الوصف: أربعون رسالة في موانع التزكية وعلاجها
السلسلة: رسائل التزكية والترقية
المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1440 هـ
عدد الصفحات: 618
ISBN: 978-620-3-85904-1
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
يحاول هذا الكتاب التعريف بالعيوب والمثالب المشكلة للنفس الأمارة، ومنابعها التي تنبع منها، والثمار التي تثمرها، مع بيان كيفية التخلص منها، إما باستعمال الأدوية المعرفية، أو أنواع الممارسات العملية.
وقد حاولنا أن نصيغ فيه كل ما ذكر في كتب الأخلاق والتصوف والسلوك من معارف مرتبطة بهذه الجوانب، مع الابتعاد عن كل ما لا علاقة بها، أو ما نرى أنه من الدخن الذي أصاب هذه العلوم، مثل غيرها من العلوم.
ولذلك كان اعتمادنا في التعرف على مظاهر تلك المثالب ومنابعها وكيفية علاجها على المصادر المقدسة بالدرجة الأولى، باعتبارها المصدر الأول للتزكية، سواء من ناحية التعريف بها، أو بيان منابعها وثمارها، أو بيان كيفية علاجها والتخلص منها.
ولضرورة التبسيط والتوضيح، جعلناه على شكل رسائل يرسلها شيخ مرشد مرب إلى مريده الذي يطلب منه أن يعرفه بالمثالب المشكلة للنفس الأمارة، وكيفية علاجها، مع سؤاله عن بعض أسرار النصوص المقدسة المرتبطة بها.
وقد أرسل له في هذا الكتاب أربعين رسالة تشمل جميع الجوانب المرتبطة بذلك، وتشرح له كل ما يتعلق بها من معارف يحتاجها لذلك.
مثالب النفس الأمارة (10)
تحاول هذه السلسلة المعنونة بـ[رسائل التزكية والترقية] بأجزائها الخمسة، ورسائلها المائتين، التعريف بالطريق إلى تزكية النفس وترقيتها ابتداء من مرحلتها الأولى: النفس الأمارة، وانتهاء بالمرحلة الأخيرة: النفس المرضية.
وهي تحاول أن تعتمد في ذلك، وبالدرجة الأولى على المصادر المقدسة من الكتاب والسنة المطهرة، بالإضافة إلى ما ذكره أئمة الهدى وورثة النبوة، أو ما انبنى على تلك التوجيهات المقدسة من تجارب وحكم ذكرها العلماء والحكماء من هذه الأمة وغيرها، فالحكمة ضالة المؤمن، أين وجدها، فهو أحق بها.
وهي تبتعد عن كل ذلك الدخن الذي أصاب الكتب التي ألفت في هذه الجوانب، بسبب اعتمادها على مصادر نهينا عن الاعتماد عليها، ولذلك أصبح العلم المرتبط بها، والذي يطلق عليه [التصوف] أو [العرفان] بشقيه النظري والعملي، محلا للكثير من الأطروحات التي لقيت الجدل الكبير، وتسببت بذلك في الابتعاد عن هذا العلم الجليل، حذرا من الدخن الذي وقع فيه.
ولذلك؛ فإن هذه السلسلة تحاول تجنب كل ذلك، وطرح القضايا المتعلقة بالتزكية والترقية من خلال المصادر الأصلية المعتمدة، بعيدا عن كل المؤثرات الخارجية، الشرقية والغربية.
بالإضافة إلى ذلك تحاول إقناع السالكين بضرورة التزكية في جوانبها المختلفة، باعتماد كل أنواع الاستمالات العقلية والعاطفية وغيرها، لأن الهدف من علم التزكية ليس حفظ مصطلحاته، ولا الغوص في تفاصيله وفروعه، وإنما هو وسيلة لتطهير النفس والعروج بها في معارج الكمال المتاحة لها.
مثالب النفس الأمارة (11)
وسبب تسميتنا لها بهذا الاسم [رسائل التزكية والترقية]، يعود إلى أنها عبارة عن رسائل يرسلها شيخ مرشد مرب إلى مريده الطالب للتزكية، يجيبه فيها على أسئلته وإشكالاته، ويوضح له كيفية تزكية نفسه من كل الآفات التي يتعرض لها، بالإضافة إلى تعريفه بمراتب الترقي التخلقي والتحققي.
وبناء على كون النفس هي المجال الذي ترتبط به التزكية والترقية كما قال الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]؛ فقد كانت عناوين هذه السلسلة جميعا مرتبطة بالنفوس، كما ذكرها القرآن الكريم.
وقد رأينا أنه ذكر خمس مراتب للنفوس، ولكل نفس حالتها ومراتبها الخاصة، وهذه النفوس هي:
1. النفس الأمارة: وهي من خلال اسمها تدل على المرحلة التي تكون فيها النفس خبيثة ممتلئة بالأهواء، مستعدة بدرجة كبيرة لتلقي الوساوس الشيطانية؛ فلذلك لا تأمر إلا بالشر.. وقد أشار الله تعالى إلى هذه النفس في قوله: {إِن النفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]
لكن هذا لا يعني عدم إمكانية تطهيرها وتزكيتها وترقيتها من تلك الحالة إلى حالة أخرى أكثر طهرا.. بل إن ذلك ممكن، والقرآن الكريم أشار إليه عند ذكره لتحول السحرة وغيرهم إلى الإيمان.. ولولا ذلك لما كان هناك حاجة لعلم الأخلاق وغيره من العلوم المرتبطة بسياسة النفس وتهذيبها.
وقد خصصنا الحديث على هذه النفس بالجزء الأول من هذه السلسلة، والمعنون بـ[مثالب النفس الأمارة]، وقد أوردنا فيه المثالب والعيوب والنقائص التي تسببت في تحول
مثالب النفس الأمارة (12)
النفس من فطرتها الأصيلة إلى حالة النفس الأمارة المستعدة استعدادا كبيرا للشر.
ولم نكتف بإيراد ذلك، وإنما ذكرنا كيفية تطهير تلك المثالب، وعلاجها، وتصحيح ما تقع فيه النفس من أخطاء، حتى ترتقي إلى درجة أعلى في عالم النفوس.
2. النفس اللوامة: وقد ذكرها القرآن الكريم، وأثنى عليها في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، والمراد منها تلك النفس الممتلئة بالورع والتقوى، والتي تلوم صاحبها على كل التصرفات التي تحول بينه وبين الكمال.
وقد خصصنا الحديث على هذه النفس بالجزء الثاني من هذه السلسلة، والمعنون بـ[مدارس النفس اللوامة]، وقد أوردنا فيه المناهج والرؤى المختلفة في كيفية التزكية والترقية، مما ذكرته المصادر المقدسة، أو ما بني عليها، أو على أصولها.
3. النفس المطمئنة: وقد ذكرها القرآن الكريم، وأثنى عليها في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النفْسُ الْمُطْمَئِنةُ} [الفجر: 27]، والمراد منها تلك النفس التي وصلت إلى حالة اليقين والطمأنينة والصلاح؛ فصار صاحبها مرتاحا من شغبها وجدلها ولومها وأمرها له بالسوء، ولذلك كانت مطمئنة لينة سهلة مسالمة.
وبما أن النفس في هذه المرحلة تصبح محلا للتحقق الخلقي، فقد ذكرنا في الجزء الخاص بها، وهو الجزء الثالث المعنون بـ[منازل النفس المطمئنة] تلك المراتب والمنازل التي تمر بها، والتي تجعلها أهلا لرضوان الله تعالى، لتحققها بكل متطلبات كمالها الممكنة.
4. النفس الراضية: وهي التي أشار إليها القرآن الكريم من غير تصريح عند ذكره للنفس المطمئنة، فقد قال بعدها: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً} [الفجر: 28]، أي أن من مواهب الله للنفس المطمئنة، أو من علامات اكتمالها، ونهاية سيرها حصولها على الرضا..
وبما أن الرضا مرتبط بالمعارف، فقد بحثنا في الجزء الخاص بهذه النفس تلك المعارف
مثالب النفس الأمارة (13)
التي تملأ النفس بالرضا، وهي معارف مرتبطة بحقائق الوجود الكبرى، وقد أطلقنا على هذا الجزء اسم [معارف النفس الراضية]، وقصدنا من ذلك المعارف الذوقية التي هي ثمار للسلوك التخلقي.. فالتحقق العرفاني ثمرة للسلوك الأخلاقي.
وقد حاولنا في هذا الجزء خصوصا تبسيط تلك المعارف، واستعمال كل وسائل الإقناع المرتبط بها، وابتعدنا في نفس الوقت عن كل تلك المصطلحات والمفاهيم الدخيلة على ما يطلق عليه [العرفان النظري] أو [التصوف الفلسفي]
ولذلك كان هذا الجزء خاصا بهذا النوع من العرفان، ولكن في صورته القرآنية النبوية بعيدا عن الغنوصيات والآثار الأجنبية.
5. النفس المرضية: وهي التي أشار إليها القرآن الكريم من غير تصريح عند ذكره للنفس المطمئنة، فقد ذكر لتلك النفس مرتبتين أو صفتين: الراضية.. والمرضية، فقال: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28]، ثم عقب عليها بقوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنتِي (30)} [الفجر: 29، 30]
وقد فهمنا من خلال هذا الوصف، والتعقيب الذي عقب به على أن النفس المرضية هي النفس التي أصبحت محلا لتنزل الكرامات والفضل الإلهي في الدنيا والآخرة..
ولذلك خصصنا هذا الجزء المعنون بـ[مواهب النفس المرضية] بما وفره الله تعالى من فضل للصالحين الذين جاهدوا نفوسهم في ذات الله إلى أن استقامت لهم، وصلحت، وصارت محلا لكل أنواع الكرامة والمواهب.. وقد اعتبرنا هذا من باب الحوافز على السير والسلوك.
هذه هي أجزاء السلسلة الخمسة، وقد وضعنا في كل جزء منها أربعين رسالة، يمكن قراءة كل واحدة منها منفصلة، والاستفادة منها، من دون حاجة لغيرها.
مثالب النفس الأمارة (14)
وقد اعتمدنا على ذلك لتيسير تعلم المسائل المرتبطة بكل فرع من تلك الفروع، لأن كثرة التفريعات ـ في حال جعلها فصولا محدودة ـ تؤدي إلى الانشغال بها عن المطلوب منها.
وقد حاولنا في هذه الرسائل المزج بين الجانب النظري والعملي.. ذلك أن التزكية تحتاج إلى كليهما، فالمعرفة لها دور كبير في تأكيد الحقائق وتعميقها، حتى تذعن النفس لها وتقوم بالمتطلبات العملية المرتبطة بها.
مثالب النفس الأمارة (15)
يحاول هذا الكتاب التعريف بالعيوب والمثالب المشكلة للنفس الأمارة، ومنابعها التي تنبع منها، والثمار التي تثمرها، مع بيان كيفية التخلص منها إما باستعمال الأدوية المعرفية، أو أنواع الممارسات العملية.
وقد حاولنا أن نصيغ فيه كل ما ذكر في كتب الأخلاق والتصوف والسلوك من معارف مرتبطة بهذه الجوانب، مع الابتعاد عن كل ما لا علاقة بها، أو ما نرى أنه من الدخن الذي أصاب هذه العلوم، مثل غيرها من العلوم.
ولذلك كان اعتمادنا في التعرف على مظاهر تلك المثالب ومنابعها وكيفية علاجها على المصادر المقدسة بالدرجة الأولى، باعتبارها المصدر الأول للتزكية، سواء من ناحية التعريف بها، أو بيان منابعها وثمارها، أو بيان كيفية علاجها والتخلص منها.
ولضرورة التبسيط والتوضيح، جعلناه على شكل رسائل يرسلها شيخ مرشد مرب إلى مريده الذي يطلب منه أن يعرفه بالمثالب المشكلة للنفس الأمارة، وكيفية التخلص منها، مع سؤاله عن بعض أسرار النصوص المقدسة المرتبطة بها.
وقد أرسل له في هذا الكتاب أربعين رسالة تشمل جميع الجوانب المرتبطة بالنفس الأمارة، وتشرح له كل ما يتعلق بها من معارف يحتاجها لذلك.
وبما أن غرض الكتاب ورسائله تربوي بالدرجة الأولى؛ فإنا ابتعدنا كل البعد عن الأساليب الأكاديمية الجافة من التعريفات ومناقشة المفاهيم والمصطلحات وغيرها، حتى لا ينشغل القارئ بتلك الجوانب على الهدف المقصود من الكتاب، وهو تربية النفس وتهذيبها.
ولذلك حاولنا ـ في حال الخلاف في بعض المفاهيم ـ أن نتجاوز ذلك، وأن نذكر
مثالب النفس الأمارة (16)
مباشرة ما ترجح لدنيا منه، وقد نشير إلى غيره مجرد إشارة لا تشغل القارئ عن الهدف الذي يهدف إليه.
ومن الأمثلة على ذلك أن أكثر كتب السلوك والتربية تتحدث عن الفوارق بين تلك المثالب، كذكر الفرق بين العجب والغرور، أو العجب والكبر ونحوها، وقد يختلفون في ذلك اختلافا شديدا، وكل ذلك لا يعني القارئ.. ولذلك ذكرنا الفكرة التي نريدها مباشرة، لأن الهدف ليس التحقيق العلمي، وإنما الدعوة إلى السلوك والتهذيب والتربية، وهي لا تهتم بالمصطلحات بقدر ما تهتم بالحقائق.
لذلك حاولنا أن نضع في الكتاب أكبر قدر من النصوص المقدسة المرتبطة بالترغيب والترهيب من تلك المثالب، مع الدعوة للتأمل فيها، ومخاطبة العقل بأنواع الأمثلة التي ترغبه في المحاسن، وترهبه من المساوئ.
وقد اعتمدنا في تلك النصوص بالإضافة للقرآن الكريم ما ورد في السنة المطهرة من المصادر المعتمدة لدى المدارس الإسلامية، على المنهج الذي نعتمده فيها، وهو الاهتمام بمتن الحديث؛ فإن كان متوافقا مع القرآن الكريم، وأصول الدين، والفطرة السليمة؛ فإننا نقبله، ونثبته بغض النظر عن رواته، مع ملاحظة أننا نهذب ـ أحيانا ـ تلك النصوص بحذف ما نراه مدرجا فيها، أو متعارضا مع القرآن الكريم والقيم النبوية والفطرة السليمة.
ومثل ذلك اعتمدنا على ما ورد من الروايات عن أئمة الهدى وورثة النبوة، باعتبارهم أساتذة التزكية، وروادها، مع التنبيه إلا أننا ـ ولغاية الاختصار ـ لم نذكر كل ما ورد عنهم من روايات في تلك الجوانب، لأننا أفردنا الحديث عنهم فيها في سلسلة [أئمة وقيم]
وننبه في الأخير إلى أن أننا لم نرتب الخصال الواردة في الكتاب بأي نوع من أنواع
مثالب النفس الأمارة (17)
الترتيب، ولم نجعل لأي منها علاقة بالأخرى، وذلك لغرض التبسيط، فكل رسالة يمكن قراءتها منفصلة، لأنها بمثابة الأدوية التي قد يحتاج البعض إلى بعضها، ويستغني عن الباقي.
لكن مع ذلك ننبه إلى أن هذه الخصال جميعا يؤثر بعضها في بعض، ولا يمكن فهم التزكية، ولا سلوك سبيلها دون التعرف عليها جميعا، ذلك أن بعضها ينبع من بعض، وبعضها يؤدي إلى بعض.
مثالب النفس الأمارة (18)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تخبرني بألم عن شعورك باللامبالاة تجاه تلك الحقائق الجميلة التي كنت تستمع إليها أثناء الوعظ، وأخبرتني أن ذهنك حينها سرح وشرد في كل شيء، حتى في تلك الألوان التي كانت تزدهي بها السجادة التي كنت جالسا عليها، وتفاصيل خيوطها وأشكالها.
وأخبرتني أنك عند دعائك لربك، كان لسانك يتحدث إلى الله من غير أن تشعر به، ولا بوجوده، ولا بتلك الألفاظ التي كنت ترددها، ولا بالمطالب العظيمة التي كنت تطلب منه أن يحققها لك..
وأخبرتني أنك في صلاتك صرت مثل تلك الآلة التي تقوم بحركاتها في منتهى الدقة، ومن غير أن تشعر بما تفعل، أو تتأثر به.
وكل ما ذكرته ـ أيها المريد الصادق ـ أعراض لأخطر الأمراض التي تصيب النفس، وتملؤها بالمسالك التي يتسرب منها الشيطان والأهواء.. وهو مرض الغفلة.. وهو أخطر الأمراض جميعا، لأنه المقدمة التي تتيح للجحود والكفر وكل أنواع المعاصي كبائرها وصغائرها أن تتمكن من النفس، وتحولها إلى نفس أمارة بالسوء، لا حظ لها من الخير، ولا علاقة لها به.
وسر ذلك واضح أيها المريد الصادق، ذلك أن الغفلة تشبه ذلك المخدر الذي يوضع على مراكز الشعور، لتشعر بعدم الإحساس بأي شيء، وحينها يمكن التحكم في العضو المخدر، ليصبح لينا سهلا يسهل التحكم فيه بكل سهولة.
ولهذا، فإن أول ما يبدأ به الشيطان إغواءه للإنسان تسليط الغفلة عليه، بحيث يصبح مخدرا لا يهتم لشيء، ولا يلقي باله ولا سمعه، لا لناصح ولا لمذكر.. فإذا وصل الإنسان
مثالب النفس الأمارة (19)
إلى تلك الدرجة، سهل على الوساوس أن تتسرب، وسهل على ما بعدها أن يتمكن من النفس.
هذا تشخيص ما ذكرت ـ أيها المريد الصادق ـ والتشخيص نصف العلاج.. فلا تيأس.. فما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء، ولذلك فقد وفر لهذا الداء الكثير من الأدوية، والتي سأختصرها لك في دواءين، عليك أن تمارسهما، حتى تشفى من هذه الحالة، وتستعيد نفسك عافيتها.
وأولهما أن تعلم علم اليقين خطر الغفلة على حياتك ومستقبلك وجميع مصالحك.. فلا ينفي الغفلة شيء مثل الخوف والألم.. ذلك أنهما من المنبهات الشديدة التي تؤدي إلى اليقظة.
ألا ترى كيف يسير ـ حذرا ومتيقظا ـ من يعلم أن المطبات تملأ طريقه، والأشواك تعترض مسالكه.. فلذلك يحذر عند كل حركة يقوم بها خشية أن تؤدي إلى تلفه أو إعاقته أو إلحاق أي ضرر به؟
وهكذا الأمر بالنسبة لدينك الذي هو رأسمالك؛ فإذا علمت أن الغفلة عن حقائقه وقيمه لن تجني منها إلا الهلاك الأبدي، فسيجعلك ذلك حذرا خائفا، مثل ذلك الذي يسير في طريق الأشواك، أو في مفازة يخاف أن تلتهمه السباع.
ولهذا اعتبر الله تعالى الغفلة هي السبب في هلاك كل القرى وأصحابها الذين لم يعطوا رسلهم ما يستحقون من الاهتمام، قال تعالى ـ مبينا السبب الأكبر لهلاك قوم فرعون ـ: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136]
مثالب النفس الأمارة (20)
واعتبر الغفلة السبب الأكبر لذلك الران الذي طغى على القلوب؛ فملأها بالكبر، وصرفها عن تدبر الحقائق، فقال: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]
وبذلك؛ فإن الغفلة أخطر من الكبر، ذلك أن المتكبر المستيقظ قد يسمع من الآيات، أو يرى من الحجج، ما يجعله متواضعا يستمع للحق، لكن الغافل المخدر يصم آذانه فلا يسمع حقا، ولا يقبل عليه في حال سماعه.
ولهذا أخبرنا الله تعالى أن الغفلة هي سبب الإعراض عن الحق، لعدم الاهتمام به، واللامبالاة تجاهه، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلناسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]
وأخبر عن أدراك الغافلين للآثار التي جنوها من غفلتهم، فقال: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 97]
وأخبر عن قول الملائكة وتأنيبها للغافلين، فقال: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 21، 22]
وأخبر عن أول تحذير إلهي للبشر من عالم الذر، وهو تحذيرهم من الغفلة، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنا كُنا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]
إن هذا التحذير ـ أيها المريد الصادق ـ يشبه تحذير الطبيب مريضه من الغفلة عن
مثالب النفس الأمارة (21)
استعمال أدويته، وفي أوقاتها المحددة، ذلك أن المشكلة ليست في عدم توفر الدواء، وإنما في الغفلة عن استعماله.
ولهذا، فإن على من عرف خطر الغفلة، وآثارها على حياته جميعا، أن يتخيل نفسه كل حين، وكأنه في سوق كثر لصوصه، أو في مفازة كثر سباعها.. فهو حذر كل حين على حقيقته التي يمكن أن تسلب منه في أي لحظة.
فلصوص الروح ـ أيها المريد الصادق ـ أخطر من لصوص المال، والسباع التي تنهش حقيقة الإنسان أخطر من السباع التي تنهش جسده..
فلذلك احذر من أولئك الذين يملؤونك بالرجاء الكاذب، أو يطمئنونك وأنت في هذه الفيافي الممتلئة بالمخاطر.. إنهم لا يختلفون أبدا عن أولئك اللصوص الذين يخدعونك بالكلام المعسول، والأماني الكاذبة قبل أن يقوموا بسرقتك.
وهكذا يفعل الشيطان وأولياؤه عندما يشعرونك بالأمان، قبل أن تقوم بالتحصينات اللازمة لمملكتك التي تهددها شياطين الإنس والجن كل حين.
إن مثلهم مثل من يأمرك بالسير إلى بلاد مملوءة بأنواع الوباء والفيروسات والجراثيم، ثم يدعوك إلى التوكل على الله، والاكتفاء بالثقة به، عن أن تحصن نفسك بأنواع التلقيحات.
وهكذا الأمر بالنسبة للغفلة، فإن أكبر أسبابها ذلك الوهن والكسل الناتج عن الثقة الزائدة، والأمل الكاذب.. لكن إن توفر ما يضادها من الخوف المقترن بالرجاء، فإن مفعول مخدر الغفلة سيزول لا محالة.
ولهذا دعا الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى استعمال أسلوب الإنذار لا التبشر مع من تعتريهم الغفلة، لتحول بينهم وبين اليقظة، والجد في السير، قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39]
مثالب النفس الأمارة (22)
إذا علمت ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ فإن أول ما عليك فعله حتى تتجنب الغفلة وآثارها، أن تستعمل الأدوية والأسلحة التي تضادها، وتواجهها، وتبطل مفعولها، وأن تحرص عليها حتى لا يسلبها منك الشياطين أثناء غفلتك عنها، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102]
فكما أن أول أهداف الأعداء الذين يريدون السيطرة على أي حصن من الحصون، الوصول إلى مراكز أسلحته، وسرقتها، حتى لا يتمكن أصحاب الحصن من الدفاع عن أنفسهم، فهكذا يفعل أعداء النفس، فهم يستغلون تلك الغفلة التي تعتري الإنسان، لسلب أسلحته، والقضاء عليه بها.
وكما أن أول ما يفعله من يفطن للأعداء تلك الصيحة التي يحذر بها منهم، فيفرون مدبرين.. فكذلك الأمر في عالم الروح؛ فقد علمنا الله تعالى كيف نصيح بتلك الصيحة، حتى تستيقظ كل لطائفنا، وتنتبه إلى العدو الذي يتربص بها.
وتلك الصيحة هي ذكر الله تعالى، وحضور القلب معه، ولو تكلفا، فإن ذلك ـ مع الدوام عليه ـ سيعيد لكل لطائف الإنسان يقظتها، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِن الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 200، 201]
ثم ذكر مقابلهم أولئك الذين يسكنون ويفرحون للغفلة، ويلتذون بها، لأنها تجعلهم في مأمن من كل ما تدعوهم إليه اليقظة من التكاليف، فقال: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202]
مثالب النفس الأمارة (23)
ولهذا اعتبر الله تعالى سبب استحواذ الشيطان على الإنسان، وتحويله عن إنسانيته الكريمة هو نسيانه لذكر الله، قال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِن حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]
ولهذا ربط الذكر بالغفلة، واعتبره علاجا لها، فقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]
وبناء على هذا وردت الأحاديث الكثيرة الدالة على فرار الشيطان من الذاكرين، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا نودي بالصّلاة أدبر الشّيطان، فإذا قضي أقبل، فإذا ثوّب بها أدبر، فإذا قضي أقبل، حتّى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول: اذكر كذا وكذا، حتّى لا يدري أثلاثا صلّى أم أربعا) (1)
وقد قال الله تعالى مقررا لذلك: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46]، فالآية الكريمة تشير إلى أن ذلك النفور سببه الذكر.. ولهذا كان الذكر أكبر دواء مضاد للغفلة.
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن (تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره؛ فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة.. ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور.. ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غيبة عن ما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز)
لذلك التزم الذكر وداوم عليه، واحرص على حضور قلبك معه.. فإن اعترتك الغفلة أثناءه، فلا تيأس.. وإنما واصل ذكرك، وأنت تتألم لغفلتك.. وسترى كيف ينقذك الله منها.
__________
(1) البخاري [فتح الباري]، 6 (3285)
مثالب النفس الأمارة (24)
ليس ذلك فقط ما يمكنك أن تقوم به ـ أيها المريد الصادق ـ لمواجهة داء الغفلة؛ فقد تجد من شياطين الإنس من يلقي إليك بالوساوس التي تجعل من ذكرك مجرد لقلقة لسان، لا أثر لها في نفسك، ولا تأثير لها في حياتك.
ولذلك كان أول الطريق البعد عمن ينسيك ذكر الله، والقرب ممن يذكرك به، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]
فهذه الآية الكريمة تحذرك من كل أولئك الشياطين الذين يملؤونك بالغفلة، وينحرفون بحقيقتك عن مسارها الصحيح.. فاحذر منهم.. واحذر من كل من لا تذكرك بالله رؤيته.. أو يدلك على الله حاله.. أو يزيد في علمك منطقه.. ذلك الذي إن رآك غافلا ذكرك.. وإن رآك ذاكرا أعانك.
لتكون مثل ذلك الذي قال لصاحبه: (تعال نؤمن بربنا ساعة)، فغضب الرجل، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة) (1)
وقد روي أن هذا الصحابي الجليل الشاعر الشهيد عبد الله بن رواحة، كان يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: (تعالوا نؤمن ساعة، تعالوا فلنذكر الله ونزدد إيمانا، تعالوا نذكره بطاعته لعله يذكرنا بمغفرته) (2)
وروي أنه قال لصاحب له: تعال حتى نؤمن ساعة، فقال صاحبه: أولسنا بمؤمنين؟
__________
(1) مسند أحمد (21/ 309)
(2) ابن أبي شيبة 11/ 43
مثالب النفس الأمارة (25)
قال: (بلى، ولكنا نذكر الله فنزداد إيمانا) (1)
وقد صدق في ذلك، فالإيمان الحقيقي هو إيمان الذاكرين، لا الغافلين، والحاضرين، لا الناسين.. فهل يمكن أن تعتبر ذلك الغافل الذي لا يعرف ربه، ولا يذكره، ولا يتذكره في أي محل مؤمنا.. نعم هو مؤمن ظاهرا، لكن باطنه يغطي الله بحجب كثيرة تحول بينه وبين معرفته أو التواصل معه.
هذه ـ أيها المريد الصادق ـ الأدوية الكبرى لمرض الغفلة، وهناك أدوية كثيرة سأذكرها لك في سائر رسائلي، لذلك.. ليس عليك سوى استعمالها، وسترى كيف تنقشع الغفلة عن قلبك، وفي أقرب وقت، ليصبح مرآة تتجلى عليها كل حقائق الوجود بصورتها الجميلة الناصعة.. وستندم حينها على كل لحظة كنت فيها بعيدا عن تلك المشاهد التي لا يوجد ما هو أجمل منها.
__________
(1) البيهقي في الشعب (50)
مثالب النفس الأمارة (26)
كتبت ـ أيها المريد الصادق ـ تشكرني على ما ذكرته لك من أدوية حول مرض الغفلة، وكيفية علاجه، وذكرت أنك جربت تلك الأدوية التي وصفتها لك، وأنك رأيت بعض آثارها العاجلة عليك، وعلى قلبك.. وأنك أصبحت ـ لذلك ـ تلتذ بالذكر بعد أن كنت تنفر منه، وترق للمواعظ بعد أن كنت تضيق منها.
وأنا أبشرك بأنك إن أدمنت على ذلك وداومت عليه، فستنقشع عن قلبك كل الحجب، وسيزول كل الران الذي يحول بينك وبين رؤية الحق واتباعه.
لكني ـ مع ذلك ـ أحذرك من مرض لا يقل خطرا عن الغفلة، بل قد يكون أخا توأما له، وهو مسلك من مسالك الشيطان التي يتخذها مع من نجا من استحواذه عليه بسبب الغفلة.
وذلك المرض الخطير، هو الغرور، ذلك الداء الذي تنقصم له الظهور.. جميع الظهور.. حتى ظهور الصالحين التي قد تتذوق حلاوته، فتأنس لها، وتنسى أن الامتحان لم ينته، وبذلك تسقط، ولو في آخر اللحظات.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، وحذر منه أشد تحذير، وضرب المثل له بآدم عليه السلام، ذلك الذي جاءه الشيطان من هذا الباب، بعد أن علم استعداده للوسوسة من خلاله، فقال: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22]
فالشيطان استطاع أن يغري آدم بالأكل من الشجرة، بسبب ما رآه من طمأنينته في الجنة، وتوهمه أنها ستبقى له أبد الآباد، وأنه لن يزيحه منها أحد، خاصة بعد أن علم لطف الله ورحمته وكرمه.. ولذلك أتاه الشيطان من هذا الباب، وراح يقسم له بالأيمان المغلظة إلى أن صدقه.
مثالب النفس الأمارة (27)
ولذلك اعتبر الله تعالى الغرور من أكبر أسلحة الشيطان التي يستعملها في غواية الإنسان، قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]
وقال ـ مفصلا وسائله وأساليبه في ذلك ـ: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ الله وَقَالَ لَأَتَّخِذَن مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنهُمْ وَلَأُمَنيَنهُمْ وَلَآمُرَنهُمْ فَلَيُبَتِّكُن آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنهُمْ فَلَيُغَيِّرُن خَلْقَ الله وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 117 - 120]
وقال مبينا إقرار الله للشيطان فيما يريد أن يستعمله من وسائل للإيقاع بالإنسان: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64]، ثم بين بعدها سر ذلك الإقرار، وهو تمييز الصادقين من المغترين، فقال: {إِن عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65]
وهكذا ذكر أن الغرور هو المصيدة التي يستعملها كل شياطين الإنس والجن، للإيقاع بمن يريدون ضمهم إلى صفوفهم، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِن يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]
وهكذا اعتبر كل ما ينحرف بالإنسان عن مسيرة الترقي التي هيأها له، نوعا من أنواع الغرور، ومادة من مواده.. وبما أن كل ذلك مجتمع في الدنيا، فقد اعتبرها المتاع الذي لا يقع في حبائله إلا المغترون، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]
مثالب النفس الأمارة (28)
ولهذا كله اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغرور هو المصيدة التي لا ينجو منها إلا الفطنون الحذرون الصادقون الذي لا يسكنون لشيء، فقال: (حبّذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم، ولمثقال ذرّة من صاحب تقوى ويقين أفضل من مل ء الأرض من المغترّين) (1)
وقال في حديث آخر: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والاحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ) (2)
وليس ذلك فقط، ما ورد في النصوص المقدسة من التحذير من الغرور، وإن كان كافيا، بل إن (كلّ ما ورد في فضل العلم وذمّ الجهل فهو دليل على ذمّ الغرور، لأن الغرور عبارة عن بعض أنواع الجهل، إذ الجهل هو أن يعتقد الشي ء، ويراه على خلاف ما هو به، والغرور هو الجهل) (3)
بل هو أخطر أنواع الجهل، ذلك أن الغرور جهل مركب؛ فالمغرور لا يكتفي بأن يجهل، وإنما يضم إليه ذلك التفكير الرغبوي الذي يجعله يرى الأشياء كما يحب، لا كما هي في الواقع، ثم يذهب إلى المغالطات والأكاذيب ليعتمدها أدلة على صدق دعواه، وإن لم تكن كذلك.
ولذلك يصبح علمه علم هوى، لا علما موضوعيا واقعيا.. وذلك أخطر أنواع الجهل.. ولهذا عرف الحكماء الغرور بأنه (سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان، فمن اعتقد أنه على خير إمّا في العاجل أو في الآجل
__________
(1) ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين.
(2) الترمذي والحاكم وأحمد وابن ماجه رقم 4260.
(3) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 293.
مثالب النفس الأمارة (29)
عن شبهة فاسدة فهو مغرور) (1)، وعرفوه بأنه (إخفاء الخدعة في صورة النصيحة) (2)، وأنه (تزيين الخطإ بأنه صواب) (3)
لا تيأس ـ أيها المريد الصادق ـ فأنا لم أرد ملأك بالقنوط عند تحذيري لك من الغرور، وإنما قصدي أن تنتبه له، وتحذر منه، ولا تكتفي بتلك اللذة التي وجدتها عند ذكرك لربك، أو عبوديتك له، فقد يأتيك الشيطان من حيث لا تحتسب، وقد قال الله تعالى عن ذلك الذي لم يأخذ حذره من الغرور: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]
ولهذا؛ فإني أنصحك ـ أيها المريد الصادق ـ مثلما نصحني جميع أساتذتي ومشايخي بأن تستعمل كل يوم، بل كل لحظة هذين الدوائين اللذين سأصفهما لك.. وهما كسائر أدوية النفس، أحدهما يرتبط بالمعرفة، والثاني بالعمل.. أولهما المقدمة، وثانيهما النتيجة.
أما الأول.. وهو العلاج المعرفي.. فاعلم أن السبب الأكبر للغرور هو عدم التصديق بوعد الله أو وعيده، أو ضعف ذلك التصديق.. وبقدر الضعف يكون الغرور.
ومثل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ مثل شخص دخل مدينة، وكان معه ثروة كبيرة من أصناف الأموال، وعندما خالط أهل المدينة سكن لهم، وأنس بهم، وتأثر بأخلاقهم..
__________
(1) المرجع السابق، ج 6، ص: 292.
(2) التوقيف ص 252.
(3) الكليات للكفوي ص 672.
مثالب النفس الأمارة (30)
فجعله ذلك يغفل عن حراسة ثروته؛ فأخذ اللصوص الذين لم ينتبه لهم، يسلبون منه كل حين طرفا منها إلى أن سلبوها منه جميعا.
فهكذا الأمر ـ أيها المريد الصادق ـ مع من اغتر بما وصل إليه من مكاسب أو ناله من شهرة، أو حظي به من أصناف التكريم.. فإنه إن سكن إلى ذلك، جاءه الشياطين بصور الملائكة، وسلبوا منه كل شيء، ومن غير أن يعلم.
ولذلك حذر الله تعالى من السكون إلى الأشياء، قبل معرفة المصير الحقيقي، الذي لا يمكن معرفته ما دمنا في الدنيا، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النارِ وَأُدْخِلَ الْجَنةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]
إن مثل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ مثل تلميذ في الامتحان؛ فهو قد يجيب عن بعض الأسئلة؛ فيفرح بإجابته، ويسكن لها، ويطمئن إلى نجاحه، ويجعله ذلك يقصر في باقي المواد، إلى أن يخسر كل شيء بسبب تقصيره..
ولهذا، فإن الكيس لا يغتر بالخلق جميعا، ولو أجمعوا على الثناء عليه، لأنه يعلم أن ثناءهم لن يجديه عند ربه ما لم يكن صادقا ومخلصا؛ فالله تعالى هو الذي يميز وحده الناجحين من الراسبين، والفائزين من الخاسرين.
ولهذا تتوالى التحذيرات الإلهية من السكون إلى الدنيا وأهلها، والاغترار بمعسول كلامهم وثنائهم ورضاهم، لأن رضاهم لا يعني رضى الله، كما أن سخطهم لا يعني سخطه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الناسُ إِن وَعْدَ الله حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنكُمْ بِالله الْغَرُورُ (5) إِن الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5، 6]، وقال: {إِن وَعْدَ الله حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنكُمْ بِالله
مثالب النفس الأمارة (31)
الْغَرُورُ} [لقمان: 33]
وضرب المثل على ذلك بالمنافقين الذين توهموا أنهم ـ بذلك النور المزيف الذي اكتسبوه في الدنيا ـ نجحوا، لكنهم عرفوا في عالم الحقيقة والتجريد أن كل ما اكتسبوه لم يكن سوى أوهام لبّسوا بها على أنفسهم، قال تعالى: {يوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ} [الحديد: 13، 14]
لذلك لا تسكن ـ أيها المريد الصادق ـ لأي شيء قد يتلاعب بحقيقتك ومصيرك.. فأنت ما دمت في هذه الدنيا في امتحان واختبار، ولا أحد يضمن لك النجاح، فقد تسقط في آخر محطة من المحطات، وقد ورد في الحديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أثنوا على بعض الناس ثناء حسنا بسبب شجاعته في الجهاد في سبيل الله، فقال رسول الله: (أما انه من أهل النار)، فتعجب القوم من ذلك، ثم إن بعضهم راح يتبعه، فخرج معه فكلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، فرآه في بعض المعارك، قد جرح جرحا شديدا، فوضع نصل سيفه في صدره، وقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: (وما ذاك؟) قال: (الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحا شديدا، فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل
مثالب النفس الأمارة (32)
عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة) (1)
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لبلال حينها: (يا بلال، قم فأذن: لا يدخل الجنة الا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)
فاحفظ ـ أيها المريد الصادق ـ هذا الحديث، وضعه نصب عينيك؛ فلو أن ذلك الرجل كان موقنا بوعد الله ووعيده، ولو علم ما ينتظر الشهداء من فضله، وما ينتظر المنتحرين من عقابه، لما أقدم على ذلك، وفي آخر لحظة من حياته.
ولا تنس أن تحفظ ما ورد في الرواية الثانية من تأييد الله لدينه بالرجل الفاجر.. فلا يغرنك ما يذكرونه من خدماتك للإسلام والمسلمين.. فذلك كله قد يحبط جميعا بموقف تقفه، أو فلتة تقع منك.. ولا تتعجب من ذلك، فأنت ترى الغابات الشاسعة تحترق بعود ثقاب واحد..
لقد ذكر بعض الحكماء هذاالمعنى، فقال: (رب معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً وأستكباراً)
هل تعلم ـ أيها المريد الصادق ـ سر ذلك؟.. إن سره هو أن ذلك العز والاستكبار يتنافى مع عبوديتك لربك.. فلذلك ترى بعض من يغترون بأعمالهم الصالحة مثل الجبابرة والفراعنة، وكأن مفاتيح الجنان أصبحت بأيديهم، لا يكتفون هم بدخولها فقط، وإنما يرون أنفسهم من المتحكمين في الجنة يدخلون إليها من شاءوا، ويخرجون من شاءوا.
هذا هو العلاج الأول ـ أيها المريد الصادق ـ ولا يعينك عليه شيء مثل كثرة قراءتك للقرآن الكريم، وتدبرك فيما ورد فيه من آيات.. فهو ينبهك كل حين من رقدتك، ويحذرك من السكون إلى الأشياء.. ويجعلك ترى العالم بصورته الحقيقية، لا بتلك الصورة التي
__________
(1) رواه البخاري.
مثالب النفس الأمارة (33)
يصوره لك بها المغترون، الذين يزينون لك أعمالك، إلى أن تلقى الله، وليس في صحيفتك حسنة واحدة.
ولهذا احذر أن تسكن إليهم، أو تفرح بما يذكرونه لك، فـ (لأن تلقى قوما يخوفونك حتى تجد الأمان، خير من أن تجد من يؤمنك إلى أن تجد المخافة)
واحذر من قولهم لك (إن الله كريم، وإنا نرجو عفوه)؛ أو ما ذكر عن بعضهم أنه قال: إذا قيل لك: (ما غرّك بربّك الكريم؟)، فقل: (غرّني ستورك المرخاة لأن الكريم هو السّتّار)
فكل هذا ناتج عن سوء فهم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، فكرم الله ورحمته ولطفه بعباده، لا يعنيان عدم وجود عدله أو انتقامه ممن حرف أو انحرف.. وقد قال المفسرون في الآية الكريمة: (هذا تهديد، لا كما يتوهّمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب، حيث قال الكريم، حتّى يقول قائلهم غرّه كرمه، بل المعنى في هذه الآية: ما غرّك يا بن آدم بربّك الكريم، أي العظيم حتّى أقدمت على معصيته وقابلته بما لا يليق كما جاء فى الحديث: (يقول الله تعالى يوم القيامة: يا ابن آدم ما غرّك بي؟ يا بن آدم ما ذا أجبت المرسلين؟) (1)
ويدل لذلك قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَني أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَن عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]، فالذي يقتصر من معرفته بالله على المغفرة والرحمة دون أن يعلم أنه يمكن أن يعاقب ويعذب.. مثل ذلك الذي يأكل العسل المسموم، متوهما أن الحلاوة لا يمكن أن يختلط بها سم..
وبما أن الله تعالى خلق العسل والسم.. فالعاقل هو الذي يعلم أنه يمكن أن يرحم،
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/ 451)
مثالب النفس الأمارة (34)
كما أنه يمكن أن يعذب.. ولذلك كانت الفطنة في كلا المعرفتين، لا في الاقتصار على ما تشتهيه النفس منهما.
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تورد لي هنا ما يورده المغترون الذين آثروا الحياة الدّنيا، واطمأنوا لها، وتوهموا أن مجرّد الإيمان يكفي للفوز، مع أن الله تعالى قرن مغفرته لعباده بالكثير من الشروط، فقال: {وَإِني لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]
وإياك أن تسمع لتحريفهم للأسماء، وتبديلهم لها، حيث يسمون ذلك الغرور رجاء وحسن ظن بالله، ويوردون لك كل النصوص المقدسة التي تبين فضل ذلك..
وهؤلاء اشتبه عليهم الأمر؛ فأعملوا بعض النصوص، وضيعوا غيرها.. ولو فطنوا لأعملوها جميعا..
فلو أنهم تدبروا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله) (1) لعلموا أنهم المقصودون بذلك، ذلك أنهم غيروا اسم [التّمني] باسم [الرجاء]، مع أن الرجاء الذي دعا إليه القرآن الكريم لا يرتبط بالكسالى والمقعدين والمغرورين، وإنما يرتبط بأولئك الذين وصفهم الله تعالى، فقال: {إِن الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]
ولو أنهم تدبروا كيف قرن الله تعالى الرجاء بالخوف، ثم رجح جانب الخوف، فقال في وصف عباده الصالحين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِن عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]
__________
(1) الترمذي والحاكم وأحمد وابن ماجه رقم 4260.
مثالب النفس الأمارة (35)
ولهذا، فإن أول علامات النجاة من الغرور، الحذر والحيطة التي يصحبها العمل لا الكسل، وقد قيل لبعض الحكماء: (قوم يقولون نرجو الله، ويضيّعون العمل)، فقال: (هيهات هيهات.. تلك أمانيّهم يترجّحون فيها، من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه)
قد تسألني ـ أيها المريد الصادق ـ عن محل الرّجاء؛ فاعلم أن الحكماء ذكروا له موضعين، أولهما مرتبط بذلك الذي أنهكته الذنوب، وطمع في التوبة، لكن شياطين الإنس والجن، راحوا يسخرون من طمعه فيها، وراحوا يؤيسونه من رحمة الله تعالى، فذلك الذي عليه أن يرجو غفران الله إن صدق في توبته، وأصلح ما أفسده من حاله، كما قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِن الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]
وأما الثاني؛ فذلك الذي يستعمل الرجاء محركا له للجد في العمل الصالح، فيقرأ ما ورد في فضائل الأعمال، وما أورده الله تعالى في كلماته المقدسة، ويمني نفسه بتحصيل ذلك الأجر العظيم، ثم يندفع إلى ذلك العمل بصحبة ذلك الأمل..
فكلا الشخصين لم يستعملا الرجاء كمخدر للوهم والخديعة، وإنما استعملاه كمنشط للقيام بالأعمال الصالحة.. ولهذا فإن الفرق بين الرجاء والغرور في نتيجة كليهما.. فمن جعله رجاؤه نشيطا جادا في العمل الصالح، فهو صاحب رجاء حقيقي، ومن جعله رجاؤه كسولا متثاقلا، فهو مغرور بالأماني الكاذبة.
وأما العلاج الثاني للغرور؛ فهو ذلك الجهد والنشاط والهمة العالية التي تحول من المغرور كيّسا فطنا حذرا ورعا.. لا تغره الأماني الكاذبة، ولا معسول الكلام.. بل يسعى
مثالب النفس الأمارة (36)
بهمته للعمل الصالح، ولا يكتفي به، بل يتفقد نفسه، ويراجعها ليبحث عن أي ثغرة قد يدخل إليه الشيطان منها.. أو أي فيروس قد يقضي على كل ما اكتسبه من أعمال.
لقد أشار الإمام الصادق إلى ذلك، فقال: (المغرور في الدّنيا مسكين وفي الآخرة مغبون لأنه باع الأفضل بالأدنى، ولا تعجب من نفسك حيث ربّما اغتررت بمالك وصحّة جسمك أن لعلّك تبقى، وربّما اغتررت بطول عمرك وأولادك وأصحابك لعلّك تنجو بهم. وربّما اغتررت بجمالك ومنيتك وإصابتك مأمولك وهواك، فظننت أنك صادق ومصيب، وربّما اغتررت بما ترى من الندم على تقصيرك في العبادة ولعلّ الله تعالى يعلم من قلبك بخلاف ذلك، وربّما أقمت نفسك على العبادة متكلّفا والله يريد الإخلاص، وربّما افتخرت بعلمك ونسبك وأنت غافل عن مضمرات ما في غيب الله، وربّما توهّمت أنك تدعو الله وأنت تدعو سواه، وربّما حسبت أنك ناصح للخلق، وأنت تريدهم لنفسك، وأن يميلوا إليك، وربّما ذممت نفسك وأنت تمدحها على الحقيقة، واعلم أنك لن تخرج من ظلمات الغرور والتمني إلّا بصدق الإنابة إلى الله والإخبات له ومعرفة عيوب أحوالك من حيث لا توافق العقل والعلم ولا يحتمله الدّين والشريعة وسنن القدوة وأئمة الهدى، وإن كنت راضيا بما أنت فيه، فما أحد أشقى بعلمك منك وأضيع عمرا فأورثت حسرة يوم القيامة) (1)
هذا ما قاله الإمام الصادق، وهو ما اتفق عليه جميع الحكماء، ودلت عليه جميع النصوص المقدسة.. ولذلك كانت منافذ الغرور دقيقة جدا، قل من ينجو منها إلا المخلصون الصادقون الذين حاسبوا أنفسهم في ذات الله، ولم يلينوا لها، ولم يسكنوا لشيء.
وسأورد عليك ـ أيها المريد الصادق ـ بعض ما ذكروه عن أصناف المغترين، لا لتحفظه، أو تعتقد أنه النهاية.. بل لتحذر منه وتحذّر.. فمسالك الشيطان أكثر من أن
__________
(1) مصباح الشريعة، الباب السادس والثلاثين، نقلا عن: المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 357.
مثالب النفس الأمارة (37)
يحصيها أحد.
فقد ذكروا أن من أوائل المغترين أولئك الذين لبسوا حلل أهل العلم، فتوهم الناس أن الجنة قد ضمنت لهم، مع أنهم في أشد المواضع خطرا، وقد أخبر الله تعالى عن غرور علماء من سبقنا من الأمم، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله} [التوبة: 34]
ونفس الحكم ينطبق على علماء هذه الأمة، ولذلك أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالخير ولا آتيه وأنهاكم عن الشر وآتيه) (1)
وضرب صلى الله عليه وآله وسلم للذي لا يعمل بعلمه مثلا، فقال: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل الفتيلة تضيء على الناس وتحرق هي نفسها) (2)
وأخبر عن العقاب الشديد الذي يصيب أولئك الذين اغتروا بما عندهم من العلم، فقال: (كل علم وباله على صاحبه إلا من عمل به) (3) وفي رواية: (أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع ومن علم لا ينفع) (4)
ولهذا، فإن كل من لم يلتفت لهذه النصوص المقدسة، وراح يزهو بما عنده من العلم
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(2) رواه البزار وغيره.
(3) رواه الطبراني.
(4) رواه مسلم وغيره.
مثالب النفس الأمارة (38)
مغتر، فأول علامات العالم تواضعه وعبوديته لله، وشده حذره من التكاليف المناطة به، وأولها أن يطبق ما تعلمه من علم، حتى يعطي النموذج الصالح عن علمه.
لقد ضرب بعض الحكماء مثلا لذلك الذي يغتر بالعلم المفصول عن العمل، بمريض به علّة لا يزيلها إلّا دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها إلّا حذّاق الأطباء.. وبعد أن بذل كل جهده في طلب الطبيب.. وهاجر عن وطنه حتّى عثر عليه، (فعلّمه الدّواء وفصّل له الأخلاط وأنواعها ومقاديرها ومعادنها الّتي منها تجتلب وعلّمه كيفيّة دقّ كلّ واحد منها وكيفيّة الخلط والعجن، فتعلّم ذلك منه فكتب منه نسخة حسنة بخطّ حسن ورجع إلى بيته وهو يكرّرها ويقرؤها ويعلّمها المرضى ولم يشتغل بشربها واستعمالها، أ فترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئا؟) (1)
هيهات هيهات.. وأنى له ذلك.. بل إنه (لو كتب منه ألف نسخة، وعلّمه ألف مريض حتّى شفى جميعهم وكرّره كلّ ليلة ألف مرّة لم يغنه ذلك من مرضه شيئا إلّا أن يزن الذّهب، ويشتري الدّواء، ويخلطه كما تعلّم ويشربه ويصبر على مرارته، ويكون شربه في وقته وبعد تقديم الاحتماء وجميع شروطه، وإذا فعل جميع ذلك فهو على خطر من شفائه فكيف إذا لم يشربه أصلا، فمهما ظن أن ذلك يكفيه ويشفيه فقد ظهر غروره) (2)
ولهذا، فإن الله تعالى قال عن النفس: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، ولم يقل: (قد أفلح من تعلّم كيفية تزكيتها، وكتب علمها وعلّمها الناس).. وهكذا قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]، فربط الزكاة بالعمل، فلا تزكية من دون علم وعمل.
__________
(1) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 310.
(2) المرجع السابق، ج 6، ص: 311.
مثالب النفس الأمارة (39)
وهكذا يدخل في المغترين أولئك الذين اهتموا بالشعائر التعبدية دون ملاحظة مقاصدها؛ فحولوها من شعائر للتقرب إلى الله، وتزكية النفس إلى طقوس ظاهرية لا أثر لها في حياتهم إلا ذلك الكبر الذي يملأ نفوسهم.. فحولوا عبادة الله إلى وسيلة لعبادة أنفسهم.
وهؤلاء كثيرون جدا.. فمنهم من (أهملوا الفرائض، واشتغلوا بالفضائل والنوافل، وربّما تعمّقوا في الفضائل حتّى خرجوا إلى العدوان والسرف كالّذي تغلب عليه الوسوسة في الوضوء فيبالغ فيه ولا يرتضي الماء المحكوم بطهارته في فتوى الشرع ويقدّر الاحتمالات البعيدة قريبة في النجاسة) (1)
لكنه عند الورع عن أكل الحرام تجده ـ بعكس ذلك ـ (يقدّر الاحتمالات القريبة بعيدة، وربما أكل الحرام المحض)، مع أن النصوص المقدسة تتشدد في المال الحرام، وتيسر وترفع الحرج في الأمور المرتبطة بالطهارة والشعائر التعبدية.
ومنهم من راح يجعل كل اهتمامه عند قراءة القرآن الكريم على إخراج حروفه من مخارجها؛ (فلا يزال يحتاط في التشديدات والفرق بين الضاد والظاء.. لا يهمّه غيره، ولا يتفكّر فيما سواه ذاهلا عن معنى القرآن والاتّعاظ به وصرف الهمّ إلى فهم أسراره، وهذا من أقبح أنواع الغرور، فإنه لم يكلّف الخلق في تلاوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إلّا بما جرت به عادتهم في الكلام) (2)
إن مثل هؤلاء ـ أيها المريد الصادق ـ مثل (من حمل رسالة إلى مجلس سلطان، فأمر أن يؤدّيها على وجهها؛ فأخذ يؤدّي الرّسالة ويتأنق في مخارج الحروف ويكررها ويعيدها مرّة بعد أخرى، وهو في ذلك غافل عن مقصود الرّسالة ومراعاة حرمة المجلس، فما أحراه بأن
__________
(1) المرجع السابق، ج 6، ص: 333.
(2) المرجع السابق، ج 6، ص: 334.
مثالب النفس الأمارة (40)
تقام عليه السياسة فيردّ إلى دار المجانين ويحكم عليه بفقد العقل)
ومنهم من راح يصب كل اهتمامه عند صومه على ترك المفطرات من الأكل والشرب، ويبالغون في ذلك، بينما هم (لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة، وخواطرهم عن الرّياء، وبطونهم عن الحرام عند الإفطار، وألسنتهم من الهذيان بأنواع الفضول طول النهار)
ومنهم من راح يجعل كل اهتمامه ـ في تدينه ـ بالإكثار من الحج والعمرة، (فيخرجون إلى الحجّ من غير خروج عن المظالم وقضاء الدّيون، واسترضاء الوالدين، وطلب الزّاد الحلال، وقد يفعلون ذلك بعد سقوط حجّة الإسلام ويضيّعون في الطريق الصلاة والفرائض.. ولا يحذرون في الطريق عن الرفث والخصام، وربّما جمع بعضهم الحرام وأنفقه على الرفقاء في الطريق وهو يطلب به السمعة والرّياء، فيعصي الله في كسب الحرام أوّلا وفي إنفاقه بالرّياء ثانيا، فلا هو أخذه من حلّه ولا هو وضعه في حقّه، ثمّ يحضر البيت بقلب ملوّث برذائل الأخلاق وذمائم الصفات، لم يقدم تطهير قلبه على حضور بيت ربّه، وهو مع ذلك يظن أنه على خير من ربّه وهو مغرور)
وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكن أن يدخل الغرور في أي عمل من الأعمال، والعاقل هو الذي يحاسب نفسه، ويزن أعماله بميزان الشريعة، لا بميزان الهوى، حتى لا يلقى الله، وليس في جعبته حسنة واحدة، كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105]
فاحذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكون من هؤلاء، وكن فطنا حذرا.. وراجع كل موقف تقفه، أو سلوك تقوم به.. ولا يغرنك أحد عن نفسك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
مثالب النفس الأمارة (41)
(استفت قلبك، واستفت نفْسَك ثلاث مرات؛ البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) (1)
واحذر أن تسلم دينك لأحد من الناس، فينطبق عليك قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَن لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النارِ} [البقرة: 166، 167]، وقوله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 66، 67]
فاحذر من كل فتوى تبعدك عن ربك وعن دينك وعن القيم المقدسة التي جاء بها، والتي دلت عليها الفطرة السليمة.. فإنه لن يجديك عند الله أن تبرئ نفسك، وتلقي التهمة على من أفتاك أو خدعك عن نفسك..
__________
(1) رواه أحمد 18006 والدارميُّ 2533.
مثالب النفس الأمارة (42)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تخبرني عما أطلقت عليه [الثقة بالنفس]، وأخبرتني أنك دخلت دورة تدريبية خاصة بها، وأنها أثرت فيك تأثيرا بليغا، فصرت ترى من قدراتك ما لم تكن ترى، وتقتحم الحياة بجرأة لم تعهدها من نفسك.
وأنا لا أريد أن أثبطك أو أمنعك أو أحرم عليك ما اخترته لنفسك، وما رأيته صالحا لها؛ فما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء.. والضعف والخور والعجز واهتزاز الثقة كلها أمراض، ويمكنك أن تعالجها بما تراه مناسبا لها.
لكني أريد أن أذكر لك أمرا قد يكون ناشئا عن تلك الثقة التي تحدثت عنها، أو قد يكون ناشئا من المبالغة فيها، وهو ما نص عليه قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]
فهذه الآية الكريمة تذكر نوعا من الثقة في النفس، كان سببا في الهزيمة، لا في الانتصار، لجيش كامل، على الرغم من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان معهم، لكنهم لم يلتفتوا إليه، ولا إلى المدد الإلهي، ولا إلى أخذ الحيطة والحذر، وإنما اكتفوا بالنظر إلى الكثرة التي أُعجبوا بها، فكانت سببا في هزيمتهم.
وهكذا أخبر الله تعالى عن إعجاب يهود بني النضير بحصونهم، وثقتهم فيها، وهو ما جعلهم يتبجحون، ويستكبرون، ويتصورون أنهم لا يمكن أبدا أن يُغلبوا أو يُهزموا.. لكن الله تعالى أتاهم من حيث لم يحتسبوا، فأُخرجوا من تلك الحصون، بل صاروا يدمرون بيوتهم التي كانوا يتباهون بها بأيديهم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنوا أَنهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ الله
مثالب النفس الأمارة (43)
فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]
وهكذا أخبر الله تعالى عن الخاسرين الذين لم يكتشفوا خسارتهم إلا بعد فوات الأوان، ذلك أن إعجابهم بأنفسهم وأعمالهم جعلهم منشغلين بالنظر إليها والفرح بها عن التحقق من مدى موافقتها للشريعة، ومدى توجههم بها لربهم، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]
هل رأيت ـ أيها المريد الصادق ـ كيف كان ذلك الإعجاب الذي قد يكون نوعا من الإسراف في الثقة بالنفس، سببا في الهلاك والخسارة؟
وكيف لا يكون كذلك.. وهو الحائل الأكبر بين الإنسان والتوبة؟.. وهل يمكن أن يتوب من يثق في أعماله، ويرى أنه منزه معصوم.. كل أعماله صالحة؟
وكيف لا يكون كذلك.. وهو الحائل الأكبر بين الإنسان ومراجعة نفسه، وتصحيح أخطائه ومواقفه.. والبحث عن الحقيقة والسراط المستقيم؟.. وهل كان سبب بقاء المشركين على شركهم، والضالين على ضلالهم إلا بسبب إعجابهم بأنفسهم، وفرحهم بما تركه لهم آباؤهم وأجدادهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]
وكيف لا يكون كذلك.. وهو الحائل بين الإنسان والاستفادة من غيره، وتجاربهم، وخبراتهم.. وهل يمكن أن يستفيد من آراء غيره من امتلأ عجبا برأيه؟
وكيف لا يكون كذلك.. وهو السبب الأكبر في إحباط الأعمال، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَن وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، فهل يمكن أن
مثالب النفس الأمارة (44)
يمن الإنسان بصدقاته وأعماله ما لم يكن معجبا بها؟
وكيف لا يكون كذلك.. وهو المدد الأكبر لنهر الكبر والإعراض والاستبداد والطغيان.. فكل هؤلاء معجبون بأنفسهم.. ولولا إعجاب فرعون بنفسه لما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، ولما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]
لا تحسبن ـ أيها المريد الصادق ـ أن تلك المقولة مقولة فرعون وحده، بل هي مقولة كل معجب بنفسه، مغتر بما آتاه الله من الطاقات والمواهب والمكاسب.. وبدل أن يتواضع بها لله، راح يتبجح بها ويستكبر.
ولذلك كان العجب سببا من أسباب الهلاك الكبرى.. ومثلبا من مثالب النفس الأمارة العظمى.. ومن لم يتفقد هذا الداء من نفسه، ويعالجه، فإنه هالك لما محالة.
ليس هذا قولي ـ أيها المريد الصادق ـ وإنما هو قول ربنا.. فقد سمعت ما قرأته عليك من الآيات.. وهو قول نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) (1)
وقال في حديث آخر: (إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك نفسك) (2)
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر المذنب المنكسر المتواضع أفضل من المطيع الممتلئ بالعجب بنفسه، ولذلك عندما سئل عن الذنوب، قال: (لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك، العجب العجب) (3)
__________
(1) رواه البيهقي في الشعب.
(2) رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه.
(3) رواه البزار وابن حبان في الضعفاء والبيهقي في الشعب.
مثالب النفس الأمارة (45)
وهكذا حذر أئمة الهدى من العجب، واعتبروه أكبر حجاب يحول بين الإنسان والوصول إلى الحق، أو الإذعان له، فعن الإمام الصادق قال: (إن الله تعالى علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب ولو لا ذلك ما ابتلى مؤمنا بذنب أبدا) (1)، وقال: (من دخله العجب هلك) (2)، وقال: (إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ويعمل العمل فيسره ذلك فيتراخى عن حاله تلك فلأن يكون على حاله تلك خير له مما دخل فيه) (3)
وحكى قصة تبين خطر العجب، فقال: (أتى عالم عابدا فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يسأل عن صلاته؟! وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا، قال: فكيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتى تجري دموعي، فقال العالم: إن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدل.. إن المدل لا يصعد من عمله شي ء) (4)
وحكى قصة أخرى، فقال: (دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق فخرجا من المسجد والفاسق صديق والعابد فاسق، وذلك أنه يدخل العابد المسجد مدلا بعبادته يدل بها فتكون فكرته في ذلك وتكون فكرة الفاسق في الذم على فسقه ويستغفر الله مما صنع من الذنوب) (5)
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أخبار الأنبياء أنه (بينما موسى عليه السلام جالس إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان فلما دنا منه خلع البرنس وقام إلى موسى عليه السلام فسلم عليه فقال له موسى عليه السلام: من أنت فقال: أنا إبليس، قال: أنت فلا قرب الله
__________
(1) الكافي ج 2 ص 313 رقم 1.
(2) الكافي ج 2 ص 313 رقم 2.
(3) الكافي ج 2 ص 313 رقم 4.
(4) الكافي ج 2 ص 313 رقم 5 والمدل: المنبسط المسرور الذي لا خوف له من التقصير في العمل.
(5) الكافي ج 2 ص 114 رقم 6..
مثالب النفس الأمارة (46)
دارك، قال: إني إنما جئت لأ سلم عليك لمكانك من الله تعالى، فقال له موسى عليه السلام: فما هذا البرنس؟ قال: أختطف به قلوب بني آدم، فقال له موسى: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه، قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه) (1)
وحكى عن داود عليه السلام أن الله تعالى أوحى إليه، فقال: (يا داود بشر المذنبين وأنذر الصديقين)، فقال داود: كيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين؟ فقال الله تعالى له: (يا داود بشر المذنبين أني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وأنذر الصديقين ألا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك) (2)
وهكذا اتفق كل الحكماء على خطورة العجب، وقد قال ابن مسعود: (الهلاك في اثنتين القنوط والعجب)، فانظر ـ أيها المريد الصادق ـ كيف جمع بينهما، لأن كليهما يقعدان بالإنسان عن العمل الجاد.. مع أن (السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمر، والقانط لا يسعى ولا يطلب، والمعجب يعتقد أنه قد سعد وظفر بمراده فلا يسعى والموجود لا يطلب والمحال لا يطلب، والسعادة في اعتقاد المعجب حاصلة له ومستحيلة في اعتقاد القانط فبهذا جمع بينهما)
لا تحسبن ـ أيها المريد الصادق ـ أني أقصدك بهذا، أو أقصد أولئك الذين امتلأوا ثقة بأنفسهم؛ فليس كل واثق بنفسه معجبا بها.. وقد روي في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم أحد، وهو يحمل سيفا: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟)، فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: (أن تضرب به
__________
(1) الكافي ج 2 ص 314 رقم 8.
(2) الكافي ج 2 ص 314 رقم 8.
مثالب النفس الأمارة (47)
فى وجه العدو حتى ينحنى)، فقال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه، وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه صلى الله عليه وآله وسلم يتبختر قال: (إنها لمشية يبغضها الله إلا فى مثل هذا الموطن) (1)
وقال بعض من رآه يصفه: اتبعته، فأخذ عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت، فخرج، وهو يقول:
أنا الذى عاهدنى خليلى... ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر فى الكيّول أضرب بسيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله (2).
فأبو دجانة ـ أيها المريد الصادق ـ لم يكن معجبا بنفسه، ولكنه كان واثقا بها، وبقدراته، فلذلك قبل أن يحمل ذلك السيف بشروطه.. وعندما سار متبخترا لم يكن مختالا، ولا مزهوا، ولا متكبرا، وإنما كان فرحا بفضل الله عليه في حمل سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه.
وهكذا عندما قال يوسف عليه السلام للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِني حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، أو عندما قال لأصحابه في السجن: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37]
وهكذا عندما كان الإمام علي يصيح في المعرضين عنه، والمستبدلين به غيره: (سلوني قبل أن تفقدوني، فو الّذي نفسي! بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين السّاعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها، ومحطّ رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلا، ومن يموت منهم موتا) (3)
__________
(1) مسلم (2470)
(2) أحمد (3/ 123)، والحاكم (3/ 255)
(3) شرح الأخبار 1: 139، الحاكم في المستدرك (3394)
مثالب النفس الأمارة (48)
فكل هؤلاء ـ أيها المريد الصادق ـ لم يكونوا من المعجبين بأنفسهم، ولكنهم كانوا معجبين بفضل الله عليهم.. وفرق كبير بين من يعجب بما عنده، وبين من يعجب بما أعطاه الله.. فالأول يتكبر ويُدل ويبطر.. والثاني يحمد الله، ويضع النعمة في محلها، ويتواضع لخلق الله، لعلمه أن تلك النعمة ليست منه، وإنما هي من ربه.
ولذلك عرف الحكماء العجب بأنه (استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم عز وجل) (1)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن للعجب ـ كسائر مثالب النفس الأمارة ـ دوائين، لا يمكن أن ينال الشفاء أحد من دون استعمالهما.
أما الأول.. وهو العلاج المعرفي.. فلا يمكن أن يتم إلا بعد التحقيق في ماهية العجب، والتفريق بينه وبين ما يشابهه من الأوصاف المحمودة.. حتى لا يزيل المداوي صفات أُمر بأن تتوفر فيه.
ولعل أقرب ما ييسر لك ذلك التفريق قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] في نفس الوقت الذي نهي فيه عن الفرح بأشياء كثيرة (2).
ذلك أن العجب هو نوع من الفرح الذي يعتري النفس.. فإن كان هذا الفرح بفضل الله، كان فرحا في محله، وإن كان فرحا بالنفس، كان بطرا وكبرا وانحرافا.
أما الأول، وهو الفرح بالله، والإعجاب بفضله؛ فيثمر التواضع، وحمد الله، وشكره
__________
(1) إحياء علوم الدين 3/ 370.
(2) شرحنا بتفصيل المواضع التي نهي فيها عن الفرح، في كتاب [لا تفرح]
مثالب النفس الأمارة (49)
على نعمه، والخوف من التقصير في حقها، والذي يؤدي إلى سلبها.. ولذلك يكون الفرح مغمورا بالورع والتقوى والصلاح والعبودية.
وأما الثاني، فيجعل الإنسان مستكبرا بطرا مزهوا.. كما وصف الله تعالى قارون الذي لم يفرح بخزائن أمواله لكونها رزقا ساقه الله إليه، وإنما فرح بها لتوهمه أنها منه، وله، كما قال تعالى: {إِنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]
ولذلك، فإن أحسن علاج يعالَج به هذا الفرح الكاذب هو قراءة ما ورد في القرآن الكريم من عواقب الذين استفزهم وأغراهم ذلك الفرح إلى الدرجة التي تحولوا فيها إلى مناوئين للرسل، ومعادين لأولياء الله.
وقد ذكر الله تعالى عاقبة إعجاب قارون بثروته وبيته وما آتاه الله من خزائن، فكان عاقبة أمره أن خسف الله به {وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَن الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَن الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 81، 82]
وهكذا كان عاقبة صاحب الجنتين الذي شغله الإعجاب بهما عن شكر الله وحمده، وشغله عن الاستماع لصاحبه الناصح له، والذي قال من شدة الإعجاب: {مَا أَظُن أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُن السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَن خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 35، 36]
حينها علمه صاحبه المؤمن كيف يعالج ذلك العجب الكاذب، فقال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنا هُوَ الله رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ الله لَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا
مثالب النفس الأمارة (50)
وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 37 - 41]
وقد ذكر الله تعالى المصير الذي صارت إليه تينك الجنتان، فقال: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 42، 43]
وعند تأملك ـ أيها المريد الصادق ـ في مقالة الصاحب المؤمن، تجد الحقائق التي يمكنك أن تستند إليها في علاج العجب الكاذب، وأولها أن تعلم أن كل شيء من الله، وأنه عارية عندك، ليختبرك به، وأنه كما أعطاك يمكن أن يمنعك، وكما من عليك به يمكن أن يحرمك منه.
ولذلك تنظر إلى ذلك الفضل الإلهي نظر التواضع، حتى تنجج في اختبارك، وحتى لا يكون وسيلة لأن يُسلب منك.
وقد ذكر الإمام الصادق ـ بيانا لما ورد في القرآن الكريم ـ المعارف الكبرى التي تحفظ قلبك من العجب، فقال: (العجب كل العجب ممن يعجب بعمله وهو لا يدري بما يختم له، فمن أعجب بنفسه وفعله فقد ضل عن نهج الرشاد، وادعى ما ليس له، والمدعي من غير حق كاذب، وإن خفي دعواه وطال دهره فإنه أولى ما يفعل بالمعجب نزع ما أعجب به، ليعلم أنه عاجز فقير، ويشهد على نفسه لتكون الحجة عليه أوكد، كما فعل بإبليس، والعجب نبات حبها الكفر، وأرضها النفاق، وماؤها البغي، وأغصانها الجهل، وورقها الضلالة، وثمرها اللعنة والخلود في النار، فمن اختار العجب فقد بذر الكفر وزرع النفاق، ولا بد من أن يثمر) (1)
__________
(1) مصباح الشريعة، الباب الأربعين، المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 277.
مثالب النفس الأمارة (51)
فاجعل هذه المقولة ـ أيها المريد الصادق ـ بين عينيك؛ فهي مقولة إمام من أئمة الهدى، ووارث من ورثة النبوة، وهو يحذرك فيها من آثار العجب، فهو مثل الأمراض الخبيثة يتطور ويثمر كل ألوان الخبائث.
وقد سئل الإمام الكاظم عن العجب الذي يفسد العمل، فقال: (العجب درجات منها أن يزين للعبد سوء عمله، فيراه حسنا ويحسب أنه يحسن صنعا، ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله، ولله عليه فيه المنة) (1)
إن الإمام الكاظم ـ أيها المريد الصادق ـ يشير إلى أثر من آثار العجب الخطيرة، وهو الإدلال على الله، ذلك الذي نهى الله تعالى عنه في قوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، وقد قيل في تفسيرها: (أي لا تدل بعملك)
وهو ما أشار الله تعالى إليه في قول صاحب الجنتين: {مَا أَظُن السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَن خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]، فقد بلغ به إعجابه بنفسه أنه تصور أن الله سيرزقه في الدار الأخرى، كما رزقه في الدنيا.
ومثله ذلك المشرك المعاند الذي حدث عنه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَن مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77]، وقد رد الله تعالى عليه بقوله: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 78 - 80]
ولهذا اتفق الحكماء على خطر الإدلال وكونه ثمرة من ثمار العجب، وقد قال بعضهم في ذلك: (لأن تضحك وأنت معترف بذنبك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك)
ثم بين سر ذلك، فقال: (الإدلال وراء العجب فلا مدل إلا وهو معجب، ورب
__________
(1) الكافي، ج 2 ص 313.
مثالب النفس الأمارة (52)
معجب لا يدل إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة دون توقع جزاء عليه والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء، فإن توقع إجابة دعوته واستنكر ردها بباطنه وتعجب منها كان مدلا بعمله فإنه لا يتعجب من رد دعاء الفساق ويتعجب من رد دعاء نفسه لذلك. فهذا هو العجب والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه) (1)
إذا علمت ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ وتأملت فيه، فإنه سيفيدك كثيرا في علاج العجب، ويقيك من آثاره الخطيرة على نفسك.
ومما يعينك على ذلك أن تقرأ سير الصالحين، لترى صلاحهم وتقواهم وطهارتهم، وبذلك يتحول إعجابك بنفسك إلى إعجاب بهم، والخير كل الخير في إعجابك بالصالحين ومحبتك لهم.
ولهذا امتلأ القرآن الكريم بذكر صفات الصالحين الصادقين الذين نجحوا فيما وضعوا فيه من الاختبارات.. فضع ما ذكره القرآن الكريم عنهم بين عينيك، وسترى كيف يملؤك ذلك بالعبودية والتواضع.
واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ دائما تلك الحقيقة القرآنية التي عبر عنها قول الله تعالى: {فَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64]، وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]، وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِن الله يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]
وغيرها من الآيات الكريمة التي تشير إلى أن كل كمال تستشعره في نفسك، أو عمل
__________
(1) (7) إحياء علوم الدين 3/ 371.
مثالب النفس الأمارة (53)
تقوم به، أو تزكية تحصل عليها، إنما هي فضل إلهي خالص، كما عبر عن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد ينجيه عمله)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) (1)
ولذلك، كان لك أن تعجب بها جميعا، لكن باعتبارها فضل من الله عليك، وليس كسبا من كسبك، أو فضلا من فضلك.
أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك ستذكر لي ما ذكره بعضهم لشيخه حين قال له: (كيف يمكنني أن أجهل أعمالي؟ وإني أنا عملتها وإني أنتظر عليها ثوابا، ولو لا أنها عملي لما انتظرت الثواب فإن كانت الأعمال مخلوقة لله على سبيل الاختراع؛ فمن أين لي الثواب، وإن كانت الأعمال مني وبقدرتي فكيف لا أعجب بها؟) (2)
وأنا أحيلك في الجواب إلى القرآن الكريم.. فاقرأه بعين قلبك، وستجد الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المؤمنين بعدما انتصروا على أعدائهم، ويقول لهم: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِن الله رَمَى} [الأنفال: 17]
ويمكنك أن تقيس على هذا كل أعمالك، فالله تعالى هو الذي (خلقك، وخلق أعضاءك، وخلق فيها القوة والقدرة والصحة، وخلق لك العقل والعلم، وخلق لك الإرادة ولو أردت أن تنفي شيئا من ذلك عن نفسك لم تقدر عليه) (3)
وإن كنت (تحسب أن العمل حصل بقدرتك فمن أين قدرتك ولا يتصور العمل إلا بوجودك وبوجود علمك وإرادتك وقدرتك وسائر أسباب عملك وكل ذلك من الله تعالى لا منك، فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه وهذا المفتاح بيد الله تعالى، ومهما لم يعطك
__________
(1) مسلم (2816) (73)
(2) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 279
(3) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 280
مثالب النفس الأمارة (54)
المفتاح فلا يمكنك العمل، فالعبادات خزائن بها يتوصل إلى السعادات ومفاتيحها القدرة والإرادة والعلم وهي بيد الله لا محالة) (1)
إذا علمت كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فإنه يمكنك أن تبدأ في العلاج السلوكي المرتبط بتفاصيل حياتك، والمحال التي وجدت فيروس العجب قد اخترقها، لتزيله عنك، وتتحول إلى عبودية ربك.
وقد ذكر الحكماء الكثير من التفاصيل المرتبطة بذلك، ولن أذكرها لك جميعا، بل أكتفي بسبعة شواهد منها، تغنيك عن غيرك، أو تدربك على التعامل مع غيرها (2).
أما أولها.. فالإعجاب بجمال البدن.. وعلاجه ـ بالإضافة إلى تلك الأدوية العرفانية ـ بالتفكر في (أقذار الباطن، وفي أول أمره وآخره، وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة كيف تمزقت في التراب وأنتنت في القبور بحيث استقذرتها الطباع) (3)
وأما الثاني.. وهو الإعجاب بالقوة والبطش، فعلاجه بالتفكر في الأقوام الذين ذكرهم القرآن الكريم، والذين امتلأوا بالعجب بقوتهم، كما قال الله تعالى عنهم: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَن الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15، 16]
وأما الثالث.. وهو العجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور، وهو ما يثمر
__________
(1) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 280
(2) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في إحياء علوم الدين والمحجة البيضاء وغيرهما من كتب السلوك والأخلاق، وقد ذكرنا الكثير من التفاصيل المرتبطة بهذا من خلال ما ورد في القرآن الكريم في كتاب [لا تفرح]
(3) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 284، فما بعدها.
مثالب النفس الأمارة (55)
الاستبداد بالرأي، وترك المشورة، واستجهال المخالفين.. وعلاجه (أن يشكر الله على ما رزق من العقل، ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك الناس منه، ولا يأمن أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره، وليستقصر عقله وعلمه، وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا، وإن اتسع علمه وأن ما جهله مما عرفه الناس أكثر مما علمه، فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى.. وأن يتهم عقله وينظر إلى الحمقى كيف يعجبون بعقولهم ويضحك الناس منهم، فيحذر أن يكون منهم وهو لا يدري فإن قاصر العقل قط لا يعلم قصور عقله فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من نفسه ومن أعدائه لا من أصدقائه، فإن من يداهنه يثني عليه فيزيده عجبا وهو لا يظن بنفسه إلا الخير ولا يفطن بجهل نفسه فيزداد به عجبا)
وأما الرابع.. فالعجب بالقومية والعرق والنسب، وخاصة إن كانت مرتبطة بالصالحين.. وعلاجه (أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم فظن أنه ملحق بهم فقد جهل، وإن اقتدى بآبائه فما كان من أخلاقهم العجب، بل الخوف والإزراء على النفس واستعظام الخلق ومذمة النفس، وقد شرفوا بالطاعة والعلم والخصال المحمودة، لا بالنسب، فليتشرف بما شرفوا به.. بالإضافة إلى ذلك، فقد ساواهم في النسب، وشاركهم في القبائل من لم يؤمن بالله، فكانوا عند الله شرا من الكلاب وأخس من الخنازير، ولذلك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الناسُ إِنا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13]، أي لا تفاوت في أنسابكم لاجتماعكم في أصل واحد، ثم ذكر فائدة النسب فقال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب فقال: {إِن أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13])
ولهذا عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أي المؤمنين أفضل؟) لم يقل: (أشرفهم نسبا)، وإنما
مثالب النفس الأمارة (56)
قال: (أحسنهم خلقا)، وعندما سئل: (فأي المؤمنين أكيس؟)، قال: (أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا، أولئك الاكياس) (1)
وهكذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية ـ أي كبرها ـ كلكم بنو آدم وآدم من تراب) (2)، وقال مخاطبا قريش: (يا معشر قريش يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم، وتقولون: يا محمد يا محمد فأقول: هكذا) (3)
وأما السادس.. فالعجب بكثرة الأتباع والمعجبين.. والذين ضرب الله تعالى مثلا عنهم بالمشركين الذين قالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35].. وعلاجه ما ذكره القرآن الكريم حين قال معقبا على قولهم: {قُلْ إِن رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِن أَكْثَرَ الناسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 36، 37]
وعقب على هذا في آية أخرى، فقال: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]
وهذه الآيات الكريمة تشير إلى (ضعفه وضعفهم، وأن جميعهم عبيد عجزة، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا.. ثم كيف يعجب بهم، وهم سيفترقون عنه إذا مات فيدفن في قبره ذليلا مهينا وحده لا يرافقه ولد ولا أهل ولا قريب ولا حميم ولا عشير، فيسلمونه
__________
(1) ابن ماجه رقم 4259
(2) أبو داود ج 2 ص 624.
(3) رواه الطبراني.
مثالب النفس الأمارة (57)
إلى البلى وإلى الحيات والعقارب والديدان ولا يغنون عنه شيئا وهو أحوج أوقاته إليهم وكذلك يهربون منه يوم القيامة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37]، فأي خير فيمن يفارقك في أشد أحوالك، ويهرب منك)
وأما السابع.. فالعجب بالمال ومتاع الحياة الدنيا.. فعلاجه أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه وعظم غوائله.. وإلى أن المال غاد ورائح ولا أصل له، وإلى أن في المشركين واليهود والمنحرفين من يزيد عليه في المال، ويتذكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بينما رجل يتبختر في حلة له قد أعجبته نفسه إذ أمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلي يوم القيامة) (1)
هذه ـ أيها المريد الصادق ـ بعض النماذج التي قد تعينك في علاج العجب، وإياك أن تبرئ نفسك منه، فتقع فيه.. فالعاقل هو الذي يحتاط لنفسه، ويحذر قبل تمكن المرض منه، وحينها قد لا يستطيع منه فكاكا.
وأحذرك ـ أيها المريد الصادق ـ من أن تقع فيما يقع فيه بعضهم من كثرة حديثه عن نفسه، وثنائه عليها، مستدلا على ذلك بقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، فذلك مقام رفيع، لا يصل إليه إلا من تجرد من نفسه وأهوائه، فكان ثناؤه على نفسه ثناء على ربه.. فلا تتخط رقاب الصديقين.. فلكل مقام أهله، ولكل حالة رجالها.
__________
(1) مسلم ج 6 ص 148.
مثالب النفس الأمارة (58)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الكبر، وعلاماته، وهل يمكن أن يتصف به السائرون في طريق الله، من المريدين أو الواصلين؟.. أو أولئك العلماء الذين توجهوا بكنه همتهم لطلب العلوم، فتعلموها، ثم تفرغوا لتعليمها والتصنيف فيها؟.. أم أنه خاص بالسادة والكبراء.. من ذوي الجاه العريض والمال الكثير.. ممن أتيحت لهم المناصب، وتربعوا على العروش.
وجوابا عن سؤالك أذكر لك أن الكبر وغيره من مثالب النفس الأمارة ليس خاصا بمن ذكرت من الوجهاء والسادة، وإن كان عرضه باديا للعيان عليهم.. بل هو شامل لجميع الناس حتى أولئك المتسولين الشحاذين الذين يبدون كل أنواع الذلة، قد يكون فيهم من الكبر ما يوجد في فرعون نفسه.. لكنه احتبس عند الظهور لديهم، لعدم وجود البيئة المناسبة.. فإذا وجدت البيئة ظهر وبدا.
وقد أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر) (1)
فهذا الحديث الشريف يشير إلى أن الأخلاق ليست مرتبطة بظهورها للعيان، وإنما بذلك المحل الذي يمدها من عالم النفس الأمارة، ولذلك قال بعض الحكماء: (ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ولكنه ليس يجد له مجالاً)
ولهذا عرفوا الكبر بأنه ذلك الاستعظام الذي تشعر به النفس الأمارة، وترى أن
__________
(1) مسلم (107)، وأبو عوانة 1/ 40، والبيهقي 8/ 161، والبغوي (3591)
مثالب النفس الأمارة (59)
قدرها فوق قدر غيرها، وأن غيرها يبنغي أن يكونوا خاضعين لها.. فإن لم يخضعوا لها تتألم لذلك، وتتحين أي فرصة لتفرض عليهم الخضوع.
وهي تنشأ من ذلك العجب الذي تمتلئ به النفس الأمارة، فتعتقد أنها الأفضل والأكمل، وأن رأيها الأصوب والأحكم.. وأن الخطأ قد يصيب الجميع لكنه لا يصيبها.
وهو لذلك أخطر المثالب، وأعظمها جرما، لأن صاحبها لا يكتفي بأن يفرض خضوعه على غيره من البشر ممن هم في مستواه، وإنما قد يشتد داؤه، فيفرضه على الله نفسه، فيعتقد أنه ند لله، أو أن الله ينبغي أن ينزل عند رغباته.. فإن لم ينزل راح يتحداه، ويكفر به، ويمارس كل المعاصي التي يتصور أنه يغيضه بها.
وقد يظهر هذا النوع من الكبر على الله في الكبر على رسله وأوليائه والصالحين من عباده؛ فيمارس المتكبر عليهم كل ألوان العتو والجبروت ليتحدى الله بذلك.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الصنف من المستكبرين، وهم الذين بلغ بهم الداء حده الأقصى، وأخبر أنهم أبعد الناس عن رضوان الله وجنته.. وهل يمكن أن يرضى الله عمن يتحداه؟.. وهل يمكن أن يتيح الجنان لمن لم يعرف قدره، وعبوديته؟.. وهل يمكن أن يستقر بالجنة حال، وفيها مستكبر واحد؟
وقد ضرب الله تعالى على ذلك الكثير من الأمثلة ليعتبر بها المعتبرون، ومنها ذلك الذي أدرك بذوقه اللغوي إعجاز القرآن الكريم، واستحالة أن يأتي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن فكر وقدر، وكاد يسلم لله، قام كبره ليحول بينه وبين ذلك، قال تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 23 - 25]
وأنت تلاحظ ـ أيها المريد الصادق ـ كيف ربط الله تعالى بين الكبر وذلك القول، واعتبره ضروريا ومباشرا.. فبمجرد أن حضر الكبر غطى على العقل، وأصبح صاحبه لا
مثالب النفس الأمارة (60)
يرى الأشياء بصورتها الحقيقية.. ولهذا تحول الإعجاز القرآني في ذهنه إلى مجرد سحر.
والسبب في ذلك هو أنه بعد أن أعمل عقله، وأدرك إعجاز القرآن راح يصرخ في باطنه في ربه: لم اخترت محمدا.. ولم تخترني.. ثم راح يتحداه بالكفر به وبنبيه.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى عند حديثه عن هذا الرجل نفسه، وموقفه من الإيمان، في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، فقد كان ذلك الرجل أحدهما.. ولذلك لم يرض قسمة الله تعالى، ولم يسلم لها، لأنه اعتبر الله غير محق في اختياره، كما رد الله تعالى عليهم ذلك بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]
ونفس الموقف حصل لإبليس عندما استكبر عن السجود لآدم عليه السلام، فقد كان استكباره في الحقيقة على الله، وكأنه أراد أن يغيظ الله لعدم اختياره له ليكون المسجود له، فلهذا رفض السجود، لأنه صنف نفسه من العالين من غير أن ينتظر تصنيف الله له بذلك، قال تعالى: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، حينها ازداد كبر إبليس عنفوانا، فقال ـ غافلا أنه يخاطب ربه ـ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]
ولهذا كان الكبر علامة على استحواذ النفس الأمارة على الإنسان، بحيث تغطي كل مداركه العقلية؛ فلا يرى شيئا إلا نفسه.. حتى ربه يعزله ويحجبه إذا شعر أنه يحول بينه وبين رؤية نفسه، كما أشار إلى ذلك الإمام الصادق عندما قال: (ما من عبد إلّا وفي رأسه حكمة، وملك يمسكها فإذا تكبّر قال له: اتّضع وضعك الله، فلا يزال أعظم الناس في نفسه وهو أصغر الناس في أعين الناس، فإذا تواضع رفعها الله ثمّ قال له: انتعش نعشك الله، فلا يزال
مثالب النفس الأمارة (61)
أصغر الناس في نفسه وأرفع الناس في أعين الناس) (1)
ولهذا كان الجزاء الوفاق المرتبط بالمتكبر هو اللعن والبعد عن الله؛ فالله عزيز، ولا يرضى أن يقترب أو يقرب من أبعد نفسه عنه، ولهذا رد على إبليس، فقال: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنكَ رَجِيمٌ (77) وَإِن عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 77، 78]
ونفس الخطاب يوجه لكل المستكبرين الذين {إِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، أولئك الذين يحرمون أنفسهم من الإذعان لآيات الله، وكيف يذعنون لها، وهم ممتلئون بأنفسهم، ومحجوبون برؤيتها، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]
وختم الآية الكريمة بالغفلة، دليل على أن الغفلة بنت من بنات الكبرياء، وثمرة من ثمراتها.. ذلك أن المستكبر ـ نتيجة انشغاله بنفسه ـ صار غافلا عن ربه.. ولو أنه أعطى ربه بعض الأهمية التي يوليها لنفسه لما غفل عنه.. ولهذا كان كل غافل يحمل بذور الكبرياء من حيث لا يشعر.
ولا تتوقف ثمار الكبر على ذلك، وإنما قد تتدحرج بصاحبها إلى أن يطلب من الله أدلة حسية خاصة به، بحيث يراها رأي العين، وهو يشبه في ذلك التلميذ الكسول الذي يأبى الدخول إلى الامتحان إلا بعد أن يضعوا أمامه الإجابة.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا
__________
(1) الكافي ج 2 ص 312.
مثالب النفس الأمارة (62)
مَحْجُورًا} [الفرقان: 21، 22]،
وحكى عن المشركين المستكبرين هذه الاقتراحات التي فرضوها على ربهم حتى يؤمنوا برسوله، حيث قالوا ـ بكل جفاء وغلظة ـ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7 - 8]
وحكى عن فرعون قوله مخاطبا لقومه: {يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 51 - 53]
وهكذا قد تتدحرج ثمار الكبر بالمتكبر إلى أن يعلن نفسه وكيلا عن الله، ووصيا على عباده، أو أنه الله نفسه، فلذلك يفتري عليه الكذب، لشعوره أنه الحقيق بأن يوحى إليه، قال تعالى في وصف هؤلاء: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]
ولم يدرك هؤلاء أن تلك المناصب الإلهية الرفيعة التي تخول لصاحبها تلقي الوحي الصادق، أو الإلهام المسدد تقتضي تخلص النفس من كل رعونات الكبر، حتى يصبح عبدا محضا، لا حظ له من الاستعلاء، بل لا حظ له من الشعور بنفسه، كما قال تعالى عن المسيح عليه السلام: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]
وهكذا لو رجعت ـ أيها المريد الصادق ـ إلى القرآن الكريم، وبحثت في الموارد التي
مثالب النفس الأمارة (63)
ذكر فيها الكبر، فسترى أنه البذرة التي تنبت كل الخبائث، وأنه ليس خاصا بالملوك والجبابرة، بل قد يكون في أبسط الناس.
ولهذا ضرب الله تعالى المثل عن تواضع سليمان عليه السلام، الذي آتاه الله من الملك ما لم يؤت غيره، ومع ذلك تواضع لنملة، واستمع لنصيحة هدهد، وعندما سمع النملة تبسم ضاحكا من قولها، وقال بكل أدب وتواضع: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]
لهذا، فإن الصادقين من أولياء الله من أصحاب النفوس المطمئنة يستحيل عليهم الكبرياء.. فالله تعالى لن يختار وليا متكبرا.. فأول شروط الولاية الفناء عن النفس والامتلاء بالتواضع والعبودية.
بل إن ذلك ليس خاصا بالواصلين فقط، وإنما هو عام للمريدين أيضا، فلا يمكن للمريد أن يتحقق بالإرادة الصادقة ما لم يمتلئ بالتواضع، كما عبر بعضهم عن ذلك، فقال: (لا تصلح هذه الطريق الا لأقوام كنسوا بأرواحهم المزابل)
ذلك أن المريد الصادق هو الذي يذعن لمرشده ومربيه، ولا يجادله ولا يماريه، ولا يكون كذلك الذي قال الله تعالى عنه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206]
وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: (كل بيمينك)، فلم يعجبه ذلك التوجيه، وقال متهربا: (لا أستطيع)، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (لا استطعت)، فاعتلت يده، وما رفعها بعد ذلك (1)، لأنه استكبر عن توجيه نبي.
__________
(1) مسلم ج 6 ص 109.
مثالب النفس الأمارة (64)
ولذلك اتفق مشايخ التربية على أن من جادل شيخه في تربيته له، لن يفلح أبدا، لأن التربية تستدعي الإذعان والتسليم والتنفيذ.. وهي مثل الجندية، فالجندي الذي يجادل القائد في أرض المعركة سيكون سببا في الهزيمة.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما ألقيه لك من الأدوية والعلاجات التي ذكرها أولياء الله والهداة إليه، فخذها بقوة، وإياك ان تتكاسل في العمل بها، فالكبر يبدأ صغيرا، ثم يكبر، فإن كبر لم يمكنك استئصاله، وإن أخرجته من نفسك، وهو صغير، وتمكنت منك العبودية وأخلاق المتواضعين، دخلت بقدمك في أول مراتب الفائزين.. فأول الفوز التخلص من الكبر.. حتى لو كان مثقال ذرة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل الجنة رجل في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار رجل في قلبه مثقال ذرة من إيمان) (1)
وفي جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما دليل على أن الإيمان يتنافى مع الكبر، فأول صفات المؤمن الصادق في إيمانه عبوديته لله، وأول ثمار العبودية التواضع.
أول علاج تداوي به الكبر، وتستأصله به ـ أيها المريد الصادق ـ إزاحة الحجب عن عين القلب ليرى الحقائق كما هي، لا كما يشتهي.. فيعرف نفسه، وضعفها، ويعرف ربه وعظمته، وحينها يبدأ في وضع كل شيء في مرتبته التي وضعه الله فيها.. ليتعامل معه على أساس تلك المعرفة.
ذلك أن الكبر ـ كما عرفت ـ ناشئ من الجهل بالمراتب، وكيفية التعامل معها.. فلو أن إبليس عرف قدر ربه، وعظمته، حق المعرفة، لما استكبر عليه.. ولو أنه عرف أنه ما ابتلاه بالسجود لآدم إلا لكون آدم يستحق ذلك السجود، وأن الله ما أمر بذلك إلا لحكمة يعلمها،
__________
(1) أبو داود (4091)، والترمذي (1998)، والطبراني (10001)
مثالب النفس الأمارة (65)
لما أنف من السجود له، ولما أذعن لحديث نفسه الذي حال بينه وبين الاستماع لربه.
ولهذا ورد في الحديث القدسي، قوله صلى الله عليه وآله وسلم حاكيا عن ربه: (العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته) (1)
فهذا الحديث يصف لنا كيفية التخلص من الكبر، وهو تعظيم الله والشعور بأنه الأكبر والأعظم، وأن ما عداه الأصغر والأحقر.. فإذا ما شعر العبد بذلك زال كبرياؤه، وعاد إلى وضعه الطبيعي.
ولهذا قرن الله تعالى العبادات بتكبير الله، وجعل التكبير من صيغ الذكر، التي لها دورها الكبير في الشعور بعظمة الله.. فإذا ما حلت عظمة الله في القلب، زال عن المكبر وهم الكبر.
ولهذا وصف الله تعالى عباده الصالحين، فقال: {إِن الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]، ثم دعا إلى اقتفاء سبيلهم، وبين كيفيته، فقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، فهذه الأذكار، وما يصحبها من تكبير الله وتعظيمه هو السبيل الوحيد الذي يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.
لكن ذلك وحده لا يكفي ـ أيها المريد الصادق ـ في نزع في داء الكبر من القلب، ذلك أن الله تعالى ابتلى عباده ببعض الاختيارات التي قد لا تتناسب مع أهوائهم؛ فلذلك صاروا مخيرين بين أن يعبدو أنفسهم وأهواءها، وبين أن يعبدوا الله وما اختاره لهم.
ذلك أن أكثر العباد قد لا يجادل في تواضعه لربه، وخضوعه له، لكنه يجادل في
__________
(1) الحاكم ج 1 ص 61.
مثالب النفس الأمارة (66)
تواضعه وخضوعه لاختيار ربه، مثلما حصل من إبليس، ومن أقوام الأنبياء الذي رفضوا الانصياع لهم.
ولذلك رد الله تعالى على المشركين الذين رفضوا اختيار الله بقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، فقد اعتبر اعتقادهم بأن لهم الخيرة مع اختيار الله نوعا من الشرك، وهو شرك النفس بالله.
ولا تحسبن هذا ـ أيها المريد الصادق ـ خاصا بأقوام الأنبياء، بل إن الله تعالى يبتلي كل عصر بما يظهر تواضعهم أو كبرهم، حتى يتميز الصادقون في عبوديتهم من غيرهم، ولذلك اقتضت العبودية التواضع لجميع المؤمنين خشية أن يكون فيهم أولئك المختارون، كما قال بعض الصالحين: (إن الله أخفى أولياءه في عباده، فلا تدري من ولي الله ممن تلقاه ممن حولك.
بل إن الله تعالى جعل في شعائره التعبدية ما يميز به بين الصادقين وغيرهم، وقد أشار الإمام علي إلى ذلك عند ذكره للمكان الذي شاء الله أن يحج عباده إليه، فقال: (أ لا ترون أن الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم (صلوات الله عليه) إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام، الّذي جعله للناس قياما. ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، وأقلّ نتائق الدّنيا مدرا، وأضيق بطون الأودية قطرا، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خفّ، ولا حافر ولا ظلف. ثمّ أمر آدم عليه السّلام وولده، أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوي إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا، يهلّلون للّه حوله، ويرملون على أقدامهم شعثا غبرا له. قد نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاء الشّعور
مثالب النفس الأمارة (67)
محاسن خلقهم، ابتلاء عظيما، وامتحانا شديدا، واختبارا مبينا، وتمحيصا بليغا، جعله الله سببا لرحمته، ووصلة إلى جنته) (1)
ثم بين أن الاختبار الإلهي لتواضع عباده هو الذي اقتضى ذلك، ذلك أن الله تعالى يمكنه (لو أراد أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام، بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثّمار، ملتفّ البنى، متّصل القرى، بين برّة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء، على حسب ضعف البلاء. ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زمرّدة خضراء، وياقوته حمراء، ونور وضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشّكّ في الصّدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الرّيب من الناس. ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشّدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجا للتّكبّر من قلوبهم، وإسكانا للتّذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله، وأسبابا ذللا لعفوه)
وهكذا ذكر سر اختبار الله تعالى للأنبياء بذلك المظهر المتواضع الذي كانوا يبدون به، والذي جعل غيرهم يحتقرهم لأجله، لتوهمهم أن النبي لا يكون نبيا حتى يكون بنفس الصورة التي تتخيلها أمزجتهم.
وقد ضرب المثل على ذلك بموسى عليه السلام، فقال: (و لقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السّلام على فرعون، وعليهما مدارع الصّوف، وبأيديهما العصيّ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه، ودوام عزّه، فقال: أ لا تعجبون من هذين، يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال الفقر والذّلّ، فهلّا ألقي عليهما أساورة من
__________
(1) نهج البلاغة: خطبة 192.
مثالب النفس الأمارة (68)
ذهب؟ إعظاما للذّهب وجمعه، واحتقارا للصّوف ولبسه، ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذّهبان، ومعادن العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السّماء، ووحوش الأرضين لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء، واضمحلّت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى)
ثم فسر سر كون الأنبياء من البسطاء والناس العاديين؛ فقال: (و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام، وعزّة لا تضام، وملك تمدّ نحوه أعناق الرّجال، وتشدّ إليه عقد الرّحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وأبعد لهم في الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيّات مشتركة، والحسنات مقتسمة، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتّباع لرسله، والتّصديق بكتبه، والخشوع لوجهه، والاستكانة لأمره، والاستسلام لطاعته، أمورا له خاصّة، لا تشوبها من غيرها شائبة، وكلّما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل)
ولهذا كان اختبار الله تعالى للمستكبرين من أقوام الأنبياء بأولئك البسطاء الذين اتبعوهم، كما قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27]
وأخبر عن جواب نوح عليه السلام عندما طالبه قومه بطرد المستضعفين لينضموا إلى دعوته، فقال: {يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الله وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ
مثالب النفس الأمارة (69)
آمَنُوا إِنهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِني أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ الله إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 29، 30]
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاستشعر في نفسك أن كل من تراه من المستضعفين والبسطاء الذين يحتقرهم الناس قد يكونون من هؤلاء الذين تحدثت عليهم هذه الآيات الكريمة، فاحذر أن يكون موقفك نفس موقفهم، فتهلك الهلاك الأبدي.
وأما العلاج الثاني، وهو نتيجة العلاج الأول، فيبدأ بمراعاة تلك الشعائر التعبدية التي كلفنا الله تعالى بها ليربينا، ويهذب نفوسنا، فقم بها صادقا معها، وراع المقاصد التي قصدت بها، حتى تتحقق فيك كل المعاني التي أريدت لأجلها.
وقد ذكر الإمام علي بعض تلك المقاصد المودعة فيها، وأن من بينها إخراج الكبر من النفس، وتمييز المتكبرين عن غيرهم، فقال: (عن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصّلوات والزّكوات، ومجاهدة الصّيام في الأيّام المفروضات، تسكينا لأطرافهم، وتخشيعا لأبصارهم، وتذليلا لنفوسهم، وتخفيضا لقلوبهم، وإذهابا للخيلاء عنهم، ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتّراب تواضعا، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا، ولحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلا، مع ما في الزّكاة من صرف ثمرات الأرض وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر. انظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر، وقدع طوالع الكبر) (1)
إن هذه الكلمات ـ أيها المريد الصادق ـ تدلك على العلاج السلوكي للكبر، وهو مقاومته بما هو ضده.. فإذا كان الكبر يدعوك إلى تصعير خدك، فألنه.. وإن كان يدعوك إلى
__________
(1) نهج البلاغة: خطبة 192.
مثالب النفس الأمارة (70)
المشي مختالا، فامش هونا.. وإن كان يدعوك إلى رفع صوتك فخفضه.. وإن كان يدعوك إلى هجر الناس، فتقرب منهم.. وهكذا تقاوم الداء بما يضاده، إلى أن تتخلص منه.
نعم.. قد يشق عليك ذلك في البدء.. لكنك عندما تدمن عليه، وعندما يرى الله فيك صدق العبودية، يخلصك من هذا المثلب الخطير الذي علق الله به كل أنواع الخسارة.
وقد روي في الأخبار أن بعضهم كان وزيراً وعالماً وأبوه كان أميراً؛ ثم بدا له أن يسير في طريق السائرين إلى الله، فذهب إلى بعض المشايخ، فرأى فيه بعض آثار الكبر، فقال له: لا يمكنك أن تنال شيئاً في هذا الطريق حتى تبيع متاعك، وتلبس قشابة، وتأخذ دفا، وتدخل السوق، ففعل جميع ذلك، فقال له: ما تقول في السوق؟ فقال قل بدأت بذكر الحبيب فدخل السوق يضرب بنديره ويقول بدأت بذكر الحبيب؛ فبقي ثلاثة أيام، وخرقت له الحجب، فجعل يغني في الأسواق بعلوم الأذواق (1).
وقريب منه ما روي أن رجلاً كان لا ينقطع عن مجلس بعض المشايخ، فقال له ذات يوم: يا أستاذ أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر وأقوم الليل وقد تركت الشهوات ولست أجد في قلبي من هذا الذي تذكره شيئاً البتة، فقال له الشيخ: لو صمت ثلاثمئة سنة وقمت ثلاثمئة سنة وأنت على ما أراك لا تجد من هذا العلم ذرة، قال: ولم يا أستاذ، قال: لأنك محجوب بنفسك فقال له: أفلهذا دواء حتى ينكشف هذا الحجاب، قال: نعم ولكنك لم تقبل، قال: بلى أقبلُ وأعمل ما تقول، قال الشيخ: اذهب الساعة إلى الحجام واحلق رأسك وانزع عنك هذا اللباس، وابرز بعباءة وعلق في عنقك مخلاة واملأها جوزاً واجمع حولك صبياناً وقل بأعلى صوتك: يا صبيان من يصفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل إلى سوقك الذى تعظم فيه فقال الرجل: سبحان الله تقول لي مثل هذا ويحسن أن أفعل هذا فقال
__________
(1) إيقاظ الهمم شرح متن الحكم (ص: 20)
مثالب النفس الأمارة (71)
الشيخ: قولك سبحان الله شرك قال: وكيف قال: لأنك عظمت نفسك فسبحتها فقال: هذا ليس أقدر عليه ولا أفعله ولكن دلني على غيره حتى أفعله فقال الشيخ: ابتدر هذا قبل كل شيء حتى تسقط جاهك وتذل نفسك ثم بعد ذلك أعرفك ما يصلح لك (1).
أنا لا أقول لك ـ أيها المريد الصادق ـ افعل ما طلبه هذا الشيخ، فهو ليس نبيا، ولا ما طلبه شريعة من شرائع الله التي يجب التزامها، ولكني أقول لك: افعل أي شيء تراه مناسبا حتى تحطم ذلك الجدار المسموم الذي يحول بينك وبين ربك، وقد ينهد عليك في أي لحظة، فيقتلك.
وقد ورد في الحديث بعض ما ييسر لك ذلك، ومنه أن تشتغل في شؤون بيتك وغيره، كسائر الناس، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل هذا، وفي الحديث أن عائشة وصفت ما كان يفعله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، فقالت: (كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخيط ثوبه، ويخدم نفسه، ويخصف نعله، ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم، ويكون في مهنة أهله، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة) (2)
وعنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل عمل أهل البيت وأكثر ما يعمل للخياطة) (3)
ومن ميسرات ذلك أن تلبس لباس المتواضعين، والتي يربأ المتكبرون عنها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (البذاذة من الإيمان) (4)، والبذاذة هي الدون من اللّباس.
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك زينة للَّه ووضع ثيابا حسنة تواضعا للَّه
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 358)
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه ابن سعد.
(4) أبو داود وابن ماجه رقم 4118، ورواه أحمد والحاكم في المستدرك
مثالب النفس الأمارة (72)
وابتغاء وجهه كان حقّا على الله أن يدّخر له عبقريّ الجنة) (1)
وقد روي أن الإمام عليّ رؤي وهو يلبس إزارا مرقوعا، فقال: (يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب) (2)
وإياك يا بني أن تظن أنك إن فعلت ذلك نزعت داء الكبر من قلبك؛ فهو أخطر من أن ينزع بمثل هذا وحده، بل قد يستعمل الشيطان ذلك، وسيلة للخداع والتزيين، وقد ورد في الأثر عن المسيح عليه السّلام قوله: (ما لكم تأتوني وعليكم ثياب الرّهبان وقلوبكم قلوب الذّئاب الضواري، البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية)
ولهذا، فإن الاهتمام بالثياب الحسنة، إن لم يصحبها التباهي والفخر والخيلاء، ليست من الكبر، فقد روي في الحديث أنه عندما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر)، قال له بعض أصحابه: يا رسول الله إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلا، ورأسي دهينا وشراك نعلي جديدا، أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا.. ذاك الجمال إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق وازدرى الناس) (3)
وروي عن الإمام الصادق أنه قيل له: (إنني آكل الطعام الطيّب وأشمّ الرّيح الطيّبة وأركب الدّابّة الفارهة.. فترى في هذا شيئا من التجبّر فلا أفعله؟) فأطرق، ثمّ قال: (إنما الجبّار الملعون من غمص الناس وجهل الحقّ)، فقال السائل: أمّا الحقّ فلا أجهله، والغمص لا أدري ما هو؟ قال: (من حقّر الناس وتجبّر عليهم فذلك الجبّار) (4)
__________
(1) أبو سعيد المالينى في مسند الصوفية، وأبو نعيم في الحلية.
(2) نهج البلاغة، رقم 103.
(3) أحمد: 1/ 399، المعجم الكير: 10/ 221.
(4) الكافي ج 2 ص 311 رقم 13.
مثالب النفس الأمارة (73)
وقد ورد في حديث آخر عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يوضح ذلك أعظم توضيح؛ فقد روي أنه سئل عما أحدث الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الملبس والمشرب والمركب والمطعم؛ فقال للسائل: (يا ابن أخي كل للَّه، واشرب الله، والبس للَّه وكلّ شي ء من ذلك دخله زهو أو مباهاة أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف، وعالج في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعالج في بيته كان يعلف الناضح، ويعقل البعير، ويقم البيت، ويحلب الشاة ويخصف النعل، ويرقّع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويطحن عنه إذا أعيا، ويشتري الشي ء من السوق ولا يمنعه الحياء أن يعلّقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه فينقلب إلى أهله، يصافح الغنيّ والفقير والصغير والكبير، ويسلّم مبتدئا على كلّ من استقبله من صغير أو كبير، أسود أو أحمر، حرّ أو عبد من أهل الصلاة، ليست له حلّة لمدخله وحلّة لمخرجه، لا يستحي من أن يجيب إذا دعي وإن كان أشعث أغبر، ولا يحقر ما دعي إليه وإن لم يجد إلّا حشف الدّقل، لا يرفع غداء لعشاء ولا عشاء لغداء، هيّن المئونة لين الخلق كريم الطبيعة، جميل المعاشرة طليق الوجه، بسّاما من غير ضحك محزونا من غير عبوس، شديدا في غير عنف، متواضعا في غير مذلّة، جوادا من غير سرف، رحيما بكلّ ذي قربى، قريبا من كلّ ذمّي ومسلم، رقيق القلب، دائم الإطراق، لم يبشم قطّ من شبع، ولا يمدّ يده إلى طمع) (1)
وقد روي أن السائل ذهب إلى عائشة، يسألها عن ذلك، فقالت: (ما أخطأ منه حرفا ولقد قصر إذ ما أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يمتلئ قطّ شبعا، ولم يبثّ إلى أحد شكوى، وأن الفاقة كانت أحبّ إليه من اليسار والغنى، وأنه كان يظلّ جائعا يلتوي ليلته حتّى يصبح فما يمنعه ذلك عن صيام يومه، ولو شاء أن يسأل ربّه فيؤتى بكنوز الأرض وثمارها ورغد
__________
(1) قال قال العراقي: لم أقف له على اسناد، قال محقق [المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 250]: يوجد بعض فصوله في الاخبار متفرقا عن غير أبي سلمة، ومنها سنن ابن ماجه كتاب الزهد، ومجمع الزوائد ج 10 ص 312، وغيرها.
مثالب النفس الأمارة (74)
عيشها من مشارقها ومغاربها لفعل، وربّما بكيت رحمة له ممّا أوتي من الجوع، فأقول: نفسي لك الفداء لو تبلّغت من الدّنيا بقدر ما يقوتك ويمنعك من الجوع؟ فيقول: يا عائشة إخواني من أولى العزم من الرّسل قد صبروا على ما هو أشدّ من هذا فمضوا على حالهم، وقدموا على ربّهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحي إن ترفّهت في معيشتي أن يقصر بي دونهم، فأصبر أيّاما يسيرة أحبّ إليّ من أن ينقص حظّي غدا في الآخرة، وما من شي ء أحبّ إليّ من اللّحوق بإخواني وأخلاّئي) (1)
هذه ـ أيها المريد الصادق ـ بعض الأعمال التي يمكنك لو عملت بها، وداومت عليها أن تعالج الكبر الذي قد يتطرق إلى نفسك، ليدمرها، ويملأها بالخراب.
ولكن ذلك ـ كما ذكرت لك ـ لا يكفي.. فداء الكبر داء خفي، ولا يمكن علاجه بذلك وحده، وإنما يعالج بالتفكر والتأمل وتحقيق العبودية.. أما تلك السلوكات التي ذكرت لك، فلها دورها الكبير في الحماية من آثار الكبر، أو تطوره.. ولعل الله تعالى إن رأى عزمك على إصلاح ما بدا لك من الكبر أن يصلح عنك ما عجزت عما خفي منه.
فلذلك لا تحتقر تلك الأعمال، ولا تكتف بها.. بل اجمع بينها وبين ما ذكرته لك في العلاج المعرفي؛ فهما كاليدان تغسل إحداهما الأخرى.. ولهذا قال الله تعالى في الجمع بينهما: {إِن الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]
فالإيمان يتحقق بالعلاج المعرفي، والاستقامة تتحقق بالعلاج السلوكي، ومن جمع بينهما نال ذلك الجزاء الذي ذكره الله تعالى.. وذكر في آية أخرى ما هو أعظم من ذلك، فقال: {إِن الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]
__________
(1) تتمة الحديث السابق.
مثالب النفس الأمارة (75)
فتنزل الملائكة على هؤلاء ليس بشارة فقط، وإنما له دوره الكبير في التحقق بالطهارة والصفاء والتزكية..
هذه ـ أيها المريد الصادق ـ إجابتي على سؤالك، فأرجو أن تهتم بهذا المثلب من مثالب النفس الأمارة، وتحذر منه أشد الحذر، وإياك أن تطمئن إلى نفسك بما تعرفه منها؛ فهي نفس مخادعة أمارة مكارة.. فعالج الداء قبل استفحاله أو ظهوره.. فلا يمكنك أن تسير في طريق الله، أو يأذن لك في الدخول إلى حضرته، وفي قلبك ذرة منه.
مثالب النفس الأمارة (76)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الشيطان ومنافذه إلى نفس الإنسان، وكيف يستطيع فعل ذلك؟.. ولماذا مُكّن من ذلك؟.. وهل يمكن للإنسان أن يفلت منه ما دام في الدنيا، أم أن عليه أن يبقى حذرا منه ما دام فيها؟
وغيرها من الأسئلة التي قد لا أجيبك عنها جميعا الآن.. فأنت في هذه المرحلة تحتاج إلى تهذيب النفس وتعريفها بمثالبها، وكيفية النجاة منها، وبعض أسئلتك يدخل في أبواب المعرفة بحقائق الوجود، وسأشرحها لك في محالها المناسبة لها.. وربما تصل إليها من غير أن تحتاج لشرحها مني؛ فمن تطهرت نفسه، وأخلص إلى ربه، لُقن من معاني الحكمة ما قد يغنيه عن الأستاذ، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]
ولهذا، فإن ما يهمك في هذه المرحلة بالدرجة الأولى هو تنفيذ أمر الله تعالى لك ولنا جميعا بعدم اتباع خطوات الشيطان، والذي ورد التصريح به في مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]
فهذه الآيات الكريمة تنبهنا إلى أن استعاذتنا من الشيطان بألسنتنا وحدها لا تكفي، ما لم يصحبها ذلك الحذر، وتلك الحيطة التي تجعلنا نبحث عن المحال التي يسير فيها الشيطان، لا لنتبعها، وإنما لنجتنبها، ونحذر منها.
فالشيطان لا يهمه أن يبغضه الإنسان، ولا أن يستعيذ منه، وإنما يهمه أن يغويه ويضله.. لأنه إن فعل ذلك، فسيصبح من حزبه شاء أو أبى، كما قال الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ
مثالب النفس الأمارة (77)
عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِن حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]
وحتى لا أطيل عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أو أشغلك بما لست في حاجة إليه في هذه المرحلة؛ فإني سأكتفي في هذه الرسالة بذكر أربع خطوات شيطانية كبرى ورد التحذير منها في القرآن الكريم، وهي تكفيك في التعرف على كيفية تأثيره، وفي توفير القدرة لنفسك على النفور منه، وتحقيق الاستعاذة العملية من كيده.
وأول تلك الخطوات ـ أيها المريد الصادق ـ تزيين السيئات والفواحش بوضع بعض المساحيق عليها، حتى تصبح جميلة مألوفة مع أن باطنها مملوء بالخبث والقذارة، وفي مقابل ذلك تشويه الأعمال الحسنة، بحيث تبدو قبيحة منفرة.
وقد ضرب الله تعالى مثالا لذلك بتزيين الشيطان للكبرياء التي منعت أقوام الأنبياء من التضرع إلى الله واللجوء إليه بعد تلك العقوبات التي تعرضوا لها، والتي كان الهدف منها ردعهم وتأديبهم وإعادتهم إلى ربهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42، 43]
وهذا يشبه كثيرا ذلك التلميذ الكسول الذي قد يتعرض لبعض أنواع التأديب من أستاذه، وبدل أن يكون ذلك وسيلة لإصلاحه، يصبح وسيلة لتبجحه وكبريائه وتظاهره بأنه لن يستسلم للتأديب.
وهكذا يذكر القرآن الكريم تزيين الشيطان لعاد وثمود أعمالهم، حتى صاروا يعشقونها، ويتشبثون بها إلى الدرجة التي آثروها على أنبيائهم، كما قال تعالى: {وَعَادًا
مثالب النفس الأمارة (78)
وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]
وهكذا يذكر القرآن الكريم تزيين الشيطان لأهل سبأ عبادة الشمس مع كونها مجرد خلق من خلق الله، وآية من آياته، قال تعالى على لسان الهدهد: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 24]
وفي ذكر الله تعالى ذلك على لسان الهدهد دليل على أنه ليست الطباع السليمة فقط من ينفر مما فعله أهل سبأ من عبادة الشمس، بل حتى الحيوانات تنفر منها.
وهذه الآيات جميعا تشير إلى أن الشيطان ـ بأداة التزيين ـ يشغل عقل الإنسان عن البحث في حقائق الأشياء، ليكتفي منها بذلك الظاهر البسيط الذي يلمحه وينجذب إليه من غير تفكير في مصادره، ولا عواقبه.
ولذلك لو تأملت ـ أيها المريد الصادق ـ أكثر ما تراه من أنواع الإغواء الشيطاني تجد سببه مرتبطا بذلك التزيين الشيطاني؛ فهو يقوم بدور السحر للعقول، حتى يتحول الحق عندها باطلا، والباطل حقا.
وقريب منه [تسويل الباطل]، والذي ورد في قوله تعالى: {إِن الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25]
والمراد منه ذلك التيسير والتسهيل الذي يقوم به الشيطان حول المعصية (1)،
__________
(1) الكثير من المفسرين يفسرون التسويل بالتزيين، لكن الراجح هو أن التسويل والتزيين وإن كان مؤداهما واحد، إلا أن لكل منهما دلالته الخاصة، كما أشار إلى ذلك أبو السعود بقوله: (أي سهّل لهم ركوب العظائم، من السَّوَل، وهو الاسترخاء، وقيل السُّول المخفف من السؤل لاستمرار القلب، فمعنى سوَّل له أمراً حينئذٍ: أوقعه في أمنيّته فإن السؤل الأمنية) [إرشاد العقل السليم لأبي السعود ج 7، ص 99]، وقال ابن عاشور: (والتسويل: التسهيل وتزيين النفس ما تحرص على حصوله) [التحرير والتنوير، لابن عاشور، م 6، ج 12، ص 238]
مثالب النفس الأمارة (79)
واعتبارها أمرا هينا، وذلك باستعمال المسوغات المختلفة، بحسب الذين يريد أن يغويهم.
وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعض ذلك، فقال: (إن الشيطان قعد لابن آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال له: أ تسلم وتترك دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أ تهاجر وتدع أرضك ونساءك؟ فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: أ تجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك؟ فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة) (1)
ومن الخطوات التي يستعملها الشيطان لإغواء الإنسان ما عبر عنه قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِن حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]
ذلك أنه يعلم أن ذكر الله تعالى هو الذي يحمي اللطائف الإنسانية من كل ما يؤذيها أو يشوهها أو ينتكس بإنسانيتها، وبذلك كان هو الحصن الحصين للحقيقة الإنسانية؛ ولهذا كان هم الشيطان الأكبر هو اختراق ذلك الحصن، بأي طريقة، وأي شاغل، كما قال الله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَن لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17]
فالفرق بين التزيين والتسويل والإنساء هو أن الأولَين مرتبطين بالمعصية نفسها بتجميلها وتسهيلها.. أما الإنساء فليس مرتبطا بها، وإنما يرتبط بكل ما يشغل الإنسان عن ذكر الله حتى لو كان مباحا، لأنه بعد الغفلة يحصل الاختراق، ثم الاستحواذ.
__________
(1) النسائي ج 6 ص 22 وأحمد والطبراني وابن حبان والبيهقي في الشعب كما في الدر المنثور ج 3 ص 73.
مثالب النفس الأمارة (80)
وقد ورد في القرآن الكريم ذكر محل آخر لإنساء الشيطان، وهو مرتبط بأحكام الشريعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، فالآية تقول: (وإن أنساك الشيطان نَهْيَنا إياك عن الجلوس معهم، والإعراض عنهم في حال خوضهم في آياتنا، ثم ذكرت ذلك، فقم عنهم، ولا تقعد بعد ذكرك ذلك مع القوم الظالمين الذين خاضوا في غير الذي لهم الخوض فيه)
وورد فيه محل آخر لإنساء الشيطان، وهو مرتبط بالواجبات الشرعية المؤقتة بمواقيت محددة، حيث يشغل الشيطان عنها بأي شاغل حتى يفوت وقتها، وقد ضرب الله تعالى المثل له بما ورد في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، ونسيان فتاه للآية التي جعلها الله تعالى علامة على الالتقاء بالخضر، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِني نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف: 62، 63]
وقد قال بعض المفسرين في تفسيرها: (مع كون المنسي أعجوبة شأنها ألا تُنسى، يتعيَّن أن الشيطان ألهاه بأشياء عن أن يتذكر ذلك الحادث العجيب، وعلِم يوشع أن الشيطان يسوؤه الْتقاءُ هذين العبدين الصالحين، وما له من الأثر في بثِّ العلوم الصالحة، فهو يصرف عنها، ولو بتأخر وقوعها طمعاً في حدوث العوائق) (1)
وورد فيه محل آخر لإنساء الشيطان، وهو ما نص عليه قوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَن أَنهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42]، وهو يدل على أن الشيطان يسعى إلى الإضرار بأولياء الله، من خلال اختراق
__________
(1) - التحرير والتنوير، لابن عاشور، م 7، ج 15، ص 367.
مثالب النفس الأمارة (81)
أولئك الذين تربطهم بهم أي علاقة كما فعل مع صاحب يوسف عليه السلام في السجن (1)، الذي نسي أن يؤدي الرسالة البسيطة التي طلبت منه.
ومن الخطوات التي يستعملها الشيطان لإغواء الإنسان تلك الأماني الكاذبة، والآمال الطويلة اللذيذة التي يملأ بها عقولهم وقلوبهم، من غير أن يكون لها أي حقيقة، كما عبر عن ذلك قوله تعالى: {إِن الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25]، فالآية الكريمة تشير إلى دور الشيطان في جعلهم يتولون عن الزحف، وذلك باستخدام أمرين:
أولهما: تيسير التولي، والتهوين منه وإخراجه من كونه معصية.
والثاني: الإملاء، أي مَدّهم بالأماني والآمال التي تحسن ذلك العمل في عيونهم، بدل أن ينفروا منه، ولذلك ذكر الله تعالى بعدها عاقبة ذلك العمل، ونتيجة ذلك الأمل الذي أمدهم به الشيطان، فقال: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ الله وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 27، 28]
وقد ورد في الآثار ما يدل على أن الشيطان لا يمل من استعمال هذه الوسيلة إلى آخر لحظة من حياة الإنسان، طمعا في إضلاله، روي أن (إبليس لا يكون في حال أشدٌ منه على ابن آدم عند الموت، يقول لأعوانه: دونكموه، فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه) (2)
__________
(1) اختلف المفسرون في عود الضمير في كلمة (فأنساه) هل هو إلى يوسف عليه السلام، باعتبار أنه لم يعلق خروجه من السجن على مشيئة الله أو إلى الصاحب الناجي، وقد اخترنا الثاني، لدلالة المقام عليه، ولتناسبه مع عصمة الأنبياء عليهم السلام.
(2) الثبات عند الممات (ص: 57)
مثالب النفس الأمارة (82)
ومن الخطوات التي يستعملها الشيطان لإغواء الإنسان تخويفه من كل ما يراه مؤثرا فيه، ليشغله الخوف عن ذكر الله، كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]
ولذلك كان ذكر الله جالبا للطمأنينة والأمل والسعادة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِن قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِن الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، بخلاف الغفلة عنه، والتي لا تجلب إلا الهم والحزن والتشاؤم..
ذلك أن العبد في حال ذكره لله، يكون متواصلا معه ومع فضله ووعده وكرمه؛ فإذا ما غفل عنه تواصل مع الشيطان ووعيده وتخويفه وتحزينه.
وقد ذكر الله تعلى مدى اهتمام الشيطان بالتخويف من الموت، قال تعالى: {إِنمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقد وردت في سياق الحديث عن الجهاد في سبيل الله، لتبين أن الذين جبنوا عن خوض المعارك، لم يكن جبنهم إلا بسبب ذلك التخويف الذي مارسه الشيطان معهم، بسبب نسيانهم لذكر الله.
ولهذا، فإن مواجهة هذه الثغرة الشيطانية تكون باليقين في الله وفضله، فالله هو الذي قدر الآجال والأرزاق، وقدر كل شيء، ولذلك يعيش المؤمن بهذه المعاني في سلام حقيقي، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82)، والظلم المراد في الآية هو تلك الأوهام التي تحول بين الإيمان وأداء دوره النفسي في إحلال الطمأنينة والسلام.
وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك الإيمان المختلط بالأوهام الشيطانية بالشرك، الذي هو أخفى من دبيب النمل، ولذلك كلما اشتد وعظم عظمت المخاوف، وكلما نقص أو
مثالب النفس الأمارة (83)
تلاشى نقصت المخاوف أو تلاشت، فمعرفة الله والتوجه إليه هي بر الأمان، وهي سفينة نوح التي من ركبها لم تغرقه الأمواج، وهي ظل الله الذي يحتمي به من أحرقته شموس الرعب.
ولذلك أخبر الله تعالى أن الشرك هو مصدر الرعب، وأنه عقوبة إلهية تقتضيها طبيعة الكفر، فقال: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} (آل عمران:151)، فقد أخبر تعالى أن مصدر خوفهم هو شركهم بالله.
وفي مقابل ذلك ذكر الله تعالى مواقف المؤمنين الصادقين الذين ملأوا قلوبهم بالله، فرزقهم الأمن التام، والسكينة المطلقة، فهذا إبراهيم عليه السلام وحده في الأرض يوحد الله، ووحده في الأرض يعبد الله، وتدعوه رأفته على الجاهلين بالله، فيتحدى قومه، ويتحدى الأرض معهم، فيحطم الأصنام من غير خوف ولا وجل، وهو يدرك المصير الذي يتعرض له من يحطم تلك الأوثان المقدسة.
ولكن إبراهيم عليه السلام انشغل بالله، وبجوار الله عن كل المخاوف التي يتذرع بها الخلق، وعندما خوفه قومه من آلهتهم التي دعا إلى نبذها، قال متعجبا: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنعام:81)
فإبراهيم عليه السلام في ذلك الموقف كان يقارن بين القوة الوهمية التي يستند إليها قومه، والقوة الوهمية التي كانوا يتصورون أنهم يملكونها، وبين قوة الله تعالى فأخبر أن قومه أولى بالخوف منه.
وقد عقب الله تعالى على قول إبراهيم عليه السلام مقررا هذه الحقيقة المطلقة، ومقننا
مثالب النفس الأمارة (84)
هذه السنة الإلهية التي لا تتخلف، فقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82)
وعلى خطى إبراهيم عليه السلام سار أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ الناسُ إِن الناسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173)
ولذلك فإن مصدر المخاوف التي تعتري النفوس فتملأها هما وحزنا، هو حصاد نبات الغفلة والشرك، وهما مرتع من مراتع الشيطان، قال تعالى: {إِنمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:175)
وبخلاف هذا نجد الغافلين والجاحدين أكثر الناس مخاوف، فهم يخافون كل شيء، وقد يدركون ما يخافون، وقد لا يدركون، كما عبر بعضهم عن نفسه بقوله عن مخاوفه التي لا تنتهي، والتي لا يعلم لها سببا: (إنني أعيش في خوف دائم، في رعب من الناس والأشياء، ورعب من نفسي، لا الثروة أعطتني الطمأنينة، ولا المركز الممتاز أعطانيها ولا الصحة، ولا الرجولة، ولا المرأة، ولا الحب، ولا السهرات الحمراء... ضقت بكل شيء، بعد أن جربت كل شيء)
فالمعرفة الصحيحة بالله والتي تتولد عنها جميع المعارف، وتصحح بها جميع الفهوم، وتنشق عنها جميع المشاعر هي التي تقي المؤمن من الخوف الذي يستعبد الناس.
هذه ـ أيها المريد الصادق ـ بعض مسالك الشيطان إلى نفس الإنسان، فتعلم علمها، واحذر منها، ولا تيأس من التفلت منها، فالشيطان مع كيده ومكره وخداعه أضعف خلق الله.. ومن عرف نقاط ضعفه، يمكنه أن ينتصر عليه بسهولة.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، وبينه أحسن بيان وأوجزه، فقال: {وَإِمَّا يَنْزَغَنكَ مِنَ
مثالب النفس الأمارة (85)
الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]، وقال: {إِن الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]
فالآيتان الكريمتان تدلان على الأسلحة التي تقاوم بها كيد الشيطان، وهما شيئان: الذكر والمذاكرة.. ذكرك لربك، ومذاكرتك للحقائق..
فإذا ذكرت ربك، وعرفت أنه سميع عليم، وأنه معك، وأنه يعيذ كل من التجأ إليه واحتمى به، ابتعد عنك الشيطان، لأنك صرت في جوار الله، ويستحيل على الشيطان أن يقترب ممن أجاره الله.. ولذلك روي أن بعض المشايخ قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده.. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده.. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده.. قال: (هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنعك من العبور ما تصنع؟) قال: أكابده وأرده جهدي.. قال: (هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك)
وهكذا، فإن الاستغاثة بالله، والاستجارة به تكفيك كل ما يخيفك ويحزنك ويؤلمك، كما فعل أيوب عليه السلام حين قال: {أَني مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، وما إن قال ذلك حتى جاءه المدد الإلهي بقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]
ولهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من الاستعاذات التي تجيرنا من الشيطان، وتجعلنا في مأمن من كيده ومكره.
وأما السلاح الثاني الذي دلنا عليه ربنا، فهو مذاكرة الحقائق، والبحث فيها، إلى أن ننال البصيرة التي تجعلنا نرى كيد الشيطان بأعيننا، فنحذر منه..
وذلك لا يكون إلا بالعلم النافع، فأكثر الناس عبودية للشيطان الجهلة الذين
مثالب النفس الأمارة (86)
يكتفون بظواهر العبادات، دون الاهتمام بالعلم، ولذلك ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما عُبد الله بشيء أفضل من فقه في دين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد، وعماد هذا الدين الفقه) (1)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفس محمد بيده لَعالم واحد أشد على إبليس من ألف عابد، لأن العابد لنفسه، والعالم لغيره) (2)
وقد ورد في تفسير قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِني بَرِيءٌ مِنْكَ إِني أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] قصة قد يفيدك تأملها في التعرف على قيمة العلم، ودوره في الوقاية من الشيطان، فقد رووا عن ابن مسعود أنه قال: (كانت امرأة ترعى الغنم، وكان لها أربعة إخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب؛ فنزل الراهب ففجر بها، فحملت، فأتاه الشيطان فقال له: اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مصدق يسمع قولك. فقتلها ثم دفتها.. فأتى الشيطان إخوتها في المنام فقال لهم: إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم، فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا. فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا: لا بل قصها علينا. قال: فقصها، فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك، فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك. فقالوا: فوالله ما هذا إلا لشيء. قال: فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان فقال: إني أنا الذي أوقعتك في هذا، ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه. قال: فسجد له، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه، وأخذ فقتل) (3)
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط (6/ 194 رقم 6166)
(2) عزاه في الكنز (28908) لابن النجار.
(3) تفسير الطبري (28/ 33)
مثالب النفس الأمارة (87)
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الشيطان لن يتمكن منك إلا إذا مكنته من نفسك؛ ولهذا يدرس الشيطان المزاج والطبع الإنساني ليستحوذ عليه من خلاله، وقد روي عن بعض الصالحين أنه سأل إبليس: بأي شي ء تغلب ابن آدم؟ قال: (آخذه عند الغضب وعند الهوى)
وروي أنه ظهر لراهب فقال له: أي أخلاق بني آدم أعون لك؟ قال: (الحدة إن العبد إذا كان حديدا قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة)
وروي أنه ظهر ليحيى عليه السلام فرأى عليه مغاليق من كل شي ء، فقال له يحيى عليه السلام: يا إبليس ما هذه المغاليق؟ قال: (هذه الشهوات التي أصبت بها بني آدم)، قال: فهل لي فيها شي ء؟ قال: (ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر)، قال: هل غير ذلك قال: لا، قال يحيى: لله علي أن لا املأ بطني من طعام أبدا، فقال إبليس: ولله علي أن لا أنصح مسلما أبدا (1).
ويروى أن الشيطان يقول: (كيف يغلبني ابن آدم؟ وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه)
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد إيراد هذه الأحاديث والحكايات عليك أن تتساءل عن كيفية حديث الشيطان، وبأي صورة ظهر، وهل يمكن أن يلتقي بالإنسان.. فكل هذه الأسئلة من كيد الشيطان ومكره، وهي من أساليبه التي يستعملها ليصرفك عن الحق.
وقد روي في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته) (2)
__________
(1) رواه ابن الشيخ في مجالسه بنحو أبسط راجع بحار الأنوار ج 14 ص 620.
(2) البخاري (3276)، ومسلم (134) (214)
مثالب النفس الأمارة (88)
وفي حديث آخر روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليه من أن يتكلم به، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) (1)
__________
(1) عبد بن حميد (701)، والطحاوي 2/ 252، وابن منده في الإيمان (345)
مثالب النفس الأمارة (89)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الهوى، وعلاقته بالنفس والشيطان، وهل هو من إلهام الشيطان ووساوسه، أم هو من ابتداع النفس الأمارة بالسوء ومثالبها؟.. أو هو من البيئة والمحيط الذي يعيشه الإنسان؟ أو هو من الثقافة التي ربي عليها، وأسس عقله وفكره على أساسها؟
وكل ما سألته أسئلة نافعة تحتاج إلى الإجابة عنها.. لكن ذلك كله قد لا يفيدك كثيرا في تهذيبك لنفسك، وتزكيتك لها، ذلك أن المهم عندك الآن، وفي هذه المرحلة، تمييز الحقائق من الأهواء، ولا يهمك بعد ذلك هل كان مصدر الأهواء إملاءات شيطانية، أو بدعا نفسية، أو تلقينا اجتماعيا..
ولذلك؛ فإن أول ما عليك فعله في هذه المرحلة، لتميز الحقائق عن الأهواء، هو البحث عن المقدس المعصوم الذي يمكنك أن تستند إليه، وأنت واثق من أنه يحمل الحقيقة المطلقة.. أما ما عداه؛ فيمكن أن يحملها سليمة صافية من كل كدر، ويمكن أن يشوهها ويغيرها ويبدلها؛ فتصبح باطلا في صورة حق، وسما في طعم عسل.
وقد جعل الله لنا ـ أيها المريد الصادق ـ مصدرين يمكننا أن نستند إليهما في ذلك التمييز.. فإذا عطلناهما، أو عطلنا أحدهما تسربت إلينا الأهواء من كل السبل.
أما أحدهما فشريعة ربنا، ومصادرها المقدسة، وأما الثاني، فالعقل السليم الذي أودعه الله فينا لنميز به بين الحق والباطل، ذلك العقل الذي لم تتلاعب به الأهواء، ولم يدنس بالشهوات.
وقد ضرب بعض الحكماء لكلا المصدرين مثلا، فقال: (اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأس، والشرع كالبناء، ولن يغني أس ما لم
مثالب النفس الأمارة (90)
يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس) (1)
ثم ضرب المثل له بالبصر والشعاع، فقال: (العقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر)
وضرب له المثل بالسراج والزيت، فقال: (العقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده فما لم يكن زيت لم يحصل السراج وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت، وعلى هذا نبه الله سبحانه بقوله: {الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35])
ولذلك، فإن (الشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان بل متحدان)، ولذلك سلب الله تعالى اسم العقل من المفتقر للشرع، فقال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]
ولذلك سمى العقل دينا وشرعا من داخل، فقال في وصفه: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]، فسمى العقل دينا ولكونهما متحدين قال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35]} أي نور العقل ونور الشرع، ثم قال: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35] فجعلها نورا واحدا.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك تمييز الأهواء من الحقائق، بهذين النورين اللذين وفرهما الله لك.. نور الداخل الذي هو عقلك السليم.. ونور الخارج الذي هو شريعة ربك الحكيمة..
وسأورد لك ما ورد من حقائق ذلك ومعاييره من القرآن الكريم، لتؤصل به
__________
(1) معارج القدس في مدارج معرفه النفس (ص: 57)
مثالب النفس الأمارة (91)
للحقيقة المنافية للهوى، ثم أورد لك المصاديق التي يمكنك أن تستند إليها، ولك أن تفكر فيها، وتبحث عنها، حتى لا يكون اعتمادك لها اعتماد المقلدين، الذين قد يقعون في الأهواء، وإنما اعتماد المحققين الذين ينجون منها.
أما الأول، فيمكنك أن أن تقرأ ما شئت من آيات القرآن الكريم التي تنهى عن اتباع الأهواء، لتجدها مرتبطة بفقدان ذينك المصدرين أو أحدهما.
فمن تلك الآيات قوله تعالى مخاطبا اليهود، ومواقفهم من أنبيائهم: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، وقوله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70]
فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أن اليهود، ضيعوا كلا المصدرين.. أما الأول، فعقولهم التي لم يحكّموها في التعرف على أنبيائهم الذين جاءوهم بالبينات الدالة على صدقهم.. وأما الثاني فشريعة ربهم التي جاءهم بها أنبياؤهم.. ولذلك سقطوا في هاوية الهوى، وصاروا كذلك الذي أعطاه الله عينين ليبصر بهما، وسراجا ليستضيء به، فأطفأ السراج، وأغلق عينيه، وراح يقتحم الظلمات.
ولذلك عقب الله تعالى على فعلهم ذلك بقوله: {قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]، وذلك شيء طبيعي، فمن ابتعد عن إعمال عقله الإعمال المناسب، وابتعد عن الهداة والرسل الذين جاءوا بالبينات، فسيغلف على عقله وقلبه، وستتبعه اللعنة لا محالة، لأنه لا يكون في جوار الله إلا أصحاب العقول النيرة، والقلوب الطاهرة.
مثالب النفس الأمارة (92)
ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِن كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِن رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 119]
فهذه الآية الكريمة تشير إلى استغناء العقل عن الشرع، أو استغناء العين عن السراج.. حينها يخبط خبط عشواء، ويتدخل فيما لا يعنيه..
ومثال ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ مثال من ينشئ لنفسه قانونا خاصا للمرور، فيرتكب المخالفات؛ فإذا ما سئل عن ذلك، ذكر أنه لا يحب أن يملي عليه أي قانون لا ينسجم مع هواه.. مع أنه لا يمكن أن يكون هناك نظام في أي شيء من دون أن تكون هناك قوانين تحكمه.
وهكذا الأمر بالنسبة لما ذكرت الآية الكريمة؛ فهي تشير إلى أن المتحكم في التحليل والتحريم هو الله.. ذلك أن الملك ملكه، والعباد ضيوف عنده، فإن أباح لهم شيئا، أو حرمه، لم يكن على العباد سوى الخضوع لذلك، لأنه صادر من صاحب الملك والعلم والحكمة.
ولهذا اعتبر الله تعالى الجدال في ذلك، والافتراء على الله بتحليل الحرام، أو تحريم الحلال تدخلا من العقل فيما لا يعنيه، وهو يدل على أن مصدر ذلك هو الهوى.. وأن من يقوم بذلك شيطان من شياطينه، كما قال تعالى ـ معقبا على تلك الآية الكريمة ـ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْهِ وَإِنهُ لَفِسْقٌ وَإِن الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]
وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الآلة التي يستعملها أهل الهوى وشياطينه هي الجدال، وهو التلاعب بالألفاظ والمعاني، ليصرفوا به عن الحق الواضح المنير، كما قال تعالى: {وَمِنَ الناسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ
مثالب النفس الأمارة (93)
عَنْ سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 8، 9]
ولذلك اعتبر الله تعالى أولئك الذين أعموا عقولهم عن شريعة ربهم، وهداتها، ومصادرها المقدسة، من الذين رموا بالسراج من أيديهم، ليخبطوا بعقولهم المجردة في الظلمات من غير أي دليل، كما قال تعالى ـ تعقيبا على الآيات السابقة ـ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]
ثم ذكر أن الذي يتولى هذا النوع من الهوى في كل قرية أو أمة كبار المجرمين والمضللين الذين ينتخبهم الشيطان للنيابة عنه في هذا الدور، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123]
والآية الكريمة تشير إلى أن أول ما يُميز به الحق عن الهوى هو البحث عن أولئك المجرمين المبدلين المغيرين الذين أخضعوا الدين للعقول المجردة، أو الأمزجة المتقلبة، ولذلك يذكر القرآن الكريم ذلك الصراع الذي يدور في ساحات القيامة بين التابعين والمتبوعين الذين تركوا عقولهم، وسلموها لساداتهم، فصاروا هم المتحكمين فيها، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَن لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النارِ} [البقرة: 166، 167]
ولهذا، فإن أول ما يفعله العقل الذي يريد التخلص من الأهواء البحث عن الهداة الحقيقيين الذين يملكون السراج المنير، لأن من عداهم سيؤدي إلى الضلالة والانحراف، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ
مثالب النفس الأمارة (94)
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]
فهاتان الآيتان الكريمتان تدعوان إلى البحث عن أهل السراط المستقيم الذين لم ينحرفوا به، ولم يغيروه، ولم يقعوا في الضلالة، ولا في الغضب.. ذلك أن الدعاء الذي لا يصحبه الجهد والصدق لا ينفع صاحبه شيئا.
وقد ضرب الله تعالى مثالا لأولئك المغيرين والمبدلين المضللين، وكيف انحرفوا عن السراط المستقيم، واتبعوا أهواءهم، فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]
فهذه الآيات الكريمة تشير إلى المنبع الذي تصدر منه الأهواء، وهو التثاقل إلى الأرض، واتباع الشهوات، حتى يصبح الإنسان مثل الكلب الذي لا يعرف غير اللهث والنباح.
ولهذا يستعمل هؤلاء الذين وكل لهم الناس عقولهم، رسلا للشيطان يضل بهم الخلق عن ربهم، وعن هداتهم الحقيقيين، كما قال تعالى عن موقف المشركين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ الله رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)} [الفرقان: 41، 42]
ثم بين المنبع الذي جعلهم يقفون هذا الموقف، فقال: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]
وبين افتقاد هؤلاء للعقل السليم الذي يسمح لهم برؤية الحقائق، وتمييزها، فقال:
مثالب النفس الأمارة (95)
{أَمْ تَحْسَبُ أَن أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]
وبذلك فإن أولئك الذين وقفوا محاربين للرسل عليهم السلام، لم يكن لهم حظ من العقل الداخلي، ولا من العقل الخارجي.. ذلك أنهم سلموا الأول لسادتهم وكبرائهم.. وأما الثاني فراحوا يستهزئون به، ويسخرون منه.
ولذلك طالبهم الله تعالى ببيان المصدر الذي جعلوه رائدهم في اتخاذ تلك المواقف، قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ الله هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله إِن الله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 49، 50]
ولذلك اعتبر الله تعالى هؤلاء جميعا عبيدا لأهوائهم تتقلب بهم حيث شاءت، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]
وفي مقابله أولئك الذين أعملوا عقولهم، ولم يعطلوها، وأعملوا شريعة ربهم، فلم يضيعوها، وبحثوا عن الهداة، ووصلوا إليهم، فهؤلاء لا يمكن أن يضلوا أبدا، ولهذا اعتبرهم الله تعالى على بينة من ربهم، فقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن اتباع الهوى أخطر من كل ما ذكرته لك في رسائلي السابقة.. ذلك أن صاحب الهوى قد يفطن لكبره وعجبه وغروره وغفلته، لكنه لا يفطن لضلاله وتيهه عن الحق.. وبذلك قد يلهيه الشيطان ببعض الأعمال الصالحة حتى يظن نفسه على شيء، بينما هو غارق في ضلاله وتيهه، وقد ورد في الأثر أن (إبليس قال
مثالب النفس الأمارة (96)
لأوليائه: من أي شي ء تأتون بني آدم؟.. فقالوا: من كل شي ء. قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ فقالوا: هيهات، ذاك شي ء قرن بالتوحيد، قال: لأبثن فيهم شيئا لا يستغفرون الله منه؛ فبث فيهم الأهواء) (1)
وقد أخبر الله تعالى أن السبب الأكبر الحائل بين الخلق والاستجابة للرسل هو الهوى، فقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله إِن الله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من مضلات الهوى، ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) (2)، ويقول: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى) (3)
وهكذا حذر أئمة الهدى منه، فعن الإمام علي أنه قال: (إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجال رجالا، على غير دين الله) (4)
وبين علاقة ذلك بالتثاقل إلى الدنيا، فقال: (إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان: طول الأمل واتباع الهوى. فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل) (5)
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 103) رقم (308)
(2) رواه الترمذي (2/ 761 - 762)
(3) أحمد (4/ 042 - 423)
(4) نهج البلاغة: (ك 50)
(5) فضائل الصحابة، للإمام أحمد (1/ 530) رقم (881)
مثالب النفس الأمارة (97)
إذا علمت ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ وتيقنت منه، فيمكنك أن تتخلص من الهوى، بثلاثة أمور كلها مما اتفق عليه النقل والعقل:
أما أولها، فهو أن تعمل عقلك، ولا تعطله، فالله ما خلقه لك، لتهبه لغيرك، وإنما أعطاه الله لك لتميز به بين الحق والباطل، والخير والشر، ولهذا قدمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الفتوى، فقال: (استفت قلبك، واستفت نفْسَك ثلاث مرات؛ البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) (1)
وإياك ـ عند البحث عن الحقائق ـ أن تلتفت للآباء والأجداد، فالله ما أمرك بأن تفكر بعقولهم، وإنما أمرك بالتفكير بعقلك.. ولهذا كان التفكير بعقولهم من أكبر الحجب التي حالت بين الأنبياء وأقوامهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]
وأما الثاني: فأن تتمسك بكتاب ربك المقدس، ذلك الكتاب العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، فقد ورد في الحديث أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره أنها ستكون فتن، فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المخرج منها؛ فقال: (كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، ونبأ ما هو كائن بعدكم، وفيه الحكم بينكم، وهو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الصراط المستقيم، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لا تلتبس به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء.. من وليه من جبار فحكم بغير ما فيه قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله
__________
(1) رواه أحمد 18006 والدارميُّ 2533.
مثالب النفس الأمارة (98)
الله، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن اتبعه هدي إلى صراط مستقيم) (1)
وأما الثالث: فهو أدقها وأصعبها، وهو أن تتمسك بالهداة الذين لم ينحرفوا عن الدين، ولم يتبعوا أهواءهم، أولئك الذين أشار إليهم قوله تعالى: {هْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 6، 7]
ولا تتعب نفسك في البحث عنهم، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحريص على أمته، لم يتركها من دون أن ينصحها بهم، ويحذرها من المحرفين المبدلين، وقد ورد في وصيته التي تواترت عنه، والتي جمع فيها بينهم وبين كتاب الله، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تركت فيكم ما إنْ تمسّكتم به لنْ تضلّوا بعدي: كتاب الله حبلٌ ممدودٌ مِن السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولنْ يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (2)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أيها الناس. إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول من ربي فأجيب. وإني تارك فيكم الثقلين. أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي) (3)
وقد ورد في الروايات الكثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكرر هذه الوصية كل حين، بل إنه عندما نزل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ الناسِ إِن الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين} [المائدة:67] طلب أن يجتمع الناس، ثم قال: (إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسئول، وأنتم مسئولون، فما
__________
(1) قال في جامع الأصول (8/ 464): رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه [فضائل القرآن]
(2) الحديث متواتر، وقد ورد بصيغ كثيرة رواه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم، وقد نص الألباني على صحته انظر حديث رقم: 2458 في صحيح الجامع.
(3) رواه مسلم (2408)
مثالب النفس الأمارة (99)
ذا أنتم قائلون؟)، فقالوا: نشهد أنك قد بلّغت، ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأن محمّدا عبده ورسوله، وأن جنته حقّ، وأن ناره حقّ، وأن الموت حقّ، وأن السّاعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور)، فقالوا: بلى نشهد بذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهمّ اشهد)، ثم قال: (إني فرط على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض، وإن عرضه ما بين صنعاء وبصرى، فيه أقداح عدد النجوم من فضّة، فانظروا كيف تخلّفوني في الثّقلين؟.. الثّقل الأكبر كتاب الله، طرف بيد الله عزّ وجلّ، وطرف بأيديكم فتمسّكوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتي، وإن اللّطيف الخبير نبّأني أنهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا) (1)
ثمّ أخذ صلى الله عليه وآله وسلم بيد الإمام علي، فرفعها، حتى بان بياض إبطيهما، ثم قال مخاطبا الجموع الكثيرة التي احتشدت: (أيّها الناس، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟)، فأجابوا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه)
وكرر ذلك وأكده، ثم ختمه بقوله: (اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشّاهد الغائب) (2)
__________
(1) صحيح مسلم (2408) والترمذي (3788) واللفظ له. وغيرهما كثير.
(2) الشطر الأول من الحديث ـ كما ينص المحدثون ـ: متواتر، نص على تواتره عدد من الحفاظ، وأما الزيادة الواردة في الحديث، وهي قوله (: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) فهي صحيحة، وقد وردت عن عدد من الصحابة، وصححها عدد من الحفاظ من رواية أنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وسعد بن أبي وقاص.. وقد خصص الحافظ ابن عقدة لها مصنفا مستقل، استوعب فيه طرقها، ومثله السيد أحمد بن الصديق الغماري في: (الإعلام بطرق المتواتر من حديثه عليه السلام)، بل إن الإمام أحمد نفسه ذكر في (الفضائل)، والنسائي في (الخصائص)، وابن الجزري في (المناقب)، والهيثمي في (المجمع) روايات كثيرة في الدلالة عليه وعلى معناه.
مثالب النفس الأمارة (100)
هذه ـ أيها المريد الصادق ـ وصيتي إليك في مواجهة الهوى؛ فعليك بها، وإياك أن تلتفت لما يقول الناس عنك، أو يتهموك به، فالحق أحق أن يتبع، وقد قال الإمام علي لبعض من التبس عليه الأمر، فلم يدر من يرضي ومن يسخط: (إنك امرؤ ملبوس عليك، إن دين الله لا يُعْرف بالرجال، فاعرِف الحقّ تعرف أهله) (1)
وكان يقول: (لو أن الباطل خَلُص من مزاح الحقّ لم يخفَ على المرتادين، ولو أن الحقّ خَلُص من لَبْس الباطل، انقطعت عنه ألسُن المعاندين ولكن يؤخذ من هذا ضغثٌ، ومن هذا ضغثٌ، فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى) (2)
وهذا هو مصداق ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكريمة المخبرة عن الابتلاءات والاختبارات التي تميز أهل الحق من أهل الباطل، ومنفذي وصايا أنبيائهم من المعرضين عنها، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]
وأخبر عن الفتن التي ستحصل للأمة، واعتبرها من الاختبارات اللازمة للأمم، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 94، 95]
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الأمة ستبتلى بالفتن، كما أخبر أن هناك الكثير ممن
__________
(1) نهج البلاغة، الحكمة:262
(2) نهج البلاغة، الخطبة:50.
مثالب النفس الأمارة (101)
سيرسب في هذا الاختبار، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) (1)
__________
(1) رواه البخاري: 3158، 4015، 6425، ومسلم: 7614.
مثالب النفس الأمارة (102)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الدنيا، وحقيقتها، والموقف منها، وهل هي محترمة لكونها دار أولياء الله.. أم هي مذمومة لكونها دار أعدائه؟.. وهل لذلك أثر في تقويم النفس وتعديلها وتربيتها؟.. أم أن ذلك من الفروع التي لا يحتاج إليها السالك لتزكية نفسه وترقيتها لتصبح أهلا لمنازل المقربين والصديقين؟
وكل أسئلتك التي سألتها محترمة وجيهة، والإجابة عليها واجبة، لأنها من الأسس التي يقوم عليها السلوك التحققي والتخلقي؛ فلا يمكن لمن يجهل الدنيا، وكيفية التعامل معها أن يسير السير الصحيح.
ولا تخف ـ أيها المريد الصادق ـ ولا تفزع، فلن أحدثك بأحاديث الأحبار والرهبان، ولن أجلب لك ما ذكره الزهاد والمنقطعون عن الدنيا، فأنا أعلم أنك لا ترغب في أن تخلط دين الله بدين البشر، ولا أن تجعل لك قدوة غير رسولك، وأئمة الهدى وورثة النبوة من بعده، أولئك الذين تمسكوا بالكتاب، ولم ينحرفوا عنه.
وأول من يجيبك على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ القرآن الكريم؛ فهو الكتاب الذي حوى حقائق الوجود بكل دقة، ولذلك كان أول مصدر تنكشف به الحقائق، وتُميز به عن الأهواء.. ومن أعرض عنه لن يصل إلى الحقيقة، ولو جمع جميع عقول أهل العالم.
وعند عودتنا للقرآن الكريم نجد الله تعالى يهون من شأن الدنيا، ويعتبرها دار غرور، وأن من انشغل بها انشغل عن الخير كله.. وليس ذلك ـ كما يتوهم المقصرون في فهم لغة القرآن الكريم وحقائقه ـ ذما للدنيا، أو احتقارا لها، فما خلق الله شيئا إلا لحكمة وغرض،
مثالب النفس الأمارة (103)
ويستحيل عليه العبث.
وإنما هو مثل ذلك الأستاذ الذي يقول لتلاميذه في المرحلة الابتدائية، وفي حصة الحساب: أتقنوا جيدا ما تدرسونه من هذه المسائل والمعالات.. لأنكم ستحتاجون إليها في مستقبل دراستكم.. وكل ما درستموه الآن سيكون حقيرا وبسيطا وهزيلا جدا أمام ما لم تدرسوه.
وهكذا الأمر بل هو أعظم منه، في ذكر القرآن الكريم للدنيا، فهو يقول للمنشغلين بها، إما بعلومها، وما يغذي عقولهم منها.. أو ما يغذي بطونهم وأهواءهم: إن ما ترونه لا يساوي شيئا أمام ما لم تروه.. فلذلك جهزوا أنفسكم لتصبح صالحة لتلك العوالم التي لا تساوي الدنيا أمامها شيئا.
وهو يبادر قبل ذلك، فيقرر في نفوس المؤمنين أن الله تعالى رب الدنيا والآخرة، وأنه الخالق لهما جميعا، وأنه العالم بهما، وبصفات كل منهما، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]
وانطلاقا من ذلك يبين الله تعالى ـ باعتباره مالك الدنيا والآخرة والخبير بهما جميعا ـ أن الدنيا لا تساوي شيئا أمام الآخرة، ومثل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ مثل رجل يريد أن يري قوما بعض قصوره وضياعه؛ فإذا رأوا بعضها، وبهتوا لها، قال لهم: هذا شيء هين وقليل وحقير جدا بجانب ما لم تروه..
وقد ورد ذلك التهوين من شأن الدنيا مقارنة بالآخرة بصيغ كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60]، فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن كل ما في الدنيا من متاع وزينة يوجد ما هو خير منه وأدوم في الآخرة.. ولذلك فإن الزاهد في الدنيا، لن يضيع زهده، بل
مثالب النفس الأمارة (104)
سيكسب أضعاف ما يتوهم المتثاقلون أنه خسره، بإضافة عنصر الزمان وامتداده، والذي حرم منه المتثاقلون إلى في الدنيا.
وقد عقب الله تلك الآية الكريمة بقوله: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 61]، وهي تدل على أنه لا وجه للمقارنة بين المؤمن الذي وثق في وعد الله الذي سيلقاه لا محالة، وبين ذلك الذي اكتفى بالنصيب المحدود الذي يعيش به في الدنيا، ثم يلاقي في الآخرة الأهوال بسبب تثاقله.
وهكذا يخاطب القرآن الكريم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأن ما أعد الله تعالى لهم في الآخرة، لا يمكن مقارنته بما يرونه من النعيم الذي يعيشه المتثاقلون إلى الدينا، ذلك النعيم الممتلئ بكل أصناف المنغصات، قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]
ويخاطب الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسليا له وللمؤمنين على ما فاتهم أو يفوتهم من الدنيا، فيقول: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]، ويقول: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32]
ويبين مدى غفلة المتثاقلين إلى الدنيا وغبائهم عندما يسخرون من الزاهدين في الدنيا، فيقول: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212]
ويذكر بعض مجامع نعيم الدنيا، ويبين مدى انحطاطها مقارنة بنعيم الآخرة، فيقول: {زُيِّنَ لِلناسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالله عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل
مثالب النفس الأمارة (105)
عمران: 14]
ثم يبين بعض مظاهر ذلك النعيم المعد للمؤمنين في الآخرة، والذي لا يمكن مقارنة أي نعيم في الدنيا به، فيقول: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَناتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ الله وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15]
والغرض من تقرير هذه المعاني جميعا، ليس مجرد اتخاذ موقف من الدنيا، وإنما لتأثير ذلك في السلوك التحققي والتخلقي؛ فالمقبل بكل همته على الدنيا المتثاقل لها، يستحيل عليه أن يطهر نفسه أو يزكيها، أو يرقى بها إلى مراتب الكمال التي تستدعي المجاهدات الطويلة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنهُمْ سُبُلَنَا وَإِن الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
ولهذا يقرن الله تعالى التكاليف المشددة بالنهي عن التثاقل إلى الدينا، ومن أمثلتها قوله تعالى في الحث على الجهاد والتضحية في سبيل نصرة المستضعفين المظلومين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]
ويذكّر المتثاقلين إلى الدنيا بأن الموت قادم لا محالة، ولذلك لا داعي إلى الحرص الشديد على الحياة، خصوصا إذا ما تنافت التكاليف الشرعية مع ذلك الحرص، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النارِ وَأُدْخِلَ الْجَنةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]
ويذكرهم بأن الدنيا تشبه تلك الأيام المعدودة التي تخرج الأرض فيها بعض خيراتها، ثم سرعان ما يصيب القحط كل شيء، قال تعالى: {إِنمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ
مثالب النفس الأمارة (106)
أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ الناسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَن أَهْلُهَا أَنهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]
ويذكرهم بأن السبب الأكبر في كل الانحرافات التي وقع فيها البشر تثاقلهم إلى أهواء الدنيا، قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 70]، وقال: {إِن الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7، 8]، وقال: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51]
ويذكرهم بأن ذلك لا يعني الانصراف التام عن الدنيا، بحيث ينصرف المؤمنون عنها انصرافا تاما يحول بينهم وبين أي عمل إيجابي فيها؛ فذلك ليس هو المراد، وإنما النهي قاصر على التثاقل إليها والحرص عليها والتكاثر فيها، لا الأخذ منها بقدر الحاجة، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]
وقال حاكيا عن المؤمنين من قوم قارون، ونصيحتهم له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِن الله لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]
بل إن الله تعالى يخبر أنه ـ بفضله ورحمته ـ يعطي عباده الصالحين المترفعين عن الدنيا، ما يحتاجونه منها، من غير أن يؤثر ذلك في طهارة نفوسهم، وصفاء قلوبهم، أو يحول بينهم وبين السير إلى ربهم، قال تعالى: {أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ الله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
مثالب النفس الأمارة (107)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64]، وقال: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]
ويضرب المثل على ذلك بأولئك المجاهدين مع أنبيائهم، والذين آثروا أن يضحوا بأنفسهم في سبيل القيم التي جاءوهم بها، بأن الله آتاهم كلا الثوابين: ثواب الدنيا، وثواب الآخرة، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148]
هذه بعض الآيات القرآنية التي وردت في شأن الدنيا، ويمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ بالتدبر فيها أن تعرف حقيقتها، وأنها مجرد مرحلة ابتدائية قصيرة من حياة الإنسان والكون، وأن الله تعالى لم يخلقها باعتبارها دارا للجزاء، وإنما باعتبارها دارا للابتلاء والتكليف والامتحان، لذلك اختلط النعيم فيها بالعذاب، والصالحين بالمفسدين..
ولذلك كانت النجاة فيها مثل النجاة في أي امتحان، وهو الانشغال به عن غيره.. فمن انشغل يوم الامتحان باللهو واللعب والنوم، فلن يجني إلا الخيبة والخسارة، ومن جد في امتحانه واجتهد وأخذ من الراحة بقدر الحاجة نجح ورقى في مراتب الفائزين.
وكل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ لا يعني احتقارا للدنيا بذاتها، وإنما الاحتقار موجه لأصحاب الهمم الدنية الذين آثروا القليل على الكثير، والفاني على الدائم، والنعيم المنغص على النعيم الخالص.
مثالب النفس الأمارة (108)
بعد أن عرفت ـ أيها المريد الصادق ـ حقيقة الدنيا، ومنزلتها من خلال كلمات ربك المقدسة، سأذكر لك بعض البيان النبوي بشأنها.. وهو بيان يؤكد ما ذكره الله، ويبين مناهج تنفيذه، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلناسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]
ولهذا استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتقرير تلك الحقائق القرآنية الكثير من المناهج، ومنها ذلك المثل الذي ضربه لأصحابه وأمته عندما مر على شاة ميتة، فقال: (أترون هذه الشاة الميتة هينة على صاحبها؟ قالوا: نعم من هوانها ألقوها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (والّذي نفسي بيده، الدّنيا أهون على الله عزّ وجلّ من هذه على صاحبها، ولو كانت الدّنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء) (1)
وهذا الحديث لا يحتقر الدنيا بذاتها ـ كما قد يُتوهم ـ وإنما يبين ضآلة ما فيها من متاع مقارنة بالمتاع المعد في الآخرة.. فمتاع الدنيا جميعا يشبه تلك الشاة الميتة، ولذلك كان التثاقل إليها، أو الصراع من أجلها يشبه الصراع على من يملك تلك الشاة.
وبهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضع صورة للدنيا في نفوس المؤمنين تبعدهم عن التثاقل إليها، وهي صورة الشاة الميتة صاحبة الرائحة الكريهة، أو صورة البعوضة أو جناحها، ليقول لهم: كيف لكم أن تضحوا بسعادة الأبد من أجل هذه القاذورات التي يتهافت الخلق عليها؟
وفي حديث آخر يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا بالمزبلة التي تتراكم فيها القاذورات، فقد روي أنه وقف على مزبلة، فقال: (هلمّوا إلى الدّنيا، وأخذ خرقا قد بليت على تلك المزبلة
__________
(1) الحاكم ج 4 ص 306، وابن ماجه رقم 4110.
مثالب النفس الأمارة (109)
وعظاما قد نخرت فقال: هذه الدّنيا) (1)
وما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الحقيقة بعينها، وليست مجرد مثال، ذلك أن مآل كل زينة في الدنيا يتهالك عليها الناس إلى تلك الصورة التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلا للدنيا، فكل الثياب ستبلى، وكل الجمال سيذبل، وكل الطعام سيتحول إلى المزابل.
ولهذا يعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا لضآلتها وقلتها سجنا بالنسبة للمؤمن الذي تنتظره الجنات التي وسعت السموات والأرض، قال صلى الله عليه وآله وسلم: وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الدّنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) (2)
ويضرب المثل على ذلك بتلك الآلام التي يجدها المستغرقون في حب الدنيا، فيقول: (من أصبح والدّنيا أكبر همّه فليس من الله في شي ء، وألزم الله قلبه أربع خصال: همّا لا ينقطع عنه أبدا، وشغلا لا يتفرّغ منه أبدا، وفقرا لا ينال غناه أبدا، وأملا لا يبلغ منتهاه أبدا) (3)
ويعتبر أن كل شيء في الدنيا يحول بين المؤمن وتلك السعادة ملعون، فيقول: (الدّنيا ملعونة ملعون ما فيها إلّا ما كان للَّه منها) (4)
ويعتبر الدنيا والآخرة مثل الضرتين إذا أحب أحدهما أبغض الأخرى، فيقول: (من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى) (5)
ويبين المصير الذي يصير إليه المتثاقلون إلى الدينا، فيقول: (ليجيئن أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار، فقيل: يا رسول الله أ مصلّين؟ قال: نعم كانوا
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في الزهد والبيهقي في الشعب.
(2) الترمذي ج 9 ص 199.
(3) الطبراني في الأوسط وابن أبي الدنيا والحاكم.
(4) ابن ماجه رقم 4112، والترمذي ج 9 ص 198.
(5) الحاكم ج 4 ص 319.
مثالب النفس الأمارة (110)
يصومون ويصلّون ويأخذون هنة من اللّيل فإذا عرض لهم من الدّنيا شي ء وثبوا عليه) (1)
ويقول في بعض خطبه: (المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليتزوّد العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، فإن الدّنيا قد خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة، والّذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدّنيا من دار إلّا الجنة أو النار) (2)
ولهذا يعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة) (3)، ويتعجب من الذي يقضي كل عمره في اللهث خلفها، فيقول: (يا عجبا كلّ العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور) (4)
ويبين أن الغرض من الدنيا ـ مثلما ذكر القرآن الكريم ـ هو الاختبار والابتلاء، وليس التثاقل إليها، أو الاطمئنان لما فيها والصراع من أجله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الدّنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، إن بني إسرائيل لمّا بسطت لهم الدّنيا ومهّدت تاهوا في الحلية والنساء والطيب والثياب) (5)
ويضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه أروع المثل في الموقف من الدنيا، والزهد فيها، فيقول: (ما لي وللدنيا؟! ما أنا والدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظَلّ تحت شجرة، ثم راح وتركها) (6)
__________
(1) أبو نعيم في الحلية وأبو منصور الديلمي.
(2) الكافي ج 2 ص 70.
(3) البيهقي في شعب الايمان.
(4) ابن أبي الدنيا في الزهد.
(5) ابن ماجه رقم 4000.
(6) الترمذي (2377) وسنن ابن ماجة (4109)
مثالب النفس الأمارة (111)
وهكذا ورد في الآثار الكثيرة عن موقف الأنبياء عليهم السلام من الدنيا (1).. ومن أمثلتها قول المسيح عليه السلام: (لا تتّخذوا الدّنيا ربّا فتتّخذكم الدّنيا عبيدا، اكنزوا كنزكم عند من لا يضيّعه لكم؛ فإن صاحب كنز الدّنيا يخاف عليه الآفة وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة)
و قال: (يا معشر الحواريّين إني قد كببت لكم الدّنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدي؛ فإن من خبث الدّنيا أن عصي الله فيها، وإن من خبث الدّنيا أن الآخرة لا تدرك إلّا بتركها، ألا فاعبروا الدّنيا ولا تعمروها، واعلموا أن أصل كلّ خطيئة حبّ الدّنيا، وربّ شهوة ساعة أورثت أهلها حزنا طويلا)
و قال: (الدّنيا طالبة ومطلوبة، فطالب الآخرة تطلبه الدّنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدّنيا تطلبه الآخرة حتّى يجي ء الموت فيأخذ بعنقه)
و قال: (لا يستقيم حبّ الدّنيا والآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد)
و قال: (يا معشر الحواريّين ارضوا بدنيّ الدّنيا مع سلامة الدّين كما رضي أهل الدّنيا بدنيّ الدّين مع سلامة الدّنيا)
ويروى أنه مر بقرية، فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق فقال لهم: يا معشر الحواريّين إن هؤلاء ماتوا عن سخطة ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا، فقالوا: يا روح الله
__________
(1) انظر هذه الآثار وغيرها في: المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 5، ص: 355، فما بعدها، وقد انتقينا ما رأيناه متناسبا مع الحقائق القرآنية، وأعرضنا عما رأيناه متنافيا معها، ومن أمثلتها ما روي عن المسيح عليه السلام ـ وهو غير صحيح ـ أنه قال: (بطحت لكم الدّنيا، وجلستم على ظهرها؛ فلا ينازعنّكم فيها الملوك والنساء، فأمّا الملوك فلا تنازعوهم في الدّنيا فإنّهم لن يتعرّضوا لكم ما تركتموهم ودنياهم، وأمّا النساء فاتّقوهنّ بالصوم والصلاة)، فقد رأينا أن الشق المرتبط بالملوك لا يتناسب مع ما ورد في النصوص المقدسة من الحاكمية الإلهية والدعوة الإلهية، ولو بمواجهة السلاطين الظلمة.
مثالب النفس الأمارة (112)
وددنا أنا علمنا خبرهم، فسأل ربّه فأوحى الله إليه إذا كان اللّيل فنادهم يجيبوك، فلمّا كان اللّيل أشرف على نشز من الأرض، ثمّ نادى: يا أهل القرية؟ فأجابه مجيب: لبّيك يا روح الله، فقال: ما حالكم وما قصّتكم؟ قالوا: بتنا في عافية وأصبحنا في هاوية، قال: وكيف ذلك؟ قال: لحبّنا الدّنيا وطاعتنا أهل المعاصي، قال: وكيف كان حبّكم للدّنيا؟ قال: حبّ الصبيّ لامّه إذا أقبلت فرحنا وإذا أدبرت حزنا وبكينا، قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال: لأنهم ملجمون بلجام من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد قال: كيف أجبتني أنت من بينهم؟ قال: لأني كنت فيهم ولم أكن منهم، فلمّا نزل بهم العذاب أصابني معهم فأنا معلّق على شفير جهنم لا أدري أنجو منها أم أكبكب فيها، فقال المسيح عليه السّلام للحواريّين: لأكل خبز الجريش بالملح الشعير ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدّنيا والآخرة) (1)
ومثله ما روي أن جبريل عليه السّلام قال لنوح عليه السّلام: يا أطول الأنبياء عمرا كيف وجدت الدّنيا؟ قال: (كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من آخر)
وروي أن سليمان عليه السّلام مر في موكبه والطير تظلّه والجن والإنس عن يمينه وعن يساره، فمرّ بعابد من عبّاد بني إسرائيل فقال: والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكا عظيما، فسمعه سليمان عليه السّلام، فقال: (لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير ممّا أعطي ابن داود، فإن ما أعطي ابن داود يذهب والتسبيحة تبقى)
وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السّلام: (يا موسى مالك ولدار الظالمين إنها ليست لك بدار أخرج منها همّك وفارقها بعقلك، فبئست الدّار هي إلّا لعامل يعمل فيها فنعمت الدّار هي، يا موسى إني مرصد للظالم حتّى آخذ منه للمظلوم)
__________
(1) الكافي ج 2 ص 318.
مثالب النفس الأمارة (113)
وروي أنه أوحي إليه: (يا موسى لا تركنن إلى حبّ الدّنيا فلن تأتيني بكبيرة هي أشدّ عليك منها).
وروي أنه مرّ برجل وهو يبكي، ورجع وهو يبكي، فقال موسى عليه السلام: يا ربّ عبدك يبكي من مخافتك؛ فقال: (يا ابن عمران لو سال دماغه مع دموع عينيه، ورفع يديه حتّى تسقطا لم أغفر له وهو يحبّ الدنيا)
فاعتبر ـ أيها المريد الصادق ـ بهذه المواعظ، واملأ بها قلبك، ولا تسمع لأولئك المتثاقلين إلى الدينا الذين يوهمونك أن الله خلقك لها لا له، أو خلقك لتستقر فيها لا لتعبر منها.. فأعظم الناصحين هم الرسل عليهم الصلاة والسلام، وما عداهم إن كان على طريقهم، فهو وارث من ورثتهم، وإن لم يكن على طريقهم، فهو حجاب دونهم، فإياك أن تضيع طريق الأنبياء وتسير في طرق أصحاب الأهواء.
ومما يؤكد لك كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ اتفاق جميع أئمة الهدى، وورثة النبوة على ذلك؛ فأحاديثهم مملوءة بالوصايا التي تحذر من التثاقل إلى الدنيا، والانشغال بأهوائها.
ولا يمكنني في هذه الرسالة أن أذكر لك كل ما ذكروه، ولذلك أكتفي لك بنموذجهم الأرفع، ومثلهم الأسمى، إما المتقين الأكبر، وتلميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأعظم، يعسوب الدين.. ذلك الإمام الذي مثل التلمذة للنبوة أحسن تمثيل، فكان معجزتها الكبرى، وآيتها العظمى؛ فقد وردت عنه الكثير من المواعظ والخطب والكلمات النيرة، وكانت حياته كلها مصداقا للتسامي عن الدنيا.
فمن مواعظه البليغة قوله ـ مخاطبا الدنيا ـ: (إليك عني يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذّهاب في مداحضك، أين القرون
مثالب النفس الأمارة (114)
الّذين غررتهم بمداعبك؟ أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك؟ فها هم رهائن القبور، ومضامين اللّحود! والله لو كنت شخصا مرئيّا، وقالبا حسّيّا، لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأمانيّ، وأمم ألقيتهم في المهاوي، وملوك أسلمتهم إلى التّلف، وأوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد ولا صدر.. هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ عن حبائلك وفّق، والسّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه، والدّنيا عنده كيوم حان انسلاخه) (1)
وكان يقول: (اعزبي عني، فو الله لا أذلّ لك فتستذلّيني، ولا أسلس لك فتقوديني، وأيم الله ـ يمينا أستثني فيها بمشيئة الله ـ لأروضن نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص، إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغة دموعها، أ تمتلئ السّائمة من رعيها فتبرك؟ وتشبع الرّبيضة من عشبها فتربض؟ ويأكل عليّ من زاده فيهجع، قرّت إذا عينه إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسّائمة المرعيّة!) (2)
وكان يقول في بعض خطبه: (و أحذّركم الدّنيا فإنها منزل قلعة، وليست بدار نجعة، قد تزيّنت بغرورها، وغرّت بزينتها. دارها هانت على ربّها، فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرّها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرّها. لم يصفها الله تعالى لأوليائه، ولم يضن بها على أعدائه. خيرها زهيد، وشرّها عتيد، وجمعها ينفد، وملكها يسلب، وعامرها يخرب. فما خير دار تنقض نقض البناء، وعمر يفنى فيها فناء الزّاد، ومدّة تنقطع انقطاع السّير. اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبكم، واسألوه من أداء حقّه ما سألكم، وأسمعوا دعوة الموت
__________
(1) نهج البلاغة: الكتاب 45 ص 417.
(2) نهج البلاغة: الكتاب 45 ص 417.
مثالب النفس الأمارة (115)
آذانكم قبل أن يدعى بكم) (1)
وكان مع ذلك كله يفرق بين دنيا الصالحين المترفعين، ودنيا العابثين المتثاقلين.. فقد روي أنه رأى قوما يذمون الدنيا ذما مطلقا، فراح يقول لهم: (ما بال أقوام يذمّون الدنيا وقد انتحلوا الزهد فيها؟!، الدنيا منزل صدق لمن صدّقها، ومسكن عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، مسجد أنبياء الله، ومهبط وحيه، ومصلّى ملائكته، ومسكن أحبّائه، ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا منها الجنة. فمن ذا يذم الدنيا وقد آذنت ببينها؟! ونادت بانقطاعها، ونعت نفسها بالزوال، ومثّلت ببلائها البلاء، وشوّقت بسرورها إلى السرور، وراحت بفجيعة، وابتكرت بنعمة وعافية، ترهيبا وترغيبا، فذمّها قوم غداة الندامة، وحمدها آخرون، خدمتهم جميعا فصدقتهم، وذكّرتهم فاذّكّروا، ووعظتهم فاتّعظوا، وخوّفتهم فخافوا، وشوقتهم فاشتاقوا) (2)
وسمع آخر يذم الدنيا ذما مطلقا، فراح يصحح له، ويقول: (فأيّها الذامّ للدنيا المغترّ بغرورها! متى استذمّت إليك؟ بل متى غرّتك بنفسها؟ أ بمصارع آبائك من البلى؟! أم بمضاجع أمّهاتك من الثرى؟ كم مرّضت بيديك، وعلّلت بكفّيك؟ تستوصف لهم الدواء، وتطلب لهم الأطباء، لم تدرك فيه طلبتك، ولم تسعف فيه بحاجتك. بل مثّلت الدنيا به نفسك، وبحاله حالك، غداة لا ينفعك أحباؤك، ولا يغني عنك نداؤك، يشتد من الموت أعالين المرضى، وأليم لوعات المضض، حين لا ينفع الأليل، ولا يدفع العويل، حين يحفز بها الحيزوم، ويغصّ بها الحلقوم، حين لا يسمعه النداء، ولا يروعه الدعاء، فيا طول الحزن عند انقطاع الأجل. ثمّ يراح به على شرجع تقلّه أكفّ أربع، فيضجع في قبره في لبث، وضيق
__________
(1) نهج البلاغة: الخطبة رقم (113)
(2) مستدرك نهج البلاغة: ج 1 ص 352 - 357.
مثالب النفس الأمارة (116)
جدث، فذهبت الجدّة، وانقطعت المدة، ورفضته العطفة، وقطعته اللطفة، لا تقاربه الإخلاء، ولا تلمّ به الزوّار، ولا اتّسقت به الدار. انقطع دونه الأثر، واستعجم دونه الخبر، وبكّرت ورثته، فأقسمت تركته، ولحقه الحوب، وأحاطت به الذنوب، فإن يكن قدّم خيرا طاب مكسبه، وإن يكن قدّم شرّا تبّ منقلبه، وكيف ينفع نفسا قرارها، والموت قصارها، والقبر مزارها؟ فكفى بهذا واعظا كفى) (1)
وطلب منه بعضهم أن يصف الدنيا، فقال: (ما أصف لك من دار من صحّ فيها ما آمن، ومن سقم فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها فتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العذاب)
وسئل عن ذلك مرّة أخرى، فقال: (أطوّل أو أقصّر؟) فقال السائل: قصّر، فقال: (حلالها حساب وحرامها عذاب) (2)
ولم يكن ذلك منه مجرد كلمات، وإنما كانت حقائق عاشها، ورآها أصحابها، الذين قال بعضهم في وصفه: (كان والله! بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزخرفها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن ـ والله! ـ مع تقرّبه لنا وقربه منا لا نكاد نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وإني أشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ـ وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه ـ قابضا على لحيته يتململ تململ السليم
__________
(1) مستدرك نهج البلاغة: ج 1 ص 352 - 357.
(2) نهج البلاغة، رقم 82.
مثالب النفس الأمارة (117)
ويبكي بكاء الحزين وهو يقول: (يا دنيا غرّي غيري، إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه! من قلّة الزّاد، وبعد السّفر، ووحشة الطّريق) (1)
وقد ورث سائر أئمة الهدى عن النبوة والإمام علي كل هذه المعاني السامية، فقد روي عن الإمام السجاد قوله: (إن الدّنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكلّ واحد منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدّنيا، ألا وكونوا من الزّاهدين في الدّنيا الرّاغبين في الآخرة، ألا إن الزّاهدين في الدّنيا اتّخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا وقرّضوا من الدّنيا تقريضا، ألا ومن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرّمات، ومن زهد في الدّنيا هانت عليه المصائب، ألا إن للَّه عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلّدين وكمن رأى أهل النار في النار معذّبين شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة أنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة صبروا أيّاما قليلة فصاروا بعقبى راحة طويلة، أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم وهم يجارون إلى ربّهم يسعون في فكاك رقابهم، وأمّا النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم القداح قد براهم الخوف من العبادة ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى، وما بالقوم من مرض، أم خولطوا، فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النار وما فيها) (2)
وروي أنه سئل: أيّ الأعمال أفضل عند الله تعالى؟ فقال: (ما من عمل بعد معرفة الله تعالى ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من بغض الدّنيا، وإن لذلك لشعبا كثيرة، وللمعاصي شعبا فأوّل ما عصى الله به الكبر وهي معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين،
__________
(1) لاستيعاب 3: 107، حلية الأولياء 1: 84.
(2) الكافي ج 2 ص 131
مثالب النفس الأمارة (118)
والحرص وهي معصية آدم وحوّاء حين قال الله تعالى لهما: {فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19]، فأخذا ما لا حاجة بهما إليه؛ فدخل ذلك على ذريّتهما إلى يوم القيامة، وذلك أن أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه، ثمّ الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعّب من ذلك حبّ النساء وحبّ الدّنيا وحبّ الرّئاسة وحبّ الرّاحة وحبّ الكلام وحبّ العلوّ والثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلّهن في حبّ الدّنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك: حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة والدنيا دنيا آن دنيا بلاغ ودنيا ملعونة) (1)
وقال الإمام الكاظم مخاطبا جابر بن عبد الله: (إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدّنيا ببقائهم فيها، ولم يأمنوا قدومهم الآخرة، يا جابر الآخرة دار قرار، والدّنيا دار فناء وزوال، ولكن أهل الدّنيا أهل غفلة، وكأن المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة، لم يصمهم عن ذكر الله تعالى ما سمعوا بآذانهم ولم يعمهم عن ذكر الله تعالى ما رأوا من الزينة بأعينهم ففازوا بثواب الآخرة كما فازوا بذلك العلم، واعلم يا جابر أن أهل التقوى أيسر أهل الدّنيا مئونة وأكثرهم لك معونة تذكر فيعينونك، وإن نسيت ذكروك، قوّالون بأمر الله قوّامون على أمر الله، قطعوا محبّتهم بمحبّة ربّهم ووحشوا الدّنيا لطاعة مليكهم ونظروا إلى الله تعالى وإلى محبّته بقلوبهم وعلموا أن ذلك هو المنظور إليه لعظيم شأنه، فأنزل الدّنيا كمنزل نزلته ثمّ ارتحلت عنه، أو كمال وجدته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شي ء، إني إنما ضربت لك هذا مثلا لأنها عند أهل اللّبّ والعلم بالله كفي ء الظلال، يا جابر فاحفظ ما استرعاك الله من دينه وحكمته ولا تسألن عمّالك عنده إلّا ما له عند نفسك، فإن تكن الدّنيا على ما وصفت لك فتحوّل إلى دار المستعتب، فلعمري لربّ حريص على أمر قد شقي به حين أتاه
__________
(1) الكافي ج 2 ص 130
مثالب النفس الأمارة (119)
ولربّ كاره لأمر قد سعد به حين أتاه وذلك قول الله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]
وضرب مثلا للدنيا، فقال: (مثل الحريص على الدّنيا كمثل دودة القزّ كلّما ازدادت على نفسها لفّا كان أبعد لها من الخروج حتّى تموت غمّا) (1)
وقال الإمام الصادق: (إذا تخلّى المؤمن من الدّنيا سما ووجد حلاوة حبّ الله وكان عند أهل الدّنيا كأنه قد خولط وإنما خالط القوم حلاوة حبّ الله فلم يشتغلوا بغيره) (2)
وقال: (جعل الخير كلّه في بيت وجعل مفتاحه الزّهد في الدّنيا، ولا يجد الرّجل حلاوة الإيمان في قلبه حتّى لا يبالي من أكل الدّنيا) (3)
وقال: (من زهد في الدّنيا أثبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصّره عيوب الدّنيا داءها ودواءها، وأخرجه من الدّنيا سالما إلى دار السّلام) (4).
وهكذا اتفق جميع أئمة الهدى على وصف الدنيا بما سمعت.. فردد هذه العبارات ـ أيها المريد الصادق ـ وتأمل فيها، وعش معانيها، لتخرج حب الدنيا من قلبك؛ فلا يمكنك أن تسير إلى الله، أو تسلك سبيل الصديقين، وأنت موثوق في قيودها، مقيد بأغلالها.
__________
(1) الكافي، ج 2 ص 134.
(2) الكافي ج 2 ص 130
(3) الكافي، ج 2 ص 128.
(4) الكافي، ج 2 ص 128.
مثالب النفس الأمارة (120)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المال، وسر اعتبار الصالحين لحبه مثلبا من مثالب النفس الأمارة؛ فلا يصح السلوك إلى الله قبل إخراجه ونزع كل آثاره وثماره.. ثم سألتني عن المعارف والأعمال التي تتمكن بها من فعل ذلك.
وكل أسئلتك في هذا محترمة وجيهة، ويجب علي أن أجيب عليها، ووفق الشروط التي طلبتها مني، بل طلبتها مني الحقيقة نفسها، وهي الاكتفاء بما ورد في المصادر المقدسة، دون غيرها، حتى لا تشوه الحقيقة بأي دخن.
وابتداء أقول لك، ولكل أولئك الذين يقابلون مثل هذه المعاني بالرفض والاشمئزاز، واعتبارها دخيلة على الدين، ثم يوردون لذلك ما ورد في النصوص المقدسة من تكريم المال، واحترامه، واعتباره عصب الحياة، أو قواما لها، أن هناك فرقا بين المال وبين حب المال.
فالمال في حد ذاته خلق من خلق الله، والله ما خلق شيئا إلا لمصلحة ومنفعة ومقصد، ولهذا نسب المال إليه، وأكرمه بتلك النسبة، بل سماه خيرا، فقال في صفات الإنسان: {وَإِنهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]
لكن حب المال شيء مختلف.. فالمال وسيلة لا غاية، وحب الوسيلة قد يصرف عن الغاية، ولذلك يتحول إلى حجاب دونها.
ولذلك لم يكن للتحذيرات الواردة حول حب المال، أي علاقة بضرورة كسب المال، أو إنفاقه، أو الاهتمام بحفظه، أو صرفه في المواضع التي يحتاج أن يصرف فيها.. أو الاهتمام بالجانب الاقتصادي ودراسته والتعمق فيه.. وغير ذلك من المعاني.. فكل ذلك لا علاقة له بحب المال.
مثالب النفس الأمارة (121)
ذلك أن تلك الأمور جميعا لا علاقة لها بالقلب، ولا بالمشاعر، وإنما علاقتها بالجد والاجتهاد والضرب في الأرض، وكل ذلك من الأمور المحمودة التي حثت عليها الشريعة، بل إن الله تعالى قرن الضاربين في الأرض بالمجاهدين في سبيل الله، فقال: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} (المزمل: 20)
وهكذا قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين التجار النشطين الذين يجلبون السلع لأسواق المسلمين بالمجاهدين في سبيل الله، فقال: (الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله) (1)
ولذلك لا تخف ـ أيها المريد الصادق ـ فما سأورده لك من علاجات لإخراج حب المال من القلب، ليس المراد منها إخراجه من الجيب، أو عدم امتلاكه مطلقا، أو عدم السعي لكسبه؛ فلا يمكن أن تستقيم الحياة بذلك، وإلا أصبح السائرون في طريق الله مجرد كسالى شحاذين لا يملكون هذا المصدر من مصادر قوة المؤمن.
بناء على هذا، وبناء على طلبك المرتبط بذكر العلاج الذي يخرج حب المال من القلب، فسأذكر لك علاجين، كلاهما وردت به النصوص المقدسة، أحدهما يرتبط بالمعارف التي تتسلل إلى عقلك وقلبك، لتصحح تصوراتها الخاطئة، والثاني يرتبط بالسلوكات التي تمارسها في حياتك، نتيجة لتلك المعارف التي اقتنعت بها، وتشكلت منها شخصيتك الجديدة.
أول علاج لحب المال ـ أيها المريد الصادق ـ علمك أنه فتنة واختبار إلهي لحقيقتك،
__________
(1) رواه ابن ماجه، والزبير بن بكار في أخبار المدينة والحاكم.
مثالب النفس الأمارة (122)
وتساميها أو تثاقلها؛ فهو ليس نعمة محضة للتلذذ المجرد، مثلما هو حال الزهرة الجميلة، التي يمكنك أن تحبها لرائحتها الطيبة، أو تتلذذ بقسماتها البهية، من غير أن يؤثر ذلك الحب فيك، وبأي وجه من الوجوه.. فتلك الزهرة جمال محض لا علاقة له بالتكليف، ولا بالفتنة.
لكن حب المال مختلف؛ ذلك أن الاستغراق فيه قد يجعلك كذلك السكران الثمل الذي لا يرضى ولا يسكن إلا إذا شرب من الكأس التي لا تزيده إلا سكرا وثمالة.
وهكذا حب المال؛ فهو إذا تحول إلى شراب مسكر، جعل من صاحبه مجرد خادم له، يفرّط في كل شيء من أجل كسبه، ويضيع كل شيء من أجل حفظه والتقتير به، ثم يجعله بعد ذلك كله أسيرا لهواه، مشغولا به عن حقائق الوجود، حيث يتحول الكون عنده بسعته إلى مجرد دنانير ودراهم وكنوز.. ينشغل بها عن حياته وحقيقته والوظائف التي كلف بها.
وبذلك يصبح عبدا من عبيده، بدل أن يكون سيدا عليه، يستخدمه فيما يحتاجه.. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) (1)
وبناء على هذه المعاني يذكر القرآن الكريم حقيقة المال، وكونه اختبارا وفتنة إلهية للتفريق بين من يستخدمونه، ومن يستخدمهم، أو بين عبيده وبين عبيد الله.. يقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَن الله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]
ولهذا كان من ضرورات هذا الابتلاء أن يتعلق باسمي الله تعالى [المعطي المانع]؛ فالله هو الذي يعطي هذا المال، لا تكريما، ويمنعه لا إهانة، وإنما يفعل ذلك كله للاختبار والتمحيص.
ولذلك كان من الأدوية العرفانية المهمة في العلاقة بالمال أن تعلم ـ أيها المريد الصادق
__________
(1) رواه البخاري.
مثالب النفس الأمارة (123)
ـ أن زيادته أو نقصه لا علاقة لها بحقيقتك، ولا بدرجتك، كما يتوهم الغافلون الذين يتصورون زيادة المال إكراما، ونقصه إهانة، كما قال الله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 17]
ولهذا ينهى الله تعالى عن النظر إلى الأغنياء باعتبارهم مكرمين، لأن ذلك يؤثر في علاقة الإنسان بربه، ويجعله يشعر بنقص وقصور تجاههم يؤثر في همته وشخصيته تأثيرا بليغا يحول بينها وبين مقتضيات السلوك.
ولذلك اعتبر الله تعالى الموقف من المال والغنى من الفوارق المهمة بين أهل العلم والإيمان وغيرهم، وقد ضرب المثل على ذلك بمن أثرت فيهم رؤيتهم لقارون وكنوزه وزينته، فراحوا يقولون بحسرة وألم: {يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79]، بينما قال {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]
فأهل العلم الصالحون نظروا إلى أموال قارون باعتبارها أسئلة واختبارات سئل عنها، وكُلف بالإجابة الصحيحة عليها، ولذلك حزنوا له، ولأخطائه في الإجابة، ولم يؤثر فيهم غناه، ولم يصرفهم عن رضاهم عن ربهم، وفرحهم بما آتاهم من العلم والحكمة.
ولهذا كان لهذه المعرفة آثارها النفسية الجميلة في حماية المؤمن من كثير من مثالب النفس الأمارة التي تجعله يحسد أو يحقد أو يسخط أو ينزعج بسبب تلك الفروق التي تفصل بينه وبين أصحاب الثروات والأموال، بل بعكس ذلك تجعله مشفقا عليهم، حزينا على تقصيرهم وتفريطهم.
وكل هذه المعاني يكتشفها المؤمن عند قراءته للآيات الكثيرة التي تنهى عن
مثالب النفس الأمارة (124)
الإعجاب بأموال الجاحدين الظالمين الذين سيعذبون بها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]
ويضرب الأمثلة الكثيرة على أولئك الذين فشلوا في الاختبارات المرتبطة بالمال، كما فشلوا في الاختبارات المرتبطة بغيره، فيقول: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]
ويخبر عن الأموال التي أصبحت حسرة للمحبين لها بعد فشلهم في الاختبارات المرتبطة بها، فيقول: {ن الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]
ويخبر عن مصير أولئك الأحبار والرهبان الذين باعوا دينهم بالأموال، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]، ثم يذكر بعض مظاهر ذلك العذاب، فيقول: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35]
ويخبر عن مصير الحريصين الذين أداهم حب المال إلى أكل أموال اليتامى، فيقول: {إِن الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]
مثالب النفس الأمارة (125)
وغيرها من الآيات الكريمة التي تعطي صورة أخرى للمال، غير تلك الصورة التي يراه بها المتثاقلون إلى الأرض، فهي تصوره بكونه عبارة عن صفائح محماة تكوى بها الجباه والجنوب والظهور، أو نيران تغلي بها البطون، أو انتكاسة تخسف بصاحبها، فيتحول من الحرية التي وهبها الله له إلى العبودية التي ارتضاها لنفسه.
وفي مقابل هذه الصورة ذلك المال الذي عرف صاحبه كيف يتعامل معه، فلم يكسبه إلا من حله، ولم يصرفه إلا في محله، ولم يملأ به قلبه، ولم يشغل به نفسه؛ فهو يتحول إلى نعمة لصاحبه، ووسيلة إلى رضوان ربه، كما قال تعالى عن المنفقين في سبيل الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 261، 262]
وقال عنهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]
وقال عن المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَفَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95]
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن أول ما عليك القيام به لتحقيق العلاقة الصحيحة بينك وبين المال، هي أن تعتقد أن المال مال الله، وأنك مجرد مستخلف فيه، وأنه
مثالب النفس الأمارة (126)
ليس لك كامل الحرية في طرق كسبه، أو التصرف في إنفاقه.
ولذلك فإن وظائفك المرتبطة به هي القيام نحوه بما تقتضيه عبوديتك لله، كما قال تعالى: {قُلْ إِن صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]
فإذا طلبت الشريعة منك، بحكم قدراتك ومواهبك أن تكون صاحب أموال كثيرة؛ فإن عبوديتك حينها أن تجلب ما قدرت عليه من الأرزاق التي يحتاجها إخوانك في الإنسانية، سواء بالاتجار فيها، أو بصناعتها، لأنك بذلك تكون قد تخلقت باسم الله: (الرزاق) ويكون لك من الأجر إذا نويت ذلك ما لا يخطر له على بال.
لكنك إن رحت تكنز ذلك المال، أو تكتفي باستعماله في الترف وشؤونك الخاصة؛ فإنك حينها تخرج من عبوديتك لربك، وتصبح عبدا لمالك، لا عبدا لربك.
ولذلك أجاب الله تعالى من سألوا عن حدود الإنفاق بقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، فالعفو في الآية الكريمة يعني كل ما فضل عن الحاجات الخاصة، والتي لا تبلغ مبلغ المترفين.
والإنفاق فيها لا يشمل فقط تلك الصدقات، ولا تلك الزكوات التي نص عليها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]؛ فلم يقل أحد من المتقدمين أو المتأخرين بأن كل دينار فضل عن الحاجة يجب التصدق به، ولو كان الأمر كذلك لم يكن لأحكام الزكاة وأنصبتها ومقاديرها أي معنى.. ولكن المراد هو استثمار تلك الأموال في كل الأعمال التي تعود بالمصلحة على البشر.
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الذي يقرض غيره ينال أجرا زائد على المتصدق مع أن مال الصدقات يذهب عن صاحبه ولا يرجع، ومال القرض يرجع، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (رأيت ليلة أسري بي مكتوباً على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر) فقلت
مثالب النفس الأمارة (127)
لجبريل: (ما بال القرض أفضل من الصدقة؟) قال: (لأن السائل يسأل وعنده شيء، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة) (1)
ولهذا ورد النهي الشديد عن كنز المال وادخاره، وعدم الاستفادة منه، أو ترك الغير ليستفيد منه، لأن ذلك يجعل من المال مقصودا لذاته، لا وسيلة لغيره، وقد ورد في الحديث أن رجلا من أهل الصفة مات، فوجد في بردته دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كية)، ثم مات آخر فوجد له ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كيتان) (2)
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفعل مثلما فعل ذلك الذي أراد أن يخرج حب المال من قلبه، فراح يرميه في النهر، كما حدث عن ذلك بعضهم، فقال: دخلت على الشبلي، فقال مفتونا يا أحمد، فقلت: ما الخبر؟ قال: كنت جالسا فجرى بخاطري أنك بخيل: فقلت: ما أنا بخيل؛ فعاد منى خاطري، وقال: بل أنت بخيل، فقلت: ما فتح اليوم علي بشي ء إلا دفعته إلى أول فقير يلقاني.. فما استتم الخاطر حتى دخل علي صاحب المؤنس الخادم، ومعه خمسون دينارا، فقال: اجعلها في مصالحك؛ فقمت فأخذتها وخرجت. وإذا بفقير مكفوف بين يدي مزين يحلق رأسه، فتقدمت إليه، وناولته الدنانير، فقال: أعطها المزين، فقلت: إن جملتها كذا وكذا، قال: أو ليس قد قلنا لك إنك بخيل؟ قال: فناولتها المزين، فقال المزين: قد عقدنا لما جلس هذا الفقير بين أيدينا أن لا نأخذ عليه أجرا.. فرميت بها في دجلة، وقلت ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل (3).
فرمي المال حرام، وفاعل ذلك مثل من يرمي السلاح من يده في معاركه مع العدو الظالم، أو مثل من يتخلى عن مسؤوليته تجاه من كلف بالإنفاق عليهم.
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير..
(2) رواه الطبري.
(3) إحياء علوم الدين (3/ 25)
مثالب النفس الأمارة (128)
وقد كان في إمكانه إن شاء أن يرحل إلى المسافات البعيدة ليبحث عن المستحقين لذلك المال؛ فيكون له به الأجر العظيم، ويكون قد أدى ما كلف به من تلك التكاليف الشرعية الكثيرة التي تعتبر الإنفاق على الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات أساسا من أسس الدين، كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1 - 3]
لكن عزل الشريعة، وتحكيم الهوى في الدين، يجعل من صاحبها عرضة لوساوس الشيطان، الذي يزين له ما يفعله من الآثام، موهما إياه أنه يسعى في تزكية نفسه، وهو لا يعلم أن تزكية النفس لا تكون إلا بمقتضى الشرع.
ولهذا فإن عليك ـ أيها المريد الصادق ـ إن أردت أن تنجح في الاختبارات المرتبطة بالمال أن تجيب على تلك الأسئلة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا قبل الآخرة، فقد ورد في الحديث:
(ما تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه) (1)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الدنيا خضرة حلوة، من اكتسب فيها مالا من حله وأنفقه في حقه أثابه الله عليه وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالا من غير حله وأنفقه في غير حقه أورده الله دار الهوان، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة، يقول الله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} (الاسراء: 97) (2)
وقال: (لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا من سحت والنار أولى به) (3)
__________
(1) رواه الترمذي وصححه.
(2) رواه البيهقي.
(3) رواه ابن حبان في صحيحه.
مثالب النفس الأمارة (129)
وقال: (لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) (1)
ثم إن عليك ـ أيها المريد الصادق ـ لتنفي عن قلبك كل تعلق بالمال يصرفك عن ربك، أن تجمل في الطلب، ولا تبالغ فيه، ولا في الحرص، فإن الشيطان قد يزين لك السعي في كسب المال لتنفقه في سبيل الله، ثم يشغلك بجمعه عن هدفك الذي قصدته، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَن وَلَنَكُونَن مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 75، 76]
وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أيّها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس للعبد إلّا ما كتب له، ولن يذهب عبد من الدّنيا حتّى يأتيه ما كتب له في الدّنيا وهي راغمة) (2)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي إن نفسا لن تموت حتّى تستكمل رزقها فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب) (3).
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الحرص أخطر الشواغل على القلب، لأنه يجعله منشغلا به انشغالا كليا عن كل مكرمة، وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى وراءهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب) (4)
__________
(1) رواه الترمذي، وفي رواية بسند حسن: (لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام)
(2) الحاكم في المستدرك ج 2 ص 4. والبيهقي في السنن ج 5 ص 264.
(3) الحاكم في المستدرك ج 2 ص 4 وابن أبي الدنيا في القناعة.
(4) البخاري ج 8 ص 115.
مثالب النفس الأمارة (130)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عزّ وجلّ يقول: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديا من ذهب لأحبّ أن يكون إليه الثاني، ولو كان له الثاني لأحبّ أن يكون إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب) (1)
وإنما يعينك على هذا ـ أيها المريد الصادق ـ أن تقنع من الدنيا بما يكفيك، ولا تتجاوزه إلى ما يطغيك، كما ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به) (2)، وهذا لا يضاد الغنى كما قد يتوهمه المتوهمون، وإنما يضاد الترف.. فصاحب المال الذي يستثمره فيما ينفع الخلق مجرد وكيل فيه، ولذلك لا يتصرف فيه كمالك، وإنما كصاحب مسؤولية يحاسب نفسه على كل دقيق وجليل تجاهها.
وقد قال بعض الصالحين مشيرا إلى هذا: (أهل الأموال يأكلون ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، لهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر معهم إليها وعليهم حسابها ونحن منه براء)
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الغنى الحقيقي هو غنى النفس، وليس غنى العرض والمتاع، فذلك غنى قارون، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس) (3)
وقال: (كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قانعا تكن أشكر الناس، وأحبّ للناس ما تحبّ لنفسك تكن مؤمنا) (4).
و روي أن موسى عليه السّلام سأل ربّه تعالى فقال: (أيّ عبادك أغنى؟ قال: أقنعهم
__________
(1) أحمد ج 5 ص 219 وابن ماجه رقم 4235.
(2) الترمذي ج 9 ص 211 وقال: حسن صحيح.
(3) البخاري ج 8 ص 118.
(4) ابن ماجه رقم 4217.
مثالب النفس الأمارة (131)
لما أعطيته، قال: فأيّهم أعدل؟ قال: من أنصف من نفسه)
هذه بعض وصاياي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ في شأن المال، فاسمعها سماع المؤمنين، لا سماع المجادلين، وسترى كيف يملأ الله قلبك بالغنى به، فمن استغنى بغير الله افتقر، ومن ملأ قلبه بغير محبته انتكست طبيعته، وتسلطت عليه نفسه الأمارة، واجتمع عليه كل شياطين الإنس والجن.
مثالب النفس الأمارة (132)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الفرح الذي ملأ قلبك بسبب ذلك الاستقبال الذي لقيته في تلك المدينة التي زرتها، وكيف أنهم أكرموك، وكرّموك، وقدموا لك كل أصناف الهدايا.. وأنك طيلة مكوثك معهم كنت كالملك عليهم، يأتمرون بما تأمر، وينتهون عما تنتهي..
وأخبرتني أنهم ذكروا لك ـ في معرض ثنائهم عليك ـ أن الملوك وإن كانوا يملكون أرضهم؛ فأنت تملك قلوبهم ومشاعرهم، وأنك لذلك أغنى من الملوك.. لأن مالهم جميعا لك ومن حقك.. ذلك أنهم وإن كانوا يعطونه للملوك كراهية، فهم يعطونه لك طوعا، وليس عليك سوى الإشارة بطلب ذلك، ولست بحاجة مثل الملوك لسطوة ولا لشرطة ولا لأي عنف.
وأرسلت لي مع كل تلك الأخبار السارة، تلك القصائد التي مدحوك بها، ومثلها تلك التي هجوا بها أعداءك.
وأنا لا ألومهم على ذلك التكريم الذي كرموك به؛ فهو دليل على طيبتهم وأخلاقهم، واحترامهم لأهل العلم، وتطبيقهم وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فاحترام العلماء دليل على صفاء النفس ورقة الطبع؛ وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن كل شيء يحترم أهل العلم حتى الحوت في البحر؛ ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر
مثالب النفس الأمارة (133)
على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) (1)
ولا ألومك ـ كذلك ـ على ذلك الفرح الذي قابلت به استقبالهم، والبشر الذي أبديته لهم؛ فما كان لك أن تعبس في وجوههم، ولا أن تقابل إكرامهم بالجفاء والغلظة والقسوة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) (2)
لكن الذي ألومك عليه، أو أحذرك منه أن يتحول ذلك التكريم الذي حظيت به إلى مثلب من مثالب النفس الأمارة، يجعلك تشعر بأنك حقيق بذلك الاحترام والتقدير، وأن عليهم أن يفعلوا ذلك بك، وإن قصروا لمتهم، لأنك حينذاك تقع فيما حذرت منه النصوص المقدسة من حب الجاه والسمعة، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (بحسب المرء من الشرّ إلّا من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه، إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم) (3)
وذكر صلى الله عليه وآله وسلم خطورة ذلك على القلب، ودوره في تنمية بذور النفاق فيه، فقال: (حبّ الجاه والمال ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) (4).. وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، ذلك أن مثل ذلك التكريم الذي يحظى به صاحب الجاه قد يجعله يتوانى في النصيحة، أو يقصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرضاء لمن يكرمونه ويثنون عليه، وذلك ما قد يجعله يحسن لهم سيئاتهم، وهو النفاق بعينه، وقد أشار بعض الصالحين إلى ذلك، فقال: (إذا
__________
(1) أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي.
(2) البخاري في الأدب والترمذي وابن حبان.
(3) رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب.
(4) قال العراقي في تخريج أحاديث [إحياء علوم الدين (3/ 159)]: رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة بسند ضعيف إلا أنه قال حب الغناء وقال العشب مكان البقل.
مثالب النفس الأمارة (134)
رأيت الرجل يحب أن يحبه الناس كلهم ويكره أن يذكره أحد بسوء فاعلم أنه منافق، فهذا داخل في وصف الله تعالى المنافقين بقوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 91]، ثم قال بعدها: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91])
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خطور حب الجاه على الدين، فقال: (ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فسادا من حبّ الجاه والمال والشرف في دين الرّجل المسلم) (1).
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر بين أن الهلاك وفساد الأديان لم يرتبط بحب المال فقط، وإنما ارتبط معه بحب الجاه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما هلك الناس باتّباع الهوى وحبّ الثناء)، وفي رواية: (حب الثناء من الناس يعمي ويصم) (2)
وهكذا ورد عن أئمة الهدى التحذير من أولئك الذين قد تحولهم الشهرة والرئاسة والجاه إلى عبيد عند الخلق، يداهنونهم، ويرضونهم، ولو بسخط الله، فقد قال الإمام الصادق: (إيّاكم وهؤلاء الرّؤساء الّذين يترأسون فو الله ما خفقت النعال خلف رجل إلّا هلّك وأهلك) (3).
وفي حديث آخر ذكر ما هو أخطر من ذلك، فقال: (ملعون من ترأّس، ملعون من همّ بها، ملعون من حدّث بها نفسه) (4)، وقال: (من أراد الرّئاسة هلك) (5)
وأوصى الإمام الكاظم بعض مريديه وتلاميذه، فقال: (ويحك يا أبا الرّبيع لا تطلبن
__________
(1) الكافي ج 2 ص 297.
(2) أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس.
(3) الكافي ج 2 ص 297.
(4) الكافي ج 2 ص 298.
(5) الكافي ج 2 ص 298.
مثالب النفس الأمارة (135)
الرّئاسة، ولا تكن ذئبا، ولا تأكل بنا الناس، فيفقرك الله، ولا تقل فينا ما لا نقول في أنفسنا فإنك موقوف ومسئول لا محالة، فإن كنت صادقا صدّقناك وإن كنت كاذبا كذّبناك) (1)
إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ ودب إلى نفسك الحنين إلى التخلص من هذا المثلب وكل ثماره السامة التي ينتجها، فاعلم أنك تحتاج إلى علاجين: معرفي تقنع به عقلك، وسلوكي تسير به في حياتك.
أما الأول، فيبدأ بمعرفتك لخطر حب الجاه على قلبك، ودوره في إنبات شجرة النفاق التي هي أسوأ الأشجار، وأكثرها سمية، وكيف لا تكون كذلك، وهي التي توعد الله أهلها بالدرك الأسفل من النار، فقال: {إِن الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]
وفي مقابلهم ورد الثناء العظيم على من لم يستعبد حب الجاه قلبه؛ فلذلك صار لا يبالي بالظهور، ولا بالخفاء، لأنه عبد الله، لا عبد القلوب التي يتوهم أنه امتلكها؛ فقد أخبر الله تعالى عن الجزاء العظيم المعد لهم، فقال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]
وانظر ـ أيها المريد الصادق ـ كيف جمع الله تعالى بين إرادة العلو والفساد، لتعلم أن كل من يريد أن يعلي ذاته لا الحق الذي يمثله سيقع في الفساد لا محالة، وكيف لا يقع فيه، وهو لم يرد ربه، وإنما أراد نفسه.
ولهذا أثنى الله تعالى على أولئك الذين جهل الناس قدرهم، بكونهم لا يريدون إلا الله، قال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:
__________
(1) الكافي ج 2 ص 298.
مثالب النفس الأمارة (136)
52]
ومثله تلك الأحاديث الكثيرة التي تثني عليهم أعظم الثناء، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك) (1)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أدلّكم على أهل الجنة؟: كلّ ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبرّه، وأهل النار كلّ متكبّر جوّاظ) (2)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من امّتي من لو أتى أحدكم يسأله دينارا لم يعطه إيّاه، ولو سأله درهما لم يعطه إيّاه، ولو سأله فلسا لم يعطه إيّاه، ولو سأل الله تعالى الجنة لأعطاها إيّاه، ولو سأله الدّنيا لم يعطه إيّاها، وما منعها إيّاه إلّا لهوانها عليه، ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه) (3).
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن اليسير من الرّياء شرك، وإن الله يحبّ الأتقياء الأخفياء الّذين إن غابوا لم يفقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كلّ غبراء مظلمة) (4).
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أغبط أوليائي عبد مؤمن خفيف الحاذّ ذو حظّ من صلاة أحسن عبادة ربّه وأطاعه في السرّ والعلانية وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع وصبر على ذلك)، ثمّ نقر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده فقال: (عجّلت منيّته وقلّ تراثه وقلّت بواكيه) (5)
__________
(1) مسلم ج 8 ص 36 و154.
(2) مسلم ج 8 ص 154.
(3) الطبراني في الأوسط، كما في مجمع الزوائد ج 10 ص 264.
(4) الحاكم وقال: صحيح الاسناد، وابن ماجه رقم 3989.
(5) ابن ماجه رقم 4117. ورواه الكليني في الكافي ج 2 ص 141.
مثالب النفس الأمارة (137)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرّة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السّاقة كان في السّاقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفّع) (1)
فردد ـ أيها المريد الصادق ـ بينك وبين نفسك هذه الأحاديث العظيمة، واستشعر ذلك الجزاء العظيم الذي يناله من ضحى بجاه الدنيا، في سبيل ربه، ذلك الذي يكرمه الله بكل أنواع الكرامة، فيتقبل أعماله ويقربه إليه، ويحبه.
فأيهما أفضل لك، هل ذلك الجاه الذي تملك به بعض قلوب البشر، ولوقت محدود، أم ذلك الجاه الذي تناله عند ربك، ملائكته وعباده الصالحين، كما قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن من سنن الله تعالى في الجزاء والعقوبة أنه يعاقب كل شخص أعرض عنه إلى غيره، بذلك الغير.. فمن آثر المال على الله عاقبه بماله، كما قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]
ومن آثر أهله وأولاده على مرضاة ربه، عوقب بنفورهم منه أحوج ما يكون إليهم، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37]
وهكذا، فإن من أرضى الناس بسخط الله ابتغاء للجاه عندهم، يعاقَب بأن تحول القلوب عنه، فيتحول حبها له بغضا، وقربها منه بعدا، وصداقتها له عداوة، كما قال تعالى:
__________
(1) رواه البخاري.
مثالب النفس الأمارة (138)
أنه قال: (من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس) (1)، وفي رواية: (من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)
إذا علمت كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ ورددته بينك وبين نفسك، وتأملت فيه حق التأمل؛ فإن أول نتيجة لذلك هو أن تحن نفسك للخروج عن أسر كل شيء، حتى تصبح عبدا لربك وحده.
وذلك ما يستدعي منك الكثير من الأعمال التي تثبت بها صدق ذلك الحنين، وأولها ألا تبحث عما يبحث عنه طلاب الجاه من وسائل امتلاك القلوب، وهي كثيرة جدا، منها ما عبر عنه الإمام عليّ بقوله: (تبذّل ولا تشتهر، ولا ترفع شخصك لتذكر وتعلم، واكتم واصمت تسلم تسرّ الأبرار وتغيظ الفجّار) (2)
ومنها ما عبر عنه بعض الصالحين بقوله: (والله ما صدّق الله عبد إلّا سرّه أن لا يشعر بمكانه)
وقال آخر: (إن خفق النعال حول الرّجال قلّما تلبث عليه قلوب الحمقى)
وأوصى بعض الصالحين مريدا له، فقال: (إن استطعت أن تعرف ولا تعرف، وتمشي ولا يمشي إليك، وتسأل ولا تسأل فافعل)
و خرج بعض الصالحين في سفر فتبعه ناس كثير، فقال: (لو لا أني أعلم أن الله يعلم
__________
(1) رواه الترمذي (2414)
(2) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 109
مثالب النفس الأمارة (139)
من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله)
وعوتب بعضهم في طول قميصه، فقال: (إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله، وهي اليوم في تشميره)
وقال آخر: (كانوا يكرهون الشهرتين الثياب الجيّدة والثياب الرديّة إذ الأبصار تمتدّ إليهما جميعا)
إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فإياك أن يتطرق إلى قلبك سوء الظن بالأنبياء والصالحين الذين ملأ ذكرهم الآفاق، وامتلأت القلوب بمحبتهم، وكان لهم من الجاه ما لم يظفر به أحد في الدنيا، ولا في الآخرة؛ فالذي تولى ذلك عنهم هو الله، ولم يكن بجهدهم، ولا برغبتهم، وإنما هو جزاء إلهي على عبوديتهم لله، وإرضائهم له ولو بسخط الناس..
وفرق كبير بين أن تسعى لنيل الجاه، وتضحي بدينك من أجله، وبين أن يأتيك الجاه من غير أن تقصده، أو تطلبه، أو تحن إليه.
ولذلك كان الكامل من السالكين ليس من هرب من الجاه، أو الظهور، وإنما من ترك الأمر لربه، فهو عبد ربه إن شاء أظهره أو شاء أخفاه.. وقد قال بعض الحكماء في ذلك: (من أراد الظهور فهو عبد الظهور، ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء، أما من أراد الله وهو عبدٌ له، فهو الذي إذا شاء أظهره وإذا شاء أخفاه، لا يختار لنفسه ظهورا ولا خفاءً)
بل إن من الصالحين من يسأل لنفسه الظهور، لا لذاته، وإنما لكونه ممثلا للحق، ولا يمكن أن ينتشر الحق ويظهر من دون أن يظهر ذلك الذي مثله، كما قال الله تعالى حاكيا دعاء إبراهيم عليه السلام بأن يكسبه الله جاها وسمعة، فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]
وهكذا منّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم برفعة الذكر، وهي دليل على رفعة الدين، فرسول
مثالب النفس الأمارة (140)
الله صلى الله عليه وآله وسلم ممثل للدين، ورفعته رفعة له، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، وهكذا قال عن الأنبياء والصالحين: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 50]
لكني مع ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ وحرصا عليك أنصحك ـ ما دمت في بداية سلوكك ـ أن تبتعد عن كل ما يمكن أن يأسر قلبك، أو يصرفك عن الطريق الذي تريد السير فيه؛ ذلك أن الشيطان قد يزين لك ذلك الظهور الذي أتاك من حيث لا تحتسب، فيقصم به ظهرك، ويصرفك به عن ربك.
وقد قال بعض الحكماء في ذلك محذرا: (ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لن يتم نتاجه)
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تقع فيما وقع فيه بعضهم عندما راح يتخلص من الجاه بمعصيته لربه، كما روي عنه أنه قال: (نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح؛ فتشتت علي قلبي، فدخلت الحمام، وعدلت إلى ثياب فاخرة فسرقتها، ولبستها، ثم لبست مرقعتي فوقها، وخرجت وجعلت أمشي قليلا قليلا؛ فلحقوني، فنزعوا مرقعتي، وأخذوا الثياب وصفعوني وأوجعوني ضربا؛ فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام؛ فسكنت نفسي) (1)
فإن ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ مخالف للشريعة، ونحن لم نطالب بتهذيب نفوسنا بما نبتدعه من بدع لأنفسنا، وإنما طولبنا بأن نهذبها ونزكيها بما علمنا ربنا.
ثم إننا ـ أيها المريد الصادق ـ لم نطالب بالتخلص من الجاه كلية، ففرق بين أن يستعبدنا الجاه، وبين أن يكون لنا بعض الجاه الذي نوفر به الأمان والاستقرار لأنفسنا.. فالجاه مثل المال، لا يمكن التخلص كلية منه.
__________
(1) إحياء علوم الدين (4/ 358)
مثالب النفس الأمارة (141)
ولذلك، فإنك إذا أحببت أن يكون لك بعض الجاه عند أستاذك حتى تستفيد من علومه، أو يكون لك بعض الجاه عند جيرانك حتى يحترموك وتحترمهم.. فإن ذلك لا حرج فيه، لأنك لم تقصد استعباد قلوبهم، وإنما طلبت أن تكون لك العلاقة الطيبة بهم، تلك التي لا يمكن أن تؤدي أوامر ربك من دونها.
ولهذا ورد في الحديث عن أبي ذر، أنه قال: (يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيحمده الناس عليه، ويثنون عليه به؟)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تلك عاجل بشرى المؤمن) (1)
وفي حديث آخر أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن دور ثناء المؤمنين الصادقين، فقال: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة)، فقيل: وثلاثة؟ قال: وثلاثة.. قيل: واثنان، قال: واثنان (2).
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن يلبس عليك الشيطان؛ فيدعوك إلى إظهار سيئاتك وعيوبك، ويغرك في ذلك عن نفسك، ويوسوس لك بأن من النفاق أن تظهر حسناتك وتكتم سيئاتك.. فإن ذلك ليس من النفاق، بل هو من الإيمان.
والشيطان لا يريد منك بذلك أن تهذب نفسك، وإنما يريد أن يجعلك وسيلة لنشر الرذيلة والانحراف، وتهوين شأنهما بين الخلق، ولذلك كان إظهار المعاصي كبيرة من الكبائر، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه فيصبح يكشف ستر الله عز وجل عنه) (3)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يكون في آخر هذه الأمّة خسف ومسخ وقذف). قيل: يا رسول الله،
__________
(1) مسلم (2642)
(2) البخاري (2643)، والترمذي (1059)، والبزار (312)
(3) البخاري ومسلم.
مثالب النفس الأمارة (142)
أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: (نعم إذا ظهر الخبث) (1)
هذه وصيتي ـ أيها المريد الصادق ـ إليك، فاحفظها، وحاول أن تستعمل كل ما أوتيت من حيلة لتخلص نفسك من أي تسلل لهذا المرض الخبيث إلى قلبك، فإنه إن تسلل إليه أفسده، وقد يصل الفساد إلى مرحلة يصعب معها العلاج.. فتدارك الأمر من أوله، وتأمل قلبك، فهو رأسمالك، لا تدعه إلا لربك.. فلا خير في أن يقربك الخلق ويحبوك، ويبعدك الله ويبغضك.
__________
(1) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب.
مثالب النفس الأمارة (143)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن تلك النشوة التي اعترتك، والفرحة التي غمرتك عند سماعك لتلك الكلمات التي قيلت في الثناء عليك ومدحك، وذكرت لي أنك صرت بعدها أكثر نشاطا، وأنها جعلتك تبذل جهودا مضاعفة فوق التي كنت تبذلها.
لكنك عدت فذكرت لي بأسف كيف أثرت فيك كلمات من سميتهم أعداءك والحاقدين عليك، فجعلتك متوانيا كسولا غير قادر على القيام بأي عمل.
وأظن أنك لو تأملت ـ أيها المريد الصادق ـ في كلا الحالتين اللتين مرتا بك، علمت جواب سؤالك، فجوابه ليس في مطالبة الموالين بالثناء والمدح، أو مطالبة المعادين بالكف عن الهجو والقدح، وإنما مطالبة النفس بعدم الاستماع أو الاهتمام لكلا الطرفين.. المادح والقادح، والمثني والذام.. فعبوديتك لله، وحريتك، تستدعي التحرر منهما جميعا.
ذلك أنك مع كليهما لن تذوق طعم الراحة، ولن تسكن بك الحياة.. فقلوب الذين أثنيت على وفائهم وصدقهم من الذين مدحوك قد تتقلب، وترتد عليك، وتعود لتهجوك مثل الذين تعتبرهم أعداءك.
ولعلك ـ أيها المريد الصادق ـ سمعت قصة المتنبي مع صديقه القديم سيف الدولة والذي كتب القصائد الكثيرة في مدحه، لكنه لم يلبث إلا قليلا، حتى عاد لهجائه، ووصفه بالغَّدار، وهو أبشع الأوصاف وأشنعها، فقد قال فيه مخاطبا كافور في فترة صداقته له:
حببتك قلبي قبل حبك من نأى... وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
فإن دموع العين غدر بربها... إذا كن إثر الغادرين جواريا
ولكن بالفسطاط بحر أزرته... حياتي ونصحى والهوى والقوافيا
وهكذا راح يصف كافورا بكونه أبا المسك، وأنه شمس منيرة سوداء، وأنه الأكثر
مثالب النفس الأمارة (144)
تجربة بين الملوك، وأنه الأستاذ الكريم الشجاع.. وأن على الملوك تبديل بياض وجهها بلون كافور الأسود، ويقول له:
كرم في شجاعة وذكاء... في بهاء وقدرة في وفاء
من لبيض الملوك أن تبدل اللون... بلون الأستاذ والسحناء
ويقول في قصيدة أخرى:
ومن مثل كافور إذا الخيل أحجمت... وكان قليلا من يقول لها أقدمي
شديد ثبات الطرف والنقع واصل... إلى لهوات الفارس المتلثم
فلو لم تكن في مصر ما سرت نحوها... بقلب المشوق المستهام المتيم
رضيت بما ترضى لي محبة... وقدت إليك النفس قود المسلم
ومثلك من كان الوسيط فؤاده... فكلمة عنى ولم أتكلم
لكنه ما لبث أن راح يهجوه بأبشع هجاء وأقذعه، حتى نسي الناس كل أشعار مدحه له، ولم يعودوا يذكرون إلا قوله له:
العبد ليس لحر صالح بأخ... لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه... إن العبيد لأنجاس مناكيد
نامت نواطير مصر عن ثعالبها... فقد بشمن وما تفنى العناقيد
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن... يسيء بي فيه عبد وهو محمود
بل إنه لم يكتف بهجاء كافور حاكم مصر وحده، وإنما راح يهجو المصريين جميعا بسبب عدم ثورتهم عليه، ويقول لهم:
وماذا بمصر من المضحكات... ولكنه ضحك كالبكا
بها نبطي من أهل السواد... يدرس أنساب أهل الفلا
وأسود مشفرة نصفه... يقال له أنت بدر الدجى
فما كان ذلك مدحا له... ولكنه هجو الورى
ومن جهلت نفسه قدره... رأى غيره منه مالا يرى
هذا مجرد مثال ـ أيها المريد الصادق ـ عن تقلب القلوب بالمدح والهجاء، ولعلك قرأت ما ورد في السيرة النبوية المطهرة عن عبد الله بن سلام، فقد روي أنه بعد إسلامه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا رسول الله، إن اليهود قد علمت أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، وأنهم قوم بهت، وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني، وقالوا في ما ليس في، فأحب أن تدخلني بعض بيوتك)، فأدخله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض بيوته، وأرسل إلى اليهود فدخلوا عليه، فقال: (أي رجل فيكم الحصين بن سلام؟) قالوا: (خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا)، فقال: (أرأيتم إن أسلم)، قالوا: (أعاذه الله من ذلك)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا ابن سلام اخرج إليهم)، فخرج عبد الله فقال: (أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله حقا، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة: اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه)، قالوا: (كذبت أنت شرنا وابن شرنا)، وانتقصوه، فقال عبد الله: (هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؟) (1)
وقد عبر الشاعر عن هذا الواقع المؤلم للبشر، ودعا إلى عدم الركون إلى مدحهم وذمهم، فقال:
وما أحد من ألسن الناس سالما... ولو أنه ذاك النبي المطهر
فإن كان مقداما يقولون أهوج... وإن كان مفضالا يقولون مبذر
وإن كان سكيتا يقولون أبكم... وإن كان منطقيا يقولون مهذر
وإن كان صواما وبالليل قائما... يقولون زراف يرائي ويمكر
فلا تحتفل بالناس في الذم والثنا... ولا تخش غير الله فالله أكبر
إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تطهر أرض قلبك من أشواك كل المادحين أو القادحين.. حتى يصبح قلبك لله وحده.. فحب المدح مثلب من مثالب النفس الأمارة التي لا يمكنك أن تسير في طريق الله قبل أن تتخلص منها.
وسأضع بين يديك علاجين يمكنك استعمالهما، لتطهير أرض نفسك من كل تلك المؤثرات التي تبعدك عن ربك وعن حقيقتك وعن سعادتك.
أما الأول، فيبدأ بمعرفتك لخطر المدح، وأثره فيك، وكونه شبكة قد يصطادك بها الشيطان ليبعدك عن حقيقتك وقيمك ووظيفتك في هذه الحياة.
ذلك أن الذين مدحوك، لم يفعلوا ذلك إلا لكونك أرضيتهم، ووافقت أهواءهم، ولو أنك خالفتها لانقلبوا عليك.. ولذلك، فإن مدحهم لك غل في رقبتك يجعلك تحتاط من أن تتسبب فيما يجعلهم ينقلبون عليك.
وذلك ما يجعلك عبدا لهم، ولمدحهم؛ فلا ترى رأيا، ولا تذهب مذهبا إلا إذا علمت رضاهم عنك فيه، وهذا ما يحول بينك وبين حقيقتك ودينك وقيمك..
وهكذا التفاتك لمن ذمك أو هجاك، فهو قد يدعوك إلى ظلمهم وممارسة كل أنواع الجور عليهم، انتقاما لنفسك، وشماتة فيهم، مع أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]
__________
(1) رواه البيهقي.
مثالب النفس الأمارة (145)
بل إنه يدعونا إلى الوقوف مع الحق، ولو في مواجهة أنفسنا وأقرب المقربين إلينا، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]
ولذلك كان التفاتك للمدح والذم أثره البالغ فيك وفي مواقفك التي قد تحاسب عليها عند ربك.. ذلك أنك لم تتعامل مع الحقائق بصدق وموضوعية، وإنما أدخلت فيها ذاتك، وجعلتها المعيار الذي تحدد به الصواب من الخطأ، والحق من الباطل.
ولذلك؛ فإن الصدق والعدل يدعوك ـ أيها المريد الصادق ـ إلى عدم الالتفات لما يقوله المادحون أو الذامون، فهم مهما عرفوك لن تبلغ معرفتهم بك معرفتك بنفسك..
فإن مدحوك بالكرم، وأنت بخيل، أو بالصدق وأنت كاذب، أو بالوفاء وأنت غادر.. لم يجدك ذلك عند ربك، فربك لا يسمع لما قالوا، وإنما ينظر إلى نفسك التي هي بين يديه مثل الصفحة التي كتب عليها كل شيء.. فلذلك لا تغرنك تلك الكلمات التي قيلت فيك.
وهكذا، إن ذموك بشيء ليس فيك.. فالله أكرم من أن يسمع لدعاواهم، فلذلك لا تشغل نفسك كثيرا بالرد عليهم، لأن الكذب والبهتان لن يقلب الحق باطلا، ولا الخير شرا.
لذلك كان انشغالك بنفسك، وبما تعرفه منها، أجدى لك من الاستماع لغيرك.. فكلمات غيرك ومواقفهم لن تفيدك سلبا، ولا إيجابا.. ما دمت تريد الحق والحقيقة، لا الوهم والسراب، وقد قال بعض الصالحين في ذلك: (علامة الزهد في الدنيا وفي الناس، أن لا تحب ثناء الناس عليك، ولا تبالي بمذمتهم، وإن قدرت ألا تعرف فافعل، ولا عليك ألا تعرف، وما عليك ألا يثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إن كنت محموداً
مثالب النفس الأمارة (146)
عند الله) (1)
ووعظ آخر بعض الخلفاء، فقال: (يا أمير المؤمنين إن أقواماً غرَّهم سترُ الله عز وجل، وفتنَهم حسنُ الثناء، فلا يغلبنَّ جهلُ غيرِك بك علمَك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون بالستر مغرورين، وبثناء الناس مسرورين، وعن ما افترض الله متخلفين مقصّرين، وإلى الأهواء مائلين) (2)
وقيل لبعض العقلاء: (ما أحسن ثناء الناس عليك؟)، فقال: (بلاء الله عندي أحسن من مدح المادحين وإن أحسنوا، وذنوبي أكثر من ذم الذامين وإن أكثروا، فيا أسفي فيما فرطت ويا سوأتا فيما قدمت) (3)
وقال بعض الصالحين: (إذا قيل لك: نعم الرّجل أنت، فكان أحبّ إليك من أن يقال لك: بئس الرّجل أنت، فأنت والله بئس الرّجل) (4)
ولهذا كله اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حب المدح وتأثيره في الممدوح مهلكا من المهلكات، فقال ـ عند سماعه لرجل يثني على آخر، ويبالغ في الثناء عليه: (أهلكتم ـ أو قطعتم ـ ظهر الرجل) (5)
وفي حديث آخر روي أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ويحك! قطعت عنق صاحبك.. إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله، ولا يزكى على الله أحد) (6)
__________
(1) حلية الأولياء (8/ 90)
(2) حلية الأولياء (8/ 18)
(3) شعب الإيمان (4/ 228)
(4) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 133.
(5) البخاري 3/ 231 (2663)، ومسلم 8/ 228 (3001) (67)
(6) البخاري 8/ 22 (6061)، ومسلم 8/ 227 (3000) (65)
مثالب النفس الأمارة (147)
ولهذا ورد في السنة المطهرة ذكر عقوبة المتملقين الذين يكثرون المدح ويبالغون فيه، وخاصة إن كان عن طمع، وذلك بأن يحثى على وجوههم التراب، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب) (1)
وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل هذه المعاني في دعائه الذي علمنا إياه عند سماعنا للمدح، حيث علمنا أن نقول: (اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي مالا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون) (2)
ففي هذا الدعاء دعوة لثلاث معارف مرتبطة بعلاج حب المدح:
أولها: الدعوة إلى عدم اعتبار ما يقولون في حال عدم صدقه، وذلك أخطر ما ينتجه المديح من ثمار، ذلك أن الممدوح قد يتوهم أنه حقيق بتلك الصفات مع خلوه عنها، كما قال تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188]
ثانيها: تذكر الذنوب التي لم يلتفت لها المادحون، وفي ذلك نفي للعجب الذي يسببه المدح.
ثالثها: السعي لأن يتصف بما هو أعظم من الأوصاف التي وصف بها، وفي ذلك نفي للغرور والكسل الذي يسببه المدح.
إذا علمت كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ ورددته بينك وبين نفسك، وتأملت فيه حق التأمل؛ فإن أول نتيجة لذلك هي سعيك للتخلص من كل تلك القيود التي تجعل
__________
(1) مسلم 8/ 228 (3002) (69)
(2) البخاري في الأدب المفرد برقم 761، والبيهقي في شعب الإيمان 4/ 228.
مثالب النفس الأمارة (148)
اجتهادك مرتبطا بثناء الخلق وذمهم؛ فأنت عبد الله، لا عبد من مدحك وذمك.
ولذلك اسع لأن تجعل كل أعمالك خالصة لوجه ربك، فيكفيك ثناؤه ومدحه، فلو اجتمع الخلق كلهم على ذمك، وأثنى عليك ربك لكان ذلك كافيا مغنيا لك عن غيره.. ولو اجتمعوا جميعا على مدحك، لم يغن ذلك عنك شيئا.. وكيف يغني عنك، وهو لا يستطيع أن يدفع عنك سيئة واحدة، ولا أن يجلب لك حسنة واحدة؟
ولا تكتف بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ بل اجعل من مديح غيرك أو ذمهم لك وسيلة لتهذيب نفسك وتزكيتها..
فإن سمعت من ثناء مادحيك ما لا تراه متوفرا لديك، فاسع لأن تجعل كذبهم صدقا؛ فتجتهد في تحقيق ما أثنوا به عليك؛ فلعل الله أنطقهم بذلك من باب النصيحة لك، لا من باب الثناء عليك.. فاسمع ثناءهم بهذا الاعتبار لتتهذب، ولا تسمعه ثناء لتغتر.
وهكذا.. اسمع لمن يذمك، فلعل فيك ما يذكره، فاعتبره من باب النصيحة.. ولا يعنيك سوء أدبه في نصحه لك، فالله تعالى هو الذي يتولى تأديبه على سوء أدبه.. وهل يمكنك أن تلوم شخصا إن نبهك إلى حريق يشب في بيتك، فتترك إطفاء الحريق، لتلومه على طريقة إخباره لك؟
فإذا رأيت أنه ذمك بما ليس فيك، فلا تحزن، بل امتلأ فرحا وسرورا، لأن الله تعالى خلصك من تلك الصفة التي ذمك بها، وأضاف إليك أجرا عظيما بذلك الإفك الذي قذفك به.. وهل يمكن لشخص من الناس أن يحزن على مكافأة جزيلة صرفت له بكلمات قليلة كاذبة قيلت فيه؟
واسمع ـ أيها المريد الصادق ـ لما قاله بعض المشايخ ناصحا بعض مريديه فيما عليه أن يواجه به من يذمونه بما هو بريء منه.. فهو لم يدعه إلى أن يوكل محاميا ليدافع عنه، ويصرف
مثالب النفس الأمارة (149)
أوقاتا وأموالا كثيرة لأجل ذلك، وإنما دعاه إلى ثلاثة أمور (1):
أولها: أن يتفكر في ستر الله عليه، لأن ذلك الذي ذمه لم يلتفت لعيوبه الحقيقية، وإنما التفت لغيرها، وربما تكون التي لم يلتفت لها أخطر من التي ذكرها.. ولذلك كان في التي ذكرها ـ ولو كانت كاذبة ـ عوضا عن التي لم يذكرها.
ثانيها: أنّ ذلك كفّارات لبقيّة الذنوب، و(كأنّه رماك بعيب أنت بريء منه، وطهّرك من ذنوب أنت ملوّث بها، وكلّ من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته وكلّ من مدحك فقد قطع ظهرك، فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات الّتي تقرّبك إلى الله، وأنت تزعم أنّك تحبّ القرب من الله)
ثالثها: أنّ المسكين الذي ذمك قد جنى على دينه حتّى سقط من عين الله جلّ وعزّ وأهلك نفسه بافترائه وتعرّض لعقابه الأليم؛ فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به الشيطان وتقول: (اللهمّ أهلكه)، بل ينبغي أن تقول: (اللهمّ أصلحه، اللهمّ تب عليه، اللهمّ ارحمه) كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون) لمّا ضربوه (2).
ومما يروى في ذلك عن بعض الصالحين أنه شجّ رأسه بالمغفرة، فلم يدع على من فعل به ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: (علمت أنّي مأجور بسببه وما نالني منه إلّا خير، فلا أرضى أن يكون هو معاقبا بسببي)
إذا علمت كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تخلي قلبك من ذلك القيد الوهمي الذي قيدك به المادحون والذامون، فأنت لم تنزل لهذه الدنيا ليكتب عنك الخلق قصائد المديح والثناء، وإنما نزلت لتكتب عنك الملائكة ذلك.. فهي التي كلفت بكتابة حسناتك
__________
(1) انظر: المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 135.
(2) رواه البيهقي في شعب الإيمان.
مثالب النفس الأمارة (150)
وسيئاتك.. فكل حسنة يكتبها الملك الذي على يمينك هي قصيدة في مدحك.. وكل سيئة يكتبها الملك الذي على يسارك هي قصيدة في هجائك..
فاسع لأن تمحو قصائد الهجاء، وتكثر من قصائد المدح، فإن تلك القصائد لن يسمعها أهل عصرك فقط، وإنما سيسمعها في أرض الموقف الخلائق جميعا..
ويا فضيحة من اهتم بقصيدة كتبها عنه في الدنيا صعلوك خطاء ممتلئ بالذنوب.. وانشغل عما تكتبه الملائكة البررة الطيبون الطاهرون المعصومون المبرؤون من الكذب والحقد والتملق وكل الأمراض التي تملي على المادحين أو الذامين قصائدهم.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الله تعالى قد يبتليك بمن مدحك أو ذمك، فيضعه بين يديك، ليرى ما تصنع فيه.. فإياك أن تتجاوز حدك، وحد عبوديتك، فتعطي المادح ما لا يستحق، وتحرم الذام ما يستحق.. فأنت عبد الله لا عبد نفسك، وأنت مطالب بأن تؤدي حق الله، ولا يضرك أن يخطئ الخلق في حقك، وقد قال الله تعالى آمرا بالإحسان للذامين: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]
وهكذا احذر ـ أيها المريد الصادق ـ مما ذكرته لي في رسالتك من تأثير المدح والذم فيك وفي نشاطك، فإن ذلك قد يقدح في إخلاصك لربك.. فاجتهد لأن تتخلص منه، وتكتفي بنظر الله إليك، فما يغنيك أن يرى غيرك عملك، وهو لا يضرك، ولا ينفعك، ولا يملك أن يكافئك، ولا يملك أن يعاقبك.
مثالب النفس الأمارة (151)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، وسر جمع الله تعالى بين إضاعة الصلاة واتباع الشهوات، وهل هناك علاقة بينهما؟
ومثل ذلك سألتني عن قوله تعالى: {وَالله يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]، وعن علاقة الانحراف باتباع الشهوات.
ثم عقبت كل أسئلتك بما ورد في النصوص المقدسة من أن حب الشهوات فطرة فُطر عليها الإنسان، وأنه لا يمكن استئصاله مطلقا، كما ورد في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14]؛ فليس هناك في الدنيا من ينفر قلبه عن حب ما ورد في الآية الكريمة من المشتهيات، المزينة في فطرة الإنسان، والتي لا يمكن خلعها أبدا.
وقد ختمت أسئلتك بطلب حل التعارض المرتبط بين الشهوات المزينة في النفس، والتي لا يمكن التخلص منها أبدا، وبين ما ورد في النصوص المقدسة من النهي عن اتباع الشهوات، واعتبارها مثلبا من مثالب النفس الأمارة.
وجوابا على سؤالك أذكر لك ـ ابتداء ـ بأن كل ما ذكرته من الإشكالات وجيه وصحيح، ولا يمكنني، ولا لأحد من العقلاء، أن يذكر لك بأن المجاهدة في استئصال الشهوات استئصالا مطلقا مجاهدة شرعية، إلا إذا كان من الرهبان الذين قال الله تعالى فيهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]
أو كان من أولئك الذين خلطوا دين الله بدين الرهبان؛ فتأثروا بهم، وسلكوا
مثالب النفس الأمارة (152)
سلوكهم، وتركوا الدين الإلهي الأصيل الذي مثله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصار دينهم مزيجا بين شريعة الله وشريعة الأهواء.
وقد ورد في الحديث أن مثل هذا النوع من الفهم ظهر في عهد النبوة؛ فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشدة، وبين غرابته على الدين، فقد روي أن ثلاثة من الناس جاءوا إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألون عن عبادته؛ فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: (أين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، ثم قال أحدهم: (أما أنا فأصلي الليل أبدا)، وقال الآخر: (وأنا أصوم الدهر أبدا، ولا أفطر)، وقال الآخر: (وأنا أعتزل النساء؛ فلا أتزوج أبدا)، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبرهم قال لهم: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) (1)
هل سمعت ـ أيها المريد الصادق ـ كلمة أشد من هذه الكلمة، وتحذيرا أعظم من هذا التحذير، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتبر ذلك التصرف مشينا أو تشددا فقط، وإنما اعتبره مخالفا لهديه، وأن الذي يفعل ذلك لا علاقة له برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا بالحنيفية السمحة التي جاء بها.
ومثل ذلك ما روي أنه بينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: (أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم)، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مروه، فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه) (2)
ومثل ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل، وهو يهادى بين ابنيه، فسأل عنه، فقالوا: نذر
__________
(1) البخاري 7/ 2 (5063)، ومسلم 4/ 129 (1401)
(2) البخاري 8/ 178 (6704)
مثالب النفس الأمارة (153)
أن يمشي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني)، ثم أمره أن يركب (1).
ومثل ذلك ما روي أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شكا له حاله، فقال: (يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين؛ فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، ونسينا كثيرا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، لكن ساعة وساعة) (2)
وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي تبين أن تهذيب النفس وتطهيرها لا علاقة له بتلك النعم التي أنعم الله بها علينا، وجعلنا نلتذ بها، ونفرح بما أهداه إلينا منها.
وكيف يكون ذلك، وقد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]
ثم عقب عليها ببيان المحرمات الحقيقية، فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الآيتين اللتين ذكرتهما، واللتين تعتبران اتباع الشهوات مثلبا من مثالب النفس الأمارة، لا تفهمان إلا في ضوء ما سبق من الآيات الكريمة، فالقرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، ولا تلغي آية منه أخرى، وكيف يكون ذلك، وهو الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:
__________
(1) أحمد (21/ 129)، وشرح معاني الآثار 3/ 129.
(2) مسلم 8/ 94 (2750) (12)
مثالب النفس الأمارة (154)
42]
وقبل أن أذكر لك تأويلهما، ووجه الجمع بينهما وبين تلك الآيات التي ذكرت أذكر لك مثالا يقرب لك ذلك.. وهو ما يفعله الطبيب عندما يصرف دواء معينا لمريض، وبدل أن يتقيد المريض بمقادير الوصفة التي وصفت له، يتجاوز المقادير المحددة، ويسرف في شرب الدواء لحلاوته ولذته.. فهل يمكن لهذا المريض أن ينجو بفعلته هذه.. أم أن الهلاك مصيره؟
وهكذا الأمر بالنسبة للشهوات التي أتيحت وأبيحت للإنسان في الدنيا؛ فهو إن تناولها برفق، وفي الحدود التي وصفت له، كان فيها نفعه وراحته وسعادته، لكنه إن أسرف فيها، وأدمن عليها، صار داؤه في دوائه، وصار حتفه في تلك اللذة الوهمية التي امتلكته، كما عبر الحكيم عن ذلك بقوله:
داؤك منك وما تبصر... دواؤك فيك وما تشعر
وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قريب من ذلك المثال، فقال: (إنّ ممّا أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدّنيا وزينتها)؛ فقيل له: يا رسول الله، أو يأتي الخير بالشّرّ؟ فسكت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هنيهة، ثم قال: (إنّه لا يأتي الخير بالشّرّ، وإنّ ممّا ينبت الرّبيع يقتل أو يلمّ، إلّا آكلة الخضراء، أكلت حتّى إذا امتدّت خاصرتاها استقبلت عين الشّمس فثلطت ورتعت، وإنّ هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السّبيل، وإنّ من يأخذه بغير حقّه كالّذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدا عليه يوم القيامة) (1)
لهذا، فإن هناك فرقا كبيرا بين ذلك الحب الفطري للشهوات المباحة، وبين اتباعها،
__________
(1) البخاري [فتح الباري]، 3 (1465)، 6 (2842)
مثالب النفس الأمارة (155)
والاستغراق في الميل إليها، لأنها ستجعل صاحبها أسيرا لها، خاضعا لمتطلباتها، ويترك كل شيء من أجلها، حتى الصلاة نفسها التي هي أساس علاقته بربه.. وذلك ما يجعله منحرفا عن حقيقته وحياته وطبيعته وأهدافه التي خلق من أجلها.
ويصبح حاله حينها حال ذلك الطفل الكسول الذي دخل الامتحان، وبدل أن يهتم بالإجابة على أسئلته راح يستغرق في الأحلام الجميلة، والألعاب الملهية إلى أن خرج من الامتحان من غير أن يجيب عن الأسئلة التي طرحت عليه، والتي كان عليها مدار نجاحه ورسوبه.. وهكذا حال من اتبعوا الشهوات، وغفلوا عن حقيقتهم، وعن الدور العظيم الذي أنيط بهم في هذه الحياة الدنيا.
لا تيأس ـ أيها المريد الصادق ـ فليس هناك داء إلا وله دواء.. فلذلك أنصحك ـ إن خفت على نفسك من أن تكون من أتباع الشهوات ـ بهذين العلاجين.
أما أولهما؛ فأن تعلم أن الله تعالى ما وفر لك الشهوات في الدنيا، لتنعم بها، أو تنشغل باتباعها، وإنما خلقها لتعبر منها إليه؛ فتعلم أن لك ربا رحيما كريما لطيفا، يراعي حاجاتك بدقيقها وجليلها، ويوفرها لك كما تحتاجها بالضبط، ومن غير أن تسأله.
وحين تعلم ذلك، تخرج عن تلك القسوة التي يمارس بها أتباع الشهوات شهواتهم، حين يتعاملون معها بكل حدة، وكأنها ملك لهم، لا ملك لله تعالى.. بخلاف المؤمن الذي يمتلئ قلبه ذكرا لله، فيذكر اسمه، ويحمده، ويثني عليه عند تناولها.. ويشعر بأن الله تعالى هو الذي من عليه بها.. وبذلك تصبح دليله إلى ربه، لا حجابا بينه وبينه، كما روي عن بعض الشيوخ أنه قال لمريد له رآه يشرب الماء الساخن في الصيف الحار: (برّد الماء؛ فإن النفس إذا شربت الماد البارد؛ حمدت الله بجميع الجوارح، وإذا شربت الماء السخن؛ حمدت الله بكزازة)
مثالب النفس الأمارة (156)
ولذلك ذكر الله تعالى البراهين الدالة عليه في الطعام، فقال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 - 32]
ومثلها البراهين الدالة عليه في أصناف الثمار، فقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99]
وهذه المعرفة ـ أيها المريد الصادق ـ تجعل من صاحبها متعلقا بربه بعد إيمانه به، فهو يعلم أن الذي خلق هذه الشهوات في الدنيا، قادر على خلق غيرها في الآخرة، ولذلك كانت السعادة الأبدية مرتبطة بالتواصل معه، وطاعته، لا الميل عنه، أو ترك عبادته من أجل شهوات فانية..
ولذلك فإن المحب للشهوات غير الأسير لها، لن يعرض عن الصلاة، ولن يقصر فيها، وكيف يقصر فيها، وهو يعلم أنها وسيلته لاقتناص لذات الأبد، والتي لا يمكن قياس أو تشبيه أي لذة بها في جميع الدنيا.
وكيف يكون ذلك، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أدنى أهل الجنة منزلة، فقال: (أدنى أهل الجنة منزلة رجل صرف الله وجهه عن النار قبل الجنة ومثل له شجرة ذات ظل فقال: أي رب! قدمني إلى هذه الشجرة أكون في ظلها، فقال الله تعالى: هل عسيت إن فعلت أن تسألني غيره؟ قال: لا وعزتك! فقدمه الله إليها، ومثل له شجرة ذات ظل وثمر، فقال: أي رب! قدمني إلى هذه الشجرة فأكون في ظلها وآكل من ثمرها، فقال الله تعالى له: هل عسيت
مثالب النفس الأمارة (157)
إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك! فيقدمه الله إليها.. فيبرز له باب الجنة فيقول: أي رب! قدمني إلى باب الجنة فأكون تحت نجاف الجنة فأرى أهلها، فيقدمه الله إليها فيرى الجنة وما فيها فيقول: أي رب أدخلني الجنة! فيدخله الجنة، فإذا دخل الجنة قال: هذا لي؟ فيقول الله تعالى له: تمن! فيتمنى، ويذكره الله عز وجل: سل من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى: هو لك وعشرة أمثاله) (1)
فإذا علم محب الشهوات ذلك، لم يكتف بتلك الصلاة التي يؤديها، ولا العبادات التي يدمن عليها، وإنما يذهب إلى كل ما حرمته الشريعة عليه، ليحرمه على نفسه، حتى لا يبيع سعادة الأبد بلذات مشبوهة مملوءة بالغصص.
فإذا فعل ذلك، لم تستعبده الشهوات، وإنما تصير أسيرة بين يديه، يتناول منها ما ينفعه، ويبتعد عما يضره، ذلك أن عقله صار هو المسيطر على هواه.. وصار حاله مثل المريض صاحب الحمية، حين يكتشف أن طعاما معينا قد يؤثر في صحته، فيسرع، ويحرم نفسه منه، ويلتذ بذلك الحرمان، لأنه يعلم أن نهايته الصحة والسعادة.
وبذلك لن يكون مصداقا لتلك الآية الكريمة التي ذكرت الميل العظيم الذي يحصل لأتباع الشهوات.. ذلك أن سبب ذلك الميل العظيم هو إبعاد العقل والفطرة السليمة، وهو ما يجر إلى الانتكاسة العظيمة التي يخرج بها الإنسان عن إنسانيته، حين يذعن للشهوات ومطالبها التي لا تنتهي.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ بعد كل هذا أن الله تعالى ما خلق الشهوات لنتنعم بها، أو لنستدل بها عليه فقط، وإنما خلقها ليميز بين من يريدونه، ومن يريدونها، ومن يعبدونه ومن يعبدونها.. وقد ورد في الأثر الإلهي عن الله تعالى أنه قال: (خلقت الخلق فكلهم ادعوا
__________
(1) رواه أحمد.
مثالب النفس الأمارة (158)
محبتي، فخلقت الدنيا فذهب مني تسعة أعشارهم وبقي العشر، فخلقت الجنة فهرب مني تسعة أعشار العشر وبقي معي عشر العشر، فسلطت عليهم ذرة من البلاء فهرب مني تسعة أعشار عشر العشر، فقلت للباقين: لا الدنيا أردتم، ولا الجنة أخذتم، ولا من النار هربتم، فماذا تريدون؟! قالوا: إنك لتعلم ما نريد. فقلت لهم: فإني مسلط عليكم من البلاء بعدد أنفاسكم ما لا تقوم له الجبال الرواسي، أتصبرون؟! قالوا: إذا كنت أنت المبتلى لنا فافعل ما شئت. فهؤلاء عبادي حقاً!) (1)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الله تعالى وضع للشهوات حدودا ومقادير، من تجاوزها، وأدمن على ذلك التجاوز، قد يتحول عن فطرته السليمة المرتبطة بالمحبة الطبيعية للشهوات إلى الفطرة المنتكسة التي لا شغل لها سوى اللهث وراءها.
وقد أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) (2)
ولذلك كانت الحمية في أن تدع بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وأثنى على فاعله، فقال: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى
__________
(1) صفة الصفوة (1/ 501)
(2) رواه البخاري ومسلم.
مثالب النفس الأمارة (159)
يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس) (1)
وقد قال بعض الصالحين: (كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام)، وقال آخر: (إن من تمام التقوى أن يتقي العبد في مثال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما حتى يكون حجابا بينه وبين النار) (2)
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك قد تحتاج أحيانا إلى بعض الرياضة التي تهذب بها نفسك، حتى لا تدمن على الشهوات، وتصبح أسيرة لها، كما وردت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249]
فهذه الآية الكريمة تشير إلى قوة أولئك الذين أذعنوا لقول طالوت، واستجابوا له، فلم يشربوا الماء مع حاجتهم إليه، أو اكتفوا منه بما سمح لهم به.. وقد رأى طالوت أن هؤلاء هم الذين يمكنهم الثبات في المعركة.. ذلك أن الذي لا يملك نفسه عند الماء، لا يمكنه أن يملكها عند مواجهة العدو.
ومن هذا الباب ـ أيها المريد الصادق ـ شرع لنا ربنا الصوم الذي نترك به بعض الشهوات، وندرب أنفسنا على الصبر عليها، حتى تحصل لنا التقوى الحقيقية بسبب ذلك، وقد قال تعالى مبينا مقاصد الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
ولهذا كان تأديب الله تعالى للذين تعمدوا الإفطار في رمضان رعاية لشهواتهم، بأن
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
(2) إحياء علوم الدين (2/ 95)
مثالب النفس الأمارة (160)
يصوموا شهرين متتابعين تأديبا لأنفسهم، وتهذيبا لها حتى لا تبقى أسيرة لشهواتها.
ومثل ذلك مثل صاحب الحمية الذي لا تكفيه المدد القليلة، بل يحتاج إلى الفترات الطويلة، حتى تؤتي الحمية أكلها.
ولهذا أوصيك ـ أيها المريد الصادق ـ بالدخول إلى مدرسة الصوم، فهي مدرسة وضعها الله تعالى لكل من يريد تهذيب نفسه حتى لا يصبح عبدا لشهواته.
وقد ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها سننا كثيرة، وذكر لنا فيها فضائل عظيمة، فاحرص عليها، والتزمها بقدر طاقتك، مع مراعاة ظروفك وأحوالك حتى لا يقعدك الصوم عن سائر الطاعات، أو يمنعك عما كلفت به من واجبات.
مثالب النفس الأمارة (161)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الرياء وعلاماته، وطرق علاجه، وعن السر في تلك النصوص المقدسة الكثيرة التي تبين سوء عاقبة أصحابه، مع أنهم في ظاهر حالهم لم يتسببوا بأي أذى لغيرهم، وإنما كل ذنبهم تلك النشوة التي وجدوها في نفوسهم عندما رأوا اطلاع الخلق على أعمالهم؛ فسرتهم، بل زادت في نشاطهم وهمتهم.
وكل أسئلتك ـ كما تعودت ذلك منك ـ وجيهة، وتحتاج إلى إجابة عليها، لأنه لا يمكن تهذيب النفس، ولا إصلاحها من دونها.
وحتى سؤالك الأخير الذي استشكلت فيه مدى عدالة تلك التشديدات المرتبطة بالرياء وجيهة أيضا، وخاصة في هذا العصر الذي تصور فيه بعضهم أن الدين مجرد قيم أخلاقية، وسلوكات اجتماعية، وأن الصالح من الناس هو ذلك المهذب الطيب في سلوكه وعلاقاته، ولا يهم بعد ذلك إن كان صادقا مخلصا، أو منافقا مرائيا.
وهؤلاء لا يعلمون أن الدين له جانبان، كلاهما ركنان فيه، والعبث بأحدهما عبث بالآخر، والاهتمام بأحدهما لا يؤثر في الآخر فقط، وإنما يؤثر في كل اللطائف التي حُبي بها الإنسان، والتي تشكل حقيقته التي لا يكون إنسانا من دونها.
أما أولهما؛ فذلك الذي حصروا الدين فيه، وهو القيم الأخلاقية الرفيعة، التي تدعو إلى السلام والتعايش والبر والأدب والتحضر والإيجابية مع كل أصناف الناس، وكل المجتمعات، وفي كل الأحوال.
وأما الثاني؛ فهو العلاقة مع الله، ذلك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام، لم يرسلوا لأجل تهذيب العلاقات الاجتماعية، ونشر القيم الأخلاقية المرتبطة بها فقط، وإنما أرسلوا لتعريف الخلق بالله، وتعليمهم كيفية التواصل معه.
مثالب النفس الأمارة (162)
ولو أنك ـ أيها المريد الصادق ـ تأملت ما ورد في النصوص المقدسة حول أهداف دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام (1) لرأيت أن الثاني هو الهدف الأساسي، والأول تبع ونتيجة له، ذلك أن المعرفة بالله هي الأساس الذي تنبع منه كل الفضائل، فمن عرف الله ووحده، وامتلأ قلبه بالإخلاص له، ارتقى في كل معارج الكمال، وتنزلت على نفسه كل ألوان الفضائل.
أما من حُجب عن الله، وراح يمارس حياته بعيدا عنه؛ فإنه وإن بدا متخلقا في ظاهره إلا أنه ـ بسبب خراب باطنه ببعده عن الله ـ يمكن أن ينقلب في أي لحظة إلى وحش كاسر، أو حية رقطاء، كما ذكر الله تعالى ذلك عن المنافقين الذين زينوا ظواهرهم، وخربوا بواطنهم، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]
وأنت ترى ـ أيها المريد الصادق ـ ذلك في الواقع في تلك الدول التي يتصور الكثير من أصحاب التدين المادي أنها دول متخلقة مهذبة مع غفلتها عن الله.. لكنهم لا يلاحظون تلك الشذوذات التي يقعون فيها، والتي لا تختلف أبدا عن تلك الشذوذات التي وقع فيها أقوام الأنبياء عليهم السلام.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن المرائي يشبه ذلك الذي دخل الامتحان، وأجاب عن كل الأسئلة إجابة صحيحة، لكنه بدل أن يعطي ورقة الإجابة لأستاذه الذي سأله راح يأخذها معه، ويريها لأصدقائه، ويبين لهم مدى قدرته على الإجابة.. فهذا وإن فرح في تلك اللحظات بثناء أصدقائه عليه إلا أنه عند ظهور النتائج لن يجد له أي علامة..
__________
(1) من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]
مثالب النفس الأمارة (163)
والعتاب هنا لا يتوجه للأستاذ السائل، وإنما يتوجه لذلك الغبي الذي راح يضع الأمور في غير محالها طلبا للذة العاجلة..
ولو أنه تمهل إلى أن تخرج النتائج، ليسمع أصدقاؤه وغيرهم بعمله بعد أن يزنه الأستاذ بموازين الحكمة التي يملكها، لكان ذلك أجدى وأنفع له.
وهذا المثال ينطبق تماما على المرائي الذي يطلب اللذة العاجلة، ويخرب لأجلها كل ما بناه، ذلك أنه بدل أن يتوجه بأعماله لربه الذي وضعه موضع الاختبار، راح يتوجه بها لغيره، ولذلك كان من عزة الله تعالى أن يتركه لمن توجه بعمله إليه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريءٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (1)
ولذلك، فإن الجزاء الوفاق المتناسب مع العدالة هو أن لا ينال أي شخص أجره إلا لمن وجه إليه عمله، كما ورد في الحديث القدسي قوله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، إذا كان يوم القيامة أتي بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى، فيقول الله لملائكته: اقبلوا هذا وألقوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك ما رأينا إلا خيرا، فيقول: نعم لكن كان لغيري ولا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي) (2)
وفي رواية أخرى: (إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف مختمة، فيقول الله ـ عز وجل ـ: اقبلوا هذا وردوا هذا، فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل، فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي)
وإذا أضفت ـ أيها المريد الصادق ـ إلى هذا ذلك الخداع الذي يتصف به المرائي، حين
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم وابن ماجه.
مثالب النفس الأمارة (164)
يتظاهر بأنه يعبد ربه، بينما هو في الحقيقة يعبد من ينظرون إليه، فإن الجزاء العدل الوفاق لهذا هو ذلك العذاب المتناسب مع المخادعين، والذي يتجسد له يوم القيامة في تلك الصور التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولهذا فإن القرآن الكريم يصف المرائين بالشرك والخداع، أما الشرك، فلأنهم توجهوا بأعمالهم لغير الله، اعتقادا منهم أن المتوجه لهم بتلك الأعمال أولى من الله، وأما الخداع، فلأن ظواهرهم تخالف بواطنهم، وذلك هو الخداع بعينه.
ولهذا وصف الله تعالى المنافقين بالرياء والخديعة، فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143]
واعتبرهم قرناء الشيطان، وإن كان ظاهرهم يدل على الصلاح، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38]، ثم بين سوء تدبيرهم حين تركوا التوجه بأعمالهم إلى الله صاحب الجزاء العظيم، ووجهوها إلى الخلق، فقال: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 39، 40]
وهؤلاء ـ أيها المريد الصادق ـ وإن بدوا بتلك الصورة الجميلة في ظاهرهم إلا أن باطنهم يأبى إلا أن يظهر، فيحول عملهم إلى صورة قبيحة تشبه قبح بواطنهم، ولذلك تجد المنفق المخلص، لا تدري شماله ما أنفقت يمينه، بينما المنفق المرائي يملأ الدنيا صراخا بإنفاقه، ويسيء إلى كل من أنفق عليهم، ولهذا ورد النهي الشديد عن تلك الثمار السيئة التي
مثالب النفس الأمارة (165)
ينبتها الرياء في أعمال المنفقين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264]
وفي مقابلهم ذكر المؤمنين المخلصين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262]
ثم أعطى القاعدة المرتبطة بذلك، فقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263]
وهي تبين أن المنفق المرائي، وإن كان قد أحسن إلى المحتاجين بسد بعض حاجاتهم المادية إلا أنه ملأ قلوبهم وبواطنهم ألما قد يفوق بكثير ذلك الألم الذي كانوا يعانون منه قبل إنفاقه عليهم.
وفوق ذلك كله، فإن المرائي الذي يهتم بنظر الناس أكثر من اهتمامه بالله، سيجعل كل همه العمل وفق ما يحقق له ذلك الرضى الذي يبتغيه منهم، ولو في سخط الله، وهو ما يجعله سلبيا إمعة ليس له أي دور إيجابي في التغيير والتأثير والتطوير.
وقد أشار الإمام علي إلى ذلك بقوله: (ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحبّ أن يحمد في جميع أموره) (1)
وفوق ذلك كله؛ فإن تأثير الرياء ليس في إحباط جزاء الأعمال فقط، وإنما له تأثيره الكبير في الأعمال التي يقوم بها المرائي نفسها، ذلك أنها تصير ـ بسبب ذلك الرياء ـ خالية،
__________
(1) الكافي، ج 2 ص 295 رقم 8.
مثالب النفس الأمارة (166)
ممحوقة من البركة، سرعان ما يظهر عوارها وعيوبها.
ولو أن الخلق وضعوا هذا الاعتبار في تقييمهم لأعمالهم، ووزنهم لها، لعرفوا أن أكثر تلك الجهود التي تضيع هباء منثورا من غير أن تنتج أي نتيجة ليس لها من سبب سوى ذلك الفيروس الخطير الذي هو الرياء.
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين هذه الحقيقة لأصحابه في الوقت الذي كان يحتاج فيه إلى تكثير سواد المسلمين.. بل كان يقولها، وهو مقدم على مواجهة أعدائه الذين يريدون استئصال الإسلام، لأنه يعلم أنه لا ينتصر الدين إلا بالصادقين المخلصين، لا المنافقين المرائين.
وقد ورد في الحديث أنّ أعرابيّا أتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، الرّجل يقاتل للمغنم، والرّجل يقاتل ليذكر، والرّجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله) (1)
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينبه إلى أن الرياء سيكون من الأسباب الكبرى لانحراف هذه الأمة، مثلما كان السبب الأكبر لانحرافات الأمم السابقة، فقال: (أخوف من أخاف عليكم الرّياء والشّهوة الخفيّة) (2)
وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وآله وسلم رئي باكيا، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: (إنّي تخوّفت على امّتي الشّرك، أما إنّهم لا يعبدون صنما ولا شمسا ولا قمرا ولا حجرا، ولكنّهم يراءون بأعمالهم) (3)
وفي نبوءة من نبوءات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (سيأتي على الناس زمان تخبث فيه
__________
(1) البخاري- الفتح (2810)، ومسلم (1904)
(2) ابن ماجه.
(3) الحاكم ج 4 ص 330 باختلاف، وابن ماجه رقم 4205 بنحوه.
مثالب النفس الأمارة (167)
سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم طمعا في الدّنيا، لا يريدون به ما عند ربّهم، يكون دينهم رياء، لا يخالطهم خوف، يعمّهم اللّه بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم) (1)
وقد أشار الإمام الصادق إلى هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] حيث قال: (الرّجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه اللّه إنّما يطلب تزكية الناس، يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الّذي أشرك بعبادة ربّه)، ثمّ قال: (ما من عبد أسرّ خيرا فذهبت الأيّام أبدا حتّى يظهر اللّه له خيرا، وما من عبد يسرّ شرّا فذهبت الأيّام حتّى يظهر اللّه له شرّا) (2)
وقال: (ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسرّ سيّئا؟ أ ليس يرجع إلى نفسه فيعلم أنّ ذلك ليس كذلك واللّه تعالى يقول: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14]، إنّ السريرة إذا صحّت قويت العلانية) (3)
وقال: (من أراد اللّه بالقليل من عمله أظهره اللّه له أكثر ممّا أراد ومن أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله أبى اللّه إلّا أن يقلّله في عين من سمعه) (4)
وإلى هذا المعنى يشير قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من راءى راءى اللّه به ومن سمع سمّع اللّه به) (5)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أكل برجل مسلم أكلة فإنّ الله يطعمه مثلها من جهنّم، ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإنّ الله يكسوه مثله من جهنّم، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإنّ الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة) (6)
__________
(1) الكافي، ج 2 ص 296 رقم 14.
(2) الكافي ج 2 ص 293 رقم 4.
(3) الكافي، ج 2 ص 295 رقم 11.
(4) الكافي، ج 2 ص 296 رقم 13.
(5) البخاري ج 8 ص 130.
(6) أبو داود (4881) وأحمد (4/ 229)
مثالب النفس الأمارة (168)
هذه مجرد نماذج لآثار الرياء النفسية والاجتماعية، أردت من خلالها أن أجيبك ـ أيها المريد الصادق ـ عن ذلك الإشكال الذي طرحته، والذي أثاره أولئك الذين عزلوا الله عن الدين، وعزلوا معه كل تلك القيم الروحانية الرفيعة التي لا يقوم الدين من دونها.. بل لا تقوم الأخلاق من دونها.. فالأخلاق الخالية من الروحانية ليست سوى طلاء سرعان ما تزيله الأيام.
لا تيأس ـ أيها المريد الصادق ـ فما من داء إلا وله دواء، وما من علة إلا ولها طبيب.. فأبشر؛ فقد ورد في المصادر المقدسة، ما يدلك على كيفية التخلص من هذا المثلب من مثالب النفس الأمارة، فشمر عن ساعد الجد، وخذ كتابك بقوة.
أول علاج للرياء ـ أيها المريد الصادق ـ هو اقتناعك بتلك المعاني التي ذكرتها لك، ذلك أن الهمة والحزم يحتاجان إلى القناعة التامة بجدوى العمل وفائدته وضرورته، ولذلك كان الاستماع للمرجئة والتأثر بدعواتهم وأمانيهم ليس سوى تلبية لكسل النفس الأمارة، وقعودها عن تهذيب نفسها.
فلذلك احذر من كل من يدعوك إلى الاهتمام ببنائك الخارجي، وترك بنائك الداخلي؛ فبناؤك الداخلي هو الذي سيرحل معك، وهو الذي سينعم أو يعذب..
فما جدوى أن تتطوع ببناء المساجد والمستشفيات، وتقدم الخدمات الكثيرة للفقراء والمساكين، ثم تجد كل ما قمت به بعد ذلك سرابا لا قيمة له، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]
فالآية الكريمة لا تدعونا إلى التوقف عن عمل الخير، ولكنها تدعونا إلى التأسيس الصحيح له، حتى يكون نافعا لنا، ولمن قدمنا لهم ذلك الخير، وحتى لا تتسبب تلك
مثالب النفس الأمارة (169)
الأمراض النفسية في تشويه ذلك الخير، وتحويله إلى شر.
ولذلك كان تفعيلك لتلك النصوص المقدسة التي تحذر من الرياء، وتبين عواقبه، وعدم تعطيلك لها هو الأساس الأول الذي ينطلق منه العلاج..
ذلك أن تلك الخشية والرهبة تجعلك حذرا ممتلئا بالمخافة مثلما يحذر صاحب الأموال الكثيرة أن يشعلها بعود ثقاب واحد يضعه عليها..
وهكذا هو نفسه حال المرائي الذي يجمع الجبال من الحسنات، ثم يرمى عليها أعواد ثقاب الرياء، لتشتعل جميعا، وفي طرفة عين.
بل إن الأمر أخطر من ذلك، فالمرائي لا يحبط عمله فقط، وإنما تمتد تلك النار إليه لتحرقه أيضا.. ذلك أن تقديمه لرؤية الخلق على رؤية ربه ليست سوى صورة من صور الشرك، وقد أخبر الله تعالى أنه {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]
وقد ورد في الحديث ما يدل على ذلك صراحة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلّى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك) (1)
ولذلك يطالب المراؤون يوم القيامة بأن يذهبوا إلى شركائهم ليأخذوا منهم أجورهم، مثلما يخاطب المشركون تماما، كما قال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص: 64]
وقد ورد في الحديث القدسي أن الله تعالى قال: (أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئا فإن حشده عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشركه به، وأنا عنه غني) (2)
__________
(1) أحمد، 4/ 126.
(2) الحاكم 4/ 329، وأبو نعيم في الحلية 1/ 268 - 269.
مثالب النفس الأمارة (170)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر)، قالوا: يا رسول الله، وما الشّرك الأصغر؟ قال: (الرّياء، إنّ الله تبارك وتعالى يقول يوم تجازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الّذين كنتم تراءون بأعمالكم في الدّنيا فانظروا، هل تجدون عندهم جزاء؟) (1)
وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجهاد والغزو، فقال: (إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا، وإن قاتلت مرائيا مكابرا بعثك الله مرائيا مكابرا، على أيّ حال قاتلت أو قتلت بعثك الله على تيك الحال) (2)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الغزو غزوان، فأمّا من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة، وياسر الشّريك، واجتنب الفساد. فإنّ نومه ونبهه أجر كلّه، وأمّا من غزا فخرا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنّه لم يرجع بالكفاف) (3)
وقال الإمام الرضا: (اعملوا لغير رياء ولا سمعة فإنّه من عمل لغير اللّه وكله اللّه إلى ما عمل، ويحك ما عمل أحد عملا إلّا ردّاه اللّه به، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ) (4)
ردد ـ أيها المريد الصادق ـ هذه الأحاديث بينك وبين نفسك، وحاول أن تتخيل معانيها، وكيف تأتي يوم القيامة بجبال من الحسنات، وعندما تطلب أجورها، يقال لك: اذهب إلى من كنت تعمل عندهم.. وعندما تذهب إليهم يتبرؤون منك، فتعود بالخيبة التي لا مثلها خيبة.
ليس ذلك فقط ـ أيها المريد الصادق ـ ولو أن الأمر اقتصر عليه مع خطره لكان هينا..
__________
(1) أحمد، 5/ 429، البيهقي في الشعب (5/ 332) / 6831.
(2) أبو داود (2519)، والحاكم (2/ 85 - 86)، وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
(3) أبو داود (2515) واللفظ له، والحاكم في المستدرك (2/ 85)، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(4) الكافي ج 2 ص 294 رقم 5.
مثالب النفس الأمارة (171)
فالنصوص المقدسة لا تكتفي بذكر تلك البراءة من الأعمال، ولا بعدم نيل أصحابها أجورهم، وإنما تضيف إليهم العذاب العظيم الذي ينالونه.
وهو تجسيد لذلك النفاق والشرك الذي كان يغمر نفوسهم عندما يمارسون تلك الأعمال الصالحة في ظاهرها، الخبيثة في باطنها.
وقد أشار إلى هذا العذاب قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 - 7]
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تعلّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السّفهاء، ولا تخيّروا به المجالس. فمن فعل ذلك فالنّار النّار) (1)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تعوّذوا بالله من جبّ الحزن)، قالوا: يا رسول الله، وما جبّ الحزن؟ قال: (واد في جهنّم تتعوّذ منه جهنّم كلّ يوم أربعمائة مرّة)، قالوا: يا رسول الله، ومن يدخله؟ قال: (أعدّ للقرّاء المرائين بأعمالهم، وإنّ من أبغض القرّاء إلى الله تعالى الّذين يزورون الأمراء) (2)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا به فإذا صعد بحسناته يقول اللّه تعالى: اجعلوها في سجّين إنّه ليس إيّاي أراد بها) (3)
وفي حديث آخر ورد تحذير أشد من ذلك كله، فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنّ أوّل النّاس يقضى يوم القيامة عليه، رجلّ استشهد، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتّى استشهدت، قال: كذبت، ولكنّك قاتلت لأن يقال جري ء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار، ورجل تعلّم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن،
__________
(1) ابن ماجة (مقدمة: 254)، والحاكم في المستدرك (1/ 86)
(2) سنن ابن ماجه (256) واللفظ له، والترمذي (2383)، وقال الترمذي: حسن غريب.
(3) الكافي، ج 2 ص 295.
مثالب النفس الأمارة (172)
فأتي به، فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنّك تعلّمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قاري ء، فقد قيل: ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها إلّا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنّك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه، ثمّ ألقي في النّار) (1)
إذا عرفت ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ وكررته بينك وبين نفسك، فإن همتك لا محالة ستنبعث للبحث عن الطرق التي تجعلك تتخلص من الرياء وآثاره وثماره، وأول ما عليك فعله لذلك هو التضرع إلى الله في أن ينجيك منه، ويطهر قلبك من طلب الخلق، ويجعله متمحضا خالصا للحق.
وإذا فعلت ذلك صادقا، فإن الله الكريم لن يرد من قصده، ولن يبعد من التجأ إليه، خاصة إذا لم يكن ذلك اللجوء مرتبطا بالدنيا وأهوائها، وإنما هو مرتبط بالله والدار الآخرة.
ولهذا نرى دعاء المؤمنين في القرآن الكريم مرتبطا بالهداية، كما في قوله تعالى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]، وحكى لنا دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فقال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]، وقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126]
__________
(1) مسلم (1905)
مثالب النفس الأمارة (173)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها) (1)
وكان يقول: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت) (2)
ومن تلك الأدعية العظيمة المرتبطة بهذا ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه: (والذي نفسي بيده للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) (3)
وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطب ذات يوم، فقال: (أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل)، فقيل له: وكيف نتقيه، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ فقال: (قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم)
ومن أدعيته المرتبطة بهذا هذا الدعاء العظيم الشامل لخير الدنيا والآخرة: (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق، والشقاق، والنفاق، والسمعة، والرياء) (4)
ولا تكتف بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ فالدعاء يحتاج إلى العمل، والصادق هو الذي يجمع بينهما لينجح في الابتلاء..
__________
(1) مسلم (2722)، وابن أبي عاصم في السنة (320)
(2) رواه مسلم (1290)
(3) البخاري في الأدب المفرد (716)
(4) رواه الحاكم (1944)
مثالب النفس الأمارة (174)
ولا يمكنني في هذا المقام أن أذكر لك كل ما يفيدك في ذلك، فهو كثير جدا، لا يمكن حصره، فلله طرائق بعدد الخلائق..
ولعل الجامع لها جميعا هو مقاومة العلة بما يضادها؛ مثلما نفعل مع الأمراض التي تعترينا، وقد روي عن المسيح عليه السلام في هذا قوله: (إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه لئلاّ يرى الناس أنّه صائم وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله وإذا صلّى فليرخ ستر بابه فإنّ اللّه يقسم الثناء كما يقسم الرّزق) (1)
وروي في أخبار الأمم السابقة أن رجلا من السوّاح قال لأصحابه: إنّا إنّما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن يكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر ممّا دخل على أهل الأموال في أموالهم، إنّ أحدنا إذا لقي أحبّ أن يعظّم لمكان دينه، وإن اشترى شيئا أحبّ أن يرخّص عليه لمكان دينه، وإن سأل حاجة أحبّ أن تقضى له لمكان دينه. فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكبه من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ بالناس، فقال السائح: ما هذا قيل: هذا الملك قد أظلّك، فقال للغلام: ائتني بطعام فأتاه ببقل وزيت وقلوب الشجر فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلا عنيفا، فقال الملك: أين صاحبكم، قالوا: هذا قال: كيف أنت؟ قال: كالناس، فقال الملك: ما عند هذا من خير، فانصرف عنه. وقال السّائح: الحمد للَّه الّذي صرفك عنّي وأنت لي ذامّ (2).
ولهذا فإن عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجتهد في إخفاء طاعاتك ما أطقت إلى ذلك سبيلا، ولذلك ورد في الحديث الإخبار بأفضلية صلاة النافلة في البيت، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً) (3)
__________
(1) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج 6، ص: 141.
(2) المرجع السابق، ج 6، ص: 164.
(3) رواه البخاري (422) ومسلم (777)
مثالب النفس الأمارة (175)
وفي حديث آخر روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ حجرة في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلَّى بصلاته ناسٌ من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم، فقال: (قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) (1)
وسئلت عائشة عن تطوعه صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: (كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين ويصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر وكان يصلي ليلا طويلا قائما وليلا طويلا قاعدا وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين) (2)
وغيرها من الأحاديث التي تبين أفضلية كون النوافل بعيدا عن الناس، حتى لا يتسرب الرياء إلى أصحابها.. ذلك أن الرياء عادة لا يتطرق إلا للتطوعات، بخلاف الفرائض التي يشترك فيها الناس جميعا.
وقد قال بعضهم مبينا تأثير ذلك في دفع الرياء: (دفع الرّياء يستلزم من المرء أن يعوّد نفسه إخفاء العبادات، وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتّى يقنع قلبه بعلم الله ولا تنازعه نفسه بطلب علم غير الله به، وهذا وإن كان يشقّ في البداية إلّا أنّه يهون بالصّبر عليه وبتواصل ألطاف الله عزّ وجلّ وما يمدّ به عباده من التأييد والتّسديد)
واحذر ـ أيها المريد الصادق ـ من أن يستفزك الشيطان عن نفسك، ويدعوك إلى إظهار
__________
(1) رواه البخاري (698) ومسلم (781)
(2) رواه مسلم (730)
مثالب النفس الأمارة (176)
المعاصي وتعمد ارتكابها بين الناس ولو من غير قصد لها، حتى تبعد عنك الرياء والسمعة، فما جعل الله دواء عباده فيما حرم عليهم، ومن فعله من أولئك الذين يدعون أنفسهم ملامتية، فقد ابتعدوا عن شريعة ربهم بذلك، وحكموا أهواءهم، وما كان الله ليهدي من ابتعد عن سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى، وراح يحكم هواه.
بل إن الواجب عليك ـ أيها المريد الصادق ـ في حال وقوعك في أي مخالفة شرعية أن تسترها وتكتمها، لا حفظا لسمعتك؛ فتكون مرائيا بذلك، وإنما حفظا لدين ربك، وخشية من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وحذرا من أن تكون من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) (1)
وهذا الحديث يرشدك إلى أنه ـ في سبيل نشرك للخير ودعوتك إليه ـ يمكنك أن تظهره وتعلنه، لا لأجلك، وإنما لأجل أن يقتدى بك، كما ورد الإذن بذلك في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]
وورد الثناء عليهم بذلك في مواضع من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]، وقوله: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22]
__________
(1) رواه مسلم وغيره.
مثالب النفس الأمارة (177)
وذلك لأن تلك الصدقات التي تعطى علانية، مع البعد عن قصد الرياء والسمعة، قد تكون سببا في أن تصبح سنة حسنة لمن يريد أن يقتدي بصاحبها، وقد ورد في الحديث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كنّا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءه قوم عُراة مجتابي النِّمار أو العَبَاءِ متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لِمَا رأى بهم من تلك الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذَّن وأقام ثم صلى ثم خطب، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] والآية الأخرى التي في آخر الحشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 81]. تصدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشقِّ تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. ثم تتابع الناس حتى رأيت كَوْمَيْنِ من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتهلَّل كأنه مُذْهَبَةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ) (1)
ولهذا احذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تتهم غيرك بالرياء لكونه أظهر عمله؛ فما أدراك بنيته، فاكتف بنفسك وحسابها ودعك من الخلق، فالله ما أذن لك في أن تكشف علانيتهم، فكيف تأذن لنفسك بكشف سرائرهم؟
بل حتى لو وجدتهم ـ أيها المريد الصادق ـ يتحدثون عن أعمالهم الصالحة، ويذيعونها، فلا تقتد بهم في ذلك، فعمل السر أفضل من عمل العلانية، ولكن مع ذلك التمس لهم الأعذار، فلعلهم يقصدون من ذلك توجيه غيرهم أو تربيته، أو لعلهم يرون ذلك من
__________
(1) مسلم (1017) (69) [4/ 2060]
مثالب النفس الأمارة (178)
التحدث بالنعمة، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد كل هذا أن تتوقف عن العمل خشية الرياء؛ فذلك ما يريده الشيطان منك.. فأقدم على أعمالك التي هممت بها، واسأل ربك أن يرزقك الإخلاص فيها، واعتذر له من أي شوب أو شرك أو رياء دخل إليها.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الرياء قد يتخفى في صور دقيقة.. فاحذر منها جميعا، فكلها شرك.. فليس الرياء أن تقصد بأعمالك الخلق وحدهم، وتعطيهم كل همتك.. فذلك وإن كان أغلظ أنواع الرياء وأخطرها إلا أنه ليس متوقفا عليه.
فمن الرياء أن تقصد ثواب الله تعالى، وتقصد معه ثواب الخلق.. فتحب أن يروك، ويثنوا عليك، وإن قصروا في ذلك تألمت.. أو رحت تذيع عليهم ما عملته سرا مما لم يروه، فتحبط عملك بذلك، أو تخرجه من عمل السر إلى عمل العلانية، فتضيع لك أجور عظيمة بسبب ذلك.
وقد روي عن الإمام الكاظم في هذا قوله: (الإبقاء على العمل أشدّ من العمل)، فقيل له: (وما الإبقاء على العمل؟) قال: (يصل الرّجل بصلة، وينفق نفقة للَّه وحده لا شريك له فكتبت له سرّا، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياء) (1)
فاجتهد ـ أيها المريد الصادق ـ في أن تعمل بهذه الوصية العظيمة، ففيها خير الدنيا والآخرة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ في ظلّ العرش يوم لا ظلّ إلّا ظلّه رجلا تصدّق بيمينه فكاد يخفيها عن شماله) (2)، وورد في الآثار: (فضل عمل السرّ على عمل الجهر بسبعين
__________
(1) الكافي ج 2 ص 296 رقم 16.
(2) مسلم ج 3 ص 93.
مثالب النفس الأمارة (179)
ضعفا) (1)
إذا علمت كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وملأت به قلبك وعقلك.. وراقبت حركاتك وسكناتك.. ثم سمعت بعد ذلك من يثني عليك ثناء صالحا، ففرحت بذلك؛ فلا تحزن، فإن ذلك بشارة من الله تعالى لصدقك وإخلاصك، وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل: الرجل يعمل العمل فيحمده الناس عليه، ويثنون عليه به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تلك عاجل بشرى المؤمن) (2)
بل روي في حديث آخر ما هو أعظم من ذلك، فقد روي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا رسول اللّه أسرّ العمل لا أحبّ أن يطّلع عليه أحد فيطّلع عليه، فيسرّني؟)، قال: (لك أجران أجر السرّ وأجر العلانية) (3)
وسر ذلك هو أنه فطرة إلهية في الإنسان، لا يمكنه الانفكاك عنها، وما جعل الله في دينه ما يناقض الفطرة، وقد روي عن الإمام الكاظم أنه سئل عن الرّجل يعمل الشّي ء من الخير فيراه إنسان فيسرّه ذلك؟ فقال: (لا بأس ما من أحد إلّا وهو يحبّ أن يظهر اللّه له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك) (4)
ولكن مع ذلك إياك أن تسكن لذلك الثناء، أو تركن إليه، أو تغتر به، لأن ذلك قد يكون وسيلة للشيطان إلى قلبك، ليحبب لك ذلك، ثم يصرفك عن ربك به.. فكن دائما على حذر.. فالإخلاص سر دقيق لا يظفر به إلا المتقون.
__________
(1) البيهقي في الشعب.
(2) مسلم (2642)
(3) الترمذي ج 9 ص 231.
(4) الكافي، ج 2 ص 297 رقم 18.
مثالب النفس الأمارة (180)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن قولهم: (لا صغيرة مع الإصرار)، وهل يمكن اعتبارها قاعدة شرعية يمكن الركون إليها، أم أنها مجرد اجتهاد ورأي؟.. وكيف يكون الإصرار؟.. وكيف تُهذب النفس بالتخلص منه؟.. وهل في الذنوب صغائر وكبائر؟.. وكيف يُميز بينهما؟
وغيرها من الأسئلة الكثيرة الوجيهة التي لا يمكن لمن يريد السير إلى الله وتهذيب نفسه الأمارة أن يجهلها.. فالعلم بالطريق، وعقباته، وكيفية تجاوزها علم ضروري، لا يصلح السير من دونه.. فكيف إذا كان السير إلى الله، وكانت العقبات عقبات النفس الأمارة؟
وهل يمكن لشخص أن يقيم صلاته، أو يؤدي زكاته، أو يقوم بمناسك حجه من دون معرفة الأحكام الفقهية المرتبطة بها؟.. فكذلك العلم بالسلوك إلى الله واجب كوجوبها، ضروري كضرورتها، وتهاون الخلق في شأنه، أو رغبته عن تعلمه، لا يلغيه، فالعبرة بالحقائق لا بمواقف الخلق منها.
وبخصوص ما ذكرت من تلك المقولة؛ فهي مقولة صحيحة، وهي محل اتفاق من الأمة جميعا، وقد اتفق على روايتها والاهتمام بها كل علماء السلوك والتربية..
وقد رويت بتلك الصيغة عن الإمام الصادق، وقد تكون من روايته عن أجداده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي عنه قوله: (لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار) (1)
بل إن الواقع يدل عليها.. فالذي يتساهل في المخالفات الصغيرة يتجاوزها إلى
__________
(1) أصول الكافي، ج 2، ص 288.
مثالب النفس الأمارة (181)
الكبيرة، والذي يسرق البيضة يوشك أن يسرق جملا، والذي يشرب كأسا من الحرام يوشك أن يصبح مدمنا..
والعقل يدل عليها.. ذلك أن كل المعاصي مبنية على الهوى والشهوة، وهما لا قرار لهما، فمن بدأ بالصغير يوشك أن تطالبه نفسه بالمزيد إلى أن يصل إلى الكبير.
ومما يروى في الحكايات أن بعض الصالحين كان يمشي في الوحل جامعا ثيابه محترزا، لكن رجله زلقت، وسقط، واتسخت ثيابه، فقام يمشي وسط الوحل، ويبكي، ويقول: (هذا مثل العبد لا يزال يتوقى الذنوب ويجانبها حتى يقع في ذنب أو ذنبين، فعندها يخوض في الذنوب جميعا)
وقد صاغ ذلك بعضهم شعرا، فقال:
خلّ الذنوب صغيرها... وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق... أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيرة... إن الجبال من الحصى
بل روي في الحديث ما يشير إلى هذا المعنى، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء، ما بها من حطب! قال: فليأتِ كلّ إنسان بما قدر عليه؛ فجاؤوا به حتَّى رموا بين يديه بعضه على بعضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هكذا تجتمع الذّنوب)، ثم قال: (إيّاكم والمحقّرات من الذّنوب؛ فإنّ لكل شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب {مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]) (1)
ولهذا لم يصف الله تعالى الصالحين من العباد بالعصمة المطلقة من الذنوب، وإنما
__________
(1) أصول الكافي، ج 2، ص 288.
مثالب النفس الأمارة (182)
وصفهم بعدم الإصرار عليها، والمسارعة إلى التوبة منها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، ثم عقب على ذلك بقوله: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136]
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن لهذا المثلب من مثالب النفس الأمارة طرقا من العلاج تجتمع في أمرين: العرفان الذي تغذي به عقلك، والسلوك الذي تحرك به نفسك.
أما الأول، وهو العلاج العرفاني؛ فينطلق من تعظيمك لربك؛ فكل الذنوب سببها الجرأة على الله، وهي بسبب عدم توقيره وتعظيمه، كما يروى عن الإمام علي قوله: (من أصرّ على ذنبه؛ اجترأ على ربه) (1)
وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74]، وقال عن خطاب نوح عليه السلام لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13، 14]، ثم عقب بعدها بذكر بعض مظاهر عظمة الله تعالى، فقال: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 15 - 20]
__________
(1) وسائل الشيعة، ج 11، ص 368.
مثالب النفس الأمارة (183)
فهذه الآيات الكريمة، وغيرها كثير من القرآن الكريم يدلك على الطريق الذي تتعرف به على عظمة الله، هو النظر في آياته، وخلقه، وعندما تمتلئ نفسك بمعاني عظمته، تمتلئ بتوقيره، وعند امتلائك بذلك تحذر من معصيته، وتستعمل كل السبل للتقرب إليه.
وإن شئت أن تعرف سر هذا، فاعلم أن الفطرة الإنسانية مجبولة على تعظيم من يملكون القدرات بمختلف أنواعها سواء ارتبطت بالعلم أو بغيره، ولهذا ذكر القرآن الكريم موقف ملكة سبأ حين رأت القصر الممرد من القوارير، ورأت قبل ذلك عرشها، فلم تملك إلا أن تقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]
وهكذا أخبر الله تعالى عن أولي الألباب أنهم يقولون بعد التأمل في السموات والأرض: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]
وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تستدل لهذا من الواقع، فانظر إلى مواقف الناس من الأثرياء أو الحكام؛ فهم يتعاملون معهم بحسب مراتبهم، وغناهم، وما يملكون..
ولهذا تجدهم يحذرون من أصحاب المراتب الرفيعة، ويحسبون لهم كل حساب، خشية أن يقعوا في أي سوء أدب معهم قد ينزل عليهم الويلات..
ولهذا، فإن المؤمن العارف بالله وعظمته، يعظم الذنب في عينه حتى لو كان صغيرا، بل إنه يعتقد أن كل الذنوب كبائر.. وهل يمكن أن تسمى معصية الله صغيرة؟
وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا ـ أي بيده ـ فذبه عنه) (1)
وفي وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر قوله: (يا أبا ذر المتّقون سادة، والفقهاء قادة،
__________
(1) البخاري 11/ 88 و89 و90، ومسلم رقم (2744)
مثالب النفس الأمارة (184)
ومجالستهم زيادة، إنّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، وإنّ الكافر ليرى ذنبه كأنّه ذباب مرّ على أنفه، يا أبا ذر إنّ اللَّه تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً جعل الذنوب بين عينيه ممثلة، الإثم عليه ثقيلاً وبيلاً، وإذا أراد بعبد شراً أنساه ذنوبه، يا أبا ذر لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت، يا أبا ذر إنّ نفس المؤمن أشدّ ارتكاضاً من الخطيئة من العصفور حين يقذف به في شركه) (1)
ولو أنك ـ أيها المريد الصادق ـ تأملت في كلام العلماء في الكبائر والصغائر، وخلافهم الشديد في أصنافهما (2)، لامتلأت بالمخافة، وأخذت بالاحتياط؛ فليس هناك ذنب من
__________
(1) بحار الأنوار، ج 74، ص 77.
(2) من الأمثلة على الخلاف الوارد في عد الكبائر، ما نقله الغزالي عن أبي طالب المكّي، قال: الكبائر سبع عشرة جمعتها من جملة الأخبار، وجملة ما اجتمع من أقوال الصحابة أربع في القلب: وهو الشرك باللّه تعالى، والإصرار على معصيته، والقنوط من رحمته، والأمن من مكره. وأربع في اللّسان: وهي شهادة الزّور، وقذف المحصن، واليمين الغموس- وهي الّتي يحقّ بها باطلا أو يبطل بها حقّا، وقيل: هي الّتي يقتطع بها مال امرئ مسلم باطلا ولو سواك من أراك، وسمّيت غموسا لأنّها تغمس صاحبها في النار-، والسحر وهو كلّ كلام يغيّر الإنسان وسائر الأجسام عن موضوعات الخلقة. وثلاث في البطن وهي شرب الخمر والمسكر من كلّ شراب، وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل الرّبا وهو يعلم. واثنتان في الفرج وهما الزنى واللّواط. واثنتان في اليدين وهو القتل والسرقة. وواحدة في الرّجلين وهو الفرار من الزّحف، وواحدة في جميع الجسد وهي عقوق الوالدين، قال: وجملة عقوقهما أن يقسما عليه في حقّ فلا يبرّ قسمهما، وأن يسألاه حاجة فلا يعطيهما، وأن يسبّاه فيضربهما، ويجوعان فلا يطعمهما)
وقد علق الغزالي على هذا بقوله: (هذا ما قاله وهو قريب، ولكن ليس يحصل به تمام الشفاء، إذ يمكن الزيادة عليه والنقصان منه؛ فإنّه جعل أكل الرّبا ومال اليتيم من الكبائر وهي جناية على الأموال، ولم يذكر في كبائر النفوس إلّا القتل، فأمّا فق ء العينين وقطع اليدين وغير ذلك من تعذيب المسلمين بالضرب وأنواع العذاب فلم يتعرّض له، وضرب اليتيم وتعذيبه وقطع أطرافه لا شكّ في أنّه أكبر من أكل ماله) [انظر: إحياء علوم الدين (4/ 17)]
أما ما روي عن الإمام الصادق، من حصر الكبائر فيما ورد في القرآن الكريم من ذكر العذاب المرتبط بأصحابه، فهو يشير إلى أصول الكبائر، أو ما يمكن أن يطلق عليه [أكبر الكبائر]، لأن هناك روايات أخرى كثيرة تدل على غير ما ذكر في الحديث.
ونص الحديث هو أن عمرو بن عبيد دخل على الإمام الصادق، فلمّا سلّم وجلس تلا هذه الآية {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ والْفَواحِشَ}، ثمّ أمسك فقال له الإمام: ما أسكتك؟ قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه، فقال: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الإشراك باللّه يقول اللّه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}، وبعده الإياس من روح اللّه لأنّ اللّه يقول: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ}، ثمّ الأمن لمكر اللّه إنّ اللّه يقول: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ}، ومنها عقوق الوالدين لأنّ اللّه جعل العاقّ جبّارا شقيّا، وقتل النفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحق لأنّ اللّه يقول: {فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها}، وقذف المحصنة لأنّ اللّه يقول: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ ولَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}، وأكل مال اليتيم لأنّ اللّه يقول: {إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}، والفرار من الزّحف لأنّ اللّه يقول: {وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ومَأْواهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ الْمَصِيرُ}، وأكل الرّبا لأنّ اللّه يقول: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ}، والسحر لأنّ اللّه يقول: {وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}، والزّنى، لأنّ اللّه يقول: {وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً}، واليمين الغموس الفاجرة، لأنّ اللّه يقول: {الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} والغلول لأنّ اللّه يقول: {وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ}، ومنع الزكاة المفروضة لأنّ اللّه يقول: {فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ} وشهادة الزور وكتمان الشهادة لأنّ اللّه يقول: {وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وشرب الخمر لأنّ اللّه نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان. وترك الصلاة متعمّدا أو شيئا ممّا فرض اللّه لأنّ رسول اللّه ? قال: (من ترك الصلاة متعمّدا فقد برئ من ذمّة اللّه وذمّة رسوله)، ونقض العهد وقطيعة الرّحم لأنّ اللّه يقول: {أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} قال: فخرج عمرو وله صراخ من بكائه وهو يقول: (هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم) [الكافي، 2/ 285]
مثالب النفس الأمارة (185)
الذنوب إلا وهناك من يعتبره كبيرة من الكبائر، وقد يكون الحق مع ذلك القائل، ولذلك كان العاقل الممتلئ بالورع هو الذي يحذر منها جميعا.
لا تحسب ـ أيها المريد الصادق ـ أني أريد بهذا أن أقول لك بأن الذنوب كلها كبائر، وأنه لا توجد هناك صغائر؛ فمعاذ الله أن أخالف برأيي القرآن الكريم، فالله تعالى يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، ويقول: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]، ويقول: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32]
ولكني أدلك على الاحتياط والورع، حتى لا تستهين بما تسميه صغائر، فتتحول إلى كبائر، ذلك أنه مع الخلاف الشديد في مصاديق الكبائر، اتفق العلماء جميعا على أن الصغائر يمكن أن تتحول إلى كبائر، وأول ما يحولها استهانة صاحبها بها، واحتقاره لها.
مثالب النفس الأمارة (186)
وقد ورد في الحديث ما يشير إلى ذلك، فقد حدث بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنّكم لتعملون أعمالا هي أدقّ في أعينكم من الشعر، كنّا نعدّها في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من الكبائر) (1)
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة عندما وصفت إحدى النساء بالقصر: (يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته)، وقالت: وحكيت له إنساناً ـ أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك ـ فقال: (ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا) (2)
ومثله ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من الكبائر السبّتان بالسبّة، ومن الكبائر استطالة الرّجل في عرض أخيه المسلم) (3)
فاعتبر السب الزائد كبيرة من الكبائر مع أنك ـ أيها المريد الصادق ـ لو رجعت إلى دواوين الفقهاء، لوجدتهم يعتبرونها من الصغائر، وقد يهونون من شأنها تهوينا كبيرا.
ولو أنك لو تأملت في الدافع الذي دفع إلى تلك الكلمات لوجدته مرضا نفسيا خطيرا، فقد تكون تلك السبة ثمرة للحسد والحقد والكبر وغيرها من الكبائر المتفق عليها.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فعليك أن تشمر على ساعد الجد، وابتعد عن كل من يهون لك شأن المعاصي، أو يدعوك إلى الرجاء الكاذب، فهو داعية ضلالة، والعاقل هو الذي يحذر، ويحتاط إلى أن ينال الفوز والنجاة، وقد قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]
__________
(1) رواه البزار في مسنده، وأحمد، مجمع الزوائد ج 1 ص 106 وج 10 ص 190.
(2) أبو داود والترمذي.
(3) قال العراقي: عزاه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس لأحمد وأبي داود
مثالب النفس الأمارة (187)
وإن أردت مثالا مقربا لهذا، فانظر إلى تعاملك مع الأطباء الذين يعالجون جسدك، فإن نصحك بعضهم بترك طعام معين، لتأمن على صحتك، وذكر لك آخر عدم أهمية ذلك.. فلأيهما تميل، أليس لذلك الذي دعاك إلى الاحتياط؟.. خاصة وأنه لا ضرر عليك فيه.. ذلك أن تركك لطعام واحد، للحفاظ على صحتك خير من العبث بهذا لأجل شيء غير متيقن.
وهكذا افعل مع المعاصي.. فاحذر منها جميعا.. فبعضها يؤدي إلى بعض.. وهي جميعا تؤدي إلى الكفر.. فقد قالوا: (المعاصي بريد الكفر)
وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا، فقال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن) (1)
وأشار إلى سره، وسببه، فقال: (إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول اللّه تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}) (2)
وإن رأيت اختلاف العلماء في مسألة، بين التحريم والإباحة، أو بين الفريضة والنافلة، ولم يكن لديك القدرة على الاجتهاد والتحقيق، ولم يكن لك إمام أو مرجع ترجع إليه، فإياك أن تتبع الهوى، وتسرع إلى الرخصة، بل خذ بالأحوط لدينك.
ولا تغفل أن تتأمل كل حين في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]، فأسرع بالتوبة، قبل أن تتجذر في نفسك، وتتمكن منها، فيصعب عليك بعدها قلعها،
__________
(1) أحمد (23/ 71)، والطبراني في الكبير (13304)
(2) رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح.
مثالب النفس الأمارة (188)
مثل أولئك الذين أشارت إليهم الآية التالية، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18]
ولا تلتفت ـ أيها المريد الصادق ـ لمن يزين لك المعصية، بحجة التوبة بعدها، فما أدراك أنك يمكن أن توفق للتوبة، فهي فضل إلهي، ولا يمكن أن تقدم عليه ما لم يكن هناك إذن إلهي مسبق قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]
وأول من يصرف على التوبة أولئك المصرين المعاندين المستهينين بالمعصية المحتقرين لها.. ذلك أنهم لم يراعوا جناب الحق، ولم يستحيوا منه.. ومن رفع عنه الحياء عند ممارسة المعصية، صعبت عليهم التوبة.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن التوبة ليست لقلقة اللسان بالاستغفار، فهو وحده لا يجدي، بل إنه قد يحتاج هو نفسه إلى استغفار.
واعلم أن الله تعالى قد يضعك بين قوم مسرفين على أنفسهم، فتتوهم أنك من المحسنين، فلا تفعل هذا، فهو من الغرور الكاذب، وقد قال بعض الحكماء في ذلك: (ربّما كنت مسيئا فأراك الإحسان منك صحبتك إلى من هو أسوأ حالا منك)
ولذلك احرص على صحبة الصالحين، والأخذ من هديهم لتهذب نفسك وترقيها، وحتى لا تكون من أولئك الذين قالوا ندما: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29]
مثالب النفس الأمارة (189)
وليس عليك ـ أيها المريد الصادق ـ لذلك أن ترحل إليهم، أو تسكن بينهم، بل يمكنك بمحبتهم والتعرف على هديهم، والتواصل معهم أن تكون من الصالحين، فما كلفك الله بأن ترحل بجسدك من بلدك الذي نشأت فيه، ولكنه أمرك بأن ترحل بقلبك وعقلك لتبحث عمن يتناسب مع الرحلة العظيمة التي تريد أن ترحلها.
مثالب النفس الأمارة (190)
بعد أن كتبت إليك ـ أيها المريد الصادق ـ الرسالة السابقة التي حدثتك فيها عن المثالب الخطيرة التي يتعرض لها من يحتقر الذنوب ويستهين بها ويستصغرها، خشيت أن يتسرب إليك بعض التلبيسات حول ما ذكرت؛ فتتوهم أن تلك النصوص المقدسة التي تطالبنا بتعظيم الذنوب، وعدم احتقارها، تطالبنا معها باحتقار المذنبين وازدرائهم، والأمر ليس كذلك.
فاحتقار الذنوب يعطي النفس الأمارة هواها، ويجعلها تُقدم على المعاصي بكل جرأة ووقاحة، فتنتقل من الصغائر إلى الكبائر، ومن اللمم إلى الإدمان، ومن المسارعة بالتوبة إلى تأجيلها أو تعطيها.. بينما احتقار المذنبين وازدراؤهم والتعامل معهم بقسوة، يجعل من النفس الأمارة طاغوتا وجبارا متكبرا، ويجعل العاصي مصرا عنيدا.
ولذلك كان من الذنوب الكبيرة، والمثالب العظيمة التعامل مع المذنبين بالاحتقار والازدراء، لا بالدعوة والرحمة واللطف.
وقد ورد في الحديث ما يشير إلى هذا، ويؤكده، ويبين عظم خطره، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما، أو كنت على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي،
مثالب النفس الأمارة (191)
وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار) (1)
هل رأيت ـ أيها المريد الصادق ـ تأثير تلك المواقف المتشددة في مصير صاحبها.. فلا تستهن بذلك، ولا تتوهم أن ذلك مخالف للعدالة؛ فلا يقول ذلك إلا من لا يعرف العدالة.
فأول الجرائم التي ارتكبها ذلك المتألي على الله، المحتقر لأخيه ادعاؤه أنه الديان، وأنه من يملك المغفرة والرحمة، والجنة والنار، وبذلك يكون قد انتحل منصبا لا يستحقه، وليس أهلا له، بل جعل نفسه شريكا لله تعالى.
وثاني الجرائم هو النظر إلى أخيه بعين الاتهام، لا بعين الرحمة، ولو أنه نظر إليه باعتباره جاهلا يحتاج إلى تعليم، وعاصيا يحتاج إلى دعوة، ومريضا يحتاج إلى طبيب، لما وقف منه ذلك الموقف.
وثالث الجرائم وأخطرها هو أنه أعطى صورة سيئة للدين والتقوى والصلاح، تجعل النفوس تنفر منها.. فالفطرة الإنسانية مجبولة على القبول من أصحاب اللين والرفق، والنفور من التشدد والمتشددين، ولهذا دعا الله تعالى موسى عليه السلام إلى التعامل باللين مع فرعون، فقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]
وقد روي في الحديث أن أعرابيا بال في المسجد، فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقعوا فيه.. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدرك حاله من الجهل، وأدرك أنه ـ في ذلك الحين ـ كان في حالة خاصة.. ولذلك عالجه بما يناسب حاله.. فعالج جهله بالتعليم.. وعالج الحالة الخاصة التي كان عليها بتأخيره حتى يفرغ من بوله، ولو كان في المسجد، لأن مفسدة قطعه من بوله أعظم من مفسدة ما يفعل..
لذلك بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله، ونهى أصحابه أن يتعرضوا له، بل منعهم من
__________
(1) أبو داود (4/ 275)
مثالب النفس الأمارة (192)
أن يقطعوا عليه بوله، فقال: (لا تُزرِمُوه)
ثم ما إن انتهت حاله هذه حتى بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله الأصلية، وهي الجهل، فبدأ يُعلِّمُهُ بكل رِفق، وبكل سهولة، حتى قال الأعرابي قولته المشهورة، التي أضحكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً) (1)
وقريب من هذا ما حدث به بعض الصحابة قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) (2)
وقد كان سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا الرجل المبتدئ في الإسلام سببا لأن يقول هذه الشهادة التي ظلت الأجيال تحفظها: (ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع إلي لأحدثك عن كيفية علاج هذه الحالة إن طرأت عليك، ولا أحسبها ستطرأ عليك؛ فأنا أعلم تواضعك وورعك ومراعاتك لشريعة ربك.. ولكن مع ذلك لا بد أن تحتاط لنفسك، والعاقل هو الذي يحتاط لكل شيء، حتى لا تتسرب إليه وساوس الشيطان؛ فتخرب كل ما بناه بموقف أو كلمة.
__________
(1) رواه البخاري وغيره.
(2) رواه مسلم.
مثالب النفس الأمارة (193)
أول علاج لهذا المثلب من مثالب النفس الأمارة ـ أيها المريد الصادق ـ أن تعلم أن الهداية هبة إلهية، وفضل رباني، وأن الذي أعطاها يمكن أن يمنعها، وأن أولى الناس بالحرمان منها أولئك الذين يستكبرون بها، ولا يتواضعون لها.
فلذلك كان أدبك مع ربك، أن تترك عباده له؛ فكما هداك يمكن أن يهديهم، وكما أصلحك يمكن أن يصلحهم؛ فلم تتدخل بين ربك وعباده، وأنت لست سوى عبد من عباده، وليس لك من وظيفة معهم سوى النصيحة والبلاغ والدعوة، ثم تركهم بعد ذلك لله، إن رآهم أهلا للهداية هداهم، وإن رآهم لغير ذلك تركهم مع نفوسهم.
لقد قال الله تعالى ذلك.. لا لي.. ولا لك.. وإنما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ذلك السراج المنير الحريص على هداية الخلق.. لقد قال الله له: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (قّ:45)، وقال: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية:22)، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (الأنعام:107)
وقد حصر القرآن الكريم دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والذين معه على البلاغ، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (المائدة:99).. {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} (الشورى: 48)
ففي هذه الآيات تصريح بأن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقصور على التبليغ، وأنه أُرسل مبلغاً، ولم يُرسل حفيظاً عليهم، مسؤولاً عن إيمانهم وطاعتهم، حتى يمنعهم عن الإعراض، ويتعب نفسه لإقبالهم عليه؛ فإذا كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووظيفته، فكيف حالنا نحن؟
ولنفرض ـ أيها المريد الصادق ـ أنك لم تُكلف بالتبليغ فقط، وإنما كلفت بالهداية
مثالب النفس الأمارة (194)
أيضا؛ فهل ترى أن ذلك التشدد يمكنه أن يؤدي دوره في إصلاحهم، أم أنه سيتحول إلى حجاب بينهم وبين الهداية؟
وهل ترى أن الدعاء لهم بالهداية والصلاح أولى أم الدعاء عليهم بالويل والثبور، والذي لن يزيدهم إلا بعدا عن ربهم الذي تريد أن تقربهم منه، وقد روي في الحديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا له ـ بعد الأذى الشديد الذي أصابهم من ثقيف ـ: (يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم)، فقال: (اللهم اهد ثقيفا) (1)
وروي أنهم طلبوا منه أن يدعو على المشركين، ويلعنهم، فقال: (إني إنما بعثت رحمة، ولم أبعث لعانا) (2)
ومما يروى في ذلك عن بعض الصالحين أنه مر بجانبه زورق فيه شباب يظهر عليهم المجون، وكانوا يغنون ويرقصون، وقد لعبت الخمر برؤوسهم، فقال له أصحابه ـ وكان مستجاب الدعوة ـ: ادع عليهم؛ فرفع الصالح كفه، وقال: (اللهم كما أفرحتهم في الدنيا فأفرحهم في الآخرة)؛ فصاح به أصحابه معترضين، يقولون له: نقول لك ادع عليهم فتدعوا لهم، فقال لهم: (وما يضيركم.. إن أفرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا)
وإن استشكلت ـ أيها المريد الصادق ـ هذه الحكاية، ورحت تلوم صاحبها، فاقرأ قصة إبراهيم عليه السلام مع قريبه، وكيف كانت معاملته له، ولولا أنه نهي عن الدعاء له والاستغفار لما كف عن ذلك.. ومثله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يعرف المنافقين ومع ذلك ظل يدعو ويستغفر لهم إلى أن نهاه الله عن ذلك.
واذكر بعد هذا ـ أيها المريد الصادق ـ قصة أولئك السحرة الذين دخلوا على فرعون،
__________
(1) الترمذي رقم (3937)
(2) مسلم رقم (2599)
مثالب النفس الأمارة (195)
وهم يقولون: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44] لكنهم ما لبثوا حتى صاروا يقولون لفرعون بكل عزة وإيمان: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 72، 73]
في نفس الوقت الذي تحول فيه ذلك الصحابي الذي صحب موسى عليه السلام، وكان مقربا منه إلى داعية للضلالة والشرك.. لاشك أنك تعرفه.. إنه السامري.. ذلك الذي استغل غياب موسى عليه السلام ليخلفه شر خلافة، قال تعالى: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 85 - 89]
بل إن الأمر لم يكن قاصرا على ذلك السامري، ولا على أولئك النفر الذين اتبعوه، بل إن الله تعالى أخبر عن بني إسرائيل أنهم بعد أن اجتازوا البحر {أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]
ولهذا تذكر دائما ـ أيها المريد الصادق ـ ذلك الحديث الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة
مثالب النفس الأمارة (196)
فيدخلها) (1)
واعلم بعد هذا ـ أيها المريد الصادق ـ أن الله يعاملك بما تعامل به غيرك؛ فإن رحمتهم رحمك، وإن عفوت عنهم عفا عنك، وإن أحسنت إليهم أحسن إليك، فلذلك أنت بين أن تعامل المخطئين بالرحمة، فيرحمك، أو تعاملهم بقسوة، فتعامل بمثل ذلك.. لأنك لا تخلو من معصية وخطيئة وذنب.. فاختر لنفسك، فلعل ذنوبك الباطنة أخطر من ذنوبهم الظاهرة، ولعل كبرك في التعامل معهم أخطر من كل ذنوبهم ومعاصيهم.
إذا عرفت هذا كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ واستقرت معانيه في نفسك، امتلأت بالسلام والرحمة لكل الخلق، وتحققت فيك تلك المعاني النبيلة التي حكاها الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكيف كان يحزن ويتألم لحال المعرضين، ويمتلئ شفقة عليهم، على الرغم من الأذى الشديد الذي كان يناله منهم.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف: 6)، وقال: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (فاطر:8)، وقال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} (النحل:127)، وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3)
فتعلم هذا الحزن الصادق الممتلئ بالرحمة من نبيك صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو قدوتك وأسوتك.. وليس أولئك الغلاظ الشداد الذين نصبوا أنفسهم دعاة للخلق من غير إذن إلهي، ولا بصيرة إيمانية.. فراحوا يصرفون الناس عن الدين، وهم يظنون أنهم يدعونهم إليه.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك لن ترتقي بنفسك إلى المقامات التي أتيحت لهم ما
__________
(1) رواه البخاري 11/ 417، ومسلم رقم (2643)
مثالب النفس الأمارة (197)
لم تكن فيك هذه الخلة النبوية، فلن يقرب الله أحدا إلا إذا كان يسير على قدمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وعلى منهاجه منهاج النبوة التي هي رحمة للعالمين.. كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الانبياء:107)، بل إن الله تعالى سماه باسمين من أسماء رحمته، فقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128)
ومما ييسر لك هذا ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجعل بصيرتك ترى العاصين مثل قوم اقتربت النيران من بيوتهم، تريد أن تحرقهم؛ فلذلك تقتضي الرحمة أن تسرع إليهم لتنقذهم، لا أن تنظر إليهم بشماتة وحقد.
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا، ونبه إليه عند التعامل مع المنحرفين والمخطئين؛ فقال: (إن اللّه لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش والذباب) (1)
ومما يروى في السنة النبوية من هذا أن أول رجل أقيم عليه الحد في الإسلام أُتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل: (يا رسول الله، إن هذا سرق)، فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمادا، فقال بعضهم: مالك يا رسول الله، فقال: (وما يمنعني؟ وأنتم أعوان الشيطان على صاحبكم، والله عز وجل عفو يحب العفو، ولا ينبغي لوالي أمر أن يؤتى بحد إلا أقامه، ثم قرأ: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]) (2)
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُتي برجل قد شرب الخمر، قال: اضربوه، فأمر بإقامة الحد عليه، فلما انصرف، قال بعض القوم: (أخزاك الله)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقولوا
__________
(1) رواه أحمد والطبراني في الكبير.
(2) مسند أحمد (7/ 84)، الطبراني في الكبير (8572)، والبيهقي 8/ 331.
مثالب النفس الأمارة (198)
هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) (1)
أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك ستورد لي ما ورد في القرآن الكريم في حق مرتكبي الفاحشة، وكيف أمرنا بالغلظة عليهم، كما قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]
فاعلم أن هذه الآية الكريمة تدعو إلى حفظ الأعراض والتشدد فيها، وعدم اللين مع مشيعي الفواحش، حتى يحفظ المجتمع من كل مظاهر الانحراف، وهي بذلك ليست قسوة مجردة، وإنما هي قسوة تربوية، وهي التي قصدها الشاعر بقوله:
وقسا ليزدجروا ومن يك راحما... فليقس أحيانا على من يرحم
ومما يدلك على هذا ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بعد إقامة الحد على بعضهم: (بكتوه)، فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله، ما خشيت الله، وما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انصرف قال بعض القوم: (أخزاك الله)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا الشيطان على أخيكم.. ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) (2)
وإياك بعد هذا ـ أيها المريد الصادق ـ أن تقوم بفضحه؛ فإن في ذلك إشاعة للفاحشة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ستر أخاه المسلم في الدنيا، ستره الله في الدنيا والآخرة) (3)، وقال: (من رأى عورة فسترها، كان كمن استحيا موءودة من قبرها) (4)، وقال: (من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله
__________
(1) رواه البخاري، 6777.
(2) رواه أبو داود: 4478.
(3) رواه أحمد.
(4) رواه البخاري في الأدب، وأبو داود والحاكم.
مثالب النفس الأمارة (199)
عورته حتى يفضحه بها في بيته) (1)
ولا تكتف بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ بل استعمل كل وسائل الحيلة لأن تدلهم على ربك، وتعرفهم بدينهم، فإنهم لو عرفوه لأقبلوا عليه بكل كيانهم، ولكان لك في ذلك الأجر العظيم، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم) (2)
واسمع لهذه الحكاية التي رويت عن رابعة العدوية، وكيف استطاعت أن تحول لصا إلى طريق الله، على الرغم من أنه جاء ليسرقها، فقد روي أن لصا دخل بيتها بعد منتصف الليل من أجل السرقة، فبحث فلم يجد شيئا إلا إبريقا؛ فلما أراد الخروج نادته قائلة: يا هذا إن كنت من الشطار فلا تخرج بغير شيء، فقال لها: إني لم أجد شيئا، فقالت: يا مسكين خذ هذا الإبريق، وتوضأ، وادخل في هذا المحراب، وصل ركعتين، فإنك ما تخرج إلا بشيء، فأخذ الإبريق، وتوضأ، ثم دخل محرابها، وحينها رفعت رابعة العدوية يدها إلى السماء وقالت: (سيدي ومولاي هذا قد أتى بابي، ولم يجد شيئا عندي، وقد أوقفته ببابك، فلا تحرمه من فضلك وثوابك)، فلما فرغ من صلاته قذف الله تعالى في قلبه الإيمان، فلذت له العبادة، وما برح يصلي إلى أن أذن الفجر، فلما دخلت عليه وجدته باكيا مصليا، فلما أراد الخروج سألته: كيف كانت ليلتك؟ فقال: وقفت بين يدي مولاي بذلي وافتقاري، فقبل عذري وتوبتي، وجبر كسري، وغفر لي الذنوب وبلغني المطلوب، ثم خرج، فرفعت يديها إلى السماء، ودموعها تجري، وقالت: (سيدي ومولاي، هذا وقف ببابك ساعة فقبلته، وأنا منذ عرفتك بين يديك هلا قبلتني)، فنوديت: (يا رابعة من أجلك قبلناه، وبسببك قربناه)
__________
(1) رواه ابن ماجة.
(2) رواه البخاري ومسلم.
مثالب النفس الأمارة (200)
تأمل هذه الحكاية ـ أيها المريد الصادق ـ ولا تسألني عن رابعة وبلدها وعصرها ومواقف الناس منها.. فكل ذلك لا يجديك.. والعاقل هو الذي يأكل اللباب، والأحمق هو الذي يشتغل بالقشور.. فكل المبقلة ولا تسأل عن البقال.
وابحث لك عن اسم في عالم الولاية.. فهو عالم مملوء بالأنوار، ولا يدخل إليه إلا الصادقون المخلصون الممتلئون بالحكمة.. فاسع لأن تكون منهم.. ولن تكون منهم حتى تسير على قدمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن تنحرف عن سراطه المستقيم.
مثالب النفس الأمارة (201)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن سر تقسيم النصوص المقدسة للذنوب والمعاصي إلى أنواع مختلفة، منها الصغير والكبير، والظاهر والباطن، والإثم والعدوان، واللمم وغيره.. ثم طلبت مني أن أحدثك خصوصا على الإثم والعدوان، كنموذج لأسرار ذلك التقسيم، باعتباره قد ذُكر في القرآن الكريم في مواضع متعددة، وهو ما يدل على أهميته، وضرورة معرفته لمن يريد تزكية نفسه.
وقد سرتني رسالتك كثيرا، وهي تدل على أنك تسير على المنهاج الصحيح في تزكية النفس، ذلك أن المصدر الأكبر للتزكية هو تلك النصوص المقدسة التي حوت كل قوانين التربية والتهذيب والتزكية، وخلت من كل ما قد ينحرف بالنفس ـ عند إرادتها التزكية ـ إلى ما يخرج بها عن الإنسانية والفطرة والجبلة التي جبلت عليها، مثلما حصل للكثير من المدارس التي اخترعت لنفسها من طرق التهذيب ما لم يأذن به الله؛ فأخرجت الإنسان عن إنسانيته، وانتكست بالفطرة عن طبيعتها التي خلقت عليها.
والسر في ذلك واضح، وهو أن العالم الأكبر بالنفس هو الله تعالى، ذلك أنه هو الذي خلق الإنسان، ويعلم خصائصه الظاهرة والباطنة، ولهذا كان أولى من يُرجع إليه في معرفتها، ومعرفة طرق تهذيبها وتزكيتها وترقيتها، مثلما يُرجع إلى صانع الآلة ومخترعها والخبير بإمكانياتها، وبما يحصل لها من عطب، وبما يؤول إليه أمرها.
ولهذا عقب الله تعالى خطابه للمؤمنين في قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13]، بتعقيبين، أولهما قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]، أي أنه لا يسمع تلك الكلمات التي يقولونها فقط، وإنما يعلم المنابع النفسية التي نبعت منها، وهو المعبر عنها بـ[ذات الصدور]
مثالب النفس الأمارة (202)
والتعقيب الثاني قوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وهو استفهام تقريري يؤكد تلك الحقيقة التي أشرنا إليها من أن الصانع هو الأعلم بالصنعة، وأنه المرجع فيها، وكيف لا يكون كذلك، وهو اللطيف الذي يعلم دقائق الأشياء، الخبير الذي يعلم تفاصيلها.
ولهذا، فإن تلك التقسيمات التي وردت في القرآن الكريم للذنوب، والتي سألتني عنها ـ أيها المريد الصادق ـ ليست تقسيمات اعتباطية، وإنما هي تقسيمات دقيقة ومهمة، ولها تأثيرها الكبير في التزكية، ولذلك يحتاج السالك إلى التعرف عليها.
وهي تشبه كثيرا ما يقوم به الأطباء من تقسيم الأمراض إلى أقسام كثيرة، حتى يعالجوا كل قسم بما يتناسب معه، ومع الخصوصيات التي يتميز بها عن سائر الأقسام.
ومن تلك التصنيفات التي أشرتَ إليها في رسالتك ما ورد في القرآن الكريم من تقسيم الذنوب إلى ذنوب ظاهرة وذنوب باطنة، كما في قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} (الأنعام:120)، فقد قسم الذنوب في هذه الآية إلى ذنوب ظاهرة وذنوب باطنة، وأمر بترك جميعها، حتى لا يكتفي المريد بتزكية ظاهره أو باطنه أو العكس.
وقريب منه ما ورد في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (لأعراف:33)
ومنها تصنيف الذنوب إلى كبائر وصغائر، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى:37)
ومنها تصنيف الذنوب إلى إثم وفواحش، ثم كبائر ولمم، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ
مثالب النفس الأمارة (203)
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (لنجم:32)
ومنها تصنيف الذنوب إلى صنفي الإثم والعدوان، وقد ورد ذلك في خمسة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (البقرة:85)، وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة:2)، وقال: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة:62)، وقال: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} (المجادلة:8)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} (المجادلة:9)
وبما أنك طلبت مني أن أحدثك عن هذا التصنيف الأخير؛ فسأقتصر في هذه الرسالة عليه، لأمرين: أولهما طلبك العزيز علي، والذي لا أستطيع رفضه، وثانيهما لأن فهم هذا التقسيم سيؤدي لا محالة إلى فهم سائر الأقسام، لأنها مستوعبة فيهما ببعض الوجوه، أو بالكثير منها، ولهذا وقع الخلاف بين العلماء في التفريق بينهما بسبب ذلك.
ولعل أحسن الأقوال في هذا، وأقربها للمعنى القرآني، هو ما اتفق عليه العلماء من تقسيم الذنوب إلى قسمين: خاصة، ومتعدية.. ويقصدون بالخاصة تلك الذنوب التي يمارسها العبد بينه وبين نفسه من غير أن يكون لها أي أثر خارجي، ويقصدون بالذنوب المتعدية تلك التي يكون لها أثر خارجي، كما عبر عن ذلك بعضهم بقوله: (اعلم أنّ الذنوب تُقسم إلى ما بين العبد وبين الله تعالى، وإلى ما يتعلق بحقوق العباد.. فما يتعلق بالعبد خاصة كترك الصلاة والصوم والواجبات الخاصة به وما يتعلق بحقوق العباد كتركه الزكاة وقتله
مثالب النفس الأمارة (204)
النفس وغصبه الأموال وشتمه الأعراض وكل متناول من حق الغير، فإما نفس أو طرف أو مال أو عرض أو دين أو جاه، وتناول الدين بالإغواء والدعاء إلى البدعة والترغيب في المعاصي وتهييج أسباب الجرأة على الله تعالى كما يفعله بعض الوعاظ بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف) (1)
وقد أشار إلى هذا التقسيم قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وهي تشير إلى أن العصاة يوم القيامة لا يتحملون أعمالهم التي عملوها فقط، وإنما يتحملون أثقالا أخرى بسبب كونهم سببا فيها.
ويشير إليها كذلك قوله تعالى في الجمع بينهما: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26]، وهو يشير إلى مبلغ الحقد الذي بلغه المشركون الذين لم يكتفوا بأن يرتكبوا الذنب الخاص الذي يتمثل في نأيهم ونفورهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودينه، وإنما أضافوا إليه نهي غيرهم عنه.
وأشار إليها ما ورد في الحديث من أن: (الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله: فالشرك بالله، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72]، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً: فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة) (2)
وعن الإمام علي أنه قال في بعض خطبه: (أيها الناس إن الذنوب ثلاثة: فذنب
__________
(1) إحياء علوم الدين: 4/ 36.
(2) رواه أحمد (6/ 240) (26073)، والحاكم (4/ 619) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
مثالب النفس الأمارة (205)
مغفور، وذنب غير مغفور، وذنب نرجو ونخاف عليه.. أما الذنب المغفور فعبد عاقبه الله تعالى على ذنبه في الدنيا؛ فالله أحكم وأكرم أن يعاقب عبده مرتين، وأما الذي لايغفر فظلم العباد بعضهم لبعض، إن الله تبارك وتعالى أقسم قسما على نفسه فقال: وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كف بكف، ولو مسحة بكف، ونطحة ما بين الشاة القرناء إلى الشاة الجماء؛ فيقتص الله للعباد بعضهم من بعض حتى لا يبقى لاحد عند أحد مظلمة، ثم يبعثهم الله إلى الحساب، وأما الذنب الثالث فذنب ستره الله على عبده ورزقه التوبة فأصبح خاشعا من ذنبه راجيا لربه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة، ونخاف عليه العقاب) (1)
ويمكنك من خلال هذا التقسيم ـ أيها المريد الصادق ـ أن تضم كل الأقسام الواردة في القرآن الكريم، كما قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]، وبذلك فإن الإثم يمكن تقسيمه إلى ظاهر وباطن.. ومثله العدوان.. فسوء الظن الذي ورد النهي عنه في القرآن الكريم، والذي هو المقدمة لكل مظاهر العدوان، ينطلق من الباطن.. وبذلك يمكن تقسيم كل من الإثم والعدوان إلى هذه الأقسام.. وهكذا يمكن تقسيمها إلى كبائر وصغائر، وغيرها من التقسيمات.
وأنبهك ـ أيها المريد الصادق ـ ألا تستغرق في عالم الألفاظ، وتبني علومك عليها؛ فعالم الألفاظ وسيلة لا مقصد، والحقائق أعظم من أن يعبر عنها بها.. ولذلك إذا سمعت قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206]، أو قوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120]، أو قوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} [النور: 11]، أو قوله: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [الشورى: 37]؛ فلا تفهم من [الإثم] فيها اقتصارها على
__________
(1) بحار الأنوار: 6/ 29.
مثالب النفس الأمارة (206)
الذنوب الخاصة دون الذنوب المتعدية؛ بل المقصود منها كل الذنوب؛ فكلها خاصة حتى تلك المتعدية.
وهكذا إذا سمعت الله تعالى يحذرك من العدوان، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]، وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14]؛ فلا تفهم من [العدوان] فيها اقتصارها على الذنوب المتعدية؛ بل المقصود منها كل الذنوب؛ فكلها متعدية، وأول من تتعدى عليه الله تعالى.
إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاجتهد لتطهر أرض نفسك من الإثم والعدوان؛ فإنك إن طهرتها منهما طهرتها من كل الذنوب، وحينها تصبح طاهرا طيبا صالحا لأن تنبت فيك المكارم، فهي لا تنبت إلا في النفوس الطيبة الممتلئة بالإيمان.
فإذا تحركت نفسك لهذا؛ فعالج كل واحد منهما بما يتناسب معه، لتمحو الران الذي حجبك به عن حقيقتك، وعن المكارم التي أنزلك الله إلى الأرض لتكتسبها.
أول علاج للإثم ـ أيها المريد الصادق ـ أن تعلم أنه المنبع الذي تنبع منه كل الرذائل الخاصة والمتعدية؛ فمن تهاون فيما يسميه الذنوب الخاصة يوشك أن يقع في الذنوب المتعدية، ولذلك لا تلتفت لأولئك المرجئة الذين يغرونك عن نفسك، ويحقرون لك هذا النوع من الذنوب.. فلولاه لم تكن هناك ذنوب متعدية.
وكمثال مقرب لذلك [العجب] الذي هو باتفاق جميع الناس ذنب خاص.. فالشخص المعجب بنفسه لم يتعد على أحد، وإنما اكتفى بالإعجاب بنفسه..
مثالب النفس الأمارة (207)
لكن التهاون في هذا، سيجعله مغرورا.. ثم يجعله مستكبرا ينظر إلى غيره بازدراء واحتقار.. وذلك ذنب متعد.. ثم لا يكتفي بذلك، وإنما يتعامل معهم وفق موقفهم منه؛ فإن رأى في بعضهم عدم تقدير أو احترام له راح يحقد عليهم، وقد يحسدهم.. وكل ذلك يجره إلى كل أنواع الذنوب المتعدية.
ولو أن هذا الشخص بدأ بذلك الذنب القاصر، فعالجه، وأصلحه قبل أن يتجذر في نفسه لما تحول إلى ذنب متعد، يصعب علاجه.
ولهذا عندما ذكر القرآن الكريم الاستعاذة من الحسد قال: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5]، وهو يشير إلى أن الحسد في بدايته هيئة نفسية مرتبطة بصاحبها فقط، لكنه يتحول بعد ذلك إلى حالة متعدية تؤذي غيرها.. ولهذا لم تكن الاستعاذة من أصل الحسد، وإنما من آثاره.
وهكذا، فإن الشيطان الرجيم كان يملك في نفسه تلك الآثام التي تمنعه من السجود، لكنها لم تظهر إلا في المواقف الخاصة بها.
ولهذا فإن الذي لا يراقب نفسه، أو يعيش في بيئة قد لا تسمح لأخلاقه بالظهور، لا يغتر بذلك، فيدعي طهارة نفسه من الإثم والعدوان، وإنما عليه أن يبحث عن أصولها في نفسه ليعالجها.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تلجم نفسك عن آثامها قبل أن تتحول إلى ذنوب متعدية تفوح رائحتها الكريهة، وقد قال الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
ولهذا عندما نهانا الله تعالى عن الفواحش، وهي من أخطر الذنوب المتعدية، أمرنا بأن نجتنب مبادئها التي قد تكون ذنوبا خاصة، فقال:
مثالب النفس الأمارة (208)
{وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأنعام:151).. وفيه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (الاسراء:32)
فانظر ـ أيها المريد الصادق ـ كيف أن القرآن الكريم حذرنا من مجرد الاقتراب من الفواحش، لأن الاقتراب منها قد يوقع فيها، ولهذا ورد النهي عن كل الأسباب الدافعة لذلك حتى لو كانت ذنوبا خاصة.
فالتبرج بالزينة ليس ذنبا خاصا، ذلك أن كل من تقوم بذلك، تتحمل جرائر كل من ينظرون إليها من غير أن ينقص من ذنوبهم شيئا.
وهكذا فإن إطلاق البصر، وإن كان ذنبا خاصا إلا أنه قد يؤدي بصاحبه إلى الفاحشة، ويجره إليها من حيث لا يشعر، وقد ورد في وصية المسيح عليه السلام قوله: (قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن، وأما أنا أقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه) (متى 5: 27، 28)
ولهذا ورد الأمر بغض البصر، لأنه الوسيلة الوحيدة لحفظ عفاف النفس وطهارتها؛ فمن تنجست عينه تنجست نفسه، ومن تنجست نفسه فاحت رائحته الكريهة، وتحول ذنبه من الإثم إلى العدوان، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (النور:30)
ومثل ذلك أمر النساء بغض البصر مثل الرجال، وعدم إبداء زينتهن إلا لمحارمهن، قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ
مثالب النفس الأمارة (209)
يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:31)
وكل هذا علاج للآثام قبل أن تتحول إلى معاص متعدية يصعب الفكاك منها.. ولهذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ اعتبار الآثام مرحلة من مراحل العدوان، والمسارعة في علاجها لا تحفظ الفرد فقط، وإنما تحفظ المجتمع أيضا.
ولذلك كان جرم أولئك المرجئة المهونين من الآثام خطيرا، ذلك أنهم يوفرون البيئة الحاضنة لكل الجرائم.. فالجريمة لا تبدأ من الخارج، وإنما تبدأ من النفس.. والخارج صدى الداخل.. ومن امتلأ بالصراع في داخله، فسيملأ بالصراع كل ما يحيط به شعر أو لم يشعر.
ولهذا ورد في النصوص المقدسة بيان العقوبات الشديدة التي ينالها تاركو الصلاة مع كونها في الظاهر إثما خاصا، وليست عدوانا.. لكن آثار تركها يمكن أن تملأ العالم كله بالخراب.
ولهذا ورد في الحديث الإخبار بأن (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمل به ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) (1)
بل إن القرآن الكريم يشير إلى ذلك، بل يكاد يصرح به، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45)
فالآية الكريمة تبين أن الصلاة هي العلاج الذي يحمي المجتمع من الفواحش
__________
(1) رواه أبو داود (864)، والترمذي (413)، والنسائي (1/ 232)، وابن ماجه (1425)
مثالب النفس الأمارة (210)
والمنكرات، والذي يترك صلاته يشبه ذلك المجنون الذي لا يتناول دواءه، ثم يخرج إلى المجتمع ليملأه بما يأمره به جنونه.
ولهذا يأمر الله تعالى بالاستعانة بالصلاة لحفظ المجتمع من العدوان بأنواعه المختلفة، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة:45)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة:153)
لذلك، فإن من يهون من أمر الصلاة باعتبارها من الآثام، والذنوب الخاصة لا يختلف عن ذلك الذي يهون من أمر متناولي المخدرات والمسكرات، باعتبارهم لا يفعلون ذلك إلا بأنفسهم.. مع أنه لولا وجودهم لما كان هناك من يتاجر بهما، ويدعو لهما.
وهكذا اعتبر القرآن الكريم الصيام علاجا للتقوى، ومن أهمل الصيام، أو احتقره باعتباره إثما خاصا، يجعل المجتمع خاليا منها.. وإذا خلى المجتمع من التقوى، أصبح مجتمع وحوش لا مجتمع بشر.. فالتقوى هي صمام أمان المجتمع.. ولذلك كان حفظها حفظ للمجتمع، وللدولة، وللأمة جميعا.
إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاترك أولئك المشاغبين المنشغلين بالأماني الكاذبة، واقرأ كتاب ربك، وسنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وما ورد فيهما من العقوبات الشديدة على الذنوب مهما كان نوعها، فهما الناصحان، ومن خالفهما فقد غشك.
وإن شئت مثالا لهذا من القرآن الكريم، فاقرأ قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، فقد أخبر الله تعالى أن اتباع سخط الله، وهو ما يمكن أن يكون في أي ذنب من الذنوب، سيؤدي لا محالة إلى إحباط الأعمال، وقد عقب الله تعالى الآية الكريمة بقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 29]، وهي تشير إلى أن أمراض القلوب التي يعتبرونها
مثالب النفس الأمارة (211)
من الذنوب الخاصة، قد تخرج في أي لحظة لتعبر عن نفسها على شكل ذنوب متعدية.
وإن شئت مثالا لهذا من السنة المطهرة، فاقرأ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا يضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) (1)
فالحديث يشير إلى أن لكل ذنب من الذنوب أثره الكبير في النفس، والذي قد يتحول إلى حجاب يحول بين القلب وبين رؤية الحقائق، حتى يتحول المنكر إلى معروف، والمعروف إلى منكر.
إذا عرفت كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ ووعيته واستوعبته نفسك؛ فاعلم أنه لا يمكن علاج الذنوب المتعدية علاجا شاملا وكاملا وصحيحا إلا إذا بدأتها من مرحلتها الأولى التي هي مرحلة [الإثم]
فالذي يريد أن يتخلص من الكبر الذي هو أخطر الأمراض المتعدية، لا يمكنه أن يتخلص منه بطريقة صحيحة إلا إذا تخلص من المستنقعات التي تمده، وأولها العجب والغرور وغيرها.. فلا يمكن أن يتخلص من الكبر من جثا في محراب نفسه يعبدها من دون الله.
وهكذا، فإن الذي يحتقر ترك الصلاة، أو التهاون فيها، باعتبارها من الآثام، يوشك أن يقع في كل الجرائم.. مع أن ترك الصلاة ليست ذنبا خاصا فقط، بل هو ذنب متعد، لأنها
__________
(1) رواه مسلم وغيره.
مثالب النفس الأمارة (212)
عدوان على الله، وجحود لفضله، وتكذيب لأمره، واحتقار لما أمر بالتشدد فيه، ولذلك قرن الله تعالى التعامل السيئ مع الصلاة بالتعامل السيئ مع الخلق، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون: 4 - 7]
فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أن المتهاونين في الصلاة المرائين بها، يمنعون المعونات عن غيرهم، وهو من أخطر الذنوب المتعدية.
ولهذا ورد في القرآن الكريم النهي عن التعاون على الإثم والعدوان، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، ذلك أن الذي يعين غيره على ذنب خاص، أو يوفره له، أو ييسر عليه ممارسته، يوشك أن ينتكس بشخصيته، ليحوله إلى مجرم لا يقتصر إجرامه على نفسه، وإنما يتعداها إلى غيره.
بالإضافة إلى كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن خطر الذنوب المتعدية يفوق كثيرا خطر الذنوب الخاصة، مع كون كليهما ذنوبا وخطايا.
ذلك أن صاحب الذنب الخاص، يمكنه أن يتوب إلى الله تعالى في أي لحظة، ويصحح أخطاءه التي وقع فيها، بينما صاحب الذنب المتعدي يحتاج إلى أن يمر على كل من آذاهم، ليستحلهم، لا ليمحو تلك الذنوب التي سجلت عليه بسببهم فقط، وإنما ليمحو آثار دعواتهم عليه، والتي قد تحول بينه وبين التوبة.
لذلك ورد التحذير الشديد من الذنوب المتعدية، لأن إصلاحها أو تصحيحها يحتاج جهدا كبيرا مضاعفا، قد لا يحتاج مثله صاحب الذنب الخاص.
ولهذا شرط القرآن الكريم الكثير من الشروط لمن يريدون التوبة من كتمان الهدى الإلهي، وهو من أخطر الذنوب المتعدية، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ
مثالب النفس الأمارة (213)
الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160]
فالآية الكريمة تخبر أن الله تعالى لا يتوب عليهم، بمجرد التوبة والندم فقط، وإنما شرطت شرطان إضافيان، أولهما الإصلاح، أي إصلاح ما أفسدوه بكتمانهم.. والثاني البيان.. أي الاعتراف والإقرار والتصريح بالكتمان.. وعدم الاكتفاء بالإصلاح من دون الاعتراف.
ولهذا نرى المصادر المقدسة تبين خطر الذنوب المتعدية، لأن التوبة منها تحتاج جهدا كبيرا مضاعفا، وتبعاتها قد لا يمكن تحملها، خاصة إذا انتشر العدوان، ولم يتمكن التائب من الوصول إلى كل من آذاهم، وحينها تبقى توبته قاصرة، ولو بذل فيها كل جهده، ذلك أن كل من لم يستطع أن يستحلهم، يطالبونه يوم القيامة بما ارتكبه في حقهم، حتى لو تاب منه في الدنيا.
ولذلك لا تسمع ـ أيها المريد الصادق ـ لأولئك الذين يكذبون عليك، ويمنونك بأن مجرد توبتك تكفي لمحو سيئاتك، فهؤلاء لم يسمعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثمَّ دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه) (1)
وقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الواقع في أمثال هذه الذنوب مفلسا، وإن جاء بجبال من الحسنات، لأنها سرعان ما توزع على الذين ظلمهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أتدرون من المفلس؟) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة
__________
(1) رواه البخاري (6534)
مثالب النفس الأمارة (214)
وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) (1)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب ولكن سيرضى منكم بما هو دون ذلك بالمحقّرات وهي الموبقات، فاتّقوا الظلم ما استطعتم فإنّ العبد ليجيء يوم القيامة بأمثال الجبال من الطاعات فيرى أنّها ستنجينّه، فما يزال عبد يجيء فيقول: يا ربّ إنّ فلانا ظلمني بمظلمة فيقال: امح من حسناته، فما يزال كذلك حتى ما يبقى له من حسناته شيء، وإنّ مثل ذلك مثل سفر نزلوا بفلاة من الأرض ليس معهم حطب فتفرّق القوم فاحتطبوا فلم يلبثوا أن أوقدوا نارهم وصنعوا ما أرادوا وكذلك الذّنوب) (2)
فاسمع ـ أيها المريد الصادق ـ لهذه الأحاديث بأذن قلبك، وإياك أن تترك نبيك صلى الله عليه وآله وسلم الحريص عليك وعلى مصالحك وسعادتك، لتسمع لأولئك الذين يمنونك الأماني الكاذبة؛ فهم لا يختلفون عن الشيطان الذي غر أباك آدم؛ فأكل من الشجرة، وكانت سبب خروجه من الجنة.
فاحذر أن يخرجوك من الجنة التي أعدها الله لك.. والتي لا يدخلها إلا الطيبون الطاهرون الذين عظموا حق الله، وعرفوا خطر الذنوب، ولم يستهينوا بشيء منها.. فوردوا القيامة مخفين، من دون أثقال ولا أوزار؛ فتحقق لهم الفوز في الدنيا والآخرة.
__________
(1) رواه مسلم رقم (2581)، والترمذي رقم (2420)
(2) رواه أحمد، ورواه أبو يعلى والخرائطي في مساوئ الأخلاق والطبراني في الكبير والحاكم والضياء.
مثالب النفس الأمارة (215)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الحدة والغضب، وهل هما من الطباع التي طُبع عليها البشر؛ فلا انفكاك لهم منها، أم أنهما خاضعان للرياضة والتهذيب والإصلاح؟.. ثم سألتني عن كيفية ذلك؟.. وعن سر اختلاف الناس في حدة الغضب وشدته؟.. وعن أولئك الذين يبررون تصرفاتهم بكونهم مارسوها في حالة غضب، وهل يؤاخذون عليها، أم أن الله يعفو عنهم لعدم تحكمهم في نفوسهم حال الغضب؟
وغيرها من أسئلتك الوجيهة، والتي لا يمكن لمن يريد أن يهذب نفسه أن يجهل الإجابة الصحيحة عليها، ذلك أن الغضب وسيلة الشيطان الكبرى للتحكم في تصرفات الإنسان، ومن لم يهذب غضبه، ويعدله وفق الشريعة، صار زمام أمره بيد الشياطين يعبثون به كما يشاءون.
ولو أنك ـ أيها المريد الصادق ـ تأملت في كل أنواع الصراع التي حصلت بين الأمم والشعوب، أو بين المجتمعات ومكوناتها، أو حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، لوجدت أن الغضب هو السبب الأكبر فيها.. ولو أن الذين وقعوا في ذلك الصراع تحكموا في غضبهم، وعالجوه وفق ما تقتضيه الشريعة، لكان وضع البشرية مختلفا تماما.
ولذلك ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على أن الغضب نار في نفس الإنسان، لا تختلف عن النار التي يتشكل منها الشيطان، ولذلك كانت أقرب المحال التي يوصل بها رسائله إلى الإنسان، ليحوله إلى مساره وطبيعته، إلى أن يصير شيطانا إنسيا لا يختلف عن شيطان الجن، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الغضب من الشّيطان، وإنّ الشّيطان خلق
مثالب النفس الأمارة (216)
من النّار، وإنّما تطفأ النّار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضّأ) (1)
وروي عن ذي القرنين أنّه لقي ملكا من الملائكة فقال: علّمني علما أزدد به إيمانا ويقينا، قال: (لا تغضب فإنّ الشّيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فردّ الغضب بالكظم، وسكّنه بالتّؤدة، وإيّاك والعجلة فإنّك إذا عجلت أخطأت حظّك وكن سهلا ليّنا للقريب والبعيد، ولا تكن جبّارا عنيدا) (2)
وروي أن إبليس قال: (ما أعجزني بنو آدم فلن يعجزوني في ثلاث: إذا سكر أحدهم أخذنا بخزامته فقدناه حيث شئنا وعمل لنا بما أحببنا، وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم، ونبخّله بما في يديه ونمنّيه بما لا يقدر عليه) (3)
ولهذا كان الغضب سببا لكل أنواع الصراع والعدوان، التي وقعت بين البشر، ولعل الملائكة عليهم السلام أدركوا ذلك عندما علموا بالمركبات التي تتكون منها نفس الإنسان، فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]
لكن الله تعالى أخبرهم أن هناك من يستطيع أن يسيطر على غضبه، ويصرفه إلى مواضعه الصحيحة، مثلما تستعمل النار في الطبخ، لا في الحرق.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الشّديد بالصّرعة، إنّما الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب) (4)؛ فلم ينف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغضب عن الشديد، وإنما أخبر عن تحكمه فيه، مثلما نتحكم في النار، فنستفيد منها في طبخ الطعام، دون أن تحرقه.
ولهذا أخبر الله تعالى عن غضب الأنبياء عليهم السلام، وكيف صرفوه في مواضعه
__________
(1) أبو داود (4784)، وأحمد (4/ 226)
(2) إحياء علوم الدين (3/ 177)
(3) المرجع السابق، (3/ 177)
(4) البخاري [فتح الباري]، 10 (6114)، ومسلم (2609)
مثالب النفس الأمارة (217)
الصحيحة، ومن ذلك ما أخبر به عن غضب موسى عليه السلام عندما عبد قومه العجل، قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 150]، وقال: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [طه: 86]
وأخبر عن غضب يونس عليه السلام من إعراض قومه، فقال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء: 87]
وأخبر عن غضب نوح عليه السلام ودعوته على قومه بسبب إعراضهم الشديد في تلك الآماد الطويلة، قال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26، 27]
وأخبر عن غضب إبراهيم عليه السلام على قومه بسب إعراضهم الشديد، وأنه قال لهم في حال غضبه: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66، 67]
وهكذا ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان (إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتدّ غضبه حتّى كأنّه منذر جيش يقول: (صبّحكم ومسّاكم)، ويقول: (بعثت أنا والسّاعة كهاتين) (1)
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم رخّص في بعض الأمور، فتنزّه ناس عنها، فبلغه ذلك، فغضب حتّى بان الغضب في وجهه. ثمّ قال: (ما بال أقوام يرغبون عمّا رخّص لي فيه، فو الله لأنا أعلمهم
__________
(1) مسلم (867)
مثالب النفس الأمارة (218)
بالله وأشدّهم له خشية) (1)
وروي أن رجلا قال: يا رسول الله. إنّي لأتأخّر عن الصّلاة في الفجر ممّا يطيل بنا فلان فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ قال: (يا أيّها النّاس إنّ منكم منفّرين فمن أمّ النّاس فليتجوّز، فإنّ خلفه الضّعيف والكبير وذا الحاجة) (2)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الشريعة الحكيمة لم تطالبك بقطع أصل الغضب، فذلك مستحيل، وغير ممكن، وكيف يكون ذلك وهو طبع من الطباع التي جبل عليها الإنسان، ولولاها لما استطاع تهذيب نفسه وإصلاحها؛ فغضبه على نفسه وسوء أخلاقها هو الذي يجره إلى مجاهدتها.
ولولاه لما جاهد الظالمين الذين يظلمون المستضعفين، كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75]،وهل الجهاد سوى ذلك الغضب للمظلومين، والذي يدعو إلى حمايتهم وتخليصهم من المستكبرين؟
ولولا الغضب لم يتحرك قلب المسلم لنصرة أخيه في حال حاجته إليه، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من أمرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلّا خذله الله في موطن يحبّ فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك من حرمته إلّا نصره الله في موطن يحبّ نصرته) (3)
ولولا الغضب لم تكن هناك تلك الغيرة الشرعية التي تجعل صاحبها يحافظ على
__________
(1) البخاري [فتح الباري] 10 (6101)، ومسلم (2356)
(2) البخاري [فتح الباري]، 2 (704) واللفظ له، ومسلم (466)
(3) أبو داود (4884) وأحمد (4/ 30)
مثالب النفس الأمارة (219)
عرضه، ولا يدعه عرضة للانتهاك، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد، فوالله لأنا أغير منه، والله أغير منّي، من أجل غيرة الله حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحبّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشّرين ومنذرين، ولا شخص أحبّ إليه المدحة من الله، من أجل ذلك وعد الله الجنّة) (1)
ولولا الغضب لم يتحرك المؤمن المحتسب لمواجهة المنكر.. ولهذا أثنى الإمام علي على أبي ذر الذي غضب في ذات الله على تلك التحريفات العظمية التي حصلت لدين الله، فقال مخاطبا له: (يا أبا ذر: إنك غضبت لله، فَارْجُ من غضبتَ له، إن القوم خافوك على دنياهم وخِفتَهُم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب بما خِفتَهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عما منعوك، ولو أن السماوات والأرض كانتا على عبد رتقاً، ثم اتقى الله، لجعل له منهما مخرجاً، ولا يُؤنِسنّك ألا الحق، ولا يُوحِشنّك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمّنوك) (2)
لكن إياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تبرر لنفسك غضبها، وتذكر أثناء ذلك ما كان من غضب الأنبياء عليهم السلام؛ فقد كان غضبهم لله تعالى، ولم يكن لأنفسهم، وكان مضبوطا بضوابط الشريعة، لا بنوازع الهوى، وقد ورد في الحديث: (ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أمرين إلّا اختار أيسرهما، ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قطّ حتّى تنتهك حرمات الله فينتقم لله) (3)
ولهذا؛ فإن تعديل الغضب يقتضي القدرة على التحكم فيه، حتى يصرف في محاله
__________
(1) البخاري [فتح الباري] 13 (7416)، ومسلم (1499)
(2) بحار الانوار 22/ 412.
(3) البخاري [فتح الباري] 12 (6786) ومسلم (2327)
مثالب النفس الأمارة (220)
الصحيحة، وحتى لا يكون وبالا على صاحبه، وقد ورد في الحديث أن ذلك الرجل الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته: (لا تغضب)، قال: (ففكّرت حين قال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشّرّ كلّه) (1)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما أورده لك من الأدوية التي تجعلك تتحكم في غضبك؛ فتحركه متى تشاء، وتوقفه متى تشاء.. لتكون أنت ملك نفسك، وليس الشيطان الذي يراقب انفعالاتك وأهواءك لينحرف بك من خلالها.
أول علاج تنطلق منه ـ أيها المريد الصادق ـ لإصلاح غضبك وتوجيهه الوجهة الشرعية المتناسبة مع الفطرة السليمة هي أن تعلم مضار الغضب، وخطورته عليك، وعلى شخصيتك، ونفسك، وحياتك في الدنيا والآخرة.. مثلما تفعل تماما مع الأغذية التي ترى خطرها؛ فتسرع لتحرم نفسك منها خشية أن تحرمك من الحياة، أو من بعض ملذاتها.
وقد قال الإمام الصادق معبرا عن الثمار التي ينتجها الغضب: (الغضب مفتاح كلّ شرّ) (2)
وشبه بعض الحكماء حال الإنسان عند الغضب بالسّفينة عند اضطراب الأمواج في لجّة البحر، (إذ في السّفينة من يحتال لتسكينها وتدبيرها وسياستها أمّا القلب فهو صاحب السّفينة وقد سقطت حيلته بعد أن أعماه الغضب وأصمّه، ويظهر ذلك على أعضائه وكلامه وفعاله) (3)
ثم ذكر أنه (لو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح
__________
(1) أحمد (5/ 373)
(2) الكافي ج 2 ص 303.
(3) إحياء علوم الدين (3/ 184)
مثالب النفس الأمارة (221)
صورته واستحالة خلقته، وقبح الباطن أعظم من قبح الظّاهر فإنّ الظّاهر عنوان الباطن)
ثم ذكر الثمار المرة التي ينتجها الغضب، فقال: (وإنّما قبحت صورة الباطن أوّلا ثمّ انتشر قبحها إلى الظّاهر ثانيا، وأمّا في اللّسان فأثره بالشّتم والفحش الّذي يستحي منه قائله عند سكون الغضب فضلا عن تخبّط النّظم واضطراب اللّفظ، وأمّا أثره على الأعضاء فالضّرب والتّهجّم والتّمزيق والقتل للمغضوب عليه وإذا فلت منه بسبب عجز أو غيره فقد يرجع إلى صاحبه فربّما مزّق ثوب نفسه أو لطم وجهه وربّما ضرب بيده على الأرض. وأمّا أثره في القلب على المغضوب عليه فالحقد والحسد واضحا والسّوء والشّماتة بالمساءات) (1)
ولهذا قال الإمام الصادق: (الغضب ممحقة لقلب الحكيم)، وقال: (من لم يملك غضبه لم يملك عقله) (2)
وقال بعض الحكماء لابنه: (يا بنيّ لا يثبت العقل عند الغضب كما لا تثبت روح الحيّ في التّنانير المسجورة، فأقلّ النّاس غضبا أعقلهم، فإن كان لدنيا كان دهاء ومكرا وإن كان للآخرة كان حلما وعلما، فقد قيل: الغضب عدوّ العقل والغضب غول العقل) (3)
ولذلك لا تلتفت لأولئك الذين يبررون لأنفسهم سرعة غضبهم، ويعتبرونه جبلة جبلوا عليها؛ فما كان الله ليجبل عباده على الشر، وإنما هم الذين مكنوا لغضبهم، وربوه، وحولوه إلى ملك يتحكم فيهم، ولو أنهم واجهوه وعالجوه، لما تمكن منهم.
ولولا ذلك لم يكن لوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للرجل بالتحكم في غضبه أي معنى.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحيل عليه أن ينهى عن شيء لا يطاق.
__________
(1) المرجع السابق، (3/ 184)
(2) الكافي، ج 2 ص 306.
(3) إحياء علوم الدين (177)
مثالب النفس الأمارة (222)
وروي أن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرّ بقوم يصطرعون، فقال: ما هذا؟ قالوا: فلان، ما يصارع أحدا إلّا صرعه، قال: (أفلا أدلّكم على من هو أشدّ منه؟ رجل كلّمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه) (1)
ولهذا ورد في الحديث بيان فضل البشر بحسب تحكمهم في غضبهم، وقد قسمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك إلى أربعة أصناف؛ فقال: (ألا إنّ بني آدم على طبقات شتّى، فمنهم بطيء الغضب سريع الفيء، ومنهم سريع الغضب سريع الفيء فتلك بتلك، ألا وإنّ منهم سريع الغضب بطيء الفيء، ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء، ألا وشرّهم سريع الغضب بطيء الفيء) (2)
وهذا الحديث يدل على أن بإمكان الإنسان التحكم في غضبه، بحيث لا يغضب إلا في المواطن التي تستحق الغضب، وأنه بعد ذلك الغضب يمكنه أن يتحكم في مدته وكيفية التصرف فيه..
ومما يعينك على هذا ـ أيها المريد الصادق ـ معرفة أنواع الجزاء التي ينالها من يتحكمون في غضبهم، وأولها ما وصف به القرآن الكريم ذلك الجزاء العظيم الذي ينتظر المؤمنين الذين يغفرون عند غضبهم، والذي لا يساوي أمامه متاع الدنيا شيئا، قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 36، 37]
وبين سعة النعيم الذي ينتظر من وسعوا صدورهم، فلم يضيقها الغضب، ولم تخنقها
__________
(1) رواه البزار (2/ 439) برقم (2053)
(2) الترمذي (2191) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
مثالب النفس الأمارة (223)
الحدة، فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134]
فتمثل ـ أيها المريد الصادق ـ هذا الجزاء العظيم الذي ينتظر ذلك الذي يكظم غيظه، ويملك غضبه؛ فيكون أهدأ ما يكون عندما يستفز ويستثار..
وإن شئت، فتمثل نفسك، وكأنك في مسابقة لمن يكظمون غيظهم، وأن الفائز فيها ينال ملايين الدنانير من الذهب والفضة.. وسترى كيف تتحكم في نفسك طمعا في تلك الجائزة العظيمة، مع أن ما أعد الله للمتحكمين في غضبهم، والكاظمين لغيظهم أعظم بكثير.
وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من جرعة أعظم أجرا عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله) (1)
وقال: (من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنّم، ألا إنّ عمل الجنّة حزن بربوة (ثلاثا)، ألا إنّ عمل النّار سهل بشهوة، والسّعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحبّ إليّ من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلّا ملأ الله جوفه إيمانا) (2)
فتأمل هذا المعنى ـ أيها المريد الصادق ـ فهو لا يمكن تقديره بثمن.. ذلك أنك في الوقت الذي تبتسم فيه أثناء استفزازك وإغضابك تكون محل قرب ومحبة من ربك..
وأضف إلى هذا ما ورد في الأحاديث من حرمان الكاظمين لغيظهم من العذاب، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كفّ غضبه كفّ الله عنه عذابه، ومن اعتذر إلى ربّه
__________
(1) ابن ماجه (4189) وأحمد (2/ 128) برقم (6116)
(2) أحمد (5/ 9 - 10) رقم (3017)
مثالب النفس الأمارة (224)
قبل الله عذره، ومن خزن لسانه ستر الله عورته) (1)
بل ورد ما هو أعظم من ذلك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كظم غيظا ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا، وأمنا وإيمانا) (2)
وروي أنّ رجلا جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! أيّ النّاس أحبّ إلى الله تعالى؟ وأيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أحبّ النّاس إلى الله تعالى أنفعهم للنّاس، وأحبّ الأعمال إلى الله تعالى سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحبّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا، ومن كفّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتّى يتهيّأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام) (3)
ولا يقتصر جزاء المتحكمين في غضبهم على ذلك الجزاء المعنوي الذي لا يقدر بثمن، بل قد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض الجزاء الحسي الذي ينالونه؛ فقال: (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عزّ وجلّ على رؤوس الخلائق حتّى يخيّره من الحور ما شاء) (4)
ولهذا فإن ابتلاء الله تعالى لك ـ أيها المريد الصادق ـ بإيقاعك في المواقع التي تثير غضبك فرصة لك لتنال كل هذه الأجور العظيمة التي لا يمكن أن تنالها من دونها.. فابتهلها، واغتنمها، ولا تفرط فيها لأجل غضب يضرك أكثر مما ينفعك.. وقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: (نعم الجرعة الغيظ لمن صبر عليها فإنّ عظيم الأجر لمن عظم البلاء،
__________
(1) الطبراني في الأوسط، مجمع الزوائد ج 8 ص 68.
(2) ابن أبي الدنيا، وأبو داود ج 2 ص 548.
(3) رواه الطبراني في الكبير (12/ 453)
(4) الترمذي (2021)، وأبو داود (4777) واللفظ له، وابن ماجه (4186)
مثالب النفس الأمارة (225)
وما أحبّ الله قوما إلّا ابتلاهم) (1)، وقال: (ما من عبد كظم غيظا إلّا زاده الله تعالى عزّا في الدّنيا والآخرة، وأثابه الله مكان غيظه ذلك)
فهذه الروايات تدل على أن الله تعالى يختبر عباده بأن يوقعهم في مثل تلك المحال التي تثير غضبهم، ليتميز الخبيث منهم من الطيب، مثلما ابتلى إبليس بالسجود لآدم عليه السلام، ولولا ذلك ما ظهر كبره وحسده.
ومما يروى عن لقمان في هذا قوله: (ثلاثة لا يعرفون إلّا عند ثلاثة: لا يعرف الحليم إلّا عند الغضب ولا الشجاع إلّا عند الحرب، ولا تعرف أخاك إلّا عند حاجتك إليه)
ولهذا قال الإمام الكاظم: (اصبر على أعداء النعم فإنّك لن تكافئ من عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه) (2)، وهي حكمة تدلك على أن عبوديتك لله تعالى في المواقف التي تثير غضبك هي أن تتحكم في نفسك، ولا تترك لها العنان لتمارس أهواءها، بل عليك حينها أن تذكر ربك، وتطبق شريعته في غضبك كما تطبقها في رضاك.
وقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء؟ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) (3)
فاجتهد ـ أيها المريد الصادق ـ لتستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غضبك ورضاك، فلا تترك في كليهما لنفسك هواها، بل تحكم شريعة ربك، وأخلاق نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، فالكمال في اتباع هديه، لا في اتباع هوى نفسك الأمارة.
__________
(1) الكافي ج 2 ص 110.
(2) الكافي، ج 2 ص 109 و110.
(3) رواه أبو داود.
مثالب النفس الأمارة (226)
ومما يعينك على ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ علمك برؤية الله لك عند غضبك، وتوليه الدفاع عنك، كما نص على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]
وقد روي في تفسيرها عن الإمام الصادق أنه قال: (إنّ في التوراة مكتوبا: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك عند غضبي فلا أمحقك فيما أمحق، وإذا ظلمت بمظلمة فارض بانتصاري لك فإنّ انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك) (1)
وروي أنه قال: (إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت وأنت أهل لما قلت ستجزى بما قلت، ويقولان للحليم منهما: صبرت وحلمت سيغفر الله لك إن أتممت ذلك، قال: فإن ردّ الحليم عليه ارتفع الملكان) (2)
وقد ورد في الحديث أن رجلا كان يشتم بعض الصحابة، وهو ساكت؛ فلمّا ابتدأ لينتصر منه قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إنّك كنت ساكتا لمّا شتمني فلمّا تكلّمت قمت؟ قال: (لأنّ الملك كان يجيب عنك، فلمّا تكلّمت ذهب الملك وجاء الشيطان؛ فلم أكن لأجلس في مجلس فيه الشيطان) (3)
فتذكر عند غضبك ـ أيها المريد الصادق ـ هذان الملكان اللذان توليا الدفاع عنك والثناء عليك، ولا تجعلهما يرتفعان بسبب طيشك أثناء غضبك.
وإن نازعتك نفسك وذكرت لك أنك بشر، وأن للغضب حدودا، وأن من استغضب فلم يغضب فهو حمار، فذكرها بتلك النماذج التي جعلها الله حججا على خلقه، يقتدون بها، ويسلكون سبيلها، ومنهم المسيح عليه السلام، فقد روي أنه مرّ بقوم من اليهود
__________
(1) الكافي ج 2 ص 306.
(2) الكافي ج 2 ص 112.
(3) أبو داود ج 2 ص 572.
مثالب النفس الأمارة (227)
فقالوا له شرّا، فقال لهم خيرا، فقيل له: (إنّهم يقولون شرّا وأنت تقول خيرا؟) فقال: كلّ واحد ينفق ممّا عنده.
ومنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد الحلماء الرحماء، وقد حدث أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه رداء نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ فجبذه بردائه جبذة شديدة. نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أثّرت بها حاشية الرّداء من شدّة جبذته، ثمّ قال: يا محمّد! مر لي من مال الله الّذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضحك ثمّ أمر له بعطاء) (1)
ومنهم الإمام الحسن؛ فقد روي أن شامياً رآه راكباً، فجعل يلعنه والحسن لا يرد، فلما فرغ أقبل الحسن إليه يبتسم في وجهه وقال: (أيها الشيخ، أظنك غريباً، ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك وإن كانت لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضعيفاً إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً).. فلما سمع الرجل كلامه بكى ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه.. الله أعلم حيث يجعل رسالته... كنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحب خلق الله إليّ، وَحَوّل رحله، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم.
ومنهم الإمام السجاد الذي ضرب أروع الأمثلة في التحكم في الغضب، والحلم عنده، وقد روي أنه كان يقول: (ما أحبّ أنّ لي بذلّ نفسي حمر النعم، وما تجرّعت جرعة
__________
(1) البخاري [فتح الباري] 10 (6088) ومسلم (1057)
مثالب النفس الأمارة (228)
أحبّ إليّ من جرعة غيظ لا أكافي بها صاحبها) (1)
وروي أن رجلا سبّه؛ فرمى إليه خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم (2)، وقد قال بعضهم معلقا على هذا الموقف: (جمع له خمس خصال: الحلم وإسقاط الأذى، وتخليص الرّجل ممّا يبعده من الله وحمله على الندم والتوبة ورجوعه إلى المدح بعد الذّم، اشترى جميع ذلك بشيء من الدّنيا يسير)
وروي أن رجلا شتمه، فقصده بعض مرافقيه، ليرد عنه، فقال لهم: (دعوه فإنّ ما خفي منّا أكثر ممّا قالوا)، ثمّ قال له: أ لك حاجة يا رجل؟ فخجل الرجل، فأعطاه الإمام السجاد ثوبه، وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل صارخاً، وهو يقول: (أشهد أنّك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (3)
وروي أنّ شخصاً آخر شتمه، فقال له: (يا فتى إنّ بين أيدينا عقبة كؤوداً؛ فإن جزت منها فلا أبالي بما تقول، وإن أتحيّر فيها فأنا شرّ ممّا تقول) (4)
وروي أن آخر سبّه، فسكت، فقال الرجل: إيّاك أعني، فرد عليه الإمام السجاد: (وعنك أغضي) (5)
وروي أنه مر يوما على قوم يغتابونه، فوقف عليهم، فقال: (إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وإن كنتم كاذبين فغفر الله لكم) (6)
__________
(1) الكافي ج 2 ص 109 و110.
(2) أورده الشعراني في الطبقات ج 1 ص 28.
(3) مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 157.
(4) المرجع السابق، ج 4 ص 157..
(5) المرجع السابق، ج 4 ص 157..
(6) بحار الأنوار، (46/ 62)
مثالب النفس الأمارة (229)
إذا عرفت كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وعزمت على أن تتحكم في غضبك، فعليك أن تستعين بربك، وتدرب نفسك بما تراه صالحا لها، كما روي عن بعضهم أنه كان شديد الغضب، وعندما أدرك خطره عليه، كتب ثلاث صحائف، فأعطى كل صحيفةٍ رجلاً، وقال للأول: إذا اشتد غضبي فقم إليّ بهذه الصحيفة، وقال للثاني: إذا سكن بعض غضبي فأعطنيها، وقال للثالث، إذا ذهب غضبي فناولنيها.. وكان في الصحيفة الأولى: أقصر، ما أنت وهذا الغضب؟ لست بِإله إنما أنت بشر!! أوشك أن يأكل بعضك بعضاً.. فيسكن بعض غضبه.. وكان في الصحيفة الثانية: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.. فيسكن بعض غضبه.. وفي الصحيفة الثالثة: خذ الناس بحق الله، فإنه لا يصلحهم إلاّ ذاك.. فلا يقرر أي قرار في حال غضبه يتنافى مع شريعة الله.
ولهذا كان الطريق الأمثل لعلاج الغضب هو ذكر الله.. فما ذكر الله في محل إلا خنس الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]، وبخلافهم الغافلين الذين {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202]
ولهذا روي في الحديث أنه استبّ رجلان عند النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأحدهما يسبّ صاحبه مغضبا قد احمرّ وجهه، فقال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّي لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم)، لكن الرجل كان غويا مستكبرا، فعندما ذكر له هذا، قال: (إنّي لست بمجنون) (1)
ولهذا فإن ذكر الله هو العلاج الأكبر للغضب، وقد روي عن الإمام علي أنه قال:
__________
(1) البخاري [فتح الباري]، 01 (6115) واللفظ له، ومسلم (2610)
مثالب النفس الأمارة (230)
(متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام، فيقال لي: ألا صبرت، أم حين أقدر عليه، فيقال لي: لو عفوت)
ومن الأدوية التي يمكن استعمالها في حال الغضب الشديد، وخشية اتخاذ أي قرار خاطئ ما أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (علّموا ويسّروا ولا تعسّروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت) (1)
ومما يعين على الحد من الغضب في حال اشتعاله الاشتغال بأي شيء آخر، يجعل الذهن منصرفا عن الحالة التي كان فيها.. ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك قوله: (إنّ الغضب من الشّيطان، وإنّ الشّيطان خلق من النّار، وإنّما تطفأ النّار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضّأ) (2)
ومنها ما ورد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلّا فليضطجع) (3)
ومنها ما ورد عن الإمام الباقر أنه قال: (إنّ الرّجل ليغضب فما يرضى أبدا حتّى يدخل النار، فأيّما رجل غضب على قوم وهو قائم فيجلس من فوره ذلك فإنّه سيذهب عنه رجز الشيطان، وأيّما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسّه فإنّ الرّحم إذا مسّت سكنت) (4)
__________
(1) أحمد (1/ 239) وفي رقم (2136)
(2) أبو داود (4784) وهذا لفظه، وأحمد (4/ 226)
(3) أبو داود (4782)، أحمد (5/ 152) ابن حبان (3/ 450)
(4) الكافي، ج 2 ص 302.
مثالب النفس الأمارة (231)
وقال: (إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في جوف ابن آدم وإنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإنّ رجز الشيطان يذهب عنه عند ذلك) (1)
ومن الأدوية التي يمكن استعمالها في هذا تذكر أي موقف من المواقف السيئة التي قد تغطي على ذلك الموقف، وخاصة إن كانت أسوأ منه، ومن الأمثلة على ذلك ما روي أن بعض الحكماء دخل على صديق له فقدّم إليه الطعام فخرجت امرأة الحكيم وهي سيّئة الخلق فرفعت المائدة، وأقبلت على شتم الحكيم، فخرج الصديق مغضبا فتبعه الحكيم وقال: أتذكر يوما كنّا في منزلك نطعم، فسقطت دجاجة على المائدة، وأفسدت ما عليها، فلم يغضب أحد منّا فقال: نعم فقال: (احسب أنّ هذه مثل تلك الدّجاجة)، فسرّي عن الرّجل وانصرف وقال: (صدق الحكيم، الحلم شفاء من كلّ ألم)
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكتشف آلاف الحيل التي تحمي عقلك من أن يتلاعب به الشيطان أثناء الغضب، وستجد من اللذة بعدها ما لا يعدله ذلك التهور الذي يدعوك إليه غضبك، ليجعلك كالمجانين تتصرف من غير وعي في أحلك الأوقات التي تحتاج فيها إليه.
هذه وصيتي إليك، فاجتهد في تدريب نفسك في العمل بها؛ فهي وإن كانت ثقيلة عليك، إلا أن عواقبها حميدة، فتذكر عواقبها ليخف على نفسك ثقلها.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنه لا يمكن لأحد أن يحسن خلقه من غير أن يتحكم في غضبه.. فلذلك اجتهد في أن يكون غضبك مثل شهوتك مثل حياتك جميعا ملكا لعقلك وشريعة ربك، لا لأهوائك، ولا للشياطين الذين يتربصون بك.
__________
(1) الكافي، ج 2 ص 302.
مثالب النفس الأمارة (232)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الحقد والحسد، والفرق بينهما، والجذور التي تمدهما، وهل يمكن استئصالهما، أم يكتفى بإخماد نارهما.. ثم طلبت مني كعادتك في رسائلك أن أدلك على الأدوية التي يمكن استخدامها لعلاجهما.
وكل هذه الأسئلة وجيهة، ولا يمكن لطالب التزكية ألا يعرفها، أو يتعلم علومها، حتى لو ظن أنه خال منهما.. وما أدراه أنه خال منهما.. فقد لا يكون تعرض للاختبار الخاص بهما، ولذلك ظن نفسه بمنجاة منهما.. والعاقل هو الذي يستعمل الوقاية قبل العلاج، ويستأصل الداء في مبدئه قبل أن يتحكم فيه، ولا يستطع إنقاذ نفسه منه.
وقبل أن أتحدث لك عن كل واحد منهما، وعلامته، والعلاج الخاص به، أذكر لك أنهما ينتميان لأسرة واحدة، هي الأسرة التي أطلق عليها القرآن الكريم لقب العدوان.. وهو لقب مرتبط بالمثالب التي لا تكتفي بصاحبها، وإنما تمتد لغيره، فيتحول من إنسان مسالم إلى إنسان عدواني.
وبذلك يفقد اسم الإسلام الحقيقي، الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يتحقق به إلا المسالمون، فقد قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) (1)، ويفقد اسم الإيمان الحقيقي الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يتحقق به إلا (من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم) (2)
والحقد والحسد ـ كما ذكرت لك في رسائلي السابقة ـ مرتبطان بتلك المثالب الخطيرة
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه الطبراني والحاكم وصححه.
مثالب النفس الأمارة (233)
التي هي أم لكل الأمراض، وأولها العجب الذي يجعل النفس لا ترى إلا ذاتها، فتعتبر نفسها المركز الذي ينبغي للجميع أن يلتف حوله.. وثانيها الغرور الذي يولده العجب، فيتوهم أنه الحق الذي لا يعتريه الباطل، والخير الذي لا يقع في الشر.. وثالثها الكبر الذي يخرج بالعجب والغرور من الذات ليتسلط بهم على كل ما هو خارج عنها.
فلذلك إن رأت النفس المعجبة المغرورة المستكبرة شخصا نال ما هو أفضل مما لديها، أو صُرفت الأبصار إليه، ولم تصرف إليها، ملأها ذلك حقدا وغيظا وغلا.. وقد يؤدي بها ذلك الحقد إن اشتد إلى إبرازه في صورة غيبة ونميمة وقذف.. أو في صورة إذية حسية قد تصل إلى حد القتل.. وقد لا يظهر في أي صورة، لعدم توفر البيئة المناسبة، أو لجبن صاحبها وخوره وضعفه.. لكنها تظل مثل تلك النار الخامدة التي قد تشتعل في أي لحظة.
ومن البديهيات بالنسبة لهذه النفس الممتلئة بالعجب والغرور والكبر أن تتمنى زوال كل نعمة لا تتعلق بها.. لأنها ترى في النعم المسداة لغيرها حائلا بينهم وبين النظر لها، والإعجاب بها وإكبارها.. لأنها تريد أن تكون المحور والمركز الذي يلتف حوله الجميع، وهذا هو الحسد.. والذي قد يكون نارا خامدة لا تظهر في الواقع، وقد تظهر في أي لحظة عند توفر الأسباب الداعية لها.
وبذلك يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفرق بين هذين المثلبين، فأولهما ذلك الغل والغيظ الذي تمتلئ به القلوب، نتيجة خلاف أو غضب أو أي اختبار من الاختبارات الإلهية التي يبرز الله تعالى بها ما في الصدور.
والثاني هو انشغال النفس، لا بعدّ نعم الله تعالى عليها، ولا بسؤاله المزيد منها، وإنما بطلب سلبها على من تصورته منافسا لها، أو مثيرا للإعجاب بدلها..
إذا عرفت هذا، فاسمع للعلاج المرتبط بهما، والذي يمكنك باستعمالك الدائم له،
مثالب النفس الأمارة (234)
أن تحفظ نفسك من الوقوع في أغلال هذين المثلبين الخطيرين اللذين لن تخمد نارهما حتى تحرق كل أخضر ويابس من المكارم التي زرعها الله فيك، وطبعك عليها، ورباك بها.
أول علاج للحقد ـ أيها المريد الصادق ـ هو أن تعلم الأصناف التي اتصفت به، والتي أخبر الله تعالى أنها جميعا من المستحقين للعذاب الشديد، ولذلك فإن المتلبس به، سيكون ـ وفق قانون الزوجية والمثلية ـ معهم.. فالمرء مع من شاكله، وما كان الله تعالى ليعذب قوما نتيجة عمل معين، ثم يترك آخرين قاموا بنفس العمل من غير أن يعذبهم؛ فذلك يتنافى مع العدالة الإلهية.
ولذلك قال تعالى معقبا على العقوبة التي عوقب بها قوم لوط عليه السلام: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82، 83]
وقال عن العقوبة المرتبطة بعبدة العجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]، وقال: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127]
وهكذا، فإن قوانين العدالة الإلهية واحدة، وتطبق على الجميع، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه بمنجاة منها، كما قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123]
فلا تلتفت ـ أيها المريد الصادق ـ لمن يكذب عليك، ويوهمك أن هذه الأمة مرحومة، وغيرها معذب.. فالله تعالى لا يفرق بين الأمم، وإنما يتعامل معها جميعا معاملة واحدة، وفق قوانينه التي لا تحابي أحدا.
مثالب النفس الأمارة (235)
إذا عرفت هذا، فاقرأ تلك الآيات الكثيرة التي تتحدث عن أصحاب القلوب الحاقدة، والمصير الذي صارت إليه بسبب حقدها، وأولهم أولئك الذي وصفهم الله تعالى، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 28، 29]
فهاتان الآيتان الكريمتان تشيران إلى أن تلك الأحقاد التي امتلأت بها تلك القلوب المريضة التي كرمها الله بأن ترى النبوة وعظمتها ومعجزاتها، لكنها بسبب الغل الذي ملأها لم تر الحق، ولم تذعن له، بل آثرت سخط الله على مرضاته، إرضاء لحقدها.
وهي تشير كذلك إلى أن الأحقاد قد تكون مخفية، أو قد يظهر صاحبها بصورة المجادل الباحث عن الحق، بينما هو في حقيقته ليس سوى مرجل يغلي من الغل، ولذلك هددهم الله تعالى بالكشف على حقيقتهم التي تخفيها نفوسهم، فقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30]
وهي تشير إلى أن الحقد ـ وإن أخفاه صاحبه، أو اجتهد في إخفائه ـ سيفضحه، وسيظهر لا محالة عبر تصرفاته، وعبر ملامح وجهه، ونبرات صوته، ومواقفه، كما قال الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وبذلك، فإن الآيات الكريمة تشير إلى أن منشأ الحقد هو ذلك الغل الذي تمتلئ به القلوب، وأنه قد يظهر أو لا يظهر، وعدم ظهوره لا يعني عدمه، وإنما يعني عدم توفر البيئة المناسبة له، ولذلك فهي تدعو إلى مراقبة القلوب، حتى لا تفضح عند الاختبارات الإلهية، ومنها ذلك الاختبار الذي عبر الله تعالى عنه بقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ
مثالب النفس الأمارة (236)
أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36، 37]
ويذكر الله تعالى في آيات أخرى بعض ثمار ذلك الحقد، فيقول: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119]، فهؤلاء الحاقدين من أهل الكتاب، لم يؤمنوا بالقرآن الكريم على الرغم من معرفتهم به، بسبب ذلك الغشاء الذي غشيت به عقولهم نتيجة امتلائها بالغل والحقد والبغض.
ويخبر الله تعالى عن لجوء الحاقدين إلى النفاق والخداع لمحاولة ستر حقدهم، خاصة إذا كانوا في مواقف الضعف، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 204، 205]
وأخبر عن اجتهادهم الكاذب في إرضاء من يحقدون عليهم، فقال: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8]
ولهذا حذر المنافقين المتملقين المخادعين بأن يكشف عن الغل الذي تمتلئ به قلوبهم، فقال: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64]
وبذلك، فإن هذه الآيات الكريمة تشير إلى أن الغل من صفات مرضى القلوب من المنافقين والمناوئين للصالحين، وأن السبب الأكبر الذي حال بينهم وبين رؤية الحق، أو اتباعه هو تلك البغضاء التي امتلأت بها قلوبهم.
وفي مقابل ذلك يصف القرآن الكريم الصادقين من المؤمنين بأنهم أصحاب قلوب
مثالب النفس الأمارة (237)
سليمة طاهرة، ليس فيها غل ولا حقد ولا حسد، ولذلك يستوي ظاهرها بباطنها، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83، 84]
ويذكر القرآن الكريم القانون المرتبط بذلك، وهو ما عبر عنه قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، وقد عقب الله تعالى الآية الكريمة بذلك الجزاء العظيم الذي يناله أصحاب القلوب السليمة، فقال: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 90، 91]
وقد ورد في آية أخرى أنه لا يدخل الجنة أحد إلا بعد أن يمر على محال التأديب الإلهي في البرزخ أو الموقف أو غيرها حتى تطيب نفسه، ويتخلص من الغل الذي كان يحول بينه وبين دخول الجنة، كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]
فالآية الكريمة تشير إلى أن الله تعالى هدى هؤلاء بعد فترات طويلة من التربية إلى تطهير قلوبهم من كل آثار الغل إلى أن أصبحت سليمة وأهلا لدخول الجنة.
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تتوهم أن قلوبهم كانت مملوءة بالغل، ثم أُخرج منهم بماء شربوه، أو نهر اغتسلوا فيه، من غير جهد عملوه، ولا تأديب تعرضوا له.. فالأمر ليس كذلك.. ولو حصل ذلك لهم لحصل لغيرهم، ولما كان هناك معنى للتكليف.
فاحذر من تلك التفسيرات التي يفسرون بها الآيات الكريمة، والتي يجمعون فيها بين الجلاد والضحية، وبين المظلومين والمستضعفين، فعدالة الله ورحمته تأبى ذلك.
مثالب النفس الأمارة (238)
ثم إن عليك ـ أيها المريد الصادق ـ لتستأصل كل ما يمكن أن يثمر الحقد في قلبك أن تتناول تلك الأدوية التي وصفها لك ربك ونبيك ومن بعده أئمة الهدى، وورثة النبوة، ليصبح قلبك سليما طاهرا ليس فيه غل ولا حقد على أحد من الخلق.
وأولها أن تسارع إلى دعاء ربك ليزكيك ويطهر قلبك من كل ما يصرفك عنه، أو يبعدك منه، كما أخبر الله تعالى عن المؤمنين، وقولهم في دعائهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]
وهذه الآية الكريمة تشير إلى أن الغل والحقد قد لا يكون مرتبطا بالبيئة المكانية والزمانية للنفس، بل قد يكون متغلغلا في جذور التاريخ، وأبعاد الجغرافية، ليشمل كل من يخالفها، ولو لم تربطها به أي علاقة.
ومن الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا قوله: (ربّ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ، ربّ اجعلني لك شكّارا، لك ذكّارا، لك رهّابا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أوّاها منيبا، ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، وسدّد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري (1)) (2)
وثانيها أن تملأ قلبك مخافة مما ورد في النصوص المقدسة التي تذكر أن الحاقدين محجوبون بحقدهم عن ربهم، وفضله وكرمه، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يطّلع الله إلى عباده ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمؤمنين ويمهل الكافرين، ويدع
__________
(1) سخيمة صدري: غشه وحقده وغله.
(2) الترمذي (3551) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجة (3830)
مثالب النفس الأمارة (239)
أهل الحقد بحقدهم حتّى يدَعوه) (1)، وهذا يعني أن الحقد من موانع إجابة الدعاء، وأعظم بذلك خطرا.
وفي حديث آخر عن عائشة قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الليل، فصلّى فأطال السجود حتّى ظننت أنّه قبض، فلمّا رأيت ذلك قمت حتّى حرّكت إبهامه، فتحرّك فرجع، فلمّا رفع رأسه من السجود، وفرغ من صلاته قال: (يا عائشة، أ ظننت أنّ النبيّ؟ قد خاس بك (2))، قلت: لا والله يا رسول الله، ولكنّي ظننت أنّك قبضت لطول سجودك، فقال: (أتدرين أيّ ليلة هذه؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (هذه ليلة النصف من شعبان، إنّ الله عزّ وجلّ يطّلع على عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخّر أهل الحقد كما هم) (3)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب فيتاب عليه، ويردّ أهل الضغائن بضغائنهم حتّى يتوبوا) (4)
وقال: (تفتح أبواب الجنّة يوم الاثنين، ويوم الخميس. فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا إلّا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتّى يصطلحا. أنظروا هذين حتّى يصطلحا. أنظروا هذين حتّى يصطلحا) (5)
وثانيها أن تملأ قلبك مخافة مما ورد في النصوص المقدسة التي تذكر مصير الحاقدين، وهو العذاب الشديد، فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الحقد وجريمتين كبيرتين، هما الشرك
__________
(1) رواه البيهقي، الترغيب والترهيب 3/ 461.
(2) خاس بك: أي غدر بذمتك وضيّع وقت وجوده معك.
(3) رواه البيهقي، والترغيب والترهيب 3/ 461 ـ 462.
(4) قال المنذري في الترغيب والترهيب 1/ 459، وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات.
(5) مسلم (2565)
مثالب النفس الأمارة (240)
والسحر، فقال: (ثلاث من لم يكن فيه واحدة منهنّ، فإنّ الله يغفر له ما سوى ذلك لمن يشاء: من مات لا يشرك بالله شيئا، ولم يكن ساحرا يتّبع السحرة، ولم يحقد على أخيه) (1)
وفي حديث آخر جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الحقد وبعض ثماره وأخبر أنها جميعا في النار؛ فقال: (النميمة والشتيمة والحميّة فى النار)، وقال: (إنّ النميمة والحقد في النار، لا يجتمعان في قلب مسلم) (2)
وفي مقابل ذلك أثنى على من خلا قلبه من الحقد، بل شهد له بدخول الجنة، فقد روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كنّا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنّة)، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علّق نعليه بيده الشمال، فلمّا كان الغد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرّة الأولى، فلمّا كان اليوم الثالث قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأوّل، فلمّا قام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تبعه عبد الله بن عمرو، فقال: إنّى لاحيت (3) أبي، فأقسمت أنّي لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتّى تمضي فعلت، قال: نعم، فكان عبد الله يحدّث أنّه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنّه إذا تعارّ تقلّب على فراشه ذكر الله عزّ وجلّ، وكبّر حتّى صلاة الفجر، قال عبد الله: غير أنّي لم أسمعه يقول إلّا خيرا، فلمّا مضت الثلاث الليالي، وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك ثلاث مرّات: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنّة، فطلعت أنت الثلاث المرّات، فأردت أن آوي إليك، فأنظر ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الّذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير والأوسط.
(2) رواه الطبراني، الترغيب والترهيب 3/ 497، 498.
(3) لا حيث: جادلت وخاصمت.
مثالب النفس الأمارة (241)
قال: ما هو إلّا ما رأيت، فلمّا ولّيت دعاني فقال: (ما هو إلّا ما رأيت، غير أنّي لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشّا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إيّاه)، فقال عبد الله: (هذه الّتي بلغت بك) (1)
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أكرم الأخلاق على الله العفو والتسامح والرفق واللين، وهي الأخلاق التي تتناقض مع الحقد تماما، وقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لبعض أصحابه: (ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدّنيا والآخرة؟.. تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمّن ظلمك) (2)
وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في بعض خطبه: (ألا أخبركم بخير خلائق الدّنيا والآخرة العفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك) (3).
وأخبر عن العز الذي يناله أصحاب القلوب السليمة، فقال: (عليكم بالعفو، فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عزّا فتعافوا يعزّكم الله) (4)، وقال: (التواضع لا يزيد العبد إلّا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، والعفو لا يزيد العبد إلّا عزّا فاعفوا يعزّكم الله، والصدقة لا تزيد المال إلّا كثرة فتصدّقوا يغنكم الله) (5)
وأخبر عن موسى عليه السلام أنه قال: (يا ربّ أيّ عبادك أعزّ عليك؟) قال: (الّذي إذا قدر عفا) (6)
__________
(1) أحمد 3/ 166.
(2) أحمد ج 4 ص 148 و158 والطبراني وأحد اسنادى أحمد رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد ج 8 ص 189.
(3) الكافي، ج 2 ص 107.
(4) الكافي ج 2 ص 107 و108.
(5) ابن أبي الدنيا في الصمت، وأحمد، ج 1 ص 193.
(6) الخرائطي في المكارم والبيهقي في الشعب.
مثالب النفس الأمارة (242)
وأخبر عن الكرم العظيم الذي يناله أصحاب القلوب السليمة، فقال: (إذا وقف العباد نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنّة قيل: من ذا الّذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس، فيقوم كذا وكذا ألفا فيدخلونها بغير حساب) (1)
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرغب في العفو، وفي محو الأحقاد من القلب، والاكتفاء برؤية الله تعالى ونصره، حتى أنه أخبر أن: (من دعا على من ظلمه فقد انتصر) (2)
وقد جاءه بعض أصحابه يشكوه، ويقول له: (يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لئن كنت كما تقول، فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم، ما دمت على ذلك) (3)
وجاءه آخر يشكو مظلمة، أمره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يجلس، في انتظار أن يأخذ له بمظلمته، لكنه قبل أن يأخذها له قال له مرغبا في العفو: (إنّ المظلومين هم المفلحون يوم القيامة)، فأبى أن يأخذها حين سمع الحديث (4).
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أروع الأمثلة في ذلك، وقد روي أنه لما فتح مكّة طاف بالبيت وسعى وصلّى ركعتين، ثمّ أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال: (ما تقولون وما تظنّون؟) قالوا: (نقول أخ وابن عمّ حليم رحيم)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]) (5)
وحدثت عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منتصرا من مظلمة ظلمها قطّ ما لم
__________
(1) الطبراني في مكارم الأخلاق.
(2) الترمذي ج 13 ص 66.
(3) مسلم (2558)، وابن حبان (451) والبخاري في الأدب المفرد (52)
(4) ابن أبي الدنيا في ذم الغضب.
(5) الكامل لابن الاثير ج 2 ص 120.
مثالب النفس الأمارة (243)
ينتهك حرمة من محارم الله، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان أشدّهم في ذلك غضبا، وما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ممّا لم يكن مأثما) (1)
و عن الإمام الباقر قال: (إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي باليهوديّة الّتي سمّت الشاة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت: إن كان نبيّا لم يضرّه وإن كان ملكا أرحت الناس منه، قال: فعفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها) (2)
أول المعارف التي تحتاجها ـ أيها المريد الصادق ـ لوقاية نفسك من داء الحسد، هو أن تعلم أنك بحسدك لم تعتد على الذي حسدته فقط، إنما اعتديت قبل ذلك على الله تعالى، لاتهامك له بسوء التدبير والتقدير والعدالة، ولهذا رحت تعترض على نعمه الله التي أنعم بها على عباده، والتي لم توافق مزاجك، ولا هواك، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:
أيا حاسداً لي على نعمتي... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه... لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني... وسد عليك وجوه الطلب
ولهذا، لم يتوقف حسد إبليس عند آدم عليه السلام، وإنما راح يعترض على الله نفسه، عندما أمر بالسجود له، وما أمره الله بذلك إلا ليكشف عن حقيقته المدنسة التي كان يسترها بعبادته.
ومثلهم أولئك النفر والطوائف من أهل الكتاب الذي ما قدموا المدينة المنورة إلا لأجل النبي الموعود الذي كانوا ينتظرونه، ويستفتحون به، لكنهم عندما رأوه وعرفوه
__________
(1) مسلم، ج 7 ص 80.
(2) الكافي ج 2 ص 107 و108.
مثالب النفس الأمارة (244)
أعرضوا عنه حسدا، مع علمهم أنه مرسل من الله، كما قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]
وهكذا عندما أخبر الله تعالى عن أولئك النفر من أهل الكتاب الذين راحوا يعتبرون المشركين أهدى من المسلمين، والشرك أفضل من الإسلام، ذكر أن سبب ذلك هو حسدهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] ثم بين سبب ذلك بعدها، فقال: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 53، 54]
وكل هذه الآيات تشير إلى أن اعتراض هؤلاء في الحقيقة ليس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما على الله تعالى لاختياره له، وهو نفس ما وقع من المشركين الذين أخبر الله تعالى عن حسدهم الشديد، وكونه السبب في إعراضهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]
وذكر في آيات أخرى تلك الاقتراحات التي كانوا يقترحونها على الله تعالى ليرسل لهم رسولا على مزاجهم، ومنها قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، ثم عقب عليها بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]
وهكذا، فإن الحسد هو الذي جر الأمم إلى الاعتراض على وصايا رسلها، وتعيين
مثالب النفس الأمارة (245)
بدائل للخلفاء الذين ارتضوهم لها، ليبدأ الصراع بعد ذلك، والذي قد يصل إلى حد القتال، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة: 213]، وقال: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية: 17]
وبذلك، فإن الحسد ـ أيها المريد الصادق ـ هو أحبولة الشيطان الكبرى التي يملأ بها حياة الناس بالصراع، ذلك أنه مثل الحقد، يجعل صاحبه أعمى، قد يرى من كل الجهات، لكنه لا يستطيع أن يرى أبدا من الجهة التي يكون فيها محسوده.. ولذلك يبتليه الله تعالى بأن يضع له الحق في تلك الجهة.
بل إن الله تعالى أخبر أن الحسد قد يحول من الذين تربوا في حجر النبوة إلى عصابة مجرمة، فذكر قصة يوسف عليه السلام، وكيف آذاه إخوته بسبب حسدهم له، قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 8، 9]
وأخبر عما فعله أحد ابني آدم بأخيه، وكيف قتله حسدا له، فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]
ولذلك، فإنك لو ذهبت إلى سجلات المجرمين والقتلة السفاحين.. فستجد هذا الداء متربعا على قلوبهم وعقولهم، يملي عليهم الأوامر ويحجب عنهم الحكمة، ويجعلهم
مثالب النفس الأمارة (246)
يعيشون عالما خاصا بهم، لا علاقة له بالواقع.
وقد أخبر الله تعالى عن تربع هذا الداء على عرش قلوب الذين عارضوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاربوه لا لأدلة أو حقائق تبينت لهم، وإنما بسبب تلك الأمراض التي أعمت بصائرهم، كما قال تعالى يصفهم، ويصف أمراضهم التي حالت بينهم وبين الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 118 - 120]
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا الداء الخطير هو الذي سيكون سببا في تيه هذه الأمة، وانحرافها عن منهاج النبوة؛ فقال: (إذا فتحت عليكم فارس والروم، أيّ قوم أنتم؟) قالوا: نقول كما أمرنا الله، نحمده ونشكره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أو غير ذلك.. تتنافسون، ثمّ تتحاسدون، ثمّ تتدابرون، ثمّ تتباغضون، ثمّ تنطلقون في مساكين المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رقاب بعض) (1)
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمى هذا الداء [داء الأمم]، فهو وجميع الأسرة التي ينتمي إليها هو السبب في الانحرافات التي وقعت في الأديان، فحولت من دين الله إلى دين البشر، ومن الدين المقدس إلى الدين المدنس، ومن دين الأنبياء والأولياء إلى دين الأفاكين والدجالين،
__________
(1) مسلم (2962)
مثالب النفس الأمارة (247)
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّه سيصيب أمّتي داء الأمم)، قالوا: وما داء الأمم؟ قال: (الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتّى يكون البغي ثمّ الهرج) (1)
وقال: (دبّ إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والّذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا، أفلا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم) (2)
ولذلك ربط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين صفاء القلب وخيرية الأمة، فقال: (لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا) (3)
وأخبر أن المؤمن الحقيقي هو المؤمن الذي يخلو قلبه من الحسد وكل الأمراض العدوانية التي يتنافى الإيمان معها، ففي الحديث أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ الناس أفضل؟ فقال: (كلّ مخموم القلب، صدوق اللسان) قالوا: صدوق اللسان نعرفه. فما مخموم القلب؟ قال: (هو التقيّ النقيّ. لا إثم فيه ولا بغي ولا غلّ ولا حسد) (4)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافرا، ثمّ سدّد وقارب، ولا يجتمعان في جوف مؤمن غبار في سبيل الله، وفيح جهنّم، ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد) (5)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ واستيقنت به نفسك، فاعلم أن الله تعالى قد يبتليك في أي لحظة بأي شيء يبرز حقيقتك؛ فكن حذرا أن تكون كإبليس الذي أبى
__________
(1) قال الحافظ العراقي في الإحياء (3/ 199): أخرجه ابن أبي الدنيا، والطبراني في الأوسط بإسناد جيد.
(2) الترمذي (2510)
(3) قال المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 547): رواه الطبراني ورواته ثقات.
(4) ابن ماجة (4216)
(5) مسلم (1891)
مثالب النفس الأمارة (248)
السجود لآدم، أو كأولئك الكتابيين الذين عرفوا الحق وجحدوه حسدا من عند أنفسهم.
ولا تستبعد ذلك، فقد يكون الابتلاء في خطأ ينبهك له بعض تلاميذك، ليرى الله مدى تواضعك لقبول الحق.. أو يبتليك الله ببعض المغمورين من الناس، أو بعض من ترى نفسك أفضل منهم شأنا، ثم تراهم بعد ذلك في مناصب أفضل من منصبك؛ فلا تتوهم أن القدر أخطأ حين فضلهم عليك؛ فإن ذلك قد يجرك للحسد من حيث لا تشعر.
ولهذا؛ فإن الطريق الأسلم لك هو التسليم لربك، وترك خلقه له، يرفع من يشاء منهم، ويخفض، ويعطي من يشاء، ويمنع.. وبدل أن تهتم بمن خُفض أو رفع.. أو أعطي أو منع.. اهتم بنفسك لتكون أهلا لفضل ربك..
ولذلك؛ فإن تحقيق التوحيد، وامتلاء القلب بالمعرفة بالله هو الذي يحفظك من كل هذه الأدواء.. فالعارف بربه، لا ينظر إلى شيء إلا نظر إلى الله قبله وبعده ومعه.. فلذلك لا يعترض على شيء، بل يكتفي بما كُلف به من تكاليف، ثم يترك الخلق للخالق والرزق للرازق.
والعارف بالله لا يحسد أحدا على نعمة أعطاها الله له، وكيف يحسده، وهو يرى أن كل النعم في الدنيا والآخرة لا تساوي لحظة أنس واحدة مع ربه.
والعارف لا يحسد أحدا على منصب تبوأه، وكيف يحسده، وهو يعلم أن كل المناصب لا تساوي شيئا، أمام منصب القرب من الله، وهو متاح للجميع، ولا يحال بين أحد من الناس وتبوئه.
ومما يروى عن بعض الحكماء في هذا أنه قال: (ما حسدت أحدا على شيء من أمر الدّنيا، لأنّه إن كان من أهل الجنّة فكيف أحسده على أمر الدّنيا وهي حقيرة في الجنّة؟.. وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدّنيا وهو يصير إلى النار؟)
مثالب النفس الأمارة (249)
وهكذا فإن الرؤية الحقيقية للوجود والكون، تحمي صاحبها من هذا المثلب الخطير الذي لا يقع فيه إلا أصحاب العقول الصغيرة الذين يختصرون الحياة في تلك اللحظات المعدودة، أو ذلك النعيم المحدود.
وقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (قال الله تعالى لموسى بن عمران: يا ابن عمران لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدّنّ عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي، صادّ لقسمي الّذي قسمت بين عبادي ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي) (1)
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ لنعم الله أعداء فقيل: ومن أولئك؟ قال: الّذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) (2)
وعن الإمام الباقر أنه قال: (إنّ الرّجل ليأتي بأيّ بادرة فيكفر (3) وإنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب) (4)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فتذكر أنواع البلاء التي يصاب بها الذين امتلأت قلوبهم حسدا.. وأولها الحسد نفسه، فنيرانهم تملأ حياتهم كدرا وضيقا، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:
اصبر على كيد الحسو... د فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل نفسها... إن لم تجد ما تأكله
وقال آخر:
دع الحسود وما يلقاه من كمد... يكفيك منه لهيب النار في كبده
إن لمت ذا حسد نفثت كربته... وإن سكت فقد عذبته بيده
وقال آخر متهكما:
إن شئت قتل الحاسدين تعمداً... من غير مادية عليك ولا قود
وبغير سم قاتل وصوارم... وعقاب رب ليس يغفل عن أحد
عظيم تجاه عيونهم محسودهم... فتراهمو موتى النفوس مع الجسد
ذوب المعادن باللظى لكنما... ذوب الحسود بحر نيران الحسد
وعبر بعض الحكماء عن ذلك فقال: (الحسد جرح لا يبرأ، وحسب الحسود ما يلقى)
وقال آخر: (ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد، إنّه يرى النعمة عليك نقمة عليه)
وقال آخر: (الحاسد لا ينال من المجالس إلّا مذمّة وذلّا، ولا ينال من الملائكة إلّا لعنة وبغضا، ولا ينال من الخلق إلّا جزعا وغمّا ولا ينال عند النزع إلّا شدّة وهولا، ولا ينال عند الموقف إلّا فضيحة ونكالا)
وروي عن الإمام الصادق أنه قال: (الحاسد يضرّ بنفسه قبل أن يضرّ بالمحسود، كإبليس أورث بحسده لنفسه اللّعنة، ولآدم الاجتباء والهدى والرّفع إلى محلّ حقائق العهد والاصطفاء، فكن محسودا ولا تكن حاسدا فإنّ ميزان الحاسد أبدا خفيف بثقل ميزان المحسود، والرّزق مقسوم فما ذا ينفع الحسد الحاسد؟ وما ذا يضرّ المحسود الحسد؟ والحسد أصله من عمى القلب وجحود فضل الله وهما جناحان للكفر، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد وهلك مهلكا لا ينجو منه أبدا، ولا توبة للحاسد لأنّه مصرّ عليه، معتقد به،
__________
(1) الكافي، ج 2 ص 306 و307.
(2) الطبراني في الأوسط.
(3) البادرة: ما يبدر من حدتك في الغضب من قول أو فعل، وفي النهاية: الكلام الذي يسبق الإنسان في الغضب.
(4) الكافي، ج 2 ص 306.
مثالب النفس الأمارة (250)
مطبوع فيه، يبدو بلا معارض به ولا سبب، والطبع لا يتغيّر عن الأصل وإن عولج) (1)
تأمل ـ أيها المريد الصادق ـ هذه المعاني الجليلة، وتفكر فيها، واعلم أن البلاء يتربص بالحاسد في أي محل، حتى يكون فيه حتفه، كما كان حتف إبليس في حسده، ولولا حسده، لترضى الناس عنه، وسلموا عليه، بدل لعنه ورجمه والتبري منه.
ومن الحكايات التي تحكى في هذا ما روي أن رجلا كان يغشي بعض الملوك، فيقوم أمام الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه والمسيء سيكفيكه مساويه، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك، فقال: إنّ هذا الّذي يقوم بحذائك، ويقول ما يقول يزعم أنّ الملك أبخر نتن الرائحة، فقال له الملك: فكيف يصحّ ذلك عندي؟، قال: تدعو به غدا إليك؛ فإذا دنى منك وضع يده على أنفه، حتى لا يشمّ ريح البخر، فقال له الملك: انصرف حتّى أنظر؛ فخرج من عند الملك، ثم دعا الرّجل إلى منزله؛ فأطعمه طعاما فيه ثوم كثير، فخرج الرّجل من عنده، وقام بحذاء الملك، فقال ما تعود أن يقوله، فقال له الملك: ادن منّي، فدنا منه، فوضع يده على فمه مخافة أن يشمّ الملك منه ريح الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أدري فلانا إلّا صدق، فكتب له كتابا بخطّه إلى عامل من عمّاله، يقول له فيه: إذا أتاك حامل كتابي هذا، فاذبحه واسلخه واحش جلده تبنا وابعث به إليّ، فأخذ الكتاب، وخرج، فلقيه الرّجل الّذي سعى به، وهو لا يعلم ما حصل من الملك، فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال الرجل: خطّ الملك أمر لي بصلة، فقال: هبه لي، فقال: هو لك، فأخذه ومضى إلى العامل، فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، قال: إنّ الكتاب ليس لي، فالله الله في أمري حتّى تراجع إلى الملك، قال: ليس لكتاب الملك مراجعة، ففعل به ما طلبه الملك، ثمّ عاد الرّجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله فتعجّب الملك وقال: ما فعل
__________
(1) مصباح الشريعة، الباب الحادي والخمسون.
مثالب النفس الأمارة (251)
الكتاب؟ فقال: لقيني فلان فاستوهبه منّي فوهبته له، فقال الملك: إنّه ذكر لي أنّك تزعم أنّي أبخر؟ قال: ما قلت ذلك، قال: فلم وضعت يدك على أنفك؟ قال: كان أطعمني طعاما فيه ثوم فكرهت أن تشمّه، قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفاك المسيء مساويه.
هذه ليست مجرد حكاية ـ أيها المريد الصادق ـ للتسلية، وإنما هي الحقيقة التي قد لا تظهر لك بنفس الصورة، ولكنها حتما ستظهر؛ فيستحيل على من امتلأ قلبه بنيران الحسد ألا تشتعل فيه؟.. وهل يمكن لمن دخل في وسط النيران ألا يحترق؟
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن أول ما تحرقه نيران الحاسد هي تلك الحسنات التي بذل كل جهده في الحصول عليها، والتي هي زاده الذي يرحل به إلى الآخرة، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) (1)
إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاجتهد لأن تقمع داء الحسد من قلبك قبل استفحاله، وخروجه إلى الخارج ليملأ حياتك وحياة من حسدتهم بالنكد والغصص، فما قتل قاتل، ولا أجرم مجرم إلا بسبب هذه الأدواء الخبيثة.
وقد كتب بعض الحكماء إلى مريد له شكا حالة عرضت له جعلته يقع فيها في حسد بعض الناس، فقال له ناصحا: (إياك أن تترك للحسد التحكم فيك وفي تصرفاتك.. فاقمعها؛ فإنك إن فعلت ذلك طهرك الله من باطنه، كما طهرت سلوكك من ظاهره)
فكتب له المريد يستفسره عن كيفية ذلك، فكتب له يقول: (من خاف على نفسه الحسد، ومقتضياته فعليه أن يكلّف نفسه نقيضه، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلّف لسانه المدح له والثناء عليه، وإن حمله على التكبّر عليه ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه، وإن بعثه على كفّ الإنعام عنه ألزم نفسه الزّيادة في الإنعام، فمهما فعل ذلك عن تكلّف وعرفه
__________
(1) ابن ماجه رقم 4210.
مثالب النفس الأمارة (252)
المحسود طاب قلبه وأحبّه ومهما ظهر حبّه عاد الحاسد وأحبّه وتولّد بينهما الموافقة الّتي يقطع مادّة الحسد، لأنّ التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستميل قلب المنعم عليه ويسترقّه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان ثمّ ذلك الإحسان يعود إلى الأوّل فيطيب قلبه فيصير ما تكلّفه أوّلا طبعا آخرا) (1)
وكتب له في آخر رسالته يقول له: (ولا يصدّنّه عن ذلك قول الشيطان له: لو تواضعت وأثنيت عليه حمله العدوّ على العجز أو على النفاق والخوف، وإنّ ذلك مذلّة ومهانة، فإنّ ذلك من خدع الشيطان ومكايده، بل المجاملة تكلّفا كان أو طبعا تكسّر سورة العداوة من الجانبين وتقلّ من عزّتها، ويعود القلب إلى التآلف والتحابّ، وبه يستريح القلب من ألم الحسد وغمّ التباغض) (2)
ثم ختم رسالته له بقوله: (فهذه هي أدوية الحسد وهي نافعة جدّا إلّا أنّها مرّة جدّا، لكن النفع في الدّواء المرّ، فمن لم يصبر على مرارة الدّواء لم ينل حلاوة الشفاء، وإنّما يهون مرارة الدّواء والتواضع للأعداء والتقرّب إليهم بالمدح والثناء بقوّة العلم بالمعاني الّتي ذكرناها وقوّة الرّغبة في ثواب الرّضا بقضاء الله وحبّ ما أحبّه الله، وعزّة النفس وترفّعها عن أن يكون في العالم شيء على خلاف مرادها جهل، وعند ذلك يريد ما يكون، إذ لا مطمع في أن يكون ما يريد وفوات المراد ذلّ وخيبة ولا طريق إلى الخلاص من هذا الذّلّ إلّا بأحد أمرين إمّا أن يكون ما يريد أو بأن يريد ما يكون، والأوّل ليس إليك ولا مدخل للتكلّف والمجاهدة فيه. وأمّا الثاني فللمجاهدة فيه مدخل وتحصيله بالرّياضة ممكن، فيجب تحصيله على كلّ عاقل، هذا هو الدّواء الكلّي) (3)
__________
(1) إحياء علوم الدين (3/ 199)
(2) المرجع السابق، (3/ 199)
(3) المرجع السابق، (3/ 199)
مثالب النفس الأمارة (253)
هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لتنفيذها، واحترس لنفسك، وضع تلك النصوص المقدسة بين عينيك دائما، حتى لا تأتي يوم القيامة مفلسا، وقد حُرقت جميع حسناتك، أو وزعت على من حسدتهم، فتزيد من نعيمهم في الآخرة، بعد أن عشت مكدرا بنعيمهم في الدنيا.
مثالب النفس الأمارة (254)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن السخرية والاستهزاء، والمنابع التي ينبعان منها، والثمار التي يثمرانها، وسر تلك النصوص المقدسة الكثيرة التي تتحدث عنهما، وكيفية علاجهما.
وغيرها من أسئلتك الكثيرة الوجيهة التي لا يمكن لمريد طريق الله أن يزكي نفسه من دون أن يعلم علمها، ليسلك السبل التي تطهر نفسه منها.. فالله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب، وطاهر لا يقبل إلا الطاهر.
وقد أحسنت ـ أيها المريد الصادق ـ بإشارتك للنصوص المقدسة، واهتمامها الكبير بهذا الجانب، وهو ما يدعونا إلى إعطاءه حقه من الاهتمام؛ فهي مقدسة في حروفها وكلماتها، كما أنها مقدسة في كل الجوانب التي تعرضت لها، وفي المدى الذي تعرضت لها فيه.
ولذلك تعامل معها الحكماء والصالحون باعتبارها موجهة لكل الأجيال، وليست خاصة بجيل دون جيل، وهي إن تحدثت عن قوم من الأقوام الهالكين لم تقصدهم فقط، وإنما قصدت التحذير من أفعالهم، وبيان السنن التي جرت عليهم، والقوانين الإلهية التي نفذت أحكامها فيهم، حتى تكون عبرة للمعتبرين.
وقبل أن أحدثك ـ أيها المريد الصادق ـ عنهما، وعن منابعهما، والنصوص المقدسة الواردة فيهما، أنبهك إلى ما كنت نبهتك إليه سابقا، وهو أن تطلب الحقائق من خلال المعاني، لا من خلال الألفاظ، ولذلك لا ينبغي أن تهتم كثيرا بهذه الألفاظ، وهل هي مترادفة أم لكل منها معناه الخاص، وعن ذلك المعنى الخاص (1).. فقد ورد الخلاف في ذلك جميعا..
__________
(1) الخلاف في السّخرية والاستهزاء والفرق بينهما، مثل الخلاف في الإسلام والإيمان والفرق بينهما، ولذلك ذهب الكثير إلى أن السخرية والاستهزاء معناهما واحد [انظر مثلا: الصحاح للجوهري (1/ 83) حيث فسر الاستهزاء بالسخرية، وغذاء الألباب للسفاريني 1/ 131] وعلى ذلك فسّر كثيرون: السّخرية بالاستهزاء [انظر مثلا، تفسير ابن كثير 4/ 4 حيث فسر يستسخرون ب (يستهزئون)]، لكن هناك من وجود فرق بينهما، ويتمثّل في أنّ الهزء: هو إظهار الجدّ وإخفاء الهزل فيه [التوقيف على مهمات التعاريف ص 343]، أمّا السّخرية فإنّها تكون بالفعل أو بالإشارة، وذكروا أن هناك فرقا بينهما من جهتين: الأولى السّخرية تكون بالفعل وبالقول، والهزء لا يكون إلّا بالقول، الثّانية: أنّ السّخرية يسبقها عمل من أجله يسخر بصاحبه، أما الاستهزاء فلا يسبقه ذلك [انظر الفروق لأبي هلال العسكري ص 249]
مثالب النفس الأمارة (255)
لكنهم لم يختلفوا في المعاني، وهي المرادة المقصودة؛ فضع كل اهتمامك فيها، واجعل كل همتك لها.
ولتفهم المعاني المرتبطة بهما، ومن خلالهما يمكنك أن تعرف معناهما، أو معنى كل واحد منهما، فاقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13]، فهذه الآية الكريمة تشير إلى المنابع التي ينبع منها الاستهزاء والسخرية والتهكم والتحقير وغيرها من المثالب.. ذلك أنها عقبت بقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]
فالآيتان الكريمتان تشيران إلى أن ذلك التحقير والاستهزاء، وما ينتج عنهما من سخرية وهجاء وتهكم وغيرها، تنبع من اعتقادهم بأن الإسلام دين السفهاء، لا دين العقلاء.. وبذلك كان لرؤيتهم أثرها في نفوسهم وسلوكهم ومواقفهم.
ولتفهم ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ تخيل أنك أمام مهرج يضحك الناس، فأنت تنظر إلى تصرفاته باعتبارها تصرفات هزلية لا تؤخذ مأخذ الجد، ولذلك لا تعطيها أي قيمة، بل تكتفي بالضحك عليها، وتسلية النفس بها.
وهكذا فعل المستهزئون والساخرون بالرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فقد نظروا إليهم بكل احتقار، وتعاملوا معهم بكل ما يثمره ذلك من تصرفات.
مثالب النفس الأمارة (256)
ولذلك قرن الله تعالى المستهزئين باللاعبين والعابثين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]، ثم ذكر بعض مظاهر ذلك، فقال: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58]
فهؤلاء العابثين لم ينظروا إلى الصلاة باعتبارها وسيلة التقرب إلى الله، فيستعينوا بها على أنفسهم وتزكيتها وتطهيرها، وإنما نظروا إليها باعتبارها مجرد تسلية ولعبة مثل سائر اللعب التي يضيعون فيها أوقاتهم.
وقد نعتهم الله لذلك بكونهم [لا يعقلون]، وهي تدل على المنبع الذي صدر منه ذلك الاستهزاء، وهو عدم استعمال العقل.. وهم يشبهون في ذلك التلميذ الكسول الذي يتهكم على الأستاذ حين يشرح دروسه، ويتسلى مع أمثاله من المشاغبين بها، دون أن يعطيها حقها من الفهم والاستيعاب، ولذلك لا يتمكن من فهمها، ولا استيعابها.
فالشرط الأول للفهم والاستيعاب وإدراك الحقائق هو التعامل معها بجدية، فلا يمكن لغير الجاد، أن يفهم شيئا، أو يدرك أي حقيقة.
وهذا هو الفرق بين الحكماء والعلماء وغيرهم؛ فالحكماء والعلماء ينظرون إلى الظواهر بجدية واهتمام، ولذلك يبحثون فيها إلى أن تدلهم على الحقائق المختفية وراءها، بخلاف الذين لا يعملون عقولهم، والذين ينظرون إلى الأشياء نظرة قاصرة محدودة، ولذلك لا يستفيدون منها إلا قليلا.
وإن شئت مثلا على ذلك، فاقرأ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:
مثالب النفس الأمارة (257)
26]
فهذه الآية الكريمة تشير إلى أن المؤمنين يهتمون بكل ما ورد في النصوص المقدسة من حقائق، حتى لو تعلقت بذبابة أو بعوضة أو عنكبوت أو نملة أو نحلة، لأنهم يعبرون منها إلى غيرها.. أما أصحاب العقول الصغيرة؛ فيتركون العبور، ويكتفون بالحروف يرددونها، ويسخرون منها.
وقد ذكر الله تعالى مثالا لذلك ببني إسرائيل حين أمرهم موسى عليه السلام بذبح البقرة، وبدل أن ينظروا إليه كنبي معصوم يتلقى وحي الله، ويستحيل عليه أن يكذب أو يعبث، راحوا ينظرون إليه نظرة أخرى، تنبع من عقولهم الصغيرة التي تعودت أن ترى كل شيء بصورة اللاعب العابث، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]
ولذلك بدل أن يسرعوا لتطبيق الأمر الإلهي، ويختاروا أي بقرة، راحوا يسألون، ويعبثون في أسئلتهم.. وقد شاء الله أن يمدهم في ذلك بما تشتهيه أنفسهم، وبدل أن يكون تكليفهم بسيطا محدودا صار ثقيلا مكلفا.
وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ مثالا يقرب لك هذا، ويبسّطه، فاذكر قصة نيوتن مع التفاحة، والتي جلب انتباهه سقوطها إلى الأرض، وعدم سقوطها في جهة أخرى غير جهة الأرض، وقد أوحى له ذلك الاهتمام وعدم التحقير إلى تساؤلات كثيرة جرته الإجابة عليها إلى اكتشاف قوانين الجاذبية، وقوانين أخرى ساهمت في نشأة الفيزياء المرتبطة بنيوتن وتفاحته، وكان لذلك كله أثره في الثورة الصناعية الكبرى، والتي استطاعت بعد ذلك كله أن تخرج أوروبا من عصور التخلف لتزج بها في عصر النهضة الحديثة.. ولا تزال أوروبا والعالم أجمع ينعمان ببركات تفاحة نيوتن إلى يوم الناس هذا.
مثالب النفس الأمارة (258)
هذا كله من بركات التعامل بجدية مع تفاحة سقطت إلى الأرض.. فكيف بالتعامل الجاد مع الأنبياء والمرسلين وحقائق الوجود الكبرى.
ولذلك أمر الله تعالى بأخذ الكتاب بقوة، قال تعالى مخاطبا يحي عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]
وقال مخاطبا موسى عليه السلام: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145]
وأمر بني إسرائيل بأن يأخذوا الكتاب بقوة، فقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63]
لكنهم لم يفعلوا، لأنهم كانوا ينظرون إلى الدين باعتباره مجرد تسلية، ولذلك أخبر الله تعالى عن ذلك الدين الجديد الذي ابتدعوه لأنفسهم بعد غياب موسى عليه السلام، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)} [الأعراف: 148، 149]
ومثلهم أولئك المشركون الذين كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، بينما لم يكن دينهم سوى ذلك العبث الذي كانوا يمارسونه عند المسجد الحرام، قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن المنبع الأكبر للسخرية والاستهزاء والتحقير وغيرها هي توهم النفس أنها مركز الحقائق والقيم وأنها وحدها من يعطي
مثالب النفس الأمارة (259)
للأشياء قيمها ومقاديرها.. لذلك تعظم ما تشاء، وتحقر ما تشاء.. وتكرم من تشاء.. وتسخر بمن تشاء.. من دون أي ضابط عقلي صحيح.
ويمكنك أن تفهم هذا المعنى من خلال الآية الكريمة التي نهت عن السخرية، والتي يقول الله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]
فهذه الآية الكريمة لا تكتفي بتحريم السخرية وتوابعها وثمارها، بل تضم إلى ذلك المنبع النفسي لها، وهو توهم الساخر أنه خير من الذي يسخر منه، وبذلك يتيح لنفسه أن يحتقره ويستهزئ به وباسمه ولقبه، ليجعله مادة للضحك والتسلية.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الاستهزاء والسخرية قد يرتبط بالأشخاص والطوائف، أو بالحقائق والقيم، وقد يمتد إلى أي شيء في الكون، كما قال بعض الحكماء: (لا تحتقر أحدا ولا شيئا من خلق الله، فإن الله ما احتقره حين خلقه)
ولهذا ذكر الله تعالى الكلب عند ذكره لأهل الكهف، وذكر الحمار عند ذكره لعزير.. وذكر حديث النملة والهدهد وغيرها من الحيوانات التي سخر المشركون من ذكر القرآن الكريم لها.. وهو دليل على عدم معرفتهم بالله.. وإلا فإن كل شيء بالنسبة لله تعالى واحد.. فخلق السموات والأرض مثل خلق نملة وبعوضة.. كلها بأمر واحد، كما قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، وقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]
ولهذا، فإن أولئك الملاحدة الذين يحتقرون الأديان، ويسخرون من المتدينين، ويذكرون لهم أثناء سخريتهم سعة الكون، وكون الأرض لا تساوي بالنسبة له شيئا، وأنها
مثالب النفس الأمارة (260)
أقل من أن تكون محل عناية إلهية.. لا يعرفون الله، ولا يعرفون أن المبدع العظيم لا يتخلى عن أي جزء في كونه، ولو كان صغيرا.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأورده لك من الأدوية التي تجعلك تنظر إلى الكون والأشياء والخلق والحقائق نظرة أخرى، مملوءة بالتقدير، لتضع كل شيء في محله الصحيح، وحينها لن تقع في هذا المثلب الخطير، ولا المثالب التي تتولد عنه.
أول علاج تنطلق منه ـ أيها المريد الصادق ـ لحماية نفسك من الاستهزاء والسخرية والتحقير وكل ما يتولد عنها من جرائم هو أن تعلم أن مقادير الأشياء وحقائقها ومآلاتها بيد الله، لا بيدك..
وحين تنظر إلى الأشياء بهذا الاعتبار تصبح هينا لينا.. حتى عند سيرك على تراب الأرض، تخفف الوطء، ولا تسير مستكبرا ولا مستعليا عليه، لأن الذين استعلوا عليه صاروا يتمنون أن يكونوا مثله، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]
ولهذا وصف الله تعالى المؤمنين بالهون والتواضع عند سيرهم، فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، ونهى عن ذلك المرح الذي يبديه المستكبرون المختالون، فقال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37]
وهكذا، فإن المؤمن لا يحتقر شيئا من خلق الله، بل يتواضع له، ويتأدب بآداب العبودية بين يديه، وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (البلاء موكّل بالقول، لو
مثالب النفس الأمارة (261)
سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا) (1)، وقال آخر: (لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الّذي صنع)
وروي عن بعض الصالحين ـ وقد كان من الفقهاء والعلماء ـ أنه بينما كان يمشي في يوم شات كثير الطين، فاستقبله كلب يمشي على الطريق التي كان عليها، فقال من رآه: رأيت الشيخ قد لصق بالحائط وعمل للكلب طريقا ووقف ينتظره ليجوز، فلما قرب منه الكلب ترك مكانه الذي كان فيه ونزل أسفل وترك الكلب يمشي فوقه، قال: فلما جاوزه الكلب وصلت إليه فوجدته وعليه كآبة، فقلت له: يا سيدي رأيتك الآن صنعت شيئا استغربته، كيف رميت بنفسك في الطين، وتركت الكلب يمشي في الموضع النقي؟ فقال لي: (بعد أن عملت له طريقا تفكرت، وقلت: ترفعت على الكلب، وجعلت نفسي أرفع منه، بل هو واللّه أرفع مني وأولى بالكرامة، لأني عصيت اللّه تعالى وأنا كثير الذنوب والكلب لا ذنب له، فنزلت له عن موضعي وتركته يمشي عليه، وأنا الآن أخاف من اللّه ألا يعفو عني، لأني رفعت نفسي على من هو خير مني) (2)
وما فعله هذا الصالح يدلك على الطريق الذي تتخلص به من كل تحقير لغيرك.. فهذا الكلب، وإن كان في مرتبة أدنى من الإنسان، لكنه ليس كذلك بالنسبة لكل الناس، فالذي لم يتحقق بإنسانيته، ولم يطع الله تعالى، ولم يلتزم حدوده، سيكون الكلب في مرتبة أعلى منه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ
__________
(1) تفسير القرطبي ج 16 ص 325 وانظر الاثر الاخير عن ابن مسعود في نزهة الفضلاء 1/ 85. وتفسير البحر المحيط 8/ 112.
(2) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ص: 470
مثالب النفس الأمارة (262)
هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]
ولهذا، فإن الصادق مع نفسه، الذي يعلم أنه لا يمكنه أن يعرف مصيره ما دام في هذه الدنيا، يتعرض لاختباراتها، ولا يعرف مرتبته عند الله، وهل هو من المرضي عنهم، أم من المغضوب عليهم، وهل سيصير إلى الجنة أم إلى النار.. يبقى دائما محتاطا خائفا حذرا، ولهذا يتواضع لكل شيء.. لأنه يخاف أن يحتقر شيئا، ثم يكون يوم القيامة فوقه.
ولهذا أخبر الله تعالى عن أولئك الذين كانوا يسخرون من المؤمنين في الدنيا، أو من بعضهم، ويتوهمون أنهم في النار، لكنهم يفاجؤون أنهم في الجنة، وأن النار التي كانوا يتوعدون بها غيرهم، صارت منزلهم، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 62، 63]
وقال حاكيا عن أساليب السخرية والاحتقار التي كانوا يمارسونها معهم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)} [المطففين: 29 - 33]
وفي نفس الوقت ذكر أولئك المؤمنين الذين تعرضوا لكل ألوان السخرية والاستهزاء في الدنيا، وكيف أنهم {مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين: 34 - 36]
ولهذا خاطب نوح عليه السلام قومه الذين كانوا يسخرون من صنعه للسفينة، ويقول لهم: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 38، 39]
ولم يكن نوح عليه السلام وحده من سخر به، بل إن الله تعالى أخبر أن المناوئين
مثالب النفس الأمارة (263)
للأنبياء جميعا اتخذوا السخرية والاستهزاء أسلوبهم في التعامل معهم، وهو ما حرمهم من الاستفادة منهم، أو تقليب النظر فيما يدعونهم إليه، قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30]، وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر: 10، 11]
وأخبر أن تلك السخرية هي التي طبعت على قلوبهم، وحالت بينهم وبين رؤية الحق، أو اتباعه، قال تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 12 - 15]، وقال: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 41، 42]
ولهذا كان جزاء الساخر والمستهزئ أن يعامل بمثل معاملته، كما قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 14، 15]
وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ المستهزئين بالنّاس يفتح لأحدهم باب إلى الجنّة، فيقال لهم: هلمّ؛ فيجي ء بكربه وغمّه، فإذا جاءه أغلق دونه فلا يزال كذلك حتّى إنّ أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنّة فيقال له: هلمّ فلا يأتيه من الإياس) (1)
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن هذا النوع من العقوبة قد يتحقق في الدنيا قبل الآخرة، فقال: (لا تظهر الشّماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك) (2)
__________
(1) رواه البيهقي
(2) الترمذي (2506) وقال: هذا حديث حسن غريب.
مثالب النفس الأمارة (264)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتّى يعمله) (1)
وقد قال الشّاعر معبرا عن هذا المعنى:
إذا ما الدّهر جرّ على أناس... كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشّامتين بنا أفيقوا... سيلقى الشّامتون كما لقينا
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فضع نفسك دائما موضع اختبار، وحاسبها قبل أن تحاسب.. واعلم أن الله قد يبتليك في أي لحظة بأضعف مخلوقاته، وأحقرهم في عينك، ليرى حقيقتك، مثلما فعل مع الشيطان حين اختبره بالطين التي كان يتوهم أنه أفضل منها.
وتذكر دائما ما قاله إمامك الإمام علي، فقد قال: (إن الله أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرن شيئا من طاعته، فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم، وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرن شيئا من معصيته، فربما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم، وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرن شيئا من دعائه، فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم، وأخفى وليه في عباده، فلا تستصغرن عبدا من عبيد الله، فربما يكون وليه وأنت لا تعلم) (2)
تأمل ـ أيها المريد الصادق ـ ففيها كل الأدوية التي تحفظ قلبك من الوقوع في هذا المثلب الخطير.. فهو ينبهك إلى أن الله تعالى أخفى رضاه في شريعته.. ولذلك لا تحقر، ولا تستصغر أي حكم من أحكامها، أو قيمة من قيمها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد شقّة تمرة فبكلمة طيّبة) (3)
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بينما رجل يمشي بطريق اشتدّ عليه العطش
__________
(1) الترمذي (2505) وقال: حسن غريب.
(2) وسائل الشيعة: 1/ 87.
(3) رواه البخاري- انظر الفتح 6 (3595)
مثالب النفس الأمارة (265)
فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثمّ خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثّرى من العطش فقال الرّجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الّذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفّة ثمّ أمسكه بفيه فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له)، قالوا: يا رسول الله، وإنّ لنا في البهائم أجرا؟، فقال: (في كلّ ذات كبد رطبة أجر) (1)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (تلقّت الملائكة روح رجل ممّن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئا؟ قال: لا. قالوا: تذكّر. قال: كنت أداين النّاس فامر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوّزوا عن الموسر. قال: قال الله عزّ وجلّ: تجوّزوا عنه) (2)
ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن احتقار أي عمل صالح، فقال: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) (3)، وفي رواية: (ولا تحقرنّ شيئا من المعروف، وأن تكلّم أخاك، وأنت منبسط إليه وجهك إنّ ذلك من المعروف) (4)
وقال مخاطبا النساء: (يا نساء المسلمات، لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فرسن شاة) (5)
وقال ـ جامعا بين المحتقرات من الأعمال الصالحة، وغيرها ـ: (عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن) (6)
وأخبر عن الأعمال السيئة، وكيف يدخل الشيطان من خلال احتقارها والاستهانة بها ليخرب كل ما بناه الإنسان، فقال: (ألا وإنّ الشّيطان قد أيس من أن يعبد في بلادكم
__________
(1) البخاري [فتح الباري]، 10 (6009) واللفظ له، ومسلم (2244)
(2) البخاري [فتح الباري]، 4 (7702) ومسلم (1560)
(3) مسلم (2626)
(4) أبو داود (4084)
(5) البخاري [فتح الباري]، 10 (6017) ومسلم (1030)
(6) مسلم (553)
مثالب النفس الأمارة (266)
هذه أبدا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به) (1)، وهو لا يرضى به إلا لأنه يعلم أنه يمكن أن يؤثر في الإنسان من خلاله.
وتعاملك ـ أيها المريد الصادق ـ مع الطاعات والمعاصي بهذه المعايير النبوية، يدعوك إلى التعامل مع الخلق بها أيضا.. فأنت مطالب معهم بإقامة شريعة ربك، ونصيحتهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولست مطالبا بالحكم عليهم، فقد يكون وعي أولئك الذين تعلمهم وتوجههم أفضل من وعيك، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بلغوا عني ولا تكذبوا فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) (2)
وتذكر ـ أيها المريد الصادق ـ قصة السحرة، ولا تغفل عنها أبدا، فالله ما كرر ذكرها في القرآن الكريم إلا لتعتبر بها.. فأولئك السحرة الذين قضوا عمرهم في خدمة فرعون والشرك بالله تحولوا بين عشية وضحاها إلى أولياء صادقين، وماتوا شهداء بين يدي نبيهم، في نفس الوقت الذي تحول فيه بلعم بن باعوراء ذلك العالم الذي انسلخ من آيات الله، فتحول إلى كلب يلهث.
إذا عرفت كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فالتزم أحكام ربك في التعامل مع الأشياء والأكوان والخلق، ولا تتجاوزها، فإذا عظمت شيئا عظمته باسم الله، وإذا حقرته حقرته باسم الله، لا باسمك.. حتى إذا ذبحت الذبيحة، فاذبحها، وأنت مطأطئ الرأس معتذرا لها، بأنك لم تفعل ذلك إلا باسم الله، وبإذنه.. حتى لا تكون مجرما بذبحك لها، معتقدا أنك أفضل منها، وأن عليها أن تسلم لحمها لك لتأكلها.
__________
(1) الترمذي (2159) وقال: حسن صحيح. واللفظ له، ابن ماجة (3055)، أحمد (3/ 499)
(2) أبو داود (3660) 3/ 322، والترمذي، (2656) 5/ 33، والدارمي (228) 1/ 86.
مثالب النفس الأمارة (267)
وهكذا.. إياك أن تكون من أهل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة: 1 - 9]
فما ورد في هذه السورة الكريمة من العقاب الشديد ليس مرتبطا بالأخنس بن شريق، أو غيره من المشركين الذين كانوا يسخرون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو عام لكل من يعيب الخلق، ويتخذهم مادة للتسلية والعبث.
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تسمي أحدا بغير الاسم الذي اختاره لنفسه، وتسخر منه بذلك، فقد ورد التحذير الشديد من ذلك، كما قال تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]
واسمع لرسولك صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يحذرك من احتقار المسلم، فيقول: (المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه، التقوى هاهنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) (1)
ونهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن احتقار المسلم لا يعني إباحة احتقار غيره، فالمسلم مطالب بأن يحترم جميع خلق الله، ويؤلف قلوبهم، ويتعامل معهم بما يقتضيه التواضع والعبودية.
وتخصيص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلم بذلك مرتبط بخطابه للمجتمع المسلم، وكأنه يقول لهم: كيف تجيزون لأنفسكم احتقار من لا يشاركهم في الإنسانية فقط، وإنما يشارككم في الإسلام أيضا؟
ولهذا عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسائله إلى الملوك والأمراء غير المسلمين خاطبهم
__________
(1) أبو داود (4882)، وابن ماجه (3933)، والترمذي (1927) وقال: (حديث حسن غريب)
مثالب النفس الأمارة (268)
بكل لطف، وقد قال في رسالته إلى ملك الروم،: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] ([4]) (1)
انظر كيف خاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملك الروم، وبذلك الأدب واللطف، وقد سماه عظيم الروم، ولم يسمه كلبهم، كما فعل أولئك المحرفون المبدلون الذين راحوا يستحلون أعراض غيرهم، بحجة كونهم غير مسلمين.
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن تحاكي أحدا من خلق الله تسخر منه بذلك، وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة عندما وصفت إحدى النساء بالقصر: (يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته)، وقالت: وحكيت له إنساناً ـ أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك ـ فقال: (ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا) (1)
هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحفظها، وتأدب بآداب العبودية، فهي وحدها من يحميك من هذا المثلب الخطير الذي قد تبتلى به من حيث لا تشعر.. فكن حذرا، والتزم التقوى، واستعن بالله ليحميك منه، وإياك أن تبادل من سخر منك أو استهزأ بك بمثل معاملته، فتستحلي نفسك ذلك، فيترسخ هذا الخلق فيك، ويصعب عليك بعدها التخلص منه.
__________
(1) أبو داود والترمذي.
مثالب النفس الأمارة (269)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن اللسان وعلاقته بالنفس الأمارة، وكيف يمكنه أن يتخلص من تحكمها فيه، وسيطرتها عليه، وعن أولئك الذين راحوا يضعون الحجارة في أفواههم حتى يتدربوا على الصمت، وعن مشروعية ذلك، وأسئلة أخرى كثيرة لها علاقة باللسان، ربما أجيبك عنها في رسائل لاحقة.
وقبل أن أجيبك عن أسئلتك أحب أن أبين لك أن اللسان جارحة من الجوارح الخاضعة للنفس، وهي تتحكم فيه بحسب المرتبة التي تنزل فيها، فإن كانت نفسا أمارة أمرته بالصمت في الوقت الذي يجب فيه الكلام، وبالكلام في الوقت الذي يجب فيه الصمت، وخلطت عليه الأمور، وأصبح بذلك أداة من أدوات الشيطان.. وإن كانت النفس مطمئنة شغلته بالذكر والمذاكرة والمجاهدة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل خصال الخير.
وهكذا، فإن اللسان مثله مثل سائر الجوارح، تابع للنفس، يتلون بلونها، ويتحرك تحت أوامرها.. ومن طهّر نفسه طهُر لسانه، ومن أوبقها أوبقه.
ولذلك أثنى الله تعالى على اللسان الطيب الذي يقول الكلمة الطيبة، فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24، 25]؛ فقد أخبر الله تعالى أن الكلمة الطيبة يمكنها أن تتحول إلى مصدر كبير من مصادر الحسنات التي لا تنضب.
وهكذا ورد في النصوص المقدسة الكثيرة عظم الأجر الذي يناله المسبحون والذاكرون لله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر كتب له
مثالب النفس الأمارة (270)
بكل حرف عشر حسنات) (1)، وقال: (والحمد لله تملأ الميزان) (2)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل الدعوة إلى الله، وعظم الأجر الذي يناله أصحابها، فقال: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) (3)
وهكذا، فإن الكثير من أعمال الخير لا يمكن لأحد من الناس أن يقوم بها من دون أن يستعمل فيها لسانه، وبذلك فهو آلة من آلات التقوى والهداية والصلاح.
وقد أخبر الله تعالى أن ملك مصر لم يعرف قدر يوسف عليه السلام إلا بعد أن كلمه، فقال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]
وبعكس ذلك، فإن اللسان الذي رفع يوسف عليه السلام، هو نفسه اللسان الذي فضح أولئك اليهود، الذين أخبر الله عنهم، فقال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 181، 182]
وهو الذي فضح المنافقين، كما قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 7، 8]
وهو الذي فضح الأفاكين، كما قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
مثالب النفس الأمارة (271)
يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 15 - 17]
وهو الذي أخبر الله تعالى أنه من يمد الشجرة الخبيثة في النفس، ويملأ العالم بالصراع، قال تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26]
وبذلك فإن اللسان أكبر دليل على الإنسان، فهو الذي يرفعه أو يخفضه، وهو الذي يكرمه أو يهينه، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30]
وقد عبر الشاعر عن ذلك بقوله:
ولكم ترى من صامتٍ لك مُعجب... زيادته أم نقصه في التكلم
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده... فلم يبق إلا صورةُ اللحم والدم
وعبر عنه بعض الحكماء، فقال: (القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلم، فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه، حلو وحامض وعذب، وأجاج، وغير ذلك وَيُبَيِّن لك طعم قلبه اغتراف لسانه) (1)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن لكل مرض من أمراض القلوب، إفرازاته الخاصة باللسان، ولذلك كان علاج اللسان متوقفا على علاج مصادر الخبث التي تمده؛ فإن لم تعالج بقي الداء العضال.
ولذلك لا تنفع الحصيات التي توضع في الأفواه، ولا تكميمها؛ فإن ذلك لا يسد أبواب الشر، وإنما يستر بعض روائحها الكريهة.
__________
(1) حلية الأولياء، لأبي نعيم، 10/ 63.
مثالب النفس الأمارة (272)
وأنا لا أستطيع أن أوافقك أو أوافق أحدا من الناس على رياضة لم يأت بها الشرع، ولم يدل عليها الدليل؛ ونحن لم نطالب بالصمت المطبق، ولا بتكميم الأفواه، وإنما طولبنا بأن نعبد الله بالكلام الطيب، والذكر الكثير، وعدم السكوت عن المنكر.
والعلاج الأجدى من ذلك هو تأمل ما ورد في النصوص المقدسة، والاستفادة منها في تطهير الألسن، وتربيتها وإصلاحها، حتى تكون أداة للتزكية والترقية، لا للتدنيس والانتكاسة.
وسأصف لك ـ بحسب طلبك أيها المريد الصادق ـ علاجين، إن أنت أدمنت على استعمالهما، شفى الله لسانك، وطهره، وجعله سلمك الذي ترتقي به في معارج الكمال.
أول علاج تنطلق منه ـ أيها المريد الصادق ـ لإصلاح لسانك، وحماية نفسك من آثاره، أن تمتلئ تصديقا بتلك النصوص المقدسة الكثيرة التي تجعل مصيرك ومستقبلك رهنا للكلمات التي تقولها؛ فتلك النصوص هي قوانين العقوبات الإلهية التي أنذر الله بها عباده، وأعلمهم إياها، والقانون لا يحمي المغفلين.
فإياك أن تسمع لأولئك الذين يهونون من تلك النصوص، أو يكذبونها، أو يحقرونها، فإن ذلك أماني تمنوها، وليس لهم عليها دليل من كتاب، ولا برهان من عقل، وقد قال الله تعالى مخبرا عن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا اني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) (1)
__________
(1) رواه أبو داود: 4604.
مثالب النفس الأمارة (273)
ولذلك لا تدع أقوال نبيك صلى الله عليه وآله وسلم التي يربيك بها، ويزكيك، ويعلمك الكتاب والحكمة، وتذهب لأولئك المشاغبين المجادلين فيها، الذين راحوا يستثمرون ما دس الكذبة فيها، ليرموها جميعا من غير تحقيق، ولا دراسة، وإنما هو الكسل الذي دعاهم إلى ذلك.
فلو تأملت ـ أيها المريد الصادق ـ تلك الوصايا والأحاديث النبوية لعلمت عظم خطر اللسان عليك، وعلى حقيقتك، وعلى مستقبلك، وعلى علاقتك مع الله، وعلاقتك مع خلقه.
وقد ورد في الحديث أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قل آمنت بالله ثمّ استقم)، قال: فما أتّقي؟ فأومأ صلى الله عليه وآله وسلم بيده إلى لسانه) (1)
وسأله آخر: (ما النجاة؟)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) (2)
وسأله آخر: (أنؤاخذ بما نقول؟)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثكلتك أمّك، وهل يكبّ الناس على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم) (3)
وسأله آخر: (ما أكثر ما يدخل النّاس الجنّة)، فقال: (تقوى الله وحسن الخلق)، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النّار، فقال: (الأجوفان: الفم والفرج) (4)
وقال له آخر: (يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟)، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلسانه،
__________
(1) ابن ماجه، 3972.
(2) الترمذي ج 9 ص 247 وقال: هذا حديث حسن.
(3) الترمذي (2616) والنسائي (3/ 13)، وابن ماجة (3973)
(4) ابن ماجه، 4246.
مثالب النفس الأمارة (274)
ثمّ قال: (هذا) (1)
وكان يقول لهم، ولكل الأجيال: (من يتكفّل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفّل له بالجنّة) (2)
ويقول: (من وقي شرّ قبقبه وذبذبه ولقلقه (3) فقد وقي) (4)
وقد سبق أن ذكرت لك حديث ذلك الرجل الذي دخل النار بسبب كلمة قالها لأخيه يتألى فيها على الله، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما، أو كنت على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار) (5)
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يمكن أن يستقيم القلب حتى يستقيم اللسان، فقال: (لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنّة رجل لا يأمن جاره بوائقه) (6)
وعبر الإمام عليّ عن هذا المعنى، فقال: (اللّسان قوام البدن، فإذا استقام اللّسان
__________
(1) الترمذي ج 9 ص 249 والدارمي ج 2 ص 299.
(2) البخاري والترمذي ج 9 ص 248.
(3) القبقب البطن، والذبذب الفرج، واللّقلق اللّسان.
(4) البيهقي في الشعب.
(5) أبو داود (4/ 275)
(6) رواه أحمد وابن أبي الدنيا في الصمت، الترغيب والترهيب ج 3 ص 528.
مثالب النفس الأمارة (275)
استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللّسان لم تقم له جارحة) (1)
وهو دليل على أن الاستقامة تحتاج إلى الطرفين: القلب والجوارح.. وأن المستقيم هو الذي يزكيهما جميعا؛ فيستعين بإصلاح قلبه على إصلاح لسانه، وبإصلاح لسانه على إصلاح قلبه.
ولهذا ربط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الصمت وحسن الخلق، فقال: (أنا زعيم ببيت في ربض (2) الجنّة لمن ترك المراء وإن كان محقّا، وببيت في وسط الجنّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنّة لمن حسن خلقه) (3)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) (4)، وفي ربط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين هذه الثلاثة دليل على أنه لا يمكن إكرام الجار، ولا الضيف من دون التحكم في اللسان.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وعزمت على أن تتحكم في لسانك، فعليك بكثرة الصمت، فـ (من كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار) (5)
__________
(1) الصمت لابن أبي الدنيا (249)
(2) ربض الجنة: ما حول الجنة خارجا عنها تشبيها بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت القلاع، (وهو ما يعرف الآن بضواحي المدن)
(3) أبو داود 4 (4800) والترمذي (1993) وقال: حديث حسن.
(4) البخاري [فتح الباري]، 10 (6018)، ومسلم (47)
(5) وسائل الشيعة: 12/ 187.
مثالب النفس الأمارة (276)
ولهذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن السلامة في الصمت عما حرم الله، فقال: (من كفّ لسانه ستر الله عورته، ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه، ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره) (1)
وقال: (إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلّها تستكفي اللّسان أي تقول اتق الله فينا فإنّك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا) (2)
وروي عن ابن مسعود أنّه كان على الصفا يلبّي، ويقول: (يا لسان قل خيرا تغنم، أو اصمت تسلم من قبل أن تندم)، فقيل له: يا أبا عبد الرّحمن أهذا شيء تقوله، أو شيء سمعته؟ قال: لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إنّ أكثر خطايا ابن آدم في لسانه) (3)
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة مختصرة يسهل حفظها لذلك، فقال: (من صمت نجا) (4)، وقال: (من سرّه أن يسلم فليلزم الصمت) (5)
وقد قال الشاعر معبرا عن هذه المعاني:
عوّد لسانك قلّة اللّفظ... واحفظ كلامك أيّما حفظ
إيّاك أن تعظ الرّجال وقد... أصبحت محتاجا إلى الوعظ
وقال آخر:
من لزم الصّمت اكتسى هيبة... تخفي على النّاس مساويه
لسان من يعقل في قلبه... وقلب من يجهل في فيه
وقال آخر:
عجبت لإدلال العييّ بنفسه... وصمت الّذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصّمت ستر للعييّ وإنّما... صحيفة لبّ المرء أن يتكلّما
ثم عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تراعي في لسانك ما تراعيه في سائر جوارحك، من عدم تحريكه إلا وفق ما ضبطته به الشريعة الحكيمة؛ فلا تتكلم إلا حيث ترى الكلام نافعا، وما عدا ذلك انشغل بالصمت إلا عن ذكر الله.
وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة لذلك، فقال: (كلّ كلام ابن آدم عليه لا له إلّا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله) (6)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإنّ أبعد النّاس من الله القلب القاسي) (7)
ولذلك ابتعد ـ أيها المريد الصادق ـ عن فضول الكلام وحشوه، وما لا حاجة لك فيه؛ فقد يدفعك الشيطان إلى أن تتكلم ببعض الخير، ثم يزينه لك، ثم يملي عليك حينها كل ما يريده، فلذلك إن أديت مقصودك بكلمة واحدة فاكتف بها، ولا تتبعها بالثانية، فقد تحبط كل ما ذكرته في الأولى.
وقد قال بعض الحكماء في هذا: (إنّ من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدّون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو نطقا بحاجتك في معيشتك الّتي لا بدّ لك منها، أتنكرون {إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11] {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17، 18]، أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته الّتي أملاها صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه)
__________
(1) ابن أبي الدنيا في الصمت.
(2) الترمذي ج 9 ص 247..
(3) ابن أبي الدنيا في الصمت والبيهقي في الشعب، الترغيب ج 3 ص 534.
(4) الترمذي (2503)
(5) ابن أبي الدنيا في الصمت وأبو الشيخ في فضائل الاعمال وغيرهما، الترغيب ج 3 ص 536.
(6) رواه الترمذي (2412) وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجة (3974)
(7) الترمذي (2411) وقال: هذا حديث حسن غريب.
مثالب النفس الأمارة (277)
وقال آخر: (إنّ الرّجل ليكلّمني بالكلام لجوابه أشهى إليّ من الماء البارد على الظمآن، فأترك جوابه خيفة أن يكون فضولا)
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله) (1)
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم لأجل ذلك ينهى المبالغة في الكلام والتقعر فيه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:: (إنّ من أحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم منّي مجلسا يوم القيامة الثّرثارون والمتشدّقون والمتفيهقون)، قالوا: يا رسول اللّه قد علمنا الثّرثارون والمتشدّقون. فما المتفيهقون؟ قال: (المتكبّرون)، وقال: (شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام) (2)
ثم إن عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تراعي في كلامك مشاعر غيرك؛ فلا تجرحها، ولا تحرجهم، ولا تؤذهم، فإن أعظم وسائل الشيطان للإذية والتفريق اللسان، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا. فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا، ويكره لكم قيل وقال (3) وكثرة السّؤال (4) وإضاعة المال) (5)، وربط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه جميعا باللسان دليل على دوره العظيم فيها.
وفي حديث آخر سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ قال: (الصّلاة
__________
(1) رواه ابن شعبة في التحف ص 30 والبيهقي، الدر المنثور ج 2 ص 221.
(2) رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب.
(3) قيل وقال: هو الخوض في أخبار الناس.
(4) كثرة السؤال: المراد به التنطع في المسائل والإكثار من السؤال عما لا يقع ولا تدعو إليه الحاجة.
(5) مسلم (1715) وبعضه عند البخاري 9 (5975)
مثالب النفس الأمارة (278)
على ميقاتها) قيل: ثمّ ما ذا يا رسول الله؟ قال: (أن يسلم النّاس من لسانك) (1)
وفي حديث آخر سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله ما الإسلام؟. قال: (أن يسلم قلبك لله عزّ وجلّ، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك) (2)
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن طلب وصيته: (تملك يدك)، فقال: فما ذا أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: (تملك لسانك)، قال: فما ذا أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: (لا تبسط يدك إلّا إلى خير، ولا تقل بلسانك إلّا معروفا) (3)
وأول ما يعينك على ذلك كله ألا تتكلف ما لا يعنيك، أو تبحث عما لا ينفعك، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101، 102]
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) (4)
ولهذا ورد في أوصاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان (يكثر الذّكر، ويقلّ اللّغو، ويطيل الصّلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة) (5)
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن تخوض في الباطل، أو تسعى لإرضاء جلسائك بإسخاط الله، فأنت مكلف بإرضاء الله، لا بإرضاء خلقه، وقد قال رسول الله
__________
(1) رواه الطبراني وصدره في الصحيحين، الترغيب والترهيب (3/ 523)
(2) رواه أحمد (4/ 114)
(3) رواه ابن أبي الدنيا. والطبراني والبيهقي، الترغيب والترهيب (3/ 530)
(4) مالك في الموطأ (2/ 903) والترمذي (2317) وقال: هذا حديث غريب.
(5) النسائي (3/ 109)
مثالب النفس الأمارة (279)
صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله ما يظنّ أنّها تبلغ به ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله ما يظنّ أنّها تبلغ به ما بلغت فكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة) (1)
وتحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أولئك الذين يريدون أن يظهروا للناس بصورة الظرفاء خفيفي الدم، ولو في معصية الله، فقال: (إنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوى بها أبعد من الثريّا) (2)
ولهذا كان بعض الصالحين يمر بالمجالس، فيسمع خوضهم في الباطل، فيقول لهم: (توضّؤوا فإنّ بعض ما تقولون شرّ من الحدث)
وعليك ـ أيها المريد الصادق ـ بعد كل هذا أن تستفيد من كل ما ذكره الحكماء وتلاميذ النبوة في كيفية حفظ اللسان، وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فالحكمة ضالة المؤمن، وأين وجدها، فهو أحق بها.
ومن تلك الحكم ما عبر عنه ابن عبّاس بقوله ـ ملخصا موارد الكلام الطيب ـ: (خمس لهنّ أحبّ إليّ من الدّهم الموقوفة (3): لا تتكلّم فيما لا يعنيك؛ فإنّه فضل، ولا آمن عليك الوزر.. ولا تتكلّم فيما يعنيك حتّى تجد له موضعا، فإنّه ربّ متكلّم في أمر يعنيه، قد وضعه في غير موضعه فعنت.. ولا تمار حليما ولا سفيها؛ فإنّ الحليم يقليك، والسّفيه يؤذيك.. واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحبّ أن يذكرك به، وأعفه ممّا تحبّ أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحبّ أن يعاملك به.. واعمل عمل رجل يعلم أنّه مجازى بالإحسان مأخوذ
__________
(1) ابن ماجه في حديث، 3969، وأحمد ج 3 ص 469.
(2) البغوي في المصابيح ج 2 ص 153، وابن أبي الدنيا.
(3) الدهم الموقفة: أي من الخيل الدهم التي أوقفت وأعدّت للركوب..
مثالب النفس الأمارة (280)
بالاحترام) (1)
وقال آخر: (لا خير في الكلام إلّا في تسع: تهليل، وتكبير، وتسبيح، وتحميد، وسؤالك عن الخير، وتعوّذك من الشّرّ، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وقراءتك القرآن) (2).
وقال آخر: (المؤمن إذا أراد أن يتكلّم نظر، فإن كان كلامه له تكلّم، وإن كان عليه أمسك عنه، والفاجر إنّما لسانه رسلا رسلا (3)) (4).
وقال آخر: (إذا كان المرء يحدّث في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت، وإن كان ساكتا فأعجبه السّكوت فليتحدّث) (5).
وقال آخر: (اجتمع أربعة ملوك، فقال أحدهم: أنا أندم على ما قلت، ولا أندم على ما لم أقل، وقال آخر: إنّي إذا تكلّمت بكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلّم بها ملكتها ولم تملكني، وقال ثالث: عجبت للمتكلّم إن رجعت عليه كلمته ضرّته، وإن لم ترجع لم تنفعه. وقال الرّابع: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر منّي على ردّ ما قلت) (6)
هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ في حفظ لسانك، وأنا أعلم أنك ستسألني عن بعض التفاصيل المرتبطة بما ورد في النصوص المقدسة من الأحكام المرتبطة باللسان؛ فلذلك اكتفيت في هذه الرسالة بدعوتك لحفظ لسانك في كل محل اشتبه عليك أمره، فأن
__________
(1) إحياء علوم الدين للغزالي (3/ 122)
(2) الصمت لابن أبي الدنيا (246)
(3) رسلا: ليّنا مسترخيا لا تؤدة فيه.
(4) الصمت لابن أبي الدنيا (247)
(5) المرجع السابق (252)
(6) إحياء علوم الدين (3/ 133)
مثالب النفس الأمارة (281)
تخطئ بالصمت، خير من أن تخطئ بالكلام؛ فالكلام مثل السهام، إذا خرجت من القوس لا يمكن ردها.
مثالب النفس الأمارة (282)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الغيبة والنميمة، والمنابع التي ينبعان منها، والثمار التي يثمرانها، وكيفية معالجة النفس الأمارة منهما، وأسرار تلك النصوص المقدسة الواردة حولهما.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن هذين المثلبين من مثالب النفس الأمارة، من أخطر المهلكات، وأنهما ليسا مرضين بحد ذاتهما، وإنما هما عرضان لأمراض كثيرة تعتري النفس تبدأ بالعجب والغرور والاستكبار الذي يختصر كل شيء في أنانية الإنسان، واعتباره لنفسه المحور والقطب والمركز.. ولذلك تسارعان لكل من ينافس تلك النفس، أو يصرف الأنظار عنها إلى الإساءة إليه بأي شيء، ومنها الإساءة إليه بذكر عيوبه وإشاعتها ونشرها، أو الإفساد بينه وبين غيره.
ومن منابع هذين المرضين دناءة النفس، وغفلتها عن حقيقتها ووظائفها، وذلك ما يجعلها في فراغ كبير، يستغله الشيطان ليملي عليها نشر العداوة والشحناء عبر وسائل الغيبة والنميمة والقذف وغيرها.
ومن منابعها تلك التبعية والعبودية للأصدقاء والأعراف والمجتمعات، والتي تجعل المريض بها يجاريها، ويسير وفق أهوائها، من غير أ ن يكون له في ذلك أي مصلحة، سوى إرضاء الأصدقاء أو المجتمع، وعدم الخروج عنه.
ومن منابعها الحقد والحسد والبغضاء التي تجعل المريض بها منشغلا عن نفسه بتتبع أخطاء الآخرين وإذاعتها ونشرها والزيادة فيها.
وغيرها من المنابع الكثيرة التي عبر عن أصولها الكبرى الإمام الصادق، عند ذكره للغيبة، فقال: (انّ أصل الغيبة متنوّع بعشرة أنواع: شفاء غيظ ومساعدة قوم وتهمة
مثالب النفس الأمارة (283)
وتصديق خبر بلا كشفه وسوء ظنّ وحسد وسخريّة وتعجّب وتبرّم وتزيّن.. فإن أردت السّلامة فاذكر الخالق لا المخلوق فيصير لك مكان الغيبة عبرة ومكان الإثم ثوابا) (1)
وما ذكره الإمام الصادق يدل على أن الأمراض النفسية يؤدي بعضها إلى بعض، ويقوي بعضها بعضا.. فالحقد والحسد يدعو إلى الغيبة والنميمة، وهما يقويان الحقد والحسد، ويجذرانه في النفس..
ومثل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ مثل الشجرة التي تغذي أوراقها بالماء والأملاح المعدنية، فإذا ما قويت الورقة واشتدت غذت الشجرة بما تحتاجه من طاقة عبر التمثيل الضوئي.
أما الثمار التي يثمرانها، فكثيرة جدا، وأولها انشغال النفس عن وظائفها، وهربها من نقصها بتتبع نقص الآخرين، وإشاعتها للفساد عبر نشرها لأخباره، وإشاعتها للقطيعة عبر الإفساد الذي تهدم به عرى المجتمع.
ولذلك لا يمكن لمن يريد أن يزكي نفسه، ويطهرها، ويجعلها صالحة لسلوك الطريق المستقيم ألا يحيط علما بحدود هذين المثلبين، وكيفية علاجهما، حتى يحفظ أعماله وسلوكه، ويهيئ نفسه للمراتب العالية التي لا يرقى إليها إلا أصحاب القلوب السليمة، والألسنة الطاهرة، والنفوس المطمئنة.
ولذلك سأحدثك عن كل واحد منهما، وحدوده، وكيفية علاجه؛ فالعلم بالمثالب أول الطريق لعلاجها.. ورب نفوس صادقة لا تحتاج سوى معرفة حدود الشريعة لتلتزم بها، من غير أن مشقة ولا عناء.
__________
(1) مصباح الشريعة، الباب التاسع والأربعون.
مثالب النفس الأمارة (284)
أما الغيبة ـ أيها المريد الصادق ـ فهي تلك التي نص على تحريمها وعقوبة أصحابه قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]
وقد عرّفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعريفا جامعا مانعا، لا يترك مجالا لأي تأويل، ولا يحتاج بعده أي تفصيل؛ فقد روي في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال ـ مخاطبا أصحابه ـ: (أتدرون ما الغيبة؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذكرك أخاك بما يكره)، قالوا: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) (1)
وفي حديث آخر أن رجلا ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: ما أعجزه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اغتبتم صاحبكم)، قالوا: يا رسول الله قلنا ما فيه، قال: (إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتّموه) (2)
وروي عن عائشة أنّها ذكرت امرأة فقالت: إنّها قصيرة فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (اغتبتها) (3)
وهذه الأحاديث جميعا تدل على أن الغيبة تشمل كل ما يكرهه من وقعت عليه الغيبة، سواء في دينه أو دنياه، أو جسده، أو نسبه، أو أي شيء قد لا يخطر على البال، وقد ذكر بعض الصالحين رجلا فقال: ذلك الرّجل الأسود، ثمّ قال: أستغفر الله، إنّي أراني قد اغتبته.
وقال آخر: (ذكر الغير بالسوء ثلاثة أقسام: الغيبة والبهتان والإفك، والكلّ في كتاب الله، والغيبة أن تقول ما فيه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك)
__________
(1) مسلم، رقم 2589.
(2) الطبراني في الكبير، مجمع الزوائد ج 8 ص 94.
(3) أحمد وأبو داود ج 2 ص 567 والترمذي.
مثالب النفس الأمارة (285)
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفهم من هذه النصوص اختصاص الغيبة باللسان، فالأمر ليس كذلك؛ فاللسان ليس سوى أداة لذلك، ولذلك فإن الغيبة تشمل كل تنقيص للغير، وذكر لعيوبه، حتى لو كانت صورة نشرتها عنه، أو حركة أومأت بها إليه، أو تعريضا عرضت به، يسيء إليه، أو إشارة أو إيماء أو غمزا أو رمزا أو كتابة أو حركة.. فكل هذه الأمور داخلة في الغيبة، وقد ذكرت لك في مناسبات سابقة ما ورد في الحديث عن عائشة أنها أومأت بيدها تشير إلى امرأة بكونها قصيرة، فاعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حركتها غيبة (1).
وهي كذلك تشمل الأحياء والموتى، بل إن غيبة الميت أشد، لعدم إمكانية الاستحلال منه، وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا مات صاحبكم فدعوه، ولا تقعوا فيه) (2)
وهذا لا يعني ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكف لسانك عن إنكار المنكر خشية أن يفهم البعض منه قصدك لأشخاص معينين، أو طوائف معينة؛ فذلك ليس من الغيبة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا كره من إنسان شيئا قال: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) (3) من دون أن يعين أحدا.
وإياك عند قصدك لهذا، أن تحكم على الناس من خلال رؤيتك للشريعة، أو مرتبتك في التحقق بها؛ فتقع فيما وقع فيه ذلك الصحابي الذي راح يذم بعضهم بسبب تقصيره في بعض الشعائر، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خير منه.
فقد ورد في الحديث أنّ رجلا مرّ على قوم في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلّم عليهم فردّوا عليه السلام؛ فلمّا جاوزهم قال رجل منهم: إنّي لأبغض هذا للَّه، فقال أهل المجلس: والله
__________
(1) الخرائطي وابن مردويه والبيهقي كما في الدر المنثور ج 6 ص 94.
(2) أبو داود، رقم 4899.
(3) أبو داود ج 2 ص 550.
مثالب النفس الأمارة (286)
لبئس ما قلت والله لننبّئنّه.. فقاموا، فأخبروه، فأتى الرّجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحكى له ما قال وسأله أن يدعوه، فدعاه فسأله، فقال: قد قلت ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم تبغضه؟ قال: أنا جاره وأنا به خبير، والله ما رأيته يصلّي صلاة قطّ إلّا هذه المكتوبة، قال الرجل: فاسأله يا رسول الله هل رآني أخّرتها عن وقتها، أو أسأت الوضوء لها أو الرّكوع أو السجود؟ فسأله فقال: لا، قال: والله ما رأيته يصوم شهرا قطّ إلّا هذا الشهر الّذي يصومه البرّ والفاجر، قال الرجل: فاسأله يا رسول الله هل رآني قطّ أفطرت فيه أو نقصت من حقّه شيئا؟ فسأله، فقال: لا، قال: والله ما رأيته يعطي سائلا قطّ ولا مسكينا، ولا رأيته ينفق من ماله شيئا في سبيل الخير إلّا هذه الزكاة الّتي يؤدّيها البرّ والفاجر، قال الرجل: فأسأله هل رآني نقصت منها شيئا أو ماكست فيها طالبها الّذي يسألها؟ فسأله، فقال: لا، فقال للرّجل: (قم فلعلّه خير منك) (1)
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنه إذا اقتضت المصلحة الشرعية اللجوء إلى ذكر الأسماء، والتصريح بها؛ فإن الحرج حينها منتف، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148]
ولذلك لا يمكنك أن تلوم شخصا يذكر ظالمه، ويشكو منه، وتنعته بكونه مغتابا، وتطلب منه ألا يسميه، فكيف يمكنك أن تنصره، وأنت لا تعرف من ظلمه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعضهم: (دعوه، فإن لصاحب الحقّ مقالا) (2)، وقال: (مطل الغني ظلم) (3)، وقال: (ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته) (4)
__________
(1) أحمد ج 5 ص 455.
(2) رواه أحمد (6/ 268)
(3) البخاري- الفتح 5 (2400)
(4) أبو داود وابن ماجه رقم 2427
مثالب النفس الأمارة (287)
ومثل ذلك من يريد الاستعانة على تغيير المنكر؛ فيضطر إلى تسمية من وقع فيه، حتى يدعو لنصحه، والإنكار عليه، فلا حرج في ذلك، ما دام المنكر لا يغير إلا بذلك، وقد قال الإمام الصادق في ذلك: (صفة الغيبة أن يذكر أحد بما ليس هو عند الله عيب ويذمّ ما يحمده العلم فيه، وأمّا الخوض في ذكر غائب بما هو عند الله مذموم وصاحبه فيه ملوم فليس بغيبة وإن كره صاحبه إذا سمع به وكنت أنت معافى عنه خاليا منه وتكون مبيّنا للحقّ من الباطل ببيان الله ورسوله، ولكن على شرط أن لا يكون للقائل بذلك مراد غير بيان الحقّ والباطل في دين الله، وأمّا إذا أراد به نقص المذكور بغير ذلك المعنى فهو مأخوذ بفساد مراده وإن كان صوابا) (1)
وانتبه ـ أيها المريد الصادق ـ لما قيد به الإمام الصادق إباحة ذلك، وهو قصد بيان الحق، والبعد عن أهواء النفس وأحقادها وأمراضها.
ومثل ذلك المستفتي الذي يذكر حاله للمفتي، أو الشاكي الذي يذكر حاله للقاضي، فيسمي من ظلمه، أو أخطأ في حقه؛ فكل ذلك جائز، ولا حرج فيه، وقد ورد في الحديث أن هندا قالت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني إيّاي وولدي أفآخذ من غير علمه؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) (2)
ومثل ذلك التحذير من رؤساء الشر، ودعاة الفتنة، وبيان عيوبهم وفضائحهم، حتى يحذر منهم الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك: (أترعون عن ذكر الفاجر حتّى لا يعرفه النّاس، اذكروه بما فيه يحذره النّاس) (3)
__________
(1) مصباح الشريعة، الباب التاسع والأربعون.
(2) البخاري- الفتح 4 (2211) واللفظ له، ومسلم (1714)
(3) ابن أبي الدنيا في الصمت والحكيم في نوادر الأصول والحاكم في الكنى والشيرازي في الألقاب.
مثالب النفس الأمارة (288)
ويدخل في هؤلاء المجاهرون بالفسق الدعاة للرذيلة، الذين ينطبق عليهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له) (1)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن تلك النصوص المقدسة التي استثنت تلك المواقع، تشبه ما يفعله الطبيب الذي قد يضطر إلى القيام بعملية جراحية، لا يقصد منها إيذاء صاحبها، ولكن يقصد استئصال الداء منه.. فإذا تجاوز ذلك، وراح يجرحه في المواقع التي لا تحتاج إلى جرح كان مؤذيا وظالما.
وهكذا الذي قد يضطر إلى الغيبة؛ فإنه لا يقصد منها تلبية دوافع نفسه الأمارة، فيغذي منابع السوء فيها، وإنما يقصد منها الإصلاح، وبيان الحق، والتحذير من الباطل.. فإن تجاوز ذلك يكون حاله كحال الطبيب الذي يعالج أعضاء، ويقضي على أخرى.
إذا عرفت هذا.. وأردت أن تعالج نفسك من هذا المثلب الخطير؛ فتذكر ما ورد في النصوص المقدسة من أنواع العقوبة المرتبطة به، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أكَلَ برجلٍ مسلمٍ أُكْلةً فإن الله يُطعِمُهُ مثلها من جهنم، ومن كُسِيَ ثوباً برجلٍ مسلمٍ فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجلٍ مقام سمعةٍ ورياءٍ؛ فإن الله يقوم به مقام سُمعة ورياء يوم القيامة) (2)
وأخبر عن بعض صور ذلك العذاب، فقال: (لمَّا عُرج بي مررت بقومٍ لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم) (3)
وأخبر عن الجزاء الوفاق الذي يناله من تتبع عورات إخوانه، فقال: (يا معشر من
__________
(1) البيهقي، الدر المنثور ج 6 ص 97.
(2) أبو داود، 4881،وأحمد،4/ 229.
(3) أبو داود، 4878.
مثالب النفس الأمارة (289)
آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ قلبَهُ، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبعوا عوراتِهم؛ فإنه من اتّبعَ عوراتِهمْ يتّبع الله عورتَهُ، ومن يتبعِ الله عورته، يفضحْهُ في بيته) (1)
وشبه صلى الله عليه وآله وسلم الغيبة بالربا، واعتبر أنها أربى الربا، مع أن الله تعالى توعد المرابين بالمحاربة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279]
فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن من أربى الرِّبا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق) (2)
وفي حديث آخر أن بعضهم سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسائل تتعلق بالقرض وغيره، وكان يقصد الورع عن الربا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عباد الله، وضع الله عنكم الحرج، إلا من اقترض من عرض أخيه شيئاً فذلك الذي حرج، وهلك) (3)
ولا تكتف ـ أيها المريد الصادق ـ بتذكير نفسك بهذه العقوبات، بل أضف إليها تلك الحسرة التي يجدها من يجد حسناته التي تعب في جمعها في الدنيا، تذهب في الآخرة إلى أولئك الذين اغتابهم، حتى ينالوا حقهم منه، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك في حديث المفلس، فقال: (المفلس من أمّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه. ثمّ طرح في النّار) (4)
__________
(1) أبو داود، 4880، وأحمد، 4/ 421، 424.
(2) أبو داود، 4876، وأحمد، 1/ 190.
(3) أحمد، 4/ 278، والحاكم، 4/ 199، و4/ 499.
(4) مسلم (2581)
مثالب النفس الأمارة (290)
ولهذا روي عن بعض الصالحين أنه قيل له: (إن فلانًا قد اغتابك)، فبعث إليه طبقًا من الرطب، وقال: (بلغني أنك أهديتَ إليَّ حسناتِك، فأردتُ أن أكافئك عليها، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام) (1)
وقيل لآخر: بلغني أنك تغتابني، فقال: (لم يبلغ قدرك عندي أن أُحكِّمَك في حسناتي)
وقيل لآخر: إن فلانًا يغتابني، فقال: (قد جلب لك الخير جلبًا) (2)
وقال آخر: (لولا أني أكره أن يُعْصى الله، لتمنيت أن لا يبقى أحد في المصر إلا اغتابني، أي شيء أهنأ من حسنات يجدها الرجل في صحيفته لم يعمل بها؟!) (3)
وقال آخر: (لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والديَّ؛ لأنهما أحق بحسناتي)
وقال آخر: (يا مكذب، بخلت بدنياك على أصدقائك، وسخوت بآخرتك على أعدائك، فلا أنت فيما بخلت به معذور، ولا أنت فيما سخوت به محمود) (4)
وقال آخر: (إذا بلغك عن أخيك ما يَسُوؤك، فلا تغتم، فإنه إن كان كما يقول، كانت عقوبة عجلت، وإن كان على غير ما تقول، كانت حسنة لم تعملها) (5)
وكتب آخر إلى رجل كان يغتابه: (أما بعد، فإنه لم يمنعني أن أكتب إليك أن تتزايد ممَّا أنت فيه إلا كراهية أن أعينك على معصية الله، واعلم أني أرتع في حسناتك كما ترعى الشاة الخضر، والسلام) (6)
__________
(1) تنبيه الغافلين: 1/ 176.
(2) حلية الأولياء: 8/ 108.
(3) رواه البيهقي في شعب الإيمان: 5/ 305.
(4) تنبيه الغافلين: 1/ 177.
(5) سير أعلام النبلاء: 6/ 264.
(6) ترتيب المدارك: 1/ 450.
مثالب النفس الأمارة (291)
إذا عرفت كل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاجتهد أن تمسك لسانك عنها، وأن تبتعد عن كل المجالس التي تدعوك إليها، واعلم أن الشيطان قد يجرك للجلوس فيها، لتلتذ بها من غير أن تشارك فيها، موهما لك، ولمن تجلس معهم أنك تقي ورع، مع أن نفس مجالستك لهم، وسكوتك عن الإنكار عليهم غيبة، بل ربما تكون أشد منها.
هي تشبه تماما ما يطلق عليه التدخين السلبي، فذلك الذي يجلس بين المدخنين، تسري إليه أمراضهم والهواء النتن الذي يفرزونه، وهو يزعم لنفسه أنه بعيد عن التدخين، ولم يبتل به.
ولذلك، فإنك بين أمرين: إما أن تفارق تلك المجالس، أو تقوم بالإنكار عليهم، وإلا كنت شريكا لهم، فمن كثر سواد قوم كان منهم، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما من امرئٍ يخذل امرؤاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطنٍ يحب فيه نصرته، وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته) (1)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من ردّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) (2)
و قال: (من ذبَّ عن لحم أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار) (3)
ولا تكتف بهذا ـ أيها المريد الصادق ـ إن أردت تهذيب نفسك وتصفيتها، فلا تكفي العزيمة على ترك الغيبة في المستقبل، بل عليك البحث في ماضيك، ومن اغتبتهم، لتصلح ما أخطأته في حقهم، حتى لا يخاصمونك عند الله يوم القيامة.
__________
(1) أبو داود، 4884، وأحمد، 4/ 30.
(2) أحمد،6/ 450،والترمذي، 1931.
(3) أحمد، 6/ 461.
مثالب النفس الأمارة (292)
فإن كنت تعرف من اغتبته، ورأيت أن طلبك إبراء الذمة منه لن يؤثر فيه، أو يغضبه، فاستحل منه، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هنالك دينار ولا درهم إنّما يؤخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنة أخذ من سيّئات صاحبه فزيدت على سيّئاته) (1)
وقد وصف بعضهم كيفية ذلك، فقال: (تمشي إلى صاحبك وتقول: كذبت فيما قلت، وظلمت وأسأت فإن شئت أخذت بحقّك وإن شئت عفوت)
وإن رأيت أن ذلك يؤذيه ويحرجه ويجرحه، فاكتف بالدعاء له وذكر محاسنه لتكفر عن خطيئتك باغتيابه، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (كفّارة من اغتبته أن تستغفر له) (2)، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتّق الله حيثما كنت وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها وخالق النّاس بخلق حسن) (3)
وقد جمع الإمام الصادق بين الأمرين، فقال: (إن اغتبت فبلغ المغتاب فاستحلّ منه، وإن لم تبلغه فاستغفر الله له) (4)
أما النميمة ـ أيها المريد الصادق ـ فتشترك مع الغيبة في نشرها للعيوب والفضائح، وتزيد عليها في الغرض الذي تهدف إليه، وهو الإفساد بين المتآخين والمتحابين، بخلاف الغيبة التي قد لا يكون مقصودها سوى الضحك واللهو واللعب، ولا ينتج عنها سوى
__________
(1) أحمد ج 2 ص 506.
(2) ابن أبي الدنيا في الصمت.
(3) رواه الترمذي (1987)، ورواه أحمد (5/ 153، 158، 228، 236)، والدارمي (2794)
(4) مصباح الشريعة الباب التاسع والأربعون.
مثالب النفس الأمارة (293)
ذلك الألم الذي يجده من وقعت الغيبة عليه.
ولذلك فإن كل العقوبات التي ذكرت في الغيبة، تكون للنمامين، ويضاف إليها ذلك الإفساد الذي قاموا به، والذي قد يتفاقم إلى أن يخرج من السيطرة.. وحينها قد يصبح النمام قاتلا ومجرما من غير أن يسفك أي دم، أو يقتل أي شخص.
وقد روي في بعض الحكايات أن رجلا باع عبدا فقال للمشتري: ما فيه عيب إلّا النميمة قال: قد رضيت فاشتراه فمكث الغلام أيّاما ثمّ قال لزوجة مولاه: إنّ زوجك لا يحبّك وهو يريد أن يتزوج عليك، وأنا أسحره لك في شعره، فقالت: كيف أقدر على أخذ شعره؟ فقال: إذا نام فخذي الموسى واحلقي من قفاه عند نومه شعرات حتّى أسحره عليها فيحبّك، ثمّ قال للزّوج: إنّ امرأتك اتّخذت خليلا، وتريد أن تقتلك فتناوم لها حتّى تعرف ذلك، فتناوم فجاءته المرأة بالموسى فظنّ أنّها تريد قتله، فقام، فقتلها، فجاء أهلها وقتلوا الزّوج فوقع القتال بين القبيلتين وطال الأمر بينهم.
ولهذا، فإن النميمة جريمة من الجرائم الكبرى التي قد تفوق القتل وغيره، ذلك أنها السبب في كل المفاسد، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:
تنحّ عن النّميمة واجتنبها... فإنّ النّمّ يحبط كلّ أجر
يثير أخو النّميمة كلّ شرّ... ويكشف للخلائق كلّ سرّ
ويقتل نفسه وسواه ظلما... وليس النّمّ من أفعال حرّ
بل إن النمام قد لا يكتفي بالإفساد بين الأفراد المحدودين، وإنما يسري فساده للأمة جميعا، فالطائفية المقيتة التي فرقت بين المسلمين، وزرعت الصراع بينهم، ليست سوى ثمرة لأولئك النمامين الذين ـ بدل أن ينشروا المحبة بين المسلمين ـ راحوا ينشرون الفرقة والصراع بينهم.
ولهذا ذم الله تعالى النمامين ذما شديد، فقال: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ
مثالب النفس الأمارة (294)
مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10 - 13]، فهذه الأوصاف جميعا هي منابع النميمة وثمارها.. فالنمام لا يرتاح إلا إذا رأى الخلق يتصارعون، ويمنع بعضهم خيره عن الآخر.
وقرن الله تعالى بين النميمة والقطيعة والإفساد في الأرض ونقض المواثيق، فقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 26، 27]
وشبه النمام بالذي يحمل الحطب ليشعله، ويحرق الخلق به، كما قال تعالى في وصف امرأة أبي لهب التي كانت تسعى بالنميمة لتفسد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقومه: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن النمام شر الناس، فقد روي أنه قال: (إنّ من شرّ النّاس من اتّقاه النّاس لشرّه) (1) والنمّام منهم.
وأخبر أنه (لا يدخل الجنة نمام) (2)، وفي رواية: (لا يدخل الجنّة قاطع) (3)، وكيف يدخلها، وهو الذي إن دخلها لن يلتذ بنعيمها ما لم ير قصورها تهدم، وأشجارها تحرق..
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن تعجيل العذاب للنمامين في البرزخ؛ فقد روي أنه خرج من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان، في قبريهما فقال: (يعذبان وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير: كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يمشي
__________
(1) الكافي ج 2 ص 327، والبخاري ومسلم نحوه.
(2) البخاري، 6056، ومسلم، برقم 169.
(3) البخاري ج 8 ص 6 ومسلم ج 8 ص 8.
مثالب النفس الأمارة (295)
بالنميمة) (1)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاحذر من أن تتكلم كلمة لا تلقي لها بالا قد تكون سببا في فتنة عظيمة، لا يمكن أن تسدها؛ فزن كلماتك قبل أن تتحدث بها، حتى لا تكون وبالا عليك، وحتى لا تأتي يوم القيامة مجرما، وأنت لم تقتل صرصورا واحدا.
ولا تكتف بذلك، بل واجه النميمة، وأفسد أغراضها، ولا تقبل من النمامين، حتى لا تكون معينا لهم.
وإياك أن تسمع للنمام، فهو فاسق حتى لو لبس ملابس العلماء، وتحدث بكلام الحكماء، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]
و قد روي عن الإمام عليّ أنّ رجلا أتاه يسعى إليه برجل، فقال: (يا هذا نحن نسأل عمّا قلت فإن كنت صادقا مقتناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، فإن شئت أن نقيلك أقلناك؟)، فقال: (أقلني يا أمير المؤمنين) (2)
وروي أن حكيما زاره بعض إخوانه، ونقل له خبرا عن غيره، فقال له الحكيم: (قد أبطأت عن الزّيارة، وأتيتني بثلاث جنايات: بغّضت إليّ أخي، وشغلت قلبي الفارغ، واتّهمت نفسك الأمينة)
وروي عن بعض الأمراء أنّه دخل عليه رجل، فذكر له عن رجل شيئا، فقال له: (إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}
__________
(1) البخاري، 6055، ومسلم، 292.
(2) رواه المفيد في الاختصاص ص 142.
مثالب النفس الأمارة (296)
[الحجرات: 6]، وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك؟) فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا) (1)
وقال حكيم لبعض الأمراء: (احذر قاتل الثّلاثة)، قال: (ويلك، من قاتل الثّلاثة)؟ قال: الرّجل يأتي الإمام بالحديث الكذب، فيقتل الإمام ذلك الرّجل بحديث هذا الكذّاب، ليكون قد قتل نفسه، وصاحبه، وإمامه) (2)
وروي أن بعض الأمراء كتب إليهم أحد المتملقين له يحثّه على أخذ مال يتيم، وكان مالا كثيرا فكتب على ظهرها يقول له: (النّميمة قبيحة، وإن كانت صحيحة، والميّت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال نمّاه الله، والسّاعي لعنه الله) (3)
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن (من نمّ إليك نمّ عليك) (4)، وأن من بلغك سب غيرك لك، فقد سبك بغير لسانه، وقد قال الشاعر:
لا تقبلنّ نميمة بلّغتها... وتحفّظنّ من الّذي أنباكها
إنّ الّذي أهدى إليك نميمة... سينمّ عنك بمثلها قد حاكها
وقد قال رجل لبعض الحكماء: إنّ فلانا ما يزال يذكرك في قصصه بشرّ، فقال له الحكيم: (يا هذا ما رعيت حقّ مجالسة الرّجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أدّيت حقّي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن أعلمه أنّ الموت يعمّنا، والقبر يضمّنا، والقيامة تجمعنا، والله تعالى يحكم بيننا، وهو خير الحاكمين) (5)
__________
(1) إحياء علوم الدين، (3/ 166)
(2) انظر مساوى ء الأخلاق للخرائطي (93)
(3) الأذكار للنووي (310)
(4) إحياء علوم الدين، (3/ 166)
(5) المرجع السابق، (3/ 167)
مثالب النفس الأمارة (297)
وأختم لك وصيتي هذه بما أوصى به لقمان الحكيم ابنه، فقد قال له: (يا بنيّ أوصيك بخلال إن تمسّكت بها لم تزل سيّدا: أبسط خلقك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم واللّئيم، واحفظ إخوانك وصل أقاربك وآمنهم من قبول قول ساع أو سماع باغ يريد فسادك ويروم خداعك، وليكن أخدانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تغتبهم ولم يغتابوك)
هذه وصيتي إليك ـ أيها المريد الصادق ـ فاجتهد في أن تحفظ نفسك من هذين المثلبين الخطيرين، ولا يمكنك ذلك ما لم تطهرها من كل الأمراض الباطنية التي تدفعها لذلك.. فلا يمكن للحاقد والحاسد والمستكبر، والذي استولت عليه نفسه الأمارة أن يحكم لسانه، أو يضبط تصرفاته، وهل يمكن للنار أن تطفئها بالماء، وأنت تزودها كل حين بالوقود الذي يهيجها.
مثالب النفس الأمارة (298)
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الخداع والمكر، وما ارتبط بهما من الكيد والتآمر، والدوافع التي تدفع إليها، والثمار التي تثمرها، وكيفية معالجة النفس الأمارة منها، وسر ما ورد من النصوص المقدسة في وصف بعض أفعال الله تعالى بها مع تنزهه وتنزه أفعاله عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الخداع والمكر، ومثلهما الكيد والتآمر، وإن اشتهرت دلالاتها في الرذائل والمثالب، إلا أنها في أصل اللغة لا يراد بها ذلك (1).. وإنما يراد بها كل الطرق الخفية التي توصل إلى تحقيق الأغراض بسهولة ويسر، للحاجة التي تستدعي ذلك.
ويشير إلى هذا قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، فقد أخبر الله تعالى أنه أتاح ليوسف عليه السلام أن يصطنع تلك الحيلة حتى يبقي أخاه معه، ولو أنه لم يقم بها لما سمح له إخوته بالبقاء.
وبما أن في إبقاء يوسف عليه السلام مصلحة لأخيه، بل لإخوانه جميعا، فقد كان ذلك الكيد طيبا وصالحا.. بل إن الله تعالى أخبر أنه هو الذي أرشده لذلك.
__________
(1) مما يدل على هذا المعنى قول الرَّاغب الأصفهاني عند حديثه عن المكر، فقد عرفه بقوله: (صرف الغير عمَّا يقصده بِحِيلة، وذلك ضربان:
1 - مكر مَحمود: وذلك أن يتحرَّى بذلك فعلاً جميلاً، وعلى ذلك قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]
2 - مكرٌ مذموم: وهو أن يُتحرَّى به فعل قبيح، قال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]
وقال في الأمرين: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50] [المفردات في غريب القرآن،473]
مثالب النفس الأمارة (299)
ولهذا نرى القرآن الكريم يصف المكر الذي قام به أعداء الأنبياء عليهم السلام بكونه مكرا سيئا، فقال: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 42، 43]؛ فالعتاب لم يكن لمكرهم وتخطيطهم، وإنما كان لهدفه الذي كان سيئا.
فالتخطيط في حد ذاته مشروع، ولا حرج فيه، والحرج مرتبط بالهدف الذي يهدف إليه؛ فإن كان الهدف طيبا وصالحا، كان المكر طيبا وصالحا.
ولهذا أخبر الله تعالى أن له المكر جميعا، فقال: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 42]، ثم عقب على ذلك ببيان دليله، فقال: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 42]
وهذا ما يقال في الخداع؛ فهو إن وضع في غير محله، كان انحرافا وضلالا ومثلبا خطيرا.. لكنه إن وضع في محله الصحيح، واستعمل لسد المفاسد، كان عملا شرعيا وصحيا، يُمدح صاحبه عليه.
فالطبيب الذي يخدع مريضه ببعض الحيل، ليتناول دواءه، ويشفى من مرضه، لا حرج عليه في ذلك ما دام لا يجد سبيلا سوى ذلك (1)..
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الحرب خدعة) (2)، ذلك أن
__________
(1) مثلما روي عن ابن سينا أنه داوى مريضا كان يعتقد بأنه بقرة، وكان يطلب من ذويه بإلحاح أن يذبحوه، فانقطع عن الأكل لأنهم رفضوا أن يفعلوا ذلك، فأرسل ابن سينا إليه يخبره بأنه قادم ليذبحه استجابة لطلبه، ولما حضر وفي يده السكين، أمر بربط يدي المريض ورجليه، وطرحه على الأرض ليذبحه. ولما همّ ابن سينا بالذبح، جس عضلات المريض جسا دقيقا، ثم التفت إلى أهله وقال لهم بصوت جهوري: إن هذه البقرة ضعيفة جدا، ويجب تسمينها قبل ذبحها، وعندها أخذ المريض من تلك الساعة يأكل بشهية زائدة ليسمن، فقوي جسمه وترك وهمه وشفي من مرضه شفاء تاما، عبد الكريم شحادة، صفحات من تاريخ التراث الطبي العربي الإسلامي.
(2) البخاري- الفتح 6 (3030) واللفظ له، مسلم (1739) و(1740)