلى الأنس بها.. ولذلك تراه يجهد نفسه كل حين لتذكر الحقائق والقيم المرتبطة بها حتى لا ينشغل عنها بأي شاغل (1).
وهو يشبه ذلك الذي يسير في أرض تتوارد عليها الأنوار والظلمات، فهو كلما مر عليه الظلام أسرع إلى سراجه ليشعله، ليهتدي به في طريقه.. أما صاحب النفس المطمئنة، فقلبه المنور بنور الحقائق أصبح سراجا منيرا بحيث لا يحتاج إلى أي تكلف أو مجاهدة، لأنه مضيء في كل الأوقات، وينير له في كل الأحوال.
وإن شئت أن تصفه بكونه سراجا تلقائي الإضاءة، فلك ذلك.. ذلك أن صاحبه لا يتكلف في إشعاله، بل هو يضيء له من تلقاء ذاته كلما احتاج إلى ذلك.
ولهذا أخبر الله تعالى عن داود عليه السلام أنه بمجرد أن فطن لما حصل منه، وكونه نطق بالحكم قبل أن يسمع للخصم الثاني، أسرع مباشرة للإنابة والاستغفار، ومن غير تكلف ولا معاناة، قال تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]
أما أصحاب النفوس اللوامة؛ فيحتاجون إلى المعارف الكثيرة التي تنبههم، حتى يسارعوا إلى الإنابة، وحتى لا تبقي الذنوب آثارها في نفوسهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]، ثم ذكر أصحاب النفس الأمارة، فقال: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202]
__________
(1) عرفها في [جامع السعادات، ج 3 ص 88] بقوله: (الإنابة هو الرجوع عن كلّ شي ء ممّا سوى الله، والإقبال على اللّه تعالى بالسرّ والقول والفعل، حتّى يكون دائما في فكره وذكره وطاعته، فهو غاية درجات التوبة، وأقصى مراتبها، إذا التوبة هو الرجوع عن الذنب إلى اللّه، والإنابة هو الرجوع عن المباحات أيضا إليه سبحانه، فهو من المقامات العالية، والمنازل السامية)
مدارس النفس اللوامة (196)
ولهذا يصف الله تعالى التائبين الحقيقيين بقوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]
وهذا هو معنى الإنابة؛ فهي تعني سرعة العودة إلى الله بعد الغفلة أو المعصية أو كل ما يصرف عن الله.. فالمريد الصادق يعتبر الله تعالى غايته العظمى، لذلك يستعمل كل الوسائل حتى لا ينشغل عنه بشيء.
ولهذا يقرن الله تعالى بين الإنابة وإسلام الوجه لله، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54]، ذلك أن للمنيب قبلة واحدة، وهي وجه ربه، فهو مسلم مستسلم له، لا يرغب عنه، ولا يستبدله بغيره.
ولهذا، فإن آيات الله لا يستفيد منها إلا المنيبون، الذين يفكون رموزها، ويعرفون معاني الحقائق التي تحتويها، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ: 9]
وهم لذلك أهل الذكرى والتبصرة؛ فهم لرجوعهم الدائم والسريع إلى الله يذكرون الحقائق، ويبصرونها رأي العين، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6 - 8]، وقال: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]
وهم لذلك أهل الهداية الحقيقية، قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]، ثم وصف سر
مدارس النفس اللوامة (197)
هدايتهم فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]
وكل تلك الصفات تجعلهم من أصحاب الجنة، وذلك ما يعني تخلصهم من أهوائهم، وامتلائهم بالطيبة، ونجاحهم في الاختبارات التي أجريت لهم، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 31 - 33]
وهذه النصوص كلها تدل على أن هذا المنهج العظيم يستدعي الحضور الدائم مع الله، ولو تكلفا، أو مجاهدة، ولهذا ارتبط الذكر بالإنابة، ذلك أنه لا يمكن أن تتحقق النفس بالإنابة ما لم تمتلئ بالذكر، فالغفلة والإنابة متضادان لا يجتمعان.
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى الحقائق التي علينا تذكرها لنمتلئ بالإنابة، ومنها ما ورد في دعائه صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يردده إذا قام إلى الصّلاة من جوف اللّيل، والذي يقول فيه: (اللهم لك الحمد أنت نور السّموات والأرض، ولك الحمد أنت قيّام السّموات والأرض، ولك الحمد أنت ربّ السّموات والأرض ومن فيهنّ. أنت الحقّ، ووعدك الحقّ، وقولك الحقّ، ولقاؤك حقّ، والجنّة حقّ، والنّار حقّ، والسّاعة حقّ. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكّلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدّمت وأخّرت، وأسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلّا أنت) (1)
وهذا الدعاء وارتباطه بالإنابة يشير إلى أن ترديد أمثال تلك الحقائق على النفس كل حين، يحول منها معاني راسخة فيها، تعين على الإنابة الدائمة؛ ولهذا قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين طول العمر والإنابة، فقال: (لا تمنّوا الموت فإنّ هول المطّلع شديد، وإنّ من السّعادة أن
__________
(1) البخاري [فتح الباري]، 13 (7385)، ومسلم (769)
مدارس النفس اللوامة (198)
يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة) (1)
وسر ذلك هو أن المؤمن الملتزم بدينه، والمكثر لذكر ربه، كلما طال عمره، كلما استقرت معاني الأذكار في نفسه، وهو ما يؤهله لأن يصبح من أهل الإنابة، الذين تجوهرت نفوسهم بها.
ولهذا يقترن في النصوص المقدسة الإنابة مع التأوه (2) والتضرع إلى الله، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]
ومن أدعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا قوله: (ربّ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ، ربّ! اجعلني لك شكّارا. لك ذكّارا، لك رهّابا، لك مطيعا، إليك مخبتا (3)، إليك أوّاها منيبا، ربّ تقبّل توبتي واغسل حوبتي (4)، وأجب دعوتي، واهد قلبي، وسدّد لساني، وثبّت حجّتي، واسلل سخيمة (5) قلبي) (6)
وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تختصر لنفسك طريق تحصيل الإنابة، فردد كل حين ذلك الدعاء الذي كان يقوله الإمام السجاد، فهو ممتلئ بكل المعاني التي تعينك على الإنابة على الله، فقد كان يقول: (اللهم يا من لا يصفه نعت الواصفين، ويا من لا يجاوزه رجاء الراجين، ويا من لا يضيع لديه أجر المحسنين، ويا من هو منتهى خوف العابدين، ويا من هو غاية خشية المتقين.. هذا مقام من تداولته أيدي الذنوب، وقادته أزمة الخطايا،
__________
(1) أحمد (3/ 332)
(2) معنى الأواه: كثير التأوّه، وغلب على معنى التضرع إلى اللّه في العبادة والندم على الذنوب.
(3) مخبتا: متواضعا خاشعا سائرا في الطريق المطمئن الواسع.
(4) حوبتي: إثمي وخطيئتي.
(5) سخيمة: حقد وضغينة.
(6) أبو داود (1510)، وابن ماجة (3830) واللفظ له، والترمذي (3551)
مدارس النفس اللوامة (199)
واستحوذ عليه الشيطان، فقصر عما أمرت به تفريطا، وتعاطى ما نهيت عنه تعزيرا، كالجاهل بقدرتك عليه، أو كالمنكر فضل إحسانك إليه، حتى إذا انفتح له بصر الهدى، وتقشعت عنه سحائب العمى أحصى ما ظلم به نفسه، وفكر فيما خالف به ربه، فرأى كبير عصيانه كبيرا، وجليل مخالفته جليلا، فأقبل نحوك مؤملا لك، مستحييا منك، ووجه رغبته إليك ثقة بك، فأمك بطمعه يقينا، وقصدك بخوفه إخلاصا، قد خلا طمعه من كل مطموع فيه غيرك، وأفرخ روعه من كل محذور منه سواك، فمثل بين يديك متضرعا، وغمض بصره إلى الأرض متخشعا، وطأطأ رأسه لعزتك متذللا، وأبثك من سره ما أنت أعلم به منه خضوعا، وعدد من ذنوبه ما أنت أحصى لها خشوعا واستغاث بك من عظيم ما وقع به في علمك وقبيح ما فضحه في حكمك من ذنوب أدبرت لذاتها فذهبت، وأقامت تبعاتها فلزمت، لا ينكر يا إلهي عدلك إن عاقبته، ولا يستعظم عفوك إن عفوت عنه ورحمته؛ لأنك الرب الكريم الذي لا يتعاظمه غفران الذنب العظيم) (1)
إلى آخر الدعاء الذي يقول في خاتمته: (اللهم إن يكن الندم توبة إليك فأنا أندم النادمين، وإن يكن الترك لمعصيتك إنابة فأنا أول المنيبين، وإن يكن الاستغفار حطة للذنوب فإني لك من المستغفرين. اللهم فكما أمرت بالتوبة وضمنت القبول وحثثت على الدعاء ووعدت الاجابة، فصل على محمد وآله واقبل توبتي ولا ترجعني مرجع الغيبة من رحمتك إنك أنت التواب على المذنبين، والرحيم للخاطئين المنيبين. اللهم صل على محمد وآله كما هديتنا به وصل على محمد وآله كما استنقذتنا به، وصل على محمد وآله صلاة تشفع لنا يوم القيامة ويوم الفاقة إليك، إنك على كل شيء قديرٌ وهو عليك يسيرٌ)
__________
(1) الصحفية السجادية، ص 141.
مدارس النفس اللوامة (200)
أما الاستغفار ـ أيها المريد الصادق ـ فهو مثل الإنابة، له مراتب مختلفة بحسب المحل الذي تحل فيه النفس.. وأرقى تلك المراتب وأشرفها المرتبة التي وصف الله تعالى بها خيرة عباده الذين لا سلطان للشيطان أو الأهواء عليهم.. ولكنهم مع ذلك يستغفرون الله، لا لذنوب اقترفوها، أو خطايا اقترفوها، وإنما لمعرفتهم بعظمة ربهم، وأنه لا يمكن لأحد أن يقدر على طاعته حق الطاعة، أو شكره حق الشكر؛ فلهذا يلجؤون إلى الاستغفار معترفين بالتقصير في حق الله.
وقد وصف الله تعالى بذلك الربانيين من الأنبياء عليهم السلام وأصحابهم وورثتهم، فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 146، 147]، ثم ذكر الجزاء العظيم المعد لهم بسبب قولهم هذا، فقال: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]
ووصف به أولي الألباب {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191]؛ فذكر أنهم يقولون في دعائهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]
وأخبر عن نوح عليه السلام أنه قال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]
وأخبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
مدارس النفس اللوامة (201)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 78 - 83]
وأخبر عن موسى عليه السلام أنه قال في دعائه: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155]
وفي موقف آخر من مواقفه ذكر أنه قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]
وأخبر عن داود عليه السلام ومسارعته للاستغفار، فقال: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 24، 25]
ومثله سليمان عليه السلام، فقد قال عنه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 34، 35]
وهكذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان سيد المستغفرين، وقد وردت الروايات الكثيرة الدالة على كثرة استغفاره لله، فقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (والله إنى لأستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة) (1)، وفي حديث آخر قال: (إنه ليغان على قلبى، وإنى لأستغفر الله فى اليوم مائة مرة) (2)
وروي عن الإمام الصادق أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر الله عزّ وجلّ في كلّ يوم سبعين مرّة، ويتوب إلى الله عزّ وجلّ سبعين مرّة.. كان يقول: أستغفر الله، أستغفر الله
__________
(1) رواه البخارى.
(2) رواه مسلم.
مدارس النفس اللوامة (202)
سبعين مرّة، ويقول: وأتوب إلى الله، وأتوب إلى الله سبعين مرّة) (1)
ومع كون الاستغفار ـ أيها المريد الصادق ـ هو درجة الصالحين والصديقين من أولياء الله إلا أن أصحاب النفوس اللوامة يمكنهم أن يستفيدوا منه في تطهير قلوبهم، والتحقق بالإنابة إلى ربهم.
ولهذا ورد في النصوص المقدسة الكثيرة الترغيب في الاستغفار وفي كل الأحوال، وبيان دوره العظيم في التزكية والترقية، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أدلكم على دائكم ودوائكم.. ألا إن داءكم الذنوب، ودواءكم الاستغفار) (2)
وقال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر صقلت، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين:14) (3)
وقال: (إن للقلوب صدأ كصدإ النحاس، وجلاؤها الاستغفار) (4)
وقال: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفار كثير) (5)
وقال: (من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار) (6)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن إقبال الله تعالى على المستغفرين، ومحوه لذنوبهم، فقال في الحديث القدسي حاكيا عن ربه تبارك وتعالى: (يا ابن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم.. وكلكم فقير إلا من أغنيت، فاسألوني أعطكم.. وكلكم ضال إلا من هديت، فاسألوني
__________
(1) اصول الكافي ج 2 ص 504.
(2) رواه البيهقي.
(3) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.
(4) رواه البيهقي.
(5) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي.
(6) رواه البيهقي بإسناد لا بأس به.
مدارس النفس اللوامة (203)
الهدى أهدكم.. ومن استغفرني، وهو يعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي.. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أشقى رجل واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة.. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة.. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جواد ماجد واحد عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون) (1)
وفي حديث قدسي آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاكيا عن ربه تبارك وتعالى: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي.. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي.. يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) (2)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (قال إبليس: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) (3)
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن آثار المغفرة لا تمتد فقط لصحائف الأعمال، ولا لمحال المعصية من النفس، وإنما تمتد لجميع مناحي الحياة، فتطهرها من كل آثار المحق التي سببتها المعصية، وتملؤها بكل آثار البركة التي سببها العودة إلى الله والإنابة إليه؛ ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أكثر من الإستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه
__________
(1) رواه مسلم والترمذي وحسنه وابن ماجه والبيهقي واللفظ له.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
(3) رواه أحمد والحاكم، وقال الحاكم صحيح الإسناد.
مدارس النفس اللوامة (204)
من حيث لا يحتسب) (1)
وقال: (من ظهرت عليه النعمة فليكثر ذكر (الحمد لله)، ومن كثرت همومه فعليه بالاستغفار، ومن ألحّ عليه الفقر فليكثر من قول: (لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم) ينفي عنه الفقر) (2)
وروي عن الإمام الصادق أنه قال: (ما ضاع مال في برّ ولا بحر إلّا بتضييع الزكاة، فحصّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وادفعوا نوائب البلايا بالاستغفار، الصاعقة لا تصيب ذاكرا، وليس يصاد من الطير إلّا ما ضيّع تسبيحه) (3)
وروي أن رجلا أتى الإمام الحسن فشكا إليه الجدوبة، فقال له الحسن: (استغفر الله)، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له: (استغفر الله)، وأتاه آخر فقال له: ادع الله أن يرزقني ابنا، فقال له: (استغفر الله)، فقلنا له: أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلّهم بالاستغفار، فقال: (ما قلت ذلك من ذات نفسي، إنّما اعتبرت فيه قول الله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]) (4)
ولم تكتف النصوص المقدسة بكل ذلك، بل ورد فيها الكثير من الصيغ التي تعلمنا كيفية الاستغفار، وأفضلها أن يبدأ العبد بالثناء على ربه.. ثم يثنى بالإعتراف بذنبه.. ثم يسأل الله المغفرة.. فهذا ما وردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سيد الإستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك،
__________
(1) رواه أبو داود، ورواه في (عدّة الداعي): ص 265، ونقله عنه في (البحار): ج 90 ص 284.
(2) روضة الكافي ج 1 ص 133
(3) المحاسن ص 294
(4) مجمع البيان ج 10 ص 361
مدارس النفس اللوامة (205)
ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) (1)
ومنها ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف) (2)
ومنها الصيغ المختصرة التي يمكن استعمالها في كل حين، ومنها قول المستغفر: (أستغفر الله العظيم الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه).. فقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أن من قاله غفر له وإن كان فر من الزحف) (3)
ومنها: (أسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب) (4)
وفي حديث آخر سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف نستغفر؟ فقال: قل (اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) (5)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن أدنى درجات الاستغفار وأقبحها تلك الدرجة التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى وسموها درجة المستهزئين، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه) (6)
وعن الإمام الرضا أنه قال: (مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرّك فيتناثر،
__________
(1) رواه البخارى.
(2) رواه أبو داود والترمذي.
(3) رواه أبو داود والترمذى.
(4) رواه الترمذي والنسائي والحاكم وصححه.
(5) رواه النسائى في عمل اليوم والليلة.
(6) رواه ابن أبى الدنيا، قال ابن رجب: ورفعه منكر ولعله موقوف.
مدارس النفس اللوامة (206)
والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربّه) (1)
وقال: (سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء: من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه، ومن استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله الجنّة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه، ومن تعوّذ بالله من النار ولم يترك الشهوات فقد استهزأ بنفسه، ومن ذكر الله ولم يستبق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه) (2)
وعن الإمام الصادق أنه قال: (رحم الله عبدا لم يرض من نفسه أن يكون إبليس نظيرا له في دينه، وفي كتاب الله نجاة من الردى، وبصيرة من العمى، ودليل إلى الهدى، وشفاء لما في الصدور فيما أمركم الله به من الاستغفار مع التوبة، قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار، واشترط معه بالتوبة والإقلاع عمّا حرّم الله، فإنّه يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وهذه الآية تدلّ على أنّ الاستغفار لا يرفعه إلى الله إلّا العمل الصالح والتوبة) (3)
وشبه الإمام علي المستغفر بالمستعمل للدواء؛ فإذا كان يستعمله، ويسرف على نفسه بما يسبب له المرض، فإنه لن يشفى أبدا، لأن غرض الاستغفار هو العودة إلى الله، لا مجرد حركة اللسان، فقد روي عنه أنه قال: (الذنوب الداء والدواء الاستغفار، والشفاء أن لا
__________
(1) اصول الكافي ج 2 ص 504.
(2) كنز الكراجكي ج 1 ص 330
(3) تفسير العيّاشي ج 1 ص 198
مدارس النفس اللوامة (207)
تعود) (1)
وروي أن بعضهم قال بحضرته (أستغفر الله)، فقال له الإمام علي: (ثكلتك أمّك، أ تدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيّين، وهو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها النّدم على ما مضى، والثّاني: العزم على ترك العود إليه أبدا، والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة، والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها، والخامس: أن تعمد إلى اللحم الّذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله) (2)
وهذا ما نص عليه القرآن الكريم وصرح به، فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} (آل عمران)
فقد قرن الله تعالى في الآية الكريمة الاستغفار بعدم الإصرار، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) (3)
وذلك لا يعني العصمة من الذنوب، أو عدم العودة إليها؛ فقد يصر الشخص على شيء ويعزم عليه، ولكنه ينكث عزمه.. فالمراد هو أن يعاهد الله أن لا يقع في الذنب بجزم وتأكيد، فإن قدر ووقع في الذنب عاد إلى الاستغفار من جديد..
__________
(1) غرر الحكم ص 79
(2) نهج البلاغة حكمة 409 ص 1281
(3) رواه أحمد.
مدارس النفس اللوامة (208)
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة) (1)
وأخبرنا (أن عبدا أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت ذنبا فاغفر لى، قال الله تعالى: علم عبدى أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدى. ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فذكر مثل الأول مرتين أخريين) (2)
__________
(1) رواه أبو داود والترمذى.
(2) رواه البخاري ومسلم.
مدارس النفس اللوامة (209)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن معنى التعرض للنفحات الذي وردت الإشارة إليه في الحديث الذي يقول: (إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فترصدوا لها) (1)، وكيف يكون ذلك التعرض، وما هي محاله ومواقيته؟
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن هذا الحديث ـ صح أو لم يصح ـ أصل من أصول السير إلى الله، ذلك أن كل النصوص المقدسة تدل عليه، وكل السالكين في طريق التزكية والترقية حثوا عليه وعلى معناه.
فقوله تعالى في سورة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5]، يدل على أن تلك الليلة المباركة تتشرف بمضاعفة أعمال العاملين فيها، وأن ذلك بسبب تنزلات خاصة من الملائكة عليهم السلام، وأنه يحصل فيها من الخير ما لا يحصل في غيرها.
وكل ذلك يجعل السالكين إلى الله مثل أولئك الذين يسمعون بأن هناك مواعيد تُخفض فيها الأسعار، أو توضع فيها التحفيزات المشجعة على الشراء؛ فلذلك قد يؤجلون شراء بعض احتياجاتهم لتلك الأيام، حرصا عليها، وعلى النفحات الخاصة بها.
وهكذا السائرون في طريق الله يبحثون عن كل مناسبة تتحقق فيها أمثال تلك النفحات الإلهية، والتي لا تتعلق بالأجور فقط، وإنما تتعلق بالفتوح أيضا؛ فقد يفتح الله على من صدق في التعرض لها بأنواع من الفتح لم يكن ليصل إليها بجهده وكسبه لمدد طويلة.
__________
(1) بحار الأنوار (77/ 168)
مدارس النفس اللوامة (210)
وبما أنك ـ أيها المريد الصادق ـ سألت عن كيفية التعرض لها، فسأورد لك من النصوص المقدسة ما يدلك على محالها، والأعمال المرتبطة بها، والتي يحرص الصادقون عليها حرصا شديدا؛ فهي أعيادهم الحقيقية، ذلك أن كل نفحة منها قد تكون سببا لسعادة الأبد.
وبما أن مصدر تلك النفحات ومنبعها هي رحمة الله الواسعة، وفضله العظيم، فقد أتاح لذلك نوعين من المحال: المكانية والزمانية.. فمن فاته المكان أو عجز عن الوصول إليه، يمكنه أن يستدرك بالزمان.. ومن فاته الزمان يمكنه أن يستدرك بالمكان.
وقد أشار إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) (1)
وفي رواية أخرى: (من قعد في مصلاه الذي صلى فيه الفجر يذكر الله حتى تطلع الشمس، كان له حج بيت الله) (2)
فهذا الحديث ـ برواياته المختلفة التي اتفقت عليها جميع الأمة ـ يدل على أن المواقيت الزمانية يمكنها أن تعوض المواقيت المكانية، وخاصة لمن عجز عليها.. حتى لا يكون في ذلك أي عذر أو حجة للمقصرين.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وعلمت الفضل العظيم الذي أناطه الله تعالى بالمواقيت الزمنية، والتي تتيسر لكل الخلق؛ فهي لا تحتاج مالا ولا جهدا، بل يكفي أن يعرف المجتهد فيها التواريخ والأزمنة؛ فاجتهد لأن تبحث عنها، وعن الأعمال المرتبطة بها، ولا يضرك أن يشكك البعض في صحة بعض ما ورد فيها ما دام لا يتعارض مع ما ورد في
__________
(1) رواه الترمذي (586)
(2) دعائم الاسلام ج 1 ص 167.
مدارس النفس اللوامة (211)
القرآن الكريم من الحقائق والقيم.
وقد أشار إلى مجامع تلك المواقيت القرآن الكريم في مواضع متعددة منه.. وأولها ليلة القدر التي ذكر أنها خير من ألف شهر، ووصفها في موضع آخر بالبركة، وبأنه يفرق فيها كل أمر حكيم، فقال: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 1 - 6]
ومنها الليالي العشر التي أقسم الله تعالى بها في قوله: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2]
ومنها شهر رمضان الذي وصفه الله تعالى، فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقد جاء بعد هذه الآية قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وهو ما يدل على الإجابة للدعاء فيه أسرع.
ولم يكتف كرم الله تعالى بهذه المواقيت.. بل جعل في كل يوم مواقيت خاصة ممتلئة بالبركة والنفحات، ومنها وقت السحر الذي أخبر الله عن الجزاء العظيم الذي أعده للمتعرضين لنفحاته، فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15 - 18]
ومنها المواقيت التي ترتبط بها الصلاة، والتي نص عليها قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 78، 79]
مدارس النفس اللوامة (212)
ومنها البكرة والأصيل، كما قال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25]
وقد أخبر الله تعالى أن ذلك الفضل ليس خاصا بما ورد النص عليه في القرآن الكريم، بل إن كل أيام الله يمكن اعتبارها محالا للفضل الإلهي، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]
ولذلك كان على الساعي لإصلاح نفسه أو إجابة دعائه، أو الترقي في مدارج السالكين، أن يبحث عن المحال التي يمكنه أن يختصر فيها الطريق، وعن الأعمال التي عليه القيام بها فيها، حتى لا تضيع منه تلك الفرص العظيمة.
وبما أني ـ أيها المريد الصادق ـ لا أستطيع في هذه الرسالة المختصرة أن أذكر لك جميع تلك المحال، ولا جميع الأعمال التي تقوم بها فيها، فإني سأذكر لك نماذج عنها، لتعلم قيمة النفحات، والفضل العظيم الذي ينتظر المتعرضين لها.
فمن محالها، وأشرفها، ما ورد النص عليه في القرآن الكريم، من الليلة المسماة لشرفها، وعلاقتها بالأقدار [ليلة القدر]، تلك الليلة التي اعتبرها الله تعالى خيرا من ألف شهر، والتي وردت النصوص الكثيرة الدالة على فضلها، وعلى أنواع الأعمال التي يمكن أن يجتهد المؤمن في القيام بها فيها.
ومن تلك الأحاديث ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال عند دخول شهر رمضان: (إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محرومٌ) (1)
__________
(1) ابن ماجة (1644)
مدارس النفس اللوامة (213)
ومن دلائل فضلها اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البحث عنها، فقد حدث أبو سعيد، قال: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصيرٌ، فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منه، فقال: (إني اعتكفت العشر الأول، ألتمس هذه الليلة، ثم إني اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناس معه، قال وإني رأيتها ليلة وتر، وإني أسجد في صبيحتها في طين وماء بنحوه) (1)
وقد شاء الله أن يخفيها، ولا يحددها بدقة، حتى تبقى نفوس الصادقين متلهفة على الظفر بها، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عنها، فقال: (لولا أن يترك الناس الصلاة إلا تلك الليلة لأخبرتك) (2)
وروي عن الإمام علي أنه سئل عنها، فقال: (ما أخلو من أن أكون أعلمها فأستر علمها، ولست أشك أن الله إنما يسترها عنكم نظرا لكم، لأنكم لو أعلمكموها عملتم فيها وتركتم غيرها، وأرجو أن لا تخطئكم إنشاء الله) (3)
ولذلك لا تحصرها ـ أيها المريد الصادق ـ في أي ليلة من الليالي التي وقع فيها الخلاف، وإن قوي دليله، وعظمت حجته، فما أدراك لعلها في غيره؛ وما يضرك أن تتبع كل ليلة وقع فيها الاحتمال، لأنك إن كسبتها لن تكسب ليلة واحدة، وإنما ثلاثة وثمانين سنة.
وبما أن فضل الله أعظم من أن يحصر في ليلة واحدة في السنة؛ فقد جعل الله تعالى في كل يوم مواقيت خصها بفضله، ومنها ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إن في الليل لساعة
__________
(1) مسلم (1167) 215.
(2) ذكره الهيثمي 3/ 178، وقال: رواه الطبراني في (الكبير)
(3) بحار الأنوار (97/ 5)
مدارس النفس اللوامة (214)
لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة) (1)
ومنها ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله ـ جوابا لمن سأله: (أي الدعاء أسمع؟) ـ: (جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبة) (2)
ومنها ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (الدعاء لا يُرَدُّ بين الأذان والإقامة فادعوا) (3)
ومنها ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ثنتان لا تردان، أو قلما تردان، الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضًا) (4)
ومنها ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء، وتحت المطر) (5)
ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه) (6)
ومنها ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا من الدعاء) (7)
ومنها ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة) (8)
ومنها ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد
__________
(1) مسلم (757)
(2) الترمذي (3499)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (108)
(3) رواه أبو داود (521)، والترمذي (212)
(4) رواه أبو داود (2540)، والدارمي (1200)
(5) الحاكم 2/ 114، وأبو داود (3540)
(6) رواه البخاري (935)، ومسلم (852)
(7) رواه مسلم (482)
(8) رواه الترمذي (3585)، ومالك (500)
مدارس النفس اللوامة (215)
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ـ إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) (1)
ومنها ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (اغتنموا الدعاء عند الرقة؛ فإنها رحمة) (2)
ومنها ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (من تعَارَّ (3) من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي ـ أو دعا ـ استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته) (4)
أما الأعمال المرتبطة بتلك المواقيت المباركة، فقد ترك لنا أئمة الهدى الكثير من السنن التي ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي وثقتها كتب الحديث والسنن والسير.. ويمكنك الاستفادة منها، بشرط عرض معانيها على القرآن الكريم؛ فإن وافقته، فعليك بها، ولا تضيعها، ولا تلتفت لمن يشكك فيها؛ فالمعاني الصحيحة هي المطلوبة، ولا يضر بعد ذلك إن وقع الخلاف في صحتها.
ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن الإمام الصادق أنه كان يدعو أصحابه إذا حضر شهر رمضان أن يقولوا في أوله مرحبين به: (اللهم قد حضر شهر رمضان، وقد افترضت علينا صيامه، وأنزلت فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، اللهم أعنا على صيامه، وتقبله منا، وسلمنا فيه، وسلمه منا، وسلمنا له في يسرمنك وعافية، إنك على كل
__________
(1) رواه مسلم (234)
(2) الديلمي في مسند الفردوس، فيض القدير للمناوي 2/ 16 رقم (1211)
(3) تعارّ: قيل: استيقظ، وقيل: انتبه، وقيل: تكلم، وقيل: تمطى.
(4) رواه البخاري (1154)
مدارس النفس اللوامة (216)
شئ قدير يا أرحم الراحمين) (1)
فأنت ترى ـ أيها المريد الصادق ـ أن هذه المعاني كلها صحيحة وشرعية، ومناسبة للزمان الذي تردد فيه، ذلك أن فيها تنبيها لقيمة شهر رمضان وفضله، ودعاء الله بالتوفيق فيه.. فأي ضرر في مناقشة السند، أو رد الحديث بسببه؟
ومثله ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان، والأعمال الواردة فيها؛ فقد سئل عنها الإمام الباقر، فقال: (هي أفضل ليلة بعد ليلة القدر، فيها يمنح الله تعالى العباد فضله، ويغفر لهم بمنه، فاجتهدوا في القربة إلى الله فيها فإنها ليلة آلى الله تعالى على نفسه أن لا يرد سائلا له فيها، ما لم يسأل معصية.. فاجتهدوا في الدعاء والثناء على الله تعالى عزوجل) (2)
وقد سئل الإمام الصادق عن الادعية التي تقال فيها؟ فقال: (اللهم إني إليك فقير ومن عذابك خائف مستجير، اللهم لا تبدل اسمي، ولا تغير جسمي، ولا تجهد بلائي، ولا تشمت بي أعدائي، أعوذ بعفوك من عقابك. وأعوذ برحمتك من عذابك وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذبك منك، جل ثناؤك أنت كما أثنيت على نفسك وفوق ما يقول القائلون) (3)
وروي عن الإمام علي أنه قال: (إن استطعت أن تحافظ على ليلة الفطر وليلة النحر، وأول ليلة من المحرم، وليلة عاشورا، وأول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان فافعل، وأكثر فيهن من الدعاء والصلاة وتلاوة القرآن) (4)
ومما ورد من الأدعية في شهر رجب ما روي عن الإمام الصادق أنه كان إذا دخل
__________
(1) تفسير العياشى ج 1 ص 80.
(2) أمالى الطوسى ج 1 ص 302 ـ 303.
(3) مصباح المتهجد: 577.
(4) مصباح المتهجد: 593.
مدارس النفس اللوامة (217)
رجب يدعو بهذا الدعاء في كل يوم من أيامه: (خاب الوافدون على غيرك، وخسر المعترضون إلا لك، وضاع الملمون إلا بك، وأجدب المنتجعون إلا من انتجع فضلك، بابك مفتوح للراغبين، وخيرك مبذول للطالبين، وفضلك مباح للسائلين، ونيلك متاح للآملين، ورزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معترض لمن ناواك، عادتك الاحسان إلى المسيئين وسبيلك الابقاء على المعتدين، اللهم فاهدني هدى المهتدين، وارزقني اجتهاد المجتهدين، ولاتجعلني من الغافلين المبعدين، واغفر لي يوم الدين) (1)
وسأله بعض أصحاب عن دعاء يدعو به في هذا الشهر، فقال: قل يا معلى: (اللهم إني أسئلك صبر الشاكرين لك، وعمل الخائفين منك، ويقين العابدين لك، اللهم أنت العلي العظيم، وأنا عبدك البائس الفقير، وأنت الغني الحميد، وأنا العبد الذليل، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وامنن بغناك على فقري، وبحلمك على جهلي، وبقوتك على ضعفي يا قوي يا عزيز، اللهم صل على محمد وآل محمد الاوصياء المرضيين، واكفني ما أهمني من أمر الدنيا والاخرة يا أرحم الراحمين)، ثم قال له: (يا معلى والله لقد جمع لك هذا الدعاء ما كان من لدن إبراهيم الخليل إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم) (2)
وغيرها من الأعمال والأدعية والأذكار التي تيسر على السائرين إلى الله التعرف على كيفية مناجاة ربهم ودعائه والتأدب بين يديه، وهي كلها تحوي من المعاني ما يملأ النفس والعقل والقلب وكل اللطائف بحقائق الدين الجميلة المنزهة عن تلك التحريفات التي ألصقت بالدين وشوهته.
أما النفحات المكانية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مرتبطة بتلك الأماكن الشريفة
__________
(1) بحار الأنوار (98/ 389)
(2) بحار الأنوار (98/ 390)
مدارس النفس اللوامة (218)
المقدسة التي أمر الله تعالى بتعظيمها، ونهى عن انتهاك حرمتها وقدسيتها، فقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]
والآية الكريمة لا تدعو إلى تعظيم أحكام الشريعة فقط، وإنما تدعو إلى تعظيم كل ما يرتبط بها من أشخاص أو أزمنة أو أمكنة، ذلك أن المتجرئ على انتهاك حرمتها ينتهك الشريعة من حيث لا يشعر.
ولذلك اعتبر الله تعالى الصفا والمروة من شعائر الله، فقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]
وسر ذلك يعود إلى ارتباطهما بتلك الأحداث العظيمة التي مثلت التضحية والاستسلام لله في أجلى وأجمل صوره، كما عبر عن ذلك بعضهم، فقال: (أصل السعي أن يتذكر الإنسان حال أم إسماعيل، فإنها لما خلَّفها إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي وابنها في هذا المكان، وجعل عندها سقاءً من ماء، وجراباً من تمر، فجعلت الأم تأكل من التمر وتشرب من الماء، وتسقي اللبن لولدها، فنفدَ الماء ونفد التمر، فجاعت وعطشت، ويبس ثديها، جاع الصبي، وجعل يتلوى من الجوع، فأدركتها الشفقة، فرأت أقرب جبل إليها الصفا فذهبت إلى الصفا، وجعلت تتحسس لعلها تسمع أحداً، ولكنها لم تسمع، فنزلت إلى الاتجاه الثاني إلى جبل المروة، ولما هبطت في بطن الوادي نزلت عن مشاهدة ابنها، فجعلت تسعى سعياً شديداً، حتى تصعد لتتمكن من مشاهدة ابنها، ورقيت لتسمع وتتحسس على المروة، ولم تسمع شيئاً، حتى أتمت هذا سبع مرات ثم أحست بصوت، ولكن لا تدري ما هو، فإذا جبريل نزل بأمر الله عزّ وجل، فضرب بجناحه أو برجله الأرض
مدارس النفس اللوامة (219)
مكان زمزم الآن) (1)
ومثل ذلك نجد ما ورد في أحكام شعائر الحج من رمى الجمار، والمرتبط أيضا ـ حسبما هو متفق عليه بين الأمة جميعا ـ على ما فعله إبراهيم عليه السلام، ففي الرواية عن الإمام علي والإمام السجاد والإمام الكاظم أن علة رمي الجمرات هي مواجهة نبي الله إبراهيم عليه السلام الشيطان حينما أراد أن يذبح ولده إسماعيل عليه السلام (2).
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لما أتى إبراهيم خليل الله عليه السلام المناسك، عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له في الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. قال ابن عباس: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم تتبعون) (3)
ومثل ذلك ما ورد من الأحاديث والآثار الدالة على أن جماعة من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام مدفونون في المسجد الحرام ما بين زمزم والمقام، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن منهم نوحاً، وهوداً وصالحاً، وشعيباً، وأن قبورهم بين زمزم والحجر، وكذلك ورد في قبر إسماعيل أنه بالمسجد الحرام (4).
وهذا كله يدل على أن كل محل يدفن فيه الصالحون، أو تحدث فيه أحداث مرتبطة بهم، يمكن اعتباره من الأماكن المباركة، مثله مثل الأزمنة المباركة التي شرفها الله تعالى
__________
(1) الشرح الممتع على زاد المستقنع، (7/ 269)
(2) بحار الأنوار، ج 96، ص 39.
(3) الحاكم (1/ 638)، وقال: (صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)
(4) انظر: إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد والقباب على القبور، ص 11، وما بعدها، وصيانة الآثار الإسلاميّة، الشيخ جعفر السبحاني، ص 26، فما بعدها.
مدارس النفس اللوامة (220)
بحصول أحداث عظيمة فيها.
ولهذا أخبر الله تعالى عن فهم إبراهيم عليه السلام لهذا المعنى، وإدراكه له، ولهذا سعى لبناء الكعبة، وسأل الله أن تظل الأفئدة تهوى لها، قال تعالى حاكيا دعاءه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم:37)
وذكر بعض أسرار فضله وبركته، فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران:96)
ولهذا خص بتلك الشعائر الخاصة، قال تعالى: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97)
وقد ورد في الأحاديث الكثيرة ما يبين عظم أجر من انتهز فرصة وجوده في تلك الأماكن الممتلئة بالبركات والنفحات، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) (1)
وهذا يدل على أن الصادق في حجه، المتأثر به، المنفعل له، العازم على تصحيح كل ما وقع فيه من أخطاء، سيتخلص من ذنوبه وآفاته جميعا، سواء تلك التي سجلت في صحيفة سيئاته، أو تلك التي سجلت في نفسه.
وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مضاعفة الأجور لمن صلى في تلك الأماكن المباركة، وهو يدل على عظمة تأثيرها في النفس، وكون أدوارها فيها أكبر من أدوار غيرها، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه) (2)
__________
(1) البخاري 3/ 382، ومسلم 1/ 984.
(2) رواه أحمد 3/ 343، 397
مدارس النفس اللوامة (221)
والنفحات لا ترتبط بالأجور، ولا بالنفحات فقط، وإنما بإجابة الدعاء، وقد ورد في الحديث في صفة حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: (فبدأ بالصفا فَرَقِيَ حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله، وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا مرات) (1)
وفيه: (ثم نزل إلى المروة، حتى انصبَّتْ قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صَعِدَتا مشى، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا) (2)
وفيه: (ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا) (3)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر ـ وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم) (4)
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بما هو فوق ذلك كله، وهو أن تلك الأماكن المقدسة المباركة قطع من الجنة، ولذلك ينال كل من عظمها وقدسها وتأدب معها من بركات الجنة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة، ومنبري على حوضي) (5)، وقال: (إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة) (6)
وقال عن جبل أحد الذي حصلت فيه غزوة أحد، ودفن في جمع من الصحابة: (أحد
__________
(1) رواه مسلم (1218)
(2) رواه مسلم (1218)
(3) رواه مسلم (1218)
(4) رواه ابن ماجة (2893)
(5) البخاري (1196)، ومسلم (1391)
(6) النسائي 2/ 35..
مدارس النفس اللوامة (222)
ركن من أركان الجنة) (1)، وقال: (أحدٌ جبلٌ يحبنا ونحبه، فإذا جئتموه فكلوا من شجره، ولو من عضاهه) (2)، وقال: (هذا جبل يحبنا ونحبه، على باب من أبواب الجنة، وهذا عير جبل يبغضنا ونبغضه على باب أبواب النار) (3)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الأجور العظيمة التي ينالها من زار قبره، فقال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) (4)، وقال: (من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة) (5)، وقال: (من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا) (6)
وهكذا روي عن أئمة الهدى الكثير من الروايات الدالة على الفضل العظيم الذي يناله من زارهم، أو زار الأماكن التي حصلت فيها الأحداث المرتبطة بهم، باعتبارها امتدادا للنبوة.
ومن تلك الأماكن كربلاء التي ارتبطت بأعظم ملحمة تاريخية وقف فيها الحق كله، في وجه الباطل كله، ولذلك كان لزيارتها وزيارة الإمام الحسين تأثيرها وبركاتها العظيمة على الزائرين، وقد روي في الحديث عن الإمام الصادق أنه قال: بينما الحسين بن عليّ في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ رفع رأسه فقال له: (يا أبة، ما لمن زارك بعد موتك، فقال: يا بنيّ، من أتاني زائرا بعد موتي فله الجنّة، ومن أتى أباك زائرا بعد موته فله الجنّة، ومن أتى أخاك زائرا
__________
(1) أبو يعلى 13/ 427 (7516)، والكبير 6/ 151 (5813)
(2) البخاري (2889) ومسلم (1393)
(3) البزَّار كما في (كشف الأستار) (1199)،والأوسط (6505)
(4) سنن الدارقطني 2/ 278 / 194، السنن الكبرى للبيهقي 5/ 245، شعب الإيمان للبيهقي 3/ 49
(5) الدارقطني في سننه (2/ 278)، البيهقي في شعب الإيمان (3/ 488)
(6) البيهقي في شعب الإيمان (3/ 488)
مدارس النفس اللوامة (223)
بعد موته فله الجنّة، ومن أتاك زائرا بعد موتك فله الجنّة) (1)
وعنه قال: قال الحسين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما جزاء من زارك؟ فقال: (يا بنيّ، من زارني حيّا أو ميّتا أو زار أباك أو زار أخاك أو زارك كان حقّا عليّ أن أزوره يوم القيامة حتّى أخلّصه من ذنوبه) (2)
وبناء على هذه السنة النبوية نص أئمة الهدى على فضل زيارة الإمام الحسين وغيره من الأئمة، وكونها من أعظم القربات لله تعالى، لما لها من أدوار روحية وتربوية كبيرة، وأهمها إثبات صدق الولاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأهل بيته، وحفظ وصيته في حقهم، وقد ذكر ذلك الإمام الرضا، فقال: (إنّ لكلّ إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا لما رغبوا فيه كان أئمّتهم شفعائهم يوم القيامة) (3)
وقال الإمام الصادق: (لو أنّ أحدكم حجّ دهره ثمّ لم يزر الحسين بن عليّ عليهما السّلام لكان تاركا حقّا من حقوق الله وحقوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّ حقّ الحسين فريضة من الله واجبة على كلّ مسلم) (4)
ومع ذلك كله، فإن الله تعالى برحمته ولطفه وكرمه لم يحرم العاجزين عن الرحلة لتلك الأماكن المقدسة من نيل ثواب النفحات المكانية، ذلك أنه جعل المساجد الموجودة في كل محل محالا للبركة والهداية بشرط إقامتها للتقوى، وعدم نشرها للفتن وتفريقها بين المسلمين.
__________
(1) كامل الزيارات، ص 10.
(2) كامل الزيارات، ص 11.
(3) كامل الزيارات، ص 21.
(4) كامل الزيارات، ص 122.
مدارس النفس اللوامة (224)
وقد قال تعالى يذكر ذلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36 - 38]، وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا الله فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]
ولهذا ورد في الأحاديث الكثيرة ما يبين فضل المساجد وعمارتها بالذكر والصلاة وغيرها، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، وذكر منهم: (ورجلٌ قلبه معلقٌ في المساجد) (1) وفي: (ورجلٌ معلقٌ بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه).
وأخبر أن آثار الماشين إلى المساجد تحفظ لهم، فعن جابر قال: (أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خاليةٌ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا) (2)
ولذلك روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان لا بيت أبعد من بيته عن المسجد، وكان لا تخطئه الصلاة مع الجماعة، ولا يرغب في أن يكون بيته إلى جوار المسجد، فقيل له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، فقال: (ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قد جمع الله لك ذلك كله) (3)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم
مدارس النفس اللوامة (225)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثير الذهاب إلى المساجد في محو الخطايا، لا من سجل السيئات فقط، وإنما من سجل النفس أيضا، فقال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات)، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط) (1)، وقال: (من راح إلى مسجد جماعة، فخطوتاه خطوةٌ تمحو سيئة، وخطوةٌ تكتب حسنة، ذاهبا وراجعا) (2)
وشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذاهب إلى المسجد بالحاج، فقال: (من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم) (3)
وبشر الذاهب إلى المساجد بكونه في ضمانة الله تعالى، فقال: (ثلاثةٌ كلهم ضامنٌ على الله عز وجل: رجلٌ خرج غازيا في سبيل الله فهو ضامنٌ على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجلٌ راح إلى المسجد فهو ضامنٌ على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجلٌ دخل بيته بسلام فهو ضامنٌ على الله عز وجل) (4)
وأخبر أن السائر إلى المسجد يشبه المصلي، فلذلك دعا إلى مراعاة الآداب أثناء السير لها، فقال: (إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا: وشبك بين أصابعه) (5)
وأخبر عن الأجر العظيم الذي يناله السائرون للمساجد في الليل، فقال: (بشر
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه ابن حبان
(3) رواه أبو داود
(4) رواه أبو داود
(5) رواه ابن خزيمة
مدارس النفس اللوامة (226)
المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) (1)
وأخبر أن الذاهب إلى المسجد كالزائر لله تعالى، فقال: (من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله، وحقٌ على المزور أن يكرم الزائر) (2)
وأخبر عن إكرام الله تعالى للزائرين للمساجد، باعتبارهم زوارا له، فقال: (من غدا إلى المسجد وراح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح) (3)
وفوق ذلك، فإن من رحمة الله تعالى بعباده، ومراعاته لظروفهم المختلفة، تمكينهم من أن ينالوا نفحات الأماكن المباركة، وهم في بيوتهم، من غير أن يخرجوا منها، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 87]
وفي الحديث، أن عتبان بن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله إنها تكون الظلمة والسيل، وأنا رجلٌ ضرير البصر، فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أين تحب أن أصلي؟ فأشار إلى مكان من البيت، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (4)
وروي عن الإمام الصادق أنه قال: (كان لعلي بيت ليس فيه شئ إلا فراش وسيف ومصحف وكان يصلي فيه) (5)
هذا ـ أيها المريد الصادق ـ بعض ما ورد في المحال التي تتنزل فيها النفحات؛ فابحث
__________
(1) رواه الترمذي
(2) رواه الطبراني
(3) رواه البخاري.
(4) رواه البخاري (667)، ومسلم (33)
(5) المحاسن: 612.
مدارس النفس اللوامة (227)
عنها، واحرص عليها، واستفد من بركاتها، ولا تكتف بظاهرها، بل اعبر منها إلى حقائقها وبواطنها؛ فالله ما شرفها ذلك التشريف، ولا أنزل فيها تلك البركات إلا للحقائق التي تحويها، والمعاني التي تحملها.
مدارس النفس اللوامة (228)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن تلاوة القرآن الكريم وآدابها وحقوقها وسر ما ورد حول فضلها في النصوص المقدسة، وعن كيفية تحويلها من تلاوة عادية وقراءة عابرة إلى تلاوة مؤثرة في النفس والسلوك، هادية للحقائق والقيم.
وذكرت لي بأسف أولئك الذين يقرأون القرآن الكريم، ولا يجاوز حناجرهم، بل إن فيهم من يعمى عن هدايات القرآن، وينحجب بمتشابهه؛ فيضل ويُضل.. ويصبح منبع الهداية والنور عنده منبعا للضلالة ومصدرا للظلمات والحجب.
ثم طلبت مني في آخر رسالتك أن أبين لك كيفية التحقق بمعنى قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121]
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن تلاوة القرآن الكريم أكبر مدرسة تربوية وإصلاحية، لا للفرد وحده، وإنما للمجتمع جميعا.. ولو أن الأمة الإسلامية تمسكت بها لكان واقعها مختلفا تماما، كما أشار الله تعالى إلى ذلك عند ذكره لكتب الأمم الأخرى، فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]
لكن التفريط فيه، والإعراض عنه هو الذي حول الأمة إلى الحال الذي تراه عليها من التخلف والتفرق والفتن وغيرها.
ومثل عالم المجتمع عالم النفس.. فالنفس التي تقيم القرآن بين جوانبها ولطائفها، وتجعله المتربع على عرشها، والسلطان عليها، نفس مرتبطة بالملكوت، تتنزل عليها الرحمات وكل أنواع اللطف الإلهي.. فلذلك تتحول من النفس الأمارة إلى النفس المطمئنة، ثم تصعد
مدارس النفس اللوامة (229)
بعدها في مدارك الكمال بحسب حرصها على التلاوة الحقة، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها) (1)
فهذا الحديث كما يشير إلى الارتقاء في درجات الجنة يشير كذلك إلى درجات الارتقاء في سلم الكمال، ذلك أن درجات الجنة مرتبطة بمدى الكمال الذي يحققه الإنسان.
وهكذا ينبغي أن تقرأ كل النصوص المقدسة التي وردت في فضل تلاوة القرآن الكريم؛ فهي لا تبشرك بذلك الفضل الموعود في الجنة فقط، بل تبشرك بفضل آني تناله لحظة قراءتك، لأنه لا يمكن أن تنال الفضل الموعود دون أن تنال ذلك الفضل الآني، المرتبط بإصلاح نفسك وتهذيبها، وترقيتها في مدارج الكمال.
فمن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبسه حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه فيرضى عنه، فيقال: اقرأ وارق ويزداد بكل آية حسنة) (2)
فكل هذه الفضائل العظيمة ينالها قارئ القرآن في الدنيا قبل الآخرة، ذلك أن المعاني التي يجدها أثناء قراءته هي التي تملؤه بكل المكارم، وهي التي تتوجه بتاج الكرامة، والذي يتجسد له في الآخرة بصورته الحسية، بعد أن عاشه في الدنيا بحقيقته المعنوية.
ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيبٌ وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيبٌ ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيبٌ وطعمها مرٌ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرٌ ولا ريح لها، ومثل جليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم
__________
(1) الترمذي (2914)، وأبو داود (1464)
(2) الترمذي (2915)، والدارمي (3311)
مدارس النفس اللوامة (230)
يصبك منه شيءٌ أصابك من ريحه، ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه) (1)، فهو يشير إلى الآثار الظاهرة والباطنة التي يحدثها القرآن الكريم بحسب القابليات المختلفة، فأي محل تقبله طهر وطاب، وأي محل رفضه تنجس وخبث.
ولذلك يرتبط حق التلاوة بالجانبين المشكلين للإنسان: ظاهره وباطنه، ومن اقتصر على تصحيح تلاوة الظاهر، دون أن يترك لحقائق القرآن الفرصة لتتنزل على باطنه، فلن يستفيد من القرآن الكريم إلا تلك الحلاوة الظاهرة التي تحدثها تلاوته له، دون أن يكون لذلك تأثير على باطنه.
وسر ذلك يعود إلى أن القرآن الكريم روح وحياة لكل ما يلامسه، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وعبر في آية أخرى عن ذلك بالحياة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]؛ فلذلك لا ينال الحياة والروح القرآنية إلا تلك الأجزاء التي لا مسته وتأثرت به وانفعلت له دون من عداها.
وبناء على طلبك ـ أيها المريد الصادق ـ في ذكر حقوق التلاوة التي وردت بها النصوص المقدسة، وأسرارها وأدوارها في التزكية والترقية، فسأذكر لك مجامعها المتضمنة في الركنين اللذين يتشكل منهما الإنسان: الظاهر والباطن.
أما أول حقوق الظاهر ـ أيها المريد الصادق ـ فهو ما يعبر عنه لفظ التلاوة نفسها، فهو يدل على المتابعة والاستمرار، الذي عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (أحب العمل إلى الله الحال
__________
(1) أبو داود (4829)
مدارس النفس اللوامة (231)
المرتحل)، فسئل عن معناه، فقال: (الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل) (1)
ولهذا يرد ذكر التلاوة في القرآن الكريم بالفعل المضارع الدال على الاستمرار، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (فاطر:29)، وقال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (البقرة:121)
وحتى تتوفر الدوافع للاجتهاد في التلاوة والتنافس فيها، رغبت النصوص المقدسة الكثيرة في الأجور العظيمة التي ينالها القارئون للقرآن، وهي لا تعني الأجور فقط، بل تعني الآثار التي تحدثها التلاوة في النفس، ذلك أنه لم يكن للأجر أن يكتب في سجل صاحبه دون أن يكون له تأثيره في نفسه..
ولن يكون له تأثيره في النفس ما لم يكن متتابعا مستمرا، ذلك أن الشيطان والهوى والدنيا وغيرهم يتربصون بالإنسان عند كل غفلة، ولذلك كان محتاجا في كل لحظة إلى التحصن بالحصون القرآنية، مثلما يتحصن من يتربص به أعداؤه، ولا يغفلون عنه.
ومن تلك الأحاديث قولهصلى الله عليه وآله وسلم: (أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان؟)، قلت: نعم، قال: (فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاة، خيرٌ له من ثلاث خلفات عظام سمان) (2)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنةٌ والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرف) (3)
__________
(1) الترمذي (2948)، والدارمي (3476)
(2) مسلم (802)
(3) الترمذي (2910)
مدارس النفس اللوامة (232)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الأجر الذي يناله المشتغل بالقرآن، فلا يشغله عنه شيء، فقال: (يقول الرب تعالى: (من شغله قراءة القرآن عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) (1)
وعن الإمام علي أنه قال: (ألا أخبركم بالفقيه حقّاً؟).. قالوا: (بلى يا أمير المؤمنين).. قال: (مَن لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخّص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، أَلاَ لا خير في علمٍ ليس فيه تفهّم، أَلاَ لا خير في قراءةٍ ليس فيها تدبّر، أَلاَ لا خير في عبادةٍ ليس فيها تفقّه) (2)
وقال: (ليكن كلّ كلامكم ذكر الله، وقراءة القرآن، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل: (أيّ الأعمال أفضل عند الله؟).. قال: (قراءة القرآن، وأنت تموت ولسانك رطبٌ من ذكر الله) (3)
ومن تلك الآداب ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجتهد في أن تضع لنفسك وردا تداوم عليه، مثلما كان يفعل الصالحون، فقد روي عن الإمام الرضا أنه كان يختم القرآن في كل ثلاث، ويقول: (لو أردت أن أختمه في أقل من ثلاث لختمته ولكن ما مررت بآية قط إلا فكرت فيها وفي أي شئ انزلت، وفي أي وقت، فلذلك صرت أختم ثلاثة أيام) (4)
لكن ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ قد لا يتسنى لك، ولا لأكثر الناس، وقد يصرفهم عن الفهم والتدبر والآداب الباطنة، لذلك كان لكل شخص أن يحدد المقدار الذي يتناسب معه، وقد روي عن الإمام الصادق أنه سئل: أقرأ القرآن في ليلة؟ قال: (لا يعجبني أن تقرأه
__________
(1) الترمذي (2926)، والدارمي (3356)
(2) بحار الأنوار: 89/ 211، عن: معاني الأخبار ص 226.
(3) بحار الأنوار: 89/ 20، عن: جامع الأخبار 46 ـ 48.
(4) أمالى الصدوق ص 392.
مدارس النفس اللوامة (233)
في أقلّ من شهر) (1).
وسأله بعضهم: جعلت فداك أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال: لا، قال: ففي ليلتين؟ قال: لا، قال: ففي ثلاث؟ قال: ها ـ وأشار بيده ـ ثمّ قال: (إنّ لرمضان حقّا وحرمة، ولا يشبهه شي ء من الشهور، وكان أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقلّ، إنّ القرآن لا يقرء هذرمة، ولكن ترتّل ترتيلا، وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فقف عندها، واسأل الله تعالى الجنّة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوّذ بالله من النار) (2)
وسأله آخر: في كم أقرأ القرآن؟ فقال: (اقرأه أخماسا، اقرأه أسباعا، أما إنّ عندي مصحفا مجزّى أربعة عشر جزءا) (3)
وأقل الأوراد التي ورد الإذن بها، والتي يعتبر التارك لها مقصرا ما ورد في الحديث عن الإمام الصادق أنه قال: (القرآن عهد الله إلى خلقه، فينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية) (4)
ومن الآداب ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجتهد في تعلم كيفية القراءة الصحيحة بمخارجها وأحكامها، وقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه وهو عليه شاقٌ له أجران) (5)
وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]،
__________
(1) الكافي، ج 2 ص 617.
(2) الكافي، ج 2 ص 617.
(3) الكافي، ج 2 ص 617.
(4) الكافي، ج 2 ص 609.
(5) البخاري (4937)، ومسلم (798)
مدارس النفس اللوامة (234)
فقال: (بيّنه تبياناً، ولا تنثره نثر الرمّل، ولا تهذَّه هذَّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، ولا يكون همُّ أحدكم آخر السورة) (1)
ومن تلك الآداب ما ذكره الإمام الصادق بقوله: (إذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة، فاسأل الله الجنّة.. وإذا مررت بآية فيها ذكر النار، فتعوّذ بالله من النار) (2)
وهو ما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ورد في حديث حذيفة في وصف قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صلى معه، قال: (يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيحٌ سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ) (3)، وفي رواية: (لا يمر بآية تخويف أو تعظيم لله عز وجل إلا ذكره)
وفي حديث آخر عن عوف بن مالك قال: (قمت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبدأ فاستاك وتوضأ، ثم قام فصلى فبدأ فاستفتح من البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف يتعوذ) (4)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوامٌ يقرءون القرآن ويسألون به الناس) (5)
وقال الإمام علي: (إذا قرأتم من المسبّحات الأخيرة، فقولوا: (سبحان الله الأعلى)، وإذا قرأتم: {إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فصلّوا عليه في الصلاة كنتم أو في غيرها، وإذا قرأتم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] فقولوا في آخرها: (ونحن على ذلك من الشاهدين، وإذا قرأتم:
__________
(1) نوادر الراوندي ص 30.
(2) مجمع البيان 10/ 378.
(3) رواه مسلم: 772
(4) رواه النسائي: 1132
(5) الترمذي (2917)
مدارس النفس اللوامة (235)
{قُولُوا آمَنَّا بِالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]، فقولوا: (آمنّا بالله حتّى تبلغوا إلى قوله: (مسلمين) (1)
وقال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد حجته، فكان يكثر قراءة {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1]، فإذا قال: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] سمعته يقول: (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين) (2)
ومن الآداب ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجتهد في حفظ ما أطقت منه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرب) (3)
ونهى نهيا شديدا عن نسيانه، فقال: (ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه، إلا لقى الله يوم القيامة أجذم)، زاد رزين: (واقرءوا إن شئتم: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:125: 126]) (4)
وقد روى الإمام علي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (أُعلّمك دعاء لا تنسى القرآن، قل: (اللهمّ ارحمني بترك معاصيك أبداً ما أبقيتني، وارحمني من تكلّف ما لا يعنيني، وارزقني حسن النظر فيما يرضيك، والزم قلبي حفظ كتابك كما علّمتني، وارزقني أن أتلوه على النحو الّذي يرضيك عنّي.. اللهمّ نوِّر بكتابك بصري، واشرح به صدري، وأطلق به لساني، واستعمل به بدني، وقوّني به على ذلك، وأعنّي عليه، إنّه لا يعين عليه إلاّ أنت، لا إله إلاّ
__________
(1) الخصال 2/ 165.
(2) الدر المنثور 6/ 296.
(3) الترمذي (2913)، والدارمي (3306)
(4) أبو داود (1474)،والدارمي (3340)
مدارس النفس اللوامة (236)
أنت) (1)
ومن الآداب ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجتهد في تحسين صوتك عند قراءته؛ فقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (زينوا القرآن بأصواتكم) (2)، وقال: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن) (3)، وفي رواية: (لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به) (4)، وفي أخرى: (يتغنى بالقرآن يجهر بصوته) (5)، وقال: (لكلّ شي ء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن) (6).
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن العزيمة في ذلك، فقال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهربه) (7)
لكنه ـ مع ذلك ـ لم يترك الأمر للأهواء التي قد تحول من هذا إلى وسيلة لوضع ألحان لا تتناسب مع جلال القرآن وقدسيته، فلذلك قال: (اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق، ولحون أهل الكتابين، وسيجئ بعدي قوم يرجعون ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم) (8)
وليس عليك ـ أيها المريد الصادق ـ حرج في أن تستمع للقراءات الجميلة المؤثرة، فإن لك أجرا عظيما بسماعك، وقد روي عن بعض القراء أنه سأل الإمام الباقر، فقال: إذا قرأت
__________
(1) بحار الأنوار: 89/ 209، عن: عدة الداعي.
(2) أبو داود (1468)، والنسائي 2/ 179،وابن ماجة (1342)
(3) مسلم (792)
(4) البخاري (5023)، ومسلم (792)
(5) مسلم (792) 233.
(6) الكافي ج 2 ص 614.
(7) البخاري (7527)،وأبو داود (1469)
(8) الطبراني في (الأوسط) 7/ 183 (7223)، الكافي ج 2 ص 614.
مدارس النفس اللوامة (237)
القرآن فرفعت به صوتي جاءني الشيطان فقال: إنّما تراءى بهذا أهلك والناس، فقال له الإمام: (اقرأ قراءة بين القراءتين تسمع أهلك ورجّع بالقرآن صوتك فإنّ الله تعالى يحبّ الصوت الحسن، ترجّع به ترجيعا) (1)
وفي الحديث عن ابن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اقرأ على القرآن، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، قال: حسبك الآن، فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان (2).
ومن الآداب ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجتهد في قراءته في بيتك، لأنّه يوفر البركة له، ويبعدك عن آفات الأعمال إلا إذا كان في قراءتك في غيره تشجيعا لهم على القراءة، أو دعوة لهم إليها، فقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (نوّروا بيوتكم بتلاوة القرآن، ولا تتّخذوها قبورا كما فعلت اليهود والنصارى، صلّوا في الكنائس والبيع، وعطّلوا بيوتهم؛ فإنّ البيت إذا كثر فيه تلاوة القرآن كثر خيره واتّسع أهله، وأضاء لأهل السماء كما يضي ء نجوم السماء لأهل الدنيا) (3)
وعن الإمام علي أنه قال: (البيت الّذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويضي ء لأهل السماء كما يضي ء الكواكب لأهل الأرض، وإنّ البيت الّذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله فيه تقلّ بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين) (4)
__________
(1) الكافي ج 2 ص 614.
(2) البخاري (5050)، ومسلم (800) 248.
(3) الكافي، ج 2 ص 610 رقم 1 إلى 3.
(4) الكافي، ج 2 ص 610 رقم 1 إلى 3.
مدارس النفس اللوامة (238)
وقال الإمام الصادق أنه قال: (إنّ البيت إذا كان فيه المرء المسلم يتلو القرآن يتراءاه أهل السماء كما يتراءى أهل الدنيا الكوكب الدرّيّ في السماء) (1)
واجتهد ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجمع بين الحسنيين: القراءة والصلاة، فقد ورد ما يدل على فضل ذلك وتأثيره، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة، وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من ذكر الله تعالى، وذكر الله تعالى أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصيام، والصيام جُنّةٌ من النار) (2)
وعن الإمام الحسين أنه قال: (من قرأ آية من كتاب الله في صلاته قائما يكتب له بكلّ حرف مائة حسنة، فإن قرأها في غير صلاة كتب له بكلّ حرف عشر حسنات، فإن استمع القرآن كتب له بكلّ حرف حسنة فإن ختم القرآن ليلا صلّت عليه الملائكة حتّى يصبح، وإن ختمه نهارا صلّت عليه الحفظة حتّى يمسي وكانت له دعوة مجابة، وكان خيرا له ممّا بين السماء إلى الأرض) (3)
وعن الإمام الباقر أنه قال: (من قرأ القرآن قائما في صلاته كتب له بكلّ حرف مائة حسنة، ومن قرأ في صلاته جالسا كتب له بكلّ حرف خمسون حسنة، ومن قرأه في غير صلاة كتب له بكلّ حرف عشر حسنات) (4)
وهكذا، فإن فضل القراءة مرتبط بمدى الجهد المبذول فيها، ولا يحرم القارئ والمستمع من أدنى الأجور، وإن كان الأجر الأعظم للأكثر اجتهادا وتدبرا، وقد روي عن
__________
(1) الكافي، ج 2 ص 610 رقم 1 إلى 3.
(2) بحار الأنوار: 89/ 19، عن: جامع الأخبار 46 ـ 48.
(3) الكافي، ج 2 ص 611.
(4) الكافي، ج 2 ص 611.
مدارس النفس اللوامة (239)
الإمام السجاد أنه قال: (من استمع حرفا من كتاب الله من غير قراءة كتب الله له به حسنة ومحا عنه سيّئة ورفع له درجة، ومن قرأ نظرا من غير صوت كتب الله له بكلّ حرف حسنة ومحا عنه سيّئة ورفع له درجة، ومن تعلّم منه حرفا ظاهرا كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات، لا أقول: بكلّ آية ولكن بكلّ حرف باء أو تاء أو شبههما، ومن قرأ حرفا ظاهرا وهو جالس في صلاة كتب الله له به خمسين حسنة، ومحا عنه خمسين سيّئة، ورفع له خمسين درجة، ومن قرأ حرفا وهو قائم في صلاته كتب الله له بكلّ حرف] مائة حسنة، ومحا عنه مائة سيّئة، ورفع له مائة درجة، ومن ختمه كانت له دعوة مستجابة مؤخّرة أو معجّلة) (1)
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنةٌ مضاعفةٌ، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة) (2)، فهذه رخصة عظيمة، وهي لأهل عصرنا أسهل وأيسر، ذلك لأنه يمكنهم الاستماع إليه، ومن القراء الذين يرغبون، وفي كل المحال، وبأيسر الوسائل.
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تقرأ من المصحف أو من دونه، وفي كل أحوالك سائرا أو جالسا أو مضطجعا، وعظم الأجر بقدر حضور قلبك وخشوعك وخضوعك وتفهمك وتدبرك وترقيك من خلاله.
أما الحق الباطن ـ أيها المريد الصادق ـ فيبدأ من تعظيمك للقرآن الكريم، ذلك أن تدبرك له، واستفادتك منه، لا تكون إلا بمقدار ذلك التعظيم، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ
__________
(1) الكافي، ج 2 ص 612.
(2) أحمد 2/ 341.
مدارس النفس اللوامة (240)
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]
وقد عبر بعض الحكماء عن لطف الله تعالى بعباده في إيصال معاني كلامه لهم بطريقة تتناسب مع قصورهم وحاجتهم، وذلك في جواب له لبعض من سأله، فقال: أ رأيت ما يأتي به الأنبياء إذا ادّعيت أنّه ليس بكلام الناس وأنّه كلام الله تعالى فكيف يطيق الناس حمله؟ فقال الحكيم: (إنّا رأينا الناس لمّا أرادوا أن يفهموا بعض الدوابّ والطير ما يريدون من تقديمها وتأخيرها وإقبالها وإدبارها ورأوا الدوابّ يقصر تمييزها عن فهم كلامهم الصادر عن أنواع عقلهم مع حسنه وترتيبه وبديع نظمه، فنزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إلى بواطن البهائم بأصوات يضعونها لائقة بهم من النقر والصفير والأصوات القريبة من أصواتهم الّتي يطيقون حملها، وكذلك الناس يعجزون عن حمل كلام الله بكنهه وكمال صفاته، فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات الّتي سمعوا بها الحكمة كصوت النقر والصفير الّذي سمعت به الدوابّ من الناس ولم يمنع ذلك معاني الحكمة المخبوّة في تلك الصفات من أن يشرّف الكلام أي الأصوات لشرفها ويعظّم لتعظيمها، فكان الصوت للحكمة جسدا ومسكنا والحكمة للصوت نفسا وروحا، فكما أنّ أجساد البشر تكرم وتعزّ لمكان الرّوح فكذلك أصوات الكلام تشرّف للحكمة الّتي فيها والكلام عالي المنزلة، رفيع الدرجة، قاهر السلطان نافذ الحكم في الحقّ والباطل، وهو القاضي العادل، والشاهد المرتضى يأمر وينهى ولا طاقة للباطل أن يقوم قدّام كلام الحكمة كما لا يستطيع الظلّ أن يقوم قدّام شعاع الشمس، ولا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس، ولكنّهم ينالون من عين الشمس ما تحيا به أبصارهم، ويستدلّون به على حوائجهم فقط، فالكلام كالملك المحجوب الغائب وجهه، والمشاهد أمره وكالشمس العزيزة الظاهرة مكنون عنصرها، وكالنجوم الزاهرة الّتي
مدارس النفس اللوامة (241)
قد يهتدي بها من لا يقف على سيرها، فهو مفتاح الخزائن النفيسة، وشراب الحياة الّذي من شرب منه لم يمت، ودواء الأسقام الّذي من سقى منه لم يسقم) (1)
ومما يعينك على ذلك التعظيم تأملك فيما ورد في النصوص المقدسة من فضل القرآن الكريم، وكونه في المحل الذي لا يعدله شيء، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (مَن أعطاه الله القرآن، فرأى أنّ أحداً أُعطي شيئاً أفضل ممّا أُعطي فقد صغّر عظيماً، وعظّم صغيراً) (2)
وقال: (فضل القرآن على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه) (3)
وقال: (القرآن غنى لا غنى دونه، ولا فقر بعده) (4)
وقال: (القرآن أفضل من كلّ شيءٍ دون الله، فمن وقّر القرآن فقد وقّر الله، ومن لم يوقّر القرآن فقد استخفّ بحقّ الله، وحرمة القرآن كحرمة الوالد على ولده، وحملة القرآن المحفوفون برحمة الله، الملبوسون نور الله، يقول الله: (يا حملة القرآن!.. استحبّوا الله بتوقير كتاب الله يزد لكم حبّاً، ويحبّبكم إلى عباده، يدفع عن مستمع القرآن بلوى الدنيا، وعن قارئها بلوى الآخرة، ولمستمع آية من كتاب الله خيرٌ من ثبير ذهباً، ولتالي آية من كتاب الله أفضل مما تحت العرش إلى أسفل التخوم) (5)
وذكر الإمام الرضا يوماً القرآن، فعظّم الحجّة فيه، والآية المعجزة في نظمه، ثم قال: (هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، وطريقته المثلى، المؤدِّي إلى الجنة، والمنجي من النار، لا
__________
(1) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 2، ص: 236
(2) بحار الأنوار: 89/ 13، عن: معاني الأخبار ص 279.
(3) بحار الأنوار: 89/ 19، عن: جامع الأخبار 46 ـ 49.
(4) بحار الأنوار: 89/ 19، عن: جامع الأخبار 46 ـ 48.
(5) بحار الأنوار: 89/ 291، وجامع الأخبار ص 47.
مدارس النفس اللوامة (242)
يخلق من الأزمنة، ولا يغثُّ على الألسنة، لأنّه لم يُجعل لزمانٍ دون زمان، بل جُعل دليل البرهان، وحجّة على كلّ إنسان، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد) (1)
ومما يعينك على ذلك ـ أيضا ـ تدبرك لتلك الأدعية التي تقال عند تلاوته أو عند ختمه، والتي تبين عظمته وقيمته وشرفه والأنوار التي يظفر بها من أحسن التعامل معه، ومن تلك الأدعية ما كان يقوله الإمام الصادق حين يأخذ المصحف للقراءة، فقد كان يقول: (اللهم إني أشهد أن هذا كتابك المنزل من عندك على رسولك محمد بن عبدالله، وكلامك الناطق على لسان نبيك، جعلته هاديا منك الى خلقك، وحبلا متصلا فيما بينك وبين عبادك.. اللهم إني نشرت عهدك وكتابك.. اللهم فاجعل نظري فيه عبادة، وقراءتي فيه فكرا، وفكري فيه اعتبارا، واجعلني ممن اتعظ ببيان مواعظك فيه، واجتنب معاصيك، ولا تطبع عند قراءتي على سمعي، ولا تجعل على بصري غشاوة، ولا تجعل قراءتي قراءة لا تدبّر فيها، بل اجعلني أتدبّر آياته وأحكامه، آخذا بشرائع دينك، ولا تجعل نظري فيه غفلة، ولا قراءتي هذرا، إنك أنت الرؤوف الرحيم) (2)
وكان يقول عند الفراغ من القراءة: (اللهم إني قد قرأت ما قضيت من كتابك الذي أنزلت فيه على نبيّك الصادق صلى الله عليه وآله وسلم، فلك الحمد ربنا.. اللهم اجعلني ممن يحل حلاله، ويحرّم حرامه، ويؤمن بمحكمه ومتشابهه، واجعله لي أنسا في قبري، وأنسا في حشري، واجعلني ممن ترقّيه بكل آية قرأها درجة في أعلى عليين، آمين رب العالمين) (3)
ومما يعينك على ذلك ـ أيضا ـ استحضارك لعظمة ربك، وعلمك أنه كلامه، وأنه
__________
(1) بحار الأنوار: 89/ 14، عن: العيون 2/ 130.
(2) بحار الأنوار: 89/ 207، عن: مصباح الأنوار.
(3) بحار الأنوار: 89/ 207، عن: مصباح الأنوار.
مدارس النفس اللوامة (243)
رسالته إليك؛ فعظمة الرسالة بعظمة مرسلها، ولهذا كان بعضهم كلما اقترب من المصحف أصابته رعشة، وقال: (هو كلام ربّي، هو كلام ربّي)
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]
وهذه الآية الكريمة ـ أيها المريد الصادق ـ تدعوك إلى أن تشرك جميع مشاعرك أثناء قراءتك، ولو تكلفا، فإن لذلك تأثيره على الباطن، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا) (1)، وقال: (إنّ القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا) (2)
وقال الإمام الصادق: (إنّ الله أوحى إلى موسى بن عمران إذا وقفت بين يدي فقف موقف الذليل الفقير، وإذا قرأت التوراة فأسمعنيها بصوت حزين) (3).
وقد ذكر بعض الحكماء كيفية تكلف ذلك، فقال: (و وجه إحضار الحزن أن يتأمّل ما فيه من التهديد والوعيد والوثائق والعهود، ثمّ يتأمّل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن له لا محالة ويبكي فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء، فإنّ ذلك أعظم المصائب) (4)
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تتجاوز البكاء والحزن إلى تكلف الصعق والغشية، فقد ورد النهي عنه، فقد قيل للإمام الباقر: (إنّ قوماً إذا ذُكّروا بشيءٍ من القرآن، أو حُدِّثوا
__________
(1) الكافي، ج 2 ص 614.
(2) قال العراقي: أخرجه أبو يعلى وأبو نعيم في الحلية، وهو في الكافي، ج 2 ص 614.
(3) الكافي، ج 2 ص 615.
(4) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 2، ص: 226
مدارس النفس اللوامة (244)
به صُعق أحدهم، حتّى يرى أنه لو قطّعت يداه ورجلاه لم يشعر بذلك)، فقال: (سبحان الله.. ذاك من الشيطان، ما بهذا أُمروا، إنّما هو اللّين والرقة والدَّمعة والوجل) (1)
واجتهد ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن يحضر عقلك مع كل آية تقرؤها، فلا تغفل عنه، ولا يشرد ذهنك إلى غيره، فهذا هو أول القوة التي أمر الله تعالى بها، فقال: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، فيحي ليس ذلك النبي الكريم فقط، بل كلنا ينبغي أن يكون يحي، حتى نحيا بالقرآن.. فهو لا يحيي إلا ما يلامسه.
وقد روي أنه قيل لبعض الصالحين: إذا قرأت القرآن تحدّث نفسك بشي ء؟ فقال: (أو شي ء أحبّ إليّ من القرآن أحدّث به نفسي؟)، وكان آخر إذا قرأ سورة لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية (2).
واحذر ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن تكون ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه) (3)
وقال: (يؤتى برجل يوم القيامة ويمثل له القرآن، قد كان يضيع فرائضه ويتعدى حدوده ويخالف طاعته ويرتكب معصيته، فيقول: أي رب، حملت آياتي بئس حاملٌ، تعدى حدودي وضيع فرائضي وترك طاعتي وركب معصيتي. فما يزال عليه بالحجج حتى يقال: فشأنك به. فيأخذ بيده فما يفارقه حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى بالرجل قد كان يحفظ حدوده ويعمل بفرائضه ويعمل بطاعته ويجتنب معصيته فيصير خصما دونه، فيقول: أي رب، حملت آياتي خير حامل، اتقى حدودي وعمل بفرائضي واتبع طاعتي واجتنب معصيتي. فلا يزال له بالحجج حتى يقال: فشأنك به، فيأخذ بيده فما يزال به حتى يكسوه
__________
(1) بحار الأنوار: 89/ 212، عن: أمالي الصدوق ص 154.
(2) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 2، ص: 237.
(3) الترمذي (2918)
مدارس النفس اللوامة (245)
حلة الإستبرق ويضع عليه تاج الملك ويسقيه بكأس الملك) (1)
فالقرآن الكريم لم ينزل للتسلية ولا للترفيه، وإنما أنزل ليخرجك من نفسك الأمارة، ويحولك إلى عوالم الجمال والكمال التي وفرها الله لك.. فإن أعرضت عنها، كنت معرضا عنه، ولو ختمته كل يوم.
__________
(1) البزار كما في (كشف الأستار) (2337)
مدارس النفس اللوامة (246)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن سر ما ورد في النصوص المقدسة من فضائل بعض الآيات أو السور القرآنية، وعلاقة ذلك بالتزكية والترقية، وهل يمكن الاستفادة من تلك الفضائل في استخراج الآيات والسور المشابهة لها؟
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أنه يمكن تشبيه أدوار ووظائف القرآن الكريم في النفس بتشبيهات كثيرة، تقرب حقيقة علاقته بنا، وعلاقتنا به.
فهو بالنسبة للمرضى وأصحاب النفوس الأمارة واللوامة بشبه الصيدلية الكبيرة التي تحوي كل أصناف الأدوية، التي تعالج كل الأمراض، ولذلك فإن من قرأه جميعا، وبتدبر وتفهم وصدق وإخلاص؛ فسينال بغيته من الشفاء من كل علله وأدوائه.
لكنه مع ذلك قد يكون محتاجا إلى علاج خاص لأمراض معينة، فلذلك يُنصح بآيات أو سور تتناسب مع حالته؛ فلا يكتفي بترديدها المرة أو المرتين، بل يحتاج إلى التكرار الكثير لها، لتستقر معانيها في نفسه، مثلما يفعل الدواء الذي يحتاج إلى مقادير خاصة ليقوم بدوره في مواجهة الداء.
وهو بالنسبة للسالكين طريق التخلق والتحقق، معارج ومدارج للنفس لتسير نحو الكمال المتاح لها.. فكل سورة من سوره معراج خاص لعالم من عوالم الحقائق والقيم، ولذلك تحتاج النفس ـ بحسب أحوالها ـ إلى المعارج الخاصة بها، والتي تتناسب مع حالتها، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها) (1)
بالإضافة إلى ذلك كله؛ فإن القرآن الكريم يحوي الكثير من الأسرار الغيبية المرتبطة
__________
(1) الترمذي (2914)، وأبو داود (1464)
مدارس النفس اللوامة (247)
بحياة الناس في صحتهم ومرضهم وفقرهم وغناهم ونفعهم وضرهم.. وقد أودع الله تعالى في سوره وآياته ما يفي بتلك الحاجات، ولذلك كان لكل سورة وظيفتها ودورها الخاص بها.
وهذه الأمور الثلاثة وغيرها كثير هي التي تيسر عليك ـ أيها المريد الصادق ـ فهم ما ورد في فضائل الآيات والسور من معان، مع العلم أن بعضها غيب محض، لا يمكن لعقلك المجرد أن يعرفه، وبعضها يمكنك التعرف عليه بالتأمل والتدبر، وبعضها واضح لا يحتاج إلى كل ذلك.
وحتى يتيسر عليك فهم الجميع، فاعلم أن كل سورة من القرآن الكريم بمثابة الكائن الحي الذي خصصت له أدوار معينة؛ فهو يؤديها كما طلبت منه.
وإن شئت تقريبا لذلك، فانظر إلى العناصر المختلفة الموجودة في الطبيعة، وما تحتوي عليه من خصائص، وما يمكن أن يستفاد منها بسببها؛ فكذلك القرآن الكريم؛ فكل سورة أو آية منه عالم من العوالم التي يمكنها أن تنقلنا إلى محال السعادة التي خصصت لها.
وكمثال على ذلك ما ورد في فضائل سورة الملك، والتي ورد في الأحاديث المتفق عليها عند الأمة جميعا بأنها تقي صاحبها من عذاب القبر؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك) (1)
وهذا يعني أن القارئ الملازم لها، والذي يكون له بها مزيد عناية ورعاية، حفظا وفهما وقراءة وتدبرا، تؤدي حقه بشكرها له بالشفاعة فيه.
وقد صور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (يؤتى الرجل في قبره فتؤتى رجلاه فتقول رجلاه: ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك، ثم يؤتى من قبل صدره أو
__________
(1) أبو داود (1400) والترمذي (2891)
مدارس النفس اللوامة (248)
قال بطنه فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك، ثم يؤتى رأسه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك. قال: فهي المانعة تمنع من عذاب القبر، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب) (1)
وذكر ابن مسعود اهتمام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها لأجل ذلك، فقال: (من قرأ (تبارك الذي بيده الملك) كل ليلة منعه الله بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسميها المانعة، وإنها في كتاب الله سورة من قرأ بها في كل ليلة فقد أكثر وأطاب) (2)
وعن ابن عباس أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال: بلى قال: (اقرأ (تبارك الذي بيده الملك) وعلمها أهلك وجميع ولدك، وصبيان بيتك وجيرانك، فانها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له أن ينجيه من عذاب النار، وينجو بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لودت أنها في قلب كل إنسان من أمتي) (3)
تأمل ـ أيها المريد الصادق ـ هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المنتجبين، ومثلها كثير عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعن أئمة الهدى من بعده.. وسترى كيف تتغير نظرتك للسور القرآنية، فهي ليست مجرد كلمات ترددها، أو معان تتفهمها، بل إن كل سورة أو آية كائن حي، يمكنك بمداومة الصحبة له، وعقد الألفة بينك وبينه أن تستفيد منه كل ما يغنيك في دنياك وأخراك.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في حق البسملة التي شرفها الله تعالى بأن تذكر مع كل سورة قرآنية، بل مع كل عمل، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كونها مصدرا لبركة كل ما تفتتح به، ومحق كل ما لم تفتتح به، فقال: (من حزنه أمر تعاطاه فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم}
__________
(1) الحاكم (3839) وعبد الرزاق (8651)
(2) رواه النسائي في السنن الكبرى (10547) وفي عمل اليوم والليلة (711)
(3) بحار الأنوار (92/ 314)
مدارس النفس اللوامة (249)
وهو يخلص لله، ويُقبل عليه بقلبه إليه، لم ينفك عن إحدى اثنتين: إمّا بلوغ حاجته، وإما ما يعد له ويدخر لديه، وما عند الله خير وأبقى) (1)
وقال الإمام السجاد: (قولوا عند افتتاح كلّ أمرٍ صغيرٍ أو عظيمٍ: ({بسم الله الرحمن الرحيم}، أي أستعين على هذا الأمر بالله الذي لا تحقّ العبادة لغيره، المغيث إذا استُغيث، والمجيب إذا دُعي، {الرحمن} الذي يرحم ببسط الرزق علينا، الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، خفّف علينا الدِّين وجعله سهلاً خفيفاً، وهو يرحمنا بتميّزنا عن أعدائه) (2)
بل إن القرآن الكريم نفسه أشار إلى ذلك، فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]
وبذلك يمكن تصور البسملة بصورة الكائن الحي الذي بمجرد أن تردد ألفاظه بلسانك، وتستقر معانيه في قلبك، يقوم بالأدوار المكلف بها خير قيام.
وكيف لا يكون للبسملة تلك الأدوار، وهي تحوي كل الحقائق المرتبطة بجميع الأشياء أعيانها وأحداثها، ولذلك كان في ذكرها تذكيرا للنفس بأن ما تقدم عليه هو من الله وبتوفيقه وبركته، وتحذر في نفس الوقت من أن تمارس بذلك ما يخالف رضا ربها الذي وهبها تلك النعم.
وهكذا الأمر بالنسبة لسورة الفاتحة، التي هي أم الكتاب، والتي اختصر الله تعالى فيها كل الحقائق والقيم، لتذكرها النفس بسهولة ويسر، ولذلك ورد الأمر بقراءتها في كل صلاة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداجٌ ـ ثلاثا ـ غير تمام) (3)
__________
(1) بحار الأنوار: 89/ 245.
(2) تفسير الإمام ص 9 ـ 24.
(3) مسلم (395)، والترمذي (2953)، والنسائي 2/ 135 - 136.
مدارس النفس اللوامة (250)
وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سر ذلك، فقال حاكيا عن ربه عز وجل: (قال الله عز وجل: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 2)، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 3)، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4)، قال: مجدني عبدي فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6، 7)، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) (1)
وتذكر هذا الحوار أثناء قراءتها ـ أيها المريد الصادق ـ له دور كبير في التواصل مع الله تعالى، والشعور بقربه ورحمته وكرمه ولطفه.. وذلك مما يهذب النفس ويزكيها، ويرفعها إلى أعلى درجات الكمال.
ولهذا ذكر الإمام الصادق أنها كانت بمثابة الطامة الكبرى على المشروع الشيطاني، فقال: (إنّ إبليس رنّ رنيناً لمّا بعث الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم على حين فترة من الرسل، وحين أُنزلت أمّ القرآن) (2)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن نعمة الله عليه وعلى أمته بها، فقال: (منّ عليّ ربّي وقال لي: (يا محمّد.. أرسلتك إلى كلّ أحمر وأسود، ونصرتك بالرّعب، وأحللت لك الغنيمة، وأعطيتك لك ولأمّتك كنزاً من كنوز عرشي: (فاتحة الكتاب، وخاتمة سورة البقرة) (3)
وعن ابن عباس قال: بينما جبريل عليه السلام قاعدٌ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: (هذا باب من السماء لم يفتح إلا اليوم، فنزل منه ملكٌ)، فقال: (هذا
__________
(1) مسلم (395)، والترمذي (2953)، والنسائي 2/ 135 - 136.
(2) تفسير القمي ص 26.
(3) معاني الأخبار ص 50، العلل 1/ 121.
مدارس النفس اللوامة (251)
ملكٌ نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته) (1)
ومثل ذلك ما ورد في فضائل سورة البقرة وآل عمران، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الكثير من الخصائص التي خصهما الله بها، ومنها ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما فرقانٌ من طير صواف يحاجان عن صاحبهما، اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرةٌ ولا تستطيعها البطلة) (2) وفي رواية: (ما من عبد يقرأ بها في ركعة قبل أن يسجد ثم سأل الله شيئا إلا أعطاه إن كادت لتحصى الدين كله) (3)
فهذا الحديث يؤكد ما ذكرته لك ـ أيها المريد الصادق ـ من أن السور القرآنية بمثابة الكائنات الحية التي كلفت بوظائف خاصة لا تنال إلا من هو أهل لها.. ولذلك كان لقراءتها والاهتمام بها وصحبتها تأثيرها الكبير في تحصيل تلك المنافع الخاصة بها.
ويشير إلى ذلك ما ورد في فضل سورة الكهف؛ فقد روي أن رجلا كان يقرأ سورة الكهف وعنده فرسٌ مربوطة بشطنين فتغشته سحابةٌ فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك، فقال: (تلك السكينة تنزلت للقرآن) (4)
وهو ما يشير أيضا إلى أن كل تلك المعاني من السكينة والرحمة وغيرها ليست مجرد وجودات ذهنية، وإنما لها وجودها الواقعي.. وفي هذا الحديث إشارة إلى أن قراءة سورة الكهف سبب لتنزل السكينة.
__________
(1) مسلم (806)، النسائي 2/ 138.
(2) مسلم (804)
(3) مسلم (804)
(4) البخاري (4839)، ومسلم (795)
مدارس النفس اللوامة (252)
وذلك يشبه ـ أيها المريد الصادق ـ ما تحدثه تلك الأدوية أو الأغذية المفرحة التي إذا تناولها الإنسان يشعر بالفرح، وتزول عنه الكآبة.. فهكذا الذي يقرأ تلك السور الخاصة بهذا، يعطيه الله تعالى ما يرتبط بها من السكينة والفرح والسرور.
وقد أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن سورة الشرح: (من قرأها أعطاه الله اليقين والعافية، ومن قرأها على ألمٍ في الصدر وكتبت له شفاه الله) (1)
وقال الإمام الصادق: (إذا عسر عليك أمر، فصلّ عند الزوال ركعتين تقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد وإنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً إلى قوله وينصرك الله نصراً عزيزاً، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد وألم نشرح لك صدرك) (2)
فالحقائق التي تحويها هذه السور جميعا لها تأثيرها في إزالة الكرب والكآبة؛ فسورة الشرح مثلا تتحدث عن الهبات الإلهية، وتُذكّر بأيام المحن والصعاب التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف يسر الله له تجاوزها، وتذكر بأن الله تعالى سيبدل العسر بيسرين.. وغيرها من المعاني التي تحويها السورة، والتي لها آثارها الكبيرة في إزالة الوحشة والكآبة.
ولهذا يعتبرها الحكماء علاجا للكآبة، وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك:
إذا ضاقت بك الدنيا... ففكر في ألم نشرح
فعسر بين يسرين... متى تذكرهما تفرح
ومثل ذلك ما ورد في سورة يس، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن فضلها والخواص المرتبطة بها، فقال: (لكل شيء قلبٌ وقلب القرآن يس، ومن قرأها كتب له بقراءتها قراءة
__________
(1) البحراني، تفسير البرهان، ج 10، ص 183.
(2) القمي، سفينة البحار، ج 5، ص 166.
مدارس النفس اللوامة (253)
القرآن عشر مرات دون يس) (1)، وقال: (من قرأ يس في صدر النهار قضيت حوائجه) (2)
وروي عن أئمة الهدى الكثير من الأحاديث في فضلها، ومنها ما حدث به الإمام الصادق، قال: (إنّ لكلّ شيءٍ قلب، وقلب القرآن يس، من قرأها في نهاره قبل أن يمسي، كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي، ومن قرأها في ليلة قبل أن ينام، وكل الله به ألف ملك يحفظونه من شرّ كلّ شيطانٍ رجيم، ومن كلّ آفة، وإن مات في يومه أو في ليلته أدخله الله الجنة، وحضر غسله ثلاثون ألف ملك كلهم يستغفرون له، ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له، فإذا أُدخل في لحده كانوا في جوف قبره، يعبدون الله وثواب عبادتهم له، وفُسح له في قبره مدّ بصره، وأُومن من ضغطة القبر، ولم يزل له في قبره نورٌ ساطعٌ إلى أعنان السماء إلى أن يُخرجه الله من قبره، فإذا أخرجه لم يزل ملائكة الله معه، يشيّعونه ويحدّثونه ويضحكون في وجهه، ويبشّرونه بكلّ خيرٍ حتى يجوزوا به الصراط والميزان، ويوقفوه من الله موقفاً لا يكون عند الله خلقاً أقرب منه، إلا ملائكة الله المقرّبون، وأنبياؤه المرسلون، وهو مع النبيين واقفٌ بين يدي الله، لا يحزن مع من يحزن، ولا يهتم مع من يهتم، ولا يجزع مع من يجزع، ثم يقول له الربّ تبارك وتعالى: (اشفع عبدي!.. أُشفّعك في جميع ما تشفع، وسلني عبدي!.. أُعطك جميع ما تسأل، فيسأل فيُعطى، ويشفع فيُشفّع، ولا يُحاسب فيمن يُحاسب، ولا يُوقف مع من يُوقف، ولا يُذلّ مع من يُذلّ، ولا يكبّت بخطيئةٍ، ولا بشيءٍ من سوء عمله، ويُعطى كتاباً منشوراً، حتى يهبط من عند الله، فيقول الناس بأجمعهم: (سبحان الله!.. ما كان لهذا العبد من خطيئة واحدة، ويكون من رفقاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم) (3)
__________
(1) الترمذي (2887)
(2) الدارمي (3418)
(3) ثواب الأعمال ص 100.
مدارس النفس اللوامة (254)
وقال: (علّموا أولادكم ياسين، فإنّها ريحانة القرآن) (1)
ومثلها ما ورد في فضائل سورة الواقعة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا) (2)
وقال: (سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموها أولادكم) (3)
وقال: (علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى) (4)
وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي تؤكد علاقة هذه السورة الكريمة بالغنى ودفع الحاجة، ومما ورد عن أئمة الهدى في فضلها قول الإمام الصادق: (مَن قرأ في كلّ ليلة جمعة الواقعة أحبّه الله وأحبّه إلى الناس أجمعين، ولم يرَ في الدنيا بؤساً أبداً، ولا فقراً ولا فاقة ولا آفة من آفات الدنيا) (5)
وقال الإمام الباقر: (مَن قرأ الواقعة كلّ ليلةٍ قبل أن ينام، لقي الله عزّ وجلّ ووجهه كالقمر ليلة البدر) (6)
هذه مجرد أمثلة أوردتها لك ـ أيها المريد الصادق ـ لتعلم ما في القرآن الكريم من الخصائص والوظائف التي لا يمكن أن يستفيد منها من لم يعرفها؛ فلذلك احرص على صحبة كل آية من آياته، وسورة من سوره، حتى تنال آثارها وثمارها جميعا.
وإن أردت أن تعرف أسرار الفضائل الخاصة بها؛ فاعلم أن ذلك يعود لسببين، كلاهما تنزل من أجله القرآن الكريم، أولهما: الحقائق.. وثانيهما القيم.
__________
(1) أمالي الطوسي 2/ 290.
(2) رواه أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.
(3) رواه ابن مردويه.
(4) رواه الديلمي.
(5) ثواب الأعمال ص 105.
(6) ثواب الأعمال ص 106.
مدارس النفس اللوامة (255)
وبما أن الفاتحة تشتمل على مجامع كليهما، فقد ورد فيها ذلك الفضل الخاص، واعتبرت أم القرآن، وقد قال بعض الحكماء عنها: (إذا تفكرتَ وجدت الفاتحة على إيجازها مشتملةً على ثمانية مناهج: فقوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ}: نبأٌ عن الذَّات.. وقولُهُ {الرحمن الرَّحِيمِ}: نبأٌ عن صفة من صفات خاصة، وخاصيتها أنها تستدعي سائر الصفات من العلم والقدرة وغيرهما ثم تتعلق بالخلق، وهم المَرْحومُون، تعلُّقاً يُؤْنِسُهم به، ويُشَوِّقُهم إليه، ويُرَغِّبُهم في طاعته، لا كوصف الغضب، لو ذكره بدلاً عن الرحمة فإن ذلك يُحزِنُ ويخوِّف، ويقبض القلب ولا يشرحه.. وقولُهُ {الحمد لله رَبِّ العالمين}: يشتمل على شيئين: أحدهما: أصل الحمد وهو الشكر، وذلك أول الصراط المستقيم، وكأنه. شَطْرُه، فإن الإيمانَ العملي نصفان: نصفٌ صبر، ونصفٌ شُكر، كما تعرف حقيقةَ ذلك.. والثاني: قوله تعالى {رَبِّ العالمين} إشارة إلى الأفعال كلها، وإضافتُها إليه بأُوْجَزِ لفظٍ وأَتَمِّهِ إحاطةً بأصنافِ الأفعالِ لفظُ ربِّ العالمين.. وقولُهُ ثانياً: {الرحمن الرَّحِيمِ} إشارة إلى الصفة مرة أخرى، ولا تظنّ أنه مكرر، فلا تَكَرُّرَ في القرآن، إذ حَدُّ المُكَرَّر ما لا ينطوي على مزيدِ فائدة؛ وذِكرُ الرحمة بعد ذِكرِ العالَمين وقبلَ ذكر مالك يوم الدين ينطوي على فائدتين عَظيمَتَيْن في تفضيل مجاري الرحمة: إحداهما: تلتفت إلى خَلْقِ ربِّ العالمين: فإنه خَلَقَ كلَّ واحد منهم على أكمل أنواعهِ وأفضَلِها.. وثانيها: تعلُّقُها بقوله {مالك يَوْمِ الدين}: فيشيرُ إلى الرحمة في المَعادِ يومَ الجزاءِ عند الإنعام بالمُلْكِ المؤَبَّدِ في مقابَلةِ كلمةٍ وعبادة.. وأما قولُه: {مالك يَوْمِ الدين}: فإشارةٌ إلى الآخِرَة في المَعاد، وهو أحد الأقسام من الأصول، مع الإشارة إلى معنى المَلَك والمَلِك، وذلك من صفات الجلال) (1)
إلى آخر كلامه الذي يبين ما في سورة الفاتحة من الحقائق والقيم العظيمة التي لم يكن
__________
(1) جواهر القرآن (ص: 64)
مدارس النفس اللوامة (256)
لسورة الفاتحة ذلك الفضل العظيم من دونها.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الفضائل العظيمة لبعض آيات القرآن الكريم وسوره ترتبط بالدرجة الأولى بالحقائق العظيمة التي تحملها، وقد أشار إلى ذلك بعض الحكماء، فقال ـ ردا على من يستغرب التفاضل بين السور القرآنية ـ: (اعلم: أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، وترتاع من اعتقاد الفرق نفسك الجوارة، المستغرقة بالتقليد، فقلد صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقد دلت الأخبار على شرف بعض الآيات، وعلى تضعيف الأجر في بعض السور المنزلة، والأخبار الواردة في فضائل قوارع القرآن، بتخصيص بعض الآيات والسور بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى، فاطلبه من كتب الحديث إن أردته) (1)
ولهذا كان لسورة الإخلاص ذلك الفضل العظيم، باعتبارها ثلث القرآن، لما احتوت عليه من المعارف العظيمة المرتبطة بالله تعالى، ففي الحديث أن رجلا سمع آخر يقرأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} (الاخلاص:1) يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالها - فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن) (2)
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ في كل ليلة ثلث القرآن)، قالوا: نحن أعجز من ذلك وأضعف، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل جزا القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله احد جزءا من أجزاء القرآن) (3)
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم
__________
(1) جواهر القرآن (ص: 62)
(2) رواه البخاري 4627.
(3) رواه البخاري 4628.
مدارس النفس اللوامة (257)
فيختم بقل هو الله أحدٌ؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؛ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أخبروه أن الله يحبه) (1)
وسؤال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن سر حب الرجل لها دليل على أن فضلها لا يرتبط بالقراءة فقط، وإنما بالدافع لها أيضا، فمن قرأها لأجل الاستعاذة تحقق له مقتضاها، ومن قرأها تعظيما لله، وحبا لصفاته، استحق محبة الله.
ولهذا عندما سئل الإمام الرضا عن التوحيد قال: (كل من قرأ قل هو الله أحد وآمن بها فقد عرف التوحيد)، فقيل له: كيف نقرأها قال: (كما يقرأ الناس، وقولوا بعدها: كذلك الله ربي، كذلك الله ربي) (2)
ومثل ذلك ما ورد في آية الكرسي من فضائل، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آيةٌ هي سيدة آي القرآن آية الكرسي) (3)
وفي حديث آخر عن أبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (يا أبا المنذر، أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)، فقال: {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على صدره،
__________
(1) رواه البخاري 6827
(2) عيون الاخبار ج 1 ص 133.
(3) الترمذي (2878)
مدارس النفس اللوامة (258)
وقال: (ليهنك العلم يا أبا المنذر) (1)
وعن الإمام الصادق أنه قال: (إن الشياطين يقولون: لكل شئ دزوة ودزوة القرآن آية الكرسي، من قرأها مرة صرف الله عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا، وألف مكروه من مكاره الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر، وأيسر مكروه الاخرة عذاب القبر، وإني لاستعين بها على صعود الدرجة) (2)
ومثل ذلك ما ورد في فضل آخر سورة الحشر، وهي قوله تعالى: {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24]
فقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضلها، لما اشتملت عليه من المعارف والحقائق الكبرى، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من قال حين يصبح عشر مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة) (3)
وقال الإمام الحسن: (مَن قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر إذا أصبح فمات من يومه ذلك، طُبع بطابع الشهداء، وإن قرأ إذا أمسى فمات في ليلته طُبع بطابع الشهداء) (4)
__________
(1) مسلم (810)
(2) تفسير العياشى ج 1 ص 136.
(3) الترمذي (2922)، وأحمد (5/ 26 رقم 20306)، والدارمي (3425)
(4) الدر المنثور 6/ 202.
مدارس النفس اللوامة (259)
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تخص الآيات التي ورد فيها أسماء الله الحسنى وصفاته العليا بالمزيد من العناية حتى تترسخ معانيها في نفسك، وحتى تكون سببا لترقيك في مقامات العرفان التي لا حدود لها؛ فقد روي عن الإمام علي أنه قال: (فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير ان يكونوا رأوه) (1)
أما معارج القيم ـ أيها المريد الصادق ـ فهي كل السور والآيات المرتبطة بالسلوك والأخلاق والمواقف والمعايير والموازين التي توزن بها الأمور..
ومن الأمثلة عن اعتبارها في فضائل السور والآيات القرآنية ما ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث بعثا، فاستقرأهم فقرأ كل رجل ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال: (ما معك أنت يا فلان؟)، قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، قال: (أمعك سورة البقرة؟)، قال: نعم.. اذهب فأنت أميرهم، فإنها إن كادت لتحصى الدين كله)، فقال رجلٌ من أشرافهم: والله ما منعني يا رسول الله أن أتعلمها إلا خشية أن لا أقوم بما فيها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (تعلموا القرآن واقرأوه وقوموا به، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح بريحه كل مكان، ومثل من تعلمه ويرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكى على مسك) (2)
فهذا الحديث يشير إلى مراعاته صلى الله عليه وآله وسلم لسورة البقرة أثناء توليته لذلك الذي هو أحدثهم سنا، باعتبارها السورة التي تحوي كل حقائق الدين وقيمه، كما عبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وفي هذا تنبيه بليغ للأمة في عدم مراعاة السن أثناء اختيار أصحاب الوظائف والمناصب، وهو ما لم يحصل في الواقع التاريخي الإسلامي، وبعد النبوة مباشرة، وقد كان
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة 147.
(2) الترمذي (2876)
مدارس النفس اللوامة (260)
ذلك سببا لكل الفتن التي حصلت بعد ذلك.
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن خاصية أخرى لسورة البقرة، فقال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) (1)
وفي هذا إشارة إلى تلك المعاني الكثيرة التي تحتوي عليها سورة البقرة، والتي لها دورها الكبير في حفظ الأسرة من أن يتدخل الشيطان لينشر القطيعة بينها.
وهكذا ورد فضل الآيات التي تشير إلى القيم الروحية، ومنها ما ورد في حق قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285، 286]، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) (2)
ومثلها ما ورد في أواخر سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [آل عمران: 190 - 194]
__________
(1) مسلم (780)، الترمذي (2877)
(2) البخاري (5051)، ومسلم (807)
مدارس النفس اللوامة (261)
فقد حدثت عائشة عن أثر هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما نزلت عليه، فقالت لمن سألها عن أعجب شيء رأته منه صلى الله عليه وآله وسلم، فَبَكَتْ، وقالت: كُلُّ أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي، فقال: ذريني أتعبد لربي، فقلت: والله إني لأحب قربك، وإني أحب أن تَعبد لربك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بَل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يُؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله، ما يُبكيك؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر، فقال: (ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل عليّ في هذه الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ}، ثم قال: (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها) (1)
وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ينادي مناد يوم القيامة أين أولوا الألباب قالوا: أي أولوا الألباب تريد؟ قال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} عقد لهم لواء فاتبع القوم لواءهم وقال لهم: (ادخلوها خالدين) (2)
ومثلها ما ورد في فضل سورة الكهف، وارتباطها بالحفظ من فتن الدجال، وذلك لما احتوت عليه من المعاني الكثيرة التي تعصم قارئها من تلك الفتن ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة، وإن خرج الدجال عصم منه) (3)
ومثل ذلك وردت النصوص بقراءة فواتح سورة الكهف، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه
__________
(1) رواه ابن مردويه، وعَبْد بن حُمَيد.
(2) رواه الأصبهاني في الترغيب، الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/ 407)
(3) المختارة برقم (430)
مدارس النفس اللوامة (262)
قال: (فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) (1)، وقال: (وإن من فتنته أن معه جنة ونارا فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلى بنار فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون بردا وسلاما كما كانت النار على إبراهيم) (2)
فالعنصر الغالب في هذه السورة هو القصص: ففي أولها قصة أصحاب الكهف، وبعدها قصة الجنتين، وفي وسطها تجيء قصة موسى مع العبد الصالح، وفي نهايتها قصة ذي القرنين.. وهذه القصص تستغرق معظم آيات السورة، فهي واردة في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية؛ ومعظم ما يتبقى من آيات السورة هو تعليق أو تعقيب على القصص فيها.. وفي كل قصة من القصص حصن من الحصون التي تحمي من الدجال وفتنه (3).
وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك أن تخص بعض الآيات المرتبطة بالقيم الأخلاقية والروحية بالمزيد من عنايتك لعل الله ييسر لك الاتصاف بمعانيها.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في صفات عباد الرحمن، والتي تصف الشخصية المسلمة بجميع جوانبها الأخلاقية والروحية، وكونهم {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 63 - 68]، وغيرها من أوصافهم.
ومثلها تلك الآيات التي تصف الأبرار، وكونهم {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ
__________
(1) أحمد ومسلم والترمذي.
(2) ابن ماجة وابن خزيمة، والحاكم والضياء.
(3) شرحنا علاقة السورة وما تحويه من معان تحمي من الفتن في كتاب: أوكار الاستكبار (ص: 152)
مدارس النفس اللوامة (263)
شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 7 - 10]
ومثلها تلك التي تصف {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 35]
ومثلها تلك التي تصف {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4]
ومثلها تلك التي تصف المؤمنين بأنهم {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]
وغيرها من الآيات الكريمة التي جعلها الله معارج للنفس، لتخرج بها من أهوائها وتصوراتها الخاطئة للقيم النبيلة.. وتبني قيمها ومواقفها على أساس تلك المعايير التي ذكرها القرآن الكريم.
مدارس النفس اللوامة (264)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن أول المراتب التي يرتقي بها السالك إلى الحقائق القرآنية، والتي تجعله يدرك أسرار تلك الفضائل التي وردت في حقه جملة وتفصيلا، وعلاقة ذلك بالتزكية والترقية.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن القرآن الكريم هو رسالة الله تعالى إلى عباده، والرسالة لا يكتفى منها بترديدها، ولا بقراءتها، ولا بتضميخها بأنواع العطر، ولا بتقبيلها ووضعها على الجبهة، ولا بوضعها في إطار جميل مزخرف، وتعليقه في أشرف الأمكنة، وإنما بقراءتها، وفهمها، وتدبر معانيها.
فالمرسل العاقل الواعي الذي يرسل أي رسالة لا يريد من رسالته حروفها فقط، وإنما يريد معانيها، ما ظهر منها وما بطن، وما لاح للعين بادي الرأي، وما احتاج إلى تأمل واستبصار وتدبر.
وهكذا أعظم رسالة بين أيدينا، وهي كلام ربنا.. فهي كما تحتاج إلى كل ذلك التكريم والتشريف والتقديس، تحتاج أيضا إلى أن ترقى عقولنا لفهمها، وإدراك مقاصدها، وتحويل حروفها من كلمات في المصاحف إلى حركات في الحياة.
ولذلك أخبر الله تعالى عن انغلاق القلوب التي لا تفهم كلماته، ولا تتدبرها، فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]
وأخبر أن السبب الأكبر في غفلتهم عن الحقائق العظيمة التي جاء بها القرآن الكريم ناتج عن عدم التدبر، فقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]
وأخبر أن عدم إدراك أسرار المعاني القرآنية، وتوهم التناقض بينها ناتج عن عدم
مدارس النفس اللوامة (265)
استعمال آلية التدبر، فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]
وبناء على هذا كله أخبر عن أن الغاية الكبرى لتنزل القرآن الكريم هو التدبر الذي ينتج عنه التذكر، والذي لا يتحقق به إلا أولو الألباب، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]
ولهذا، فإن الفهم والتدبر هو روح التعامل مع القرآن الكريم، مثلما الخشوع هو روح الصلاة، كما قال الإمام علي: (لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبّر فيها) (1)
ولهذا كان الصالحون يرددون الآية الواحدة مرات كثيرة ابتغاء لتنزل فهمها والتدبر في معانيها، بل روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي أنه قرأ {بسم الله الرّحمن الرّحيم}، فردّدها عشرين مرّة (2).
و عن أبي ذرّ قال: (قام بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقام ليلة بآية يردّدها، وهي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]) (3)
و قام بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بهذه الآية {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]
وعن الزهري عن الإمام السجاد أنه قال: (لومات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)، ثم قال الزهري: (وكان إذا قرأ (مالك يوم الدين)
__________
(1) تحف العقول ص 204.
(2) رواه أبو ذر الهروي في معجمه.
(3) ابن ماجه تحت رقم 1350.
مدارس النفس اللوامة (266)
يكررها، حتى يكاد أن يموت) (1)
وقام سعيد بن جبير ليلة يردّد هذه الآية {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59]
وحكي عن بعض الصالحين أنه قال: (إنّي لأفتتح السورة فتوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتّى يطلع الفجر)، وقال آخر: (كلّ آية لا أتفهّمها ولا يكون قلبي فيها لا أعدّ لها ثوابا)
و حكي عن آخر أنّه قال: (إنّي لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال وخمس ليال ولو لا أنّي أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها)
وروي أن آخر بقي في سورة هود ستّة أشهر يكرّرها ولا يفرغ من التدبّر فيها.
وقال آخر: (لي في كلّ جمعة ختمة، وفي كلّ شهر ختمة، وفي كلّ سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد)، وكان يقول: (أقمت نفسي مقام الاجراء فأنا أعمل مياومة ومسابعة ومشاهرة ومسانهة) (2)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما أحدثك عنه من معاني الفهم والتدبر، والوصفات التي تعينك على ذلك.
أول مرتبة في التعامل مع الحقائق القرآنية ـ أيها المريد الصادق ـ فهم معانيها، ذلك أن الألفاظ والتراكيب ليست مقصودة بذاتها، وإنما قصدها المعاني التي تختزنها.. ولذلك على قارئ القرآن أن يتجاوز الألفاظ إلى معانيها.. كل معانيها التي تليق بها.. فالقرآن الكريم حمال وجوه؛ فلذلك على العاقل أن يحمله على أحسن وجوهه، حتى لا يضل أو يضل.
__________
(1) الكافى: ج 2 ص 602.
(2) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء؛ ج 2؛ ص 237
مدارس النفس اللوامة (267)
وأول ذلك تحكيم المتشابه إلى المحكم، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) (1)
وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ تلك الآيات، ثم قال: (قد حذركم الله، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم) (2)
وعن الإمام الصادق أنه قال: (إن القرآن زاجر وآمر يأمر بالجنة ويزجر عن النار، وفيه محكم ومتشابه، فأما المحكم فيؤمن به ويعمل به ويدين به، وأما المتشابه فيؤمن به ولا يعمل به، وهو قول الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}) (3)
ولذلك عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفهم القرآن الكريم من خلال عرض آياته بعضها على بعض حتى لا تقع في تلك الانحرافات التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي وقعت فيها أمته من بعده.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من ذكر اليد مضافة لله تعالى، لأن العرب عندما تضيف اليد لأي كان قد تريد بذلك اليد التي هي الجارحة، وتريد بها أيضا
__________
(1) البخاري (4547) ومسلم (2665)
(2) تفسير الطبري (6/ 192)، ورواه الآجري في الشريعة (ص 332)
(3) تفسير القمى: 745.
مدارس النفس اللوامة (268)
معاني أخرى مثل: القوة والنعمة والعطاء والثواب والهداية والنصرة والحفظ وغيرها.
وبما أن الأمر كذلك، فاليد المنسوبة لله، تعتبر من المتشابهات، والتي لا يمكن القطع بمعناها إلا بعرضها على المحكم القرآني الذي ينزه الله تعالى عن الجسمية والتركيب ومشابهة مخلوقاته، وهو ما يقوله الراسخون في العلم.
أما المعرضون عن المحكم، والآخذون بالمتشابه، فقد أعرضوا عن ذلك؛ فلم يفوضوا المراد منها لله تعالى من باب الاحتياط والتورع، ولم يؤولوها بما يتناسب مع كلام العرب، وإنما راحوا يحملونها على ظواهرها؛ فنسبوا لله تعالى اليد بمعناها الظاهر، ونسبوا له غيرها من الجوارح، فوقعوا في التجسيم والتشبيه.
ومما يعينك على ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ رجوعك للراسخين في العلم أولئك الذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إليهم لفهم القرآن، والتفريق بين محكمه ومتشابهه، وإياك والرجوع لأولئك الذين ارتضوا لليهود أن يفسروا كتابهم، فملأوه بكل أنواع الخرافة والدجل.
وقد روي أن بعضهم جاء للإمام علي، وطرح عليه الآيات المتشابهات، وطلب منه أن يفك غموضها له، وسأذكر لك بعض ما ذكره ليكون عبرة لك، ووسيلة تفهم من خلالها لغة القرآن الكريم ومقاصده.
فمن ذلك أنه سأله عن النسيان الوارد في القرآن الكريم والمضاف لله تعالى، فقال له الإمام علي: (فأما قوله تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} إنما يعني نسوا الله في دار الدنيا لم يعملوا بطاعته، فنسيهم في الآخرة ـ أي لم يجعل لهم من ثوابه شيئاً، فصاروا منسيين من الخير، وكذلك تفسير قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا} يعني بالنسيان انه لم يثبهم كما يثيب أولياءه، والذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسوله
مدارس النفس اللوامة (269)
وخافوه بالغيب.. وأما قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} فان ربنا تبارك وتعالى علواً كبيراً ليس بالذي ينسى، ولا يغفل; بل هو الحفيظ العليم، وقد يقول العرب: قد نسينا فلان فلا يذكرها، أي انه لا يأمر لهم بخير ولا يذكرهم به)
ومن ذلك أنه سأله عما ورد في القرآن الكريم من نسبة الحركة والتنقل لله تعالى، فقال له الإمام: (وأما قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُوْنَا فُرَادَى} وقوله: {هَلْ يَنْظُرُوْنَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ أَوْ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فذلك كله حق، وليست جيئته جلّ ذكره كجيئة خلقه، فانه رب كل شيء من كتاب الله عزوجل يكون تأويله على غير تنزيله، ولا يشبه تأويله بكلام البشر، وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إن شاء الله تعالى، وهو حكاية الله عزوجل عن ابراهيم (عليه السلام) حيث قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إَلى رَبِّي سَيَهْدِيْن} فذهابه إلى ربه توجهه اليه في عبادته واجتهاده، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله، وقال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} وقال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيْدَ فِيْهِ بَأْسٌ شَدِيْدٌ} فانزاله ذلك خلقه إياه. وكذلك قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي الجاحدين، والتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره، ومعنى قوله: {هَلْ يَنْظُرُوْنَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فانما خاطب نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هل ينتظر المنافقون والمشركون إلاّ أن تأتيهم الملائكة فيعاينونهم، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} يعني بذلك أمر ربك، والآيات هي العذاب في دار الدنيا كما عذب الاُمم السالفة والقرون الخالية، وقال: {أَوَ لَمْ يَرَوا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضُ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِها} يعني بذلك ما يهلك من القرون فسماه إتياناً)
إلى آخر حديثه الطويل، وفيه ما يدلك ـ أيها المريد الصادق ـ على ضرورة الرجوع للراسخين في العلم حتى تبتعد عن الشبهات التي يبثها أهل الزيغ لتحريف القرآن الكريم
مدارس النفس اللوامة (270)
عن معناه الذي أراده الله.
ولذلك احذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تدخل عقلك فيما لا قدرة لك في فهمه؛ بل كله إلى الله تعالى، وحسبك منه ما أطقته؛ فإن قوما راحوا يتجرؤون على الحقائق القرآنية من غير أن يكون لديهم أدوات فهمها، ولا أن يحين زمان فهمها، فضلوا وأضلوا.
ولذلك قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 53]
فمن القرآن الكريم ما لا يفهم معناه إلا بحصوله، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]
ولذلك كان التعامل الصحيح مع القرآن الكريم في الاقتصار على فهم ما وضح منه، أو كان له ارتباط بالحقائق والقيم، وما عدا ذلك ليس سوى تكلف ممقوت لا يصرف عن الحقائق فقط، بل يشوهها أيضا.
لهذا نهى الله تعالى المؤمنين في سورة الكهف عن البحث عن تفاصيل أخبار فتية أهل الكهف، لعدم وجود مصادر أمينة موثوقة يمكنها أن تعرف بحقيقتهم، أو تدل على الأحداث المرتبطة بهم، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]
فقد اعتبر القرآن الكريم مجرد الحديث عن عددهم من غير بينة رجما بالغيب، وهو من أعظم الكذب والزور والبهتان.
مدارس النفس اللوامة (271)
وهكذا الأمر عندما ذكر مدة لبثهم في الكهف، كما قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 25، 26]
ولذلك بدل انشغالك بما غاب عنك علمه، أو لا يضرك جهله، انشغل بالحقائق والقيم القرآنية التي لم ينزل القرآن الكريم إلا لأجلها، وقد قال بعض الحكماء ينصح مريدا له، متعجبا من إعراضه عن الحقائق القرآنية: (إني أنبهك على رقدتك، أيها المسترسل في تلاوتك، المتخذ دراسة القرآن عملا، المتلقف من معانيه ظواهر وجملا، إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها؟ أوما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها؟ وتسافر إلى جزائرها لآجتناء أطايبها؟ وتغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها؟ أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها؟ أوما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط؟ ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها؟ أوما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها فظفروا بالكبريت الأحمر؟ وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوت الأحمر، والدر الأزهر، والزبرجد الأخضر؟ وساحوا في سواحلها، فالتقطوا العنبر الأشهب، والعود الرطب الأنضر؟ وتعلقوا إلى جزائرها واستدروا من حيواناتها الترياق الأكبر، والمسك الأذفر؟) (1)
ولذلك دعك ـ أيها المريد الصادق ـ من الجدل في القرآن والخصومة فيه، وابحث عن حقائقه التي تنفعك في دنياك وأخراك؛ فهو لم ينزل إلا لأجل ذلك، وقد قال ابن مسعود: (من أراد علم الأوّلين والآخرين فليثوّر القرآن)
__________
(1) جواهر القرآن (ص: 21)
مدارس النفس اللوامة (272)
وقد قال بعض الحكماء يشير إلى كيفية ذلك الفهم، ضارب المثل عنه بما ورد في حق الله تعالى وصفاته وأسمائه وأفعاله: (أعظم علوم القرآن تحت أسماء الله وصفاته إذ لم يدرك أكثر الخلق منها إلّا أمورا لائقة بأفهامهم ولم يعثروا على أغوارها، وأمّا أفعاله فكذكره خلق السماوات والأرض وغيرها فليفهم التالي منها صفات الله وجلاله إذ الفعل يدلّ على الفاعل فيدلّ عظمته على عظمته فينبغي أن يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل، فمن عرف الحقّ رآه في كلّ شي ء إذ كلّ شي ء منه وإليه وبه وله فهو الكلّ على التحقيق) (1)
وهكذا فيما ورد في القرآن الكريم من أحوال الأنبياء عليهم السّلام؛ (فإذا سمع منها كيف كذّبوا وضربوا وقتل بعضهم، فليفهم منه صفة استغناء الله تعالى عن الرسل والمرسل إليهم وأنّه لو أهلك جميعهم لم يؤثر في ملكه وإذا سمع نصرتهم في آخر الأمر فليفهم قدرة الله وإرادته لنصرة الحقّ.. وأمّا أحوال المكذّبين كعاد وثمود وما جرى عليهم فليكن فهمه منه استشعار الخوف من سطوته ونقمته، وليكن حظّه منه الاعتبار في نفسه وأنّه إن غفل وأساء الأدب واغترّ بما أمهل فربما يدركه النقمة وتنفذ فيه القضيّة، وكذلك إذا سمع وصف الجنّة والنّار وسائر ما في القرآن، فلا يمكن استقصاء ما يفهم منه لأنّ ذلك لا نهاية له وإنّما لكلّ عبد منه بقدر رزقه) (2)
ولذلك كان الصالحون الذين قضوا حياتهم بصحبة القرآن الكريم يشيرون إلى عظم الحقائق التي يذكرها، وكثرتها، ووفائها بكل الحاجات، وقد قال الإمام عليّ (لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب)
ولن تصل إلى تلك المرتبة ـ أيها المريد الصادق ـ حتى تتخلص من كل الحجب التي تحول بينك وبين فهمه، وأولها الحجاب الذي أشار إليه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ
__________
(1) إحياء علوم الدين (1/ 283)
(2) إحياء علوم الدين (1/ 284)
مدارس النفس اللوامة (273)
إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]، وهو حجاب الكبرياء والغرور والهوى..
فإذا تخلصت منه، وجلست بين يدي القرآن الكريم كالتلميذ بين يدي الأستاذ علمك الله، ولو من غير معلم، وقد قال بعض الصالحين يشير إلى ذلك: (لا يكون المريد مريدا حتّى يجد في القرآن كلّ ما يريد، ويعرف منه النقصان من المزيد، ويستغني بالمولى عن العبيد)
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت)
وقد قال بعضهم معبرا عن هذا المعنى ومفسرا لسره عند تفسير قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31]: (معنى كونهم أولياء للمؤمنين أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية، بالإلهامات والمكاشفات اليقينية، والمقامات الحقيقية، كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح بإلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إليها.. وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات، فهم يقولون: كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا فهي تكون باقية في الآخرة فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال، بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى، وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة، وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس، والقطرة بالنسبة إلى البحر، والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة.. فإذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة
مدارس النفس اللوامة (274)
بالبحر، والشعلة بالشمس) (1)
ومن جملة تلك الموانع التي قد تصرفك ـ أيها المريد الصادق ـ عن فهم القرآن الكريم أن يكون همك (منصرفا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، فهذا يتولّى حفظه شيطان وكلّ بالقرآن ليصرفهم عن معاني كلام الله ولا يزال يحملهم على ترديد الحرف، يخيّل إليهم أنّه لم يخرج من مخرجه فهذا يكون تأمّله مقصورا على مخارج الحروف فأنّى ينكشف له المعاني، وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعا لمثل هذا التلبيس) (2)
ومنها أن يكون القارئ للقرآن الكريم (مقلّدا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصّب له بمجرّد الاتّباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة فهذا شخص قيّده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده فصار نظره موقوفا على مسموعه فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني الّتي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة، وقال: كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك فيرى أن ذلك غرور من الشيطان فيتباعد منه ويحترز عن مثله.. وهذا التقليد قد يكون باطلا فيكون مانعا كمن يعتقد من الاستواء على العرش التمكّن والاستقرار، فإن خطر له مثلا في القدّوس أنّه المقدّس عن كلّ ما يجوز على خلقه لم يمكّنه تقليده من أن يستقرّ ذلك في نفسه، ولو استقرّ ذلك في نفسه لا نجرّ إلى كشف ثان وثالث ولتواصل ولكن يتسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته تقليده الباطل وقد يكون حقّا ويكون أيضا مانعا من الفهم والكشف لأنّ الحقّ الّذي كلّف الخلق اعتقاده له مراتب ودرجات وله مبدأ ظاهر وغور باطن وجمود الطبع على الظاهر يمنع من الوصول إلى الغور الباطن كما ذكرناه من الفرق بين العلم الباطن
__________
(1) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (27/ 561)
(2) إحياء علوم الدين (1/ 284)
مدارس النفس اللوامة (275)
والظاهر في كتاب قواعد العقائد) (1)
ومنها أن يكون القارئ للقرآن الكريم (مصرّا على ذنب أو متّصفا بكبر أو مبتلى في الجملة بهوى في الدّنيا مطاع فإنّ ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه وهو كالخبث على المرآة فيمنع جليّة الحقّ من أن يتجلّى فيه وهو أعظم حجاب للقلب وبه حجب الأكثرون وكلّما كانت الشهوات أشدّ تراكما كانت معاني الكلام أشدّ احتجابا وكلّما خفّ عن القلب أثقال الدّنيا قرب تجلّى المعنى فيه فالقلب مثل المرآة والشهوات مثل الصدء ومعاني القرآن مثل الصور الّتي تتراءى في المرآة والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل تصقيل الجلاء للمرآة)
وذلك شرط الله تعالى الإنابة في الفهم والتذكّر، فقال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8]، وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]
ومنها أن يكون القارئ للقرآن الكريم (قد قرأ تفسيرا ظاهرا واعتقد أنّه لا معنى لكلمات القرآن إلّا ما تناوله النقل عن ابن عبّاس ومجاهد وغيرهما وأنّ ما وراء ذلك تفسير بالرأي وأنّ من فسّر القرآن برأيه فقد تبوّأ مقعده من النّار، فهذا أيضا من الحجب العظيمة) (2)
المرتبة الثانية في التعامل مع الحقائق القرآنية ـ أيها المريد الصادق ـ بعد فهم معانيه، وعدم الحجاب عنها بأي نوع من أنواع الحجب هي تدبر القرآن الكريم.. فهو الذي يتيح لك أن تحول من الحروف القرآنية واقعا تعيشه في كل البيئات والأوقات، وبقلبك وعقلك وكل لطائفك.
__________
(1) إحياء علوم الدين (1/ 284)
(2) إحياء علوم الدين (1/ 285)
مدارس النفس اللوامة (276)
وتدبر القرآن الكريم درجة تعلو على فهمه.. ذلك أن الفهم مهما رقى يظل محصورا في دوائر الألفاظ وحدودها.. وأما التدبر؛ فهو الذي يخرج من تلك الدوائر، ليعبر منها لكل شيء.
ومن الأمثلة على ذلك أن الذي يقرأ قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، يفهم أن المراد منها وصية الله تعالى بالأحكام المرتبطة بالمواريث.. لكن التدبر يهديه إلى سر اختيار الله تعالى للفظ الوصية دون غيرها.. ثم يهتدي إلى أن الله تعالى أرحم بالأولاد من آبائهم، ذلك أنه هو الذي يوصي آباءهم بهم.. ثم يهتدي إلى رحمة الله الواسعة ولطفه بعباده.. وهكذا لا يزال يرتقي من معنى إلى معنى حتى يستفيد المعاني الكثيرة، والتي تتحول فيها كل آيات القرآن الكريم إلى معارف إلهية تملؤه باليقين والإيمان.
وهكذا ينزل من تلك الحقائق إلى القيم السلوكية التي تملأ حياته بالتقوى والصلاح؛ حتى تتحول صفات الله وأسماؤه الحسنى إلى قيم سلوكية يسير بها في حياته جميعا.
وهكذا؛ فإن التدبر يجعله لا يحصر القصص القرآني في البيئات التاريخية التي حصلت فيها الأحداث، وإنما يتجاوزها ليستنبط منها سنن الله تعالى في المجتمعات والتاريخ وغيرها، كما قال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203]
وقد أشار إلى ذلك الإمام علي، فقال: (اليقين على أربع شعب: تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، ومعرفة العبرة وسنة الاولين، فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف العبرة ومن عرف العبرة عرف السنة، ومن عرف السنة فكأنما كان مع الاولين واهتدى إلى التي هي أقوم، ونظر إلى من نجا بما نجا، ومن هلك بما هلك، وإنما أهلك الله
مدارس النفس اللوامة (277)
من هلك بمعصيته، وأنجا من أنجا بطاعته) (1)
بل أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أخبر عن تتبع هذه الأمة لسنن من قبلها، وذلك يعني أن ما ورد في القرآن الكريم ليس القصد منه التأريخ، وإنما الدعوة لأخذ العبرة، والحذر من الوقوع فيما وقعوا فيه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟) (2)، وقال: (لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع)، قالوا: فارس والروم؟ قال: (فمن الناس إلا أولئك؟) (3)
وهكذا؛ فإن القارئ للقرآن الكريم لا يقرؤه كأجنبي عنه، وإنما يقرؤه باعتباره رسائل الله إليه، وأنها تنزلت من أجله، وكل ما فيه خطاب له، كما عبر عن ذلك بعضهم فقال: (من بلغه القرآن فكأنّما كلّمه الله تعالى، وإذا قدّر ذلك لم يتّخذ دراسة القرآن عمله بل قرأه كما يقرء العبد كتاب مولاه الّذي كتب إليه ليتأمّله ويعمل بمقتضاه)
وقال آخر: (هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربّنا بعهوده نتدبّرها في الصلوات ونقف عليها في الخلوات وننفذها في الطاعات بالسّنن المتّبعات)
وقال آخر: (إن القرآن كلام الله يكلم به عباده، وهم لا يشعرون، وكتاب بعث إليهم بالخصوص وهم لا يدرون، لاهية قلوبهم كأنهم يظنون أنه وجد اتفاقا، فصاروا يأخذون منه أحكامهم وليسوا بالمقصودين في علم) (4)
وقال آخر: (فمن فتح الله بصيرته يراه الآن يتنزل به الروح الأمين، وإذا قرأه يقرأه
__________
(1) بحار الأنوار (68/ 351)
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري.
(4) ابن عليوة، البحر المسجور، ص 17.
مدارس النفس اللوامة (278)
من إمام مبين، وأعظمهم درجة من يتلقاه من أرحم الراحمين وقليل ما هم) (1)
وقد سمى بعض الحكماء هذا المعنى بـ (الترقي)، وعرفه بأن (يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه) (2)
وبين أن القراءة النافعة ثلاث درجات، ولكل درجة السلوك الخاص المرتبط بها (3):
الأولى، وهي أدناها أن يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفا بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع منه فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملق والتضرع والابتهال.
والثانية، وهي أرفع من التي قبلها: أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه ويخاطبه بألطافه ويناجيه بإنعامه وإحسانه فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم
والثالثة، وهي أعلى الجميع: أن يرى في الكلام المتكلم، وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه، بل يكون مقصور الهم على المتكلم، موقوف الفكر عليه، كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره، وقد عبر عن هذه الدرجة الإمام الصادق فقال: (والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه ولكنهم لا يبصرون)، وقال، وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشيا عليه فلما سرى عنه قيل له في ذلك فقال: (ما زلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم) (4)
وبهذا تصبح كل آيات القرآن الكريم مؤثرة، وفي جميع مناحي الحياة، حتى ما تعلق من ذلك بالأمم السابقة، كما عبر عن ذلك بعض الحكماء، فقال: (ومهما اعتبرنا ما بين دفتي
__________
(1) ابن عليوة، البحر المسجور، ص 18.
(2) إحياء علوم الدين (1/ 287)
(3) إحياء علوم الدين (1/ 287)
(4) إحياء علوم الدين (1/ 287)
مدارس النفس اللوامة (279)
المصحف كتابا من الله جل ثناؤه وصل إلينا بالخصوص لزمنا أن لا نحمل ما أوعد الله أو وعد به على غيرنا من الأمم، فمهما ثبت الاستحقاق في شخص بشيء من ذلك فيكون هو المقصود نفسه بذلك الخطاب، وهكذا سائر الأوامر والنواهي والترغيبات والترهيبات، وهذا وجه كون الكتاب إلينا) (1)
ورد على ما قد يتعقب عليه به مما تذكره عادة كتب التفسير من رد أسباب النزول إلى أشخاص معينين أو أحداث معينة بأن سبب النزول مرتبط فقط بابتداء النزول، يقول في ذلك: (وأما كون الآية نزلت في فلان أو فلان، إنما ذلك الشخص سبب لابتداء تهيئ الجنس المستحق لذلك الوصف أو الحكم، والمعتبر من خطاب الله عموم اللفظ لا خصوص السبب) (2)
وسر ذلك كله ـ أيها المريد الصادق ـ يعود إلى حقائق الروح الإنسانية؛ فـ (الأرواح جنود مجندة متساوية في تعلق الخطاب بها ليست متعاقبة الوجود كتعاقب الأجسام، فأرواح المنافقين مثلا من عهد رأس المنافقين الأولين إلى خاتمهم يشملهم وعد المنافقين، فتكون آية المنافقين نزلت في كل فرد من ذلك الجنس، وقس على ذلك أنواع المخاطبين، وإلا كان الكثير من ألفاظ التنزيل في حيز التعطيل) (3)
وبناء على هذا؛ فكل القرآن الكريم ـ عند المتدبر له ـ حي ليس فيه أي حرف أو كلمة أو جملة معطلة.. فلا حروف زائدة، ولا مكرر.. بل حتى ما ورد في شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له أهله من الورثة، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحمة الله على خلفائي)، قالوا: من خلفاؤك يا رسول
__________
(1) ابن عليوة، البحر المسجور، ص 23.
(2) ابن عليوة، البحر المسجور، ص 24.
(3) ابن عليوة، البحر المسجور، ص 24.
مدارس النفس اللوامة (280)
الله؟ قال: (الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله) (1)
وبهذا المعنى للتدبر يتحقق ما ورد في النصوص المقدسة من كون القرآن الكريم الكتاب المبين لكل شيء، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]
ذلك أن التدبر يجعل المعاني القرآنية غير محصورة في وجه واحد، بحيث يصح فهم واحد منها دون ما عداه، أو يصبح ما عداه معارضا لما قبله، بل القرآن الكريم حمال وجوه، وهو بذلك لا تتعارض فيه المعاني، كما نص على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن للقرآن ظاهرا وباطنا وحدا ومطلعا) (2)، وقال: (القرآن لا تنقضي عجائبه) (3)
ولذلك، فإن المتدبر فيه يرى في كل حين من عجائبه ما لم يكن يراه من قبل، ولهذا يستفيد في كل حل أو ترحال فوائد جديدة لم تكن تخطر على بال، وقد عبر عن ذلك بعض الصالحين، فقال: (ثلان أحبهن لي ولإخواني، وذكر منها أن هذا القرآن يتدبره الرجل ويتفكر فيه، فيوشك أن يقع على علم لم يكن يعلمه)
واحذر ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا من أولئك الذين يوهمونك في انحصار المعاني القرآنية فيما وردت به كتب التفسير، أو فيما ذكره السلف أو الخلف.. فإن ذلك يدعو إلى إلغاء التدبر الذي أمرنا به.
وقد قال بعضهم يرد على من توهم هذا: (ولعل القائل يقول: قد كفانا الله ما أهمنا من استخراج جواهره على يد من تقدمنا، فأقول، وإذن لضاع حظنا من التدبر فيه، وحاشا لله فلا يقول بهذا عاقل، ولا من هو بالإيمان حافل، فإن كان ذلك لم لم يكتف أهل القرن
__________
(1) (تخريج أحاديث الإحياء (1/ 16): رواه ابن عبد البر في العلم والهروي في ذم الكلام.
(2) تخريج أحاديث الإحياء (ج 1 / ص 232): (أخرجه ابن حبان في صحيحه)
(3) سنن الترمذي (5/ 172)
مدارس النفس اللوامة (281)
الثاني على الكلام فيه بكلام من تقدمهم من أهل القرن الأول وأهل الثالث بالثاني، وهكذا.. فدل هذا على أن الحق جل ذكره لم يخصص بالتدبر جيلا دون جيل وأيضا لو كان التخصيص يشعر بانقضاء معانيه والحالة بخلاف ذلك) (1)
لكن كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ لا يمكن أن يتحقق ما لم تتهيأ النفس لتنزلات الفهم الصحيح، والتدبر العميق؛ فكما أن ظاهر التفسير يحتاج إلى علوم وآلات، فكذلك باطن المعاني يحتاج إلى قلب صالح لاستقرار المعاني الإيمانية فيه.
وقد عبر بعض الحكماء عن ذلك، فقال: (ولا يقع على علومه ويتفرس في وجوهه إلا مفتوح عليه، وأما المحجوب فإنه ينادى من مكان بعيد، ويسمع من وراء حجاب، فهو أبعد من أن يتناول الغاية من ظواهره، فكيف بباطنه، وأين هو من حده ومطلعه، ومن فتح الله عليه بالتوصل إلى شيء من ذلك لا يبعد أن يقول كما قال الإمام علي: (لوشئت لوقرت أربعين وقرا من شرح الفاتحة)، ولعلك تقول أين الإمام علي وأين علومه؟ فأقول: يا لله العجب، ومع ذلك لم يحتفل به من أهل زمانه إلا القليل، حتى كان يقول: أنا جنب الله الذي فرطتم فيه، وهو على المنبر والمفرط فيه هو المفرط الآن في أهل زمانه) (2)
هذه ـ أيها المريد الصادق ـ إجابتي على أسئلتك؛ وقد أتحت بين يديك فيها معالم للفهم والتدبر، يمكنها أن تنقلك إلى رحاب واسعة من القرآن الكريم، فلا تفرط فيها، واحرص على أن تنقل كلمات ربك من الأوراق التي كتب فيها، إلى سجل قلبك؛ حتى تتحقق لك الصحبة الحقيقية معه.. فلا ينتفع به إلا من صار صاحبا له.
__________
(1) البحر المسجور: ص 11.
(2) البحر المسجور: ص 11.
مدارس النفس اللوامة (282)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المراتب التالية للفهم والتدبر، وعلاقتها بالتزكية والترقية، وكيفية التحقق بها، والنزول في منازلها.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن مراتب القرآن الكريم لا نهاية لها؛ ذلك أنها تمثل الحقائق الوجودية والقيم السلوكية، وكلاهما لا حدود له.. ولذلك فإن كل من رقى مرتبة من المراتب، تلوح له مرتبة أخرى، وهكذا لا يتوقف السالك ما دام كمال الله لا حدود له، وما دام السير التكاملي، والحركة الجوهرية الناتحة عنه لا حدود لهما.
لكن مع ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنني أن أختصر لك مجامع تلك المراتب في مرتبتين، كلاهما وردت به النصوص المقدسة، وحض عليه أئمة الهدى ومن تتلمذ عليهم من الحكماء والصالحين.
أما المرتبة الأولى منهما؛ فهي الانفعال، وأقصد به تلك الحال الوجدانية التي يجدها التالي والمتدبر للقرآن الكريم، والتي عبر عنها قوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23]
فهي تشير إلى أن من علامات تغلغل القرآن الكريم في وجدان القارئ له، تلك القشعريرة اللذيذة التي يجدها، والتي تعبر عن حالته النفسية والشعورية عند فهمه وتدبره للمعاني العظيمة التي تتنزل عليه من كلام ربه.
وأما المرتبة الثانية؛ فهي التفعيل، وأقصد به تلك الحركات السلوكية التي تسرع إلى تطبيق القيم القرآنية، من دون تردد، ذلك أن الانفعال الذي سرى إلى الوجدان والمشاعر تتحرك له لا محالة الجوارح، لتؤدي حق ذلك الانفعال.
مدارس النفس اللوامة (283)
وإلى هذه المرتبة الإشارة بقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]؛ فقد قرن الله تعالى بين تنزيل الكتاب واتباعه وحصول التقوى، ليدل على أن تلاوة الكتاب والتدبر فيه هي السبب في ذلك.
وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أن الجزاء الأخروي المرتبط بقراء القرآن الكريم مشروط بعملهم بما فيه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما) (1)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأشرح لك من كلا المرتبتين، وكيفية التحقق بها، وما ورد حولهما من النصوص المقدسة.
أما مرتبة الانفعال ـ أيها المريد الصادق ـ فهي علامة على صدق التلاوة، وتغلغلها إلى عالم النفس، بعد أن كانت مرتبطة باللسان، أو بالحضور المجرد للذهن مع المقروء من دون تفاعل معه.
وهي لذلك تشبه تلك المواد التي تتفاعل بينها، ولا يتحقق لها ذلك التفاعل إلا بعد المماسة والتلاصق، وحينها يمكن أن تشكل مركبات جديدة.. وتحدث آثارا لم تكن لتحدث لولا ذلك التماس.
وهكذا الحقائق القرآنية إذا مست عالم النفس، تحدث عندها بعض الظواهر في الجسد تدل على حصول التفاعل بين القرآن وبين النفس، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بالخشوع في قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]
__________
(1) رواه مسلم رقم 1912 (ج 2 / ص 197)
مدارس النفس اللوامة (284)
وهذه الآية الكريمة تشير إلى أن الله تعالى قد أودع في لغة القرآن الكريم ونظمه ومعانيه ما يحرك الجبال والصخور؛ فكيف بالإنسان العاقل الواعي، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]
ولذلك شعر بحلاوته المشركون أنفسهم ـ مع قساوة قلوبهم وجحودهم ـ وقد روي أنه لما سمع الوليد بن المغيرة القرآن رجع إلى قريش رقيق القلب متأثرا؛ وعندما طلبوا منه أن يبدي رأيه فيه، قال: (ماذا أقول فوالله ما فيكم رجلٌ أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته) (1)
وهكذا؛ فإن الله تعالى رتب القرآن الكريم بترتيب مختلف عن الكتب التي تعارف عليها الناس، والتي تقسم إلى أقسام مختلفة، كل قسم يختص بجانب من الجوانب.. لأن ذلك قد يجعل الذهن منصرفا في كل موضع إلى ما فيه دون غيره.. لكن الله تعالى جعل في كل المحال، بل أحيانا في الآية الواحدة المعاني الكثيرة المرتبطة بالجوانب المختلفة.. وهو ما يثير النفس، ويجعلها تستشعر المشاعر المختلفة في كل موضع، بل في كل آية.
ومن الأمثلة على ذلك إذا قرأ القارئ قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} [طه: 82]، يمتلئ بالبشر والفرح والسرور، لكنه إذا أكمل، فقرأ قوله تعالى: {لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، يعلم أن ذلك البشر يحتاج إلى عزيمة كبيرة، وأعمال كثيرة، وذلك ما يحرك عزيمته.. ثم يقرأ بعدها ما ورد في عجلة موسى إلى ربه، وكيف ضل بنو إسرائيل، كما قال تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ
__________
(1) الحاكم، 2/ 550 ح 3872.
مدارس النفس اللوامة (285)
إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (} [طه: 83 - 85]، فيعلم أن العقبات كثيرة؛ فيمتلئ بالخوف والحذر.
وهكذا في الموضع الواحد تمر عليه المشاعر المتعددة، كما عبر عن ذلك بعضهم، فقال: (نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئا أرق للقلوب، ولا أشدّ استجلابا للحزن من قراءة القرآن وتفهّمه وتدبّره، فتأثّر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوّة فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنّه يكاد يموت، وعند التوسيع ووعد المغفرة يستبشر كأنّه يطير من الفرح، وعند ذكر صفات الله وأسمائه يتطأطأ خضوعا لجلاله واستشعارا لعظمته، وعند ذكر الكفّار وما يستحيل على الله تعالى كذكرهم لله ولدا وصاحبة يغضّ صوته وينكسر في باطنه حياء من قبح مقالهم، وعند وصف الجنّة ينبعث بباطنه شوقا إليها، وعند وصف النّار يرتعد فرائصه خوفا منها)
وبما أن الغالب على القرآن الكريم تحذير العباد من كل العقبات التي تحول بينهم وبين السعادة التي تنتظرهم؛ فإن الغالب على المنفعلين للقرآن الكريم ذلك الوجل والخوف المختلط بالشوق، مثل ذلك الذي يريد أن يقدم على مسابقة تتعلق بها مصالحه جميعا، لكنه لم يحضر لها جيدا؛ فلذلك تختلط مشاعر الألم بالحزن والعزيمة وغيرها من المشاعر، كما عبر عن ذلك بعضهم، فقال: (والله ما أصبح اليوم عبد يتلو هذا القرآن يؤمن به إلّا كثر حزنه، وقلّ فرحه، وكثر بكاؤه، وقلّ ضحكه، وكثر نصبه وشغله، وقلّت راحته وبطالته)
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لابن مسعود: اقرأ على القرآن، فقال ابن مسعود: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء، حتى جئت إلى هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا
مدارس النفس اللوامة (286)
يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} [النساء: 41، 42]، قال: حسبك الآن، فالتفت إليه، فإذا عيناه تذرفان (1).
ومما يعينك على ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ ما اتفق عليه الدالون على طريق الله من الحكماء ـ بحسب التجارب التي عاشوها ـ وهي أن يترقّى التالي لكتاب الله، من سماعه لنفسه إلى سماعه من ربه، وقد ذكروا لذلك أن للقراءة ثلاث درجات (2):
أدناها أن يقدّر العبد كأنّه يقرؤه على الله تعالى واقفا بين يديه، وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملّق والتضرّع والابتهال.
والثانية أن يشهد بقلبه كأنّ ربّه يخاطبه بألطافه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم.
والثالثة أن يرى في الكلام المتكلّم، وفي الكلمات الصفات؛ فلا ينظر إلى نفسه، ولا إلى قراءته، ولا إلى تعلّق الإنعام به من حيث إنّه منعم عليه، بل يكون مقصور الهمّ على المتكلّم، موقوف الفكر عليه كأنّه مستغرق بمشاهدة المتكلّم عن غيره.
والدرجة الأخيرة هي درجة المقرّبين التي أشار إليها الإمام الصادق بقوله: (و الله لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يبصرون) (3).
وأشار آخر إلى هذا، وقد سألوه عن حالة شديدة من الخشوع لحقته في الصلاة، فقال: (ما زلت أردّد الآية على قلبي، وعلى سمعي، حتّى سمعتها من المتكلّم بها؛ فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته)
وقال آخر يعبر عن عظم الحلاوة التي يجدها من يصل إلى تلك الدرجة: (كنت أقرأ
__________
(1) البخاري (5050)، ومسلم (800) 248.
(2) إحياء علوم الدين (1/ 287)
(3) بحار الأنوار (92/ 107)
مدارس النفس اللوامة (287)
القرآن فلا أجد له حلاوة حتّى تلوته كأنّي أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلوه على أصحابه، ثمّ رفعت إلى مقام فوقه فكنت أتلوه كأنّي أسمعه من جبرئيل عليه السّلام يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ جاء الله تعالى بمنزلة أخرى فأنا الآن أسمعه من المتكلّم به، فعندها وجدت له لذّة ونعيما لا أصبر عنه) (1)
وعند هذه الحالة تخرج قراءة القرآن الكريمة من مرحلة التكلف والتكليف إلى مرحلة التنعم والتلذذ، لأن القارئ يعيش حينها الحقائق القرآنية، ويراها بعينه، ويتلذذ بذلك أعظم لذة، وقد قال حذيفة ـ معبرا عن تلك الحالة: (لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن)
لكن ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ يحتاج إلى المجاهدة والصبر والعزيمة؛ لأن تلك الحلاوة فضل من الله تعالى، وهو لا يجازي به إلا من أثبتوا صدقهم وحسن صحبتهم لكلامه، كما عبر عن ذلك بعضهم، فقال: (كابدت القرآن عشرين سنة، وتنعّمت به عشرين سنة)
وقد ذكر الإمام الصادق الأسباب المعينة لذلك، فقال: (من قرأ القرآن ولم يخضع له ولم يرقّ قلبه ولم ينشئ حزنا ووجلا في سرّه فقد استهان بعظم شأن الله وخسر خسرانا مبينا، فقارئ القرآن يحتاج إلى قلب خاشع، وبدن فارغ، وموضع خال، فإذا خشع لله قلبه فرّ منه الشيطان الرجيم.. وإذا تفرّغ نفسه من الأسباب تجرّد قلبه للقراءة فلا يعترضه عارض فيحرمه نور القرآن وفوائده، وإذا اتّخذ مجلسا خاليا واعتزل من الخلق بعد أن أتى بالخصلتين الاوليين استأنس روحه وسرّه بالله ووجد حلاوة مخاطبات الله عباده الصالحين وعلم لطفه بهم ومقام اختصاصه لهم بقبول كراماته وبدائع إشاراته، فإذا شرب كأسا من هذا المشرب
__________
(1) إحياء علوم الدين (1/ 2887)
مدارس النفس اللوامة (288)
حينئذ لا يختار على ذلك الحال حالا ولا على ذلك الوقت وقتا بل يؤثره على كلّ طاعة وعبادة لأنّ فيه المناجاة مع الرّبّ بلا واسطة، فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك ومنشور ولايتك وكيف تجيب أوامره ونواهيه وكيف تمتثل حدوده فإنّه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فرتّله ترتيلا وقف عند وعده ووعيده وتفكّر في أمثاله ومواعظه واحذر أن تقع من إقامتك حروفه في إضاعة حدوده) (1)
وذكر بعض الحكماء المشاهد التي يعيشها ويتذوقها من وصل إلى تلك المرحلة من التفاعل مع القرآن الكريم، فقال: (إذا جاوز القارئ حدّ الالتفات إلى نفسه ولم يشاهد إلّا الله في قراءته انكشف له الملكوت بحسب أحواله، فحيث يتلو آيات الرجاء ويغلب على حاله الاستبشار ينكشف له صورة الجنّة فيشاهدها كأنّه يراها عيانا، وإن غلب عليه الخوف كوشف بالنّار حتّى يرى أنواع عذابها، وذلك لأنّ كلام الله يشتمل على السهل اللّطيف والشديد العسوف والمرجوّ والمخوف، وذلك بحسب أوصافه، إذ منها الرّحمة واللّطف والانتقام والبطش، فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات ينقلب القلب في اختلاف الحالات وبحسب كلّ حالة منها يستعدّ للمكاشفة بأمر يناسب تلك الحالة ويقاربها، إذ يستحيل أن يكون حال المستمع واحدا والمسموع مختلف إذ فيه كلام راض، وكلام غضبان وكلام منعم، وكلام منتقم، وكلام جبّار متكبّر لا يبالي وكلام حنّان متعطّف لا يهمل) (2)
ولذلك كان القرآن الكريم أعظم دواء نفسي، ولكل العلل، وهو ما يشير إليه ذلك الدعاء الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يزيل الهم والحزن، فقال: (ما أصاب عبدا قطّ همّ ولا حزن، فقال: اللهمّ إنّي عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا
__________
(1) مصباح الشريعة ص 13 و14.
(2) إحياء علوم الدين (1/ 288)
مدارس النفس اللوامة (289)
من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي، إلّا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحا)، قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلّمهنّ؟ قال: (بلى ينبغي لمن سمعهنّ أن يتعلّمهنّ) (1)
وكمثال على ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ يقرب لك ذلك قراءتك لسورة الضحى، وهي السورة التي يخاطب الله تعالى فيها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يواجه الفتن بجميع أنواعها، يدعوه إلى البشارة والأمل، ذلك أنه لا يمكن أن يواجه كل تلك التحديات بصدر منقبض، ونفس يائسة، وقلب ضيق.
فإذا استشعرت أن ذلك الخطاب موجه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ظل تلك الظروف التي مر بها، سيكون مختلفا تماما عن شعورك بأن الخطاب موجه لك، وفي أي ظرف تمر به..
فتستشعر عند قراءتك لقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى:3)، معية الله وحضوره الدائم مع عباده، فهو لم يتركهم، ولم يهجرهم، ولم يودعهم ولم يقلهم، بل هو معهم يكلؤهم ويرعاهم ويداوي جراحهم.. وهذا هو العلاج الأول لكل كرب وألم وحزن.
وهكذا تستشعر عند قراءتك لقوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} (الضحى:4) المستقبل الجميل الذي ينتظر كل إنسان استظل بظل الله، فالآخرة خير في جمالها وسعادتها ودوامها، فلا يحزن على المستقبل، كما لا يندم على الماضي، من راح في صحبة الله يبني الدار الآخرة ويشيد قصورها.. وهذا وحده يقضي على كل داء، ويحل كل عافية.
وهكذا تستشعر عند قراءتك لقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ
__________
(1) أحمد (712) وابن حبان (2372) والحاكم (1/ 509)
مدارس النفس اللوامة (290)
فَتَرْضَى} (الضحى:5) أن علاج العلل لا يقتصر على ذكر الآخرة، فالله رب الدنيا والآخرة، وعطاؤه عاجل وآجل، نقد ونسيئة، فلذلك يقول الله تعالى للمتألم، وهو يغرس فيه زهور الأمل: (سيعطيك ربك عطاء يرضيك، ويزرع البسمة في وجدانك، ويمحو كل الآلام التي غرسها اليأس والحزن في جوانحك.. فالله تعالى بجوده الذي لا يتناهى يجعل أمدا للعطاء هو الرضى الكامل، فالله لا يعطيك فقط، بل يعطيك ليرضيك، وفرق كبير بين من يعطي، ومن يرضي)
وهكذا تستشعر عند قراءتك لقوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} (الضحى:6 ـ 8) أنواعا كثيرة من المشاعر الجميلة؛ فهي تغرس السكينة في النفس، والطمأنينة في الوجدان، وهي تبشر المتألم بأن الذي رعاك سابقا لن يضيعك لاحقا، والذي لم يعرف منه إلا الجود يستحيل عليه البخل.. ولذلك كان الحديث عن النعم وتعدادها ترياقا للآلام ودواء للأحزان، وفرق كبير بين من يقول للفقير: (أنت فقير)، وبين من يقول له: (أنت غني) بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان.
وفرق كبير بين من يجعل المرض نوعا من أنواع الصحة، وبين من يجعله مرتعا من مراتع الأسف، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعاملنا كيف نتعامل مع المرضى: (إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب بنفس المريض) (1)
وفرق كبير بين من يصور الموت بصورة الشبح المخيف، وبين من يصوره بصورة الحياة الجميلة السعيدة، بل يصور الموت بصورة الوهم الذي لا وجود له.
وهكذا تستشعر عند قراءتك لقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:9 ـ 11) أن الله تعالى وضع بين يديك أسواقا للتجارة
__________
(1) الترمذي (2087)
مدارس النفس اللوامة (291)
الرابحة، تشغلك عن آلامك، وترسم السعادة على شفتيك، فلا يرسم السعادة مثل التبشير بالسعادة.
ومثل ذلك قراءتك لسورة الشرح، وقد روي عن بعض الصالحين، أنه ألح عليه الغم، وضيق الصدر، وتعذر الأمور، حتى كاد يقنط، فكان يوماً يمشي، وهو يقول:
أرى الموت لمن أمسى... على الذلّ له أصلح
فهتف به هاتف، يسمع صوته، ولا يرى شخصه، أو أري في النوم كأن قائلاً يقول:
إذا ضاقت بك الدنيا... ففكر في ألم نشرح
فعسر بين يسرين... متى تذكرهما تفرح
فإنّ العسر مقرون... بيسرين فلا تبرح
قال: فواصلت قراءتها في صلاتي، فشرح الله صدري، وأزال همي وكربي، وسهل أمري.
وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك أن تقرأ القرآن الكريم لأي ظرف تمر به، وستشرى المشاعر الجميلة التي يسعدك الله بها.
وسأذكر لك نموذجا لشخص عاش فترة طويلة في السجن، ولم يكن له أنيس فيه إلا القرآن الكريم، وقد أخبر عن مشاعره التي جعلته ينشغل عن السجن وآلامه، في كتاب له قال في مقدمته: (الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه) (1)
ثم ذكر تجربته مع القرآن الكريم، والمشاعر الجميلة التي جعلته ينسى أنه في غياهب السجن مع قائمة طويلة تصاحبه من الأمراض، فقال: (والحمد لله.. لقد منَّ علي بالحياة في
__________
(1) في ظلال القرآن: 1/ 10.
مدارس النفس اللوامة (292)
ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي.. ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه)
ثم ذكر السر في ذلك، وهو التعامل الصحيح مع القرآن الكريم، والذي ينطلق من الحياة معه، واستماعه من الله مباشرة، فقال: (لقد عشت أسمع الله سبحانه يتحدث إلي بهذا القرآن.. أنا العبد القليل الصغير.. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟)
ومن هذا المنطلق المليء بالكرامة والعزة، نظر من علو إلى الأرض، (وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال.. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال. ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هؤلاء الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟)
ثم ذكر في مقابل ذلك المعاني الجميلة التي يجدها في القرآن الكريم، والتي لا يمكن أن يقارن بها شيء من الفلسفات والأفكار؛ فقال: (عشت أتملى في ظلال القرآن ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود.. لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني.. وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب، وفي شمال وجنوب.. وأسأل.. كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء؟)
وذكر بعض أسرار تلك اللذة التي يجدها القارئ للقرآن الكريم؛ فقال: (عشت في ظلال القرآن أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود.. أكبر في حقيقته، وأكبر في تعدد جوانبه.. إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده. وإنه الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا
مدارس النفس اللوامة (293)
وحدها.. والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول.. كله إنما هو قسط من ذلك النصيب. وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك. فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع. على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس، وعالم صديق ودود. كون ذي روح تتلقى وتستجيب، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع.. أي راحة، وأي سعة وأي أنس، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح)
وهكذا راح يذكر الكثير من المعاني التي وجدها في القرآن الكريم، والتي ملأته بالراحة والطمأنينة والسكينة، وهو في سجنه، ينتظر في أي لحظة أن ينفذ فيه حكم الإعدام، وقد قال في خاتمة تلك المشاهد التي أنس بها في صحبة كلام ربه: (أي طمأنينة ينشئها هذا التصور؟ وأي سكينة يفيضها على القلب؟ وأي ثقة في الحق والخير والصلاح؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع الصغير يسكبها في الضمير؟)
وهكذا كل من صحب القرآن الكريم بصدق وإخلاص؛ فإنه سيرى من المشاهد، ويعيش من المعاني ما يجعله يعيش ربيعا دائما لا خريف بعده، ونورا دائما لا ظلام معه.
تلك هي مرتبة الانفعال ـ أيها المريد الصادق ـ والتي تفيض عنها مرتبة التفعيل، وبقدر الانفعال يكون التفعيل.. ذلك أن الانفعال هو المحرك الذي تتحرك على أساسه الإرادة النافذة والعزيمة الصادقة.. فإذا كان المحرك قويا، كانت الحركة الناتجة عنه قوية دائمة مؤثرة.
وقد روي عن بعض القرّاء أنه قال: (قرأت القرآن على شيخ لي ثمّ رجعت لأقرأ ثانيا، فانتهرني، وقال: جعلت القراءة عليّ عملا اذهب؛ فاقرأ على الله عزّ وجلّ، فانظر بما ذا
مدارس النفس اللوامة (294)
يأمرك وعمّا ذا ينهاك وماذا يفهمك)
وروي أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه بقوله: (يا عبدي أمّا تستحيي منّي يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وتتدبّره حرفا حرفا حتّى لا يفوتك منه شي ء، وهذا كتابي أنزلته إليك انظر كم وصلت لك فيه من القول؟ وكم كرّرت عليك فيه لتتأمّل طوله وعرضه؟ ثمّ أنت معرض عنه، أ فكنت أهون عليك من بعض إخوانك يا عبدي، يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكلّ وجهك وتصغي إلى حديثه بكلّ قلبك، فإن تكلّم متكلّم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كفّ وها أنا ذا مقبل عليك ومحدّث لك وأنت معرض بقلبك عنّي، فجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك) (1)
ولهذا ورد الذم الشديد للذين يقرؤون الكتاب بألسنتهم، ويخالفونه بأفعالهم، وقد ضرب الله تعالى لهم المثل بالحمير التي تحمل الكتب من غير أن تعرف معانيها، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]
ومثل ذلك شبهه بالكلب، فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]
ولهذا نجد الآيات الكثيرة التي تنص على وجوب اتباع القرآن الكريم، لا مجرد الاكتفاء بتلاوته، قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
__________
(1) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 2، ص: 219
مدارس النفس اللوامة (295)
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]، وقال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109]
وقال مخاطبا المؤمنين: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]
وذم الذين يتركون كتابهم، ويتبعون سلفهم أو خلفهم أو أهواءهم، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21]
وهكذا ورد الأمر بالحكم به، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ {49} أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49 - 50]
واعتبر من لم يحكم به كافرا وظالما وفاسقا، فقال: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة 44]، وقال: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة 45]، وقال: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة 47]
وهكذا ورد الأمر بالتحاكم إليه، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} [الشورى 10]، وقال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء 59]، وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور 51]
مدارس النفس اللوامة (296)
واعتبر من لم يتحاكم إليه متحاكما إلى الطاغوت وأهواء الجاهلية، فقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء 60]، وقال: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ {48} وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ {49} أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور 48 - 50]
ولهذا ورد في الحديث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: (هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء). فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا، وقد قرأنا القرآن؟ والله، لنقرأنه، ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا؟ قال: (ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة؛ هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟) (1)
وهو ما يشير إليه قوله تعالى عن أهل الكتاب: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]، وقد ذكر المفسرون أن الأماني تعني التلاوة.. أي أنهم يكتفون بتلاوته دون أن يتحول إلى واقع حي يعيشونه.
وهكذا ذم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولئك الذين يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فقال: (يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية سيماهم التحليق لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليفة) (2)
__________
(1) رواه الترمذي، (5/ 31)، (2653)
(2) رواه ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي والطبراني في الكبير والحاكم.
مدارس النفس اللوامة (297)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يخرج قوم أحداء أشداء ذليقة ألسنتهم بالقرآن يقرأونه ينثرون