×

الكتاب: حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية، 1438 هـ

عدد الصفحات: 460

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-2-34288-9

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

يتناول هذا الكتاب ما تحدث عنه الفقهاء من حقوق نفسية وصحية للأولاد، ذلك أنه لا يمكن لمن يبحث في فقه الأسرة أن يمر بالأولاد دون أن يبحث في أحكامهم، وما راعاه الشرع من المقاصد نحوهم.

ذلك أن الشرع الحكيم أعطى الأولاد أهمية كبرى، باعتبارهم من المستضعفين الذين يحتاجون إلى من يتولاهم ويكفلهم ويحفظ حقوقهم، وحسبنا من القرآن الكريم دلالة على أهمية حقوق الأولاد قوله تعالى:﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ﴾ (النساء:11)

وقد اقتصرنا في هذا الجزء على نوعين من الحقوق:

الحقوق النفسية: ونريد بها مراعاة الجوانب النفسية للطفل، حتى يشب شخصا سويا خاليا من العقد التي قد تؤثر في توجهات حياته، وأدائه لوظيفته.

الحقوق الصحية: ونريد بها الحقوق التي تضمن سلامة الأولاد الجسدية، بدءا من حقهم في الحياة، وانتهاءا بحفظهم من العلل، وحقهم في كل ما تحتاجه سلامة جسدهم من نفقات.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (8)

المقدمة

لا يمكن لمن يبحث في فقه الأسرة أن يمر بالأولاد دون أن يبحث في أحكامهم، وما راعاه الشرع من المقاصد نحوهم، ذلك أن الشرع الحكيم أعطى الأولاد أهمية كبرى، باعتبارهم من المستضعفين الذين يحتاجون إلى من يتولاهم ويكفلهم ويحفظ حقوقهم، وحسبنا من القرآن الكريم دلالة على أهمية حقوق الأولاد قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} (النساء:11)

والعالم، وإن تصور أنه توجه الآن إلى حفظ حقوق الطفولة (1) ـ بحسب ما يتصوره من حقوق ـ فإنه بجنب ما ضمن الشرع من حقوق للطفولة، وبجنب ما ألفت إليه الانتباه منها، مقصر جدا.

ولن نتحدث في هذه المقدمة المختصرة عن أدلة هذا، لأن كل ما سنورده في هذا الكتاب وما يليه أدلة عليه.

وقد رأينا أن حقوق الطفولة بحسب ما تدل عليه النصوص، ترجع إلى الحقوق التالية:

الحقوق النفسية: ونريد بها مراعاة الجوانب النفسية للطفل، حتى يشب شخصا سويا خاليا من العقد التي قد تؤثر في توجهات حياته، وأدائه لوظيفته.

الحقوق الصحية: ونريد بها الحقوق التي تضمن سلامة الأولاد الجسدية، بدءا من حقهم في الحياة، وانتهاءا بحفظهم من العلل، وحقهم في كل ما تحتاجه سلامة جسدهم من

__________

(1) اهتم العالم ومنذ بروز التكتلات الدولية بالطفولة وعمل على إصدار الكثير من التوصيات والقرارات بشأنها منها: الإعلان العالمي لحقوق الطفل 1959 م، وميثاق حقوق الطفل العربي 1984 م، والعام الدولي للطفل 1979 م، ويوم الطفل العالمي، وإنشاء منظمة الطفولة العالمية اليونسيف، وإنشاء الهيئة العالمية لبحوث أدب الأطفال، وتخصيص الجوائز العالمية لأدب الأطفال، وإقامة المعارض الدولية لكتب الطفل.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (9)

نفقات.

وقد جمعنا الحقوق المرتبطة بهذين الجانبين في هذا الجزء الأول من المجموعة.

حقهم في التربية السليمة: وفق الأساليب الصحيحة التي لا تؤثر في شخصيتهم نفسيا من جهة، كما أنها تؤدي دورها في تحقيق الأبعاد التي تتكون منها الشخصية السوية.

وقد خصصنا هذا الحق بالجزء التالي لهذا الجزء (الأساليب الشرعية في تربية الأولاد)

حقهم في التربية على ما تستلزمه الشخصية السوية من أبعاد: وهو من أهم الحقوق، وقد خصصناه ـ لأهميته ـ بكتاب (الأبعاد الشرعية لتربية الأولاد)

وسنتحدث في هذه المجموعة بحسب ما نتصوره من المعنى الشامل للفقه، لا المعنى المحدود الذي اشتهرت به كتب المتأخرين، والتي لم تتحدث من هذه الجوانب إلا على النزر اليسير.

ولذلك ستكون أكثر مراجعنا في هذه المجموعة زيادة على كتب الفقه: القرآن الكريم الذي هو الأصل، وتفاسيره، والسنة المطهرة، وشروحها.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (10)

الفصل الأول

حق الأولاد في الحياة

ويدل لهذا الحق النصوص الكثيرة، فالله تعالى ينهى عن قتل الأولاد، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (الأنعام:151)، وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} (الاسراء:31)

بل إنه حرم قتلهم قبل أن يولدوا، فحرم أن تجهض المرأة نفسها بغير ضرورة، ولم يجز إقامة الحد على المرأة القاتلة أو الزانية إذا ثبت زناها، فقد جاءت المرأة الغامدية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقر على نفسها بأنها زنت وأنها حُبلى من الزنا، فلم يقم عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحد وقال لها: اذهبي حتى تلدي، فذهبت المرأة أشهراً حتى وضعت طفلها، وجاءت به على يديها تريد أن ترجم، وأن تتطهر من الفاحشة التي ارتكبتها، فقال لها: اذهبي حتى تفطميه (1)..

بل شرع العقوبات الخطيرة الرادعة عن أي تسب في قتل الجنين أو إعاقته.

وسنحاول في هذا الفصل أن تحدث عن ثلاثة جوانب، خصصنا كل واحد منها بمبحث خاص، وهي:

1 ـ أحكام الامتناع عن الإنجاب، وهو ما يتسبب في منع الولد من حق الوجود.

2 ـ أحكام التخلص من الجنين بعد وجوده.

3 ـ التشريعات الرادعة عن التخلص من الجنين.

أولا ـ أحكام الامتناع عن الإنجاب

__________

(1) رواه أحمد 5/ 347 (23330) و5/ 348 (23337) والدارمي 2320 و2324 ومسلم 5/ 120 (4451)

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (11)

رغبت الشريعة الإسلامية في كثرة النسل، وخاصة إذا ارتبط بذلك النية الصالحة، ففي الحديث أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب ومنصب إلا أنها لا تلد أفأتزوجها فنهاه ثم أتاه الثانية فنهاه ثم أتاه الثالثة فنهاه فقال: (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم) (1)

والبحث في هذه الناحية يستدعي الحديث عن الحكم الشرعي للامتناع عن الإنجاب، سواء كان امتناعا كليا أو جزئيا، وسنعرف أحكام ذلك في هذا المبحث:

1 ـ الامتناع الكلي عن الإنجاب

اتفق الفقهاء على حرمة التسبب في كل ما يعطل القدرة على الإنجاب، وقد اختلفت عباراتهم في ذلك، ومن ذلك ما جاء في حاشية الجمل، قال: (ويحرم ما يقطع الحبل من أصله، أما ما يبطئ الحبل مدة ولا يقطعه من أصله، فلا يحرم كما هو ظاهر بل إن كان لعذر كتربية ولد لم يكره أيضا، وإلا كره) (2)

وفيها: (أما استعمال الرجل والمرأة دواء لمنع الحبل فقد سئل عنها الشيخ عز الدين فقال لا يجوز للمرأة ذلك وظاهره التحريم وبه أفتى العماد بن يونس فسئل عما إذا تراضى الزوجان الحران على ترك الحمل هل يجوز التداوي لمنعه بعد طهر الحيض أجاب لا يجوز. وقد يقال هو لا يزيد على العزل وليس فيه سوى سد باب النسل ظنا وأن الظن لا يغني من الحق شيئا وعلى القول بالمنع فلو فرق بين ما يمنع بالكلية وبين ما يمنع في وقت دون وقت فيكون كالعزل لكان متجها) (3)

وجاء في نهاية المحتاج: (ويحرم استعمال ما يقطع الحبل من أصله كما صرح به

__________

(1) أبو داود (2050) والنسائي 6/ 65، وفي الكبرى 5323.

(2) حاشية الجمل:4/ 446.

(3) حاشبة الجمل:5/ 492.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (12)

كثيرون، وهو ظاهر، أما ما يبطل الحمل مدة ولا يقطعه من أصله فلا يحرم كما هو ظاهر، ثم الظاهر أنه إن كان لعذر كتربية ولد لم يكره أيضا وإلا كره) (1)

وقال الشيخ عليش: (لا يجوز استعمال دواء لمنع الحمل) (2)

وفي مقابل ذلك أجاز الزيدية، كما في التاج المذهب قال: (وكذا يجوز للمرأة أن تفعل بنفسها ما يمنع الحبل وإن لم يرض زوجها لأنه لم يثبت له حق في حملها إلا بعد وجوده) (3) والظاهر أن المراد بهذا ما يمنع الحمل منعا جزئيا، ولو أن العبارة لا تدل عليه.

ومن الأساليب التي يحصل بها الامتناع الكلي عن الإنجاب، والتي نصت عليها الأحكام السابقة التعقيم، وهو عملية جراحية لا تتعلق بالناحية الجنسية، أو القدرة عليها، ولا تعطل إلا القدرة على الإنجاب، وقد نص العلماء المعاصرون على حرمة هذه العملية لأدائها إلى عدم الحمل كلية إلا إذا كان لذلك أسبابه الصحية الوجيهة.

2 ـ الامتناع المؤقت عن الإنجاب

انطلاقا من أن الوسيلة المستخدمة لتنظيم النسل قديما هي العزل، فإن الطريق لمعرفة مواقف الفقهاء من حكم هذا النوع من الامتناع عن الإنجاب يرتبط بمعرفة حكم العزل، وإن كان الفقهاء قد ذكروا وسائل أخرى سنعرض لها هنا كوضع خرقة، وهي بديل للواقي المستعمل الآن، أو استعمال الدواء، وغيرها من الوسائل.

ويمكن من خلال الاطلاع على أقوال الفقهاء في هذه المسألة حصر الخلاف في

__________

(1) نهاية المحتاج:7/ 136.

(2) فتح العلي المالك:1/ 399.

(3) التاج المذهب:2/ 78.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (13)

القولين التاليين (1):

القول الأول: حرمة العزل، قال ابن تيمية: (أما العزل، فقد حرمه طائفة من العلماء، لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز بإذن المرأة) (2)، ومن العلماء الذين قالوا بحرمة العزل ابن حزم، فقد قال: (ولا يحل العزل عن حرة ولا عن أمة) (3)، ومن الأدلة التي استدل بها على ذلك ما رواه عن عروة بن الزبير عن عائشة عن جدامة بنت وهب قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أناس فسألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك الوأد الخفي، وقرأ: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} (التكوير:8)) (4)، قال ابن حزم: (هذا خبر في غاية الصحة) (5)

وقد اعتبر ابن حزم هذا الحديث أصلا، واعتبر ما عداه إما مفهوما على غير وجهة، أو غير صحيح، أو صحيحا منسوخا، فقال في حديث أبي سعيد الذي فيه (لا عليكم أن لا تفعلوا): (هذا خبر إلى النهي أقرب، وكذلك قال ابن سيرين)

أما احتجاجهم بتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قول اليهود: هو الموءودة الصغرى، وبغيره من الأحاديث الدالة على إباحة العزل، فقد رد عليه ابن حزم بقوله: (يعارضها خبر جدامة الذي أوردنا، وقد علمنا بيقين أن كل شيء فأصله الإباحة لقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة:29) وعلى هذا كان كل شيء حلالا حتى نزل التحريم قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (الأنعام:119) فصح أن خبر جدامة

__________

(1) وقد ذكر الغزالي أن الخلاف في المسألة على أربعة مذاهب، فقال:) اختلف العلماء في إباحته وكراهته على أربع مذاهب، فمن مبيح مطلقاً بكل حال، ومن محرم بكل حال، ومن قائل يحل برضاها ولا يحل دون رضاها، وكأن هذا القائل يحرم الإيذاء دون العزل، ومن قائل يباح في المملوكة دون الحرة (، وما سنذكره هنا من القولين يحاول حصر الخلاف في هذين القولين.

(2) الفتاوى الكبرى:3/ 101.

(3) المحلى:9/ 223.

(4) مسلم: 2/ 1067، البيهقي: 7/ 231، ابن ماجة: 1/ 648، مسند أبي عوانة: 3/ 101.

(5) المحلى:9/ 223.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (14)

بالتحريم هو الناسخ لجميع الإباحات المتقدمة التي لا شك في أنها قبل البعث وبعد البعث، وهذا أمر متيقن، لأنه أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه الوأد الخفي، والوأد محرم، فقد نسخ الإباحة المتقدمة بيقين، فمن ادعى أن تلك الإباحة المنسوخة قد عادت، وأن النسخ المتيقن قد بطل فقد ادعى الباطل، وقفا ما لا علم له به، وأتى بما لا دليل له عليه) (1)

وقد ذكر أنه صح المنع منه عن جماعة من السلف، فعن نافع: أن ابن عمر كان لا يعزل، وقال: لو علمت أحدا من ولدي يعزل لنكلته، قال ابن حزم: (لا يجوز أن ينكل على شيء مباح عنده (، وعن زر بن حبيش أن علي بن أبي طالب كان يكره العزل، وعن عبد الله بن مسعود أنه قال في العزل: هي الموءودة الخفية، وعن سليمان بن عامر قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول وقد سئل عن العزل؟ فقال: ما كنت أرى مسلما يفعله، وعن ابن عمر قال: ضرب عمر على العزل بعض بنيه، وعن سعيد بن المسيب قال: كان عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان ينكران العزل) (2)

القول الثاني: إباحة العزل، وهو قول جمهور العلماء، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ الأحاديث الدلة على إباحة العزل، وهي كثيرة، منها ما روي عن أبي سعيد الخدري أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي جارية، وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل الموءودة الصغرى. قال: (كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه) (3)

ومنها ما روي عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إن لي جارية تسير تستقي على ناضحي، وأنا أصيب منها، أفأعزل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعم

__________

(1) المحلى:9/ 223.

(2) انظر هذه الآثار في: المحلى:9/ 223.

(3) البيهقي: 7/ 230، أبو داود: 2/ 252.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (15)

فاعزل. فلم يلبث الرجل أن جاء فقال: يا رسول الله قد عزلت عنها فحملت. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما قدر الله عز وجل لنفس أن يخلقها إلا وهي كائنة) (1)

وفي حديث آخر عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن في العزل، وعنه قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا ينهانا عن ذلك (2).

وعن أبي سعيد الخدري، قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر أصبنا نساء، فكنا نطؤهن، فنعزل عنهن، فقال بعضنا لبعض أتفعلون هذا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنبكم لا تسألونه؟. قال: فسألوه عن ذلك فقال: (ليس من كل الماء يكون الولد، إن الله إذا أراد أن يخلق شيئا لم يمنعه شيء، فلا عليكم ألا تعزلوا) (3)

2 ـ الإجابة على ما أورده المخالفون من أصحاب القول الأول، وقد أجاب الطحاوي على ذلك برد التعارض الذي قد يبدو في هذه الأحاديث، بل قد ورد الجواب عن ذلك من السلف أنفسهم، وسنذكر هنا كلتا الإجابتين إجابة السلف وإجابة الخلف:

فمنها أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تذاكروا عند عمر العزل فاختلفوا فيه فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الخيار فكيف بالناس بعدكم، إذ تناجى رجلان فقال عمر: ما هذه المناجاة؟ قال إن اليهود تزعم أنها الموءودة الصغرى فقال علي: إنها لا تكون موءودة حتى تمر بالتارات السبع {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِين} (المؤمنون:12) إلى آخر الآية فعجب عمر من قوله وقال: جزاك الله خيرا.

ومنها ما روي عن ابن عباس أنه أتاه ناس من أهل العراق يسألونه عن العزل، وهم يرون أنه الموءودة فقال لجواريه: أخبروهم كيف أصنع، فكأنهن استحيين، فقال إني لأصبه

__________

(1) مسند أبي عوانة: 3/ 99، النسائي: 5/ 342، أحمد: 3/ 313.

(2) البخاري: 5/ 1998، مسلم: 2/ 1065، ابن حبان: 9/ 507، البيهقي: 7/ 228، النسائي: 5/ 344، ابن ماجة: 1/ 620، أحمد: 1/ 236.

(3) مسند أبي عوانة: 3/ 98، أحمد: 3/ 49، المعجم الأوسط: 8/ 103.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (16)

في الطست، ثم أصب عليه الماء، ثم أقول لإحداهن: انظري لا تقولين إن كان شيء، ثم قال: إنه يكون نطفة ثم دما ثم علقة ثم مضغة ثم يكون عظما ثم يكسى لحما، ثم يكون ما شاء الله حتى ينفخ فيه الروح ثم تلا هذه الآية {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون:14)

3 ـ أن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في البدء (1) قد يكون لسماعه إياه من اليهود، فاعتقد صحته، قال الطحاوي: (قد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك لما كان عليه من اتباع اليهود على شريعتهم ما لم يحدث الله في شريعته ما ينسخ ذلك إذ كانوا أهل كتاب مقتدين بالذي جاءهم بكتابهم وإذ كان تعالى أنزل عليه فيما أنزل {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} (الأنعام:90) يعني من تقدم من أنبيائه {فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} (الأنعام:90) إنما كان يصل إلى ذلك مما كان يجده في التوراة وفيما سواها من كتب الله تعالى التي كان أنزل على أنبيائه قبله صلوات الله عليه وعليهم فجاز أن يكون لما كشفهم عن ذلك كيف هو في كتابهم ذكروا له أنه الموءودة الصغرى وكذبوه. فقال ما قال مما ترويه عنه جدامة ثم أعلمه الله تعالى بكذبهم وأن الأمر في الحقيقة بخلاف ذلك) (2)

ثم عقب على ذلك بقوله: (فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كذب اليهود فيما كانوا قالوه في العزل واستحالته أكذبهم فيه وأعلم الناس أنه لا يكون إن عزلوا أو لم يعزلوا إلا ما قدر الله عز وجل فيه من كون ولد منه أو من انتفاء ذلك منه) (3)

وقد اختلف أصحاب هذا القول في كراهته وعدمها على الرأيين التاليين:

الرأي الأول: أن العزل مكروه، إلا أن يكون لحاجة، مثل أن يكون في دار الحرب،

__________

(1) طبعا هذا ما قاله الفقهاء، وهو غريب جدا، ولا يتناسب مع النبوة، وقد رددنا عليه بتفصيل في كتاب [رسول الله.. والقلوب المريضة]

(2) مشكل الآثار:2/ 173.

(3) مشكل الآثار:2/ 173.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (17)

فتدعوه حاجته إلى الوطء، فيطأ ويعزل، أو تكون زوجته أمة، فيخشى الرق على ولده، أو تكون له أمة، فيحتاج إلى وطئها وإلى بيعها، وقد رويت كراهته عن أبي بكر وعمر، وعلي، وابن عمر، وابن مسعود.

وقد أفتى الشافعية بأن (العزل حذرا من الولد مكروه وإن أذنت فيه المعزول عنها حرة كانت أو أمة لأنه طريق إلى قطع النسل) (1)

ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك:

1 ـ أن فيه تقليل النسل، وقطع اللذة عن الموطوءة.

2 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حث على تعاطي أسباب الولد، فقال: (تناكحوا، تناسلوا، تكثروا) (2)

الرأي الثاني: الإباحة، قال ابن قدامة: (ورويت الرخصة فيه عن علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب، وزيد بن ثابت، وجابر، وابن عباس، والحسن بن علي، وخباب ابن الأرت، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وعطاء، والنخعي، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي)

وقال الشيخ عليش من المالكية: (وأما وضع شيء كخرقة في الفرج حال الجماع تمنع وصول الماء للرحم فألحقه عبد الباقي بالعزل في الجواز بشرطه) (3)

ومن أشهر المدافعين عن هذا الرأي الطحاوي والغزالي، قال الطحاوي: (فلما انتفى المعنى الذي به كره العزل، وما ذكر من ذكر في ذلك أنه من الموءودة، وثبت عن رسول الله

__________

(1) حاشبة الجمل:5/ 492.

(2) ابن مردويه في تفسيره عن ابن عمر بسند ضعيف، والطبراني في الأوسط من حديث سهل بن حنيف، انظر: مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا (ص: 55)

(3) فتح العلي المالك:1/ 399.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (18)

صلى الله عليه وآله وسلم ما قد ذكرناه عنه من إباحته، ثبت أن لا بأس بالعزل لمن أراده على الشرائط التي ذكرناها وفصلناها في أول هذا الباب، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد، رحمة الله عليهم أجمعين) (1)

وقال الغزالي: (والصحيح عندنا أن ذلك مباح، وأما الكراهية فإنها تطلق لنهي التحريم ولنهي التنزيه ولترك الفضيلة، فهو مكروه بالمعنى الثالث أي فيه ترك فضيلة، كما يقال: يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغاً لا يشتغل بذكر أو صلاة، ويكره للحاضر في مكة مقيماً بها أن لا يحج كل سنة، والمراد بهذه الكراهية ترك الأولى والفضيلة فقط، وهذا ثابت لما بيناه من الفضيلة في الولد) (2)

وهو بذلك بكاد يقترب من الرأي الأول، ولكن ما ذكره من أدلة يجنح إلى الجواز، والأصح في رأيه هو التفصيل كما سنرى في محله، وسنذكر هنا بعض الوجوه التي استدل بها أصحاب هذا القول على الجواز (3):

1 ـ أن إثبات النهي إنما يمكن بنص أو قياس على منصوص ولا نص ولا أصل يقاس عليه، بل ههنا أصل يقاس عليه وهو ترك النكاح أصلاً أو ترك الجماع بعد النكاح أو ترك الإنزال بعد الإيلاج، فكل ذلك ترك للأفضل وليس بارتكاب نهي ولا فرق، إذ الولد يتكون بوقوع النطفة في الرحم، ولها أربعة أسباب: النكاح، ثم الوقاع، ثم الصبر إلى الإنزال بعد الجماع، ثم الوقوف لينصب المني في الرحم، وبعض هذه الأسباب أقرب من بعض فالامتناع عن الرابع كالامتناع عن الثالث، وكذا الثالث كالثاني، والثاني كالأول.

2 ـ أنه لا يصح قياس العزل على الإجهاض والوأد، لأن ذلك جناية على موجود

__________

(1) شرح معاني الآثار:3/ 31.

(2) الإحياء: 2/ 51.

(3) الإحياء: 2/ 51، شرح معاني الآثار:3/ 31.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (19)

حاصل، بخلاف العزل، فإنه وجود متوهم.

3 ـ الآثار الواردة عن الصحابة والتي يفهم منها الجواز بادئ الرأي، قال الطحاوي بعد إيراده ما ذكرنا من الآثار الواردة عن الصحابة في جواز العزل: (فهذا علي وابن عباس، قد اجتمعا في هذا، على ما ذكرنا، وتابع عليا على ما قال من ذلك عمر، ومن كان بحضرتهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي هذا دليل على أن العزل غير مكروه من هذه الجهة) (1)

4 ـ أن الله تعالى إذا كان قد قدر أنه يكون ذلك، كان ذلك الولد، ولم يمنعه عزل ولا غيره، لأنه قد يكون مع العزل إفضاء بقليل الماء الذي قد قدر الله تعالى أن يكون منه ولد، فيكون منه ولد، ويكون ما بقي من الماء الذي قد يمتنعون من الإفضاء به بالعزل، فضلا، وقد يكون الله عز وجل قد قدر أن لا يكون من ماء ولد، فيكون الإفضاء بذلك الماء والعزل سواء في أن لا يكون منه ولد. فكان الإفضاء بالماء لا يكون منه ولد إلا بأن يكون في تقدير الله عز وجل أن لا يكون من ذلك الماء ولد، فيكون كما قدر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن حكم العزل وغيره من وسائل تنظيم النسل يتوقف على جانبين:

الجانب الأول: الوسيلة التي يتم بها تنظيم النسل، فقد تكون عزلا أو غيره، فلذلك يشترط فيها ـ كما يشترط في كل الوسائل ـ أن لا يكون فيها ضرر، فبعض الأدوية المستعملة الآن مثلا يصيب كثيرا من النساء بأضرار صحية قد تصل درجة كبيرة من الخطورة، بل ألفت الكتب المتخصصة التي تحذر من استعمال بعض تلك الأدوية، وحتى الوسائل الأخرى قد تحوي بعض المخاطر، ولو لم تكن آنية.

وقد ذكر محمد علي البار بعض المخاطر الصحية من استعمال الوسائل المختلفة لمنع

__________

(1) شرح معاني الآثار:3/ 30.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (20)

الحمل، ومما ذكره من مخاطر حبوب منع الحمل قوله: (ولكل مجموعة من هذه المجموعات مساوئها وأضرارها، وأشهر هذه المساوئ هي زيادة الجلطات في الساقين والرئتين والقلب وزيادة الإصابة بمرض السكر، وإصابة الكبد وضغط الدم والاضطرابات النفسية واحتمال زيادة في سرطان عنق الرحم وسرطان الثدي، وتمنع المرأة في العادة من استعمال الحبوب خاصة تلك التي بها هرمون الإستروجين ومشتقاته إذا كانت تعاني من ضغط الدم أو مرض في الكبد أو مرض في الكلى، أو هبوط في القلب، أو لها تاريخ قديم للجلطات في الساقين وغيرهما أو مرض البول السكري او فوق سن الأربعين أو تعاني من أمراض نفسية أو كآبة شديدة) (1)

وذكر من مخاطر استعمال اللولب: (النزف المتكرر من المرأة التي تضع في رحمها وثانيها الآلام التي قد تكون مبرحة، وثالثها اختراق هذا اللولب للرحم، مما يسبب انثقاب الرحم، وهو أمر خطير جدا، أو أن اللولب ينغرز في جدار الرحم، ورابعها الإنتان المتكرر الذي يصحب إدخال اللولب وبقائه في الرحم، وخامسها أن الرحم يقوم بطرد هذا الجسم الغريب، وسادسها زيادة في حدوث الحمل ي قناة الرحم، وسابعها حدوث الحمل وذلك بسبة تصل إلى ستة بالمائة) (2)

فلذلك لا يصح استعمال أي وسيلة إلا بعد التأكد التام من عدم المضرة وإلا كانت حراما للضرر الذي ورد النهي عنه أنى وجد وكيف وجد، وإباحة المقصد لا تبيح الوسيلة.

الجانب الثاني: المقصد الذي يراد من هذه العملية، ونرى أن الأرجح في هذا هو عدم إطلاق القول فيه، بل يختلف حكمه باختلاف الأحوال، فلذلك يمكن القول بأنه ترد عليه الأحكام الخمسة من الإباحة والكراهة والحرمة والندب والوجوب.

__________

(1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن: 508.

(2) خلق الإنسان بين الطب والقرآن: 495.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (21)

وقد أشار الغزالي إلى هذا الاعتبار الذي يمكن بواسطته التوفيق بين الأقوال المختلفة في المسألة، فذكر أن النيات الباعثة على العزل خمس، ثلاثة منها حكم بإباحتها، وهي: (الأولى: في السراري وهو حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق العتاق وقصد استبقاء الملك بترك الإعتاق ودفع أسبابه ليس بمنهي عنه. الثانية: استبقاء جمال المرأة وسمنها دوام التمتع واستبقاء حياتها خوفاً من خطر الطلق، وهذا أيضاً ليس منهياً عنه. الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء وهذا أيضاً غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معين على الدين، نعم الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأرْضِ إلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مع كونه مناقضاً للتوكل لا نقول إنه منهي عنه) (1)

أما النيتان الباقيتان، فأفتى فيهما بالحرمة، وهما كما يذكر الغزالي: (الرابعة: الخوف من الأولاد الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة كما كانت من عادة العرب في قتلهم الإناث، فهذه نية فاسدة لو ترك بسببها أصل النكاح أو أصل الوقاع أثم بها لا بترك النكاح والوطء، فكذا في العزل، والفساد في اعتقاد المعرة في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد، وينزل منزلة امرأة تركت النكاح استنكافاً من أن يعلوها رجل فكانت تتشبه بالرجال، ولا ترجع الكراهة إلى عين ترك النكاح. الخامسة: أن تمتنع المرأة لتعززها ومبالغتها في النظافة والتحرز من الطلق والنفاس والرضاع، وكان ذلك عادة نساء الخوارج لمبالغتهن في استعمال المياه، حتى كن يقضين صلوات أيام الحيض ولا يدخلن الخلاء إلا عراة، فهذه بدعة تخالف السنَّة، فهي نية فاسدة، واستأذنت واحدة منهن على عائشة، لما قدمت البصرة فلم تأذن لها، فيكون القصد

__________

(1) الإحياء: 2/ 52.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (22)

هو الفاسد دون منع الولادة) (1)

هذا ما ذكره الغزالي على سبيل الحصر الذي لا نوافقه عليه، فهناك أسباب أخرى تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص، وسنذكر بعض أمثلتها في المسألة التالية لهذه المسألة.

3 ـ الدوافع الشرعية لتنظيم النسل

يمكن تصنيف الدوافع الشرعية الباعثة على تنظيم النسل إلى الدوافع التالية:

الدوافع الخاصة بالأم

من الدوافع الخاصة بالأم الخشية على حياتها أو صحتها من الحمل أو الوضع، إذا عرف بتجربة أو أخبار طبيب ثقة تطبيقا لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195)، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء:29)

الدوافع الخاصة بالأولاد

ومنها الخشية على الأولاد أن تسوء صحبتهم، وقد ورد عن السلف ما يدل على هذا القصد، فعن أسامة بن زيد أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أشفق على ولدها -أو قال- على أولادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كان ضارا لضر فارس والروم) (2)

ومن الضرورات المعتبرة شرعا الخشية على الرضيع من حمل جديد ووليد جديد، وقد سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوطء في حالة الرضاع وطء الغيلة لما يترتب عليه من حمل يفسد اللبن ويضعف الولد، وإنما سماه غيلا أو غيلة؛ لأنه جناية خفية على الرضيع فأشبه القتل سرا.

__________

(1) الإحياء: 2/ 52.

(2) مسلم: 2/ 1067، مسند البزار: 7/ 40.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (23)

وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما قد يفهم من ظاهره التعارض، فقال (لَقَد هَمَمتُ أَن أَنهى عن الغيلَة حَتى ذَكَرتُ أَن الرُّوم وفارس يصنعونَ ذلك فلا يضُرُّ أَولاَدَهُم) (1)، ومن حديث أسماء بنت يزيد: (لاَ تَقتُلُوا أَولاَدَكُم سرّاً، فَوَالذي نَفسي بيَده إنه لَيُدرك الفَارسَ فَيُدَعثرُه (2) ُ)، قال: قلت: ما يعني؟ قالت: الغيلة: يأتي الرجلُ امرأته وهي ترضع (3).

قال ابن القيم في الجمع بين الآثار المختلفة في الباب: (وقد يُقال: إن قوله (لاَ تَقتُلُوا أَولاَدَكُم سرّاً) نهى أن يتسبب إلى ذلك، فإنه شبه الغَيل بقتل الولد، وليس بقتل حقيقة، وإلا كان من الكبائر، وكان قرينَ الإشراك بالله، ولا ريبَ أن وطء المراضع مما تعُمُّ به البلوى، ويتعذر على الرجل الصبر عن امرأته مدة الرضاع، ولو كان وطؤهن حراماً لكان معلوماً من الدين، وكان بيانه من أهم الأمور ولم تهمله الأُمةُ، وخيرُ القرون، ولا يُصرحُ أحدٌ منهم بتحريمه، فَعُلمَ أن حديث أسماء على وجه الإرشاد والاحتياط للولد، وأن لا يُعَرضَه لفساد اللبن بالحمل الطاراء عليه، ولهذا كان عادةُ العرب أن يسترضعُوا لأولادهم غيرَ أمهاتهم، والمنع منه غايته أن يكون من باب سد الذرائع التي قد تُفضي إلى الإضرار بالولد، وقاعدةُ باب سد الذرائع إذا عارضه مصلحة راجحة، قُدمت عليه) (4)

الدوافع الخاصة بالحياة الزوجية

ومنها خشية الوقوع في ضيق مادي قد يلجئه إلى الحرام، من أجل الأولاد، كما قال

__________

(1) مسلم: 2/ 1067، الترمذي: 4/ 406، الدارمي:2/ 197، أبو داود: 4/ 9 النسائي: 3/ 306، الموطأ: 2/ 607، أحمد: 6/ 361.

(2) قال الخطابي: معناه: يصرعه ويسقطه، وأصله في الكلام الهدم، ويقال في البناء قد تدعثر إذا تهدم وسقط يقول (في هذا الحديث: إن المرضع إذا جومعت فحملت فسد لبنها ونهك الولد أي هزل الولد إذا اغتذى بذلك اللبن فيبقى ضاويا فاذا صار رجلا وركب الخيل فركضها أدركه ضعف الغيل فزال وسقط عن متونها فكان ذلك كالقتل له إلا أنه سر لا يرى ولا يشعر به. انظر: عون المعبود: 10/ 261.

(3) ابن حبان: 13/ 323، البيهقي: 7/ 464، أبو داود: 4/ 9، ابن ماجة: 1/ 648، أحمد: 6/ 453.

(4) زاد المعاد: 5/ 148.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (24)

تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} (البقرة:185)، وقال تعالى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (المائدة:6)

ومنها ما ذكره الغزالي من استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع واستبقاء حياتها خوفاً من خطر الطلق، وهذا أيضاً ليس منهياً عنه.

ثانيا ـ أحكام التخلص من الجنين

وهو ما يطلق عليه اصطلاحا [الإجهاض]، وسنتناول في هذا المطلب الأحكام الشرعية المتعلقة به باعتباره الوسيلة الوحيدة للتخلص من الجنين.

وقد عرف تعريفات مختلفة منها:

1 ـ عرفه مؤتمر الإسلام وتنظيم الوالدية، الذي عقد في الرباط عام 1971 م علميًا بأنه إخراج الحمل من الرحم، بقصد التخلص منه، وأصدر قرارًا مفاده: أن جميع فقهاء المسلمين يتفقون على أنه بعد الشهر الرابع يحرم الإجهاض، إلا إذا كانت هناك ضرورة قصوى، فقد عرف الإجهاض بهذا على انه إسقاط الجنين قبل الشهر الرابع.

2 ـ عرفه الأطباء بأنه انتهاء الحمل قبل حيوية الجنين، وتقدر هذه الحيوية بثمانية وعشرين أسبوعًا، وهي تساوي سبعة أشهر يكون فيها الجنين مكتمل الأعضاء، وله القدرة على الحياة.

3 ـ وأهل الطب الشرعي يُعَرِّفُونه بأنه: طرد مكونات الرحم الحامل في أي وقت، قبل نهاية تسعة أشهر (1).

1 ـ دوافع الإجهاض

أهم ركن من أركان الحكم على الإجهاض هو النظر في الدافع إليه، فبحسب الدافع

__________

(1) وثيقة مؤتمر السكان رؤية شرعية:107.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (25)

يكون الحكم، وقد بدأت الدعوة للإجهاض أول ما بدأت في الغرب بمبرر الحرص على حياة الأم إن استمر الحمل، ثم الخوف على صحتها، ثم تطور إلى الخوف على صحتها الجسمية أو النفسية، ثم الخوف على مستقبلها الصحي أو الجمالي، ثم تطور ليشمل الخوف على الأسرة ثم على المجتمع، وتطور أخيرا ليدعى إلى السماح بالإجهاض حسب الطلب.

هذا بالنسبة للمناهج التي تصنعها الأهواء، وتدعو لها الجاهلية، أما أحكام الشريعة الإسلامية فإنها تختلف عن ذلك اختلافا جذريا، فهي منضبطة بضوابط لا تخرمها العصور، ولا تؤثر فيها البيئات، فلذلك يمكننا بسهوله انطلاقا من مصادر الدين الأصلية، وانطلاقا من الأسس التي تبنى عليها الأحكام الشرعية تمييز الدوافع الشرعية من الدوافع غير الشرعية.

ويمكننا حصر الدوافع حسبما نراه في الواقع إلى ثلاثة أنواع كبرى تندرج تحتها الفروع الكثيرة، وهذه الأصول التي تبنى عليها الدوافع هي:

الدوافع الخاصة بالأم

من أهم الدوافع في هذا وأكثرها اعتبارا الخوف على حياة الأم إذا كان الحمل أو الولادة خطراً على حياتها أو على صحتها إلى حد كبير، وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا ثبت من طريق موثوق به أن بقاءه يؤدي إلى موت الأم، ولم يكن لها منقذ سوى إسقاطه، فإن إسقاطه في تلك الحالة يصبح متعينا، لأن الشريعة تأمر بارتكاب أخف الضررين، فلا يضحي بها في سبيل إنقاذه؛ لأنها أصله، وقد استقرت حياتها، ولها حظ مستقل في الحياة، وهي بعد هذا وذاك عماد الأسرة، ولا يعقل أن يضحى بها في سبيل حياة لجنين لم تستقل حياته، ولم يحصل على شيء من الحقوق والواجبات زيادة على كون حياته متوهمة بخلاف حياة الأم.

ويشترط أن يتم ذلك تحت إشراف طبيب مسلم عدل، لتفادي التحايل على هذا بدعوى المحافظة عل صحة الأم، وقد قال محمد علي البار المتخصص في هذا المجال: (ولا

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (26)

أعلم أن هناك من الأمراض ما يجعل هلاك الأم محققا إذا هي استمرت في الحمل إلا حالة واحدة هي تسمم الحمل، وحتى في هذه الحالة لا يحتاج الطبيب إلى قتل الجنين، بل إلى إجراء الولادة قبل الموعد المحدد إما بحقن الأم بمادة الأوكسيتوسن أو البروستاجلاندين أو بإجراء عملية قيصرية، وأغلب هذه الحالات تسلم ويسلم وليدها معها) (1)

وبناء على هذا، فإن اعتبار هذا الدافع في عصرنا محدود جدا خاصة مع توفر الوسائل التي تحمي الأم وجنينها، قال محمد علي البار: (ونتيجة للتقدم الطبي الهائل، فإن قتل الجنين لإنقاذ الأم يصبح لغوا لا حاجة له في أغلب الحالات المرضية، ولكن هناك حالات مرضية عديدة يتعرض فيها الجنين للمخاطر، ويتعين في بعض تلك الحالات إخراج الجنين رحمة بالجنين ذاته، وليس شفقة ورحمة بالأم، ومثال ذلك إصابة الأم في أشهر الحمل الأولى بالحصبة الألمانية، فإن احتمال إصابة الجنين بالتشوهات الخلقية ترتفع إلى 70 بالمائة، إذا كات إصابة الأم في الشهر الثاني من الحمل، ثم تقل النسبة بعد ذلك، كا أن تعرض الأم للعلاج بالأشعة أو بالعقاقير المضادة للسرطان يؤدي إلى تشوهات الجنين، وفي أحيان كثيرة إلى قتله، وفي تلك الحالات ينصح بإجراء الإجهاض لا لأن بقاء الجنين يؤدي إلى موت الأم لا محالة، بل لأن بقاء الجنين يؤدي إلى تشوهات خلقية خطيرة أو إلى وقاة الجنين ذاته، ويتعين عندئذ إخراجه من الرحم حتى لا ينتن ويتعفن) (2)

الدوافع الخاصة بالمجتمع

وهي الدوافع التي تفرضها الأعراف الاجتماعية المختلفة، ومن هذه الدوافع تخفيف حدة الانفجار السكاني، وقد كان هذا هو الدافع الذي مررت به الدول القوية هذه الأفكار للدول المستضعفة، بل مورس ذلك، ومورس معه التعقيم الإجباري في الهند وغيرها.

__________

(1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن:439.

(2) خلق الإنسان بين الطب والقرآن:439.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (27)

ومنها الإجهاض حسب الرغبة، وهو ما يطبق الآن في الغرب، وإن كانوا يتسترون على ذلك، بل يحاولون تقنينه وتعميمه، وليس ذلك ببعيد.

ومنها، وهو أهمها، وربما يكون أكبر أسباب الإجهاض الخوف من آثار الفواحش، وقد زخرت وثيقة مؤتمر السكان والتنمية بتعبيرات فضفاضة، وعبارات مطلقة، توحي تارة، وتؤكد أخرى على السماح بالإجهاض في ظل العلاقات المشروعة، وغير المشروعة (1).

أما عن موقف الشريعة الإسلامية من هذه الدوافع، فإنه عدم الاعتبار لها، فلم يفصل الفقهاء بين الحمل الشرعي، وغير الشرعي، بل إنهم نصوا على حُرمة الإسقاط للجنين، ولو كان ثمرة لزنا أو اغتصاب، وقد ورد في السنة ما يؤيد ذلك، ومن ذلك ما جاء عن عمران بن حُصين، أن امرأة من جُهَيْنة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي حُبْلى من الزنا، فقالت: يا نبي الله، أصبتُ حدًّا فأقمْه عليَّ، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وليَّها، فقال: (أحسنْ إليها، فإذا وضعت فأتني بها) (2)

ويدل على هذا زيادة على هذا النص الصريح النصوص الدالة على أنه لا تكسب نفس إلا ما فعلت، فليس لابن الزنا أي ذنب حتى يجهض، كما قال تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام:164)

أما العوارض الاجتماعية التي تنتاب الزانية الحامل من سفاح، كخوف العار، فالمقطوع به أنها تصيب المرأة بالضرر، لكن الضرر الأشد إجهاض جنين علق برحمها (3).

وزيادة على هذا، فإن القول بحلية إسقاط الزانية حملها المتكون من الزنا يتعارض مع القاعدة الشرعية لسد الذرائع، وذلك لأن من أهم العقبات المانعة للمرأة من الإقدام على

__________

(1) وثيقة مؤتمر السكان: 140.

(2) بد الرزاق (7/ 325، رقم 13348)، وأحمد (4/ 429، رقم 19874)، ومسلم (3/ 1324، رقم 1696)، وأبو داود (4/ 151، رقم 4440)

(3) انظر: وثيقة مؤتمر السكان رؤية شرعية: 148.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (28)

الزنا، نشوء الحمل، الذي يعرضها للمعرة والمضرة معًا، فإذا أزالت عن طريقها هذه العقبة، كان ذلك دعوة صريحة للفاحشة.

وزيادة على هذا المخاطر الناتجة عن إباحة الإجهاض، فإن الواقع الذي يصلى بناره الغرب يدل على ضرورة التشديد في هذا الباب، ومن المخاطر:

1 ـ زيادة مضطردة في حالات الإجهاض لدرجة شغلت من أسرة المستشفيات ومن وقت الأطباء الاختصاصيين ما عطل علاج المريضات بالأمراض الأخرى، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه تم في أمريكا وحدها إجهاض أكثر من 25 مليون حمل في عام واحد كما أوردت بعض المجلات عام 1983. وأشارت منظمة الصحة العالمية في تقريرها عام 1984 أن حالات الإجهاض الجنائي أو المتعمد قد بلغت أكثر من 25 مليون حالة سنوياً (1). وقيل انه يتم قتل 40 مليون جنين كل عام في العالم بواسطة الإجهاض المحدث، وهو الذي كان يطلق عليه في الماضي الإجهاض الجنائي نصفهم ـ على الأقل ـ بصورة غير قانونية ويؤدي ذلك إلى وفاة مائتي ألف امرأة وإصابة مئات الآلاف بأمراض مختلفة، وجعل عدد كبير منهن يعانين من العقم الدائم.

2 ـ أنه كان من بين النساء المجهضات 44 بالمائة فقط متزوجات وأما الـ 56 المائة الباقية فكانت من سفاح في بنات (37 بالمائة) أو مطلقات وأرامل (9 بالمائة)، وفي أمريكا بلغت نسبة حمل السفاح بين المجهضات درجة أعلى من ذلك (2)، فقانون إباحة الإجهاض بهذا إنما يلبي الحاجة إلى السفاح.

3 ـ أنه كانت ثلاث مستشفيات خاصة في لندن ـ وبطبع الحال في جميع المدن الكبيرة الغربية أو معظمها ـ تجري من عمليات الإجهاض أكثر مما تجريه مستشفيات منطقة لندن

__________

(1) الرؤية الاسلامية لزراعة بعض الاعضاء البشرية: 183.

(2) الانجاب في ضوء الاسلام: 246.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (29)

المجانية الحكومية...، وهذا يدلّ على مدى الاستغلال التجاري للإجهاض.

4 ـ أنه رغم إباحة موانع الحمل وإباحة الإجهاض فقد زادت نسبة ولادات السفاح إلى الولادات الحلال زيادة كبيرة... مما يدلّ على أنّ الذريعة الوحيدة لذلك كله هو تفشي الإباحية الجنسية.

الدوافع الخاصة بالولد

وهو إسقاط الجنين لكونه مشوها أو به مرض من الأمراض الخطيرة، من غير إضرار منه بصحة الأم، وقد نص الفقهاء على حرمة الإجهاض في هذه الحالة إذا نفخ في الجنين الروح، لأن له حقا في الحياة كحق السليم.

ولكن مع ذلك يلزم الحذر من حصول مثل هذا الحمل بتجنب أسبابه ما أمكن، وقد ذكرنا بعض تلك الأسباب في خصال الكفاءة، وسنذكر بعضها في هذا الجزء.

2 ـ وقت الإجهاض

وهو إما أن يكون قبل نفخ الروح أو بعدها، وقد اختلف الفقهاء في حكم الإجهاض في هاتين الحالتين كما يلي:

الإجهاض قبل نفخ الروح

اختلف الفقهاء في حكم الإجهاض قبل نفخ الروح على قولين:

القول الأول: يحرم الاِجهاض مطلقاً قبل ولوج الروح أو بعده، وهو قول الإمامية، وقد نص عليه المالكية على خلاف بينهم في ذلك، فقد جاء في الفواكه الدواني: (لا يجوز للمرأة أن تفعل ما يسقط ما في بطنها من الجنين، وكذا لا يجوز للزوج فعل ذلك، ولو قبل الأربعين وقيل يكره قبل الأربعين للمرأة شرب ما يسقطه إن رضي الزوج بذلك. والذي ذكره الشيخ عن أبي الحسن أنه يجوز قبل الأربعين ولا يجوز للرجل أن يتسبب في قطع مائه

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (30)

ولا أن يستعمل ما يقلل نسله قاله ح وانظر هل المرأة كذلك فيهما؛ لأن قطع مائها يوجب قطع نسلها أم لا) (1)

وقال الشيخ عليش وهو من علماء المالكية المتأخرين: (وإذا أمسك الرحم المني فلا يجوز للزوجين ولا لأحدهما ولا للسيد التسبب في إسقاطه قبل التخلق على المشهور ولا بعده اتفاقا والتسبب في إسقاطه بعد نفخ الروح فيه محرم إجماعا، وهو من قتل النفس والتسبب في قطع النسل، أو تقليله محرم والمتسبب في إبقاء علقة فأعلى عليه الغرة والأدب سواء كان أما أو غيرها إلا السيد في أمته فعليه، أما استخراج ما حصل من الماء في الرحم فمذهب الجمهور منعه مطلقا وأحفظ للخمي أنه يجوز قبل الأربعين ما دام نطفة كما له العزل ابتداء والأول أظهر إذ زعم بعضهم أنه من الموءودة) (2)

وذكر خلاف المالكية في ذلك بقوله: (ونقله الحطاب ونقل عن ابن ناجي في شرح المدونة ما نصه: وأما التسبب في إسقاط الماء قبل الأربعين يوما من الوطء فقال اللخمي جائز وقال ابن العربي في القبس لا يجوز باتفاق، وحكى عياض في الإكمال قولين في ذلك للعلماء وظاهره أنهما خارج المذهب) (3)

ثم نقل عن أبي بكر بن العربي قوله: (للولد ثلاث أحوال: حالة قبل الوجود ينقطع فيها بالعزل، وهو جائز وحالة بعد قبض الرحم على المني فلا يجوز لأحد حينئذ التعرض له بالقطع من التولد كما يفعله سفلة التجار من سقي الخدم عند استمساك الرحم الأدوية التي ترخيه، فيسيل المني منه فتقطع الولادة، والحالة الثالثة: بعد انخلاقه قبل أن ينفخ فيه الروح، وهذا أشد من الأولين في المنع والتحريم لما روي من الأثر من أن السقط يظل

__________

(1) الفواكه الدواني:3/ 225.

(2) فتح العلي المالك:1/ 399.

(3) فتح العلي المالك:1/ 399.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (31)

محبنطئا (1) على باب الجنة يقول: لا أدخل الجنة حتى يدخل أبواي (2)، فأما إذا نفخ فيه الروح فهو قتل النفس بلا خلاف) (3)

قال الشيخ عليش: (وانفرد اللخمي فأجاز استخراج ما في داخل الرحم من الماء قبل الأربعين يوما، ووافق الجماعة فيما فرقها، فإذا وقفت على هذا التحقيق الذي تقدم جلبه من كلام القاضي المحقق أبي بكر رحمه الله تعالى علمت قطعا أن اتفاق الزوج والزوجة على إسقاط الجنين في المدة التي ذكرت وتواطأهما على ذلك حرام ممنوع لا يحل بوجه ولا يباح، وعلى الأم في إسقاطه الغرة والأدب إلا أن يسقط الزوج حقه في الغرة بعد الإسقاط) (4)

وقد نص على هذا القول بعض الشافعية، قال في نهاية المحتاج: (اختلفوا في التسبب لإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه وهو مائة وعشرون يوما، والذي يتجه وفاقا لابن العماد وغيره الحرمة ولا يشكل عليه جواز العزل لوضوح الفرق بينهما بأن المني حال نزوله محض جماد لم يتهيأ للحياة بوجه بخلافه بعد استقراره في الرحم، وأخذه في مبادئ التخلق ويعرف ذلك بالأمارات وفي حديث مسلم أنه يكون بعد اثنين، وأربعين ليلة أي ابتداؤه كما مر في الرجعة ويحرم استعمال ما يقطع الحبل من أصله كما صرح به كثيرون وهو ظاهر) (5)

وهذا القول هو ظاهر قول ابن حزم، فقد ذكر عند حديثه عن المرأة تتعمد إسقاط ولدها؟ وحكم وجوب الغرة عليها، قال: (إن كان لم ينفخ فيه الروح فالغرة عليها، وإن كان

__________

(1) قال الخلال سألت ثعلبا عن السقط محبنطئا فقال: غضبان ويقال: قد ألقى نفسه، انظر: أحكام أهل الذمة: 2/ 1076 والمحنبطئ بالهمز وتركه الممتلئ غيظا لفراق ابويه أو المتغضب المستبطئ لشيء أو الممتنع امتناع طلبة لا امتناع اباء، انظر: الإفصاح: 33.

(2) مجمع الزوائد: 3/ 11.

(3) فتح العلي المالك:1/ 399.

(4) فتح العلي المالك:1/ 399،وانظر: مواهب الجليل: 3/ 477.

(5) نهاية المحتاج:7/ 136.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (32)

قد نفخ فيه الروح: فإن كانت لم تعمد قتله. فالغرة أيضا على عاقلتها، والكفارة عليها. وإن كانت عمدت قتله فالقود عليها، أو المفاداة في مالها. فإن ماتت هي في كل ذلك قبل إلقاء الجنين ثم ألقته: فالغرة واجبة في كل ذلك، في الخطأ على عاقلة الجاني - هي كانت أو غيرها - وكذلك في العمد قبل أن ينفخ فيه الروح. وأما إن كان قد نفخ فيه الروح فالقود على الجاني إن كان غيرها. وأما إن كانت هي فلا قود، ولا غرة، ولا شيء؛ لأنه لا حكم على ميت، وماله قد صار لغيره) (1)

وهو كذلك ظاهر قول الغزالي، فقد تعرض عند بيان موقفه من العزل، وأنه لا كراهة فيه إلى الفرق بينه وبين الإجهاض، فقال: (وليس هذا كالإجهاض والوأد، لأن ذلك جناية على موجود حاصل، وله أيضاً مراتب. وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش، وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشاً، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حياً. وإنما قلنا مبدأ سبب الوجود من حيث وقوع المني في الرحم لا من حيث الخروج من الإحليل، لأن الولد لا يخلق من مني الرجل وحده بل من الزوجين جميعاً إما من مائه ومائها) (2)

وقد ذكرنا أن الإمامية هم الذين اشتهروا بهذا القول، فلذلك لا بأس من ذكر أدلتهم على ذلك هنا:

1 ـ ما جاء في معتبرة اسحاق المروية في الفقية: قلت لاَبي الحسن عليه السلام، المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها، قال: لا، فقلت: إنما هو نطفة، فقال: إنّ أوّل

__________

(1) المحلى: 11/ 239.

(2) الإحياء: 2/ 51.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (33)

ما يخلق نطفة (1).

2 ـ ما جاء في صحيح رفاعة المرويّ في الكافي: قلت لاَبي عبدالله عليه السلام: اشتري الجارية فربما احتبس طمثها من فساد دم أو ريح في رحم فتسقى دواء لذلك، فتطمث من يومها؟ فقال لي: لا تفعل ذلك، فقلت له: إنما ارتفع طمثها منها شهراً، ولو كان ذلك من حبل إنما كان نطفة كنطفة الرجل الذي يعزل، فقال لي: إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم تصير إلى علقة ثم إلى مضغة ثم إلى ما شاء الله، وإنّ النطفة إذا وقعت في غير الرحم لم يخلق منها شيء فلا تسقها الدواء إذا ارتفع طمثها شهراً وجاز وقتها الذي كانت تطمث فيه (2).

3 ـ أنّه لا منافاة بين هذه الحياة وبين الحياة الحادثة بعد الاَربعة الاَشهر من الحمل، فإنّ الأولى حياة غير انسانية والثانية حياة إنسانية ناشئة عن الروح الانسانية، وقد اشار الامام الباقر إلى هاتين الحياتين معاً، وقد أشار إليه في رواية سعيد بن المسيب عن الاِمام زين العابدين علي بن الحسين حينما شرح مراحل الجنين وحدودها ومقدار الدية، حتى قال: (فإن طرحته وهي نسمة مخلقة له عظم ولحم مرتب الجوارح وقد نفخ فيه روح العقل فإن عليه دية كاملة) (3)

القول الثاني: الجواز، وهو قول جمهور العلماء غير من ذكرنا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الحكم بالجواز على ما ذهب إليه الجمهور بشرطين:

1 ـ عدم أداء ذلك إلى مضرة شديدة بالمرأة خاصة فيما يتعلق بقدرتها على الإنجاب بعد قيامها بالإجهاض.

__________

(1) الوسائل: 19/ 15.

(2) الوسائل: 2/ 238.

(3) الفقه والمسائل الطبية، للشيخ محمد آصف المحسني::78.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (34)

2 ـ أن يكون ذلك باتفاق الزوجين، بحيث لا ينفرد طرف من الأطراف بالقرار في ذلك، لأن الولد للزوجين جميعا، فلا يصح أن يفرض الزوج على زوجته الإجهاض لعدم رغبته في الحمل، ولا يجوز للزوجة أن تجهض من غير استئذان الزوج.

الإجهاض بعد نفخ الروح

اتفق الفقهاء على حرمة الإجهاض بعد نفخ الروح في الجنين، إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وقد اختلفوا في الوقت الذي تنفخ فيه الروح، ويحرم عنده الإجهاض على قولين:

القول الأول: أن نفخ الروح يكون عند الأربعين، فلذلك يحرم الإسقاط قبله، وهو قول المالكية، بل الراجح عندهم كما ذكرنا حُرمة الإسقاط قبل الأربعين، ويكفي لسريان هذه الحُرمة استقرار النطفة في الرحم.

القول الثاني: أنه يكون بعد مائة وعشرين يوما، وهو قول الجمهور، وقد ذكر ابن رجب القائلين بهذا ومستندهم على ذلك، فقال: (وبنى الإمام أحمد مذهبه المشهور عنه على ظاهر حديث ابن مسعود وأن الجنين ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر وأنه إذا سقط بعد تمام أربعة أشهر صلى عليه حيث كان قد نفخ فيه الروح ثم مات، وحكى ذلك أيضا عن سعيد بن المسيب وهو أحد قولي الشافعي وإسحاق وروى غير واحد عن أحمد أنه قال: إذا بلغ أربعة أشهر وعشرا ففي تلك العشر ينفخ فيه عليه وقال في رواية لأبي الحارث عنه: تكون النسمة نطفة أربعين ليلة وعلقة أربعين ليلة ومضغة أربعين ليلة ثم تكون عظما ولحما، فإذا تم أربعة أشهر وعشرا نفخ فيه الروح، وظاهر هذه الرواية أنه لا ينفخ فيه الروح إلا بعد تمام أربعة أشهر وعشر كما روي عن ابن عباس، والروايات التي قبل هذه عن أحمد أنها تدل على أنه ينفخ فيه الروح في مدة العشر بعد تمام الأربعة وهذا هو المعروف عنه، وكذا قال ابن المسيب لما سئل عن عدة الوفاة حيث جعلت أربعة أشهر وعشرا ما بال العشر قال ينفخ فيه

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (35)

الروح) (1)

وقد ذكر ابن عابدين أن هذا هو قول الحنفية مع مخالفته للمشاهدة، فقال: (وهل يباح الإسقاط بعد الحبل يباح ما لم يتخلق شيء منه؟.. قالوا ولا يكون ذلك إلا بعد مائة وعشرين يوما، وهذا يقتضى أنهم أرادوا بالتخليق نفخ الروح وإلا فلا فهو غلط لأن التخليق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة) (2)

ونص على ذلك الشافعية، قال في نهاية المحتاج: (اختلفوا في التسبب لإسقاط ما لم يصل لحد نفخ الروح فيه وهو مائة وعشرون يوما) (3)، وقد سبق ذكر قوله.

وهو قول ابن حزم، فقد قال بعد روايته لحديث ابن مسعود: (وما لم يوقن تمام المائة والعشرين ليلة بجميع أيامها فهو على ما تيقناه من مواتيته، ولا يجوز أن نقطع له بانتقاله إلى الحياة عن المواتية المتيقنة إلا بيقين) (4)

وقد استدلوا على هذا بظاهر ما روي عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يُجمع خَلْقُه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه المَلَك، فيَنْفُخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد) (5)

قال ابن رجب: (وبكل حال فحديث ابن مسعود يدل على تأخير نفخ الروح في الجنين وكتابة الملك لأمره إلى بعد أربعة أشهر حتى تتم الأربعون الثالثة، فأما نفخ الروح فقد روي صريحا عن الصحابة أنه ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر كما دل عليه ظاهر حديث

__________

(1) جامع العلوم والحكم: 52.

(2) حاشية ابن عابدين: 3/ 176، وانظر: شرح فتح القدير: 3/ 402، البحر الرائق: 3/ 215.

(3) نهاية المحتاج:7/ 136.

(4) المحلى: 11/ 241.

(5) البخاري: 6/ 2433، البيهقي: 7/ 421، مسند الشاشي: 2/ 142، مسند ابن الجعد: 1/ 379.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (36)

ابن مسعود فروى زيد بن على عن أبيه عن على قال: إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكا فينفخ فيها الروح في الظلمات فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (المؤمنون:14) (1)

القول الثالث: تحديد ميقات النفخ بثمانين يوما، وقد روى ابن مسعود أنه لا تصوير قبل ثمانين يوما، وروي عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} (آل عمران:6) قالوا: إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوما ثم تكون علقة أربعين يوما ثم تكون مضغة أربعين يوما، فإذا بلغ أن تخلق بعث الله ملكا يصورها، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه فيخلطه في المضغة ثم يعجنه بها ثم يصورها كما يؤمر فيقول: أذكر أم أنثى شقي أم سعيد وما رزقه وما عمره وما رجاء وما مصائبه فيقول الله تبارك وتعالى، فيكتب الملك، فإذا مات ذلك الجسد دفن حيث أخذ ذلك التراب (2)

وقد ذكر ابن رجب من أخذ بهذا من العلماء فقال: (وقد أخذ طائفة من الفقهاء بظاهر هذه الرواية وتأولوا حديث ابن مسعود المرفوع عليها، وقالوا أقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يوما لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة، ولا يتخلق ويتصور قبل أن يكون مضغة، وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي بناء على هذا الأصل إنه لا تنقضي العدة ولا قوما أم الولد إلا بالمضغة المخلقة، وأقل ما يكون أن يتخلق ويتصور في أحد وثمانين يوما) (3)

الترجيح:

__________

(1) جامع العلوم والحكم: 52.

(2) قال ابن رجب: ولكن السدي مختلف في أمره وكان الإملام أحمد ينكر عليه كم الأسانيد المتعددة للتفسير الواحد كما كان هو وغيره ينكرون على الواقدي كم الأسانيد المتعددة للحديث الواحد.

(3) جامع العلوم والحكم: 51.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (37)

نرى أن الأرجح في المسألة هو أنها ترتبط بالناحية العلمية الطبية من ناحية، والناحية الشرعية من ناحية أخرى، ولذلك سنتكلم عن هاتين الناحيتين للتوصل إلى العمر الحقيقي للجنين، وبالتالي القول بحرمة إجهاضه قبل تلك المدة:

الناحية الشرعية

وردت النصوص الكثيرة التي تحدد المراحل التي يمر بها الجنين في رحم أمه، ومن خلالها سنعرف النظرة الشرعية للوقت الذي تدب فيه الحياة للجنين.

أما النصوص القرآنية فلم تتعرض للوقت الذي تدب فيه الحياة للجنين مطلقا بل اكتفت بعد المراحل دون تفاصيلها الزمانية، ومن أهم النصوص القرآنية المتعلقة بهذه الناحية:

1 ـ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} (الحج: 5)

2 ـ قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} (المؤمنون: 12 ـ 14)

أما السنة، فقد وردت فيها الأحاديث المفصلة للأزمان المرتبطة بهذه المراحل، وقد أسيئ فهم بعضها، ونتج عن ذلك بعض الأخطاء في الأحكام المرتبطة بالإجهاض، وسنذكر هنا الأحاديث المتعلقة بالموضوع لنستنتج منها ما تدل عليه السنة من بدء حياة الجنين:

فمنها الحديث السابق، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أحدكم يُجمع خَلْقُه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه المَلَك، فيَنْفُخ

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (38)

فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد) (1)

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص إذا استقرت النطفة في الرحم أربعين يوما أو أربعين ليلة) (2)

فهذان الحديثان ظاهرا الاختلاف والتعارض، وبناء على هذا حاول العلماء تأويل أحد الحديثين جمعا بينه وبين الآخر، والمنهج العلمي في ذلك يقتضي تغليب ما دل عليه الواقع، وصححه الحس، ثم تأويل المخالف.

لكن ما فعله ما استطعنا التعرف عليه من أقوال الشراح والفقهاء هو خلاف ذلك بحيث اضطروا إلى تأويل كلا الحديثين، تأويل الحديث الأول لينسجم مع الواقع، وهو تأويل متكلف، وتأويل الحديث الثاني ليسجم مع الحديث الأول، ومن ذلك ما ذكره ابن حجر بقوله نقلا عن القاضي عياض قال: (وحمل هذا على ظاهره لا يصح، لان التصوير بأثر النطفة وأول العلقة في أول الأربعين موجود ولا معهود، وانما يقع التصوير في آخر الأربعين الثالثة كما قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون:14) قال: فيكون معنى قوله فصورها الخ أي كتب ذلك، ثم يفعله بعد ذلك بدليل قوله بعد اذكر أو أنثى قال: وخلقه جميع الأعضاء والذكورية والانثوية يقع في وقت متفق وهو مشاهد فيما يوجد من اجنة الحيوان وهو الذي تقتضيه الخلقة واستواء

__________

(1) البخاري: 6/ 2433، البيهقي: 7/ 421، مسند الشاشي: 2/ 142، مسند ابن الجعد: 1/ 379.

(2) مسلم: 4/ 2037.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (39)

الصورة ثم يكون للملك فيه تصور آخر وهو وقت نفخ الروح فيه حين يكمل له أربعة اشهر كما اتفق عليه العلماء ان نفخ الروح لا يكون الا بعد أربعة اشهر) (1)

فالقاضي عياض حاول تأويل الحديث الثاني ليتناسب مع الحديث الأول ومثله كما يذكر ابن حجر ما قال ابن الصلاح في فتاويه وعلل به إعراض البخاري عن الحديث الثاني، فقال: (أعرض البخاري عن حديث حذيفة بن اسيد إما لكونه من رواية أبي الطفيل عنه وإما لكونه لم يره ملتئما مع حديث ابن مسعود، وحديث بن مسعود لا شك في صحته، وأما مسلم فأخرجهما معا، فاحتجنا الى وجه الجمع بينهما، بان يحمل إرسال الملك على التعدد، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية، وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح، وأما قوله في حديث حذيفة في ابتداء الأربعين الثانية فصورها فان ظاهر حديث بن مسعود أن التصوير انما يقع بعد ان تصير مضغة فيحمل الأول على ان المراد انه يصورها لفظا وكتبا لا فعلا أي يذكر كيفية تصويرها ويكتبها بدليل أن جعلها ذكرا أو أنثى انما يكون عند المضغة) (2)

فقد جنح ابن الصلاح كذلك إلى التأويل، وتغليب الحديث الأول على الحديث الثاني، وقد أدرك ابن حجر المنافاة الواقعية لما فهم من الحديث الأول، وحاول تأويلها لا بما ورد في الحديث الأول، وإنما بقوله: (وقد نوزع في أن التصوير حقيقة انما يقع في الأربعين الثالثة بأنه شوهد في كثير من الاجنة التصوير في الأربعين الثانية وتمييز الذكر على الأنثى فعلى هذا فيحتمل ان يقال أول ما يبتدي به الملك تصوير ذلك لفظا وكتبا، ثم يشرع فيه فعلا عند استكمال العلقة، ففي بعض الاجنة يتقدم ذلك، وفي بعضها يتأخر ولك) (3)

وقد رجع ابن حجر في هذا إلى أقوال الأطباء الذين أيد ظاهر كلامهم الحديث الثاني

__________

(1) فتح الباري: 11/ 484.

(2) فتح الباري: 11/ 484.

(3) فتح الباري: 11/ 484.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (40)

ومع ذلك جنحوا إلى الحديث الأول، قال ابن حجر: (نقل الفاضل علي بن أعطى الحموي الطبيب اتفاق الأطباء على ان خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين وفيها تتميز أعضاء الذكر دون الأنثى لحرارة مزاجه وقواه واعبد الى قوام المنى الذي تتكون اعضاؤه منه ونضجه فيكون اقبل للشكل والتصوير ثم يكون علقة مثل ذلك والعلقة قطعة دم جامد قالوا وتكون حركة الجنين في ضعف المدة التي أصحهما فيها ثم يكون مضغة مثل ذلك أي لحمة صغيرة وهي الاربعون الثالثة فتحرك قال: واتفق العلماء على ان نفخ الروح لا يكون الا بعد أربعة اشهر)

ولا يمكننا هنا إحصاء ما ذكره العلماء في الحديثين، ولكنا نقول بأن ترجيح أحد الحديثين ينبغي أن يعول بالدرجة الأولى على ما يقوله الطب، فلا منافاة بينهما، ولذلك سنذكر هنا رأي العلم، لنستنتج منه ما يمكن الاعتماد عليه في معرفة وقت نفخ الروح في الجنين.

الناحية العلمية

يذكر محمد علي البار أنه في نهاية الأسبوع السادس أي 42 يوما، تكون النطفة قد بلغت أوج نشاطها لتكوين الأعضاء، وهي قمة المرحلة الحرجة الممتدة من الأسبوع الرابع حتى الثامن ثم بعد ذلك يحدد جنس الجنين ذكر أم أنثى حسب ما يؤمر به، فيحول الغدة إلى خصية أو مبيض، والدليل على ذلك ما يشاهد في السقط حيث لا يمكن تمييز الغدة التناسلية قبل انتهاء الأسبوع السابع وبداية الثامن (1).

انطلاقا من هذا، فإن الأرجح الذي نراه هو أن نفخ الروح يكون في المدة التي حددها حديث مسلم والتي أيدها العلم الحديث، أما الحديث الأول الذي ذهب إلى القول به أكثر العلماء، فما أسهل تأويله من حيث اللغة، وليس محل ذلك هنا، زيادة على احتمال كون

__________

(1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن: 395.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (41)

الراوي قد رواه بالمعنى، بخلاف الحديث الثاني الذي ذكر المدة بدقة أضاف لها العلم الحديث تأكيدا وقوة.

والقول بهذا ينفي الحرج الذي يقع فيه من يرى المنافاة الواقعية التي تفهم من ظاهر الحديث الأول كما نقلنا عن ابن عابدين قوله: (وهل يباح الإسقاط بعد الحبل؟ يباح ما لم يتخلق شيء منه؟.. قالوا ولا يكون ذلك إلا بعد مائة وعشرين يوما، وهذا يقتضى أنهم أرادوا بالتخليق نفخ الروح وإلا فلا فهو غلط لأن التخليق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة) (1)

3 ـ التشريعات الرادعة عن التخلص من الجنين

يمكن حصر التشريعات التي نص عليها الفقهاء للردع عن التخلص من الجنين بتشريعين: أحدهما له علاقة بالعباد بتعويض الضرر الحاصل من الجناية، والآخر تعبدي بالكفارة، وسنتعرض في هذا المطلب لتفاصيل كلا النوعين من العقوبة، منبهين إلى أن لهذا الموضوع علاقة بالفقه الجنائي، فلذلك لن نتطرق إلا للتفاصيل المتعلقة بالجانب الذي نبحث فيه.

1 ـ العقوبة المالية

تختلف العقوبة المقررة لإسقاط الحمل، باختلاف نتائج فعل الجاني، ووقت جنايته، ويمكن حصر ذلك إجمالا في الحالتين التاليتين:

الحالة الأولى موت الجنين بعد سقوطه حيا

اتفق الفقهاء على أنه إن حصلت الجناية على الأم بأن ضرب بطنها مثلا، فألقت جنينا حيا، ثم مات من الضربة، أن فيه دية كاملة إذا كان سقوطه لوقت يعيش لمثله، وذلك بأن

__________

(1) حاشية ابن عابدين: 3/ 176، وانظر: شرح فتح القدير: 3/ 402، البحر الرائق: 3/ 215.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (42)

يكون لستة أشهر فصاعدا، وقد نقل الإجماع على ذلك، قال ابن المنذر: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن في الجنين، يسقط حيا من الضرب، دية كاملة، منهم زيد بن ثابت، وعروة، والزهري، والشعبي، وقتادة، وابن شبرمة، ومالك (1)، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي) (2) وذلك لأنه مات من جنايته بعد ولادته، في وقت يعيش لمثله، فأشبه قتله بعد وضعه.

وقد اتفق الفقهاء على أن العقوبة المقدرة للجاني تشمل كل جان، ولو كان أمه أو أباه، فلو شربت الحامل دواء، فألقت به جنينا، فعليها غرة، لا ترث منها شيئا، وهو محل اتفاق بين العلماء، قال ابن قدامة: (ليس هناك اختلاف بين أهل العلم نعلمه) (3)، وذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها، فلزمها ضمانه بالغرة، كما لو جنى عليه غيرها، ولا ترث من الغرة شيئا؛ لأن القاتل لا يرث المقتول، وتكون الغرة لسائر ورثته.

ومثلها ما لو كان الجاني المسقط للجنين أباه، أو غيره من ورثته، فعليه غرة، لا يرث منها شيئا.

أما الفعل المكون للجناية، فلا يشترط فيه شكلا معينا، بل يصح أن يكون فعلاً مادياً أو معنوياً، بل يمكن أن يكون قولاً، وقد ورد ما يدل على عدم اقتصار وجوب الدية على الفعل المباشر الذي هو الضرب، بل يكفي فيه مجرد التسبب، كالتخويف مثلا.

__________

(1) اختلف قول المالكية إن كان الضرب عمدا فالمشهور من قول مالك أنه لا قود فيه، وقال أشهب عمده كالخطإ؛ لأن موته بضرب غيره، وقال ابن القاسم: إذا تعمد الجنين بضرب البطن أو الظهر أو موضع يرى أنه يصيب به ففيه القود بقسامة، فأما إذا ضرب رأسها أو يدها أو رجلها ففيه الدية بقسامة، ووجه قول أشهب ما احتج به من أنه غير قاصد إلى قتله كمن رمى يريد قتل إنسان فأصاب غيره ممن لم يرده فإن فيه الدية، ووجه قول ابن القاسم أنه قاصد إلى قتله حين قصد بالضرب موضعا يصل فيه الضرب إليه، ولا يصدق أنه لم يرده، المنتقى: 7/ 81.

(2) المغني: 8/ 328.

(3) المغني: 8/ 327.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (43)

فقد روي عن الحسن قال: أرسل عمر إلى امرأة مغنية كان يدخل عليها، فأنكر ذلك، فقيل لها: أجيبي عمر؟ فقالت: يا ويلها مالها ولعمر؟ قال: فبينما هي في الطريق فزعت، فضمها الطلق، فدخلت دارا فألقت ولدها فصاح الصبي صيحتين فمات؟ فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأشار عليه بعضهم: أن ليس عليك شيء، إنما أنت وال، ومؤدب، قال: وصمت علي فأقبل عليه عمر فقال: ما تقول؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك؟ فلم ينصحوا لك، أرى أن ديته عليك لأنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها في سبيلك، فأمر عليا أن يقسم عقله على قريش، لأنه أخطأ (1).

ومع كون عمر أخذ بقول علي في المسألة إلا أن ابن حزم راح يخطئه، ويصحح قول جمهور الصحابة بناء على كون عمر أميرا يحق له أن يمارس سلطته في الرعية، فقال بعد سرده للنصوص الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (فصح أن فرضا على كل مسلم قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ومن المحال أن يفترض الله تعالى على الأئمة أو غيرهم أمرا إن لم يعملوه عصوا الله تعالى ثم يؤاخذهم في ذلك؟ ووجدنا هذه المبعوث فيها: بعث فيها بحق، ولم يباشر الباعث فيها شيئا أصلا فلا شيء عليه، وإنما كان يكون عليه دية ولدها لو باشر ضربها أو نطحها، وأما إذا لم يباشر فلم يجن شيئا أصلا. ولا فرق بين هذا، وبين من رمى حجرا إلى العدو ففزع من هويه إنسان فمات، فهذا لا شيء عليه - وكذلك من بنى حائطا فانهدم، ففزع إنسان فمات) (2)

وقد اشترط الفقهاء لوجوب الدية كاملة الشروط التالية:

التحقق من حياة الجنين

اختلف الفقهاء في كيفية التعرف على حياة الجنين بعد إسقاطه على قولين:

__________

(1) مصنف عبد الرزاق: 9/ 458، وانظر: نصب الراية: 4/ 398.

(2) المحلى: 11/ 228.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (44)

القول الأول: إذا وضعته حيا، سواء ثبتت باستهلاله، أو ارتضاعه، أو بنفسه، أو عطاسه، أو غيره من الأمارات التي تعلم بها حياته، أما الحركة والاختلاج المنفرد، فلا يثبت به حكم الحياة وهو قول الشافعي وأحمد، ومن الأدلة على ذلك أنه علمت حياته، فأشبه المستهل، والخبر الذي استدل به المخالفون يدل بمعناه على ثبوت الحكم في سائر الصور؛ لأن شربه اللبن أدل على حياته من صياحه، وعطاسه صوت منه كصياحه.

القول الثاني: أنه لا يثبت له حكم الحياة إلا بالاستهلال، وهو قول الزهري، وقتادة، ومالك، وإسحاق وأحمد، وروي معنى ذلك عن عمر، وابن عباس، والحسن بن علي، وجابر، ومن الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا استهل المولود، ورث وورث) (1)،ومفهومه أنه لا يرث إذا لم يستهل. وقد فسر الاستهلال بالصياح كما قال ابن عباس، والقاسم، والنخعي لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من مولود يولد، إلا مسه الشيطان، فيستهل صارخا، إلا مريم وابنها) (2)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على أن العبرة بحياته، أما الاستهلال فهو علامة من علاماتها، ويمكن الاستناد في حال الشك والاختلاف إلى تقرير الطبيب الشرعي، لما يترتب عن ثبوت حياته أو موته من نتائج.

أن يموت بسبب الضربة

وقد نص الفقهاء على أنه لا تجب الدية إلا إذا علم بأن موته حصل بسبب الضربة، وذلك بسقوطه في الحال وموته أو بقائه متألما إلى أن يموت، أو بقاء أمه متألمة إلى أن تسقطه، فيعلم بذلك موته بالجناية، كما لو ضرب رجلا فمات عقيب ضربه، أو بقي ضمنا حتى مات.

__________

(1) الدارمي: 2/ 485، البيهقي: 4/ 8، ابو داود: 3/ 128، النسائي: 4/ 77، ابن ماجة: 2/ 919.

(2) مسلم: 4/ 1838، البخاري: 3/ 1265، ابن حبان: 14/ 129، أحمد: 2/ 233.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (45)

فإن ألقته حيا، فجاء آخر فقتله، وكان فيه حياة مستقرة، فعلى الثاني القصاص إذا كان عمدا، أو الدية كاملة، وإن لم يكن فيه حياة مستقرة، بل كانت حركته كحركة المذبوح، فالقاتل هو الأول، وعليه الدية كاملة، وعلى الثاني الأدب، وإن وقع الجنين حيا، ثم بقي زمنا سالما لا ألم به لم يضمنه الضارب؛ لأن الظاهر أنه لم يمت من جنايته، ولكن هذا فيما نرى متوقف على تقرير الطبيب الشرعي، لأن المقتل قد يصاب دون أن تظهر العلامات الدالة عليه.

أن يسقط لستة أشهر على الأقل

وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:

القول الأول: أن الدية الكاملة إنما تجب فيه إذا كان سقوطه لستة أشهر فصاعدا، فإن كان لدون ذلك، ففيه غرة، كما لو سقط متألما وهو قول أحمد والمزني، لأنه لم تعلم فيه حياة يتصور بقاؤه بها، فلم تجب فيه دية، كما لو ألقته ميتا.

القول الثاني: أنه يستحق الدية كاملة، إذا علمت حياته، ولو كان دون ستة أشهر، وهو قول الشافعي؛ لأننا علمنا حياته، وقد تلف من جنايته.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التفريق بين حالتي العمد والخطأ، فيشدد على المتعمد، لأنه قد يتخذ من ذلك ذريعة لإجهاض الجنين قبل بلوغ ستة أشهر، حتى لا تجب عليه الدية كاملة، وقد نصت الشريعة على أن من كان حاله هذا يعامل بخلاف مقصوده، والنماذج الفقهية الدالة على ذلك كثيرة لا يمكن ذكرها هنا.

أما إن كان مخطئا، فتجب عليه الغرة، لأن الجنين في هذه السن لا تمكن حياته، فإن قال الأطباء بإمكانها، وأن الجناية هي سبب موته وجبت عليه الدية كاملة، بناء على ما سبق من التفريق بين موته بسبب الضربة أو بغيرها.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (46)

الحالة الثانية سقوط الجنين ميتا

اتفق الفقهاء على أن الواجب في الجناية على الجنين إذا سقط ميتا دية خاصة به أطلق عليها الشرع مصطلح الغرة (1)، وقد ذكر ابن قدامة القول بوجوبها عن أكثر العلماء، فقال: (وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم عمر وعطاء، والشعبي، والنخعي، والزهري، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي) (2)

ولا فرق في هذا الوجوب بين كون الجنين ذكرا أو أنثى؛ لأن السنة لم تفرق بينهما. وبه يقول الشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وعامة أهل العلم.

ومن الأدلة على وجوبها ما ورد أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى، فطرحت جنينها، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغرة عبد أو وليدة (3).

والعجيب أن الكاساني مع هذا النص الدال على وجوب الغرة، قال: (فالغرة واجبة استحسانا، والقياس أن لا شيء على الضارب لأنه يحتمل أن يكون حيا وقت الضرب ويحتمل أنه لم يكن بأن لم تخلق فيه الحياة بعد، فلا يجب الضمان بالشك، ولهذا لا يجب في جنين البهيمة شيء إلا نقصان البهيمة، كذا هذا، إلا أنهم تركوا القياس بالسنة) (4)

وكأن القياس هو الذي يتحكم في السنة لا أن القياس يعرف بالسنة، فكل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محض القياس، وقد روي أن عمر اختصم إليه في إملاص المرأة الجنين فقال

__________

(1) تطلق الغرة في لاصطلاح الشرعي على ما فوق الواجب من الوجه في الوضوء، وتطلق أيضا على ما يجب في الجناية على الجنين، وهو المراد هنا، وتطلق الغرة في أصلها اللغوي على الشيء النفيس آدميا كان أو غيره ذكرا كان أو أنثى، وقيل أطلق على الآدمي غرة لأنه أشرف الحيوان، فإن محل الغرة الوجه والوجه أشرف الأعضاء، انظر: فتح الباري: 12/ 249.

(2) المغني:8/ 316.

(3) البخاري: 5/ 2172،مسلم: 3/ 1309، ابن حبان: 13/ 373، الحاكم 3/ 666 الترمذي: 4/ 23، أبو داود: 4/ 192، النسائي: 4/ 237، ابن ماجة: 2/ 882، أحمد: 4/ 79.

(4) بدائع الصنائع: 7/ 325.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (47)

عمر: (أنشدكم الله تعالى هل سمعتم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيئا؟ فقام المغيرة فقال: كنت بين جاريتين وذكر الخبر وقال فيه: فقام عم الجنين فقال: إنه أشعر، وقام والد الضاربة فقال: كيف ندي من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل، ودم مثل ذلك يطل؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أسجع كسجع الكهان. وروي كسجع الأعراب، فيه غرة عبد أو أمة)، فقال عمر: من شهد معك بهذا؟ فقام محمد بن سلمة فشهد، فقال عمر: (كدنا أن نقضي فيها برأينا وفيها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (1)

قال ابن عبد البر معلقا على هذا الحديث مثبتا توافقه مع القياس: (وهذا نص ثابت صحيح في موضع الخلاف يوجب الحكم، ولما كانت دية المضروبة على العاقلة كان الجنين أحرى بذلك في القياس والنظر) (2)

وقد استدل لهذا الوجوب بالدليل العقلي بأن الجنين إن كان حيا فقد فوت الضارب حياته، وتفويت الحياة قتل، وإن لم يكن حيا فقد منع من حدوث الحياة فيه فيضمن كالمغرور لما منع من حدوث الرق في الولد وجب الضمان عليه، وسواء استبان خلقه أو بعض خلقه لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالغرة ولم يستفسر فدل أن الحكم لا يختلف.

وقد اختلف الفقهاء في نوع الغرة الواجبة في هذه الحالة على الأقوال التالية:

القول الأول: أن الغرة عبد أو أمة، قال ابن قدامة: (وهذا قول أكثر أهل العلم) (3)، ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك:

1 ـ قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إملاص المرأة بعبد أو أمة (4)، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاضية على ما خالفها.

__________

(1) أبو داود: 4/ 190، النسائي: 4/ 239، أحمد: 4/ 246.

(2) التمهيد: 6/ 486.

(3) المغني:7/ 318.

(4) أحمد 4/ 244 (18316) والبخاري: 9/ 14 (6905 و6906.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (48)

2 ـ أن ذكر الفرس والبغل في الحديث وهم انفرد به عيسى بن يونس، عن سائر الرواة، فالظاهر أنه وهم فيه، وهو متروك في البغل بغير خلاف، وكذلك في الفرس، وهذا الحديث الذي ذكر أصح ما روي فيه، وهو متفق عليه، وقد قال به أكثر أهل العلم، فلا يلتفت إلى ما خالفه، قال أبو داود: روي هذا الحديث عن محمد بن عمر وحماد بن سلمة وخالد بن عبد الله لم يذكرا فرسا ولا بغلا (1)، وقال البيهقي: ولم يذكره أيضا الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب (2)، وقال النووي: (أما ما جاء في بعض الروايات الصحيح بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل فرواية باطلة وقد أخذ بها بعض السلف) (3)

3 ـ أن قول عبد الملك بن مروان، تحكم بتقدير لم يرد به الشرع، وكذلك قتادة، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق بالاتباع من قولهما.

وقد نص أصحاب هذا القول على أن أقل ما يجزئ من العبد والأمة ما سلم من العيوب التي يثبت بها الرد في البيع لأن المعيب ليس من الخيار، واشترط بعض الفقهاء زيادة على ذلك:

1 ـ أن يكون عبدا أبيض أو أمة بيضاء، فلا يجزئ في دية الجنين سوداء، وهو قول أبي عمرو بن العلاء، واستدل عل ذلك بأنه لو لم يكن في الغرة معنى زائد لما ذكرها ولقال عبد أو أمة، قال ابن حجر: (ويقال إنه انفرد بذلك وسائر الفقهاء على الإجزاء فيما لو أخرج سوداء، وأجابوا بأن المعنى الزائد كونه نفيسا فلذلك فسره بعبد أو أمة لأن الآدمي أشرف الحيوان) (4)

2 ـ أن يكون منتفعا به، وهو قول الشافعي، فلذلك شرط أن لا ينقص عن سبع

__________

(1) أبو داود: 4/ 193.

(2) البيهقي: 8/ 115.

(3) شرح النووي على مسلم: 11/ 176.

(4) فتح الباري: 12/ 249.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (49)

سنين، لأن من لم يبلغها لا يستقل غالبا بنفسه فيحتاج إلى التعهد بالتربية فلا يجبر المستحق على أخذه، وأخذ بعضهم من لفظ الغلام أن لا يزيد على خمس عشرة ولا تزيد الجارية على عشرين، ومنهم من جعل الحد ما بين السبع والعشرين، وذهب ابن دقيق العيد إلى أنه يجزئ ولو بلغ الستين وأكثر منها ما لم يصل إلى عدم الاستقلال بالهرم.

القول الثاني: عبد أو أمة أو فرس، وهو قول عروة، وطاوس، ومجاهد، لأن الغرة اسم لذلك، وقد جاء في حديث أبي هريرة: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل (1).

القول الثالث: عبد أو أمة أو مائة شاة، وهو قول ابن سيرين، والشعبي؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه جعل في ولدها مائة شاة.

القول الرابع: اختلاف التقدير بحسب الجناية، وهو قول للإمامية (2)، فقد رووا عن أئمتهم أنه إذا كان الساقط نطفة فعشرون مثقالا.. وإن كان علقة فأربعون مثقالا.. وإن

__________

(1) البيهقي: 8/ 115، أبو داود: 4/ 193.

(2) وخلاصة أقوالهم في المسألة كما في [المقتصر، للشيخ ابن فهد الحلّي، ص 460] أن الجناية على الجنين ان كان بعد ولوج الروح، فدية كاملة للذكر، ونصف للأنثى. وان كان قبل ولوج الروح وبعد تمام الخلقة، فمائة دينار، ذكرا كان أو أنثى. وان كان قبل تمام الحلقة، فغرة عند أبي علي، وتوزيع الدية عند الأكثر، وفيما بين كل مرتبة من حالات التوزيع بالحساب، وفي تقديره ثلاثة مذاهب.

الأول: تقدير المكث في كل حالة بعشرين يوما، وإيجاب دينار لكل يوم، وهو قول ابن إدريس.

الثاني: تقدير الدية في النطفة بقطرات الدم، وفي العلقة بعروق اللحم، وفي العلقة بعقد الغدد، فاذا ظهر في النطفة قطرة دم كان لها ديناران، وفي القطرتين أربعة دنانير، وفي الثلاثة ستة دنانير، حتى يستوفي عشر قطرات، فيكون لها عشرون دينارا، وذلك تمام الأربعين هي دية العلقة.

وإذا ظهر في العلقة شبه العرق من اللحم، كان له ديناران، وفي العرقين أربعة، وهكذا الى تمام دية المضغة، فإذا ظهر فيها شبه العقدة عظما يابسا، فذلك العظم أول ما يبتدئ، ففيه أربعة دنانير، ومتى زاد زيد أربعة حتى يتم الثمانين فذلك دية العظم، وهو قول الصدوق.

الثالث: التوقف وهو مذهب المصنف..

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (50)

كان مضغة فستون مثقالا.. وإن كان عظما فثمانون مثقالا.. وإن كان العظم لحما ولم تلج الروح فيه فمائة مثقال.. وإن كان قد كسي العظم لحما وولجت فيه الروح ففي الولد دية كاملة (اي ألف مثقال ذهبا)

ومن الروايات التي استدلوا بها على ذلك ما رووه عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يضرب المرأة فتطرح النطفة؟ فقال: عليه عشرون ديناراً، فقلت: فيضربها فتطرح العلقة فقال: عليه أربعون ديناراً، فقلت: فيضربها فتطرح المضغة، فقال: عليه ستون ديناراً، فقلت: فيضربها فتطرحه وقد صار له عظم فقال: عليه الدية كاملة (1).

وقد روي أن ذلك أيضا ما قضى به عبد الملك بن مروان في الجنين، وأنه إذا أملص بعشرين دينارا، فإذا كان مضغة، فأربعين، فإذا كان عظما ستين، فإذا كان العظم قد كسي لحما فثمانين، فإن تم خلقه وكسي شعره فمائة دينار.

وروي عن قتادة: إذا كان علقة فثلث غرة، وإذا كان مضغة فثلثي غرة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول بناء على الحديث الوارد في ذلك، ومثله ما ذهب إليه أصحاب القول الرابع بناء على مراعاته لحرمة الجنين ابتداء من كونه نطفة، بالإضافة إلى أنه يستبعد أن يقول أئمة أهل البيت ذلك من غير أن يكون لهم سند يستندون إليه من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

بالإضافة إلى ذلك فإن تقدير القيمة بالذهب خير من تقويمها بالعبد أو الأمة، لأن قيمة الذهب ثابتة، بخلاف قيمة العبد والأمة.

قيمة الغرة

__________

(1) تهذيب الأحكام (10) ـ (282)، ح (4)..

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (51)

نص الفقهاء على جواز دفع البدل المالي عن الرقبة، قال ابن قدامة: (فإن أراد دفع بدلها ورضي المدفوع إليه، جاز؛ لأنه حق آدمي، فجاز ما تراضيا عليه وأيهما امتنع من قبول البدل، فله ذلك؛ لأن الحق فيها، فلا يقبل بدلها إلا برضاهما) (1)

ونصوا على أن قيمة الغرة نصف عشر الدية، ويمكن تقييمها إما بالإبل أو بالذهب أو بالفضة، كما يلي:

الإبل: وهي خمس من الإبل، وقد روي ذلك عن عمر، وزيد، وبه قال النخعي، والشعبي، وربيعة، وقتادة، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، ومن الأدلة على ذلك أن ذلك أقل ما قدره الشرع في الجنايات، وهو أرش الموضحة ودية السن (2).

فإن اختلفت قيمة الإبل، فنصف عشر الدية من غيرها، مثلما لو كانت قيمة الإبل أربعين دينارا أو أربعمائة درهم، فاختلف فيه فقيل تقوم بالإبل؛ لأنها الأصل، قال ابن المواز: (وعلى أهل الإبل خمس فرائض: بنت مخاض، وبنت لبون، وابن لبون ذكر، وحقة، وجذعة)، قال الباجي: (وقاله ربيعة ولم يبلغنا عن مالك في ذلك شيء، ووقف عنه ابن القاسم، وقال لا مدخل للإبل فيها، وإن كان من أهل الإبل، وقال أصحابه بالإبل. وقال أصبغ ولا أحسبه إلا وقد قاله ابن القاسم أيضا، وروى عنه أبو زيد أنه قاله. وقال أشهب لا يؤخذ من أهل البادية فيها إلا الإبل) (3)، وقد وجه قول ابن القاسم بنفي الاعتبار بالإبل بأن الدنانير والدراهم هي قيم المتلفات فلذلك قومت بها الغرة، والإبل ليست بقيم المتلفات فلذلك لم تعتبر بها الغرة، ولذلك كان أصل الدية الإبل لكنها ردت إلى العين، وما كان أصله العين لا يرد إلى الإبل، ولما ورد الشرع في دية الجنين بالغرة، واحتيج إلى تقديرها

__________

(1) المغني: 8/ 318.

(2) انظر: المغني: 8/ 319.

(3) المنتقى: 7/ 81.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (52)

قدرت بما يقع به التقويم، وهو العين دون ما لا يقع به التقويم، ووجه قول أشهب بأن الإبل أصل في الدية فاعتبر به في دية الجنين كالورق والذهب.

الذهب والفضة: تقوم بالذهب أو الورق، فتصير قيمتها خمسين دينارا أو ستمائة درهم، وقد روى مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه كان يقول: الغرة تقوم خمسين دينارا أو ستمائة درهم (1)، يعني أن العبد أو الأمة لا يكفي إلا أن يساوي ذلك، ودية المرأة الحرة المسلمة خمسمائة دينار على أهل الذهب أو ستة آلاف درهم على أهل الورق لأنها على النصف من الذكر، قال مالك: فدية جنين الحرة المسلمة عشر ديتها، والعشر خمسون دينارا أو ستمائة درهم، وبهذا قال الزهري وسائر أهل المدينة، وقال أبو حنيفة والكوفيون قيمة الغرة خمسمائة درهم (2).

وهذا الخلاف مبني على قيمة دية المرأة، قال الكاساني: (هذا فرع أصل ما ذكرناه لأنهم اتفقوا على أن الواجب نصف عشر الدية، لكنهم اختلفوا في الدية، فالدية من الدراهم عندنا مقدرة بعشرة آلاف، فكان نصف عشرها خمسمائة، وعنده مقدرة باثني عشر ألفا فكان نصف عشرها ستمائة) (3)

فإن اختلفا، قومت على أهل الذهب به، وعلى أهل الورق به، فإن كان من أهل الذهب والورق جميعا، قومها من هي عليه بما شاء منهما؛ لأن الخيرة إلى الجاني في دفع ما شاء من الأصول.

نوع الجناية المسببة للعقوبة

اختلف الفقهاء في محل وجوب الغرة، هل هي قتل الجنين أم سقوطه بعد قتله على

__________

(1) الموطأ: 2/ 855.

(2) شرح الزرقاني: 4/ 226.

(3) بدائع الصنائع: 7/ 325.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (53)

قولين:

القول الأول: إن الغرة إنما تجب إذا سقط من الضربة، وهو قول مالك، وقتادة، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر، ويعلم ذلك بأن يسقط عقيب الضرب، أو ببقائها متألمة إلى أن يسقط، ولو قتل حاملا لم يسقط جنينها، أو ضرب من في جوفها حركة أو انتفاخ، فسكن الحركة وأذهبها، لم يضمن الجنين، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه، ولذلك لا تصح له وصية ولا ميراث.

2 ـ أن الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت، ولا يجب الضمان بالشك.

فأما إن ظهر بعضه من بطن أمه، ولم يخرج باقيه، فقد اختلف الفقهاء فيه على قولين:

الرأي الأول: فيه الغرة، ومثله ما لو ألقت يدا، أو رجلا، أو رأسا، أو جزءا من أجزاء الآدمي، وهو قول الشافعي وأحمد، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه قاتل لجنينها، فلزمته الغرة، كما لو ظهر جميعه.

2 ـ أنه يختلف على ما لو لم يظهر منه شيء، لأنه لم يتيقن قتله ولا وجوده.

الرأي الثاني: لا تجب الغرة حتى تلقيه، وهو قول مالك، وابن المنذر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أوجب الغرة في الجنين الذي ألقته المرأة؛ وهذه لم تلق شيئا، فأشبه ما لو لم يظهر منه شيء.

القول الثاني: أن عليه الغرة، وقد حكي عن الزهري؛ وبه قال أشهب والشافعي، لأن الظاهر أنه قتل الجنين، فلزمته الغرة، كما لو أسقطت (1)، وهو قول الظاهرية، قال ابن حزم: (إن قتلت حامل بينة الحمل، فسواء طرحت جنينها ميتا أو لم تطرحه فيه غرة ولا بد؛ لما ذكرنا من أنه جنين أهلك)، وقد رد على أصحاب القول الأول بقوله: (لم يشترط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجنين إلقاءه، ولكنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: (في الجنين غرة عبد أو أمة) كيفما أصيب - ألقي أو

__________

(1) انظر: المنتقى: 7/ 81.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (54)

لم يلق - ففيه الغرة المذكورة. وإذا قتلت الحامل فقد تلف جنينها بلا شك) (1)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الجناية تتحقق بقتله بغض النظر عن سقوطه وعدم سقوطه، ومن قتل امرأة حاملا لم يقتل نفسا واحدة، بل قتل نفسين فلذلك وجبت عليه ديتين.

من له الحق في الغرة

اختلف الفقهاء فيمن يستحق الغرة على الأقوال التالية:

القول الأول: أن الغرة موروثة عن الجنين، كأنه سقط حيا؛ لأنها دية له، وبدل عنه، فيرثها ورثته، كما لو قتل بعد الولادة (2)، وهو قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وأحمد، وقول الإمامية، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن القول بأنه عضو من أعضائها لا يصح؛ لأنه لو كان عضوا لدخل بدله في دية أمه، كيدها، ولما منع من القصاص من أمه، وإقامة الحد عليها من أجله، ولما وجبت الكفارة بقتله، ولما صح عتقه دونها، ولا عتقها دونه، ولا تصور حياته بعد موتها.

2 ـ أن الغرة بدل نفس الجنين، وبدل النفس يكون ميراثا كالدية، والدليل على أنها بدل نفس الجنين لا بدل جزء من أجزاء الأم أن الواجب في جنين أم الولد ما هو الواجب في جنين الحرة. ولا خلاف في أن جنين أم الولد جزء ولو كان في حكم عضو من أعضاء الأم لكان جزءا من الأم حرا، وبقية أجزائها أمة، وهذا لا يجوز.

__________

(1) المحلى: 11/ 234.

(2) وباعتبار هذا القول، فإنها إذا أسقطت جنينا ميتا، ثم ماتت، فإنها ترث نصيبها من ديته، ثم يرثها ورثته، وإن ماتت قبله ثم ألقته ميتا لم يرث أحدهما صاحبه، وإن خرج حيا ثم مات قبلها، ثم ماتت، فإنها ترث نصيبها من ديته، ثم يرثها ورثتها. وإن ماتت قبله، ثم ألقته ميتا، لم يرث أحدهما صاحبه. وإن خرج حيا، ثم ماتت قبله ثم مات، أو ماتت ثم خرج حيا ثم مات، ورثها، ثم يرثه ورثته. وإن اختلف وراثهما في أولهما موتا، فحكمهما حكم الغرقى، المغني:8/ 320.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (55)

3 ـ أنه صلى الله عليه وآله وسلم قضى بدية الأم على العاقلة وبغرة الجنين، ولو كان في معنى أجزاء الأم لما أفرد الجنين بحكم بل دخلت الغرة في دية الأمة كما إذا قطعت يد الأم فماتت أنه تدخل دية اليد في النفس.

4 ـ أنه لما أنكرت عاقلة الضاربة حمل الدية إياهم فقالت: أندي من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل ومثل دمه يطل؟ لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني أوجبت ذلك بجناية الضاربة على المرأة لا بجنايتها على الجنين.

القول الثاني: لا تورث، بل تكون لأمه، وهو قول ربيعة بن أبي عبدالرحمن، والليث، والحنفية، لأنها ليست دية وإنما هي بمنزلة جناية جنى عليها، فقطع عضو من أعضائها، ومن أدلتهم على أنها ليست دية أنه لم يعتبر فيها هل هو ذكر أو أنثى كما يلزم في الديات فدل على أن ذلك كالعضو ولهذا كانت ذكاة الشاة ذكاة لما من الأجنة ولولا ذلك كانت ميتة.

وهو قول ابن حزم إذا كان الجنين أقل من مائة وعشرين يوما، قال ابن حزم: (الجنين إن تيقنا أنه قد تجاوز الحمل به مائة وعشرين ليلة، فإن الغرة موروثة لورثته الذين كانوا يرثونه لو خرج حيا فمات، على حكم المواريث، وإن لم يوقن أنه تجاوز الحمل به مائة ليلة وعشرين ليلة فالغرة لأمه فقط) (1)

وقد استدل له بإبطال ما ذهب إليه المخالفون من قياس لأن بناء قولهم عليه، لأن حكم القياس إنما يكون فيما عدم فيه النص، لا فيما فيه النص، وأما النص فإنما جاء في الدية الموروثة فيمن قتل عمدا أو خطأ، لا فيمن لم يقتل أحدا، والجنين الذي لم ينفخ فيه الروح لم يقتل قط، فقياس دية من لم يقتل، على دية من قتل باطل؛ لأنه قياس الشيء على ضده.

واستدل لذلك من القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (النساء:92)، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قتل له بعد

__________

(1) المحلى: 11/ 241.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (56)

مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين) (1)، قال ابن حزم: (فذكر صلى الله عليه وآله وسلم القود، أو الدية، أو المفاداة، فصح بالقرآن، والسنة أن دية القتيل في الخطأ والعمد مسلمة لأهل القتيل، والقتيل لا يكون إلا في حي نقله القتل عن الحياة إلى الموت، بلا خلاف من أهل اللغة التي بها نزل القرآن، وبها خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والجنين بعد مائة ليلة وعشرين ليلة حي بنص خبر الرسول الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم وإذ هو حي، فهو قتيل قد قتل بلا شك، وإذ هو قتيل بلا شك، فالغرة التي هي ديته واجبة أن تسلم إلى أهله بنص القرآن، وقد اتفقت الأمة على أن الورثة الذين يسلم لهم الدية أنهم يقتسمونها على سنة المواريث بلا خلاف) (2)

أما إن لم يبلغ الجنين هذا العمر فإنه كما يقول ابن حزم: (لم يحيا قط، فإذا لم يحيا قط، ولا كان له روح بعد، ولا قتل، وإنما هو ماء، أو علقة من دم، أو مضغة من عضل، أو عظام، ولحم، فهو في كل ذلك بعض أمه، فإذ ليس حيا بلا شك، فلم يقتل، لأنه لا يقتل موات، ولا ميت، وإذ لم يقتل، فليس قتيلا، فليس لديته حكم دية القتيل) (3)

القول الثالث: أن ديته لأبويه خاصة، لأبيه ثلثاها ولأمه ثلثها، من كان منهما حيا كان ذلك له، فإن كان أحدهما قد مات كانت للباقي منهما أبا كان أو أما لا يرث الإخوة منها شيئا، وهو قول ابن هرمز (4).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن حكم قتل الجنين، كحكم قتل الحي، ولذلك، فإن المال لورثته بحسب سهامهم.. ويستثنى من الإرث الأب إن كان جانيا، فإنه لا يرث منه شيئا، بل تجب عليه الغرة دون أن يأخذ منها، وكذلك الأم إن كانت هي الجانية.

__________

(1) البخاري 1/ 37 (104)

(2) المحلى: 11/ 241.

(3) المحلى: 11/ 241.

(4) انظر: التمهيد: 6/ 487.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (57)

من تجب عليه الغرة

اختلف الفقهاء في الذي تجب عليه الغرة على قولين (1):

القول الأول: تجب على الجاني، وتؤخذ من ماله، وهو قول المالكية، وقول الحسن بن حي، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ رواية من روى هذا الحديث فقال الذي قضى عليه: (كيف أغرم؟) وهذا يدل على أن الذي قضى عليه معين وأنه واحد، وهو الجاني.

2 ـ أنه إن كان جان جنايته عليه إلا ما قام بخلافه الدليل الذي لا معارض له مثل إجماع لا يجوز خلافه أو نص أو سنة من جهة نقل الآحاد العدول لا معارض لها فيجب الحكم بها وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام:164)

القول الثاني: الغرة على العاقلة، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك الحديث السابق، فقد جاء فيه: (فقضى فيه بغرة وجعله على عاقلة المرأة) قال ابن عبد البر: (وهذا نص ثابت صحيح في موضع الخلاف يوجب الحكم، ولما كانت دية المضروبة على العاقلة كان الجنين أحرى بذلك في القياس والنظر) (2)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لصحة الحديث الوارد في ذلك، وفي ذلك من المقاصد الشرعية أن تأخذ العاقلة بيد الجاني، فلا تمكنه من جنايته، باعتبارها ستتحمل مسؤولية جنايته.

تعدد الغرة

__________

(1) التمهيد: 6/ 484.

(2) التمهيد: 6/ 486.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (58)

اتفق الفقهاء على أنه إذا ضرب بطن امرأة، فألقت أجنة، ففي كل واحد غرة، وهو قول الزهري، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر، وقال: (ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم، وذلك لأنه ضمان آدمي، فتعدد بتعدده، كالديات) (1)

ومثل ذلك ما لو ألقتهم أحياء في وقت يعيشون في مثله ثم ماتوا، ففي كل واحدة دية كاملة، وإن كان بعضهم حيا فمات، وبعضهم ميتا، ففي الحي دية، وفي الميت غرة، وذلك لأن الواجب المالي من غرة أو دية يتعدد بتعدد الأجنة، والقائلون بوجوب الكفارة مع الغرة - كما سنرى - يرون أنها تتعدد بتعدد الجنين أيضا.

2 ـ العقوبة التعبدية

اتفق الفقهاء وجوب الكفارة على الجناية في الحالة الأولى، قال ابن عبد البر: (أجمع الفقهاء أن الجنين إذا خرج حيا ثم مات، وكانت فيه الدية أن فيه الكفارة مع الدية) (2)، واختلفوا في وجوب الكفارة مع الغرة (3) على قولين:

القول الأول: أن الكفارة واجبة، وهي عتق رقبة مؤمنة، سواء كان الجنين حيا أو ميتا، قال ابن قدامة: (هذا قول أكثر أهل العلم، منهم الحسن، وعطاء، والزهري، والحكم، ومالك، والشافعي، وإسحاق. قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم أوجب على ضارب بطن المرأة تلقي جنينا الرقبة مع الغرة) (4) ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (النساء:92)، وقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (النساء:92)،وهذا الجنين، إن كان من مؤمنين، أو أحد أبويه، فهو محكوم بإيمانه

__________

(1) المغني: 8/ 320.

(2) التمهيد: 6/ 486.

(3) والكفارة هنا هي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.

(4) المغني:8/ 326.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (59)

تبعا، يرثه ورثته المؤمنون، ولا يرث الكافر منه شيئا، وإن كان من أهل الذمة، فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق.

2 ـ أنه نفس مضمون بالدية، فوجبت فيه الرقبة كالكبير.

3 ـ أن ترك ذكر الكفارة لا يمنع وجوبها، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل) (1)، وذكر الدية في مواضع، ولم يذكر الكفارة.

4 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بدية المقتولة على عاقلة القاتلة، ولم يذكر كفارة، وهي واجبة.

5 ـ أن الآية أغنت عن ذكر الكفارة في موضع آخر، فاكتفي بها.

القول الثاني: لا تجب الكفارة، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يوجب الكفارة حين أوجب الغرة، وهو قول الظاهرية، قال ابن حزم: (لم يأت بإيجاب الكفارة في ذلك نص عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على العموم، فلا يجوز أن يطلق - على العموم - القول بها) (2)

وتفصيل مذهبه في ذلك أن من ضرب حاملا فأسقطت جنينا، فإن كان قبل الأربعة الأشهر قبل تمامها فلا كفارة في ذلك، لكن الغرة واجبة فقط؛ واستدل على ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكم بذلك، ولأن الجاني لم يقتل أحدا، لكن أسقطها جنينا فقط، وبما أنه لم يقتل أحدا - لا خطأ ولا عمدا - فلا كفارة في ذلك، إذ لا كفارة إلا في قتل الخطأ، ولا يقتل إلا ذو روح، وهذا لم ينفخ فيه الروح بعد.

أما إن كان بعد تمام الأربعة الأشهر، وتيقنت حركته بلا شك، وشهد بذلك أربع قوابل عدول، فإن فيه غرة عبد أو أمة فقط؛ لأنه جنين قتل، فهذه هي ديته، والكفارة واجبة بعتق رقبة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (النساء:92)؛ لأنه قتل مؤمنا خطأ.

الترجيح:

__________

(1) رواه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم، انظر: خلاصة البدر المنير: 2/ 268.

(2) المحلى: 11/ 236.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (60)

نرى أن الأرجح في المسألة بناء على مقصد الشرع في التشديد على الذرائع المؤدية لهذا هو القول بوجوب الكفارة زيادة على العقوبة المالية، فلا تغني إحداهما عن الأخرى، فالعقوبة المالية تعويض عن الضرر الحاصل للمجني عليه، بينما العقوبة التعبدية تطهير لنفس الجاني، حتى لا يعود لجنايته، واقتران كلا الأمرين ملاحظ في كثير من الفروع الشرعية، ومن بينها فروع الفقه الجنائي.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (61)

الفصل الثاني

حق الأولاد في النسب

نتناول في هذا الفصل الحديث عن أهم حق من حقوق الأولاد، وهو حق الولد في الانتساب لوالديه، وذلك لأن كل ما يتعلق بالأولاد من حقوق مادية ومعنوية مرتبط بهذا الحق.

أولا ـ شروط ثبوت النسب

من خلال كلام الفقهاء في الشروط التي يثبت بها النسب يمكن تصنيفها لشرطين تدخل فيهما جميع الفروع المتعلقة بشروط ثبوت النسب، وهذان الشرطان تقتضيهما القسمة العقلية، فالحمل له إثبات واقعي يدل عليه الواقع ويشهد له الحس، وإثبات شرعي وهو اعتبار ما اعتبره الشرع منه، ونفي ما نفاه، وتفصيل هذين الشرطين، وما يتعلق بهما من أحكام فيما يلي:

الشرط الأول ثبوت النسب من الناحية الواقعية

من الشروط التي يمكن وضعها لثبوت النسب من الناحية الواقعية:

1 ـ عدم تجاوز المدة الشرعية للحمل

والتحقق من هذا الشرط يقتضي التعرف على فترة الحمل بطرفيها الأدنى والأقصى، وذلك كما يلي:

أدنى مدة الحمل

اتفق الفقهاء على أن أدنى مدة للحمل هي ستة أشهر، فلذلك من ولدت امرأته

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (62)

عقيب نكاحه لها، لدون ستة أشهر من حين تزوجها، فلا يلحق به، لليقين بأنها علقت به قبل أن يتزوجها (1)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (لقمان:15) فأخبر تعالى أن مدة الحمل والفطام ثلاثون شهرا وأخبر في آية البقرة أن مدة تمام الرضاع حولين كاملين فعلم أن الباقي يصلح مدة للحمل وهو ستة أشهر.

2 ـ قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد:8)،قال ابن عباس (وما تغيض الأرحام ما تنقص عن تسعة أشهر وما تزداد وما تزيد عليها)، ووافقه على هذا أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير (2).

3 ـ الآثار الواردة عن الصحابة فقد روي أن عمر أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها فبلغ ذلك عليا فقال: ليس عليها رجم فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه فسأله فقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة:233)، وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (لقمان:15) فستة أشهر حمله وحولان تمام الرضاعة لا حد عليهما فخلى عنها.

4 ـ عن ابن عباس أنه كان يقول إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهرا وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا وإذا وضعت لستة أشهر كفاها من الرضاع أربعة وعشرون شهرا كما قال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (لقمان:15)

__________

(1) هذا إن كان الحمل من غيره، أما إن تزوجها وهي حامل منه بزنا، فإن هناك خلافا في المسألة نعرض له عند الحديث عن ثبوت النسب بالعلاقة غير الشرعية.

(2) ابن كثير: 2/ 503.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (63)

قال محمد علي البار: (أما أقل الحمل فيتفق فيه الطب والشرع، وكلام الفقهاء تمام الاتفاق، فالطب يقرر أن أقل الحمل الذي يمكنه العيش بعده ستة أشهر، وفي الواقع قليلا ما يعيش هذا المولود) (1)

وقد ذكر الفقهاء هنا فرضيات أجابوا عليها بحسب فهومهم، وهي تفتقر إلى المصداقية العلمية، منها اعتبارهم أن من طلق امرأته وهي حامل، فوضعت ولدا، ثم ولدت آخر قبل مضي ستة أشهر، أنه من الزوج بناء على أنهما حمل واحد، أما إن كان بينهما أكثر من ستة أشهر، فلا يلحق الزوج، لأنه لا يمكن أن يكون الولدان حملا واحدا وبينهما مدة الحمل، فعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية، وانقضاء العدة، وكونها أجنبية (2).

أقصى مدة الحمل

اختلف الفقهاء في أقصى مدة الحمل على أقوال كثيرة يمكن حصرها في ثلاثة أقوال (3):

القول الأول: أن أقصى الحمل يمكن أن تكون أكثر من تسعة أشهر، وهو قول أكثر الفقهاء، بناء على سماع كلام النساء في ذلك، وبناء على فهم لقوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد:8)، قال ابن كثير: (وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ومن تحمل تسعة أشهر، ومنهم من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى، وكل ذلك بعلمه تعالى.. وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملتني سنتين وولدتني وقد نبتت ثنيتي) (4)

واستدل الطحاوي لذلك بما روي عن زيد بن وهب قال: سمعت أبا ذر يقول لأن

__________

(1) خلق الإنسان بين الطب والقرآن: 451.

(2) المغني: 8/ 65.

(3) انظر هذه الأقوال في: تحفة المودود:265، معتصر المختصر: 1/ 317، مشكل الآثار: 4/ 290، المغني: 8/ 98.

(4) ابن كثير: 2/ 503.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (64)

أحلف عشرا إن ابن صياد هو الدجال أحب إلي من أن أحلف يمينا واحدة إنه ليس هو، وذلك لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أم ابن صياد فقال: سلها، كم حملت به؟ فسألتها فقالت: حملت به اثني عشر شهرا) (1) قال الطحاوي: (فكان في هذا إخبار أبي ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أم ابن صياد أنها حملت به اثني عشر شهرا، فلم يكن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفع لذلك، ولو كان محالا لأنكره عليها، ودفعه من قولها، وفي ذلك ما قد دل أن الحمل قد يكون أكثر من تسعة أشهر على ما قد قاله فقهاء الأمصار في ذلك من أهل المدينة وأهل الكوفة وممن سواهم من فقهاء أهل الأمصار) (2)

وقد اختلفوا في الحد الأقصى على آراء كثيرة منها:

الرأي الأول: أقصى مدته سنتان، وقد وروي هذا القول عن عائشة وروي عن الضحاك وهرم بن حيان أن كل واحد منهما أقام في بطن أمه سنتين، وهو قول سفيان الثوري، ورواية عن أحمد، وهو قول الحنفية، ومن الأدلة النقلية على ذلك:

1 ـ عن أبي سفيان عن أشياخ لهم عن عمر: أنه رفع إليه امرأة غاب عنها زوجها سنتين فجاء - وهي حبلى - فهم عمر برجمها، فقال له معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين، إن يك السبيل لك عليها، فلا سبيل لك على ما في بطنها؟ فتركها عمر حتى ولدت غلاما قد نبتت ثناياه، فعرف زوجها شبهه، فقال عمر: عجز النساء أن تكون مثل معاذ، لولا معاذ هلك عمر (3).

2 ـ عن جميلة بنت سعد عن عائشة، قالت: (ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين قدر

__________

(1) رواه الطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الحارث بن حصيرة وهو ثقة، مجمع الزائد: 8/ 2، فتح الباري: 6/ 173.

(2) مشكل الآثار: 4/ 290.

(3) قال ابن حزم:) وهذا باطل، لأنه عن أبي سفيان - وهو ضعيف - عن أشياخ لهم، وهم مجهولون (المحلى:10/ 131.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (65)

ما يتحول ظل هذا المغزل (1)، وهو من أعظم أدلتهم، ووجه دلالتهم عندهم كما يقول أبو الحسن: (لما لم يكن لنا سبيل لإثبات هذه المقادير من طريق الاجتهاد والمقاييس وكان طريقه التوقيف أو الاتفاق، ثم وجدنا الصحابي قد قطع بذلك وأثبته، دل ذلك من أمره على أنه قاله توقيفا، لأنه لا يجوز أن يظن بهم أنهم قالوه تخمينا وتظننا، فصار ما كان هذا وصفه من المقادير إنما يلزم قبول قول الصحابي الواحد فيه، ويجب اتباعه من حيث كان توقيفا) (2)

وقد أجاب الطحاوي على ما ورد في القرآن الكريم من أن الحمل والفصال ثلاثين شهرا لا أكثر منها بما روي عن ابن عباس قال: (إذا وضعت المرأة في تسعة أشهر كفاه من الرضاع واحد وعشرون شهرا وإذا وضعت لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا وضعت لستة أشهر فحولان كاملان، لأن الله تعالى قال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (لقمان:15)

قال الطحاوي: (ففي هذا الحديث أن ابن عباس لم يخرج الحمل والفصال عن الثلاثين شهرا، وفي ذلك ما قد دل على أن الحمل كان عنده لا يخرج عن الثلاثين شهرا، وإذا كان ذلك كذلك وكان الحمل حولين كان الباقي من الثلاثين شهرا ستة أشهر) (3)

وقد أجاب على القول بأن أبدان الصبيان لا تقوم بها، لأنهم يحتاجون من الرضاع إلى مدة هي أكثر منها بقوله: (قد يحتمل أن يكون المولودون بعد مضي تلك الستة الأشهر يرجعون إلى لطيف الغذاء فيكون ذلك عيشا لهم وغنى لهم عن الرضاع) (4)

وقد حاول أن يؤول الآيات وفق قوله فقال: (غير أنا تأملنا ما في كتاب الله تعالى من ذكر الحمل والفصال، فوجدنا منه الآية التي قد تلوناها فيما تقدم منا في هذا الباب. ووجدنا

__________

(1) قال ابن حزم: جميلة بنت سعد مجهولة: لا يدرى من هي المحلى:10/ 131.

(2) الفصول في الأصول: 3/ 365.

(3) مشكل الآثار: 4/ 296.

(4) مشكل الآثار: 4/ 296.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (66)

منه قول الله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لقمان:14) فجعل الفصال في هذه الآية من المدة عامين. ووجدنا منه قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة:233) فكان في هاتين الآيتين الأخيرتين إثبات الحولين للفصال فاحتمل عندنا - والله أعلم - أن يكون الله تعالاجعل الحمل والفصال ثلاثين شهرا لا أكثر منها على ما في الآية الأولى، مما قد يحتمل أن يكون مدة الفصال فيها قد ترجع إلى ستة أشهر ثم زاد الله - عز وجل - في مدة الفصال تمام الحولين بالآيتين الأخيرتين فرد حكم الفصال إلى جهته من الثلاثين شهرا وعلى تتمة الحولين على ما في الآيتين الأخريين وبقي مدة الحمل على ما في الآية الأولى فلم يخرجه من الثلاثين شهرا وأخرج مدة الفصال من الثلاثين شهرا إلى ما أخرجها إليه بالآيتين الأخريين) (1)

الرأي الثاني: أن مدة الحمل قد تكون ثلاث سنين، فعن الليث بن سعد أنه قال: حملت مولاة لعمر بن عبد الله ثلاث سنين، وقد روي بأن مالكا ولد لثلاثة أعوام.

الرأي الثالث: أن أقصى مدته أربع سنين وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد واختلف فيه عن مالك فالمشهور عنه عند أصحابه مثل ما قال الشافعي وحكى ابن الماجشون عنه ذلك ثم رجع لما بلغه قصة المرأة التي وضعت لخمس سنين (2)، وقد استدل له ابن قدامة بقوله: (ما لا نص فيه، يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد الحمل لأربع سنين) (3)، ثم ساق بعض ما يدل على ذلك، فروى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حديث جميلة بنت سعد، عن عائشة: لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل. قال مالك: سبحان الله، من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن

__________

(1) مشكل الآثار: 4/ 296.

(2) قال الباجي: (أكثر أمد الحمل اختلف فيه قول المالكيين فقال العراقيون منهم أربعة أعوام وبه قال أصبغ والشافعي وقاله ابن القاسم وسحنون، وقال ابن وهب وأشهب سبع سنين) المنتقى: 4/ 80.

(3) المغني: 8/ 98.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (67)

تلد.

ونقل عن الشافعي قوله: بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين. وقال أحمد: نساء بني عجلان يحملن أربع سنين وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون، كل دفعة أربع سنين. وبقي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي في بطن أمه أربع سنين. وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي.

واستدل على ذلك كذلك بأن عمر ضرب لامرأة المفقود أربع سنين، ولم يكن ذلك إلا لأنه غاية الحمل، وروي ذلك عن عثمان وعلي وغيرهما.

الرأي الرابع: أن مدة الحمل قد تكون خمس سنين حكي عن عباد بن العوام أنه قال ولدت امرأة معنا في الدار لخمس سنين، قال: فولدته وشعره يضرب إلى هاهنا وأشار إلى العنق قال ومر به طير فقال: هش، وقد حكي عن ابن عجلان أن امرأته كانت تحمل خمس سنين.

الرأي الخامس: أن المرأة تحمل ست سنين وسبع سنين، فيكون ولدها مخشوشا في بطنها قال وقد أتى سعيد بن مالك بامرأة حملت سبع سنين، وهو قول الزهري.

القول الثاني: عدم التحديد والتوقيت بالرأي، وهو قول أبي عبيد، واستدل على ذلك بما يلي:

1 ـ أنا وجدنا لأدنى الحمل أصلا في تأويل الكتاب وهو الأشهر الستة فنحن نقول بهذا ونتبعه ولم نجد لآخره وقتا.

2 ـ أن حديث عائشة المروي في ذلك لا يصح، لأن المرأة التي روته عنها مجهولة.

3 ـ الإجماع على أن المرأة إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم تزوجها الرجل أن الولد غير لا حق به فان جاءت به لستة أشهر من يوم نكحها فالولد له.

القول الثالث: أن أقصى مدة الحمل تسعة أشهر، وهو قول ابن حزم، وقد نسبه لعمر

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (68)

ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأبي سليمان، وجميع الظاهرية، وهو قول الإمامية، فقد نصوا على أنه (لو طلقت فادعت الحمل، صبر عليها أقصى الحمل، وهي تسعة أشهر، ثم لا يقبل دعواها، وفي رواية سنة وليست مشهورة) (1)

أما قول الظاهرية، فقد نص عليه ابن حزم بقوله: (ولا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر ولا أقل من ستة أشهر؛ لقول الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (لقمان:15). وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة:233) فمن ادعى أن حملا وفصالا يكون في أكثر من ثلاثين شهرا، فقد قال الباطل والمحال، ورد كلام الله عز وجل جهارا) (2)

وقال في كيفية تطبيق رأيه على ثبوت النسب: (فإن كان وضعها لأقل من تسعة أشهر من حين أنكر الأول وطأها، أو لأقل من ستة أشهر من حيث وطئها الثاني: فالولد للأول بلا شك. إن ولدته لأكثر من تسعة أشهر بطرفة عين من حين وطئها الثاني: فالولد للثاني بلا شك. فإن ولدته لأكثر من تسعة أشهر من حين أمكن الأول وطأها، ولأقل من ستة أشهر من حين وطئها الثاني: فهو غير لاحق بالأول ولا بالثاني) (3)

وقد رد على الأقوال الأخرى في المسألة أنها تفتقر إلى الدليل النصي الجازم، وأنها مجرد أخبار وحكايات لا أساس لها من الصحة، قال ابن حزم: (وكل هذه أخبار مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق، ولا يعرف من هو؟ لا يجوز الحكم في دين الله تعالى بمثل هذا) (4)

وقد حاول أن يفسر ما ذكره الفقهاء علميا بقوله: (إلا أن الولد قد يموت في بطن أمه، فيتمادى بلا غاية حتى تلقيه متقطعا في سنين)، ولكن الحمل بهذه الصفة لا يلحقه أي

__________

(1) شرائع الإسلام: 3/ 26.

(2) المحلى:10/ 130.

(3) المحلى:10/ 130.

(4) المحلى:10/ 130.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (69)

حكم من أحكام الحمل، قال ابن حزم: (فإن صح هذا فإنه حمل صحيح لا تنقضي عدتها إلا بوضعه كله إلا أنه لا يوقف له ميراث، ولا يلحق أصلا؛ لأنه لا سبيل إلى أن يولد حيا، ولو سعت عند تيقن ذلك في إسقاطه بدوا لكان مباحا؛ لأنه ميت بلا شك) (1)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أنه لم يرد في النصوص المعصومة التصريح بهذا الأمر، فلذلك ينبغي ترك المسألة للمختصين.

وقد نص هؤلاء بناء على أدلة يقينية لا يمكن تخلفها على صحة القول الثالث، وهو دليل على انسجام العقل الصحيح مع النص الظاهر الصريح، فابن حزم في هذا القول أخذ بظواهر النصوص بينما سائر الأقوال ـ كما رأينا مع الطحاوي ـ حاولت أن تتأول النصوص للانسجام مع الأخبار والحكايات التي يحكيها الناس صادقين أم كاذبين.

فقد نص العلم في هذه المسألة على أن الحمل يحدث نتيجة اتحاد الحيوان المنوي الناضج مع البويضة الناضجة التي تخرج من المبيض اثناء ظاهرة التبويض في منتصف الدورة الشهرية، وينمو الغشاء المبطن للرحم أكثر ليحتضن ويغذي الجنين القادم، وبذلك تنقطع العادة الشهرية، ومدة الحمل الطبيعي هي 280 يوماً من أوّل لآخر الطمث.

لكن يوجد خلاف كبير في مدة الحمل، فتكون حوالي 42 أُسبوعاً، فتكون ولادة قبل التمام التي تحدث بعد إتمام 28 أُسبوعاً وقبل إتمام 37 أُسبوعاً ويسمى الولد خديجاً، وولادة جنين كامل النمو تحدث بعد إتمام 37 أُسبوعاً وقبل إتمام 42 أُسبوعاً.

والولادة بعد التمام تحدث بعد 24 أُسبوعاً ولا يوجد موعد محدد للولادة بعد التمام لاَن يوم التقليح غير محدود بالضبط، وفي بعض الإحصائيات تبين أنّه 25% من الحوامل يلدن في الأسبوع الثاني والأربعين (294 يوماً) و12% في الأسبوع 43 (301 يوماً) و3%

__________

(1) المحلى:10/ 131.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (70)

من الحوامل يلدن في الأسبوع 44 (308 يوماً).

وكذلك الإحصائيات تبيّن أنّ وفاة المواليد حول الميلاد تزيد وتتضاعف بازدياد مدة الحمل عن 42 أُسبوعاً لسبب تليف المشيمة، ولذلك يجب التأكد من موعد آخر طمث، وإذا تعذر ذلك، فيوجد وسائل حديثة لمعرفة عمر الجنين داخل الرحم (1).

وقد نص الأطباء بناء على هذا على استحالة ما ذكره الفقهاء من تلك المدة، لأن المشيمة لا يمكن أن تحمله كل هذه المدة (2).

وقد بين محمد علي البار علة الحمل الكاذب الذي بنى الفقهاء عليه أقوالهم في المسألة بقوله: (والحمل الكاذب حالة تصيب النساء اللاتي يبحثن عن الإنجاب دون أن ينجبن، فتنفخ البطن بالغازات، وتتوقف العادة الشهرية، وتعتقد المراة اعتقادا جازما بأنها حامل رغم تأكيد جميع الفحوصات المخبرية والفحوصات الطبية بأنها غير حامل، وقد يحدث لإحدى هؤلاء الواهمات بالحمل الكاذب الذي تتصور انه بقي في بطنها سنينا قد يحدث انها تحمل فعلا، فتضع طفلا طبيعيا في فترة حمله، ولكنها نتيجة وهمها وإهامها من حولها من قبل تتصور أنها قد حملته لمدة ثلاث أو أربع سنوات) (3)

ومع ذلك فهؤلاء الفقهاء معذورون في ذلك بلا شك، لأن هذه المسألة من المسائل التي يحتاج فيها إلى معرفة الواقع، وقد كان واقعهم يقول بذلك، فلم يكن لهم من مناص من الإفتاء إلا على أساسه، وهم يقرون بأن هذا خلاف الظاهر، ولكن الذي دفعهم إليه هو الحرص على إثبات الأنساب ودرء الحدود، قال القرافي: (إن هذا الحمل الآتي بعد خمس سنين دائر بين أن يكون من الوطء السابق من الزوج وبين أن يكون من الزنى، ووقوع الزنى

__________

(1) الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية: 436.

(2) الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية: 682.

(3) خلق الإنسان بين الطب والقرآن:454.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (71)

في الوجود أكثر وأغلب من تأخر الحمل هذه المدة، فقدم الشارع (1) هاهنا النادر على الغالب، وكان مقتضى تلك القاعدة أن يجعل زنى لا يلحق بالزوج عملا بالغالب، لكن الله تعالى شرع لحوقه بالزوج لطفا بعباده وسترا عليهم وحفظا للأنساب وسدا لباب ثبوت الزنى، كما اشترط تعالى في ثبوته أربعة مجتمعين سدا لبابه حتى يبعد ثبوته، وأمرنا أن لا نتعرض لتحمل الشهادة فبه، وإذا تحملناها أمرنا بأن لا نؤدي بها، وأن نبالغ في الستر على الزاني ما استطعنا، بخلاف جميع الحقوق كل ذلك شرع طلبا للستر على العباد ومنة عليهم، فهذا هو سبب استثناء هذه القاعدة من تلك القواعد، وإلا فهي على خلاف الإلحاق بالغالب دون النادر) (2)

وقريب منه قول العز بن عبد السلام: (ذا أتت الزوجة بالولد لدون أربع سنين من حين طلقها الزوج بعد انقضاء عدتها بالأقراء فإنه يلحقه، مع أن الغالب الظاهر أن الولد لا يتأخر إلى هذه المدة. فإن قيل: إنما لحقه لأن الأصل عدم الزنا وعدم الوطء بالشبهة والإكراه، قلنا وقوع الزنا أغلب من تأخر الحمل إلى أربع سنين إلا ساعة واحدة وكذلك الإكراه والوطء بالشبهة ولا يلزم على ذلك حد الزنا فإن الحدود تسقط بالشبهات، بخلاف إلحاق الأنساب فإن فيه مفاسد عظيمة منها جريان التوارث ومنها نظر الولد إلى محارم الزوج، ومنها إيجاب النفقة والكسوة والسكنى، ومنها الإنكاح والحضانة) (3)

ولكن الذي لا نرى عذره هو التعصب أو التشنيع على المخالف، كما قال ابن العربي عن بعض المالكية ممن لاح لهم من النصوص ما يؤيده الواقع الصحيح لا واقع الحكايات والعجائز، فقال عنهم بحدة: (نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر مدة الحمل تسعة

__________

(1) المراد بالشارع هنا أقوال الفقهاء لا النصوص لعدم دلالة النصوص على شيء من ذلك.

(2) فروق القرافي: 3/ 204.

(3) قواعد الأحكام: 2/ 122.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (72)

أشهر، وهذا ما لم ينطق به قط إلا هالكي: وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل في الرحم الكواكب السبعة تأخذه شهرا شهرا) (1)

وقد نص الأطباء على أن التي تقول بأن زوجها مات، وبعد أربع سنين ولدت، مستحيل علمياً، لأن المشيمة لا يمكن أن تحمله كل هذه المدة (2).

2 ـ قدرة الزوج على الإنجاب

لأن عجزه عن الإنجاب دليل على عدم ثبوت النسب له، والعجز إما أن يكون لصغر أو مرض، ولذلك بحث الفقهاء ثبوت النسب للصبي الذي لم يبلغ، والمصاب بعاهات تناسلية، وسنبحث حكم المسألتين فيما يلي:

الصبي الذي لم يبلغ

اختلف الفقهاء في العمر الذي يمكن أن ينسب فيه الولد إلى الزوج إن كان طفلا على قولين:

القول الأول: تحديد العمر بعشر سنوات، وهو قول الحنابلة (3)،واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (واضربوهم على الصلاة لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) (4)،وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتفريق بينهم، دليل على إمكان الوطء الذي هو سبب الولادة.

القول الثاني: تحديد العمر بالبلوغ، واستدلوا على ذلك بأن الولد إنما يكون من الماء، ولا ينزل حتى يبلغ، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه زمن يمكن البلوغ فيه، فيلحقه الولد، كالبالغ.

__________

(1) أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 80.

(2) الرؤية الإسلامية لبعض الممارسات الطبية: 682.

(3) ولهم قول آخر، وهوتحديد العمر بتسعة أعوام، ونصف عام مدة الحمل، واستدلوا على ذلك بالقياس على المرأة حيث يمكن أن يولد لها لتسع.

(4) الحاكم: 1/ 311، البيهقي: 2/ 229، الدارقطني: 1/ 230، أبو داود: 1/ 133، أحمد: 2/ 180.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (73)

2 ـ ما روي أن عمرو بن العاص، وابنه عبد الله، لم يكن بينهما إلا اثنا عشر عاما.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الحمل لا يثبت إلا بالبلوغ، ويختلف البلوغ من فرد إلى فرد، فلذلك لا يصح الجزم بالحمل ممن شك في حصول الحمل منه إلا بتحر من المختصين، فإن شكوا، فإن الحمل ثابت منه لا يمكن صرفه بالشك، لأن الأصل هو أن الولد للفراش.

المصاب بعاهات تناسلية

اتفق الفقهاء على أنه إن ولدت امرأة مقطوع الذكر والأنثيين، لم يلحق نسبه به، لأنه يستحيل منه الإنزال والإيلاج (1)، وقد اختلفوا فيمن قطعت أنثياه دون ذكره أو ذكره دون أنثياه على قولين:

القول الأول: لا يلحقه النسب، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بأنه لا يخلق منه الولد عادة، ولا وجد ذلك، فأشبه ما لو قطع ذكره معهما، ولا اعتبار بإيلاج لا يخلق منه الولد، كما لو أولج إصبعه.

القول الثاني: يلحقه النسب، وهو قول عند الحنابلة فيما يتعلق بقطع الأنثيين، وقول عند الشافعية فيما يتعلق بقطع الذكر، لإمكان نزول المني منهما وقول الحنفية في الممسوح،

__________

(1) ذكر ابن قدامة قولا في اعتبار الفراش دون إمكانية الإيلاج، واستدل له بأنه يمكن أن تستدخل المرأة مني الرجل، فتحمل، وقد رد عليه بأن الولد مخلوق من مني الرجل والمرأة جميعا، ولذلك يأخذ الشبه منهما، وإذا استدخلت المني بغير جماع، لم تحدث لها لذة تمني بها، فلا يختلط نسبهما، ولو صح ذلك لكان الأجنبيان الرجل والمرأة إذا تصادقا أنها استدخلت منيه، وأن الولد من ذلك المني، يلحقه نسبه، وما قال ذلك أحد، انظر: المغني:8/ 65.

(2) ونرى صحة هذا القول وإمكان الإنزال لارتباطه بالمني لا بالإيلاج، ولكن إثبات ذلك يحتاج إلى تحقيق علمي يثبت نسبة الولد إلى أبيه، وما قاله ابن قدامة من تعليل غير صحيح من الناحية العلمية لأن بويضة المرأة لا تفتقر لحصول الحمل للذة.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (74)

قال السرخسي: (إذا جاءت بولد إلى سنتين يثبت النسب منه، ولا تبطل تلك الفرقة؛ لأن ثبوت النسب باعتبار الإنزال بالسحق (1)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو احتمال ثبوت النسب في حال قطع الذكر دون الأنثيين إذا أمكن الإنزال، ويتوقف ذك كما ذكرنا سابقا على الإثبات الطبي بقدرة المصاب على الإنجاب، أما مقطوع الأنثيين فيستحيل منه الإنجاب بلا شك، لعدم إمكان الإنزال.

3 ـ حصول الاتصال بين الزوجين

اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:

القول الأول: اعتبار هذا الشرط، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه لم يحصل إمكان الوطء بهذا العقد، فلم يلحق به الولد، كزوجة ابن سنة، أو كما لو ولدته لدون ستة أشهر.

2 ـ أنه لا يجوز حذف الإمكان عن الاعتبار، لأنه إذا انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه، فلم يحز إلحاقه به مع يقين كونه ليس منه.

القول الثاني: عدم اعتبار هذا الشرط، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بان الأصل في ثبوت النسب هو الزوجية التي كنى عنها الشرع بالفراش، قال الكاساني: (نسب الولد من الرجل لا يثبت إلا بالفراش، وهو أن تصير المرأة فراشا له لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر، والمراد من الفراش هو المرأة فإنها تسمى فراش الرجل وإزاره ولحافه (2)، وقد استدل بالحديث من الوجوه التالية:

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرج الكلام مخرج القسمة، فجعل الولد لصاحب الفراش والحجر

__________

(1) المبسوط:5/ 104.

(2) بدائع الصنائع:6/ 242.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (75)

للزاني، فاقتضى أن لا يكون الولد لمن لا فراش له، كما لا يكون الحجر لمن لا زنا منه، إذ القسمة تنفي الشركة.

2 ـ أنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل الولد لصاحب الفراش، ونفاه عن الزاني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وللعاهر الحجر)، لأن مثل هذا الكلام يستعمل في النفي.

3 ـ أنه جعل كل جنس الولد لصاحب الفراش، فلو ثبت نسب ولد لمن ليس بصاحب الفراش لم يكن كل جنس الولد لصاحب الفراش، وهذا خلاف النص.

وقد بنوا على هذا كثيرا من الفروع منها أنه لو تصادق الزوجان على أن الولد من الزنا من فلان لا يثبت النسب منه، ويثبت من الزوج لأن الفراش له.

ومنها أنه لو تزوج رجل امرأة في مجلس، ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد، أو تزوج مشرقي بمغربية، ثم مضت ستة أشهر، وأتت بولد، فإن الولد يلحقه في كل ذلك، واستدلوا على ذلك بأن الولد إنما يلحقه بالعقد، ومدة الحمل، دون الاعتبارات الأخرى.

ومثل ذلك ما لو غاب الزوج عن زوجته مدة طويلة، فبلغتها وفاته، فاعتدت، ونكحت نكاحا صحيحا في الظاهر، ودخل بها الثاني، وكان لها منه أولاد، فإنه إذا قدم الأول، وردت إليه فإن الجمهور على أن والأولاد له؛ لأنهم ولدوا على فراشه، وخالف في ذلك أبو حنيفة، وجعل الولد للأول؛ لأنه صاحب الفراش، لأن نكاحه صحيح ثابت، ونكاح الثاني غير ثابت، فأشبه الأجنبي.

ومثله كذلك ما لو تزوج رجلان أختين، فغلط بهما عند الدخول، فزفت كل واحدة منهما إلى زوج الأخرى، فوطئها، وحملت منه، فلا يكون الولد للواطئ عند الحنفية خلافا للجمهور.

الترجيح:

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (76)

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار هذا الشرط، لأن الشرع مع تشوفه لإثبات الأنساب، فإنه تشوف كذلك لتحقيقها، وأن تكون صحيحة للمنتسبين إليها، فشرع لذلك تحريم الزنى، والعدة والاستبراء وحرم التبني، وغير ذلك من التشريعات، باعتبار أنه لا مصلحة للابن في الانتساب لغير أبيه، ولا مصلحة للأب في أن ينسب إليه غير ابنه.

الشرط الثاني ـ ثبوت النسب من الناحية الشرعية

اتفق الفقهاء على ثبوت النسب من العلاقة الشرعية الصحيحة التي يدل عليها العقد الشرعي الصحيح، واختلفوا في غيرها اختلافا شديدا، ولحساسية المسألة من الناحية الواقعية نحاول هنا أن نفصل كلام الفقهاء في هذا الموضوع بما تقتضيه أهميته وواقعيته من تفصيل:

ثبوت النسب بالزوجية

اتفق الفقهاء على أن النسب يثبت بالزوجية سواء كان عقد الزواج صحيحا أو فاسدا، قال الكاساني: (ويستوي فيه النكاح الصحيح والفاسد إذا اتصل به الوطء، لأن النكاح الفاسد ينعقد في حق الحكم عند بعض مشايخنا لوجود ركن العقد من أهله في محله، والفاسد ما فاته شرط من شرائط الصحة، وهذا لا يمنع انعقاده في حق الحكم كالبيع الفاسد إلا أنه يمنع من الوطء لغيره، وهذا لا يمنع ثبات النسب كالوطء في حالة الحيض والنفاس) (1)

ويستوي في ذلك كون المنكوحة حرة أو أمة، لأنها المقصود من فراش الزوجية، التي يكنى عنها كما رأينا بالفراش، وقد نقل الإجماع على ذلك العلماء، قال ابن القيم: (فأما ثبوتُ

__________

(1) بدائع الصنائع: 6/ 243.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (77)

النسبِ بالفِراش، فأجمعت عليه الأمة) (1)

ولعل أهم دليل يستند إليه العلماء في إثبات النسب بالفراش ما روته عائشة، قالت: اختصم سعدُ بنُ أبي وقاص، وعبدُ بنُ زمعة في غلام، فقال سعد: هذا يا رسولَ الله ابنُ أخي عتبة بن أبي وقاص عَهِدَ إلي أنه ابنُه، انظُر إلى شَبَههِ، وقال عبدُ بنُ زمعة: هذا أخي يا رسولَ الله وُلِدَ على فِراش أبي مِن وَليدَتِهِ، فنظر رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرأى شبهاً بيناً بعُتبة، فقال: (هُوَ لَكَ يا عَبدُ بنَ زَمعَةَ، الوَلَدُ لِلفِراشِ، ولِلعَاهِرِ الحَجَرُ واحتَجِبي مِنهُ يا سَودَةُ)، فلم تَرَهُ سَودَةُ قَطُّ (2).

قال ابن القيم مبينا مواضع الاستدلال بالحديث: (فهذا الحكم النبويُّ أصلٌ في ثبوتِ النسب بالفراش، وفي أن الأمة تكون فِرَاشاً بالوطء، وفي أن الشبه إذا عارضَ الفِراش، قُدمَ عليه الفِراشُ، وفي أن أحكامَ النسب تتبعضُ، فثُبت من وجهٍ دُونَ وجه، وهو الذي يُسميه بعضُ الفقهاء حُكماً بينَ حُكمين، وفي أن القافةَ حقٌّ، وأنها من الشرع) (3)

وقد اختلف الفقهاءُ فيما تصيرُ به الزوجة فراشاً، على الأقوال التالية:

القول الأول: أنه نفسُ العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها، بل لو طلقها عقبَه في المجلس، وهو قول الحنفية، وقد ذكرنا أقوالهم في الشرط الأول.

القول الثاني: أنه العقدُ مع إمكان الوطء، وهو قول الجمهور.

القول الثالث: أنه العقدُ مع الدخول المحققِ لا إمكانه المشكوك فيه، وهو رواية عن أحمد، واختيارُ ابن تيمية، وابن القيم.

الترجيح:

__________

(1) زاد المعاد: 5/ 410.

(2) البخاري: 2/ 724، مسلم: 2/ 1080، الحاكم: 3/ 731، الترمذي: 3/ 463، الدارمي: 2/ 482، البيهقي: 10/ 266، أبو داود: 2/ 282، النسائي: 3/ 379، ابن ماجة: 1/ 646، الموطأ: 2/ 739، أحمد: 1/ 65.

(3) زاد المعاد: 5/ 410.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (78)

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثالث، قال ابن القيم: (وهذا هو الصحيحُ المجزوم به، وإلا فكيف تصيرُ المرأة فراشاً ولم يدخُل بها الزوجُ، ولم يَبنِ بها لمجرد إمكان بعيدٍ. وهل يعُدُّ أهلُ العرف واللغة المرأة فراشاً قبل البناء بها، وكيف تأتي الشريعةُ بإلحاق نسبٍ بمن لم يبنِ بامرأته، ولا دخلَ بها، ولا اجتمع بها بمجردِ إمكان ذلك؟ وهذا الإمكانُ قد يقطع بانتفائه عادة، فلا تصيرُ المرأة فِراشاً إلا بدخول محقق) (1)

وفي حال الشك يعرض الأمر على المختصين كما في كل المسائل التي يشك فيها.

ثبوت النسب يالعلاقة المشتبه فيها

اختلف الفقهاء في العلاقة التي ليست بزواج صحيح، ولا زواج فاسد، ولا زنا محضا، بل هي مؤسسة على شبهة تدرأ الحد عن صاحبها، على قولين:

القول الأول: يلحق النسب، فمن وطئ امرأة لا زوج لها بشبهة، فأتت بولد، فإنه يلحقه نسبه، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والحنابلة، قال أحمد: كل من درأت عنه الحد ألحقت به الولد (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه وطء اعتقد الواطئ حله، فلحق به النسب، كالوطء في النكاح الفاسد.

2 ـ أنه يختلف عن الزنا، لأنه لا يعتقد الحل فيه.

القول الثاني: لا يلحق النسب، وهو قول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن النسب لا يلحق إلا في نكاح صحيح، أو فاسد، أو ملك، أو شبهة ملك، ولم يوجد شيء من ذلك.

2 ـ أنه وطء لا يستند إلى عقد، فلم يلحق الولد فيه بالوطء، كالزنا.

الترجيح:

__________

(1) زاد المعاد: 5/ 415.

(2) المغني: 8/ 66.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (79)

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على مقصد الشرع من إثبات الأنساب، خاصة مع كون فراش الشبهة فراشا لم ينازعه فيه أحد، فصار النسب مختصا به.

الاشتراك في معاشرة الزوجة

إن حصل اشتراك في الزوجة بعلاقة مشتبه فيها، فإن لذلك حالتان:

الاشتراك غير الحقيقي

وهو عدم حصول الاشتراك في طهر لم يمسها الزوج فيه، مع عدم معاشرة الزوج زوجته بعده، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: أن النسب يلتحق بالواطئ، وينتفي عن الزوج من غير لعان بشرط أن تأتي به لأكثر من ستة أشهر، وهو قول الجمهور، أما إن أنكر الواطئ الوطء، فالقول قوله بغير يمين، ويلحق نسب الولد بالزوج؛ لأنه لا يمكن إلحاقه بالمنكر، ولا تقبل دعوى الزوج في قطع نسب الولد.

القول الثاني: أن الولد يلحق بالزوج، وهو قول الحنفية وقول عند الحنابلة، بناء على أن الولد للفراش.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول في حال حصول الاستبراء الحقيقي، فإن شك كان الأرجح هو القول الثاني، لأن الأصل هو نسبة الولد لفراش الزوج، فإن استمر الشك، ترجح التحري بالوسائل العلمية الدقيقة، ويثبت بها النسب لأحدهما بشرط الجزم بذلك، لأن بقاء النسب مع الشك في صحته ضرر للولد، فقد ينتسب لغير أبيه، وضرر للزوج، فقد يربي غير ولده.

الاشتراك الحقيقي

وهو حصول الاشتراك، إما بسبب طهر مسها الزوج فيه، أو معاشرة الزوج زوجته

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (80)

بعده، فقد اتفق الفقهاء على أن الولد للفراش، وقد أمكن كونه منه، أما إن ادعى الزوج أنه من الواطئ فقد اختلف الفقهاء في ذلك على الأقوال التالية:

القول الأول: يعرض على القافة معهما فيلحق بمن ألحقته منهما، فإن ألحقته بالواطئ لحقه، ولم يملك نفيه عن نفسه، وانتفى عن الزوج بغير لعان، وإن ألحقته بالزوج لحقه، ولم يملك نفيه باللعان (1)، وهو قول الحنابلة (2).

القول الثاني: يعرض على القافة فإن ألحقته بهما، لحق بهما، ولم يملك الواطئ نفيه عن نفسه، وللزوج نفيه باللعان، وهو قول عند الحنابلة.

القول الثالث: أنه يلحق الزوج بكل حال؛ لأن دلالة قول القافة ضعيفة، ودلالة الفراش قوية، فلا يجوز ترك دلالته لمعارضة دلالة ضعيفة، وهو ما رجحه ابن قدامة (3).

القول الرابع: استعمال القرعة في إثبات النسب، وهو قول إسحاق بن راهويه، وكان الشافعيُّ يقول به في القديم، ويستدل لهذا بما روي عن زيد بن أرقم، قال: أتى علي بن أبي طالب بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طُهرٍ واحدٍ، فسأل اثنين أتُقِرانِ لهذا بالوَلَدِ؟ قالا: لا، حَتّى سألهم جميعاً، فجعل كلما سأل اثنينِ قالا: لا، فأقرعَ بينهم، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثي الدية، قال: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فضحك حتى بَدَت نَوَاجِذُهُ (4).

__________

(1) أما إن لم توجد قافة، أو أنكر الواطئ الوطء، أو اشتبه على القافة، فإنه يلحق بالزوج؛ لأن المقتضي للحاق النسب به متحقق، ولم يوجد ما يعارضه، فوجب إثبات حكمه، المغني: 8/ 67.

(2) انظر: كشاف القناع: 5/ 408، المغني: 8/ 67.

(3) المغني:8/ 67.

(4) الحاكم: 2/ 225، البيهقي: 10/ 266، أبو داود: 2/ 281، النسائي: 3/ 379، ابن ماجة: 2/ 786.قال ابن القيم:) في إسناده يحيى بن عبد الله الكندي الأجلح ولا يحتج بحديثه، لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كُلُّهم ثقات إلى عبد خير، وقد أعل هذا الحديث بأنه روي عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم، فيكون مرسلاً، انظر: زاد المعاد: 5/ 429.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (81)

الترجيح:

نرى أن الأرجح هو استعمال القافة، والذي منع بعض الفقهاء من استعمالها هو عدم دقتها الكافية لإثبات الأنساب، وهي الآن أدق لأن الذي يمارسها مختصون وبأجهزة دقيقة، فلذلك كانت أولى الوسائل كما سنرى.

ثبوت النسب بالعلاقة غير الشرعية

اختلف الفقهاء في حكم ثبوت النسب بالعلاقة غير الشرعية وهي الزنا على قولين:

القول الأول: ثبوت نسب ابن الزنا لأمه دون أبيه، وهو قول جمهور العلماء، بل اتفقت على القول به المذاهب الفقهية المختلفة، حتى اعتبر عند بعضهم من الإجماع الذي لا يرقى إليه شك، قال ابن عبد البر: (فنفى أن يلحق في الإسلام ولد الزنى، وأجمعت الأمة على ذلك نقلا عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ولد يولد على فراش لرجل لاحقا به على كل حال إلى أن ينفيه بلعان على حكم اللعان) (1)

وسننقل هنا بعض النصوص المثبتة لهذا القول من المذاهب الفقهية المختلفة، والمبينة لأسباب القول بعدم الثبوت:

قال الجصاص: (الزانية لا نسب لولدها من قبل الأب؛ إذ ليس بعض الزناة أولى به لحاقه به من بعض، ففيه قطع الأنساب ومنع ما يتعلق بها من الحرمات في المواريث والمناكحات وصلة الأرحام وإبطال حق الوالد على الولد وما جرى مجرى ذلك من الحقوق التي تبطل مع الزنا، وذلك قبيح في العقول مستنكر في العادات ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر (لأنه لو لم يكن النسب مقصورا على الفراش وما هو في حكم الفراش لما كان صاحب الفراش بأولى بالنسب من الزاني وكان ذلك يؤدي إلى إبطال

__________

(1) التمهيد: 8/ 183.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (82)

الأنساب وإسقاط ما يتعلق بها من الحقوق والحرمات) (1)

وقد نص الإمامية على أن النسب يثبت مع النكاح الصحيح، ومع الشبهة ولا يثبت مع الزنا، فلو زنى فانخلق من مائه ولد على الجزم، لم ينتسب إليه شرعا (2).

وإلى هذا ذهب الإباضية، كما قال في شرح النيل: (إن ولد الزنى لا يلحق بأبيه في الإسلام، أي لا يلحق بمن زنى بأمه في الإسلام إن زنى في الإسلام بها وسماه أبا لأن الولد بحسب الظاهر من مائه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر (، والعاهر: الزاني) (3)

وقد ذكر ابن القيم أن لهذا القول زيادة على الحديث السابق دليلان من السنة هما:

1 ـ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لاَ مُسَاعَاة في الإِسلامِ، مَن سَاعى في الجَاهِلِية فَقَد لَحِقَ بِعَصبَتِهِ، وَمَن ادعى وَلَداً مِن غَيرِ رشدَةٍ، فَلاَ يَرِثُ وَلاَ يُوَرثُ) (4)، والمساعاة هي الزنى، وكَان الأصمعي يجعلُها في الإماء دون الحرائر، لأنهن يسعين لمواليهن، فيكتسِبنَ لهم، وكانَ عليهن ضرائبُ مقررة، فأبطل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المساعاة في الإسلام، ولم يُلحق النسب بها، وعفا عما كان في الجاهلية منها، وألحق النسبَ به (5).

2 ـ روي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قضى أن كُل مستلحَقَ استُلحِقَ بعد أبيه الذي يُدعى له، ادعاه ورثتُه، فقضى أن كُل مَن كَانَ مِن أمَةٍ يملِكُها يومَ أصابَها فقد لَحِقَ بمن استلحقَه، وليس له مما قُسِمَ قَبله من الميراث، وما أَدرَكَ

__________

(1) أحكام القرآن للجصاص:3/ 295.

(2) شرائع الإسلام:2/ 225.

(3) شرح النيل:15/ 492.

(4) الحاكم: 4/ 380، البيهقي: 6/ 259، أبو داود: 2/ 279، أحمد: 1/ 362.

(5) قال في عون المعبود: (إن أهل الجاهلية كانت لهم إماء يساعين وهن البغايا اللواتي ذكرهن الله تعالى في قوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} إذا كان سادتهن يلمون بهن ولا يجتنبوهن فإذا جاءت إحداهن بولد وكان سيدها يطؤها وقد وطئها غيره بالزنا، فربما ادعاه الزاني وادعاه السيد، فحكم النبي (بالولد لسيدها، لأن الأمة فراش السيد كالحرة ونفاه عن الزاني) عون المعبود: 6/ 252.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (83)

مِن ميراثٍ لم يُقسم، فله نصيبُه، ولا يُلحق إذا كان أبوه الذي يُدعى له أنكرَه، وإن كان مِن أمةٍ لم يملكها، أو من حُرة عَاهَرَ بها، فإن لا يُلحَق ولا يرثُ، وإن كان الذي يُدعى له هو ادعاهُ، فهو من ولدِ زنية مِن حرة كان أو أمة) (1)، وفي رواية: (وهو ولد زنى لأهل أمه من كانوا حرةً أو أمة، وذلك فيما استلحق في أولِ الإسلام، فما اقتسم مِن مال قبل الإسلام، فقد مضى)

القول الثاني: أن المولودَ مِن الزنى إذا لم يكن مولوداً على فراش يدعيه صاحبه، وادعاه الزاني، أُلحِقَ به، وهو قول إسحاق بن راهويه، والحسن البصري، فقد قال في رجل زنى بامرأة، فولدت ولداً، فادعى ولدَها: يُجلد ويلزمُه الولد، وهو قول عروة بن الزبير وسليمانَ بن يسار فقد روي عنهما أنهما قالا: أيُّما رجل أتى إلى غلام يزعم أنه ابن له، وأنه زنى بأمه ولم يَدعِ ذلك الغلامَ أحد، فهو ابنُه، واحتج سليمان، بأن عمر كان يُلِيطُ أولادَ الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام (2).

وقد انتصر لهذا القول ابن القيم، فقال: (وهذا المذهبُ كما تراه قوة ووضوحاً، وليس مع الجمهور أكثرُ مِن (الولد للفراش) وصاحبُ هذا المذهب أولُ قائل به، والقياسُ الصحيح يقتضيه (، ومن الأدلة التي ذكرها ابن القيم لذلك:

1 ـ أن القياس يدل عليه، فالأبَ أحدُ الزانيين، وقد وُجِدَ الولدُ مِن ماء الزانيين، وقد اشتركا فيه، فلماذا يلحق بأمه، وينسب إليها، وترثه ويرثُها، ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به، ويمنع من لحوقه بالأب إذا لم يدعِهِ غيرُه.

2 ـ حديث جريج للغلام الذي زنت أمُّه بالراعي حيث قال له: من أبوك يا غلام؟ قال: فلان الراعي، فهذا القول من الغلام يدل على صحة النسب للزاني، قال ابن القيم:

__________

(1) الدارمي: 2/ 483، البيهقي: 6/ 260، أبو داود: 2/ 279، ابن ماجة: 2/ 917، أحمد: 6/ 253.

(2) البيهقي: 10/ 263، الموطأ: 2/ 740.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (84)

(وهذا إنطاق من الله لا يُمكن فيه الكذبُ)

3 ـ عدم صحة حديث المساعاة الذي استدلوا به، قال ابن القيم: (ولكن في إسناد هذا الحديث رجل مجهول، فلا تقوم به حجة (، وسببه يمنع الاستدلال به على هذا، فقد كان قوم في الجاهلية لهم إماء بغايا، فإذا ولَدَت أمةُ أحدهم وقد وطئها غيرُه بالزنى، فربما ادعاه سيدها، وربما ادعاه الزاني، واختصما في ذلك، حتى قام الإسلام، فحكم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بالولد للسيد، لأنه صاحب الفراش، ونفاه على الزاني، أما الحديثُ الثاني فهو صحيح في الدلالة لكنه ضعيف في الثبوت، قال ابن القيم: (لكن فيه محمد بن راشد، ونحن نحتج بعمرو بن شعيب، فلا يُعلل الحديثُ به، فإن ثبت هذا الحديثُ، تعينَ القولُ بموجبه، والمصير إليه، وإلا فالقولُ قول إسحاق ومَن معه) (1)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ثبوت نسب ابن الزنا لأمه وأبيه، ونرى أن سبب ثبوت نسبه لأمه شرعا هو دليل ثبوت نسبه لأبيه، لأنه من كليهما حصل الزنا، فلا معنى لثبوته من أحدهما ونفيه عن الآخر، ثم تعليل ذلك بكونه من زنا.

فإذا انتفت هذه العلة، والتي بها يعتقد الإجماع على عدم ثبوت نسب ابن الزنى من الزاني، بقي أن نبحث عن علة ثبوت نسبه لأمه، وهي ـ كما مر معنا ـ تتلخص في كون نسبته إليها محققة، فهي التي ولدته، ولا شك في نسبه منها بخلاف ابن الزنا، فقد ينتسب لهذا الزاني أو ذاك، فلذلك ينفى عنهم جميعا لعدم التحقيق، فالعلة إذن من نفي نسب ابن الزنا عن الزاني هي عدم التحقق من صحة نسبته لا كونه ابن زنا (2).

__________

(1) زاد المعاد: 5/ 429.

(2) ويدل لهذا قول الجصاص السابق:) الزانية لا نسب لولدها من قبل الأب؛ إذ ليس بعض الزناة أولى به لحاقه به من بعض).

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (85)

فلذلك إذا انتفت هذه العلة، واستطعنا أن نتعرف على نسبه إما بادعاء أبيه له، أو بوسائل أخرى جازمة، فإن نسبه يثبت إلى الزاني بلا شك.

وليس في النصوص ما ينفي هذا، أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش) فهو بناء على الأصل، وحرص منه صلى الله عليه وآله وسلم على إثبات الأنساب، ولكن حديثنا هنا على امرأة ليست فراشا، ولذلك كان عمر يلحق الأنساب التي لا فراش لها، قال ابن عبد البر: (وقد ظن أن عمر كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم كان هناك فراش أم لا، وذلك جهل وغباوة وغفلة مفرطة، وإنما الذي كان عمر يقضي به أن يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم إذا لم يكن هناك فراش) (1)

وعلة ذلك هي حاجة الولد لنسب ينتمي إليه، فإن كان الفراش نسبا، فهو أشرف الأنساب، فلذلك إذا تنازع الزاني وصاحب الفراش قدم صاحب الفراش، لكن في حال عدم التنازع، فإن الولد لأبيه سواء كان صاحب الفراش أو غيره، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال هذا الحديث في حال ممارسته القضاء عند التنازع.

هذا عن الدليل الذي نراه كافيا لإثبات نسب ابن الزنى، ولا نرى الاكتفاء بالثبوت عند الادعاء، لقلة من يدعي ابن الزنا، بل نرى لولي الأمر أن يبحث في أنساب أبناء الزنى بالطرق المختلفة بشرط كونها جازمة، ثم إلحاقهم بآبائهم، خاصة مع توفر الوسائل العلمية التي تؤكد ذلك، رعاية لمقصد الشرع من حفظ الأنساب، وإلحاقها بأصحابها.

وقد يقول البعض بأن في هذا فتحا لمفسدة الفواحش، ونقول إجابة عن ذلك: بل هو سد لهذه المفسدة، وسد لأخطر آثارها:

أما كونه سدا للمفسدة، فإن الرجل إن علم بأن زناه قد يلاحقه بابن ينسب إليه قد يفتضح به أمره ربما يرعوي عن الفاحشة، فإن فعلها اجتهد في الوسائل التي تمنع حصول الحمل، فيكون ذلك درءا لمفسدة أخرى.

__________

(1) التمهيد: 8/ 193.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (86)

ثم إن الذين يعترضون بهذا لماذا يحملون المرأة، وهي طرف في هذه الخطيئة جريرة ما فعلت وحدها، وينزهون الرجل، فوصمة العار تبقى في المرأة طول الدهر، ولو أصبحت كرابعة تقى وورعا، بينما يتمسح بالرجل إن تلفظ بالاستغفار الذي يحتاج إلى استغفار.

أما كونها سدا لأخطر آثارها، فهو أن أخطر آثار الزنى هو اختلاط الأنساب، وإنتاج المشردين الذين قد يصبحون عالة على المجتمع، ويكون المجتمع سبب ما يحصل لهم، فكيف نرجو من ولد ندعوه ابن زنا، ونحرمه من أبسط حقوقه، وهو النسب، أن يرضى عن مجتمع ينظر إليه، وكأنه هو الخطيئة بعينها، مع أنه لا علاقة له بها، ولا إثم له فيها.

فلذلك كان أكبر ما يقدم لهؤلاء المظلومين والمشردين والباحثين عن أصولهم هو تمكينهم من ذلك، بل توفير ذلك لهم، فينتسبون إلى آبائهم، ويعولهم آباؤهم شاءوا أم أبوا، أما الاكتفاء برعايتهم رعاية مادية، فإن ذلك لا يسد الجوع الذي في نفوسهم لمعرفة جذورهم، ولا يلامون في ذلك فهو جبلة كل إنسان.

فإن لم يفعل ولي الأمر هذا، فإنا نرى أن الواجب على من انتسب إليه ولد بهذا الطريق أن يضمه إليه ويلحقه به، ولا تكمل توبته إلا بذلك، فلا معنى لأن يعمر المسجد، ويطقطق المسابح بيده، وولده يعمر المواخير، ويتيه في الشوارع، لا يجد أبا ينسبه إليه، ولا بيتا يحميه.

ثانيا ـ نفي النسب وشروطه

اتفق الفقهاء على أن الزوجة إذا ولدت ولدا يمكن كونه منه، فهو ولده في الحكم لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش). ولا ينتفي عنه إلا أن ينفيه باللعان التام، الذي اجتمعت شروطه والتي سنفصلها في الفصول القادمة، ويضاف إليها فيما يتعلق بنفي الولد الشروط التالية:

أن يذكر نفي نسب الولد إليه حال الملاعنة

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (87)

وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:

القول الأول: اعتبار هذا الشرط، فإذا لم يذكر، لم ينتف، إلا أن يعيد اللعان ويذكر نفيه، وعلى هذا، لا بد من ذكر الولد في كل لفظة، ومع اللعن في الخامسة؛ لأنها من لفظات اللعان، وهو قول الشافعية ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن من سقط حقه باللعان، كان ذكره شرطا، كالمرأة.

2 ـ أن غاية ما في اللعان أن يثبت زناها، وذلك لا يوجب نفي الولد، كما لو أقرت به، أو قامت به بينة.

3 ـ أن حديث سهل بن سعد، ورد فيه: (وكانت حاملا، فأنكر حملها) (1)

4 ـ عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وألحق الولد بالمرأة (2)، والزيادة من الثقة مقبولة.

القول الثاني: عدم اعتبار هذا الشرط، ولا يحتاج إلى ذكر الولد ونفيه، لأنه ينتفي بزوال الفراش، وهو رواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن حديث سهل بن سعد الذي وصف فيه اللعان، لم يذكر فيه الولد، وقال فيه: ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى ولدها.

2 ـ أن رجلا لاعن امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما، وألحق الولد بأمه (3).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على الأدلة الصحيحة الواردة فيه،

__________

(1): البخاري: 4/ 1772، ابن حبان: 10/ 114، أبو داود: 2/ 275، النسائي: 3/ 266.

(2) البخاري: 5/ 2036، ابن حبان: 10/ 122، البيهقي: 7/ 402، أبو داود: 2/ 278، ابن ماجة: 1/ 669، أحمد: 2/ 7.

(3) مسلم: 2/ 1132، البيهقي: 7/ 409، النسائي: 3/ 376، أحمد: 2/ 64.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (88)

أما الأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الثاني، فهي مطلقة فتحمل على التقييد الوارد في أحاديث أصحاب القول الأول، وقد أجاب ابن حجر على الحديث الثاني من أدلة القول الثاني على اعتبارهم الفاء سببية أي الملاعنة سبب الانتفاء بقوله: (فإن أراد أن الملاعنة سبب ثبوت الانتفاء فجيد، وإن أراد أن الملاعنة سبب وجود الانتفاء فليس كذلك، فإنه أن لم يتعرض لنفي الولد في الملاعنة لم ينتف، والحديث في الموطأ بلفظ وانتفى بالواو لا بالفاء) (1)

زيادة على أن رمي الزوجة بالزنى لا يدل على انتفاء ولده منها، لأنه خلاف الأصل، فالأصل أن الولد للفراش، فلذلك لا يصح الخروج عن الأصل إلا بدليل، وهو التصريح بنفي ولده.

بل نرى مع ذلك ـ والله أعلم ـ أن هذا التصريح يفيد في حال الشك في كون ابن اللعان من الزوج أو من الزاني، أما في حال توفر الوسائل الكفيلة بإزالة الشك، فإنه لا يصح اللعان بنفي الولد، إن ثبت نسبه من أبيه، ويبقى اللعان لدرء الحد، فالحد يدرأ باللعان، سواء حد القذف أم حد الرجم، أما النسب، فيمكن إثباته بالوسائل الكفيلة بذلك.

ونرى أن في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لولا الأيمان) دليل على ذلك، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث لم يعمل الشبه في نسبة ابن اللعان لأبيه لسببين:

1 ـ أن الشبه وحده ليس دليلا كافيا، بل هو محتمل، فلذلك لم يلحقه بناء على هذا الاحتمال الذي قد يتخلف، وإن صدق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رسول الله، قد لا يصدق مع غيره، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم مشرع لأمته، فلذلك لم يبن هذا الحكم على علمه، خشية الاقتداء به في ذلك.

2 ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن هذا بعد حصول اللعان، فلذلك لو أن التحري

__________

(1) فتح الباري: 9/ 460.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (89)

الدقيق بالوسائل الحديثة أدت إلى التعرف على نسبة الابن قبل اللعان، صح ذلك، وكان فيه إثبات نسب قبل اللعان.

زيادة على أن نفي الأب لابنه قد يكون لغلبة شكه، فلذلك إن أزيل هذا الشك بما ينفيه نفيا جازما لم يستطع أن يتبرأ منه، بل قد يكون ذلك سببا لترك اللعان مطلقا، وعودة الزوج لزوجته، أو الاكتفاء بتطليقها، وهو من المقاصد الشرعية في اللعان كما سنرى في محله.

وقد تعرض ابن القيم لهذا التجاذب بين اللعان الذي يقتضي نفي النسب، وبين الشبه الذي يقتضي إثباته، فقال: (فإن قيل: فالنبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم قد حكم بعدَ اللعان، ونفى الولد بأنه إن جاء يُشبِهُ الزوجَ صاحبَ الفراش فهو له، وإن جاء يُشبه الذي رميت به، فهو له، فما قولُكم في مثل هَذه الواقعة إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها، ثم جاء الولدُ يُشبهه، هل تُلحِقُونه به بالشبه عملاً بالقافة، أو تحكمون بانقطاع نسبه منه عملاً بموجب لعانه؟) (1)

وأجاب بما يبين حقيقة هذا التعارض، وأن كل الاعتبارات فيه ممكنة، فقال جوابا عن الإشكال السابق: (هذا مجال ضَنكٌ، وموضع ضيق تجاذب أعِنتَه اللعانُ المقتضي لانقطاع النسب، وانتفاء الولد وأنه يُدعى لأمه ولا يدعى لأب، والشبه الدال على ثبوت نسبه من الزوج، وأنه ابنُه، مع شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها إن جاءت به على شبهه، فالولدُ له، وأنه كذب عليها، فهذا مضيق لا يتخَلصُ منه إلا المستبصرُ البصير بأدلة الشرع وأسراره، والخبيرُ بجمعه وفرقهِ الذي سافرت به هِمتُه إلى مطلع الأحكام، والمشكاة التي منها ظهر الحلالُ والحرام) (2)

ومرادنا من هذا أن المسألة محتملة لكلا الوجهين فلذلك لا حرج من اعتبار ما

__________

(1) زاد المعاد: 5/ 381.

(2) زاد المعاد: 5/ 381.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (90)

ذكرناه، فهو من الوجوه المحتملة، ولو أن ابن القيم رجح وجها آخر عبر عن بقوله: (والذي يظهر في هذا، والله المستعان وعليه التكلان، أن حكم اللعان قطع حكم الشبه، وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفِهما، فلا عبرة للشبه بعد مضي حكم اللعان في تغيير أحكامه، والنبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُخبِر عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم اللعان، وإنما أخبر عنه، ليتبين الصادقُ منهما من الكاذب الذي قد استوجبَ اللعنة والغضب، فهو إخبار عن أمر قدري كوني يتبين به الصادقُ مِن الكاذب بعد تقرر الحكم الديني، وأن الله سبحانه سيجعل في الولد دليلاً على ذلك، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك بعد انتفائهِ من الولد، وقال: (إِن جَاءَت بِهِ كذا وكذا، فَلَا أُرَاهُ إِلا صَدَقَ عَلَيها، وَإِن جَاءَت بِهِ كَذَا وَكَذَا، فَلَا أُرَاهُ إِلا كَذَبَ عَلَيها)، فجاءت به على النعت المكروه، فعلم أنه صَدَقَ عليها، ولم يَعرِض لها، ولم يفسخ حكم اللعان، فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها) (1)

وما ذكره ابن القيم من عدم انتفاء اللعان صحيح لأن من مقاصد اللعان درء الحد، فلذلك لا يفسخ اللعان، ولا يقام على الرجل أو المرأة الحد حتى لو ثبت صدق أحدهما، وإنما الذي ذكرناه هو أمر له علاقة بالنسب حرصا على إثباته لأهله لتشوف الشرع لإثبات الأنساب، وهو أمر تبعي للعان وأثر من آثاره، فلذلك يمكن تخلفه، بل يتحرى القاضي لإزالته، فهو أخطر آثار اللعان.

ولو أن ابن القيم اطلع على دقة الوسائل الحديثة في إثبات الأنساب لقال بما ذكرنا، فإن النصوص الشرعية جعلته محتملا لاحتمال الوسائل التي كانت موجودة حينذاك، فإذا زال الوهم عن الوسيلة وتحقق بها المقصود تحققا يقينيا، عاد الحكم إلى أصله، والأصل في هذا الباب عودة الأنساب إلى أصحابها.

__________

(1) زاد المعاد: 5/ 381.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (91)

أن لا يكذب الزوج نفسه بعد اللعان

اتفق الفقهاء على أن الزوج الملاعن إن كذب نفسه بعد اللعان، وتبين له خطؤه، فإن ولده يلحق به، وقد اختلف في حقه في استلحاق الولد بعد موته على قولين:

القول الأول: يلحقه نسب الولد مطلقا، حيا كان الولد أو ميتا، غنيا كان أو فقيرا، وهو قول الشافعي، وأبي ثور والحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن هذا ولد نفاه باللعان، فكان له استلحاقه، كما لو كان حيا، أو كان له ولد.

2 ـ أن النسب لا تمنع التهمة لحوقه، بدليل أنه لو كان له أخ يعاديه، فأقر بابن، لزمه، وسقط ميراث أخيه، ولو كان الابن حيا وهو غني، والأب فقير، فاستلحقه، فهو متهم في إيجاب نفقته على ابنه، ومع ذلك يقبل قوله، فكذلك هاهنا.

القول الثاني: يلحقه نسب الولد بقيود معينة، فقيده الثوري بقوله: (إذا استلحق الولد الميت نظرنا؛ فإن كان ذا مال، لم يلحقه؛ لأنه إنما يدعي مالا، وإن لم يكن ذا مال، لحقه)

وقيده الحنفية بأنه إن كان الولد الميت ترك ولدا، ثبت نسبه من المستلحق، وتبعه نسب ابنه، وإن لم يكن ترك ولدا، لم يصح استلحاقه، ولم يثبت نسبه، ولا يرث منه المدعي شيئا؛ لأن نسبه منقطع بالموت، فلم يصح استلحاقه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ثبوت النسب بالاستلحاق بشروط نعرفها في محلها من هذا الفصل.

أن لا تكون الزوجة مكرهة على الزنا

ولو في طهر لم يمسها فيه، وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (92)

القول الأول: إن أكرهت زوجته على الزنا في طهر لم يصبها فيه، فأتت بولد يمكن أن يكون من الواطئ، فهو منه، وليس للزوج قذفها بالزنا، وهو قول الحنفية ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن هذا ليس بزنا منها.

2 ـ أن نفي الولد لا يكون إلا باللعان، ومن شرط اللعان القذف.

3 ـ أن اللعان لا يتم إلا بلعان المرأة، ولا يصح اللعان من المرأة هنا؛ لأنها لا تكذب الزوج في إكراهها على ذلك.

القول الثاني: أن له نفيه باللعان، وهو قول الشافعي ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه محتاج إلى نفيه، فشرع له اللعان طريقا إليه، كما لو طالبته.

2 ـ أن نفي النسب الباطل حق له، فلا يسقط برضاها به، كما لو طالبت باللعان ورضيت بالولد.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التحري بالوسائل الدقيقة في حال الشك، كما ذكرنا سابقا، حتى لا ينسب الابن لغير أبيه، وحتى يزول ألم الشك عن الأب ببرد اليقين، لأن الأب الذي يشك في نسبة ابنه إليه لا يمكنه أن يتعامل معه معاملة أبوية محضة، فلذلك يحتاج لإزالة هذا الشك إما بإثباته له أو بإثباته لأبيه من الزنا.

أن تضع الحمل

فلا يصح نفي الحمل قبل الوضع، وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على الأقوال التالية:

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (93)

القول الأول: لا ينتفي الحمل بنفيه قبل الوضع، ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع، فإن لاعنها وهي حامل، ثم أتت بالولد لزمه، ولم يتمكن من نفيه، وهو قول أبي حنيفة وقول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن الحمل غير مستيقن، فيمكن أن يكون حملا وهميا، فيصير نفيه مشروطا بوجوده، ولا يجوز تعليق اللعان بشرط.

2 ـ ثبوت الولد له إن لاعنها حال الحمل بسبب أن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين، وهي قد بانت منه بلعانها في حال حملها.

القول الثاني: يصح نفي الحمل، وينتفي عنه، وهو قول مالك، والشافعي، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ ما ورد في حديث هلال من أنه نفى حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألحقه بالأول. ولا خفاء بأنه كان حملا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (انظروها، فإن جاءت به كذا وكذا) (1)

2 ـ الآثار الكثيرة الدالة على ذلك من السلف.

3 ـ أن عدم القول بذلك فيه إلزام الزوج ولدا ليس منه، وسد باب الانتفاء من أولاد الزنا، مع أن الله تعالى قد جعل له إلى ذلك طريقا، فلا يجوز سده.

4 ـ أن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولهذا ثبتت للحامل أحكام تخالف بها الحائل: من النفقة، والفطر في الصيام، وترك إقامة الحد عليها، وتأخير القصاص عنها وصحة استلحاق الحمل، فكان كالولد بعد وضعه.

القول الثالث: إن كانت المرأة الملاعنة حاملا فبتمام الالتعان منهما جميعا ينتفي عنه الحمل ذكره أو لم يذكره، إلا أن يقر به فيلحقه ولا حد عليه في قذفه لها مع إقراره بأن حملها منه إذا التعن، فلو صدقته هي فيما قذفها به، وفي أن الحمل ليس منه حدث، ولا ينتفي عنه

__________

(1) أخرجه أحمد 3/ 142 (12477) ومسلم 3750.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (94)

ما ولدت، بل هو لاحق به، فإن لم يلاعنها حتى وضعت حملها فله أن يلاعنها لدرء الحد عن نفسه، وأما ما ولدت فلا ينتفي عنه بعد أصلا، وهو قول ابن حزم، وهو الموضع الوحيد لنفي الولد عنده (1).

وقد استدل لذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش)، قال ابن حزم: (فصح أن كل من ولد على فراشه ولد فهو ولده إلا حيث نفاه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس هو ولده، ولم ينفه صلى الله عليه وآله وسلم إلا وهي حامل باللعان فقط، فيبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب)

ولهذا الاعتبار قال بأن الزوجة إن صدقته في أن الحمل ليس منه، فإن تصديقها له لا يلتفت إليه، بناء على تغليب اعتبار النسب، فهو حق متعد، ليس قاصرا على الأبوين، فلذلك لا حق لهما في نفيه، واستدل لذلك بقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام:164)، قال: (فوجب أن إقرار الأبوين لا يصدق على نفي الولد، فيكون كسبا على غيرهما، وإنما نفى الله تعالى الولد إن كذبته الأم والتعنت هي والزوج فقط، فلا ينتفي في غير هذا الموضع) (2)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ثبوت حق الزوج في اللعان لنفي الولد الذي شك فيه سواء كانت زوجته حاملا أو غير حامل بالشروط التي ذكرناها سابقا من تقديم التحري، واللعان في هذه الحالة، لا يكون لنفي الولد بل لدرء الحد، إلا إذا لم تفلح الوسائل في التعرف على صحة النفي، أو لم توجد، فحينذاك يمكن الالتعان لنفي الولد.

فلذلك فإن القول الثاني هو الأرجح لتصريح الأدلة به، قال ابن قدامة: (وهذا القول

__________

(1) المحلى: 9/ 332.

(2) المحلى: 9/ 332.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (95)

هو الصحيح؛ لموافقته ظواهر الأحاديث وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنا ما كان) (1)

وقد فصل ابن القيم موضع الالتعان في هذه الحالة بقوله: (هذا موضعُ تفصيل لا بُد منه، وهو أن الحملَ إن كان سابقاً على ما رماها به، وعلم أنها زنت وهي حامل منه، فالولد له قطعاً، ولا ينتفي عنه بلعانه، ولا يَحِلُّ له أن ينفيَه عنه في اللعان، فإنها لما علقت به، كانت فراشاً له، وكان الحملُ لاحقاً به، فزناها لا يُزيل حكم لحوقه به، وإن لم يعلم حملَها حالَ زناها الذي قد قذفها به، فهذا ينظر فيه، فإن جاءت به لأقل مِن ستة أشهر من الزنى الذي رماها به، فالولدُ له، ولا ينتفي عنه بلعانه، وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من الزنى الذي رماها به، نظر، فإما أن يكون استبرأها قبل زناها، أو لم يستبرئها، فإن كان استبرأها، انتفى الولد عنه بمجرد اللعان، سواء نفاه، أو لم ينفه، ولا بُد من ذِكره عند من يشترط ذِكره، وإن لم يستبرئها، فهاهنا أمكن أن يكون الولدُ منه، وأن يكون من الزاني، فإن نفاه في اللعان، انتفى، وإلا لحق به، لأنه أمكن كونُه منه ولم ينفه) (2)

وما ذكره ابن القيم من التفصيل يدل على تشديد الشرع في اللعان المتعلق بنفي الولد، بخلاف اللعان لدرء الحد، لاختلاف المقصد في كليهما، وهو يؤيد بذلك ما ذكرناه سابقا من تقديم التحري على اللعان.

التصريح بنفيه عند الوضع

وهو أن يصرح بنفيه حال اللعان وبعد الوضع، فإن سكت عن نفيه، مع إمكانه، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على الأقوال التالية:

القول الأول: له تأخير نفيه مدة، وقد اختلفوا في تقدير هذه المدة، فقدرها أبو حنيفة

__________

(1) المغني: 8/ 61.

(2) زاد المعاد: 5/ 380.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (96)

باليوم واليومين، لأن النفي عقيب الولادة يشق، فقدر باليومين لقلته، وقدرها أبو يوسف ومحمد بمدة النفاس؛ لأنها جارية مجرى الولادة في الحكم، وحكي عن عطاء، ومجاهد، أن له نفيه ما لم يعترف به فكان له نفيه، كحالة الولادة.

القول الثاني: إن سكت عن نفيه، مع إمكانه التصريح بنفيه لزمه نسبه، ولم يكن له نفيه بعد ذلك، وهو قول الشافعية والحنابلة، ولا يتقدر ذلك عندهم بزمن، بل هو على ما جرت به العادة، إن كان ليلا فحتى يصبح وينتشر الناس، وإن كان جائعا أو ظمآن فحتى يأكل أو يشرب، أو ينام إن كان ناعسا، وأشباه ذلك من أشغاله، فإن أخره بعد هذا كله، لم يكن له نفيه، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه خيار لدفع ضرر متحقق، فكان على الفور، كخيار الشفعة.

2 ـ أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش) (1) عام خرج منه ما وردت به السنة الثابتة، وبقي ما عداه على عموم الحديث.

3 ـ أن ما ذكره المخالفون من آجال تحكم لا دليل عليه.

القول الثالث: أنه ليس له نفيه بعد الوضع، وهو قول ابن حزم، وقد سبق ذكر أدلته في المسألة السابقة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن التأخر عن نفيه بعد الوضع، وبعد توفر الأسباب الكافية للعانه تهمة تقتضي المزيد من التحري، زيادة على التحري الذي ذكرناه سابقا.

أعذار التأخر عن التصريح بالنفي وأحكامها:

نص الفقهاء (2) القائلون باشتراط الفورية في اعتبار تعلله بالجهل، على الحالات التي

__________

(1) الترمذى (4/ 434، رقم 2121) وقال: حسن صحيح. وغيره.

(2) المغني:8/ 61.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (97)

يمكن اعتبارها وعدم اعتبارها، وهذه خلاصة ما ذكروا من ذلك (1):

تعلله بالجهل بالولادة: فيتعلل بأنه لم يعلم بالولادة، فيصدق إن كان في موضع يخفى عليه ذلك، مثل أن يكون في بلدة أخرى، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العلم، أما إن كان معها في الدار فلا يقبل منه ذلك، لأنه لا يكاد يخفى عليه.

تعلله بالجهل بحقه في نفيه: بأن يقول: علمت ولادته، ولم أعلم أن لي نفيه، أو علمت ذلك، ولم أعلم أنه على الفور، فينظر إلى علمه وفقهه، فإن كان ممن يخفى عليه ذلك، كعامة الناس، قبل، أما إن كان فقيها، فلا يقبل ذلك منه؛ إلا إذا خفيت عليه مثل هذه الأحكام.

تعلله بالعذر الذي يمنعه من الحضور لنفيه: كالمرض أو العمل، وفي هذه الحالة ينظر إلى مدة تأخره، فإن كانت قصيرة لم يبطل نفيه، أما إن كانت طويلة وأمكنه التنفيذ إلى الحاكم ليبعث إليه من يستوفي عليه اللعان والنفي، فلم يفعل، سقط نفيه إلا إذا أشهد على نفسه أنه ناف لولد امرأته، فإن لم يشهد، بطل خياره.

تعلله بعدم تصديق المخبر له بولادة زوجته: وينظر في هذه الحالة إلى مدى استفاضة الخبر وانتشاره، فإن كان مستفيضا منتشرا، لم يقبل قوله، أما إن لم يكن مستفيضا، وكان المخبر غير عدل فإنه يقبل منه هذا العذر.

تعلله بالستر على نفسه وعلى زوجته: إن ادعى تأخير نفيه رجاء موت الولد ليستر عليه وعلي نفسه لم يقبل عذره، لأنه أخر نفيه مع الإمكان لغير عذر.

التصريح بالقذف مع نفي النسب

فإذا وجد نفي النسب وحده دون القذف، فإن له في ذلك أحكاما خاصة ترجع إلى

__________

(1) انظر: المبدع: 8/ 96، الإنصاف للمرداوي: 9/ 256، كشاف القناع: 5/ 404، المغني: 8/ 62، المهذب: 2/ 122، إعانة الطالبين: 3/ 390.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (98)

تعبيره في نفي ولده، ومن الأمثلة التي ذكرها الفقهاء لعدم التصريح قوله عن ولده: ليس هذا الولد مني، فلا حد عليه في هذه الحالة لاحتمال أنه يريد أنه من زوج آخر، أو من وطء بشبهة، أو غير ذلك، ولهذا يسأل عن مراده، ويصدق في إخباره عن نفسه، ولا يحد أو يطالب باللعان إلا في حالة واحدة، وهي أن يصرح بزناها، فإن قالت الزوجة: بل أردت قذفي، فالقول قوله؛ لأنه أعلم بمراده.

وقد اختلف الفقهاء هنا في المسائل التالية:

ادعاء حصول الإكراه للزوجة على الزنا

لو ادعى أنها أكرهت على الزنا (1)، فهل يلاعن لأجل نفي ولده منها، أم لا يلاعن، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: لا يطالب باللعان لأنه لم يقذفها، ومن شرط اللعان القذف، ويلحقه نسب الولد، وهو قول الحنفية وقول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن اللعان إنما ورد به الشرع بعد القذف، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} (النور:6)

2 ـ لما لاعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين هلال وامرأته كان بعد قذفه إياها، وكذلك لما لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته كان بعد قذفه إياها.

3 ـ أن نفي اللعان إنما ينتفي به الولد بتمامه منهما، ولا يتحقق اللعان من المرأة هاهنا.

القول الثاني: أن له اللعان، وهو قول الشافعي وقول عند الحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم اللعان، مع التحري في نسب الولد، لأن مقصد

__________

(1) مع اتفاقهم على أنه لا حد عليه في ذلك لأنه ليس قذفا.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (99)

اللعان درء الحد، وفي هذه الحالة يدرأ الحد عنها إن نكلت عن اللعان باعتبارها مكرهة، أما التحقق من نسب الولد، فلنفي الشك كما ذكرنا سابقا.

ادعاء حصول الوطء بشبهة

لو صرح بأنها موطوءة بشبهة مع ادعائه علمها بذلك، وقد اتفق الفقهاء على أنه قد قذفها بذلك، ولكنهم اختلفوا في حقه في لعانها لنفي نسب ولدها على قولين:

القول الأول: ليس له نفيه باللعان، وهو قول الشافعية وقول عند الحنابلة، لأنه يمكنه نفي نسبه بعرضه على القافة.

القول الثاني: أن له اللعان لنفي نسب الولد منها، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه رام لزوجته، فيدخل في عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} (النور:6)

2 ـ أنه قد تتعذر القافة، وقد لا يعترف الرجل بما نسب إليه، أو يغيب أو يموت، فلا ينتفي الولد.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أنه ليس له نفي الولد باللعان، بل له أن يستعمل في ذلك وسائل التتحقق الشرعية، وهي متيسرة ويقينية في عصرنا.

ادعاء عدم ولادة الزوجة

لو قال لزوجته: ما ولدته وإنما التقطته أو استعرته، وخالفته المرأة في ذلك، وقد اختلف الفقهاء في أيهما يصدق، واختلفوا بناء على ذلك في حقه في لعانها لنفي النسب على قولين:

القول الأول: القول قول الرجل، ولا يقبل قول المرأة إلا ببينة وهي امرأة مرضية،

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (100)

تشهد بولادتها له، فإذا ثبتت ولادتها له، لحقه نسبه؛ لأنه ولد على فراشه، والولد للفراش، وهو قول الشافعي وأبي ثور والحنفية وقول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها، والأصل عدمها، فلم تقبل دعواها من غير بينة، كالدين.

القول الثاني: أن القول قول المرأة، وهو قول عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (البقرة:228)، وتحريم كتمانه دليل على قبول قولها فيه.

2 ـ أنه خارج من المرأة، تنقضي به عدتها، فقبل قولها فيه، كالحيض.

3 ـ وعلى هذا القول فإن النسب لاحق به إلا أن ينفيه باللعان، فقد اختلف فيه على وجهين:

4 ـ ليس له نفيه؛ لأن إنكاره لولادتها إياه، إقرار بأنها لم تلده من زنا، فلا يقبل إنكاره لذلك، لأنه تكذيب لنفسه.

5 ـ أن له نفيه؛ لأنه رام لزوجته، وناف لولدها، فكان له نفيه باللعان، كغيره.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن القول في هذه الحالة هو قول البينة، وهي التأكد من صحة نسبة الولد لأبيه، ولا يصح اللعان في هذا، لأن اللعان مرتبط بالقذف، والزوج لم يقذفها، وإنما اتهمها، فإن تعذرت البينة أو لم تكن جازمة، فإن الولد للفراش.

ثالثا ـ مسائل معاصرة تتعلق بنسب الولد

لقد حدثت في عصرنا بسبب التقدم العلمي والتقني كثير من الوسائل التي يتم بواسطتها الحمل، ولها علاقة بهذا الجانب، وذلك يستدعي البحث عن أحكامها في ضوء الضوابط الشرعية لإثبات الأنساب، وهذا ما سنحاول طرحه في هذا المطلب:

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (101)

1 ـ شتل الجنين

والصورة العلمية لهذا ـ كما يذكر المختصون ـ هو أنه يتم شفط البويضة من مبيضها خلال منظار يخترق جدار البطن، ثم تلقيح هذه البويضة بمني من الزوج يلتحم بها ليكونا بيضة تشرع في الانقسام إلى عديد من الخلايا ثم إيداع هذه الكتلة من الخلايا أي الجنين الباكر رحم امرأة أخرى بعد إعداده هرمونيا لاستقبال جنين، فيكمل الجنين نموه في رحم هذه السيدة المضيفة حتى تلده وتسلمه لوالديه اللذين منهما تكون.

ويتعلق بهذا النوع من الحمل بغض النظر عن مدى واقعيته حاليا، نوعان من الأحكام، يرتبط أحدهما بالتكليف الشرعي، ويتعلق الآخر بأثر هذا النوع من الحمل في حال حصوله، وبيانهما فيما يلي:

الحكم التكليفي

الظاهر من النصوص الشرعية والأدلة العقلية حرمة هذا النوع من الحمل، وقد قال بهذه الحرمة من المعاصرين يوسف القرضاوي الذي سئل منذ فترة طويلة (1) عن هذه المسألة فأجاب بالقول بالحرمة، وعلل فتواه بما نلخصه فيما يلي:

أن فيها إفسادا لمعنى الأمومة

لأن الأم الحقيقية ـ حسب هذه المسألة ـ هي صاحبة البويضة الملقحة، التي منها يتكون الجنين، فهي التي ينسب إليها الطفل، وهي الأحق بحضانته، وهي التي تناط بها جميع أحكام الأمومة وحقوقها من الحرمة والبر والنفقة والميراث وغيرها، وكل دور هذه الأم في صلتها بالطفل أنها أنتجت بويضة أفرزتها بغير اختيارها، وبغير مكابدة ولا مشقة عانتها في إفرازها.

__________

(1) وذلك في مجموعة أسئلة علمية وجهها له د. حسن حتحوت، عبر مجلة العربي.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (102)

أما المرأة التي حملت الجنين في أحشائها وغذته من دمها، حتى غدا بضعة منها، واحتملت في ذلك مشقات الحمل، فلا تعدو أن تكون مجرد مضيفة أو حاضنة تحمل وتتألم وتلد، فتأتي صاحبة البويضة، فتنتزع مولودها من بين يديها، دون مراعاة لما عانته من آلام، وما تكون لديها من مشاعر، وكأنها مجرد أنبوب من الأنابيب لا إنسان ذو عواطف وأحاسيس.

وقد دلت النصوص على أن حق الأمومة ناتج عما تتحمله الأم من أعباء الحمل، ومتاعب الوضع، فهي التي نوه بها القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (لقمان:15)

أن الأم هي الوالدة لغة وشرعا

ففي اللغة يعبر عن الأم بوصف يعبر عنها وعن حقيقة صلتها بطفلها هو الوالدة، وسمى الأب الوالد مشاكلة للأم، وسميا معا الوالدين على سبيل التغليب للأم الوالدة الحقيقية، أما الأب فهو في الحقيقة لم يلد، إنما ولدت امرأته.

وفي الشرع نرى القرآن الكريم يحصر حقيقة الأمومة في الولادة بنص حاسم، فيقول في تخطئة المظاهرين من نسائهم: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُور} (المجادلة:2)

ومن السنة روي عن عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت أحق به ما لم تنكحي) (1)

__________

(1) الحاكم: 2/ 225 البيهقي: 8/ 4، أبو داود: 2/ 283، وسيأتي الحديث عنه بتفصيل في الفصل الخاص بآثار حل العصمة الزوجية من الجزء الثالث.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (103)

ولأجل هذا أعطى الشرع حق الحضانة للأم وقدمها على الأب، وجعلها أحق بطفلها منه، لما ذكرته هذه المرأة الشاكية من أسباب وحيثيات تجعلها أحنى على الطفل وأرفق به وأصبر على حضانته من أبيه، فقد صبرت على ما هو أشد وأقسى من الحضانة، حين حملته كرها ووضعته كرها.

مراعاة القواعد الشرعية النافية للضرر

وخاصة قاعدتين هما: إن الضرر يزال بقدر الإمكان، وأن الضرر لا يزال بالضرر، فإذا طبقنا هاتين القاعدتين على الواقعة التي معنا، نجد أننا نزيل ضرر امرأة -هي المحرومة من الحمل- بضرر امرأة أخرى، هي التي تحمل وتلد، ثم لا تتمتع بثمرة حملها وولادتها وعنائها. فنحن نحل مشكلة بخلق أخرى.

سد الذرائع

لأن هذا الباب إذا فتح، سيدخله كل ذات مال من ربات الجمال والدلال، ممن تريد أن تحافظ على رشاقتها، فما أيسر عليها أن تستأجر مضيفة تحمل لها، وتلد عنها، وترضع بدلها، وتسلم لها بعد ذلك ولدا جاهزا تأخذه بيضة مقشورة، ولقمة سائغة، لم يعرق لها فيه جبين، ولا تعبت لها يمين، ولا انتفض لها عرق.

وإذا كان مبيض الأنثى يفرز كل شهر قمري بويضة صالحة -بعد التلقيح- ليكون منها طفل، فليت شعري ما يمنع المرأة الثرية أو زوجة الثري أن تنجب في كل شهر طفلا مادام الإنجاب لا يكلفها حملا ولا يجشمها ولادة.

ويستطيع الرجل الثري أيضا أن يكون له جيش من الأولاد بعد أن يتزوج من النساء مثنى وثلاث ورباع، يمكن لكل واحدة أن تنجب حوالي 500 خمسمائة من البنين والبنات بعدد ما تنتج من البويضات، طوال مدة تبلغ أو تتجاوز الأربعين عاما من سن البلوغ إلى سن اليأس.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (104)

هذا خلاصة ما ذكره القرضاوي في حكم هذه المسألة من الناحية التكليفية، ولا شك في هذه الحرمة، ولكنها مع ذلك قد تنتفي في أحوال خاصة تدعو إليها الضرورة وتمس إليها الحاجة، وذلك مثل أن يكون بالمرأة عيب في رحمها يحول بينها وبين الحمل مع الرغبة الشديدة فيه، ووجدت امرأة سليمة تقبلت استضافة حملها بدون استغلال لها، وإنما تطوعت به رعاية لها، وكان ذلك عند طبيب ثقة خبير فلا حرج في هذه الحالة من هذا على أن يبقى في حدود الضرورة الملحة، والأولى اجتناب هذا السبيل والرضى بالقسمة الإلهية.

وقد ذكر الشيخ القرضاوي جملة من الشروط في حال الحاجة إلى مثل هذا النوع من الحمل المحرم، وهذه الشروط هي:

1 ـ يجب أن تكون الحاضنة امرأة ذات زوج، إذ لا يجوز أن تعرض الأبكار والأيامى للحمل بغير زواج، لما في ذلك من شبهة الفساد.

2 ـ. يجب أن يتم ذلك بإذن الزوج، لأن ذلك سيفوت عليه حقوقا ومصالح كثيرة، نتيجة الحمل والوضع، وإذا كان الحديث ينهى المرأة أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، فكيف بحمل يشغل المرأة تسعة أشهر ونفاس قد يستغرق أربعين يوما؟

3 ـ يجب أن تستوفي المرأة الحاضنة العدة من زوجها، خشية أن يكون برحمها بويضة ملقحة، فلا بد أن تضمن براءة رحمها، منعا لاختلاط الأنساب.

4 ـ نفقة المرأة الحاضنة وعلاجها ورعايتها، طوال مدة الحمل والنفاس، على أب الطفل ملقح البويضة -أو وليه من بعده، لأنها تغذيه من دمها، فلا بد أن تعوض عما تفقد، وقد قال تعالى في شأن المطلقات: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6) وقال في شأن المرضعات: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:233) ثم قال: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (البقرة:233)

5 ـ جميع أحكام الرضاعة وآثارها تثبت هنا من باب قياس الأولى، لأن هذا إرضاع

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (105)

وزيادة، إلا فيما يتعلق بزوج المرأة الحاضنة، فهناك في الرضاع يعتبر أبا لمن أرضعته أمه إذا كان اللبن من قبله، لأن التغيرات التي تحدث بجسم المرأة أثناء الحمل، وبعد الوضع من إدرار اللبن ونحوه بسبب الولد أو الجنين الذي كان لماء الرجل دخل أساسي في تكوينه.

6 ـ أن زوج المرأة الحاضنة أو المضيفة ليس له أي علاقة بالجنين أو الوليد.

7 ـ إن من حق هذه الأم الحاضنة أن ترضع وليدها إن تمسكت بذلك، فإن ترك اللبن في ثديها دون امتصاص قد يضرها جسميا، كما يضرها نفسيا، وليس من مصلحة الطفل أن يجري الله له الحليب في صدر أمه، ثم يترك عمدا ليغذى بالحليب الصناعي، وقد جعل الله الرضاع مرتبطا بالولادة فقال: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة:233)

8 ـ أن هذه الأمومة -إن حدثت- يجب أن تكون لها مزايا فوق أمومة الرضاع، ومن ذلك إيجاب نفقة هذه الأم على وليدها إذا كان قادرا واحتاجت هي إلى النفقة.

الحكم الوضعي

وهو البحث في نسب الولد هل هو لأمه أم لمضيفته، وقد يقال هنا بادئ الرأي أن أم الولد هي صاحبة البييضة، لأن أصل الولد منها، وسوف يرث خصائص البييضة، وصاحبة الرحم لا تعطيه إلا غذاء كالمرضعة ولا تعطيه أي توريث لأي صفة وراثية، ولكن الأدلة الشرعية والكشوفات العلمية تنفي هذا الاعتبار الذي يدل عليه ظاهر المسألة، وينفيه باطنها:

فقد نص العلماء على أنه لا دليل يقطع بعدم تأثير الرحم في حال الجنين وتوريث الخصائص، فربما يقف الطب يوما ما على نوع ذلك التأثير، بل قال بعض الأطباء: (إن الولد في الحقيقة بصرف النظر عن أصل البييضة ليس فقط نتاج الكروموزمات الوراثية فقد ثبت طبياً الآن ـ وهو الاتجاه الطبي الجديد ـ أن الإنسان نتاج العوامل الوراثية وتفاعلها مع البيئة

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (106)

المحيطة، وأشد هذه البيئات التصاقا به هو رحم أمه، فبصرف النظر عن الكروموزومات التي تحمل الشفرة الوراثية، إلا أن هذا السلوك الوراثي يتأثر بالبيئة... فيمكن أن يكون الطفل يحمل كروموزومات المبيض الأصل الذي استنبط منه، ولكن وجوده وتكونه وتغيره صحياً وجسمياً ـ وقد يكون والله أعلم نفسياً ـ متأثر بالرحم الذي حمل فيه) (1)

زيادة على هذا الدليل العلمي الذي لا يزال يحتاج إلى تأكيد أكثر، فإن ظاهر الكثير من الآيات القرآنية يدل على اعتبار كون الأم هي الوالدة كقوله تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} (النجم:32)، وقوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (لقمان:15)، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} (النحل:78)، وقوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} (الزمر:6)، وقوله: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (المجادلة:2)، وهذه الآية الأخيرة لمكان أوضح دلالة من غيرها على المطلوب، فقد حصرت الأمهات في الوالدات.

ولعل هناك من يتوهم من أن المراد بالحصر هنا إنما هو بالنسبة إلى الأزواج المظاهرين لا بالنسبة إلى غيرهم، لكن هذا يتنافى مع الأخذ بإطلاق الآية، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه.

ومع ذلك تبقى المسألة موضع بحث فيما يتعلق بالنسب فيما لو تنازعته صاحبة البييضة والأم المضيفة، أما الحرمة، فلا شك فيها قياسا على الحرمة بسبب الرضاع، وهي هنا من باب أولى، فالجنين لا يتغذى من لبنها فقط، وإنما يتغذى من لحمها ودمها.

2 ـ أطفال الأنابيب

من الأسباب الرئيسية لعدم الإنجاب في المرأة ـ كما يقرر الأطباء ـ هو انسداد البوقين،

__________

(1) الانجاب في ضوء الاسلام:231.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (107)

ويحدث ذلك في حدود 40 بالمئة، ومنذ سنوات بدأت محاولات في التغلب على مشكلة انسداد البوقين في المرأة، وذلك بطريقتين (1):

الطريقة الأولى: استبدال الأنبوبة المسدودة بأخرى سليمة وطبيعية ومفتوحة من امرأة أخرى، وفي عملية النقل التي تستغرق ساعات طويلة يتم تغذية الأنبوبة بالمحاليل بواسطة الأوعية الدموية التي تتصل بها وتغذيها (2).

الطريقة الثانية: عملية طفل الأنابيب التي نجحت في 1978 في انجلترا.

ولهذه الطريقة الثانية من الحمل أحوال مختلفة، بحسب نسبة الحيوان المنوي أو البييضة، ولهذا علاقة بأحكام النسب، وسنتكلم عن هذه الأحوال وعن أحكامها التكليفية والوضعية فيما يلي:

الحالة الأولى: أن يكون طفل الأنبوب من الحيوان المنوي للزوج وبييضة الزوجة، فهذا مما لا خلاف في جوازه شرعا، سواء كانت لنقص في المرأة أو بغير عذر، ويلحق الولد بالزوجين.

الحالة الثانية: التحام الحيوان المنوي مع بيضة امرأة أجنبية، ثم نقلها من الأنبوبة إلى رحمها، وقد اتفق الفقهاء على عدم جواز هذه العملية، وقد استدل بعض العلماء على ذلك من القرآن الكريم بقوله - جل جلاله -: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (المؤمنون:5، 6) وقوله - جل جلاله -: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} (الأحزاب:35) بناءً على عدم الفرق في حفظ الفرج بين الرجال والنساء،

__________

(1) انظر: الفقه والمسائل الطبية:85.

(2) رؤية إسلامية لزراعة بعض العضاء البشرية: 453.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (108)

وحفظ الفرج مطلق يشمل حفظه عن فرج الآخر ومنيه (1).

أما بالنسبة للنسب، وهو الحكم الوضعي لهذه الحالة، فإن الولد ولد المرأة لأنها صاحبة البييضة وهي الحامل، وهي الوالدة فيترتب عليهما جميع أحكام الولد والأم، أما بالنسبة إلى الأبوة، فإن اشتبه الحال بين استناد الولد إلى الزوج الأجنبي، فالولد ولد الزوج لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) (2)

أما إن لم يشتبه الحال، بل علم أن الولد من نطفة الأنبوبة المفروضة أنها من الأجنبي كما إذا كان الزوج غائباً أو علم عدم قربه منها وإن كان حاضراً أو كانت المرأة غير مزوجة فلا شك هنا في عدم ثبوته له، بل نسبه يثبت لصاحب النطفة واقعا وشرعا كما رجحنا ذلك سابقا.

الحالة الثالثة: نقل البييضة الملقحة ـ سواء كانت من الزوجين كما في الحالة الأولى أو من غيرهما كما في الحالة الثانية ـ إلى رحم امرأة غير صاحبة البييضة، سواء كانت مزوجة أو خلية، وقد تحدثنا عن هذه الحالة في مسألة خاصة تحت عنوان (شتل الجنين) من هذا المبحث.

الحالة الرابعة: نقل النطفة من الزوجين إلى زوجة أخرى لهذا الزوج بأن تكون إحداهما لها مبيض وليس لها رحم مثلا والأخرى لها رحم ولا تعطي بيضة، وحكمها التكليفي هو نفس حكم مسألة شتل الجنين، أما الحكم الوضعي فأبوة الزوج ثابتة لا شك فيها، أما الأم فمقتضى ما مر من الاستدلال هو أمومة الحامل الوالدة مع صاحبة البييضة.

الحالة الخامسة: نقل نطفة الزوجين إلى الزوجة كما في الحالة الأولى، لكن بعد وفاة

__________

(1) لكنه عقب على ذلك بقوله: (لكن في الاستدلال بالآيتين بحثاً، لاحتمال انصرافهما إلى خصوص الزنا، لعدم تعارف نقل المني من غير عمل الزنا في تلك الاعصار حتى نادراً) الفقه والمسائل الطبية: 89،ولكن هذا التعقيب يتنافى مع دلالة القرآن الكريم الدائمة التي تتجاوز حدود الزمان، لأن الواقع القرآني هو واقع جميع الأجيال التي أنزل لها.

(2) الترمذى (4/ 434، رقم 2121) وقال: حسن صحيح.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (109)

زوجها، فيمكن أن تؤخذ الحيوانات المنوية من الزوج، وتوضع في ثلاجة لتجمد إلى فترة بعد سنة أو سنتين أو يمكن حتى بعد وفاة الزوج، ويمكن أن توضع هذه الأجنة مرة أخرى في الرحم (1).

والحكم التكليفي لهذه الحالة يرتبط باعتبار الميت زوجا أم لا، لأنه إذا اعتبر أجنبيا كما لو طلق صار منيه كمني الأجنبي، وذلك لا يبعد شرعا لأن العرف الشرعي على اعتبار ارتباط الزوجية بالحياة، بدليل إجازة زواج المتوفى عنها زوجها، وجواز زواج الزوج بأختها في حال وفاتها.

وبناء على بطلان الزوجية في هذه الحالة لا يجوز نقل تلك النطفة إلى رحم الزوجة بعد موت زوجها، ويلحق بموت الزوج في الحكم طلاق الزوجة، وخاصة إن بانت منه، لأنه يحل لها الزواج من غيره.

أما الحكم الوضعي للمسألة فهو أن الولد ولدهما كما عرفنا سابقا، لكن في إرثه من أبيه الميت إشكالا، وقد ذكر بعض المعاصرين أن (الظاهر المستفاد من النصوص لزوم أن يكون الحمل حال حياة الأب في إرثه منه، فلا يرث مثل هذا الولد (2) نعم لا مانع ـ ظاهراً ـ أن يرث هذا الولد من أقرباء أبيه إذا ماتوا بعد استقراره في الرحم للإطلاق.

ونختم هذه المسألة بقرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 إلى 13 صفر 1407 هـ / 11 إلى 16 أكتوبر 1986 فقد قرر بعد استعراضه لموضوع التلقيح الصناعي [أطفال الأنابيب] وذلك بالإطلاع على البحوث المقدمة والاستماع لشرح الخبراء والأطباء ما يلي:

تبين للمجلس أن طرق التلقيح الصناعي المعروفة في هذه الأيام سبع، وهي:

__________

(1) الانجاب في ضوء الاسلام: 194.

(2) الانجاب في ضوء الاسلام: 194.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (110)

1 ـ أن يجري تلقيح بين نطفة مأخوذة من زوج وبويضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته.

2 ـ أن يجري التلقيح بين نطفة رجل غير الزوج وبويضة الزوجة ثم تزرع تلك اللقيحة في رحم الزوجة.

3 ـ أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متطوعة بحملها.

4 ـ أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي رجل أجنبي وبويضة امرأة أجنبية وتزرع اللقيحة في رحم الزوجة.

5 ـ أن يجري تلقيح خارجي بين بذرتي زوجين ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى.

6 ـ أن تؤخذ نطفة من زوج وبويضة من زوجته ويتم التلقيح خارجياً ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة.

7 ـ أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحاً داخلياً.

وقد قرر بناء على هذه الأقسام بأن الطرق الخمسة الأولى كلها محرمة شرعاً وممنوعة منعاً باتاً لذاتها، أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية.

ولا يخرج ما ذكره هذا القرار على ما سبق ذكره من أحكام.

رابعا ـ إلحاق النسب بالقيافة

نظرا لما تكلمنا عنه في المسائل الماضية من إرجاع الأمر في النسب حال الشك، وفي

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (111)

أحوال كثيرة أخرى، للمختصين للتحقيق في نسب الولد، فإن هذا يستدعي التعرف على الأحكام المتعلقة بذلك وضوابطها (1)، وقد طرح الفقهاء هذه المسألة فيما يسمى اصطلاحا بالقيافة (2)، فلذلك سنتعرض في هذا المطلب لأحكامها، وضوابطها.

وقد اختلف الفقهاء في صحة إثبات النسب بالقيافة على قولين:

القول الأول: صحة ثبوت النسب بالقيافة، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك (3):

1 ـ قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء:36)، قال ابن خويزمنداد: (تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة، لأنه لما قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء:36) دل على جواز ما لنا به علم، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به)، قال

__________

(1) نص الفقهاء على أن النسب يثبت من أربع جهات، اختلفوا في اعتبار بعضها، وهذه الجهات هي الفراشُ، والاستلحاقُ، والبينَةُ، والقَافَةُ، أما ثبوت النسب بالفراش، فقد سبق الحديث عنه في المطالب الماضية، أما ثبوت النسب بالبينة، فله علاقة بأحكام الشهود، وقد سبق الحديث عنها في فصل خاص في الجزء الأول، أما الاستلحاق فهذا تعريف مختصر به:

لغة: مصدر استلحق، يقال: استلحقه ادعاه.

اصطلاحا: عرفه ابن عرفة بأنه ادعاء المدعي أنه أب لغيره، شرح حدود ابن عرفة: 334.

حكمه التكليفي: اتفق الفقهاء على أن حكم الاستلحاق عند الصدق واجب، ومع الكذب في ثبوته ونفيه حرام، ويعد من الكبائر، لأنه كفران النعمة، لقوله (: (أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله تعالى منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين يوم القيامة)

وقد جاء في حديث عمرو بن شعيب أن النبي (قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له فقد لحق بمن استلحقه) ويشترط الفقهاء لصحة الاستلحاق شروطا معينة، منها: أن يولد مثله لمثله، وأن يكون مجهول النسب، وألا يكذبه المقر له إن كان من أهل الإقرار، وغيرها.

(2) عرفت اصطلاحا: من يلحق النسب بغيره عند الاشتباه بما خصه الله تعالى به من علم ذلك، مغني المحتاج: 4/ 438.

(3) الطرق الحكمية: 184، القرطبي: 10/ 258، زاد المعاد: 5/ 418، فروق القرافي: 3/ 126.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (112)

القرطبي: (فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه) (1)

2 ـ أن عائشة، قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززا المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيدا (2) عليهما قطيفة قد غطيا بها رءوسها وقد بدت أقدامهما، فقال: (إن هذه الأقدام بعضها من بعض) (3)، فإقراره صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك يدل على أن القافة حق. قال الشافعي: (فلو لم يعتبر قوله لمنعه من المجازفة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يقر على خطأ ولا يسر إلا بالحق) (4)، قال ابن القيم: (ولو كانت كما يقول المُنازِعُونَ مِن أَمر الجاهلية كالكهانة ونحوها لما سُر بها، ولا أُعجِبَ بِهَا، ولكانت بمنزلة الكَهانة. وقد صح عنه وعيدُ مَن صَدقَ كاهناً) (5)

3 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صرح في الحديث الصحيح بصحتها واعتبارِها، فقال في ولد الملاعنة: (إن جَاءَت بِهِ كَذَا وكَذَا فَهُوَ لِهَلاَل بنِ أُمَيةَ، وَإن جَاءَت به كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ بنِ سَحماءَ)، فلما جاءت به على شَبَهِ الذي رُمِيَت به قال: (لَولاَ الأيمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأنٌ) (6) وهل هذا إلا اعتبار للشبه وهو عينُ القافة، فإن القائِفَ يتبعُ أَثرَ الشبه، وينظُر إلى من يتصِلُ، فيحكم به لصاحب الشبه.

__________

(1) القرطبي: 10/ 258.

(2) روي أن زيدا كان شديد البياض، وكان ابنه أسامة أسود، ولذلك أعجب رسول الله (بقول مجزز القائف، انظر: سير أعلام النبلاء: 1/ 222.

(3) البخاري: 3/ 1365، مسلم: 2/ 1082، ابن حبان: 9/ 413، الترمذي: 4/ 440، البيهقي: 10/ 262، الدارقطني: 4/ 240، أبو داود: 2/ 280، النسائي: 3/ 381، ابن ماجة: 2/ 787.

(4) مغني المحتاج: 4/ 438.

(5) زاد المعاد: 5/ 418.

(6) أبو داود (2/ 276، رقم 2254)، والترمذى (5/ 331، رقم 3179)، وقال: حسن غريب. وابن ماجه (1/ 668، رقم 2067)

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (113)

4 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر الشبه وبين سببه لما قالت له أمُّ سلمة: أو تحتلم المرأة، فقال: (مِم يَكُونُ الشبَهُ) (1).

5 ـ أخبر صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح، أن ماء الرجُل إذا سَبَقَ ماءَ المرأة، كان الشبَهُ لَهُ، وإذا سَبَقَ مَاؤُها مَاءَهُ، كان الشبَهُ لَهَا) (2)، قال القرافي: (فدل هذا الحديث على أن مني المرأة ومني الرجل يحدث شبها في الولد بالأبوين، فيأتي في الخلقة والأعضاء والمحاسن ما يدل على الأنساب) (3)

6 ـ أن السلف حكموا بالقيافة، فعن عمر في امرأة وَطئَها رجلانِ في طهرٍ، فقال القائفُ، قد اشتركا فيه جميعاً، فجعَله بينهما، قال الشعبي: وعلي يقول: هو ابنُهما، وهما أبواه يرثانه، وعن سعيد بن المسيب، في رجلين اشتركا في طُهرِ امرأةٍ، فحملت، فولَدَت غُلاماً يُشبههما، فرُفِعَ ذلك إلى عمرَ، فدعا القافة، فنظرُوا، فقالوا: نراه يُشبِهُهُمَا، فألحقه بهما، وجعَلَه يَرثُهما ويرثانه، ولا يُعرَفُ قطُّ في الصحابة مَن خالف عمر وعلياً في ذلك، بل حكم عمر بهذا في المدينة، وبحَضرته المهاجرون والأنصار، فلم يُنكِرهُ منهم منكر.

7 ـ أن الواقع يثبت كثيرا ما يقوله القافة، ومن ذلك ما ورد في مغني المحتاج عن بعض التجار أنه ورث من أبيه مملوكا أسود شيخا، قال: فكنت في بعض أسفاري راكبا على بعير، والمملوك يقوده، فاجتاز بنا رجل من بني مدلج فأمعن فينا نظره، ثم قال: ما أشبه الراكب بالقائد، قال: فرجعت إلى أمي فأخبرتها بذلك، فقالت: إن زوجي كان شيخا كبيرا ذا مال، ولم يكن له ولد فزوجني بهذا المملوك، فولدتك ثم فكني واستلحقك (4)، قال ابن

__________

(1) البخاري: 3/ 1211، النسائي: 1/ 109.

(2) البخاري: 3/ 1433، مسلم: 1/ 250، ابن حبان: 14/ 62، البيهقي: 1/ 169، ابن ماجة: 1/ 197، أحمد: 3/ 108.

(3) فروق القرافي: 3/ 126.

(4) مغني المحتاج: 4/ 439.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (114)

قدامة: (وقد روينا أن رجلا شريفا شك في ولد له من جاريته، وأبى أن يستلحقه، فمر به إياس بن معاوية في المكتب، وهو لا يعرفه، فقال: ادع لي أباك. فقال له المعلم: ومن أبو هذا؟ قال: فلان. قال: من أين علمت أنه أبوه؟ قال: هو أشبه به من الغراب بالغراب. فقام المعلم مسرورا إلى أبيه، فأعلمه بقول إياس، فخرج الرجل وسأل إياسا، فقال: من أين علمت أن هذا ولدي؟ فقال: سبحان الله، وهل يخفى ولدك على أحد، إنه لأشبه بك من الغراب بالغراب. فسر الرجل، واستلحق ولده) (1)

8 ـ أن وجود الشبه بين الأجانب، وانتفاؤه بين الأقارب، وإن كان واقعاً، فهو نادر، والأحكام إنما هي للغالب الكثير، والنادرُ في حكم المعدوم.

9 ـ أن الفراش الصحيح إذا كان قائماً، لا يُعارَض بقافة ولا شَبَهٍ، فمخالفةُ ظاهر الشبه لدليلٍ أقوى منه، وهو الفِراشُ غيرُ مستنكر، وإنما المستنكرُ مخالفةُ هذا الدليل الظاهر بغير شيء.

10 ـ أن تقديم اللعان على الشبه، وإلغاءُ الشبه مع وجوده، هو مِن تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما، وذلك لا يمنع العملَ بالشبه مع عدم ما يُعارضه، كالبينة تُقدم على اليد والبراءة الأصلية، ويُعمل بهما عند عدمهما.

القول الثاني: عدم اعتبار القافة في إثبات الأنساب، وهو قول الحنفية، ومن الأدلة على ذلك (2):

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي أنكر ولده من لونه: (لعله نرعه عق)، بعد أن قال له: هل لك من إبل؟ قال: نعم قال: فما ألوانها؟ قال: بيض قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم قال: فمن

__________

(1) المغني: 6/ 47.

(2) انظر: شرح معاني الآثار: 3/ 103.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (115)

أين ذلك الأورق؟ قال: لعله عرق نزع قال له صلى الله عليه وآله وسلم: (لعله عرق نزع) (1)، وهو يشير إلى أن صفات الأجداد وأجداد الأجداد والجدات قد تظهر في الأبناء فيأتي الولد يشبه غير أبويه، وقد يأتي يشبه أبويه وليس منهم.

2 ـ أن حديث أسامة لا يصح الاعتماد عليه للوجوه التالية (2):

الوجه الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتعين أن يكون سر لكون القيافة حقا، بل يجوز أن يسر لقيام الحجة على الجاهلية بما كانوا يعتقدونه وإن كان باطلا، والحجة قد تقوم على الخصم بما يعتقده وإن كان باطلا، وقد يؤيد الله الحق بالرجل الفاجر وبما شاء، فإخمال الباطل ودحضه يوجب السرور بأي طريق كان.

الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سر بوجوده آية الرجم في التوراة، وهو لا يعتقد صحتها، بل لقيام الحجة على الكفار وظهور كذبهم وافترائهم فلم لا يكون هنا كذلك.

الوجه الثالث: أن المنافقين كانوا يطعنون في نسبه من زيد لمخالفة لونه لون أبيه، ولم يكونوا يكتفون بالفِراش، وحكم الله ورسُولُه في أنه ابنُه، فلما شهد به القائفُ وافقت شهادتُه حكمَ اللهِ ورسوله، فسر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم لموافقتِها حكمه، ولتكذيبها قولَ المنافقين، لا أنه أثبت نسبه بها، فأين في هذا إثباتُ النسب بقوله القائف؟.

3 ـ أنه لو كان لِلشبه أثر، لاكتفي به في وَلدِ الملاعنة، ولم يحتج إلى اللعان، ولكان ينتظِرُ ولادته، ثم يُلحق بصاحب الشبه، ويستغني بذلك عن اللعان، بل كانَ لاَ يَصِحُّ نفيُه مع وجودِ الشبه بالزوج، وقد دلت السنةُ الصحيحةُ الصريحة على نفيه عن الملاعن، ولو كان الشبه له، فإن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أَبصِرُوها فإن جَاءَت بِهِ كَذَا وكَذَا، فَهُوَ لِهِلال بنِ

__________

(1) البخاري: 5/ 2032، مسلم: 2/ 1137، ابن حبان: 9/ 417، البيهقي: 8/ 252، أبو داود: 2/ 278، النسائي: 3/ 376، ابن ماجة: 1/ 645.

(2) فروق القرافي: 3/ 126.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (116)

أُمية) (1)، وهذا قاله بعد اللعان ونفي النسب عنه، فعُلِمَ أنه لو جاء على الشبه المذكور، لم يَثبُت نسبُه منه، وإنما كان مجيئه على شبهه دليلاً على كذبه، لا على لحوق الولد به.

4 ـ أن معنى الأحاديث التي ذكر فيها اعتبارُ الشبه، إنما اعتبرت فيه الشبه بنسب ثابت بغير القافة، ونحن لا نُنكِرُ ذلك.

5 ـ أنه حزر وتخمين، فلا يجوز، وشبهوه بالاعتماد على النجوم وعلى علم الرمل والفأل والزجر وغير ذلك من أنواع الحزر والتخمين، لأن الاستدلال بالخلق على الأنساب من باب الحزر البعيد، فمع طول الأيام يولد للشخص من لا يشبههما في خلق ولا في خلق.

6 ـ أن الواطئ الزاني بأمه قد يشبه أباه أو جدا من أجداده أو خالا من أخواله يشبه أباه الذي ألحقته به القافة، وإذا لم يطرد ولم ينعكس لم يجز الاعتماد عليه، لأنه من باب الحزر والتخمين البعيد.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بالقيافة في حال كون دلالتها جازمة، وما ذكره الفقهاء من الشروط التي سنراها تبين دقة المسلك في ذلك، وانتفاء ما يمكن توقعه من مفاسد.

ونرى أن القيافة في عصرنا انتفى عنها كثير مما وصفه الحنفية من كونها حزرا وتخمينا، وذلك بتدخل الوسائل العلمية الدقيقة، التي لا يرقى الشك إلى نتائجها، وخاصة إذا كانت الاحتمالات محدودة، وهي في القيافة محدودة جدا، بحيث لا تعدو المدعيان أو الثلاثة.

ونرى أن الحنفية الذين قالوا هذا لو اطلعوا على انتفاء الحزر والتخمين لذهبوا مذهب الجمهور، ولانتفى الخلاف.

__________

(1) البخاري (3/ 233 و6/ 126 و7/ 69). و(أبو داود) (2254). و(ابن ماجة) (2067)، (الترمذي) (3179)

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (117)

شروط صحة إثبات النسب بالقيافة

نص الفقهاء القائلون بالقيافة على أن القيافة يشترط فيها الشروط التالية:

انتفاء المانع الشرعي

وهو عدم قيام مانع شرعي من الإلحاق بالشبه، فلا يعتبر الشبه إذا تعارض مع الفراش، لما في قصة سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش، واحتجبي عنه يا سودة)، فقد ألغى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشبه، وألحق النسب بزمعة صاحب الفراش.

ومثله ما لو نفى نسب ولده من زوجته، فإنه يلاعنها ولا يلتفت إلى إثبات الشبه بقول القافة؛ لأن الله تعالى شرع إجراء اللعان بين الزوجين عند نفي النسب، وإلغاء الشبه باللعان من باب تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما.

وقد ذكرنا سابقا أن الأرجح فيما نرى اعتماد القيافة في هذا الباب أيضا، حرصا على إثبات نسب ابن اللعان، ورعاية لتشوف الشرع لإثبات الأنساب، وخاصة مع ثبوت دقتها وجزمها، وهو لا ينفي اللعان كما ذكرنا، بل يقتصر دور اللعان في هذه الحالة على درء الحد.

وقد اختلفوا هل يؤخذ بالقيافة في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد الإماء على قولين:

القول الأول: يؤخذ بالقيافة في أولاد الحرائر والإماء، وهو قول الشافعي ومالك في رواية ابن وهب عنه، قال القرطبي: (والصحيح ما رواه ابن وهب عنه) (1)، واستدلوا على ذلك بأن الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر، لأن أسامة وأباه حران، فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم، وهو الباعث عليه.

القول الثاني: يختص بأولاد الإماء فقط، وهو مشهور مذهب مالك.

__________

(1) القرطبي: 10/ 259.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (118)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، وهو الذي دل عليه الحديث، ومن العجيب أن يشتهر القول الثاني عند المالكية مع عدم ورود الحديث في الأمة ووروده في الحرة، فهي معاكسة واضحة للحديث.

ثم لماذا يفرق بين الحرة والأمة مع أن كليهما من الفراش الذي اعتبره الشرع؟ وهل ابن الأمة أقل حاجة في نسبه إلى الفراش من ابن الحرة؟ ولا نرى إجابة على هذا إلا تدخل الأعراف في الأحكام الشرعية ومزاحمتها للنصوص.

وقوع التنازع في الولد نفيا أو إثباتا مع عدم البينة

وهو أن يوجد التنازع في الولد مع عدم وجود دليل يقطع هذا التنازع، كما إذا ادعاه رجلان أو امرأتان، وكما إذا وطئ رجلان امرأة بشبهة وأمكن أن يكون الولد من أحدهما، وكل منهما ينفيه عن نفسه، فإن الترجيح يكون بقول القافة كما سبق بيانه.

أما إذا ادعاه واحد فإنه يكون له، ولا يقوم التنازع حقيقة فيما بينهما إذا تعين الولد لأحدهما، فلو ادعى اللقيط رجلان، وقال أحدهما: هو ابني، وقال الآخر: بنتي، فإن كان اللقيط ابنا فهو لمدعيه، وإن كانت بنتا فهي لمدعيها؛ لأن كل واحد منهما لا يستحق غير ما ادعاه.

مصادقة الحاكم على قول القائف

فلذلك لا يلزم قول القائف إلا بعد مصادقة الحاكم عليه، فقد نص الشافعية (1) على أنه: لا يصح إلحاق القائف حتى يأمر القاضي، وإذا ألحقه اشترط تنفيذ القاضي إن لم يكن قد حكم بأنه قائف، ورأوا أن القائف إن ألحقه بأحدهما فإن رضيا بذلك بعد الإلحاق ثبت نسبه، وإلا فإن كان القاضي استخلفه وجعله حاكما بينهما جاز، ونفذ حكمه بما رآه، وإلا

__________

(1) انظر: حواشي الشرواني: 10/ 350.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (119)

فلا يثبت النسب بقوله وإلحاقه حتى يحكم الحاكم.

ونرى اعتبار هذا الشرط نفيا لما قد يحصل من تلاعب في هذا الباب، فلذلك نقترح إنشاء هيئة مكلفة بإثبات الأنساب في أي حالة من حالات الشك فيها كما سبق بيانه، على أن تضم خبراء في الميدان العلمي والشرعي بالإضافة إلى القضاة، فأمر النسب أخطر من أن يتولاه فرد أو أفراد.

حياة من يراد إثبات نسبه بالقيافة

وقد نص المالكية على هذا الشرط، فقد نصوا على (أنها إن وضعته تماما ميتا فلا قافة في الأموات، ونقل الصقلي عن سحنون: إن مات بعد وضعه حيا دعي له القافة، قال الحطاب: ويحتمل ردهما إلى وفاق؛ لأن السماع (أي لابن القاسم) فيمن ولد ميتا، وقول سحنون فيما ولد حيا (1).

ولم يشترط الشافعية حياة المقوف، فإذا كان ميتا جاز إثبات نسبه بالقافة ما لم يتغير أو يدفن.

ونرى أن الأرجح في هذا هو قول الشافعية إن تمكن الخبراء من التعرف على العلاقة النسبية بينهما في هذه الحالة، بل نرى أنه لو تمكنوا من معرفة ذلك بعد موته ودفنه وتغيره، كتحليل عينة من عظامه مثلا، صح ذلك بشرط الجزم والتحقيق.

حياة من يلحق به النسب

وقد اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:

القول الأول: اعتبار هذا الشرط، وهو قول كثير من المالكية، فعن سحنون وعبد الملك أنه لا تلحق القافة الولد إلا بأب حي، فإن مات فلا قول للقافة في ذلك من جهة قرابته إذ لا تعتمد على شبه غير الأب، ويجوز عند كثير من المالكية عرض الأب على القافة

__________

(1) مواهب الجليل: 5/ 248.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (120)

إن مات ولم يدفن، وقد لخص الباجي أقوال المالكية في ذلك بقوله: (لو مات أحد الأبوين، فقد روى ابن حبيب عن ابن الماجشون ورواه ابن سحنون عن أبيه ينظر القافة إلى الولد والباقي من الأبوين، فإن ألحقوه به لحق وإن لم يلحقوه به فقد روى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه لا يلحق به ولا بالميت، قال ابن حبيب عن أصبغ يلحق بالميت؛ لأن الميت أقر بالوطء فلولا وطء الآخر للحق به من غير قافة، فإذا بطل أن يكون من وطء الحي وجب أن يكون للميت) (1)

وقد علل الباجي سر الفرق بين وفاة الابن ووفاة الأب، بأن الأب من شرط إلحاق الابن به أن يدعيه، فيجب أن يكون حين الإلحاق به مدعيا له، فإذا مات فقد عدم ذلك فلم يصح الإلحاق به، والابن ليس من جهة إقرار ولا إنكار، فجاز أن يكون حين الإلحاق به حال موته.

أما على قول ابن الماجشون فقد علله بأن الميت من الأبوين لو كان حيا لجاز أن ينفيه عنه القافة، فيصح أن يريد بذلك أن الأب لما لم يصح الإلحاق به بالقافة دون دعواه لم يصح أن ينفى عنه بالقافة، وتحرير ذلك والذي يتحقق منه أن ادعاء الأب على مذهب ابن الماجشون يجب أن يكون مقارنا لإلحاق القافة الابن به، وعلى قول أصبغ يجوز أن يلحقه القافة به بدعوى متقدمة.

القول الثاني: عدم اعتبار هذا الشرط، وهو قول الشافعية والحنابلة (2).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على أن النسب من حاجات الإنسان الأساسية بغض النظر عن علاقته بالمنتسب إليه، ولهذا ينتسب الناس للأموات، بل

__________

(1) المنتقى: 6/ 5.

(2) انظر: أسنى المطالب: 4/ 432.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (121)

يفتخرون بالانتساب إليهم، ولا يحق أن يحرم أي إنسان من هذا الحق.

وقد ذكرنا في المسألة السابقة أنه يمكن البحث في الأنساب ولو في الرمم، إن دلت على النسب دلالة يقينية، وقد أنكر ذلك الشافعية بناء على حرمة الموتى (1)، ولكنا نرى أن حرمة الحي أولى من حرمة الميت.

شروط القائف

نص الفقهاء القائلون بإلحاق النسب بالقيافة على أنه يشترط في القائف الشروط التالية مع اختلاف بينهم في تفاصيلها (2):

الخبرة والتجربة

نص الفقهاء على أنه لا يوثق بقول القائف إلا بتجربته في معرفة النسب عمليا، وقد نصوا على طرق لاختباره في ذلك، ومنها قول القاضي: (أن يترك الصبي مع عشرة من الرجال غير من يدعيه، ويرى إياهم، فإن ألحقه بواحد منهم سقط قوله؛ لأنا نتبين خطأه، وإن لم يلحقه بواحد منهم، أريناه إياه مع عشرين فيهم مدعيه، فإن ألحقه به لحق، ولو اعتبر بأن يرى صبيا معروف النسب مع قوم فيهم أبوه أو أخوه، فإذا ألحقه بقريبه، علمت إصابته، وإن ألحقه بغيره سقط قوله، جاز. وهذه التجربة عند عرضه على القائف للاحتياط في معرفة إصابته، وإن لم تجربه في الحال، بعد أن يكون مشهورا بالإصابة وصحة المعرفة في مرات كبيرة، جاز) (3)

ويمكن تطبيق ذلك على ما ذكرناه بعرض العينة على خبراء متعددين، أو على هيئة

__________

(1) انظر: أسنى المطالب: 4/ 432..

(2) انظر: الإنصاف: 6/ 460، الفروع: 5/ 407، حاشية البجيرمي: 4/ 411، مغني المحتاج: 4/ 488، الخرشي: 6/ 101.

(3) المغني: 6/ 47.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (122)

خبراء لنفي كل محل للشك.

العدالة

اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:

القول الأول: عدم اعتبار العدالة في القائف، وقد رواه ابن وهب عن مالك (1)، وروي عن ابن القاسم.

القول الثاني: اعتبار العدالة في القائف، وهو قول الشافعية والحنابلة، ورواية عند المالكية، لأنه حكم فتشترط فيه (2).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول إذا اعتبرنا العدالة ما ذكره الفقهاء من الالتزام الديني، لأنه قد لا يكون في هؤلاء الخبراء هذا النوع من الالتزام، لكن يشترط فيهم أن يكونوا ثقاة، وهو ما قلنا عنه في الفصول الماضية بأن العدالة متعددة الوجوه، فلكل حالة عدالتها الخاصة.

التعدد

اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:

القول الأول: يشترط التعدد، وهي رواية عن أشهب عن مالك، وقاله ابن دينار، ورواه ابن نافع عن مالك، قياسا له على الشهادة، وظاهر كلام أحمد كما جاء في المغني أنه لا يقبل إلا قول اثنين تشبيها له بالشهادة، قال ابن قدامة: (ظاهر كلام أحمد أنه لا يقبل إلا قول اثنين، فإن الأثرم روي عنه أنه قيل له: إذا قال أحد القافة هو لهذا وقال الآخر هو لهذا قال: لا يقبل واحد حتى يجتمع اثنان فيكونان شاهدين فإذا شهد اثنان من القافة أنه لهذا فهو لهذا

__________

(1) في رواية ابن حبيب عن مالك أنه يشترط العدالة في القائف الواحد.

(2) انظر: كشاف القناع: 4/ 239، حواشي الشرواني: 10/ 359.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (123)

لأنه قول يثبت به النسب، فأشبه الشهادة) (1)

القول الثاني: لا يشترط التعدد لإثبات النسب بقول القائف، ويكتفى بقول قائف واحد، وهو قول الجمهور، إلحاقا له بالقاضي والمخبر، قال القاضي: يقبل قول الواحد؛ لأنه حكم، ويقبل في الحكم قول واحد، وحمل كلام أحمد على ما إذا تعارض قول القائفين، والراجح في المذهب الاكتفاء بقول قائف واحد في إلحاق النسب، وهو كحاكم، فيكفي مجرد خبره؛ لأنه ينفذ ما يقوله بخلاف الشاهد، وهو الراجح عند الشافعية كذلك (2).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول باشتراط تعدد الخبراء كما ذكرنا سابقا نفيا للتهمة، فقد يخطئ الخبير الواحد، أو تخطئ أجهزته، فلذلك يحتاج إلى تدقيق أكثر في هذا الأمر الخطير، وقد بنى الفقهاء القائلون بعدم اشتراط التعدد قولهم على اعتبار هذا رواية لا شهادة، قال السيوطي عن القائف: (وفيه خلاف لتردده بين الرواية والشهادة، والأصح الاكتفاء بالواحد تغليبا لشبه الرواية، لأنه منتصب انتصابا عاما لإلحاق النسب) (3)

وهو اعتبار لا يصح، لأن حكم القائف هنا سينتج حكما يظل ساريا مدى الحياة، وقد تتوقف عليه مصالح كثيرة، فكيف يبنى على مجرد الرواية، ثم رواية الآحاد، فإذا لم نعتبر العدالة كما ذكرنا دخل الفساد العظيم.

قال القرافي مرجحا هذا الاعتبار: (القائف في إثبات الأنساب بالخلق هل يشترط فيه العدد أم لا قولان لحصول الشبهين من جهة أنه يخبر أن زيدا ابن عمر وليس ابن خالد، وهو حكم جرى على شخص معين لا يتعداه إلى غيره فأشبه الشهادة، فيشترط العدد، ومن

__________

(1) المغني: 6/ 47.

(2) المغني: 6/ 47.

(3) الأشباه والنظائر: 391.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (124)

جهة أن القائف منتصب انتصابا عاما للناس أجمعين، أشبه الرواية فيكفي الواحد، غير أن شبه الشهادة هنا أقوى للقضاء على المعين، وتوقع العداوة والتهمة في الشخص المعين) (1)

الإسلام

اختلف الفقهاء في اعتبار هذا الشرط على قولين:

القول الأول: اعتبار هذا الشرط، وهو قول الشافعية والحنابلة، وهو الراجح في المذهب المالكي.

القول الثاني: عدم اعتبار هذا الشرط، وهو قول، للمالكية والحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار هذا الشرط في حال وجود الخبراء المسلمين، فإن عدم وجودهم جاز للضرورة اعتماد غيرهم بشرط التحري والتدقيق في مدى صدقهم بالطرق التي ذكرناها سابقا، وما يقلل من احتمال كذبهم أن الأمر كما ذكرنا يعرض على خبراء مختلفين.

الذكورة والحرية

اختلف الفقهاء في اعتبار هذين الشرطين على قولين:

القول الأول: اعتبارهما، وهو الأصح في المذهب الشافعي، وهو الراجح عند الحنابلة.

القول الثاني: عدم اعتبارهما، وهو قول عند الشافعية والحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني خاصة في عصرنا، لأن الذي يقرر ليس القائف، وإنما الوسائل التي يستخدمها، وقد سبق ذكر أن شهادة المرأة تجوز في كل شيء إلا

__________

(1) فروق القرافي: 1/ 8.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (125)

في محال محصورة جدا لا تتناسب مع طبيعتها.

اختلاف القافة

نص الفقهاء القائلون بصحة العمل بالقيافة على كيفية التعامل مع خلاف القافة، وهو لا يخلو من الحالات التالية:

الجمع بين أقوالهم: وذلك فيما لو أمكن الجمع بينها، كما لو ألحق أحد القائفين نسب اللقيط برجل، وألحقه الآخر بامرأة فإنه ينسب إليهما.

الترجيح بينهما: وذلك فيما لو لم يمكن الجمع بينهما، فيترجح أحدهما، فإن الراجح هو الذي يؤخذ به، فلهذا يؤخذ بقول قائفين اثنين خالفهما قائف ثالث، كبيطارين خالفهما بيطار في عيب وكطبيبين خالفهما طبيب في عيب، ويثبت النسب، لأنهما شاهدان فقولهما مقدم على قول شاهد واحد.

عدم إمكان الجمع والترجيح: إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح، كأن يلحق القائف المقوف بأحد المتنازعين، ويلحقه الآخر بغيره، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: لا يلحق الولد إلا برجل واحد، ويؤخر الولد إذ قضى القافة باشتراك رجلين أو أكثر فيه إلى حين بلوغه، فيخير في الالتحاق بمن يشاء منهم، بناء على ما ينعقد من ميل فطري بين الولد وأصله قد يعينه على التعرف عليه، وهو قول المالكية والشافعية.

قال الماوردي: (إن ألحقه القافة باثنين فأكثر، أو لم تكن قافة، أو كانت فلم تعرف لم يكن ابن واحد منهم حتى يبلغ فينتسب إلى أيهم شاء، فإذا فعل ذلك انقطعت دعوى الآخرين ولم يكن للذي انتسب إليه أن ينفيه) (1)

القول الثاني: إطلاق العمل بقول القافة، وهو قول الحنابلة، فإن ألحقوه بواحد من المتنازعين لحق به، وإن ألحقوه باثنين لحق بهما، وإن ألحقوه بأكثر من اثنين التحق بهم، وإن

__________

(1) الإقناع للماوردي: 204.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (126)

كثروا؛ ومن الأدلة على ذلك (1):

1 ـ ما روي عن عمر في رجلين ادعيا ولدا كلاهما يزعم أنه ابنه، فدعا عمر لهما بالقافة فنظروا وقالوا: نراه يشبههما، فألحقه عمر بهما، وجعله يرثهما ويرثانه.

2 ـ أن المعنى الذي لأجله ألحق بالاثنين موجود فيما زاد عليه فيقاس عليه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الاهتمام بالبحث لدرجة كافية عن هذا ينفي الكلام عن هذه الحالة، لأن ما ذكره الفقهاء، وخاصة الشافعية، مبني على رأيهم في اعتبار القيافة نوعا من الرواية، لكنها لو اعتبرت الشهادة، واتخذت للتحقق منها كل وسائل التحري لزال الإشكال، وانتسب الولد لأبيه.

أما ما ذكره الحنابلة من انتسابه إلى جميعهم، فإنه مع تحقق مصالح الانتساب تحدث مضار توزع الولد بين آباء متعددين قد يختلفون في مشاربهم وأفكارهم مما يؤثر في الولد تأثيرا سلبيا قد لا يقل عن ضياع نسبه.

__________

(1) المغني: 6/ 49.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (127)

الفصل الثالث

حق الأولاد في الرعاية الصحية

أولا ـ حق الجنين في الرعاية الصحية

يبدأ اهتمام الشريعة الإسلامية بالعناية الصحية بالأولاد، من فترة كونهم أجنة في بطون أمهاتهم، ويتجلى هذا الاهتمام من خلال الحث على العناية بالحامل، باعتبار صحة الجنين مرتبطة بصحة أمه.

ولهذا أخبر الله تعالى أن فترة الحمل فترة شاقة متعبة، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن} ٍلقمان:14، وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً الاحقاف:15

وهذا التنبيه القرآني المتكرر لخطر فترة الحمل لا يشير فقط إلى ضرورة الإحسان إلى الأم بسبب تحملها هذه المشاق، وإنما يشير من جهة أخرى إلى ضرورة رعاية الحامل والوفاء بما تتطلبه هذه الفترة من عناية وراحة وتغذية وعلاج.

ففي فترة الحمل يتكون مشروع إنسان الجديد، ولذلك فإن أي خطأ تتعرض له الحامل قد يحمل آثار المستقبلية الخطيرة على ولدها.

وبناء على هذا ورد في النصوص الحث على رعاية المرأة الحامل، والعمل علي راحتها، وتوفير الغذاء لها، قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} الطلاق:6

وسننطلق من هذه الآية التشريعية، ومن قصة حمل مريم ـ عليها السلام ـ المتكرر

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (128)

ذكرها في القرآن الكريم، وخاصة قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} (مريم:26) لنستنبط منها ما تستلزمه العناية بالحامل من متطلبات، راجعين في ذلك إلى ما يقوله العلم الحديث من أقوال في هذه المسألة من باب قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} (الفرقان:59)

وننبه هنا إلى أن هذه النقول التي ننقلها عن الأطباء أو علماء التغذية قد تخضع للمناقشة أو للمخالفة من بعض الأطباء، وإنما ذكرناها هنا من مصادر موثوقة باعتبار هؤلاء الخبراء هم المفتون في مثل هذه المسائل، فلذلك إذا طالبوا الحامل بغذاء معين، أو بتصرف معين، قد يضر تركه الجنين، فإن حكم ذلك هو الوجوب الشرعي الذي لا خلاف فيه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)

1 ـ تغذية الحامل

ورد الأمر الإلهي بالاهتمام بتغذية الحامل والنفقة عليها إلى أن تضع حملها حتى لو كانت هذه الحامل مطلقة، قال تعالى: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

وقد ذكرنا في الجزء الخاص بالحقوق المالية للزوجة أن نوع النفقة يتعين بحسب حاجة الزوجة، والحامل أولى من ينطبق عليها هذا الكلام.

لأن حالتها الصحية، وحاجتها الغذائية من الحساسية بحيث تتطلب برنامجا خاصا، وقد أشار قوله تعالى في حكاية مريم ـ عليها السلام ـ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي}

فقد ذكر الله تعالى الرطب مرتبطا بالفترة التي تستعد فيها المرأة للوضع، وهو غذاء

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (129)

متناسب مع حاجيات تلك الفترة كما أثبت ذلك العلم الحديث (1).

بل إن السلف نبهوا إلى هذا، قال الربيع بن خيثم: (ما للنفساء عندي خير من الرطب لهذه الآية، ولو علم الله شيئا هو أفضل من الرطب للنفساء لأطعمه مريم)، وقالوا: (التمر عادة للنفساء من ذلك الوقت وكذلك التحنيك)، وقيل: (إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل)

وفي هذا إشارة إلى ضرورة الاهتمام بتغذية الحامل بما يتناسب مع حاجيات جسمها وجسم جنينها.

وبما أن المرجع في هذا هم علماء التغذية، فلا بأس من ذكر ما قالوه هنا باعتبارهم أهل الفتوى في هذا المجال، وقولهم هو المعتبر في تحديد نوع النفقة الغذائية التي تحتاجها

__________

(1) هناك حكم طبية معجزة في هذه الآيات تتعلق باختيار ثمار النخيل دون سواه من ناحية، ثم توقيته مع مخاض الولادة من ناحية أخرى:

1 ـ تبين في الأبحاث المجراة على الرطب أي ثمرة النخيل الناضجة، أنها تحوي مادة مقبضة للرحم، تقوي عمل عضلات الرحم في الأشهر الأخيرة للحمل فتساعد على الولادة من جهة كما تقلل كمية النزف الحاصل بعد الولادة من جهة أخرى.

2 ـ الرطب يحوي نسبة عالية من السكاكر البسيطة السهلة الهضم والامتصاص، مثل سكر الغلوكوز ومن المعروف أن هذه السكاكر هي مصدر الطاقة الأساسية وهي الغذاء المفضل للعضلات، وعضلة الرحم من اضخم عضلات الجسم وتقوم بعمل جبار أثناء الولادة التي تتطلب سكاكر بسيطة بكمية جيدة ونوعية خاصة سهلة الهضم سريعة الامتصاص، كتلك التي في الرطب ونذكر هنا بأن علماء التوليد يقدمون للحامل وهي بحالة المخاض الماء والسكر بشكل سوائل ولقد نصت الآية الكريمة على إعطاء السوائل أيضاً مع السكاكر بقوله تعالى: (فكلي واشربي) وهذا إعجاز آخر.

3 ـ إن من آثار الرطب أنه يخفض ضغط الدم عند الحوامل فترة ليست طويلة ثم يعود لطبيعة، وهذه الخاصة مفيدة لأنه بانخفاض ضغط الدم تقل كمية الدم النازفة.

4 ـ الرطب من المواد الملينة التي تنظف الكولون، ومن المعلوم طبياً أن الملينات النباتية تفيد في تسهيل وتأمين عملية الولادة بتنظيفها للأمعاء الغليظة خاصة، ولنتذكر بأن الولادة يجب أن يسبقها رمضة شرجية (حقنة) لتنظيف الكولون. انظر: أبحاث المهندس الزراعي اجود الحراكي ـ حضارة الإسلام ـ السنة 18 العدد 7، والإسلام والطب الحديث: للدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل، وحوار مع صديقي الملحد للدكتور مصطفى محمود.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (130)

الحامل.

فقد ذكروا أن الحامل تحتاج إلي تناول غذاء كامل يحتوي علي جميع العناصر الغذائية حتى ينمو جنينها قويًّا صحيحًا؛ لأنها هي المصدر الوحيد لغذائه.

فعلماء التغذية ومعهم الأطباء لا ينظرون إلى مرحلة الحمل على أنها مرحلة عادية، بل يعتبرون أشهر الحمل التسعة شهور طوارئ تستوجب الاستنفار والمراقبة الجدية، كما تتطلب منهم كل عناية ورعاية ممكنة، ولهذا لم يتوقفوا حتى الآن عن دراستها، ومحاولة رسم الخطط الغذائية للمرأة في هذه المرحلة الدقيقة من حياتها (1)، وذلك لتأمين صحة جيدة للأم وبنية قوية للجنين.

ونحب أن ننبه هنا ـ قبل استعراض ما يقوله العلم ـ إلى أن الكثير من العادت السائدة عند بعض النسوة على اعتبار الوحام هو المنبه الأساسي لما تحتاجه المرأة من غذاء في فترة حملها، وخاصة في الشهور الأساسية الأولى منه فكرة خاطئة، بل هي أحيانا كثيرة حالة ايحائية خارجية لا علاقة لها بما تتطلبه الحامل من غذاء، يقول الطبيب النسائي الفرنسي الشهير (فيليب بودون): (إن ما يسمى عند عامة الناس وحاماً ندعوه نحن انطلاق الشهية عند الحامل، ولسنا هنا لنختلف على التسمية وإنما على الأسلوب في مواجهة تلك الحالة.

فالوحام عبارة عن اشتهاء المرأة لأنواع معينة من الطعام، تتزايد الرغبة فيها إذا كانت الحامل تحبها سابقاً، أو أنها ترغب بها بعد أن كانت قبل فترة الحمل تمجها وتنفر منها.

وقد يكون الوحام حالة نفسية عند بعض النساء حيث يقبلن على التهام مواد غير مغذية وغريبة بعض الشيء عن المألوف مثل الفحم والصابون وقشور الفستق والبطيخ الا أن هذه حالات نادرة جداً، ولذا فإنها لن تستوقفنا كثيراً)

__________

(1) ولهذا فإن بعض ما سنذكره من التفاصيل هنا قد يخضع للآراء الطبية المختلفة، وقد يتغير بالجديد الذي يأتي به العلم في المستقبل.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (131)

وهذا يدل على أن حالة الوحام - التي تتطلب التهام كميات كبيرة من الطعام عند بعض النساء - هي حالات إيحائية خارجية، تستقر في العقل الباطن للمرأة ليس في فترة الحمل فقط، وإنما في الفترة التي تسبقها بكثير.

وقد تعود هذه الفترة الإيحائية إلى سن الطفولة والصبا، حيث تختزن الفتاة في عقلها كل أمر يتعلق بالزواج وتوابعه، متصورة ضرورة تناول الطعام بكثرة، لأن ذلك الفم الواحد إنما يمضغ لإثنين، وتلك المعدة عليها أن تهضم لإثنين، متناسية أن ذلك المجهول الآخر يمضي أشهراً بعد ولادته يتغذى من حليب أمه مقادير متقطعة وقليلة، وفي حالة عدم توافر الغذاء في ثديها يكتفى بخمس رضعات صغيرة من الحليب الدافئ المعقم.

ولهذا نجد علماء التغذية يحثون على التركيز على الثقافة الغذائية لكل امرأة حامل، وذلك لتعرف وتتعرف على أنواع الطعام التي تفيد في تغذيتها وتغذية جنينها، تحت شعار (اعرفي ماذا تأكلين) لتتخلص من الأوهام التي تمليها عليها أحيانا كثيرة حالة الوحام.

وهذا يعني أن توجه الحامل جُلّ اهتمامها إلى الأصناف الغنية بالمادة الأساسية مثل (البروتينات) و(الفيتامينات) و(المعادن) عن طريق إعداد خطة غذائية أسبوعية مدروسة يراعى فيها حسن الاختيار والتنويع، بحيث لا يقتصر العقل الباطن وما اختزنه من أفكار مشوِّشة على الغاية والهدف من عملية الحمل والإنجاب.

فلا يجوز أبداً أن تترك الحامل شرب الحليب لمجرد أنها لا تحبه أو لأنها تفضل عليه - لتطفئ ظمأها - شرب المرطبات، لأن المسألة هنا يجب أن ترتبط بمبدأ المسؤولية ومدى الاستعداد لتحملها وليس هناك درس في المسؤولية والنصيحة يمكنه أن يسبق درس التخطيط لما سوف يكون عليه غذاء لإثنين من حيث النوعية لا الكمية.

لأنه بالنوعية - لا الكمية - تتمكن الحامل من إنجاب طفل قوي البنية، وأما حكاية الأكل عن إثنين فإنها نظرية قديمة بالية، وبالتالي مؤذية لأنها تدفع بالحامل نحو الاتجاه الخطأ

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (132)

والخطر أيضا.

وذلك لأن الحامل لا تجني من وراء مضاعفة كمية طعامها سوى البدانة، فبعد تسعة أشهر من الأكل المتواصل والمضاعف تجد الحامل نفسها امرأة سمينة مريضة وثقيلة الحركة، وفي غرفة الولادة تجد نفسها تواجه آلاماً جسدية حادة لعسر في ولادتها سببته الزيادة المفتعلة في وزنها.

بعد هذه المقدمة الأساسية حول أهمية الثقافة الغذائية الصحيحة للحامل نورد هنا بعض العناصر الغذائية الأساسية التي تحتاجها الحامل في هذه الفترة، كما يذكر المختصون، وهي:

المواد الزلالية: فحاجة الحامل إلى المواد الزلالية تزداد، ولذا يجب مضاعفتها لأنها تعمل على تقوية عضلات الرحم، وتساعد في تكوين الجنين، ولأن النقص في هذه المواد قد يعرض الحامل إلى المرض، وقد يزيل عنها المناعة التي كانت تتحصن بها قبل الحمل ضد الرشوحات والنزلات الصدرية وسواها.

الكالسيوم والفسفور: يعتبر الكالسيوم والفسفور من العناصر الأساسية جداً للحامل (1)، لأنهما يمدان رئتيها بقوة تحتاجها، كما أنهما ينقذان أسنانها من التلف والتسوس، إضافة إلى أنهما يساعدان الجنين على تكوين عظامه وصلابتها، وفي حال نقصهما يتعرض الطفل لمرض الكساح بعد الولادة، كما تتأخر أسنانه بالظهور.

الحديد: وهو من المعادن الثرية بالقوة أيضاً وهو يتوفر في بعض أنواع الخضار، وتحتاج الحامل إلى تناول كمية كبيرة من الحديد في الأشهر الأخيرة من حملها.

الفيتامينات: وهي على أنواعها يجب أن تكون مدرجة في غذاء الحامل، ولذا فإن

__________

(1) لعل الحليب واللبن الرائب، ومشتقاتهما من لبنة وأجبان هي ينبوع تلك المادتين المهمتين الكالسيوم والفسفور اللتين تتوفران أيضا في الخضر والبيض والكبد والفاصوليا، وغيرها.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (133)

عليها معرفة مكامن كل فيتامين على حدة وأين تجده كذلك، فعليها معرفة كمية ما تحتاجه منه ولو معرفة نسبية، لأن هذه المعرفة تسهل عليها وضع نظامها الغذائي بنفسها، مما يترك لها حرية الاختيار.

فمثلاً عليها أن تعرف أن حاجتها للفيتامينات A وB وC وD هي حاجة كبيرة، ولذا فإن غذاءها يجب أن لا يخلو من أحدها، وهذ بعض الأمثلة عن فوائدها ومصادر وجودها:

وهذا الفيتامين يحول دون تعرض الحامل للنزيف الدموي أثناء الحمل وبعد الولادة، كما يمنع حدوث الالتهابات في الأغشية المخاطية.

أغذية ممنوعة: ومما يدخل في الثقافة الصحية للحامل التعرف على أنواع الأغذية الضارة، وكميات استعمالها، فعلماء التغذية مثلا ينبهون الحوامل إلى إنقاص كمية الملح التي تضيفها إلى غذائها، والتي يجب أن لا تتجاوز ستة غرامات يوميا.

ويذكرون بعض الأطعمة الممنوعة، ومنها مثلا: الأطعمة المجففة والأطعمة السكرية على أنواعها، والأسماك المجففة والأسماك المقلية والأسماك المملحة، والحوامض والمشروبات الغازية والمرطبات، والمشروبات الكحولية والحلويات إلا بحذر شديد وفي المناسبات القليلة، والشاي والقهوة، فلا يجوز أن تشرب الحامل أكثر من فنجانين في اليوم من القهوة والشاي.. وغيرها من أنواع الأغذية التي تذكر في مصادرها والتي قد يختلف الأطباء في شأنها.

2 ـ الراحة النفسية للحامل

لا تقل الراحة النفسية أهمية عن راحة البدن، لأن الانفعال أو التوتر النفسي يؤثر علي الجنين تأثيرًا سلبيا، فالراحة النفسية للحامل من الأمور المهمة التي لا تقل في أهميتها عن الراحة البدنية.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (134)

ويشير إلى هذا العنصر الأساسي في العناية الصحية بالجنين قوله تعالى في الآية السابقة مخاطبا مريم ـ عليها السلام ـ: {وَقَرِّي عَيْناً}، وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد، ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة.

ويشير إليها كذلك قوله تعالى مخاطبا مريم ـ عليها السلام ـ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً) (مريم:26)، فالله تعالى لم يترك مريم ـ عليها السلام ـ لوساوسها وكيفية مواجهتها لقومها، بل أخبرها بأنه قد عزلها عن مواجهة قومها ليتولى هو تعالى بقدرته ذلك.

بل يشير إلى هذا قوله تعالى في تبشيره لها: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:45 ـ 46)، فالله تعالى ذكر محاسن هذا الولد الذي بشرها به لتمتلئ نفسها أملا وفرحا وسروا.

وعندما تعجبت مريم ـ عليها السلام ـ من حصول الحمل منها، مع أنه لم يمسسها بشر، أجابها الملاك عن شبهتها، ثم استأنف يصف محاسن هذا الجنين العجيب، ليمحو بالتأمل في محاسنه ما قد تشعر به من آلام نحو قومها، قال تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران:47 ـ 49)

ويشير إلى هذا ـ من جهةأخرى ـ قوله تعالى: {وَقَرِّي عَيْناً}، على ما ذكره الشيباني في تفسيرها، فقد ذكر أن معناها: (نامي حضها على الأكل والشرب والنوم)، قال أبو

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (135)

عمرو: (أقر الله عينه أي أنام عينه، وأذهب سهره)

وذلك لأن الحامل يصيبها الأرق أثناء فترة الحمل، ولذلك ينصحها الأطباء للتغلب علي ذلك أن تسير في الهواء الطلق قبل وقت النوم، وأن تتناول كوبًا من اللبن الدافئ، وأن تتكئ علي وسائد عند نومها، فإن ذلك يساعد علي ارتخاء ومرونة عضلات الجسم ويهيِّئ لها نومًا مريحًا.

وانطلاقا من هذا يجب على الحامل ومن يعيشون معها الحرص علي أن يكون جو البيت ممتلئًا بالسعادة والانشراح، حيث إن الحالة النفسية من فرح أو حزن لها تأثيرها في إفراز الهرمونات في جسم الأم، ويتأثر الجنين بهذه الهرمونات منذ الشهور الأولي.

ولهذا ورد في القرآن الكريم الإخبار عن وهن الحامل، وهو يشير إلى حاجتها الغذائية والصحية، وورد قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) (الاحقاف:15)، أي بكره ومشقة، وهو إذا ضم مع قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة:216) يشير إلى الحالة النفسية التي تعانيها الحامل.

وهي إشارة إلى ضرورة محاولة رفع بعض ما تعانيه من كره بالتطمين النفسي، وزرع الأمل في نفسها، كما يرفع الوهن عنها بتغذيتها وعلاجها.

3 ـ صحة الحامل

ويشير إلى هذه الناحية من المصادر الشرعية ما اتفق عليها الفقهاء من جواز فطر الحامل، وتركها لركن من أركان الإسلام حفاظا على صحة جنينها، وذلك إن خافت ضررا بغلبة الظن على نفسها وولدها، ويجب ذلك إذا خافت على نفسها هلاكا أو شديد أذى، وعليها القضاء بلا فدية، وهذا باتفاق الفقهاء، واتفقوا كذلك على عدم وجوب الفدية إذا

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (136)

أفطرت الحامل خوفا على نفسها؛ لأنها بمنزلة المريض الخائف على نفسه (1).

وانطلاقا من هذا الاهتمام الشرعي بصحة الحامل، وارتباط صحتها بصحة الجنين، نحاول هنا أن نذكر أهم المبادئ الصحية التي تحتاجها الحامل، وهي كما ذكرنا فتوى الأطباء التي تدخل ضمن نفي الضرر، فالأحكام فيها أحكام شرعية إلا ما رجع العلم فيه عن بعض ما أقره، أو إيجاد البدائل التي تمنع حصول ما خيف من حصوله.

تجنب العوامل الوراثية

وهذا يستدعي ضرورة إجراء الفحوص الطبية علي الزوجين قبل زواجهما، لأن هناك بعض الأمراض والعوامل الوراثية التي تؤثر تأثيرًا سلبيا علي الجنين، سواء كان هذا التأثير في تكوينه الجسماني أو العقلي، مثل: أنيميا البحر المتوسط، والهيموفيليا مرض سيولة الدم الوراثي، ولذلك ينصح بإجراء الفحوص الطبية قبل الزواج لتجنب هذه الحالات والوقاية منها، ومن أسباب الاعتلال الصحي للجنين المرتبطة بهذه الناحية اختلاف دم الأم والأب أو عامل R.h.

وهو مرض دموي يصيب الوليد، ويظهر هذا المرض عندما تكون الزوجة - Rh سالب، والزوج + Rh موجب، وفي هذه الحالة يكون نوع دم الأبناء دائمًا موجبًا R.h+، فيولد الطفل الأول بدون مشاكل، وتظهر المشكلة مع الطفل الثاني دائمًا، حيث إنه عند ولادة

__________

(1) واختلفوا فيما لو أفطرت خوفا على ولدها.

القول الأول: لا يجب عليها الفدية، وهو قول الحنفية والمالكية وهو قول عند الشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1.أن الحمل متصل بالحامل، فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها.

2.أن الفدية ثبتت على الشيخ الفاني بخلاف القياس لأنه لا مماثلة بين الصوم والفدية، والفطر بسبب الخوف على الولد ليس في معناه.

القول الثاني: إذا أفطرت الحامل خوفا على ولدها فعليها مع القضاء الفدية، وهو قول الحنابلة والشافعية في الأظهر عندهم، لما روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (البقرة:184 أنه نسخ حكمه إلا في حق الحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (137)

الطفل الأول يختلط بعض من دمه بدم الأم، فيكوّن دم الأم أجسامًا مضادة للدم الموجب، وعند اختلاط دم الأم بالطفل الثاني. تسبب الأجسام المضادة هدم الخلايا الدموية للجنين، وبذلك قد يولد الطفل وهو يعاني من فقر الدم الأنيميا، واليرقان الاصفرار أو غيرها، وقد تنتج عن ذلك وفاة الطفل بنسبة حالة في كل ثلاثين حالة، أو قد يتسبب ذلك في الضعف العقلي للأطفال.

وقد أتاح الطب الحديث اكتشاف الوسائل التشخيصية والعلاجية لهذا المرض الخطير، ويتلخص الاحتياط والوقاية منه في إعطاء الأم حقنة خاصة ضد إنتاج الأجسام المضادة لفترة الحمل التالية المحتملة.

وقد فصلنا في هذه المسألة في محلها من الفصل الخاص بالكفاءة في المجموعة الأولى.

تجنب الأم لمسببات أمراض الجنين

وذلك بالاحتراس في فترة حملها من كل ما قد يؤثر في الجنين، ومما ذكره الأطباء من ذلك:

سوء التغذية: فعندما يكون غذاء الأم غير كافٍ، سواء من حيث نوعه أو كميته، فإن ذلك يضر بالجنين، وقد ذكرنا بعض تفاصيل ذلك في محلها من هذا المبحث.

التدخين: فالتدخين يسبب زيادة خطر حوادث الإجهاض أو موت الجنين. وقد لوحظ أن السيدات اللاتي يدخِّن يضعن عادة مواليد أوزانها أقل من المعتاد؛ مما يعرِّض صحة المولود للخطر، بالإضافة إلي أن نسبة المواليد المُشوهين من السيدات المدخنات تكون كبيرة بالمقارنة بغيرهم.

الإدمان: فهو يؤدي إلي عيوب وراثية في الجنين، ينشأ عنها طفل يعاني من خلل في جزء أو أكثر من أجزاء جسمه، وقد يؤدي إلي الإعاقة العقلية والبدنية؛ ولذا حرص الشرع الحنيف علي تحريم تعاطي المخدِّرات، وحذَّر من الوسائل التي تؤدي إلي إسقاط الجنين أو

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (138)

إضعافه وتشويهه، بل فرض علي الأم عقوبة إن فعلت ذلك، وذلك يعتق رقبة، ودفع غرة والغرة: هي عبد أو أمة، أو قيمتها: خمسمائة درهم أو مائة شاة أو خمس من الإبل، أو قيمتها بالذهب 5 ر 212 جم تقريبًا.

إصابة الأم بمرض مُعْدٍ: فتعرُّض الأم للإصابة ببعض الأمراض المعدية كالحصبة الألمانية أثناء الشهور الثلاثة الأولي من الحمل، أو أصابتها بالأمراض التناسلية كالزهري والسيلان؛ يؤدي إلي حدوث نمو شاذ للطفل.

الأدوية والعقاقير: فاستخدام الأدوية والعقاقير مثل: الإسبرين، والمهدئات، والمنومات، والمضادات الحيوية دون استشارة الطبيب يشكل خطرًا علي السيدة الحامل، وعلي صحة الجنين.

التعرض للإشعاع: فتعرض السيدة الحامل للإشعاع يعرض الجنين للتشوه، أو الاضطرابات العصبية والضعف العقلي وفقدان البصر.

الحالة الانفعالية للأم: من العوامل ذات التأثير القوي علي الجنين من حيث استجابته وتطوره: حالة الأم الانفعالية، فقد ثبت أنَّ لاضطراب غدد الأم أثرًا في نقص أو زيادة إفراز الهرمونات، وقد يؤدي هذا إلي نقص في نمو العظام أو الضعف العقلي، كما ثبت أن الخوف والغضب والتوتر والقلق عند الأم يؤدي إلي إفراز الغدد وتغير التركيب الكيميائي للدم؛ مما يؤثر بدوره في نمو الجنين.

عمر الأم: حيث يعتبر عمر الأم هامَّا لصحة الوليد، فالأم التي يزيد سنها علي الخامسة والثلاثين قد تكون أكثر عرضة للأخطار عن غيرها؛ كما أن الحمل بالنسبة لصغيرات السن قد يشكل خطورة عليهن، لذلك فإنَّ أفضل عمر للحامل يكون ما بين 20 إلي 30 سنة.

الإجهاض: وهو الخطر الأول والأكبر علي الأم الحامل والجنين، وهو يعني ولادة

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (139)

الجنين قبل نضج تكوينه الجسماني، وأول علامة تنذر بحدوث الإجهاض هي خروج الدم من المهبل.

ويحدث الإجهاض نتيجة الأمراض، فقد يحدث بسبب إصابة الأم بمرض الزهري، أو أمراض الكلي، أو البول السكري، أو الحميات المعدية والتسمم، أو التهابات الجهاز التناسلي، كما أن الانفعالات النفسية والصدمات العصبية والحزن والخوف لها تأثير كبير في إحداث الإجهاض.

ومن العوامل الأخري التي تسبب الإجهاض وقوع ضرر جسماني علي الأم: كالوقوع علي الأرض، أو حمل أشياء ثقيلة، أو القيام بمجهود شاق.

تلوث المجاري البولية: فانقطاع البول أو الانخفاض في كميته يعني علامة خطر يجب أن تنتبه لها السيدة الحامل، وعليها في هذه الحالة الإسراع بمراجعة الطبيبة قبل أن يسبب ذلك مضاعفات قد تكون خطرة.

تسمم الحمل: قد يبدأ التسمم فجأة ويتضاعف، ويسبب صداعًا مستمرّا أو زيادة محسوسة في الوزن، أو انخفاضًا في كمية البول، ويمكن اكتشاف التسمم عن طريق ملاحظة الارتفاع المفاجئ في ضغط الدم وزيادة الزُلال في البول.

وهناك العديد من الوسائل التي تقضي علي تسمم الحمل بسهولة، ولكن اكتشاف التسمم في مراحله الأولي أفضل كثيرًا؛ حتى لا يسِّبب أضرارًا للحامل والجنين.

ومن الطبيعي أن ُتصاب المرأة الحامل بالإمساك، والذي يمكن أن يضر الأم والجنين، حيث إنَّ استمرار البراز داخل الجسم لمدة طويلة يؤدي إلي امتصاص الدم للسموم؛ فتُضَار الأم وجنينها.

ويمكن تفادي الإمساك بالطرق الطبيعية دون الاستعانة بالأدوية -قدر المستطاع- وذلك إذا أكثرت الحامل من شرب اللبن وأكل الفواكه التي تساعد علي تليين البراز، كذلك

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (140)

الخضروات الطازجة النيئة والمطبوخة.

والكثيرات من النساء اللاتي لم يحملن من قبل قد تظهر عليهن الأعراض الأولي للحمل، والتي يمكن أن تتشابه مع أعراض مرضية، وخصوصًا أمراض الجهاز الهضمي أو البولي أو بعض الحميات، ولعدم معرفتهن بأعراض الحمل؛ فقد يتناولن الأدوية والعقاقير، أو يجرين فحوصًا بالأشعة، لذلك عليهن التأكد بواسطة الطبيبة المختصة أنهن غير حوامل قبل تناولهن أي دواء؛ حتى لا يسبب ذلك ضررًا جسيمًا للجنين في الشهور الأولي من الحمل.

الحفاظ على الصحة

وذلك بالاهتمام بكل ما تتطلبه فترة الحمل من رعاية صحية، فلذلك على الحامل أن تهتم اهتمامًا كبيرًا بصحتها، استعدادًا لتحمل مسئولية الإنجاب، وتربية الطفل والعناية به وإرضاعه، فتهتم بنظافتها وتغسل ثدييها، ولا يفوتها أن تكون ملابسها فضفاضة بقدر ما تسمح به حالة الجو -مع مراعاة الجانب الشرعي في الملابس- وألا تكون ضاغطة علي جزء ما من جسمها، وأن تتجنب استعمال الأحذية عالية الكعب؛ لأنها ترفع الجسم، وتلقي بالثقل علي الكعبين وأصابع القدمين؛ مما قد يسبب آلامًا في الظهر والساقين، ويفضل زيارة الحامل للطبيبة بصورة دورية إذا أمكنها ذلك، حتى تطمئن علي صحتها وسلامة حملها من آن لآخر.

ويمكن للحامل في كثير من الأحيان أن تكون طبيبة نفسها، وذلك بتجنبها ما يضر حملها عملا بمبدأ: الوقاية خير من العلاج.

من كل ما سبق يتضح أن برنامج رعاية الأم الحامل يجب أن يشمل الاهتمام بالنواحي الغذائية والطبية، والتي يجب أن تقوم بدورها الوقائي، فالإشراف الكامل علي صحة الأم الحامل يحميها من الاضطرابات التي قد تتعرض لها أثناء الولادة وتقلِّل آثار

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (141)

العوامل التي لا تخضع للتحكم.

ويمكن أن نستنبط هذا المعنى من قوله تعالى لمريم ـ عليها السلام ـ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) (مريم:25)، فقد أمرها تعالى بهز الجذع، وهو يتطلب حركة رياضية معينة، وهو نفس ما ينصح به الأطباء الحامل قبل الوضع من المشي، والقيام ببعض التمرينات الرياضية البسيطة، في الشهر أو الشهرين الأخيرين من الحمل؛ لتيسير عملية الولادة.

ومما يزيد في تأكيد هذه الإشارة أن مريم ـ عليها السلام ـ كان يأتيها رزقها مهيئا رغدا من غير أن تتكلف أي حركة في سبيل الحصول عليه، كما قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران:37)، فإيراد الأمر بتلك الحركة في القرآن الكريم دلالة على أهمية الرياضة الجسمية للحامل قبل وضع حملها.

ثانيا ـ حق الرضيع في الرعاية الصحية

لعل أحرج الفترات التي يمر بها الأولاد هي الفترة التي تلي ميلادهم، أو ما يسمى بفترة الرضاعة، لأن الولد انتقل من عالم الرحم إلى عالم جديد، فيحتاج للتأقلم، وهذا التأقلم يستدعي عناية خاصة، أولتها الشريعة اهتماما شديدا بذكر بعض ما يرتبط بها من أحكام قد تشير إلى غيرها.

ولهذا نجد فقهاء المسلمين يتحدثون عن هذه المسائل باعتبارها أحكاما شرعية، يقول ابن القيم عند بيان ما يجب نحو الرضيع: (وينبغي أن يقتصر بهم على اللبن وحده إلى نبات أسنانهم لضعف معدتهم وقوتهم الهاضمة عن الطعام، فإذا نبتت أسنانه قويت معدته وتغذى بالطعام فإن الله سبحانه أخر إنباتها إلى وقت حاجته إلى الطعام لحكمته ولطفه ورحمة منه بالأم وحلمة ثديها

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (142)

فلا يعضه الولد بأسنانه) (1)

ويتحدث عن كيفية تغذيتهم بعد الفطام، فيقول: (وينبغي تدريجهم في الغذاء، فأول ما يطعمونهم الغذاء اللين فيطعمونهم الخبز المنقوع في الماء الحار واللبن والحليب، ثم بعد ذلك الطبيخ والأمراق الخالية من اللحم، ثم بعد ذلك ما لطف جدا من اللحم بعد إحكام مضغه أو رضه رضا ناعما، فإذا قربوا من وقت التكلم وأريد تسهيل الكلام عليهم فليدلك ألسنتهم بالعسل والملح الاندراني لما فيهما من الجلاء للرطوبات الثقيلة المانعة من الكلام، فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمد رسول الله)

ويتحدث عن كيفية التعامل معهم عند نمو الأسنان، فيقول: (فإذا حضر وقت نبات الأسنان فينبغي أن يدلك لثاهم كل يوم بالزبد والسمن ويمرخ خرز العنق تمريخا كثيرا، ويحذر عليهم كل الحذر وقت نباتها إلى حين تكاملها وقوتها من الأشياء الصلبة، ويمنعون منها كل المنع لما في التمكن منها من تعريض الأسنان لفسادها وتعويجها وخللها)

ويتحدث عن فوائد بكاء الصبي، فيقول: (ولا ينبغي أن يشق على الأبوين بكاء الطفل وصراخه ولا سيما لشربه اللبن إذا جاع، فإنه ينتفع بذلك البكاء انتفاعا عظيما، فإنه يروض أعضاءه ويوسع أمعاءه ويفسح صدره ويسخن دماغه ويحمي مزاجه ويثير حرارته الغريزية ويحرك الطبيعة لدفع ما فيها من الفضول ويدفع فضلات الدماغ من المخاط وغيره)

ويتحدث عن كيفية تمرينه وتدريبه، فيقول: (وينبغي أن لا يهمل أمر قماطه ورباطه ولو شق عليه إلى أن يصلب بدنه وتقوى أعضاؤه ويجلس على الأرض فحينئذ يمرن ويدرب على الحركة والقيام قليلا قليلا إلى أن يصير له ملكة وقوة يفعل ذلك بنفسه)

وهكذا يتحدث عن التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا الجانب، ونحن لم ننقلها هنا على اعتبار تطبيق ما ذكره، فذلك قد يختلف من بيئة إلى بيئة ومن عصر إلى عصر، وإنما على اعتبار بيان ارتباط

__________

(1) تحفة المودود: 230.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (143)

هذه الأمور بالأحكام الشرعية.

وانطلاقا من هذا سنتحدث في هذا المبحث الطويل عما يرتبط بالرعاية الصحية من أحكام شرعية، وقد قسمنا الحديث عنها إلى ثلاثة مطالب:

1 ـ وقاية الأولاد من الأمراض المحتملة.

2 ـ الرضاعة، باعتبارها غذاء ودواء.

3 ـ الختان، باعتباره من الأحكام الشرعية التي شرعت لحفظ الصحة.

ونحب أن ننبه إلى أن ما سنذكره خارج الأحكام الشرعية من الأمور الطبية مأخوذ من جهة من ثقات الأطباء، ومن جهة أخرى نريد به التنبيه إلى ضرورة الاهتمام بهذه الجوانب لا أن عين ما سنذكره من أحكام الشرع.

1 ـ وقاية الأولاد من الأمراض المحتملة

وهو من أهم أصول الحفاظ على الأولاد من الجانب الصحي، ذلك لأن الصبي معرض كثيرا للأمراض بسبب اختلاف الجو الذي ولد فيه عن الجو الذي كان فيه.

فلذلك يوفر له ما يحتاجه جسمه من الغذاء الجيد والمسكن الصحي، والراحة والنوم الجيد والحصانة من الأمراض، فالغذاء الجيد الصحي يلعب دوراً هاما في نمو الطفل، فهو يزود الجسم بالطاقة التي يحتاج إليها للقيام بنشاطه، وله دوره الهام في تكوين الخلايا وزيادة مناعة الجسم ضد الأمراض ووقايته منها.

زيادة على هذا يهتم بمناعته من الأمراض وتحصينه منها، فمناعة الوليد الجديد الذاتية ضعيفة بشكل عام لأن أجهزة هذه المناعة لا تتطوّر في جسمه بعد الولادة، أمَّا المناعة التي وصلته مما في دم أمه من العناصر المناعية فهي غير كافية، ولا تقيه إلا من بعض الأمراض البسيطة.

وهذا يوضح أهمية عدم تعرض الوليد لما يسبِّب له الالتهابات والمرض، وبالتالي أهمية

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (144)

اعتناء الأم البالغ بنظافة مكان الطفل وكل ما يحيط به من سريره، وغرفته، وشراشفه، وثيابه وغيرها.

وعندما تكون الأم في المستشفى ويؤتى إليها بطفلها لترضعه، عليها أن تمنع كثرة التحركات من حوله، وانتقاله من يد إلى يد، وتمنع أحداً من تقبيله.

وقبل أن ترضعه عليها بالتأكد من كونها غسلت يديها وصدرها أو المصَّاصة بالصابون المعقم.

فعلى الأم أن تعلم أن أفضل وسيلة لتطوير مناعة الطفل هي إرضاعه، أي مَدهُ بالعناصر الوقائية المنتقلة إليه عبر حليبها، لذلك يعتبر الأخِصّائيون أن امتناع الأم عن الإرضاع هو خطأ كبير إلا إذا كان السبب طبيّاً.

أما الوسيلة الثانية لزيادة هذه المناعة وحماية الوليد من الأمراض الخطيرة التي تهدِّد حياته فهي اللقاح.

وتعتبر مرحلة اللقاحات إحدى أهمُّ المحطات الصحيَّة في حياة الطفل والولد، فعلى الوالدين تقع مسؤولية حصول الطفل على اللقاحات اللازمة في الوقت المناسب، فتوفِّر عليه مخاطر قد تجعله معوقاً طوال عمره، أو تودي بحياته وتوفِّر على نفسها الندم بعد فوات الأوان.

واللقاح كلمة عامة تعني: حثُّ الجسم على تشكيل مناعة ذاتية ضد العناصر الممرضة والأمراض التي قد تصيب الطفل، وصنِّفت كالآتي: شديدة الخطر، وخطرة.

الشديدة الخطر كالسِلِّ والتيتانس (كزاز)، وشلل الأطفال، والجدري، والشاهوق، والحميراء، والخناق، ويعتبر اللقاح ضد هذه كلِّها إجبارياً.

أما الأمراض الخطرة كالتهاب السحايا، والكوليرا، والتيفوئيد، والحمَّى الصفراء، والكَلَب، فيتم تلقيح الطفل ضدَّها في حال الضرورة، أي في حال انتشار وبائي في البيئة المحيطة، أو إصابة واحد من المقرَّبين، أو في حال السفر والانتقال إلى مناطق قد تكون موبوءة.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (145)

واللقاح قد يعطي الجسم جراثيم مضعفة مخبرياً، أو ميتة، أو سموم الجراثيم، وكلها تحثُّ جهاز المناعة على تكوين العناصر المناعية الذاتية الجاهزة والقادرة على مهاجمة أسباب المرض لدى دخولها الجسم.

ويستغرق تكوُّن المناعة نتيجة للقاح الجرثومي أسبوعين أو ثلاثة بحسب كل لقاح، وقد يعطى الجسم أمصالاً تحوي مواد مانعة يتمُّ الحصول عليها من دم الحيوانات، كالحصان مثلاً، فيلقح الحصان بالجراثيم، وتؤخذ العناصر المناعية من دمه، ونتيجة للقاح المصل تحصل المناعة على الفور.

2 ـ الختان

مع أن الختان من الأحكام البديهية التي تعارفت عليها المجتمعات الإسلامية من بداية عهدها، ولم تتعرض للنقد والتشكيك، إلا أن بعض المشاغبين في هذا العصر حاول التشكيك فيها من جهتين:

1 ـ من جهة علاقتها بصحة الطفل، وسلامته الجسدية.

2 ـ من جهة ارتباطها بالديانة اليهودية، أو بالأعراف الجاهلية التي كانت سائدة في عهد النبوة.

ومن أمثلة التشكيك الوارد في هذا القضية التي أثارتها في صفحة (قضايا ساخنة) جريدة (الأحداث المغربية) في إطار الحوار الذي أجرته مع أحد الباحثين المدرسين لمادة القانون بسويسرا، والمتخصصين في العلاقة بين الدين والقانون (1).

وقد دار الحوار حول موضوع: (ختان الأطفال) وهو منشور بتاريخ 27، 28 ذو القعدة 1420 هـ الموافق 4 5 مارس عام 2000 م، تحت عنوان: (ختان الأطفال عادة تمسُّ

__________

(1) الختان من الإسلام حق من حقوق الإنسان، كتبه أبو أنس ميمون باريش، مجلة البيان.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (146)

الحق في سلامة الأبدان، وإلغاؤه جزء من تحرير الإنسان).

وهذا العنوان ملخص عن المقال المنشور، والمقال ملخص من كتاب ألفه الباحث نفسه في الموضوع ذاته، ومن خلال العنوان تتضح أهداف صاحب المقال ومقاصده ومراميه وطبيعة دعوته.

فالباحث المذكور يدعو بصراحة إلى محاربة عملية الختان والقضاء عليها، وهو يدَّعي أنه قضى ست سنوات من الدراسة والبحث والتنقيب والتفتيش انتهت به إلى تأليف كتابه المطبوع المتداول: (ختان الذكور والإناث في الديانات السماوية الثلاث)

وهو في سبيل بيان أن عملية الختان عادة ضارة ومخالفة لحقوق الإنسان من حيث إنها عنف واضطهاد، وتعدٍّ على سلامة الأبدان عمد إلى نفي الطابع الشرعي لهذه العملية الجراحية مدعياً أنها عرف يهودي سيئ نقله من أسلم من اليهود وفرضوه على المجتمع الإسلامي فرضاً؛ هذا مع تأكيده على أن القرآن الكريم لم يذكر الختان بتاتاً ولا نص عليه، وأنه على خلاف ذلك ينص على كمال الخلقة، ويدعو إلى احترام الأبدان ثم يقول: (وعلى هذا الأساس فسكوت القرآن عن الختان ليس عبثاً؛ فالختان بوصفه تعدياً على سلامة جسد الإنسان يعتبر خرقاً للمفهوم الفلسفي للقرآن بأن الخلق كامل).

ثم بعد محاولته هذه لنفي الشرعية القرآنية على الختان يحاول يائساً كذلك نفي الشرعية السنِّية عنه فيقول: (وهناك المصدر الثاني للشريعة الإسلامية وهي السنة؛ فبعد تمحيصي لكل النصوص التي صدرت في ختان الذكور يمكن القول: إن كل هذه النصوص ضعيفة، وكل الأحاديث التي وردت في ختان الذكور مختلقة، وما روي منها أكثره عن الرواة اليهود، إلى درجة أنَّ ختان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير معروف؛ فهناك أربع روايات متضاربة تماماً بخصوص ختان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثر الظن أنه لم يختن)

وانطلاقا من هذه المحاولات التشكيكية التي لا تستحق أن تعتبر قولا ثانيا في المسألة

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (147)

له اعتباره واستحقاق طرحه نحاول أن نبين هنا خطأ هذا التشكيك وعدم صحة الأسس التي يعتمد عليها:

مشروعية الختان

من القرآن الكريم

مما لا شك فيه أن القرآن الكريم لم ينص تنصيصاً صريحا على جميع جزئيات الشرع؛ بل ذكر بعضها بصيغة الإبهام، وبعضها الآخر بالإطلاق، وبعضها بالعموم تاركاً المجال واسعاً للسنة النبوية الشريفة لتبيين المجمل وتقييد المطلق وتخصيص العام.

فلذلك لا نجد في القرآن الكريم ذِكراً لعدد ركعات الصبح أو الظهر أو العصر أو غيرها، ولا نجد ذكراً لنصاب المال الذي تجب فيه الزكاة ولا لمقدار ما يجب في المال منها، إلا أن السنَّة فصَّلت ذلك تفصيلاً نفت به الإجمال عن النصوص.

بل إن في السنة زيادة على ذلك أحكام جديدة باعتبار لا تختلف عن القرآن الكريم في كونها وحيا يوحى بلغة صاحب الشرع الذي لا ينطق عن الهوى.

وقد كان من منهج السلف في مناظراتهم مع من أنكر مشروعية أمر لعدم وروده في القرآن الكريم تنصيصاً، أن يقيموا عليه الدليل بنص من النصوص القرآنية الداعية إلى ضرورة اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم والاقتداء به في أفعاله وأقواله وتقريراته (1).

وهذا المنهج هو الذي سنبين من خلاله شرعية الختان من القرآن الكريم، ويقال

__________

(1) من أمثلة ذلك: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن مسعود قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلِّجات للحسن المغيِّرات خلق الله)، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟! فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله (؟! وهو في كتاب الله. فقالت المرأة، لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته!! فقال: لئن كنت قرأته لقد وجدته! قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7).

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (148)

حينها للمنكر ما قال السلف لمثله: (لو قرأت فعلاً القرآن قراءة تأمل وتدبر وإمعان وإنصاف لوجدت فيه ذكراً صريحاً للختان وما في معناه من مظاهر الفطرة التي فطر الناس عليها)، وسنكتفي هنا بإيراد دليلين من جنس ما كان يستدل به السلف من القرآن الكريم:

الدليل الأول: أن القرآن الكريم يدعو إلى اتباع ملة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} (النحل: 123)، وقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (البقرة: 130)

ومن مظاهر ملة إبراهيم، والتي لا يستطيع أحد التشكيك فيها سواء من المسلمين أو من غيرهم (الاختتان)، فقد ورد في نصوص شرعية عديدة أن إبراهيم عليه السلام اختتن (1).

فالختان إذن مظهر من مظاهر الملة التي أمر إبراهيم الخليل بإظهارها والتي أمرنا باتباعه فيها، والأمر يفيد حكماً شرعياً يقتضي الامتثال، يقول القرطبي: (قلت: قد تقدم أن إبراهيم أول من اختتن، وأن ذلك لم يزل سُنَّة عامة معمولاً بها في ذريته وأهل الأديان المنتمين إلى دينه، وهو حكم التوراة على بني إسرائيل كلهم)

وقد كان العرب قبل الإسلام على بقية من دين إبراهيم عليه السلام أظهرها الحج، قال أبو شامة: (إن القلفة من المستقذرات عند العرب، وقد كثر ذم الأقلف- أي غير المختون ـ في أشعارهم، وكان للختان عندهم قدر، وله وليمة خاصة به، وأقر الإسلام ذلك)

الدليل الثاني: أن القرآن الكريم يحث على ضرورة الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر:7)، وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)، ومن سنته صلى الله عليه وآله وسلم التي لا يمكن الجدال

__________

(1) البخاري ومسلم.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (149)

في ثبوتها الختان.

أما ما زعم من تضارب الروايات في ختانه صلى الله عليه وآله وسلم، فالذي ترشد إليه هذه الروايات ـ بغض النظر عن درجتها في الصحة أو الضعف ـ هو أن التضارب لم يحصل في إثبات ختانه أو نفيه، وإنما وقع في بيان طبيعة ختانه: هل ولد مختوناً؟ أم ختنه جبريل عليه السلام يوم شق صدره؟ أم أن جده عبد المطلب هو الذي تولى الأمر؟

ويلحق بهذا ما ورد في النصوص من أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد تولى هذه العملية في حياته، ومن ذلك حديث جابر أنه قال: (عق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام)

هذا بخصوص سنته الفعلية، أما سنته القولية، فسنورد ما ورد فيها من أدلة في محلها بعد هذا.

من السنة المطهرة

من الأحاديث الواردة حول مشروعية الختان:

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الآباط) (1)، قال ابن القيم رحمه الله: (فجعل الختان رأس خصال الفطرة، وإنما كانت هذه الخصال من الفطرة؛ لأن الفطرة هي الحنيفية ملة إبراهيم، وهذه الخصال أُمِرَ بها إبراهيم وهي الكلمات التي ابتلاه ربه بهن)

2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أربع من سنن المرسلين: الختان، والتعطر، والسواك، والنكاح)

3 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن أسلم جديدا: (ألقِ عنك شعر الكفر، واختتن) (2)

الحكمة من الختان

__________

(1) البخاري ومسلم وغيرهما من أهل السنن.

(2) أحمد وأبو داود بسند حسن.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (150)

تكملة للكلام السابق في الرد على من يشكك في الختان، فيعتبره منافيا لحقوق الإنسان مضرا بصحته خاليا من أي مصلحة معتبرة نورد هنا بعض ما أثبتته الدراسات من وجوه المصالح المعتبرة في الختان، والتي تزيد في تأكيد مشروعيته التي سبق ذكر النصوص الدالة عليها، وهي في نفس الوقت أكبر رد على من لا تقنعهم النصوص الشرعية بقدر ما تقنعهم الدراسات العلمية (1):

الختان وقاية من الالتهابات الموضعية: فالقلفة التي تحيط برأس القضيب تشكل جوفاً ذو فتحة ضيقة يصعب تنظيفها، إذ تتجمع فيه مفرزات القضيب المختلفة بما فيها ما يفرز سطح القلفة الداخلي من مادة بيضاء ثخينة تدعى اللخن Smegma وبقايا البول والخلايا المتوسفة والتي تساعد على نمو الجراثيم المختلفة مؤدية إلى التهاب الحشفة أو التهاب الحشفة والقلفة الحاد أو المزمن (2).

الختان يقي من الإصابة بالتهاب المجاري البولية: ثبت في عديد من الدراسات الطبية أن التهابات الجهاز البولي في الذكور، صغاراً وكباراً، تزداد نسبتها زيادة ملحوظة في غير المختونين، وأن عدوى الأمراض المنقولة جنسياً كالزهري والسيلان وعلى الخصوص مرض الإيدز تكون في غير المختونين أكبر بكثير منها في المختونين.

وقد وجد جنز برغ أن 95% من التهابات المجاري البولية عند الأطفال تحدث عند غير المختونين. ويؤكد أن جعل الختان أمراً روتينياً يجري لكل مولود في الولايات المتحدة منع حدوث أكثر من 50 ألف حالة من التهاب الحويضة والكلية سنوياً (3).

ولهذا كتب البروفسور ويزويل في عام 1990 يقول: (لقد كنت من أشد أعداء الختان

__________

(1) قبسات من الطب النبوي باختصار، الأربعون العلمية، عبد الحميد محمود طهماز.

(2) د. محمد علي البار، الختان، دار المنار.

(3) د. حسان شمسي باشا: أسرار الختان تتجلى في الطب والشريعة ابن النفيس دمشق.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (151)

وشاركت في الجهود التي بذلت عام 1975 ضد إجرائه، إلا أنه في بداية الثمانينات أظهرت الدراسات الطبية زيادة في نسبة حوادث التهابات المجاري البولية عند الأطفال غير المختونين، وبعد تمحيص دقيق للأبحاث التي نشرت، فقد وصلت إلى نتيجة مخالفة وأصبحت من أنصار جعل الختان أمراً روتينياً يجب ان يجري لكل مولود) (1)

الختان والأمراض الجنسية: أكد البروفسور وليم بيكوز الذي عمل في البلاد العربية لأكثر من عشرين عاماً، وفحص أكثر من 30 ألف امرأة ندرة الأمراض الجنسية عندهم وخاصة العقبول التناسلي والسيلان والكلاميديا والتريكوموناز وسرطان عنق الرحم ويُرجع ذلك لسببين هامين ندرة الزنى وختان الرجال (2).

الختان والوقاية من السرطان: يقول البرفسور كلو دري: (يمكن القول وبدون مبالغة بأن الختان الذي يجري للذكور في سن مبكرة يخفض كثيراً من نسبة حدوث سرطان القضيب عندهم)

وقد نشرت المجلة الطبية البريطانية BMG ـ وهي من أشهر المجلات الطبية ـ مقالاً عن سرطان القضيب ومسبباته عام 1987، جاء في هذا المقال: إن سرطان القضيب نادر جداً عند اليهود وفي البلدان الإسلامية، حيث يجري الختان أثناء فترة الطفولة، وأثبتت الإحصائيات الطبية أن سرطان القضيب عند اليهود لم يشاهد إلا في تسعة مرضى فقط في العالم كله.

ومن العوامل المهيئة لحدوث سرطان القضيب: التهاب الحشفة، ولما كان الختان يزيل هذه القلفة من أساسها فإن المختونين لا يحدث لديهم تضيُّق في القلفة، كما أنه يندر جداً أن يحدث التهاب الحشفة عندهم، ويبدو أن تضيُّق القلفة ينجم عن احتباس اللخن

__________

(1) البروفسور ويزويل عن مجلة Amer.Famil J. Physician.

(2) Pikers W: Med. Dijest jour.April 1977.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (152)

وهي مفرزات تتجمع بين حشفة القضيب والقلفة عند غير المختونين، وقد ثبت أن لهذه المواد فعلاً مسرطناً.

ونشرت مجلة المعهد الوطني للسرطان دراسة أكدت فيها أن سرطان القضيب ينتقل عبر الاتصال الجنسي، وأشارت إلى أن الاتصال الجنسي المتعدد بالبغايا يؤدي إلى حدوث هذا. كما ورد في تقرير نشرته الأكاديمية لأمراض الأطفال جاء فيه: إن الختان هو الوسيلة الفعالة للوقاية من سرطان القضيب. وأكدت المجلة الأمريكية لأمراض الأطفال أن العوامل الدينية عند المسلمين واليهود التي تقرر اتباع الختان: تلعب عاملاً أساسياً في حث هؤلاء على الأخذ بهذه الفطرة.

حكم أخرى: بالإضافة إلى هذه الحكم الصحية هناك حكم أخرى منها:

1 ـ أن الأقلف أي الذي لم يختتن في حكم من به سلس البول أو غيره لاحتباس البول في القلفة؛ إذ إن (الأقلف مُعرَّض لفساد طهارته وصلاته؛ فإن القلفة تستر الذكر كله فيصيبها البول، ولا يمكن لاستجمار لها، فصحة الطهارة والصلاة موقوفة على الختان)

2 ـ أن الختان يساهم في تحقيق التوازن الجنسي عند بني آدم. يقول ابن القيم: (هذا مع ما في الختان من الطهارة، والنظافة، والتزيين، وتحسين الخلقة، وتعديل الشهوة التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوانات، وإذا عدمت بالكلية ألحقته بالجمادات؛ فالختان يعدلها)

أحكام الختان

الحكم التكليفي

اختلف الفقهاء في حكم الختان بعد الاتفاق على مشروعيته على الأقوال التالية:

القول الأول: الختان سنة في حق الرجال وليس بواجب، وهو قول الحنفية والمالكية، وهو وجه شاذ عند الشافعية، ورواية عن أحمد، وقالوا: إنه من الفطرة ومن شعائر الإسلام، فلو اجتمع أهل بلدة على تركه حاربهم الإمام، كما لو تركوا الأذان.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (153)

وقد استدلوا على هذا بما يلي:

1 ـ حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء) (1)

2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خمس من الفطرة الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) (2)، فقد اقترن الختان في الحديث بقص الشارب وغيره، مع أنه ليس واجبا.

3 ـ أن الختان قطع جزء من الجسد ابتداء، فلم يكن واجبا بالشرع قياسا على قص الأظفار.

القول الثاني: الختان واجب على الرجال، قال ابن القيم: (قال الشعبي، وربيعة، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك (3) والشافعي وأحمد: هو واجب، وشدد فيه مالك حتى قال: من لم يختتن لم تجز إمامته ولم تقبل شهادته) (4)، وقد استدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:123)، فقد أمرنا باتباع إبراهيم عليه السلام، وهويدل على أن فعل تلك الأمور التي كان يفعلها هي من شرعنا وواجبة علينا.

__________

(1) أحمد.

(2) البخاري: 5/ 2209، مسلم: 1/ 221، ابن حبان: 12/ 293، البيهقي 1/ 149، أبو داود: 4/ 84، النسائي: 1/ 65، ابن ماجة: 1/ 107، أحمد: 2/ 239، مسند الحميدي: 2/ 418.

(3) روي عن الإمام مالك القولان، وإن كان المذهب على أنه سنة مؤكدة كم ذكر ذلك ابن جزي في (القوانين الفقهية، ص 129) قال: (أما ختان الرجل فسنة مؤكدة عند مالك وأبى حنيفة كسائر خصال الفطرة التى ذكر معها وهى غير واجبة اتفاقاً)

ونقل كثير من الفقهاء عن مالك أنه سنة، حتى قال القاضي عياض: الاختتان عند مالك وعامة العلماء سنة، ولكن السنة عندهم يأثم بتركها، فهم يطلقونها على مرتبة بين الفرض والندب، وإلا فقد صرح مالك بأنه لا تقبل شهادة الأقلف، ولا تجوز إمامته..

(4) تحفة المودود: 162.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (154)

2 ـ ما روي من حديث كليب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قال له: (ألق عنك شعر الكفر واختتن) (1)

3 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم) (2)

4 ـ أن الختان لو لم يكن واجبا لما جاز كشف العورة من أجله، ولما جاز نظر الخاتن إليها وكلاهما حرام.

5 ـ أن الختان من شعار المسلمين فكان واجبا كسائر شعارهم.

6 ـ أن الختان مما جرى عليه المسلمون وعملوا به، وتوارثوه كابراًعن كابر، بقضهم وقضيضهم، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا في أمر واجب.

7 ـ أن القلفة تحبس النجاسة فتمنع صحة الصلاة، كمن أمسك نجاسة.

8 ـ أنه قطع عضو- لا يستخلف- من الجسد، تعبداً، فيكون واجباً كقطع اليد في السرقة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بالوجوب اعتبارا للأدلة الكثيرة على ذلك، زيادة على المنافع الحاصلة للمختتن، زيادة على كون الختان من الأمور الضرورية التي تعارفت بها الأمة.

ولكن هذا الحكم مع ذلك قد يصدق مع الصغير، فلا يكلف الكبير الذي أسلم بالختان، والحديث المروي في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكبير بالختان ضعيف، لا يصح الاستدلال به، فلذلك يمكن القول بسنيته للكبير في حال عدم تضرره به.

مقدار ما يقطع في الختان

__________

(1) انظر: مسند أحمد: 3/ 415، وسنن أبي داوود: 1/ 148 برقم 356، والكامل لابن عدي: 1/ 223، والسنن الكبرى: 1/ 172.

(2) البخاري كتاب أحاديث الأنبياء: 4/ 170/171.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (155)

اختلف الفقهاء في مقدار ما يقطع في الختان على الأقوال التالية:

القول الأول: يكون ختان الذكور بقطع الجلدة التي تغطي الحشفة، وتسمى القلفة، والغرلة، بحيث تنكشف الحشفة كلها.

القول الثاني: إنه إذا اقتصر على أخذ أكثرها جاز، وهو قول عند الحنابلة.

القول الثالث: يكفي قطع شيء من القلفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها، وهو قول ابن كج من الشافعية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أنها من المسائل الطبية التي يرجع فيها للأطباء ليفتوا فيها بحسب المصلحة الصحية للمختون، لأن الختان لا يعدوا أن يكون عملية جراحية تجميلية لها فوائد صحية، وهو أشبه ما يكون بقطع الحبل السري للاستغناء عنه.

وقت الختان

اتفق الفقهاء القائلون بوجوب الختان على أن وقت الوجوب هو ما بعد البلوغ، لأن الختان من أجل الطهارة، وهي لا تجب عليه قبله، واختلفوا في الوقت المستحب لذلك على قولين:

القول الأول: الوقت الذي يستحب فيه الختان هو اليوم السابع، وهو قول الجمهور والإمامية، لحديث جابر: (عق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام) (1)

القول الثاني: إن المستحب ما بين العام السابع إلى العاشر من عمره، وهو قول

__________

(1) قال ابن حجر في التلخيص: 4/ 83: [أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث عائشة، والبيهقي من وراية جابر عن رسول الله - (-]. قلت: وأخرجه البيهقي في الكبرى: 8/ 324 من طريق الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد المكي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: عق رسول الله (عن الحسن والحسين، وختنهما لسبعة أيام. وزهير بن محمد المكي قال أبو حاتم: محله الصدق وفي حفظه سوء، وكان حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق لسوء حفظه، فما حدث من حفظه ففيه أغاليط، وما حدث من كتبه فهو صالح. مات سنة 162. وانظر التهذيب للمزي: 9/ 417.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (156)

للحنابلة والمالكية، لأنها السن التي يؤمر فيها بالصلاة.

القول الثاث: أنه وقت الإثغار، إذا سقطت أسنانه، وهو رواية عن مالك.

القول الرابع: أن العبرة بطاقة الصبي إذ لا تقدير فيه، فيترك تقديره إلى الرأي، وهو الأشبه عند الحنفية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو خضوعها لحكم الطبيب المختص الثقة الذي ينظر إلى مدى استعداد الصبي للختان، وأشبه الأقوال بهذا هو القول الرابع، فإن رأى الطبيب عدم تضرر الصبي بالختان في اليوم السابع، فهو أفضل، فإن لم ير ذلك، فإنه يقدم بقدر الإمكان مراعاة للفورية في تنفيذ الأحكام الشرعية، ولمصلحة الصبي الصحية.

مسقطات وجوب الختان

من مسقطات الختان التي نص عليها الفقهاء:

ختان من يضعف عن الختان

من كان ضعيف الخلقة بحيث لو ختن خيف عليه، لم يجز أن يختن حتى عند القائلين بوجوبه، بل يؤجل حتى يصير بحيث يغلب على الظن سلامته، لأنه لا تعبد فيما يفضي إلى التلف؛ ولأن بعض الواجبات يسقط بخوف الهلاك فالسنة أحرى، وهذا عند من يقول إن الختان سنة.

وللحنابلة تفصيل في مذهبهم، ملخصه أن وجوب الختان يسقط عمن خاف تلفا، ولا يحرم مع خوف التلف لأنه غير متيقن، أما من يعلم أنه يتلف به وجزم بذلك فإنه يحرم عليه الختان لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195)

الموت

اختلف الفقهاء في حكم من مات من غير اختتان، هل يختتن أم لا على قولين:

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (157)

القول الأول: لا يختن الميت الأقلف الذي مات غير مختون، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن الختان كان تكليفا، وقد زال بالموت.

2 ـ أن المقصود من الختان التطهير من النجاسة، وقد زالت الحاجة بموته.

3 ـ أنه جزء من الميت فلا يقطع، كيده المستحقة في قطع السرقة، أو القصاص وهي لا تقطع من الميت.

4 ـ أنه لا يصح قياس الختان على قص الشعر والظفر؛ لأنهما يزالان في الحياة للزينة، والميت يشارك الحي في ذلك، وأما الختان فإنه يفعل للتكليف به، وقد زال بالموت.

القول الثاني: أنه يختن، وهو قول ثان للشافعية، لأنه كالكبير والصغير، لأنه كالشعر والظفر وهي تزال من الميت.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الختان حكم معقول المعنى، يرتبط بصحة الإنسان وطهارته، وهذه الحكمة تنتفي بعد الموت، فلا حاجة للختان بعد الموت.

عدم القلفة

اختلف الفقهاء في حكم ختان من من ولد مختونا بلا قلفة على قولين:

القول الأول: من ولد مختونا بلا قلفة فلا ختان عليه لا إيجابا ولا استحبابا، فإن وجد من القلفة شيء يغطي الحشفة أو بعضها، وجب قطعه كما لو ختن ختانا غير كامل، فإنه يجب تكميله ثانيا حتى يبين جميع القلفة التي جرت العادة بإزالتها في الختان.

القول الثاني: إنه تجرى عليه الموسى، فإن كان فيه ما يقطع قطع، وهو قول عند المالكية.

الترجيح:

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (158)

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرنا سابقا من أن الختان عملية جراحية تجميلية لها قصد صحي، فلذلك تنتفي بكل ما يرفع عنها هذه الحكمة، زيادة على ذلك، فهو من خصال الفطرة، ولم يقل أحد من الفقهاء بأن من لم تنموا أظفاره عليه أن يجري عليها الموسى ليقوم بسنة قص الأظفار.

ختان الإناث

من الأحكام التي تلقى جدلا كبيرا في الواقع (ختان الإناث) بأشكاله المختلفة في بعض بلدان العالم الإسلامي، وهو بتطبيقاته الواقعية في أكثر هذه البلدان ضرر محض لم تأت به الشريعة ولا نص عليه الفقهاء، بل هو من العادات التي قد تكون متوارثة في هذه البلدان من غير حرص منها على تطبيق الشرع في المسألة، وإلا فإن للتطبيق الشرعي شروطه التي تنفي الضرر.

وقد اختلف الفقهاء في مدى مشروعية هذا النوع من الختان على قولين:

القول الأول: أنه مشروع، وهو قول جماهير العلماء، واستدلوا لذلك بالأدلة التي سيرد ذكرها عند بيان اختلافهم في نوع مشروعيته.

وقد اختلف أصحاب هذا القول في نوع الحكم المرتبط به، والذي يفهم من الأدلة التي أوردوها على الآراء التالية:

الرأي الأول: أنه واجب، قال النووي: (الختان واجب على الرجال والنساء عندنا، وبه قال كثيرون من السلف، كذا حكاه الخطابي، وممن أوجبه أحمد)، ورى عن الشافعي وجهان آخران، فقال: (وقال مالك وأبو حنيفة: سنة في حق الجميع وحكاه الرافعي وجها لنا، وحكى وجها ثالثا أنه يجب على الرجل وسنة في المرأة، وهذان الوجهان شاذان، والمذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي رحمه الله وقطع به الجمهور أنه واجب على الرجال والنساء)، وقال الإمام أحمد هو واجب فى حق الرجال. وفى النساء عنه روايتان

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (159)

أظهرهما الوجوب، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ لو كان الختان سنة لما كشفت العورة المحرم كشفها له.

2 ـ أن الختان قطع عضو سليم، فلو لم يجب لم يجز كقطع الأصبع، فإن قطعها إذا كانت سليمة لا يجوز إلا إذا وجب بالقصاص.

وقد حاول الشيخ جاد الحق على جاد الحق أن ينتصر لهذا القول في فتوى من فتاويه، نص سائلها على (أن له بنتين صغيرتين إحداهما ست سنوات والأخرى سنتان وأنه قد سأل بعض الأطباء المسلمين عن ختان البنات، فأجمعوا على أنه ضار بهن نفسيا وبدينا، فهل أمر الإسلام بختانهن أو أن هذا عادة متوارثة عن الأقدمين فقط)

فأجاب الشيخ بعد استعراضه لما ورد في المصنفات الفقهية من أقوال العلماء في حكم الخفاض: (لما كان ذلك كان المستفاد من النصوص الشرعية، ومن أقوال الفقهاء على النحو المبين والثابت فى كتب السنة والفقة أن الختان للرجال والنساء من صفات الفطرة التى دعا إليها الإسلام وحث على الالتزام بها على ما يشير إليه تعليم رسول الله كيفية الختان، وتعبيره فى بعض الروايات بالخفض، مما يدل على القدر المطلوب فى ختانهن)

وأضاف بعد استدلاله بكون المراد بالفطرة سنة الإسلام، لا السنة التي تقابل الفرض: (ومن هنا اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الختان للرجال والنساء من فطرة الإسلام وشعائره، وأنه أمر محمود، ولم ينقل عن أحد من فقهاء المسلمين فيما طالعنا من كتبهم التى بين أيدينا - القول بمنع الختان للرجال أو النساء، أو عدم جوازه أو إضراره بالأنثى، إذا هو تم على الوجه الذى علمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأم حبيبة فى الرواية المنقولة آنفا، أما الاختلاف فى وصف حكمه، بين واجب وسنة ومكرمة، فيكاد يكون اختلافا فى الاصطلاح الذى يندرج تحته الحكم، يشير إلى هذا ما نقل فى فقه الإمام أبى حنيفة من أنه لو اجتمع أهل مصر على ترك الختان، قاتلهم الإمام (ولى الأمر) لأنه من شعائر الإسلام

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (160)

وخصائصه (1)، كما يشير إليه أيضا أن مصدر تشريع الختان هو اتباع ملة إبراهيم، وقد اختتن، وكان الختان من شريعته، ثم عده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من خصال الفطرة، وأميل إلى تفسيرها بما فسرها به الشوكانى - حسبما سبق - بأنها السنة التى هى طريقة الإسلام ومن شعائره وخصائصه، وكما جاء فى فقه الحنفيين)

وانطلاقا من هذا رد على الاستفتاء السابق بقوله: (وإذا قد استبان مما تقدم أن ختان البنات المسئول عنه من فطرة الإسلام وطريقته على الوجه الذى بينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لا يصح أن يترك توجيهه وتعليمه إلى قول غيره ولو كان طبيبا، لأن الطب علم والعلم متطور، تتحرك نظرته ونظرياته دائما، ولذلك نجد أن قول الأطباء فى هذا الأمر مختلف، فمنهم من يرى ترك ختان النساء، وآخرون يرون ختانهن، لأن هذا يهذب كثيرا من إثارة الجنس لا سيما فى سن المراهقة التى هى أخطر مراحل حياة الفتاة، ولعل تعبير بعض روايات الحديث الشريف فى ختان النساء بأنه مكرمة يهدينا إلى أن فيه الصون، انه طريق للعفة، فوق أنه يقطع تلك الإفرازات الدهنية التى تؤدى إلى التهابات مجرى البول وموضع التناسل، والتعرض بذلك للأمراض الخبيثة، هذا ما قاله الأطباء المؤيدون لختان النساء، وأضافوا أن الفتاة التى تعرض عن الختان تنشأ من صغرها وفى مراهقتها حادة المزاج سيئة الطبع، وهذا أمر قد يصوره لنا ما صرنا إليه فى عصرنا من تداخل وتزاحم، بل وتلاحم بين الرجال والنساء فى مجالات الملاصقة والزحام التى لا تخفى على أحد، فلو لم تقم الفتاة بالاختتان لتعرضت لمثيرات عديدة تؤدى بها - مع موجبات أخرى، تذخر بها حياة العصر، وانكماش الضوابط فيه - إلى الانحراف والفساد) (2)

الرأي الثاني: أنه سنة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

__________

(1) الاختيار شرح المختار: 2/ 121.

(2) ختان البنات، المفتى: فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق، ربيع الأول 1401 هجرية - 29 يناير 1981 م.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (161)

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا التقى الختانان وجب الغسل) (1)، ففيه بيان أن النساء كن يختتن.

2 ـ حديث عمر: إن ختانة ختنت، فقال: (أبقي منه شيئا إذا خفضت)

3 ـ قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الختان سنة للرجال، ومكرمة للنساء) (2)، وعن جابر بن زيد مثل ذلك موقوفا عليه.

4 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم للخافضة: (أشمي ولا تنهكي، فإنه أحظى للزوج، وأسرى للوجه) (3)، والخفض: ختانة المرأة.

الرأي الثالث: أنه مكرمة.

القول الثاني: عدم مشروعية ختان الأنثى، وأنه لا سنة ولا مكرمة، ولا حظ له من المشروعية، وهو قول بعض الفقهاء المعاصرين، ومن بينهم الأستاذ سليم العوا (4)، وسنقتبس هنا من كلامه ما استدل به لهذا القول محاولين التصرف معه بحسب الطريقة التي جرينا علهيا في هذه السلسلة من تصنيف الأدلة:

الاستصحاب: وهو كما ينص الأستاذ سلم: (أن حكم الشريعة الإسلامية يؤخذ من مصادرها الأصلية المتفق عليها: وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، والإجماع بشروطه المقررة في علم أصول الفقه، والقياس المستوفي لشروط الصحة.

أما فقه الفقهاء، فهو العمل البشري الذي يقوم به المتخصصون في علوم الشرع لبيان

__________

(1) الترمذي: رقم (108 و109) وقال: حديث حسن صحيح.

(2) سيأتي تخريج الحديث مفصلا.

(3) سيأتي تخريج الحديث مفصلا.

(4) قال بعد سرده للأدلة على هذا القول: (وهكذا يتبين حكم الشرع في ختان الأنثى: أنه لا واجب ولا سنة، ولم يدل على واحد منهما دليل، وليس مكرمة أيضاً لضعف جميع الأحاديث الواردة فيه. بل هو عادة، وهي عادة ليست عامة في كل بلاد الإسلام بل هي خاصة ببعضها دون بعض. وهي عادة ضارة ضرراً محضاً لا يجوز إيقاعه بإنسان دون سبب مشروع، وهو ضرر لا يعوض لا سيما النفسي منه)

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (162)

أحكام الشريعة في كل ما يهم المسلمين- بل الناس أجمعين- أن يعرفوا حكم الشريعة فيه. ولا يعد كلام الفقهاء شريعة، ولا يحتج به على أنه دين، بل يحتج به على أنه فهم للنصوص الشرعية، وإنزال لها على الواقع، وهو سبيل إلى فهم أفضل لهذه النصوص وكيفية إعمالها، لكنه ليس معصوماً، ويقع في الخطأ كما يقع في الصواب. والمجتهد المؤهل من الفقهاء مأجور أجرين حين يصيب؛ ومأجور أجراً واحداً حين يخطاء.

فإذا أردنا أن نتعرف على حكم الشريعة الإسلامية في مسألة ختان الإناث، فإننا نبحث في القرآن الكريم ثم السنة النبوية ثم الإجماع ثم القياس، وقد نجد في الفقه ما يعيننا فنطمأن به إلى فهمنا ونؤكده، وقد لا نجد فيه ما ينفع في ضوء علم عصرنا وتقدم المعارف الطبية خاصة، فنتركه وشأنه ولا نعول على ما هو مدون في كتبه.

وقد خلا القرآن الكريم من أي نص يتضمن إشارة من قريب أو بعيد إلى ختان الإناث. وليس، هناك إجماع على حكم شرعي فيه، ولا قياس يمكن أن يقبل في شأنه.

أما السنة النبوية فإنها مصدر ظن المشروعية، لما ورد في مدوناتها من قريب أو منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشأن الحق أنه ليس في هذه المرويات دليل واحد صحيح السند يجوز أن يستفاد منه حكم شرعي في مسألة بالغة الخطورة على الحياة الانسانية كهذه المسألة.

ولا حجة ــ عند أهل العلم- في الأحاديث التي لم يصح نقلها، إذ الحجة فيما صح سنده دون سواه.

ولمثل هذا الفهم قال الإمام ابن المنذر: (ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع) (1)، وقال الإمام الشوكاني: (ومع كون الحديث لا يصلح للاحتجاج به فهو لا حجة فيه على المطلوب) (2)

__________

(1) نقله عنه: شمس الحق العظيم آبادي في شرحه لسنن أبي داوود، 14/ 126.

(2) نيل الأوطار:1/ 139.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (163)

وهكذا يتبين أن السنة الصحيحة لا حجة فيها على مشروعية ختان الأنثى. وأن ما يحتج به من أحاديث الختان للإناث كلها ضعيفة لا يستفاد منها حكم شرعي. وأن الأمر لا يعدو أن يكون عادة من العادات، ترك الإسلام للزمن ولتقدم العلم الطبي أمر تهذيبياً أو إبطالها.

عدم صحة ما استدل به المخالفون من السنة: يتفق جميع العلماء على تضعيف الأحاديث الواردة في ختان الإناث، قال ابن المنذر: ليس في الختان خبر يرجع إليه، ولا سند يتبع (1)، وقال الشيخ سيد سابق: (أحاديث الأمر بختان المرأة ضعيفة لم يصح منها شيء) (2)

وسنورد ما ذكر المحدثون عن النصوص التي وردت في ختان الإناث:

الحديث الأول: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الختان سنة في الرجال، مكرمة في النساء)، وقد توجه له النقد التالي في السند والمتن:

السند: نص الحافظ العراقي في تعليقه على إحياء علوم الدين على ضعفه، ونص الحافظ ابن حجر في كتابه: تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، على ضعف هذا الحديث (3)، ونقل قول الإمام البيهقي فيه: إنه ضعيف منقطع.

__________

(1) التلخيص الحبير: 4\ 154.

(2) فقه السنة: 1/ 33.

(3) هذا النص الكامل لكلام ابن حجر في الحديث: (رواه أحمد والبيهقي من حديث الحجاج بن أرطاة، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه به، والحجاج مدلس وقد اضطرب فيه، فتارة رواه كذا، وتارة رواه بزيادة شداد بن أوس بعد والد أبي المليح، أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم في العلل والطبراني في الكبير وتارة رواه عن مكحول، عن أبي أيوب أخرجه أحمد وذكره ابن أبي حاتم في العلل، وحكى عن أبيه أنه خطأ من حجاج، أو من الراوي عنه، عبد الواحد بن زياد، وقال البيهقي هو ضعيف منقطع، وقال ابن عبد البر في التمهيد هذا الحديث يدور على حجاج بن أرطاة، وليس بمن يحتج به. قلت: وله طريق أخرى من غير رواية حجاج، فقد رواه الطبراني في الكبير والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا، وضعفه البيهقي في السنن، وقال في المعرفة: لا يصح رفعه، وهو من رواية الوليد، عن ابن ثوبان، عن ابن عجلان، عن عكرمة، عنه، ورواته موثقون إلا أن فيه تدليسا، انظر: التلخيص الحبير: 4\ 153.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (164)

وقال ابن عبد البر في (التمهيد): (إنه يدور على رواية راوٍ لا يحتج به (1).

وكلام الحافظ أبي عمر ابن عبد البر في كتابه المذكور نصه: (واحتج من جعل الختان سنة بحديث أبي المليح هذا، وهو يدور على حجاج بن أرطاة، وليس ممن يحتج بما انفرد به) (2)

وعلى ذلك فليس في هذا النص حجة، لأنة نص ضعيف، مداره على راو لايحتج بروايته، فكيف يؤخذ منه حكم شرعي بأن أمراً معيناً من السنة أو من المكرمات وأقل أحوالها أن تكون مستحبة، والاستحباب حكم شرعي لا يثبت، إلا بدليل صحيح.

ولا يرد على ذلك بأن لهذا الحديث شاهداً أو شواهد من حديث أم عطية، فإن جميع الشواهد التي أوردها بعض من ذهب إلى صحته، معلولة بعلل قادحة فيها، مانعة من الاحتجاج بها.

المتن: على الفرض الجدلي أن الحديث صحيح- وهو ليس كذلك- فإنه ليس فيه التسوية بين ختان الذكور وختان الإناث في الحكم، بل فيه التصريح بأن ختان الإناث ليس بسنة، وإنما هو في مرتبة دونها.

وكأن الإسلام حين جاء وبعض العرب يختنون الإناث أراد تهذيب هذه العادة بوصف الكيفية البالغة منتهى الدقة، الرقيقة غاية الرقة، بلفظ (أشمى ولا تنهكى) الذي في الرواية الضعيفة الأولى، وأراد تبيين أنه ليس من أحكام الدين ولكنه من أعراف الناس بذكر أنه (سنة للرجال...) وهي ـ أي السنة ـ هنا بمعنى العادة لا بالمعنى الأصولي للكلمة- في الرواية الضعيفة الثانية.

ولا تحتمل الروايتان على الفرض الجدلي بصحتهما تأويلاً سائغاً فوق هذا. ولو أراد

__________

(1) عون المعبود في شرح سنن أبي داوود لشمس الحق العظيم آبادي، 14/ 124.

(2) التمهيد: 21/ 59.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (165)

النبي صلى الله عليه وآله وسلم التسوية بين الرجال والنساء لقال: (إن الختان سنة الرجال والنساء)، أو لقال: (الختان سنة) وسكت؟ فإنه عندئذ يكون تشريعاً عاماً ما لم يقم دليل على خصوصيته ببعض دون بعض. أما وقد فرق بينهما في اللفظ- لو صحت الرواية- فإن الحكم يكون مختلفاً، وكونه سنة- بالمعنى الأعم لهذه الكلمة ــ يكون في حق الرجال فحسب. وهذا هو ما فهمه الإمام ابن عبد البر القرطبى حين. عرض بالذين قالوا إنه (سنة) لاعتمادهم تلك الرواية الضعيفة وبين أن الإجماع منعقد على ختان الرجال.

الحديث الثاني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأم عطية وكانت خافضة: (يا أم عطية أشمي ولا تنهكي، فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج)

وهذا الحديث أشهر أحاديث ختان الإناث وقد تعرض للنقد التالي:

السند: هذا الحديث رواه الحكم والبيهقي وأبو داوود بألفاظ متقاربة، وكلهم رووه بأسانيد ضعيفة كما بين ذلك الحافظ زين الدين العراقي في تعليقه على إحياء علوم الدين للغزالي (1).

وقد عقب أبو داوود على هذا الحديث بقوله: (روي عن عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك بمعناه وإسناده. وليس هو بالقوي، وقد روي مرسلاً... وهذا الحديث ضعيف) (2)

وقد جمع بعض المعاصرين طرق هذا الحديت، وكلها طرق ضعيفة لا تقوم بها حجة (3) حتى قال العلامة محمد الصباغ في رسالته عن ختان الإناث: (فانظر رعاك الله إلى

__________

(1) انظر: الإحياء: / 148.

(2) سنن أبى داوود مع شرحها عون المعبود،13/ 135.

(3) قال ابن حجر: رواه الحاكم في المستدرك من طريق عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أسيد، عن عبد الملك بن عمير، ورواه الطبراني وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي من هذا الوجه، عن عبيد الله بن عمرو قال: حدثني رجل من أهل الكوفة، عن عبد الملك بن عمير به، وقال المفضل العلائي: سألت ابن معين عن هذا الحديث فقال: الضحاك بن قيس هذا ليس بالفهري، قلت: أورده الحاكم، وأبو نعيم في ترجمة الفهري، وقد اختلف فيه على عبد الملك بن عمير، فقيل عنه كذا، وقيل: عنه عن عطية القرظي، قال: كانت بالمدينة خافضة يقال لها: أم عطية، فذكره، رواه أبو نعيم في المعرفة، وقيل: عنه، عن أم عطية، رواه أبو داود في السنن، وأعله بمحمد بن حسان، فقال: إنه مجهول ضعيف، وتبعه ابن عدي في تجهيله والبيهقي، وخالفهم عبد الغني بن سعيد فقال: هو محمد بن سعيد المصلوب، وأورد هذا الحديث من طريقه في ترجمته من إيضاح الشك، وله طريقان آخران، رواه ابن عدي من حديث سالم بن عبد الله بن عمر).

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (166)

هذين الإمامين الجليلين أبي داود والعراقي وكيف حكما عليه بالضعف، ولا تلتفت إلى من صححه من المتأخرين)

فحديث أم عطية- إذن- بكل طرقه لا خير فيه ولا حجة تستفاد. منه.

الحديث الثالث: ما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا نساء الأنصار اختضبن غمسا، واخفضن، ولا تنهكن، فإنه أحظى عند أزواجكن، وإياكن وكفران النعم)

وقد توجه له النقد التالي:

السند: هذا الحديث رواه البزار، وفي إسناده مندل بن علي وهو ضعيف، وفي إسناد ابن عدي: خالد بن عمرو القرشي وهو أضعف من مندل، ورواه الطبراني في الصغير وابن عدي أيضا عن أبي خليفة، عن محمد بن سلام الجمحي، عن زائدة بن أبي الرقاد، عن ثابت، عن أنس نحو حديث أبي داود، قال ابن عدي: تفرد به زائدة، عن ثابت، وقال الطبراني: تفرد به محمد بن سلام، وقال ثعلب: رأيت يحيى بن معين في جماعة بين يدي محمد بن سلام فسأله عن هذا الحديث، وقد قال البخاري في زائدة: إنه منكر الحديث (1).

المتن: أن التوجيه الوارد فيه لا يتضمن أمراً بختان البنات، وإنما يتضمن تحديد كيفية هذا الختان إن وقع، وأنها (إشمام) وصفه العلماء بأنه كإشمام الطيب، يعنى أخذ جزء يسير لا يكاد يحس من الجزء الظاهر من موضع الختان وهو الجلدة التي تسمى (القلفة)، وهو كما قال الإمام النووي: (قطع أدنى جزء مها)

فالمسألة مسألة طبية دقيقة تحتاج إلى جراح متخصص يستطيع تحديد هذا الجزء

__________

(1) التلخيص الحبير: 4\ 154.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (167)

المستعلي الذي هو أدنى جزء منها، ولا يمكن أن تتم لو صح جوازها- على أيدي الأطباء العاديين فضلاً عن غير المتخصصين في الجراحة من أمثال القابلات والدايات وحلاقي الصحة، كما هو الواقع في بلادنا وغيرها من البلاد التي تجرى فيها هذه العملية الشنيعة للفتيات.

الحديث الرابع: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذ التقى الختانان فقد وجب الغسل)

هذا الحديث صحيح رواه مالك في الموطأ، ومسلم في صحيحه، والترمذي وابن ماجة في سننهما، وغيرهم من أصحاب مدونات الحديث النبوي.

وموضع الشاهد هنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الختانان) إذ فيه تصريح بموضع ختان الرجل والمرأة، مما قد يراه بعضا الناس حجة على مشروعية ختان النساء.

ولا حجة في هذا الحديث الصحيح على ذلك. لأن اللفظ هنا جاء من باب تسمية الشيئين أو الشخصين أو الأمرين باسم الأشهر منهما، أو باسم أحدهما على سبيل التغليب.

وقد وقع مثل هذا كثيرا في الغة العربية، ومنه على سبيل المثال: العمران (أبو بكر عمر)، والقمران (الشمس والقمر) والنيران (هما أيضاً، وليس في القمر نور بل انعكاس نور الشمس عليه) والعشاءان (المغرب والعشاء) والظهران (الظهر، العصر)

والعرب تغلب الأقوى والأقدر في التثنية عادة ولذلك، قالوا للوالدين: (الأبوان) وهما أب وأم. وقد يغلبون الأخف نطقاً في العمرين (لأبي بكر وعمر)، أو الأعظم شأناً كما في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) (فاطر:12)، فالأول النهر والثاني البحر الحقيقي، وقد يغلبون الأنثى في هذه التثنية ومن ذلك قولهم: (المروتان) يريدون جبلي الصفا والمروة في مكة المكرمة. وكل ذلك مشهور معروف عند أهل العلم بلسان العرب (1).

__________

(1) انظر: النحو الوافي لعباس حسن، 1/ 118 - 119.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (168)

الرد على ما توهمه المخالفون من سد الذريعة: فقد نص المخالفون ـ كما مر معنا ـ على أن الختان يهذب كثيراً من إثارة الجنس، لا سيما في سن المراهقة) إلى أن قالوا: (وهذا أمر قد يصوره لنا، ويحذر من آثاره ما صرنا إ إيه في عصرنا مدى تداخل وتزاحم بل، وتلاحم بين الرجال والنساء في مجالات الملاصقة التي لا تخفى على أحد فلو لم تختن الفتيات... لتعرضن لمثيرات عديدة تؤدي بهن مع موجبات أخرى تزخر بها حياة العصر وانكماش الضوابط فيه إلى الانحراف والفساد)

وقد رد على هذا الاستدلال بأن ذلك غير صحيح، لأن موضع الختان لا تتحقق الإثارة الجنسية فيه إلا باللمس الخاص المباشر، الذي لا يقع قطعاً في حالات التداخل والتزاحم ومجالات الملاصقة (التى أظهرها وسائل المواصلات العامة) التى يتحدثون عنها. وهذه المجالات يجرى فها تلامس غير جائز بين الرجال والنساء في أجزاء شتى من الجسم البشري، فهل تعالج هذه الأجزاء بقطع هذه الأجزاء من أجسام الناس جميعاً؟

ومعلوم أن كل عفيف وكل صائبةٍ نفسها يكونان في غاية الألم والأسى إذا وقع شيء من ذلك، وهو يقع عادة دون قصد أو تعمد. ومع هذه الحالة النفسية- التي يكون فيها الأسوياء من الناس، نساء ورجالا، تعساء آسفين مستغرقين حياءً وخجلاً- لا تقع استثارة جنسية أصلاً، لأن مراكز الإحساس في المخ تكون معنية بشأن آخر، غير هذا الشأن الذي لا يكون إلا في طمأنينة تامة وراحة كاملة واستعداد راض، اللهم إلا عند المرضى والشواذ، وهم لا حكم لهم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم قيام الأدلة على حسب ما ذكر الأستاذ سليم العوا وغيره على اعتبار هذا النوع من الختان واجبا ولا سنة ولا مكرمة.

بل هو عرف من الأعراف التي وجدها الإسلام في البيئة العربية، فلم ينكرها، بل

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (169)

أرشد إلى ما يخفف أضرارها، فلم تشرع ابتداء.

ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر) (1)، فقد امتنع صلى الله عليه وآله وسلم من تجديد بناء الكعبة خشية فتنة من أسلم حديثا.

وهكذا هذا الأمر، فإنه كان سائدا في بعض المجتمعات، كعرف من الأعراف، فلذلك أرشد صلى الله عليه وآله وسلم إلى تصليحه، ولم ينه عنه نهيا كليا.

والأمر الثاني هو ما ذكرنا سابقا من أن الختان عملية معقولة المعنى، فلذلك يرجع الأمر فيه إلى أهل الاختصاص، فإن رأوا صحة هذه العملية وجدواها ومنفعتها كان القول قولهم، وإن رأوا عكس ذلك كان القول قولهم كذلك.

هذا فيما يتعلق بحكم الختان، أما ما يطلق عليه الخفاض الفرعوني، وهو يمارس الآن في السودان والصومال وكينيا وأجزاء من أندونيسيا (2)، فنتيجة للأخطار الكثيرة التي لا شك في مصداقيتها، فإن الحكم الشرعي في هذا النوع من العمليات لا يتوقف عند القول بحرمته، أو كونه كبيرة من الكبائر (3)، بل إنه من الجرائم التي يعاقب فاعلها بكل ما يراه

__________

(1) مسلم.

(2) دلل المسح الديموغرافي الصادر عن منظمة الصحة العالمية أن مليوني فتاة في العالم يخضعن لعمليات الختان سنوياً. وتقول التقارير أن هناك نحو 138 مليون فتاة وامرأة، في 28 دولة أفريقية وبعض بلدان آسيا والشرق الأوسط، شوهت أعضائهن التناسلية، وبدرجات متفاوتة. وبحسب منظمة العفو الدولية تحتل مصر الصدارة، بمعدل 97%، في قائمة تلك الدول.

(3) وهو يدخل بذلك في ما ورد في النصوص من تحريم تبديل خلق الله، كماقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} (النساء:117 ـ 119) وقال (: (لعن الله الواشمات... المغيرات خلق اللة)، وهذه الأمور المذكورة في الحديث محرمة كلها وما ماثلها، ويدخل فيها الخفاض الفرعوني بل هو أولى منها بالحرمة، وقد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر لأنها من تغيير خلق الله.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (170)

الإمام من صنوف التعزير زيادة على تعويض الفتاة على ما أصباها من أضرار نتيجة هذه العملية.

والأمر في ذلك لا يختلف عما ذكره الفقهاء من تضمين الخاتن إذا ما تسبب في الإضرار بالمختون.

فقد اتفق الفقهاء على تضمين الخاتن إذا مات المختون بسبب سراية جرح الختان، أو إذا جاوز القطع إلى الحشفة أو بعضها أو قطع في غير محل القطع.

وللفقهاء بعض التفاصيل التي يمكن الاستفادة منها هنا في وضع أنواع العقوبات التعزيرية المرتبطة بهذا النوع من العمليات:

فقد نص الحنفية على أن الخاتن إذا ختن صبيا فقطع حشفته ومات الصبي، فعلى عاقلة الخاتن نصف ديته، وإن لم يمت فعلى عاقلته الدية كلها، وذلك لأن الموت حصل بفعلين: أحدهما مأذون فيه وهو قطع القلفة، والآخر غير مأذون فيه وهو قطع الحشفة، فيجب نصف الضمان. أما إذا برئ فيجعل قطع الجلدة وهو المأذون فيه كأن لم يكن، وقطع الحشفة غير مأذون فيه فوجب ضمان الحشفة كاملا وهو الدية؛ لأن الحشفة عضو مقصود لا ثاني له في النفس فيقدر بدله ببدل النفس كما في قطع اللسان.

ونص المالكية على أن الخاتن إن كان من أهل المعرفة بالختان وأخطأ في فعله فالدية على عاقلته، فإن لم يكن من أهل المعرفة عوقب، وفي كون الدية على عاقلته أو في ماله قولان: فلابن القاسم إنها على العاقلة، وعن مالك وهو الراجح إنها في ماله. لأن فعله عمد والعاقلة لا تحمل عمدا.

ونص الشافعية على أن الخاتن إذا تعدى بالجرح المهلك، كأن ختنه في سن لا يحتمله لضعف ونحوه أو شدة حر أو برد فمات لزمه القصاص، فإن ظن كونه محتملا فالمتجه عدم القود لانتفاء التعدي. ويستثنى من حكم القود الوالد وإن علا؛ لأنه لا يقتل بولده، وتلزمه

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (171)

دية مغلظة في ماله لأنه عمد محض. فإن احتمل الختان وختنه ولي، أو وصي، أو قيم فمات، فلا ضمان في الأصح لإحسانه بالختان، إذ هو أسهل عليه ما دام صغيرا بخلاف الأجنبي لتعديه ولو مع قصد إقامة الشعار. ولم ير الزركشي القود في هذه الحالة على الأجنبي أيضا لأنه ظن أنه يقيم شعيرة.

ونص الحنابلة على أنه لا ضمان على الخاتن إذا عرف منه حذق الصنعة، ولم تجن يده؛ لأنه فعل فعلا مباحا فلم يضمن سرايته كما في الحدود، وكذلك لا ضمان إذا كان الختان بإذن وليه، أو ولي غيره أو الحاكم. فإن لم يكن له حذق في الصنعة ضمن؛ لأنه لا يحل له مباشرة القطع، فإن قطع فقد فعل محرما غير مأذون فيه، وكذلك يضمن إذا أذن له الولي وكان حاذقا ولكن جنت يده ولو خطأ، مثل أن جاوز قطع الختان فقطع الحشفة أو بعضها، أو غير محل القطع، أو قطع بآلة يكثر ألمها، أو في وقت لا يصلح القطع فيه، وكذلك يضمن إذا قطع بغير إذن الولي.

وقد نص الفقهاء ـ بخصوص هذه المسألة ـ على أن في قطع الشفرين الدية الكاملة، والدية عقوبة لمن يدفعها وتعويض لمن يستحقها. وعللوا ذلك بأنه بهذين الشفرين يقع الالتذاذ بالجماع، فكل فوات لهذا الالتذاذ أو بعضٍ منه يوجب هذه العقوبة التعويضية، ومنع سببه جائز قطعاً، بل هو أولى من انتظار وقوعه ثم محاولة تعليله أو تحليله (1).

ثالثا ـ حق الأولاد في الرضاعة

__________

(1) انظر المحلى لابن حزم الظاهري،10/ 458، حيث نقل آراء الفقهاء في ذلك وخالفهم إلى إيجاب القصاص على المتعمد، ونفى الدية عن المخطاء؛ والمغني لابن قدامة، 12/ 158 و11/ 546.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (172)

اتفق الفقهاء على أنه يجب إرضاع الطفل ما دام في حاجة إليه، وما دام في سن الرضاع، واختلفوا فيمن تجب عليه، هل الأم أو الأب، أي هل يمكن للأم أن ترفض رضاعة ولدها بحيث يضطر الأب إلى استرضاع امرأة أخرى أم لا، على الأقوال التالية:

القول الأول: يجب على الأب استرضاع ولده، ولا يجب على الأم الإرضاع، وليس للزوج إجبارها عليه، دنيئة كانت أم شريفة، في عصمة الأب كانت أم بائنة منه، إلا إذا تعينت بأن لم يجد الأب من ترضع له غيرها، أو لم يقبل الطفل ثدي غيرها، أو لم يكن للأب ولا للطفل مال، فيجب عليها حينئذ، وهو قول الشافعية (1) والحنابلة، قال الشافعي معبرا عن هذا القول: (لا يلزم المرأة رضاع ولدها كانت عند زوجها، أو لم تكن إلا إن شاءت وسواء كانت شريفة، أو دنية، أو موسرة، أو معسرة) (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) (الطلاق:6)، وإن اختلفا فقد تعاسرا.

2 ـ أن قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) (البقرة:233) (3) محمول على حال الاتفاق وعدم التعاسر.

__________

(1) لكن الشافعية قالوا: يجب على الأم إرضاع الطفل اللبأ وإن وجد غيرها، واللبأ ما ينزل بعد الولادة من اللبن؛ لأن الطفل لا يستغني عنه غالبا، ويرجع في معرفة مدة بقائه لأهل الخبرة.

(2) أحكام القرآن للشافعي:1/ 265.

(3) بما أن هذه الآية هي الأصل الذي يعتمد عليه فقه هذا الباب، كما سنرى، نحب أن ننبه إلى أن الخلاف قديم في كونها عامة في جميع الوالدات؟ أو تختص بالمطلقات؟ على قولين:

القول الأول: أنها خاصة بالمطلقات، وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل، وآخرين.

القول الثاني: العموم لجميع النسوة، وهو قول أبي سليمان الدمشقي والقاضي أبي يعلى في آخرين.

وقد حصل بسبب هذا الخلاف في كثير من المسائل، منها ما قال القاضي: ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة.

فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع، كما ذكر في سورة الطلاق وهذا مختص بالمطلقة. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 3/ 369.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (173)

3 ـ أن إجبار الأم على الرضاع لا يخلو: إما أن يكون لحق الولد، أو لحق الزوج، أو لهما، ولا يجوز أن يكون لحق الزوج، لأنه لا يملك إجبارها على رضاع ولده من غيرها، ولا على خدمة نفسه فيما يختص به. ولا يجوز أن يكون لحق الولد؛ لأنه لو كان لحقه للزمها بعد الفرقة ولم يقله أحد.

4 ـ أن الرضاع مما يلزم الوالد لولده، فلزم الأب على الخصوص كالنفقة، أو كما بعد الفرقة، ولا يجوز أن يكون لهما؛ لأن ما لا مناسبة فيه لا يثبت الحكم بانضمام بعضه إلى بعض.

5 ـ أنه لو كان لهما لثبت الحكم به بعد الفرقة.

القول الثاني: يجب على الأم ديانة لا قضاء، وهو قول الحنفية، قال الكاساني بعد إيراده لأدلة عدم إجبار المرأة على الإرضاع: (وهذا في الحكم، وأما في الفتوى فتفتى بأنها ترضعه)، واستدلوا على ذلك بما يلي (1):

1 ـ قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (البقرة:233) قيل في بعض تأويلات الآية: أي لا تضار بولدها بأن ترميه على الزوج بعد ما عرفها وألفها ولا ترضعه فيتضرر الولد ومتى تضرر الولد تضرر الوالد؛ لأنه يتألم قلبه بذلك، وقد قال الله تعالى: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (البقرة:233) أي: لا يضار المولود له بسبب الإضرار بولده.

2 ـ أن النكاح عقد سكن وازدواج وذلك لا يحصل إلا باجتماعهما على مصالح النكاح ومنها إرضاع الولد.

3 ـ قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف} (البقرة:233)، فقد جعل عليها الرضاع بحذاء ما أوجب لها من النفقة والكسوة، فكيف يجوز إلزامها ذلك بغير بدل.

__________

(1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 556.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (174)

4 ـ أن لزوم النفقة للأب بدلا من الرضاع يوجب أن تكون تلك المنافع في الحكم حاصلة للأب ملكا باستحقاق البدل عليه، فاستحال إيجابها على الأم، وقد أوجبها الله تعالى على الأب بإلزامها بدلها من النفقة والكسوة.

5 ـ أن قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} (البقرة:233) ليس فيه إيجاب الرضاع عليها، وإنما جعل به الرضاع حقا لها؛ لأنه لا خلاف أنها لا تجبر على الرضاع إذا أبت وكان الأب حيا؛ وقد نص الله على ذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (الطلاق:6)، فلا يصح الاستدلال بالآية على إيجاب الرضاع عليها في حال فقد الأب، وهو لم يقتض إيجابه عليها في حال حياته، وهو المنصوص عليه في الآية.

6 ـ أنها إن كانت منافع الرضاع مستحقة عليها للولد في حال فقد الأب، فواجب أن يكون ذلك عليها في مالها إذا تعذر عليها الرضاع، كما وجب على الأب استرضاعه. وإن لم تكن منافع الرضاع مستحقة عليها في مالها، فغير جائز إلزامها الرضاع؛ وما الفرق بين لزومها منافع الرضاع وبين لزوم ذلك في مالها إذا تعذر عليها؟

7 ـ عن أبي إسحاق الشيباني قال: أتي عبد الله بن عتبة بن مسعود في رجل تزوج امرأة ولها ولد ترضعه فأبى الزوج أن ترضعه؟ فقضى عبد الله بن عتبة أن لا ترضعه؟

القول الثالث: يجب الرضاع على الأم بلا أجرة إن كانت ممن يرضع مثلها، وكانت في عصمة الأب، ولو حكما كالرجعية، أما البائن من الأب، والشريفة التي لا يرضع مثلها فلا يجب عليها الرضاع، إلا إذا تعينت الأم لذلك بأن لم يوجد غيرها، وهو قول المالكية، الشريعة فيها، إلا أن مالكا دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة، فقال: لا يلزمها إرضاعه، فأخرجها من الآية)

واستدل ابن العربي لذلك بأن مالكا لجأ في هذا إلى العمل بالمصلحة، ووجهها ـ كما يذكر ابن العربي ـ (هو أن هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب، وجاء الإسلام عليه فلم

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (175)

يغيره؛ وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء إلى المراضع إلى زمانه، فقال به، وإلى زماننا؛ فحققناه شرعا) (1)

أما النص الوارد في ذلك وهو قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة:233)، فقد ألغوا الاستدلال به على لـ (أنه لفظ محتمل لكونه حقا عليها أو لها، لكن العرف يقضي بأنه عليها، إلا أن تكون شريفة، وما جرى به العرف فهو كالشرط حسبما بيناه في أصول الفقه من أن العرف والعادة أصل من أصول الشريعة يقضى به في الأحكام [والعادة] إذا كانت شريفة ألا ترضع فلا يلزمها ذلك) (2)

القول الرابع: هو وجوب الرضاعة على الأم ديانة وقضاء، وهو قول الظاهرية، وقد نسبه ابن حزم لابن أبي ليلى، والحسن بن حي، وأبي ثور، وأبي سليمان، قال ابن حزم معبرا عن مذهبه في هذه المسألة: (الواجب على كل والدة - حرة كانت أو أمة - في عصمة زوج أو في ملك سيد، أو كانت خلوا منهما - لحق ولدها بالذي تولد من مائه أو لم يلحق - أن ترضع ولدها - أحبت أم كرهت، ولو أنها بنت الخليفة - وتجبر على ذلك إلا أن تكون مطلقة–)

وفي حال كونها مطلقة لا تجبر على إرضاع ولدها من الذي طلقها إلا أن شاءت هي ذلك، وفي هذه الحالة ينص ابن حزم على أن (لها ذلك - أحب أبوه أم كره، أحب الذي تزوجها بعده أم كره)

وفي حال عدم وجوب الرضاع عليها وتعاسرت هي وأبو الرضيع فإنه يؤمر الوالد بأن يسترضع لولده امرأة أخرى، فإن رفض قبول ثديها تجبر أمه على إرضاعه، قال ابن

__________

(1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 278.

(2) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 248.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (176)

حزم: (فتجبر حينئذ - أحبت أم كرهت، أحب زوجها إن كان لها أم كره –)

ونفس الشيء في حال موت أبي الرضيع، أو إفلاسه، أو غيابه بحيث لا يقدر على طلب الرضاع له، فإن ابن حزم ينص على إجبار أمه على إرضاعه (إلا أن لا يكون لها لبن، أو كان لها لبن يضر به: فإنه يسترضع له غيرها، ويتبع الأب بذلك إن كان حيا وله مال)

وينص ابن حزم على جواز اتفاقا الوالدين على استرضاع امرأة أخرى إذا قبل ثديها، يقول في ذلك: (فإن لم تكن مطلقة لكن في عصمته أو منفسخة النكاح منه أو من عقد فاسد بجهل، فاتفق أبوه وهي على استرضاعه وقبل غير ثديها فذلك جائز)

وهذا بشرط اتفاق الطرفين، فلذلك لو أراد أبوه ذلك فأبت هي إلا إرضاعه فلها ذلك، ومثل ذلك ما لو أرادت هي أن تسترضع له غيرها وأبى الوالد: لم يكن لها ذلك، وأجبرت على إرضاعه - قبل غير ثديها أو لم يقبل غير ثديها - إلا أن يكون لها لبن، أو كان لبنها يضر به: فعلى الوالد حينئذ أن يسترضع لولده غيرها.

وإذا لم يكن لهذا الرضيع أب إما بسبب فساد الوطء ككونه ابن زنا، أو إكراه، أو لعان، أو بحيث لا يلحق بالذي تولد من مائه، أو بموت والده، (فالأم تجبر على إرضاعه، إلا أن لا يكون لها لبن، أو كان لها لبن يضر به، أو ماتت أمه، أو غابت حيث لا يقدر عليها: فيسترضع له غيرها، سواء في كل ذلك كان للرضيع مال أو لم يكن)، واستدل على ذلك بما يلي:

1 ـ قول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة:233)، وهذا عموم لا يحل لأحد أن يخص منه شيئا إلا ما خصه نص ثابت وإلا فهو كذب على الله تعالى، ولا يرد الاستدلال بهذه الآية ورودها بصيغة الخبر لا الأمر، قال ابن حزم: (فإن قيل: هذا خبر لا أمر؟ قلنا: هذا أشد عليكم، إذ أخبر تعالى بذلك، فمخالف خبره ساع في تكذيب ما أخبر الله تعالى وفي هذا ما فيه)

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (177)

2 ـ قول الله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام:140)، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة:2)، وقوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (البقرة:233)، وهذه هي المضارة حقا، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)

3 ـ دليل عدم إجبار المطلقة على إرضاع ولدها من الذي طلقها إلا أن تشاء هي (فإن شاءت هي ذلك فذلك لها أحب ذلك الذي طلقها أو أبى) قول الله تعالى في سورة الطلاق بعد ذكر المعتدات: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) (الطلاق:6)، فلم يخص تعالى ذات زوج من غيرها ولا جعل في ذلك خيارا للأب ولا للزوج بل جعل الإرضاع إلى الأمهات.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الرابع، لأن الآية واضحة في الدلالة على ذلك من وجوه كثيرة لعل أهمها، وبسببه جاءت الآية بصيغة الخبر لا بصيغة الإنشاء أن عملية الرضاع عملية فطرية للمرأة سواء بتوفر الآلات الكفيلة بذلك، أو بالدواعي النفسية له.

وإنما لم تأت بصيغة الإنشاء لأن الطبيعة السليمة للمرأة تجعلها تقبل عليها من غير شعور بأن في ذلك كلفة أو مشقة، بل هي بالنسبة لها كالأكل والشرب.

ولهذا، فإن تكليف الرجل بالبحث عن مرضعة لابنه قد لا يتوافق لبنها معه، فيه من المشقة ما لا يصح تكليفه به، زيادة على ما جبل الله به نفس الصبي من الحنين إلى أمه أكثر من حنينه إلى غيرها، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (القصص:11 ـ 13)

فالآيات وإن وردت إخبارا عن قصة معينة ففيه دلالة على ما جبل الله عليه نفس

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (178)

الصبي من الحنين إلى أمه وعدم ارتياحه لغيرها إلا بشدة.

وهذا ما يثبته علماء النفس الحديث، فهم يتفقون على أن الرضاعة من ثدي الأم - من الناحية النفسية - أفضل بكثير من الرضاعة بالزجاجة، أو من غيرها، ذلك لأنها توجد رابطة لا تنفصم بين الطفل وأمِّه، فالطفل يشعر بلذّة لا توصف من التغذية بالثدي.

بل إنهم ينصحون بإنشاء هذه العلاقة النفسية منذ ولادتها (1)، فينصحون بتقديم الوليد إليها في غرفة الولادة بالمستشفى، أو عندما تتمُّ الولادة في المنزل، والسماح لها بحضنه حتى قبل تغسيله، هذا إن لم تكن هناك معالجات فوريَّة ينبغي إخضاع الوليد لها.

والوليد الجديد يتعرَّف بسرعة على خواص أمِّه، فهو يشم رائحة جسمها، ويحسُّ بحرارته، كما يتعرَّف على الخواصِّ الأخرى لسلوكها، وقد ثبت أن الأطفال الحديثي الولادة

__________

(1) ولهذا لا يصح ما ذكره ابن القيم من أنه (ينبغي أن يكون رضاع المولود من غير أمه بعد وضعه يومين أو ثلاثة وهو الأجود لما في لبنها ذلك الوقت من الغلظ والأخلاط بخلاف لبن من قد استقلت على الرضاع وكل العرب تعتني بذلك حتى تسترضع أولادها عند نساء البوادي كما استرضع النبي (في بني سعد) [تحفة المودود: 230]

وذلك لأن الثديين في الأيام الأولى يفرزان اللبن الذي يحوي أضعاف ما يحوي اللبن من البروتين والعناصر المعدنية، لكنه فقير بالدسم والسكر، كما يحوي أضدادا لرفع مناعة الوليد، وله فعل ملين، هو الغذاء المثالي للوليد.

أما من الناحية النفسية، فقد ثبت أن إرضاع الطفل من الثدي بعد الولادة مباشرة - أي: بعد تنظيفه وإلباسه - ربما كان أفضل طريقة لإيجاد ثقة متبادلة من الناحيتين النفسية والجسميَّة بين الطفل وأمّه.

فهذه الرابطة القائمة على القرب والحنان هي من أقوى الغرائز الاجتماعية، وهي تبدأ منذ الولادة، والأم تحقِّق بذلك غرضاً واضحاً يمليه عليها وضع طفلها العاجز الضعيف.

فالطفل يحتاج إلى رعاية وحماية وإلى تغذية كافية ومؤانسة، وهو يبدي أنواعاً من السلوك تعبِّر عن رغبته في الاتصال والاقتراب من الكبار، كالبكاء والتعلُّق بهم، وتتبعهم بعينيه أو بكامل جسمه، أو مجرَّد الإمساك بذراعهم، وبهذه الصلة الوثيقة يتحقَّق هدف الطفل، ويستطيع أن يسدَّ حاجاته.

بل إن صوت الأم ـ مع أنه لا علاقة له بتغذيته ـ يمنح الطفل الدفء والأمن، ويشرع الطفل بتمييزه فور سماعه عن الأصوات الأخرى جميعاً.

ومن الحقائق المعلومة كذلك أن الفترة الرئيسية في الاتصال الأولي بين الأم وطفلها هي فترة الاثنتي عشرة ساعة الأولى.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (179)

الذين تحضنهم أمَّهاتهم إلى صدروهنَّ يقلُّ بكاؤهم، ويتكيفون بصورة أسرع، ويتميزون بمزاجٍ هادئ، ويصبحون أقلُّ عرضةً للإصابة بالأمراض من الأطفال الذين يبقون بعيدين عن أمهاتهم.

وقد ثبت أنَّ خمس عشر دقيقة حتى عشرين دقيقة من الاتصال بين الأم وطفلها تُعدُّ كافية لتوطيد علاقة صحيَّة سليمة بينهما.

وهذا كله يفسِّر سبب تعلق الطفل بأمه دون المربية، كما يفسر كذلك سبب العاطفة التي يبديها الطفل نحو أمِّه التي تقوم بمداعبته، وتوليه اهتماماً بالغاً.

ولكنه مع نموِّ الطفل تزداد قدراته الحسِّيَّة الحركيَّة، ويزداد تبعاً لذلك احتمال مواجهته لأشياء ومواقف جديدة توسع دائرة علاقاته الاجتماعية، فيصبح وجود الأم غير ضروري، لتوفير الحوافز للطفل، بل لأداء وظائف مختلفة.

وانطلاقا من هذه الحقائق العلمية ـ المؤيدة بالأدلة الكثيرة التي لا محل لذكرها هنا ـ لا يصح ما ذكر عن مالك من التفريق بين الشريفة والدنيئة، لأن المتضرر الأكبر بشرف الشريفة هو ابنها الذي هو فلذة كبدها.

فالرضاعة حقه قبل أن تكون واجبا عليها أو على والده، وقد رد ابن حزم بلهجته على هذا ردا عنيفا، فقال: (وهذا قول في غاية الفساد؛ لأن الشرف هو التقوى، فرب هاشمية أو عبشمية بنت خليفة تموت هزلا، ورب زنجية أو بنت غية قد صارت حرمة مالك، أو أمة)

بل إن هناك زيادة على هذا مصالح كثيرة تتحقق للأم نتيجة لإرضاعها لولدها، ولا بأس أن نسوق هنا بعض ما ذكر المختصون من فوائد تعود على الأم بسبب الرضاعة:

1 ـ الرضاع الطبيعي يفيد بعملية إنطمار الرحم بعد الولادة، نتيجة منعكس يثيره مص الحلمة من قبل الطفل، فيعود حجم الرحم بسرعة أكبر لحجمه الطبيعي وهذا يقلل

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (180)

من الدم النازف بعد الولادة.

2 ـ النساء المرضعات أقل إصابة بسرطان الثدي من النساء غير المرضعات، فمن قواعد سرطان الثدي أنه ـ يصيب العذارى أكثر من المتزوجات المرضعات، فمن قواعد سرطان الثدي أنه يصيب العذارى أكثر من المتزوجات، ويصيب المتزوجات غير المرضعات أكثر من المرضعات، ويصيب المتزوجات قليلات الولادة أكثر من الولادات. فكلما أكثرت المرأة من الإرضاع، قل تعرضها لسرطان الثدي.

3 ـ الإرضاع من الثدي، هو الطريقة الغريزية المثلى لتنظيم النسل، إذ يؤدي الإرضاع لانقطاع الدورة الطمثية بشكل غريزي، ويوفر على المرأة التي ترغب في تأجيل الحمل أو تنظم النسل، مخاطر الوسائل التي قد تلجأ إليها كالحبوب، والحقن، واللولب... أما آلية ذلك، فهي أن مص حلمة الثدي ن يحرض على إفراز هرمون البرولاكتين من الفص الأمامي للغدة النخامية، والبرولاكتين ينبه الوظيفة الإفرازية لغدة الثدي، ويؤدي لنقص إفراز المنميات والبرولاكتين ينبه الوظيفة الإفرازية لغدة الثدي، ويؤدي لنقص إفراز المنميات التناسلية المسؤلة عن التغيرات الدورية في المبيض، وهذا ما يحصل عند 60% من النساء المرضعات.

4 ـ لإرضاع الأمي يقوي الرابطة الروحية والعاطفة بين الأم ووليدها، ويجعل الأم أكثر عطفاً بطفلها، وهذه الرابطة هي الضمان الوحيد الذي يحدو بالأم للاعتناء بوليدها بنفسها. فهو ليس مجرد عملية مادية، بل هو رابطة مقدسة بين كائنين، تشعر فيه الأم بسعادة عظمى لأنها أصبحت أماً، تقوم على تربية طفل صغير، ليكون غرساً في بستان الحياة.

ونرى كذلك أن الأصل وجوب الرضاع على المطلقة إلا إذا تطوع من تشاء من النساء لإرضاعه، حتى لو تزوجها زوج آخر، وقد قال ابن حزم ردا على من تعلل بعدم الوجوب بسبب زواجها: (فإن قالوا: إنما تزوجها للوطء؟ قلنا: نعم، فكان ماذا؟ وإنما

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (181)

ولدته لترضعه، فحق الصبي قبل حق الذي تزوجها بعد أن ولدته، ولا يمنعه إرضاعها ولدها من وطئه لها)

1 ـ حق الأم في الرضاع

اختلف الفقهاء ـ بناء على ما سبق ـ فيما لو رغبت الأم في إرضاع ولدها، هل تمكن من ذلك أم لا على قولين:

القول الأول: أن لها الحق في ذلك، فتجاب وجوبا. سواء أكانت مطلقة، أم في عصمة الأب، وهو قول جمهور الفقهاء، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) (البقرة:233)، والمنع من إرضاع ولدها مضارة لها.

2 ـ قول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) (البقرة:233) وهذا خبر يراد به أمر، وهو عام في كل والدة.

3 ـ أنها أحنى على الولد وأشفق، ولبنها أمرأ وأنسب له غالبا.

القول الثاني: للزوج منعها من الإرضاع سواء كان الولد منه أو من غيره، وهو قول الشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ القياس على حقه في منعها من الخروج من منزله بغير إذنه.

2 ـ أنه يخل باستمتاعه منها، فأشبه ما لو كان الولد من غيره.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على ما ذكرنا سابقا، بل لا يصح طرح هذه المسألة إطلاقا، فالابن ابنها كما أنه ابن زوجها، فلا يصح استئثار أحدهما به، بل لو صح ذلك لكان للأم بدل الأب، لأنه ـ في ذلك الحين ـ أحوج إليها من أبيه، ويدل على

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (182)

ذلك ما سنراه من أحكام الحضانة.

2 ـ حكم الإرضاع الصناعي

وهي من المسائل المعاصرة، والتي تتطلب الجواب الشرعي، ونقول فيها ابتداء ـ وعلى الحالة العامة ـ انطلاقا من قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:233)، وهي الآية التي تشرع أحكام الرضاع، أن الرضاع واجب لا يكفي فيه أي بديل إلا إذا حكم الطبيب المختص بعدم صلاحية لبن الأم للرضاعة أو عدم استعداد الرضيع لرضاعتها.

زيادة على هذا، فإن المقارنة بين الرضاع الطبيعي والإرضاع الصناعي تدل على هذا، ولا بأس أن نسوق بعض المقارنات هنا، كأدلة على ما ذكرنا (1):

تناسب الحليب مع حاجة الرضيع

يتطور تركيب حليب الأم من يوم لآخر بما يلائم حاجة الرضيع الغذائية، وتحمل جسمه، وبما يلائم غريزته وأجهزته التي تتطور يوماً بعد يوم ن وذلك عكس الحليب الصناعي الثابت التركيب: فمثلاً يفرز الثديان في الأيام الأولى اللبن Colostrm الذي يحوي أضعاف ما يحوي اللبن من البروتين والعناصر المعدنية، لكنه فقير بالدسم والسكر، كما

__________

(1) رجعنا للمعلومات العلمية في هذا المطلب إلى كتاب (مع الطب في القرآن الكريم) للدكتور عبد الحميد دياب، والدكتور أحمد قرقوز، مؤسسة علوم القرآن، دمشق.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (183)

يحوي أضدادا لرفع مناعة الوليد، وله فعل ملين، هو الغذاء المثالي للوليد.

كما يخف إدرار اللبن من ثدي الأم، أو يخف تركيزه بين فترة وأخرى بشكل غريزي وذلك لإزاحة الجهاز الهضمي عند الوليد، ثم يعود بعدها بما يلائم حاجة الطفل.

سهولة الهضم

لبن الأم أسهل هضماً لاحتوائه على خمائر هاضمة تساعد خمائر المعدة عند الطفل على الهضم، وتستطيع المعدة إفراغ محتواها منه بعد ساعة ونصف، وتبقى حموضة المعدة طبيعية ومناسبة للقضاء على الجراثيم التي تصلها. بينما يتأخر هضم خثرات الجبن في حليب البقر، لثلاثة أو أربع ساعات، كما تعدل الأملاح الكثيرة الموجودة في حليب البقر حموضة المعدة، وتنقصها مما يسمح للجراثيم وخاصة الكولونية بالتكاثر مما يؤدي للإسهال والإقياء.

وبالإضافة إلى هذا يسبب لبن البقر مضاعفات عدم تحمل وتحسس، لا تشاهد في الإرضاع الطبيعي كالإسهال والنزف المعوي والتغوط الأسود ومظاهر التجسس الشائع، كما إن الإلعاب والمغص والإكزما البنيوية أقل تواجداً في الإرضاع الطبيعي.

التعقيم

حليب الأم معقم، بينما يندر أن يخلو الحليب في الرضاع الصناعي من التلوث الجرثومي، وذلك يحدث إما عند عملية الحلب، أو باستخدام الآنية المختلفة أو بتلوث زجاجة الإرضاع.

درجة الحرارة

درجة حرارة لبن الأم ثابتة وملائمة لحرارة الطفل، ولا يتوفر ذلك دائماً في الإرضاع الصناعي.

الإرضاع الطبيعي أقل كلفة، بل لا يكلف أي شيء من الناحية الاقتصادية.

تقوية المناعة

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (184)

يحوي لبن الأم أجسام ضدية نوعية، تساعد الطفل على مقاومة الأمراض، وتواجد بنسبة أقل بكثير في حليب البقر، كما أنها غير نوعية، ولهذا فمن الثابت أن الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم أقل عرضة للإنتان ممن يعتمدون على الإرضاع الصناعي.

والإرضاع الطبيعي يدعم الزمرة الجرثومية الطبيعية في الأمعاء ذات الدور الفعال في امتصاص الفيتامينات وغيرها من العناصر الغذائية، بينما يسبب الإرضاع الصناعي اضطراب هذه الزمرة.

ويهيء الإرضاع الطفل للإصابة أكثر، بأمراض مختلفة، كالتهابات الطرق التنفسية، وتحدد الرئة المزمن الذي يرتبط بترسب بروتين اللبن في بلاسما الطفل وحذف لبن البقر من غذاء الطفل يؤدي لتحسنه من المرض. وكذلك التهاب الأذن الوسطى، لأن الطفل في الإرضاع الصناعي يتناول وجبته وهو مضطجع على ظهره، فعند قيام الطفل بأول عملية بلع بعد الرضاعة ينفتح نفير أوستاش ويدخل الحليب واللعاب إلى الأذن الوسطى مؤدياً لالتهابها.

وتزيد حالات التهاب اللثة والأنسجة الداعمة للسن بنسبة ثلاثة أضعاف، عن الذين يرضعون من الثدي. أما تشنج الحنجرة، فلا يشاهد عند الأطفال الذين يعتمدون على رضاعة الثدي.

وهذه الفروق وغيرها، تفسر لنا نسبة الوفيات عند الأطفال الذين يعتمدون الإرضاع الصناعي عن نسبة وفيات إخوانهم الذين من الثدي بمقدار أربعة أضعاف رغم كل التحسينات التي أدخلت على طريقة إعداد الحليب في الطرق الصناعية، وعلى طريقة إعطائه للرضيع..

الفوائد النفسية والاجتماعية

زيادة على هذه الفوائد الصحية، هناك فوائد نفسية واجتماعية كثيرة، فقد أكد علماء

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (185)

النفس (1) أن الرضاعة (ليست مجرد إشباع حاجة عضوية إنما هو موقف نفسي اجتماعي شامل، تشمل الرضيع والأم وهو أول فرصة للتفاعل الاجتماعي)

وفي الرضاعة يشعر الطفل بالحنان والحب والطمأنينة ويحدث اندماج في المشاعر بين الطفل وأمه وهذا يحدث من التصاقه بأمه أثناء الرضاعة وخصوصا الرضاعة لفترة طويلة وبذلك تقوي العلاقة بين الطفل والام من خلال الرضاعة الطبيعية عكس الطفل الذي يأخذ غذاءه عن طريق الرضاعة الصناعية فهو محروم من الحب والحنان والشعور بالأمن فهو دائما خائف وتكون العلاقة بينه وبين أمه مضطربة الى حد كبير مما يؤدي فيما بعد أو أثناء فترة الطفولة الى الاستعداد للإصابة بالأمراض النفسية المختلفة.

والرضاعة الطبيعية تعد مناعة الطبيعية ضد حدوث المرض النفسي والعقلي سواء في فترة الطفولة أو باقي مراحل الحياة وعلى اثر ما نشر من الأبحاث في تأثير الرضاعة الطبيعية والرضاعة الصناعية على الصحة النفسية والعقلية للطفل فقد وجد أن الأطفال الذين تم تغذيتهم عن طريق الرضاعة الطبيعية أكثر ذكاء ويمتازون بسلوكيات سوية مثل التعامل مع الآخرين والتفاعل الجيد والسليم مع المواقف والتفكير السليم والمشاعر الاجتماعية النبيلة ودرجة الانتباه الجيدة وقدراته على التقاط المعلومات الجيدة، أيضا كان لديهم بصيرة قوية عن أنفسهم عما يدور من حولهم أما من الأطفال الذين كانوا يتعاطون عن طريق الرضاعة الصناعية كانوا أقل ذكاء وأكثر توترا وأقل تعاونا مع الآخرين وكانوا يعانون من بعض الأمراض النفسية مثل الحركة الزائدة أو التخلف في بعض منهم والتردد والإصابة بالنزعات العصبية والأزمات وكذلك الأنانية والتمركز حول الذات والعنف والاندفاعية والبعض منهم كان مصابا بالأفعال القهرية وعدم الثبات في المشاعر والقلق المستمر والاكتئاب والمخاوف العديدة واضطراب التفكير واضطراب الكلام مثل التلعثم وغيرها وعدم التركيز وقلة الانتباه والبعد عن الواقع وقلة البصيرة وقلة الحصول على المعلومات

__________

(1) أ 0 فاطمة موسى، أستاذ الطب النفسي، طب القصر العيني – جامعة القاهرة.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (186)

العامة واصابة بعضهم بالاضطرابات العديدة في السلوك والتصرفات المضادة للمجتمع.

الفوائد الاقتصادية

زيادة على هذا، فإن في الرضاعة الطبيعية فوائد اقتصادية كبيرة، لا على الأسرة وحدها بل على المجتمع جميعا، ولهذا نرى حرص الشركات الكبرى الممونة للرضاعة الصناعية على إشهار منتوجات تحت ألبسة مختلفة، وقد ورد في مقال تحت عنوان (معونات الألبان الصناعية.. خطر يهدد أطفال العالم) للدكتور: محمد مصطفى كامل مروان، قوله:

يعتبر مسحوق اللبن الصناعي صنفا محببا من أصناف الغذاء الذي تقدمه الدول الغنية إلى الدول التي تعاني من كوارث ومجاعات، ولكن المعارضة على هذه المعونات تتزايد لأنها تعيق استمرار الرضاعة الطبيعية التي تعتبر أفضل وسيلة لحماية الطفل، فاستخدام قارورة الرضاعة مرة واحدة قد يجعل الطفل يعاف الرضاعة من الثدي مرة أخرى، كما تتعرض هذه المساحيق بسهولة إلى التلوث أثناء تحضيرها نتيجة لتدني مستويات النظافة في المناطق المنكوبة، وهذا كله يعرض الأطفال في تلك المجتمعات الفقيرة للخطر، ويهدد بانتشار أوبئة الإسهال والنزلات الشعبية والرئوية القاتلة.

وعلى الرغم من توصيات خبراء التغذية بعدم التوسع في استخدامها، مازالت المجتمعات الدولية تقدم الألبان الصناعية كمعونات، وتعتبر منظمة الصليب الأحمر أكبر المنظمات التي توزع الألبان الصناعية في العالم، وأحد الأسباب الهامة وراء انخفاض معدلات الرضاعة الطبيعية كان بسبب برامج المساعدات الدولية في فترة الأربعينيات والخمسينيات.

وقد كان فائض إنتاج اللبن الصناعي عن حاجة الدول الغربية في عام 1986 م وحده، يمكن أن يملأ استاد الكولوسيوم في روما إلى ارتفاع 41 كيلو مترا في السماء، ولذا تقبل الدول الغربية بشغف على توزيعه كمعونات حتى تتخلص من المختزن لديها، وهي

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (187)

في نفس الوقت تشعر بالراحة لأنها توزعه على المحتاجين، واللبن عند أغلب الناس رمز للغذاء الصحي المفيد.

وعلى الجانب الآخر، ينظر المستقبلون للمعونات بعين الرضاء إلى اللبن الصناعي، على سبيل المثال طلبت البرازيل ـ عقب إصابتها بفيضانات مدمرة ـ إمدادها بمعونات اللبن وقوارير الرضاعة والحلمات الصناعية، وعلى الفور نصحها المختصون بالرابطة المشتركة للهلال والصليب الأحمر بعدم جدوى هذا، ومع هذا أصرت حكومة البرازيل على طلبها، وحصلت على ما تريده من فروع منظمة الصليب الأحمر الأوروبي، وساهم الصليب الأحمر الفرنسي في توزيع أقراص مصنعة من مسحوق اللبن المجفف، وذلك على الرغم من سياسة تمنع توزيعها.

وفي إثيوبيا.. لم ينفع توزيع الألبان المجففة على البالغين، فاللبن لا يعتبر غذاء رئيسيا على موائدهم، وكان من الممكن أن يوزع أصناف أخرى من أغذية معروفة لديهم، والمختصون يرون أن مع اعتياد الناس على هذه الوجبات الجديدة يزداد الطلب عليها، ويتناقص المخزون منها، وبالتالي ترتفع أسعارها.

وتحكي إحدى المختصات عن منظر أهلها عقب زيارتها إحدى مناطق الكوارث في بنجلاديش، وهو منظر أم وابنتها يعيشان في العراء دون مأوى، وهما ترضعان أحد الأطفال من قارورة ـ حصلت عليها من المعونات الأجنبية ـ وتحت ظروف قاسية لا تجد فيها ماء صالحا لغسل القارورة وتخفيف اللبن.

وتستورد سيراليون الألبان من الولايات المتحدة الأمريكية وتوزعها الجماعات المسيحية الكاثوليكية على الفقراء، اللبن مع الزيت يوزعان على الأمهات اللاتي يراجعن العيادات في المستشفيات، ولهذا تفضل الأمهات الذهاب إلى العيادات سعيا وراء المعونات المجانية، بينما لا يرى الأطباء أي جدوى من هذه المواد، ونتيجة لذلك انخفضت نسبة

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (188)

الأمهات اللاتي يرضعن طبيعيا من 57% عام 1979 م إلى 53% عام 1989 م، وفي الجزء الغربي من سيراليون لا يرضع من الثدي سوى 31% فقط من الأطفال، والباقين أغلبهم يعانون من سوء التغذية، وأثناء الفياضانات التي ضربت جواتيمالا عامي 1983 م ـ 1984 م استوردت منظمة اليونيسيف وقتها ألبانا مجففة ووزعتها على الأطفال، وعلى الرغم من نصحها الأمهات بعدم استخدام قارورة الرضاعة في إطعام الأطفال، استخدمت الأمهات القوارير، وتلوثت عبوات الألبان فور فتحها، وتسبب ذلك في انتشار الأمراض، وفي النهاية فشل برنامج المساعدة وتوقف.

وأثناء الحرب الأهلية بنيكاراجوا، وفي أعقاب زلزال المكسيك، وصلت مساعدات الألبان الصناعية، وعلى الفور تناقصت معدلات الرضاعة الطبيعية.

إن معونات الألبان الصناعية تهدد الرضاعة الطبيعية، وتوجد اعتمادا مستمرا عليها من الدول المحتاجة، وفي النهاية يقع الضرر على المحتاجين بينما ينتفع من ذلك الدول المتبرعة التي يزداد الطلب والشراء على منتجاتها.

3 ـ أحكام استئجار المرضع

اتفق الفقهاء (1) على جواز استئجار المرضع، بل وقع الإجماع على ذلك، قال ابن قدامة: (أجمع أهل العلم على جواز استئجار الظئر، وهي: المرضعة) (2)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ ورود النص على ذلك في القرآن الكريم، قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (الطلاق:6)

__________

(1) انظر في مسائل هذا الباب المراجع التالية: الجصاص: 2/ 106، المبدع: 5/ 66، المغني: 5/ 287، حاشية ابن عابدين: 3/ 456، المبسوط: 15/ 118، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 103، المدونة: 11/ 441.

(2) المغني: 5/ 287.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (189)

2 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استرضع لولده إبراهيم.

3 ـ أن الحاجة تدعو إليه فوق حاجتها إلى غيره، لأن الطفل في العادة إنما يعيش بالرضاع، وقد يتعذر رضاعه من أمه، فجاز ذلك كالإجارة في سائر المنافع.

وبناء على هذا اعتبر الفقهاء الرضاع نوعا من أنواع الإجارة، فلذلك خصوه ببعض المسائل التي تشترك مع الإجارة في أركانها وشروطها وتفاصيلها، وسنذكر أهم المسائل هنا مصنفة بحسب أركان الإجارة:

الركن الأول المعقودعليه

اختلف الفقهاء في المعقود عليه في الرضاع، هل هو خدمة الصبي وحمله ووضع الثدي في فمه، واللبن تبع، أم أن اللبن هو المعقود عليه والخدمة تبع، على قولين:

القول الأول: هو خدمة الصبي وحمله ووضع الثدي في فمه واللبن تبع، كالصبغ في إجارة الصباغ، وماء البئر في الدار؛ لأن اللبن عين من الأعيان، فلا يعقد عليه في الإجارة، كلبن غير الآدمي.

القول الثاني: هو اللبن، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه المقصود دون الخدمة، ولهذا لو أرضعته دون أن تخدمه، استحقت الأجرة، ولو خدمته بدون الرضاع، لم تستحق شيئا.

2 ـ قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (الطلاق:6)، فجعل الأجر مرتبا على الإرضاع، فيدل على أنه المعقود عليه.

3 ـ أن العقد لو كان على الخدمة، لما لزمها سقيه لبنها.

4 ـ جاز كونه عينا في الإجارة من باب الرخصة؛ لأن غيره لا يقوم مقامه، والضرورة تدعو إلى استيفائه، وإنما جاز هذا في الآدميين دون سائر الحيوان، للضرورة إلى حفظ الآدمي، والحاجة إلى إبقائه.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (190)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن هذا يخضع لما تراضى عليه الطرفان، فإن لم ينصا على ذلك في العقد عاد الأمر إلى ما تعارفوا عليه عرفا، فإن لم يكن هناك عرف تحاكموا إلى حكام عدول ليحكموا بقدر ما يتطلبه عملها من جهد.

علاقة الحضانة بالرضاعة في الاستئجار

اتفق الفقهاء على جواز استئجار الظئر للرضاع دون الحضانة، أو للحضانة دون الرضاع، أو لهما معا (1)، واختلفوا فيما لو أطلق العقد على الرضاع، هل تدخل فيه الحضانة، أم لا على قولين:

القول الأول: لا تدخل فيه الحضانة، وهو قول أبي ثور، وابن المنذر، وقول للحنابلة والشافعية؛ لأن العقد ما تناولها.

القول الثاني: تدخل فيه الحضانة، وهو قول أصحاب الرأي؛ وقول للحنابلة والشافعية، لأن العرف جار بأن المرضعة تحضن الصبي، فحمل الإطلاق على ما جرى به العرف والعادة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما دل عليه العرف، وهو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، قال السرخسي: (والمرجع في ذلك إلى العرف في كل موضع وهو أصل كبير في الإجارة فإن ما يكون من التوابع غير مشروط في العقد يعتبر فيه العرف في كل بلدة)

وضرب مثلا لذلك، فقال: (حتى قيل: في استئجار اللبان: إن الزنبيل والملبن على

__________

(1) اتفق الفقهاء على أن المرضع المستأجرة لا يدخل في عملها خدمة البيت إلا إذا تطوعت به، أو نالت أجرتها عنه، قال السرخسي: (وليس عليها من عمل أبوي الصبي شيء إن كلفوها عجنا، أو طبخا، أو خبزا؛ لأنها التزمت بالعقد الظئورة، وهذه الأعمال لا تتصل بالظئورة فلا يلزمها إلا أن تتطوع به)، المبسوط.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (191)

صاحب اللبن بناء على عرفهم، والسلك والإبرة على الخياط باعتبار العرف والدقيق على صاحب الثوب دون الحائك فإن كان عرف أهل البلدة بخلاف ذلك فهو على ما يتعارفون)

ما تطالب به المرضعة

نص الفقهاء على أن المرضعة مطالبة بأن تأكل وتشرب ما يدر به لبنها، ويصلح به، وللمستأجر مطالبتها بذلك؛ لأنه من تمام التمكين من الرضاع، وفي تركه إضرار بالصبي.

واتفقوا على أنها لو سقته لبن الغنم، أو أطعمته على أنه لا أجر لها؛ لأنها لم توف المعقود عليه، وذلك كما لو اكتراها لخياطة ثوب، فلم تخطه.

أما إذا دفعته إلى من يرضعه بدلها، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: لا أجر لها؛ وهو قول أبي ثور وأحمد، واستدلوا على ذلك بأنها لم ترضعه، فأشبه ما لو سقته لبن الغنم.

القول الثاني: لها أجرها، وهو قول الحنفية، لأن رضاعه حصل بفعلها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر في مصلحة الصبي، فإن تحققت المصلحة، استحقت الأجر على ذلك، وإلا لم تستحق شيئا.

ونرى أن يبقى الأولياء على اتصال دائم بالمرضع للنظر في أدائها لما كلفت به، ولما تحتاجه حتى يسد الضرر قبل أن يستفحل.

أمانة المرضع

نص الفقهاء على اعتبار المرضع أمينة فيما ندبت له من إجارة، فلذلك لا تتهم فيما لو ضاع الصبي من يدها، أو وقع فمات، أو سرق من حلي الصبي، أو من ثيابه شيء.

فلا تضمن الظئر شيئا من ذلك، وذلك لأنها بمنزلة الأجير الخاص فإن العقد ورد على منافعها في المدة، فلذلك لا تشغل نفسها في تلك المدة عن رضاع الصبي، ولا تؤاجر

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (192)

نفسها من غيرهم.

والأجير الخاص أمين فيما في يده بخلاف الأجير المشترك على قول من يضمنه.

الركن الثاني الأجير

استئجار الأم

اختلف الفقهاء فيم لو طلبت الأم (1) إرضاع ابنها بأجرة مثلها، هل تمكن من ذلك، أم لا على الأقوال التالية:

القول الأول: هي أحق به، سواء كانت في حال الزوجية أو بعدها، وسواء وجد الأب مرضعة متبرعة أو لم يجد، وهو قول الحنابلة، أما إن كانت مطلقة، فطلبت أجر المثل، فأراد انتزاعه منها ليسلمه إلى من ترضعه بأجر المثل أو أكثر، لم يكن له ذلك، وإن وجد متبرعة، أو من ترضعه بدون أجر المثل، فله انتزاعه منها، أما إن طلبت الأم أكثر من أجر مثلها، ووجد الأب من ترضعه بأجر مثلها، أو متبرعة، جاز انتزاعه منها وإن لم يجد مرضعة إلا بمثل تلك الأجرة، فالأم أحق، واستدلوا على هذه التفاصيل بما يلي:

1 ـ الدليل على وجوب تقديم الأم، إذا طلبت أجر مثلها، على المتبرعة هو قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف} (البقرة:233)، وقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق:6)

2 ـ أن الأم أحنى وأشفق، ولبنها أمرأ من لبن غيرها، فكانت أحق به من غيرها، كما لو طلبت الأجنبية رضاعه بأجر مثلها.

3 ـ أن في رضاع غير الأم تفويتا لحق الأم من الحضانة، وإضرارا بالولد، ولا يجوز

__________

(1) اتفق الفقهاء على أنه يجوز استئجار الأم، والأخت، والبنت، وسائر الأقارب لرضاع الولد، من غير خلاف في المسألة.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (193)

تفويت حق الحضانة الواجب، والإضرار بالولد لغرض إسقاط حق أوجبه الله تعالى على الأب.

4 ـ أن كل عقد يصح أن تعقده مع غير الزوج، يصح أن تعقده معه، كالبيع.

5 ـ أن منافعها في الرضاع والحضانة غير مستحقة للزوج، بدليل أنه لا يملك إجبارها على حضانة ولدها، ويجوز لها أن تأخذ عليها العوض من غيره، فجاز لها أخذه منه، كثمن مالها.

6 ـ لا يصح ما قاله المخالفون من أنها استحقت عوض الحبس والاستمتاع، لأن استحقاق منفعة من وجه، لا يمنع استحقاق منفعة سواها بعوض آخر، كما لو استأجرها أولا ثم تزوجها.

7 ـ أن القول الثالث يفضي إلى تفويت حق الولد من لبن أمه، وتفويت حق الأم في إرضاعه لبنها، فلم يجز ذلك، كما لو تبرعت برضاعه.

8 ـ يدل على جواز الاستئجار، أنه عقد إجارة يجوز من غير الزوج إذا أذن فيه، فجاز مع الزوج، كإجارة نفسها للخياطة أو الخدمة.

9 ـ اعتبار المخالفين بأن المنافع مملوكة للزوج غير صحيح؛ لأنه لو ملك منفعة الحضانة، لملك إجبارها عليها، ولم تجز إجارة نفسها لغيره بإذنه، ولكانت الأجرة له، وإنما امتنع إجارة نفسها لأجنبي بغير إذنه، لما فيه من تفويت الاستمتاع في بعض الأوقات؛ ولهذا جازت بإذنه، وإذا استأجرها، فقد أذن لها في إجارة نفسها، فصح، كما يصح من الأجنبي.

10 ـ إن طلبت الأم أكثر من أجر مثلها جاز انتزاعه منها؛ لأنها أسقطت حقها باشتطاطها، وطلبها ما ليس لها، فدخلت في عموم قوله تعالى: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) (الطلاق:6)

11 ـ إن لم يجد مرضعة إلا بمثل تلك الأجرة، فالأم أحق؛ لأنهما تساوتا في الأجر،

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (194)

فكانت الأم أحق، كما لو طلبت كل واحدة منهما أجر مثلها.

القول الثاني: إن كانت في عصمة الزوج، فلزوجها منعها من إرضاعه، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، لأنه يفوت حق الاستمتاع بها في بعض الأحيان، وإن استأجرها على رضاعه، لم يجز؛ لأن المنافع حق له، فلا يجوز أن يستأجر منها ما هو أو بعضه حق له.

القول الثالث: إن طلبت الأجر، لم يلزم الأب بذله لها، ولا يسقط حقها من الحضانة، وتأتي المرضعة ترضعه عندها، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه أمكن الجمع بين الحقين، فلم يجز الإخلال بأحدهما.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرنا سابقا من أن الرضاعة واجبة على الأم ديانة وقضاء، فلذلك لا تستحق الأجرة عليها، والآية واضحة في الدلالة على وجوب النفقة وحدها

إجارة الزوجة

بما أن المستأجرة للرضاع عادة تكون متزوجة (1)، فقد تحدث الفقهاء عن حكم ذلك، بناء على علاقة هذا الأمر بزوجها، ويمكن تقسيم الأحوال في المسألة إلى الحالتين التاليتين:

حصول الإجارة قبل الزواج

اتفق الفقهاء على أن المرأة إن أجرت نفسها للرضاع ثم تزوجت، صح زواجها، ولا يملك زوجها فسخ الإجارة، ولا منعها من الرضاع حتى تنقضي المدة، واختلفوا في حق ولي الصبي في منعه من معاشرتها الجنسية على قولين:

القول الأول: ليس لولي الصبي منع هذا الزواج، ولا منعه من معاشرتها، وهو قول

__________

(1) ولا يعترض هنا بأن غير المتزوجة لا لبن لها، لأن غير المتزوجة لا يراد بها البكر فقط، بل يدخل فيها المطلقة والمتوفى عنها زوجها.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (195)

الشافعي وأحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن منافعها ملكت بعقد سابق على نكاحه، فأشبه ما لو اشترى أمة مستأجرة، أو دارا مشغولة فإن نام الصبي، أو اشتغل بغيرها، فللزوج الاستمتاع، وليس لولي الصبي منعه

2 ـ أن وطء الزوج مستحق بالعقد، فلا يسقط بأمر مشكوك فيه، كما لو أذن الولي فيه.

3 ـ أنه يجوز له الوطء مع إذن الولي، فجاز مع عدمه؛ لأنه ليس للولي الإذن فيما يضر الصبي، ويسقط حقوقه.

القول الثاني: ليس له وطؤها إلا برضاء الولي، وهو قول مالك؛ واستدلوا على ذلك بأنه يؤدي إلى نقص اللبن.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما تراضى عليه الطرفان: الزوج والزوجة، والمرضعة وولي الرضيع، وهو ما سبق ذكره في الشروط المقيدة للعقد، فإن اشترطت الزوجة استمرار إرضاعها لم يكن له الحق في منعها.

وإن اشترط الولي عدم زواجها كان له أن يفسخ عقد الرضاع بزواجها.

أما قول المالكية بأنه ليس له وطؤها إلا برضاء الولي، فلا دليل عليه، وإلا لمنع الزوج من وطء زوجته حال الرضاع، وهو لا يصح، بل قد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم) (1)

حصول الإجارة بعد الزواج

اتفق الفقهاء على أن المرأة المزوجة إن أجرت نفسها للرضاع، بإذن زوجها، جاز، ولزم العقد؛ لأن الحق لهما، ولا يخرج عنهما، واختلفوا فيما لو أجرت نفسها بغير إذن زوجها

__________

(1) مسلم.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (196)

على قولين كلاهما وجهان للجنابلة والشافعية:

القول الأول: لا تصح الإجارة؛ لأنه عقد يفوت به حق من ثبت له الحق بعقد سابق، فلم يصح، كإجارة المستأجر.

القول الثاني: تصح الإجارة، لكن للزوج فسخه؛ ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه تناول محلا غير محل النكاح.

2 ـ أنه يفوت به الاستمتاع.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على أن للرضاعة تأثيرا في الحياة الزوجية، لأنها تستلزم وجود الرضيع في الأسرة، وهو يتطلب خدمات كثيرة قد تمنع الزوج من الحياة الطبيعية.

فلذلك يرجع الأمر إلى موافقته، فإن وافق صح العقد وإلا بطل.

الركن الثالث المكلف بدفع أجرة الرضاع

اتفق الفقهاء على أن أجرة الرضاع كالنفقة واجبة على الوالد (1)، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق:6) أي فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن.

واختلفوا في الصبي إذا لم يكن له أب، هل يجبر وارثه على نفقته ودفع اجرة رضاعه، أم لا على الأقوال التالية:

القول الأول: أن النفقة وأجر الرضاعة تجب على كل وارث لموروثه، وهو قول الحسن، ومجاهد، والنخعي، وقتادة، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وأبي ثور وقول

__________

(1) وهذا بخلاف كون المستأجرة زوجة، حال قيام النكاح بينهما ـ عند من لا يقول باستحقاق الأم للأجر، كما بينا ذلك سابقا ـ لأنها ـ عندهم ـ لا تستوجب الأجر على إرضاع الولد، وإن استأجرها؛ لأن في حال بقاء النكاح يعد الرضاع من الأعمال المستحقة عليها دينا، أما بعد الفرقة فليس ذلك بمستحق عليها دينا ولا دنيا.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (197)

الحنابلة في ظاهر المذهب (1)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:233)، ثم قال تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (البقرة:233)، فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد.

2 ـ ما روي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من أبر؟ قال: أمك وأباك، وأختك وأخاك)، وفي لفظ: ومولاك الذي هو أدناك، حقا واجبا، ورحما موصولا)، وهذا نص؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألزمه الصلة والبر والنفقة من الصلة، بل جعلها صلى الله عليه وآله وسلم حقا واجبا.

3 ـ أنه لا يصح الاحتجاج بقول الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (لأنفال:75)، لأن اللفظ عام في كل ذي رحم، فيكون حجة على المخلفين في عداد الرحم المحرم، وقد اختصت بالوارث في الإرث فكذلك في الإنفاق.

4 ـ أن ما اجتج به أصحاب القول الرابع من الحديث قضية في عين، يحتمل أنه لم يكن له غير من أمر بالإنفاق عليه؛ ولهذا لم يذكر الوالد والأجداد وأولاد الأولاد.

القول الثاني: أن نفقته وأجر رضاعه على الرجال دون النساء، وهو قول الأوزاعي، وإسحاق، وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ ما روي عن عمر أنه قضى على بني عم منفوس بنفقته، قال ابن المنذر: روي عن عمر أنه حبس عصبة ينفقون على صبي الرجال دون النساء.

2 ـ أنها مواساة ومعونة تختص القرابة، فاختصت بها العصبات، كالعقل.

القول الثالث: تجب النفقة على كل ذي رحم محرم، ولا تجب على غيرهم، وهو قول

__________

(1) وهذا يختص عندهم بالوارث بفرض أو تعصيب، ولا يتناول ذوي الأرحام، فإن كان اثنان يرث أحدهما الآخر ولا يرثه الآخر، كالرجل مع عمته أو ابنة عمه وابنة أخيه، والمرأة مع ابنة بنتها وابن بنتها، فالنفقة على الوارث دون الموروث.

وهناك رواية أخرى على أنه لا تجب النفقة على الوارث هاهنا؛ لقول أحمد: العمة والخالة لا نفقة لهما.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (198)

الحنفية (1)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) (البقرة:233)، فقد اعتبر صفة الوراثة في حق غير الأب، فدل ذلك على أنه يكون على الورثة بحسب الميراث، ولكن بعد أن يكون ذا رحم محرم لما ثبت ذلك بقراءة ابن مسعود: (وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك)، فإن قراءته لا تختلف عن روايته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

2 ـ قول الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)

القول الرابع: لا نفقة إلا على المولودين والوالدين، وهو قول مالك، والشافعي، وابن المنذر، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل سأله: عندي دينار؟ قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي

__________

(1) وهذا تفصيل قولهم في المسألة بحسب الترتيب الذي وضعوه:

إن لم يكن للصبي أب وكان له أم وعم فالرضاع عليهما أثلاثا على قدر ميراثهما إن كانا موسرين، فأما الرضاع فإنه كله على الأم؛ لأنها موسرة باللبن والعم معسر في ذلك ولكن في ظاهر الرواية قال: قدرة العم على تحصيل ذلك بماله يجعله موسرا فيه فلهذا كان عليهما إثلاثا والأم أحق أن يكون عندها حتى يبلغ ما وصفنا، فإن كان العم فقيرا والأم غنية فالرضاع والنفقة على الأم؛ لأن النفقة على العم مستحقة في ماله لا في كسبه والمعسر ليس له مال فلا يلزمه شيء من النفقة بل هو كالمعدوم فكانت النفقة على الأم

فإن كان له أم وأخ لأب وأم وعم وهم أغنياء فالرضاع على الأم والأخ أثلاثا بحسب الميراث ولا شيء من ذلك على العم؛ لأنه ليس بوارث مع الأخ والغرم مقابل بالغنم وإنما يستحق على من يكون الغنم له إذا مات الولد والحاصل أن بعد الأب النفقة على كل ذي رحم محرم إذا كانوا أغنياء على حسب الميراث ومن كان منهم فقيرا لم يجبر على النفقة فإن تطوع بشيء فهو أفضل

فإن كانت الأم فقيرة وللولد عمة وخالة غنيتان فالنفقة عليهما أثلاثا على العمة الثلثان وعلى الخالة الثلث؛ لأن الأم الفقيرة كالمعدومة وبعدها الميراث بين العمة والخالة أثلاثا فكذا النفقة عليهما وعلى هذا لو كان له ابن عم هو وارثه فإن ابن العم ليس بذي رحم محرم فلا شيء عليه من النفقة بل يجعل هو في حق النفقة كالمعدوم وتكون النفقة على العمة والخالة أثلاثا وإن كان الميراث لابن العم، وكذلك كل عصبة ليس بذي رحم محرم فلا نفقة عليه، وإن كان الميراث له، ألا ترى أن مولى العتاقة عصبة في حق الميراث ولا نفقة عليه، فكذلك من ليس بمجرد من الأقارب، انظر: المبسوط.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (199)

آخر؟ قال: أنفقه على ولدك. قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على أهلك. قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على خادمك. قال: عندي آخر؟ قال: أنت أعلم) ولم يأمره بإنفاقه على غير هؤلاء.

2 ـ أن الشرع إنما ورد بنفقة الوالدين والمولودين، ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكامها، فلا يصح قياسه عليهم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بوجوب أجرة الرضاع على كل وارث لما صرحت به الآية، وهي قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:233)، ثم قال تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (البقرة:233)، فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد.

فإن لم يكن له وارث، فإن ذلك واجب على كل قريب له، بناء على صراحة النصوص الدالة على هذا، فهذه الأوامر الإلهية المتظافرة الواردة في قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (البقرة:177)، وقولهتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} (النساء:36)، وقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (لا يصح التساهل فيها، خاصة مع وروده بصيغة الأمر التي لا تفيد في أصلها إلا الوجوب.

فإن لم يكن له قريب، فذلك واجب كفائي على المسلمين جميعا، وسنرى تفاصيل ذلك في محلها من الجزء الرابع من هذه المجموعة.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (200)

الركن الرابع العوض

اتفق الفقهاء على أن الوالد أو الوارث إذا استأجر مرضعا ترضع صبيا له سنتين حتى تفطمه بأجر معلوم فهو جائز؛ لأنه استأجرها بعمل معلوم ببدل معلوم.

واتفقوا على أن الأصل هو كون طعامها وكسوتها على نفسها؛ لأنها شرطت عليهم الأجر المسمى بمقابلة عملها، واتفقوا أنها ترضعه في بيتها إن شاءت وليس عليها أن ترضعه في بيت أبيه؛ لأنها بالعقد التزمت فعل الإرضاع وما التزمت المقام في بيتهم وهي تقدر على إيفاء ما التزمت في بيت نفسها.

واختلفوا فيما لو اشترطت كسوتها كل سنة، أو اشترطت عند الفطام دراهم مسماة، وقطيفة، ومسحا، وفراشا وطعاما، هل يصح هذا الشرط، فيوفى لها به، أم لا يصح على قولين:

القول الأول: جواز ذلك، وهو قول أبي حنيفة في هذا الموضع خاصة دون سائر الإجارات (1)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:233) يعني أجرا على الإرضاع بعد الطلاق، ويؤيده قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (البقرة:233)، وهو أجر الرضاع لا نفقة النكاح.

2 ـ أن الناس تعارفوا بهذا العقد بهذه الصفة وليس في عينه نص يبطله.

3 ـ أن في النزوع عن هذا العرف حرج؛ لأنهم يعدون الظئر من أهل بيتهم فالظاهر

__________

(1) وإذا جاز العقد عنده كان لها الوسط من المتاع والثياب المسماة؛ لأنها لا تستحق ذلك بمطلق التسمية في عقد المعاوضة فينصرف إلى الوسط كما في الصداق إذا سمى لها عبدا، أو ثوبا هرويا وهذا؛ لأن في تعيين الوسط نظر من الجانبين ولو اشترطوا عليها أن ترضع الصبي في منزلهم فهو جائز كما في سائر الإجارات إذا اشترط المستأجر على الأجير إقامة العمل في بيته وهذا؛ لأنهم ينتفعون بهذا الشرط فإنها تتعاهد الصبي في بيتهم ما لا تتعاهده في بيت نفسها، وربما لا يتحمل قلبهما غيبة الولد عنهما والشرط المفيد في العقد معتبر.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (201)

أنهم يستنكفون عن تقدير طعامها وكسوتها كما يستنكفون عن تقدير طعام الزوجات وكسوتهن.

4 ـ أن هذا لم يجوز في سائر الإجارات لتمكن المنازعة، وهو لا يوجد هنا؛ لأنهم لا يمنعون الظئر كفايتها من الطعام؛ لأن منفعة ذلك ترجع إلى ولدهم وربما يكلفونها أن تأكل فوق الشبع ليكثر لبنها، وكذلك لا يمنعونها كفايتها من الكسوة لكون ولدهم في حجرها.

5 ـ أن أحد العوضين في هذا العقد يتوسع فيه ما لا يتوسع في سائر العقود حتى أن اللبن الذي هو عين حقيقة يستحق بهذه الإجارة دون غيرها، فكذلك يتوسع في العوض الآخر في هذا العقد ما لا يتوسع في غيره.

القول الثاني: لا يجوز إلا أن يسموا لها ثيابا معلومة الجنس والطول والعرض والرقعة ويضربوا لذلك أجلا ويسموا لها كل يوم كيلا من الدقيق معلوما فحينئذ يجوز كما في سائر الإجارات والبيوع، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي، وقول أبي ثور وابن المنذر، وهو رواية عن أحمد، فإن أقامت العمل فلها أجر مثلها؛ لأنها وفت المعقود عليه بحكم عقد فاسد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن هذا عقد إجارة فلا يصح إلا بإعلام الأجرة كما في سائر الإجارات، والطعام مجهول الجنس والمقدار والصفة، والكسوة كذلك هنا، وهذه الجهالة تمنع صحة التسمية كما في سائر الإجارات؛ لأنها تفضي إلى المنازعة فكذلك هنا.

2 ـ أن هذ القياس يشده الأثر وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من استأجر أجيرا فليعلمه أجره)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما تراضى عليه الطرفان ـ كسائر العقود ـ فإن لم يتراضوا على شيء حكموا العرف، فإن لم يكن هناك عرف حكموا من يقدر الجهد المبذول ليضع له الأحر المعلوم، بشرط عدالته وخبرته.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (202)

إكرام المرضعة

نص الفقهاء على أنه ـ من باب الكرم والفضل ـ أن تعطى المرضع عند الفطام عبدا أو أمة، من غير إيجاب لذلك، واستدلوا لذلك بما روي عن حجاج بن حجاج الأسلمي، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ قال: الغرة (1) العبد أو الأمة) (2)

أي ما يذهب عني الحق الذي تعلق بي للمرضعة لأجل إحسانها إلي بالرضاع، فإني إن لم أكافئها على ذلك صرت مذموما عند الناس بسبب المكافأة (3)، قال القاضي: والمعنى أي شيء يسقط عني حق الرضاع حتى أكون بأدائه مؤديا حق المرضعة بكماله؟ وكانت العرب يستحبون أن يرضخوا للظئر بشيء سوى الأجرة عند الفصال، وهو المسئول عنه في الحديث.

وقد علل العلماء تخصيص الرقبة بالمجازاة بها دون غيرها؛ لأن فعلها في إرضاعه وحضانته، سبب حياته وبقائه وحفظ رقبته، فاستحب جعل الجزاء هبتها رقبة، ليناسب ما بين النعمة والشكر (4)، ولهذا اعتبر الله تعالى المرضعة أما، فقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) (النساء:23)

وإن كانت المرضعة مملوكة، استحب إعتاقها؛ لأنه يحصل أخص الرقاب بها،

__________

(1) قال الطيبي: الغرة المملوك وأصلها البياض في جهة الفرس ثم استعير لأكرم كل شيء كقولهم غرة القوم سيدهم، ولما كان الإنسان المملوك خير ما يملك سمي غرة. انظر: تحفة الأحوذي: 4/ 264، وقال الخطابي: يقول: إنها قد خدمتك وأنت طفل، وحضنتك وأنت صغير، فكافئها بخادم يخدمها ويكفيها المهنة، قضاء لذمامها (أي لحقها) وجزاء لها على إحسانها.

(2) رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وقال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح.

(3) نيل الأوطار: 6/ 379.

(4) انظر: مشكل الاثار: 1/ 173، وقيل: لما جعلت الظئر نفسها خادمة جوزيت بجنس فعلها، انظر: تحفة الأحوذي: 4/ 264.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (203)

وتحصل به المجازاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجازاة للوالد من النسب، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجزي ولد والده، إلا أن يجده مملوكا فيعتقه) (1)

ونرى انطلاقا من عدم إمكانية التطبيق الحرفي لهذا الحكم في الوقت الحاضر، وذلك لعدم وجود الرقيق أن يعطى للمرضع أي عطية ذات قيمة أو لها تأثير مهم في حياتها، فقد كانت الغرة من العبيد والإماء عندهم من أفضل أموالهم.

وزيادة على هذه العطية المادية يستحب إكرامها واحترامها وإظهار ذلك لها، ويدل على هذا فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد روى أبو الطفيل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقسم لحما بالجعرانة ـ قال أبو الطفيل: وأنا يومئذ غلام أحمل عظم الجزور ـ إذ أقبلت امرأة حتى دنت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت: من هي؟ فقالوا: هذه أمه التي أرضعته) (2)

وهذه المعاملة لا تختص فقط بالمرضع، بل تتعداها لكل من له علاقة رضاعة، وقد روى عمر بن السائب أنه بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأجلسه بين يديه (3).

ما تنفسخ به إجارة المرضعة

نص الفقهاء على ما يمكن أن تنفسخ به إجارة الرضاعة، كما تنفسخ به سائر الإجارات، ومما ذكروه:

موت المرضعة

اختلف الفقهاء في انفساخ الإجارة بموت المرضعة أو عدم انفساخها على قولين:

__________

(1) مسلم وأبو داود والترمذي.

(2) أبو يعلى وابن حبان.

(3) أبو داود.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (204)

القول الأول: تنفسخ الإجارة بموت المرضعة؛ ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ فوات المنفعة بهلاك محلها.

2 ـ أنه هلك المعقود عليه، وذلك يشبه ما لو هلكت البهيمة المستأجرة.

القول الثاني: أنها لا تنفسخ، ويجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت، لأنه كالدين.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما عرف في العرف بشرط عدم إضراره بأي طرف من الأطراف، وخاصة طرف المرضعة باعتبارها أضعف الطرفين، لأنها لم ترضعه إلا للحاجة.

موت الطفل

نص الفقهاء على أنه إن مات الطفل انفسخ العقد؛ لأنه يتعذر استيفاء المعقود عليه، لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه، لاختلاف الصبيان في الرضاع، واختلاف اللبن باختلافهم، فإنه قد يدر على أحد الولدين دون الآخر.

وإذا انفسخ العقد عقيبه، بطلت الإجارة من أصلها، ورجع المستأجر بالأجر كله، وإن كان في أثناء المدة، رجع بحصة ما بقي.

قال السرخسي: (فإن هلك الصبي بعد سنة فلها أجر ما مضى ولها مما اشترطت من الكسوة والدراهم عند الفطام بحساب ذلك؛ لأنها أوفت المعقود عليه في المدة الماضية فتقرر حقها فيما يقابل ذلك من البدل، ثم يتحقق فوات المقصود فيما بقي فلا يجب ما يخصه من البدل) (1)

الأعذار المبيحة لإقالة المرضع

__________

(1) المبسوط: 15/ 119.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (205)

نص الفقهاء على أن أهل الصبي إذا أراد أن يخرجوا الظئر قبل الأجل ليس لهم ذلك إلا من عذر؛ باعتبار العقد لازما من الجانبين، ومن الأعذار التي ذكرها السرخسي:

1 ـ أن لا يأخذ الصبي من لبنها فيفوت به ما هو المقصود، ومثل ذلك ما لو تقايأ لبنها؛ لأن ذلك يضر بالصبي عادة فالحاجة إلى دفع الضرر عنه عذر في فسخ الإجارة.

2 ـ حملها، لأن لبنها يفسد بذلك ويضر بالصبي فإذا خافوا على الصبي من ذلك كان لهم عذر.

3 ـ إن كانت سارقة؛ فإنهم يخافون على متاعهم إن كانت في بيتهم وعلى متاع الصبي وحليته إذا كان معها.

4 ـ إن كانت فاجرة بينة فجورها فيخافون على أنفسهم فهذا عذر؛ لأنها تشتغل بالفجور وبسببه ينقص من قيامها بمصالح الصبي وربما تحمل من الفجور فيفسد ذلك لبنها وهذا بخلاف ما إذا كانت كافرة؛ لأن كفرها في اعتقادها ولا يضر ذلك بالصبي (1).

5 ـ إذا أرادوا سفرا فأبت أن تخرج معهم فهذا عذر؛ لأنه لا يتعذر الخروج للسفر عند الحاجة لما عليهم من ذلك من الضرر ولا تجبر هي على الخروج معهم؛ لأنها ما التزمت تحمل ضرر السفر ولا يمكنهم ترك الصبي عندها؛ لأن غيبتهم عن الولد توحشهم فلدفع الضرر يكون لهم أن يفسخوا الإجارة.

4 ـ أحكام الفطام

انطلاقا من الحاجة إلى تنظيم عملية الرضاع بحيث لا تصبح شكلية لا أثر لها في المحافظة على صحة ونمو الرضيع، وضعت الشريعة، بنص القرآن الكريم الشرطان التاليان

__________

(1) لأن عيب الفجور في هذا فوق عيب الكفر، فقد كان في بعض نساء الرسل كافرة كامرأة نوح ولوط عليهما السلام، وما بغت امرأة نبي قط.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (206)

ليصح فطام الصبي في الوقت المناسب بعيدا عن النزاع:

الشرط الأول وقت الفطام

بما أن السنتين الأوليين من عمر الرضيع هي أهم المراحل في حياته الصحية والجسمية، لما يتسم فيها نموه بالاستمرار، فهي تعتبر مرحلة انطلاق القوى الكامنة، وهي مرحلة الإنجازات الكبيرة، فالطفل ينمو نموا جسميا سريعا ويتزايد حسيا وحركيا تزايدا ملحوظا في السيطرة على الحركات حيث تبدو حركات القدمين ثم الجلوس فالحبو فالوقوف ثم المشي بالإضافة إلى تعلم الطفل الكلام واكتساب اللغة ونمو الاستقلال والاعتماد النسبي على النفس والاحتكاك الاجتماعي بالعالم الخارجي.

ولهذا حددت الشريعة أكمل فترة للرضاع بحولين كاملين (1)، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة:233)، فالآية الكريمة لم تكتف بذكر الحولين بل قيدتهما بالكمال حتى لا يتوهم أنهما حول وبعض حول، لأن القائل قد يقول: أقمت عند فلان حولين وهو يريد حولا وبعض حول آخر، كما قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:203)، وإنما يتعجل في يوم وبعض الثاني (2).

__________

(1) أي إذا كان من عاشر المحرم كان الكمال في عاشر المحرم في مثل تلك الساعة؛ فإن الحول المطلق هو اثنا عشر شهرا من الشهر الهلالي، كما قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} (التوبة:36)

وللفقهاء هنا قولان آخران هما:

القول الأول: إذا كان في أثناء الشهر كان جميع الشهور بالعدد، فيكون الحولان ثلثمائة وستين. وعلى هذا القول تزيد المدة اثني عشر يوما.

القول الثاني: منها واحد بالعدد، وسائرها بالأهلة. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 3/ 369.

(2) وهذا معروف في كلام العرب، يقال: لفلان عشرون عاما إذا أكمل ذلك، قال الفراء والزجاج وغيرهما: لما جاز أن يقول: حولين ويريد أقل منهما، قال: {كاملين} ليبين أنه لا يجوز أن ينقص منهما. وهذا بمنزلة قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة:196)، فإن لفظ العشرة يقع على تسعة وبعض العاشر. فيقال: أقمت عشرة أيام. وإن لم يكملها. فقوله هناك {كاملة} بمنزلة قوله هنا {كاملين}.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (207)

وصرح في آية أخرى بأن الفطام يكون بعد سنتين فقال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لقمان:14)

وفي هذا دليل على أن أكمل الرضاع هو سنتان كاملتان، وقد أثبت البحوث الصحية والنفسية في الوقت الحاضر أن فترة عامين ضرورية لنمو الطفل نموا سليما من الوجهتين الصحية والنفسية، فالطفل في أيامه الأولى، وبعد خروجه من محضنه الدافئ الذي اعتاد عليه فترة طويلة يحتاج إلى التغذية الجسمية والنفسية ليعوض ما اعتاده وألفه وهو في وعاء أمه.

ومع ذلك، فإن إرضاع الحولين ليس حتما واجبا (1)، بل إنه يجوز الفطام قبل الحولين بشرطين:

1 ـ التراضي على ذلك، فلهذا لو أراد الأب الفطم قبل هذه المدة ولم ترض الأم لم يكن له ذلك، كما سنرى ذلك في الشرط الثاني، قال ابن العربي: (لما جعل مدة الرضاع حولين بين أن فطامها هو الفطام، وفصالها هو الفصال، وليس لأحد عنه منزع، إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارة بالولد، فذلك جائز بهذا البيان)

2 ـ أن لا يكون في ذلك ضرر على المولود، ولعله لأجل هذا قال ابن عباس: (إن

__________

(1) قال قتادة: كان الرضاع واجبا في الحولين وكان يحرم الفطام قبله، ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من الحولين بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) (البقرة:233)

وقد أجمع العلماء على عدم اشتراط الحولين في الرضاعة، قال القرطبي: (الناس مجمعون على العامين في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحّددت فرقة بالعام لا زيادة ولا نقص. وقالت فرقة: العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع. وقالت فرقة: إن فطم الصبّي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحّرم).

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (208)

إرضاع الأم الحولين مختص بمن وضعت لستة أشهر (1)، ومهما وضعت لأكثر من ستة أشهر نقص من مدة الحولين) مستنبطا هذا المعنى من أن الله تعالى حدد في القرآن الكريم مدة الحمل والرضاع بثلاثين شهرا، فقال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الاحقاف:15)، ثم نص في الآية الأخرى على مدة الرضاع فقط فقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن} (البقرة:233)، وهو معنى صحيح، فالصبي كلما كان ناقصا في نموه كان أكثر حاجة للرضاعة بخلاف مكتمل النمو.

ونرى أن الشرط الثاني يحتاج في بعض الأحوال إلى استشارة المختصين، فهم الذين يحددون مدى حاجة الصبي إلى استكمال الرضاعة أو توقفها.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن هؤلاء، وإن كان الشرع قد حث على احترامهم ومراعاة تخصصهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم) إلا أن الاستغراق في الثقة في كل ما يأتي من الغرب من دراسات، أو سوء الظن بما تتطلبه حياتنا من فطرية وتلقائية، يجعلهم غير مؤهلين أحيانا للاستنصاح في هذا المجال (2).

الشرط الثاني تشاور الزوجين

وقد نص على هذا الشرط قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة:233) أي إذا اتفق والد الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في

__________

(1) أقل مدة الحمل 28 أُسبوعاً بزيادة يوم أو أيام (بعد إتمام 28 أُسبوعاً وقبل إتمام 37 أُسبوعاً) أي ستة أشهر وستة عشر يوماً، بل أكثر ان كان بعض الشهور ناقصاً على قول: وستة أشهر على قول آخر، لكن مع لزوم رعاية طبية وأجهزة حديثة. وتقدم عن بعضهم احتمال انقاذ اجنة عمرها ما يقل عن خمسة أشهر بعشرة أيام، وولادة جنين كامل النمو تحدث بعد 259 يوماً الى 293 يوماً.

(2) ولا نرى محلا لذكر الأدلة هنا، فالواقع يدل على ذلك، بل إن بعض الأطباء قد يتسببون في أخطار كثيرة في صحة الأولاد بإعطائهم أدوية قد تضر بمستقبلهم الصحي لأجل تفادي عرض من الأعراض البسيطة التي قد يتحملها الجسم ويقاومها.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (209)

ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك.

فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، قال ابن حزم: (فإن كان له أب، أو أم، فأراد الأب فصاله دون رأي الأم، أو أرادت الأم فصاله دون رأي الأب: فليس ذلك لمن أراده منهما قبل تمام الحولين - كان في ذلك ضرر بالرضيع أو لم يكن –)

أما بعد الحولين فلا يشترط اتفاق الوالدين جميعا على ذلك، بل يكفي رأي أحدهما إذا لم يكن في ذلك مضرة على الرضيع، قال ابن حزم: (فإن أرادا التمادي على إرضاعه بعد الحولين فلهما ذلك، فإن أراد أحدهما - بعد الحولين - فصاله وأبى الآخر منهما، فإن كان في ذلك ضرر على الرضيع لم يجز فصاله، وكذلك لو اتفقا على فصاله. وإن كان لا ضرر على الرضيع في فصاله بعد الحولين: فأي الأبوين أراد فصاله - بعد تمام الحولين - فله ذلك، هذا حق الرضيع، والحق على الأب والأم في إرضاعه)

وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه.

ولكن اتفاق الوالدين على فطام الرضيع يبقى موقوفا على عدم تضرره بذلك، كما ذكرنا سابقا، قال ابن حزم معبرا عن هذا الشرط: (فإن أرادا جميعا فصاله قبل الحولين، فإن كان في ذلك ضرر على الرضيع لمرض به، أو لضعف بنيته، أو لأنه لا يقبل الطعام: لم يجز ذلك لهما فإن كان لا ضرر على الرضيع في ذلك فلهما ذلك)

وهذا ـ كما ذكرنا سابقا ـ يستدعي مشاورة أهل الثقة من أهل الاختصاص.

آداب الفطام

من أهم الآداب التي نص عليها العلماء، والمتعلقة بالفطام، أن يختار للفطام الوقت المناسب الذي لا يتضرر به الرضيع، وأن يكون ذلك بالتدريج، وهو يتطلب من الأم

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (210)

التدرج والصبر والحلم وعدم القيام بهذه العملية فجأة، إذ أن ذلك يسبب للطفل صدمة نفسية قاسية لاسيما إذا لجأت الأم إلى استخدام الوسائل البدائية في عملية الفطام.

ومن الممكن أن تتم عملية الفطام بطريقة أكثر فعالية، كأن تستبعد رضعة أو رضعتين خلال الأسبوع وتحل مكانها وجبة غذائية.

قال ابن القيم: (وأحمد أوقات العظام إذا كان الوقت معتدلا في الحر والبرد وقد تكامل نبات أسنانه وأضراسه وقويت على تقطيع الغذاء وطحنه، ففطامه عند ذلك الوقت أجود له، ووقت الاعتدال الخريفي أنفع في الطعام من وقت الاعتدال الربيعي، لأنه في الخريف يستقبل الشتاء والهواء يبرد فيه والحرارة الغريزية تنشأ فيه وتنمو والهضم يزداد قوة وكذلك الشهوة) (1)

ونص على التدريج في الفطام بقوله: (وينبغي للمرضع إذا أرادت فطامه أن تفطمه على التدريج ولا تفاجئه بالفطام وهلة واحدة، بل تعوده إياه وتمرنه عليه لمضرة الانتقال عن الإلف والعادة مرة واحدة كما قال بقراط في فصوله: (استعمال الكبير بغتة مما يملأ البدن أو يستفرغه أو يسخنه أو يبرده أو يحركه بنوع آخر من الحركة أي نوع كان فهو خطر، وكلما كان كثيرا فهو معاد للطبيعة وكلما كان قليلا فهو مأمون) (2)

__________

(1) تحفة المودود: 235.

(2) تحفة المودود: 235.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (211)

الفصل الرابع

التهيئة الاجتماعية للأولاد

نريد بالتهيئة الاجتماعية في هذا الفصل ما يهيئ الوليد للحياة الاجتماعية، وذلك بأن يتعرف عليه المجتمع، لأن لذلك التعرف قيمته بعد ذلك في حياته الاجتماعية.

وقد شرع الشرع لهذا التعريف أحسن الأحكام، والتي تجعل ميلاد الولد فألا طيبا في المجتمع، حيث ربط به وليمة خاصة هي العقيقة، وأمر بتحسين اسمه، لأنه به يعرف في المجتمع.

وللتهيئة الاجتماعية ميادين أخرى تتعلق بالتربية خصصنا لها فصلا خاصا في الجزء الأخير من هذه السلسلة، باعتبارها بعدا من أبعاد التربية.

أولا ـ حق الأولاد في الاسم الحسن

من أهم الحقوق التي تتطلبها التهيئة الاجتماعية للأولاد اختيار الأسماء الحسنة التي يدعون بها في المجتمع، بل يدعون بها يوم القيامة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم (1) فأحسنوا أسماءكم) (2)

وحق الأولاد في الأسماء الحسنة ليس حقا ثانويا أو من النوافل التي لا يضر تركها، بل هي من الواجبات الأساسية التي حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحث أصحابه عليها، بل يحث الأمة جميعا عليها، قال الشيخ الشعراني: (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نسمى أولادنا بالأسماء

__________

(1) وقد نقل الشعراني عن بعض العلماء أنه ليس كل الناس يدعى بأبيه يوم القيامة، وإنما ذلك خاص بمن ليس له ذنب يفتضح به، أما من له ذنب يفتضح به فينادى باسم أمه سترا له، والله أعلم بمدى صحته.

(2) رواه أبو داود بإسناد جيد. وهو من رواية عبد الله بن زيد بن إياس بن أبي زكريا عن أبي الدرداء، والأشهر أنه سمع أبا الدرداء، وقال البيهقي وطائقة: لم يسمعه فيكون مرسلا.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (212)

الحسنة، ونرشد جميع إخواننا إلى ذلك)

وسر ذلك، كما يذكر ابن القيم، هو أن الأسماء قوالب للمعاني، ولها دلالة عليها، (فلذلك اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباطٌ وتناسبٌ، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلّق له بها، فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك، والواقع يشهد بخلافه، بل للأسماء تأثيرٌ في المسميات، وللمسميات تأثّر عن أسمائها في الحسن والقبح، والخفة والثقل، واللطافة والكثافة، كما قيل:

وقلما أبصرت عيناك ذا لقبٍ إلا ومعناه إن فكرت في لقبه) (1)

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يهتم بالأسماء، بل كان لكل شيء من أشيائه التي يملكها اسمه الخاص الذي لا زال إلى الآن يعرف به (2).

وانطلاقا من هذا، سنبحث في هذا المبحث أنواع الأسماء من حيث استحسان الشرع لها وحضه عليها، أو من حيث استقباحه لها وتنفيره منها، وقبل ذلك نعرض لبعض المسائل المتعلقة بهذا الباب.

وقت التسمية

اتفق الفقهاء على استحباب تسمية المولود في اليوم السابع أو في اليوم الأول، مع نصهم على جواز ذلك قبله أو بعده، ومن الأدلة على ذلك:

أما ما ورد من سنة التسمية في اليوم السابع، فمنه النصوص التالية:

1 ـ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه، ووضع الأذى عنه، والعق) (3)

__________

(1) زاد المعاد: 2/ 336.

(2) وقد ذكر علماء الشمائل أسماء ممتلكاته (، وقد رويت متفرقة في أحاديث محتلفة، انظر: زاد المعاد: 1/ 130.

(3) قال الترمذي: حديث حسن.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (213)

2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل غلام رهين بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق، ويسمى) (1)

أما ما ورد من الاستحباب في يوم الولادة فمنها النصوص التالية:

1 ـ عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي: إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم) (2)

2 ـ عن أنس قال: ولد لأبي طلحة غلام، فأتيت به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحنكه، وسماه عبد الله) (3).

3 ـ عن سهل بن سعد الساعدي قال: أتي بالمنذر بن أبي أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين ولد، فوضعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فخذه وأبو أسيد جالس، فلهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء بين يديه، فأمر أبو أسيد بابنه فاحتمل من على فخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأقلبوه، فاستفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أين الصبي؟) فقال أبو أسيد: (أقلبناه يا رسول الله) قال: (ما اسمه؟) قال: فلان، قال: (لا، ولكن اسمه المنذر) (4) فسماه يومئذ المنذر.

وقد ذكر النووي أن السنة تتحقق بتسميته يوم السابع أو يوم الولادة، مستدلا بالأدلة السابقة، لكن البخاري حمل أخبار يوم الولادة على من لم يرد العق، وأخبار يوم السابع على من أراده، وقد أيده ابن حجر شارحه، فقال: (وهو جمع لطيف لم أره لغيره)

ويرد عليه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وُلِدَ لي اللَّيْلَةَ غُلامٌ فَسَمَّيْتُهُ باسْمِ أبي: إبْرَاهِيم صلى الله عليه وآله وسلم) (5) فقد سماه في يوم ميلاده مع أنه عق عنه.

__________

(1) سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، بأسانيد الصحيحة، عن سمرة بن جُندب قال الترمذي: حديثٌ حسن صحيح.

(2) مسلم.

(3) البخاري ومسلم.

(4) البخاري ومسلم.

(5) مسلم.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (214)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذهب إليه البخاري من حمل أخبار يوم الولادة على من لم يرد العق، وأخبار يوم السابع على من أراده، وهو أيده ابن حجر شارحه، فقال: (وهو جمع لطيف لم أره لغيره)

وسر ذلك أن الوالدين في العادة يكونان قد حضرا اسما خاصا بابنهما، ثم يؤخران التصريح به إلى العقيقة، فإن لم تكن هناك عقيقة صرحا به، وهو ما قد تجمع به النصوص.

وقد يعترض على هذا بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لا يصح الاعتراض به، فالسنة القولية مقدمة على الفعلية.

تسمية السقط ومن مات قبل تسميته

نص الفقهاء على استحباب تسمية السقط، ومن مات قبل تسميته، فإن لم يُعلم أذكرٌ هو أو أنثى، سُمِّي باسم يَصلحُ للذكر والأُنثى كأسماء وهند وهُنيدة وخارجة وطلحة وعُميرة وزُرْعة ونحو ذلك.

قال الإِمام البغوي: (يُستحبّ تسميةُ السقط)، قال النووي: (قال أصحابنا: ولو مات المولود قبل تسميته استُحبّ تسميتُه)

وقد ذهب بعضهم (1) إلى أنه لا يسمى إلا بعد أربعة أشهر، معللين ذلك بأنه (لا يبعث قبلها) وخالف القاضي في المعتمد فقال: (يبعث قبلها)

وهذه مسألة أخروية لذلك نرى الأحوط هو التسمية مطلقا، حرصا على تنفيذ ما أمرنا صلى الله عليه وآله وسلم بتنفيذه، ثم لا يضرنا بعد ذلك إذا بعث أو لم يبعث.

__________

(1) نقله الجماعة عن الإمام أحمد.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (215)

حكم التصرف في الاسم

اتفق الفقهاء على جواز التصرف في الاسم بما لا يؤثر في معناه تأثيرا يخرجه إلى الكراهة أو الحضر بالشروط التي سنذكرها، وأهمها أن لا يتأذى بذلك صاحبه.

وقد كان من أساليب العرب في التصرف في الأسماء ترخيم الاسم المنتقص، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخم أسماء جماعة من الصحابة، فقال لأبي هريرة: (يا أبا هر (1)، وقال لعائشة: (يا عائش) ولأنجشة: (يا أنجش)

الأسماء المستحبة

انطلاقا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة) (2) نحاول هنا أن نذكر بعض مواصفات الأسماء المستحبة ليقاس عليها غيرها:

1 ـ ارتباط الاسم بأسماء الله

أفضل الأسماء وأجلها وأكثرها حرمة وأنفعها لصاحبها إذا ما عرف كيف يحترمها هي الأسماء المرتبطة بالله، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن) (3)

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يشير على الصحابة بهذا النوع من الأسماء، فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: (سم ابنك عبد الرحمن) (4)، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمى ابن أبي طلحة عبد الله.

قال ابن القيم معللا محبة الله لهذا الصنف من الأسماء: (لما كان الاسم مقتضياً لمسماه،

__________

(1) نازع ابن بطال في اعتبار هذا ترخيما، فقال: (ليس من الترخيم وإنما هو نقل اللفظ من التصغير والتأنيث إلى التكبير والتذكير وذلك أنه كان كناه أبا هريرة وهريرة تصغير هرة فخاطبه باسمها مذكرا فهو نقصان في اللفظ وزيادة في المعنى.

(2) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.

(3) أبو داود (4/ 287، رقم 4949)، والترمذى (5/ 132، رقم 2833)، وقال: حسن غريب. وابن ماجه (2/ 1229، رقم 3728)، والحاكم (4/ 304، رقم 7719)، وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبى..

(4) رواه البخاري ومسلم.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (216)

ومؤثراً فيه، كان أحبّ الأسماء إلى إلى الله ما اقتضى أحب الأوصاف إليه، كعبد الله، وعبد الرحمن) (1)

بل إن هذه الأسامي تتفاضل فيما بينها بحسب الصفة التي يرتبط بها الاسم، وإن كانت أسماء الله كلها حسنى، قال ابن القيم: (وإضافة العبودية إلى اسم الله، واسم الرحمن، أحب إليه من إضافتها إلى غيرهما، كالقاهر، والقادر، فعبد الرحمن أحبّ إليه من عبد القادر، وعبد الله أحبّ إليه من عبد ربه) (2)

وسر ذلك ـ كما يذكر ابن القيم ـ هو (أن التعلق الذي بين العبد وبين الله إنما هو العبودية المحضة، والتعلّق الذين بين الله وبين العبد بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجوده وكمال وجوده، والغاية التي أوجده لأجلها أن يتألّه له وحده محبةً وخوفاً، ورجاءً وإجلالاً وتعظيماً فيكون عبداً لله وقد عبده لما في اسم الله من معنى الإلهية التي يستحيل أن تكون لغيره، ولما غلبت رحمته غضبه وكانت الرحمة أحب إليه من الغضب، كان عبد الرحمن أحب إليه من عبد القاهر) (3)

ونحب أن ننبه هنا إلى أمرين كلاهما ينبغي التشديد في النهي عنه:

1 ـ تحريف بعض أسماء الله الحسنى بالتصغير والتغيير، وهو حرام، كتحريفهم اسم (عبد القادر) في بعض مناطق الجزائر بـ (قدور) أو (قادة) أو (عبدقة)، واسم عبد العزيز بـ (عزوز)، وغيرها، وكل ذلك حرام لارتباطه بأسماء الله، وقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (لأعراف:180)، فهذا التصرف لا يختلف كثيرا عن الإلحاد في أسماء الله الذي وقع فيه

__________

(1) زاد المعاد: 2/ 340.

(2) زاد المعاد: 2/ 340.

(3) زاد المعاد: 2/ 340.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (217)

المشركون (1).

2 ـ حذف كلمة (عبد) من بعض أسماء الله، بحيث تنتفي الحكمة من استحبابها، بل قد تصبح من الأسماء المحرمة إن حملت ما لا ينبغي وصف غير الله به، كما يسمي البعض (عبد الرحمن) ب (رحمن) أو (الرحماني)

3 ـ أما إذا لم يكن مما يختص الله تعالى بالوصف به، فإنه جائز مع كون الأولى هو ربطها باسم الله، قال الشعراني عند ذكر ما سنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الأسماء: (ونمنع بعضهم من تسمية بأسماء الله تعالى، كنافع ومالك ومؤمن وعزيز وحكيم وعدل وجليل وحليم ووكيل ونحوهم مما ورد، لكن ظواهر الشريعة تشهد بالجواز لورودها في السنة)

2 ـ ارتباط الاسم بالصالحين

وقد وردت النصوص الكثيرة الدالة على التسمية بأسماء الأنبياء والصالحين، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تسموا بأسماء الأنبياء..) (2)، وإخباره مقررا: (أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم) (3)، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم سمى ابنه إبراهيم، وعن يوسف بن عبد الله بن سلام قال سماني النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوسف) (4) الحديث.

وسر ذلك ـ كما يذكر ابن القيم ـ أنه: (لما كان الأنبياء ساداتٍ بني آدم، وأخلاقهم أشرف الأخلاق، وأعمالهم أصح الأعمال، كانت أسماؤهم أشرف الأسماء. فندب النبيّ

__________

(1) من وجوه الإلحاد التي ذكرها العلماء:

1. التغيير فيها كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه فسموا بها أوثانهم؛ فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان قاله ابن عباس وقتادة.

2. بالزيادة فيها، والنقصان منها؛ كما يفعله الجهال الذين يخترعون أدعية يسمون فيها الله تعالى بغير أسمائه، ويذكرون بغير ما يذكر من أفعاله؛ إلى غير ذلك مما لا يليق به.

(2) أبو داود والنسائي والبخاري في الأدب المفرد.

(3) مسلم.

(4) البخاري في الأدب المفرد وسنده صحيح وأخرجه الترمذي في الشمائل.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (218)

أمته إلى التسمى بأسمائهم) (1)

ومن المصالح المقصودة في التسمي بأسماء الصالحين ما عبر عنه ابن القيم بقوله: (ولو لم يكن في ذلك من المصالح إلا أن الاسم يذكر بمسماه، ويقتضي التعلّق بمعناه، لكفى به مصلحةً مع ما في ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذكرها، وأن لا تنسى، وأن تذكر أسماؤهم بأوصافهم وأحوالهم) (2)

قال مالك: سمعت أهل المدينة يقولون ما من أهل بيت فيهم اسم محمد إلا رزقوا رزق خير، قال ابن رشد: (يحتمل أن يكونوا عرفوا ذلك بالتجربة أو عندهم في ذلك أثر) (3)

ونحب أن ننبه هنا كذلك إلى أمرين:

المبالغة في اعتبار تأثير الاسم: بحيث ذكر نفعه في الآخرة، ومن ذلك ما روي عن ابن عباس أنه: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار، وأول من يخرج من وافق اسمه اسم نبي، حتى إذا لم يبق فيها من يوافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم: أنتم المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين (4).

ومن ذلك ما ورد في (كتاب الخصائص لابن سبع) عن ابن عباس أنه: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ألا ليقم من اسمه محمد فليدخل الجنة كرامة لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

خطورة تعرض هذه الأسماء للعن والسب: لأن لهذه الأسماء دلالتها الخاصة التي ينبغي أن لا تمر في الأذهان إلا مكللة بدلائل الاحترام، فاسمه صلى الله عليه وآله وسلم مثلا يعقب بالصلاة والسلام عليه، فلذلك كان في تعريضه للامتهان خطر عظيم.

__________

(1) زاد المعاد: 2/ 342.

(2) زاد المعاد: 2/ 342.

(3) انظر: حواشي الشرواني: 9/ 373.وانظر: سبل السلام: 4/ 100.

(4) القرطبي: 18/ 47.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (219)

ومثل ذلك أسماء الأنبياء والأولياء، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي الجليل: (من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، إني لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرب) (1)

وقد ورد في هذا المعنى حديث ضعيف هو (يسمونهم محمدا ويلعنونهم) (2)، وقد استدل بهذا بعضهم على النهي عن التسمية بهذا، وهو لا يصح لأن النصوص متواترة بجوازه، وقد أول الحديث السابق على تقدير صحته بأنه (لا حجة فيه للمنع، بل فيه النهي عن لعن من يسمى محمدا)

3 ـ صدق الاسم

بأن يدل على معاني صحيحة، ولهذا ـ كما سنرى ـ نهي عن الأسماء التي تحمل معاني التزكية، والأصل في هذا الباب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وأصدقها حارث وهمام)

وقد بين ابن القيم سر الصدق في هذه الأسماء، فقال: (لما كان كلّ عبد متحركاً بالإرادة، والهمّ مبدأ الإرادة، ويترتب على إرادته حركته وكسبه، كان أصدق الأسماء اسم همام واسم حارث، إذ لا ينفكّ مسماهما عن حقيقة معناهما)

ولهذه العلة كان أخنع اسم وأوضعه عند الله، وأغضبه له اسم: ملك الملوك، وسلطان السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير الله، فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل، والله لا يحب الباطل.

ومن هذا الباب التسمية بـ: سيد الناس، وسيد الكل، لأن ذلك خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)، فلهذا لا يجوز لأحد أن يقول عن غيره: إنه سيد الناس وسيد الكل، كما لا يجوز أن يقول: إنه سيد ولد آدم.

__________

(1) ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء والحكيم وابن مردويه وابن عساكر.

(2) قال الطبري: وهو ضعيف لأنه من رواية الحكم بن عطية عن ثابت عنه.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (220)

وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا (قاضي القضاة) وقال: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين، الذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون.

ومن هذا الباب نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تسمية العنب كرماً وقال: (الكرم قلب المؤمن) وهذا لأن هذه اللفظة تدلّ على كثرة الخير والمنافع في المسمى بها، وقلب المؤمن هو المستحقّ لذلك دون شجرة العنب (1).

الأسماء القبيحة

وهي الأسماء التي دلت الأدلة ونص الفقهاء على كراهتها أو تحريمها، نظرا للمعاني التي تحملها، وقد عرفنا هذه الأسامي عن طريقين:

النهي المباشر عنها: كما روي عن جابر قال: أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينهى عن أن يسمى بيعلى (2) وببركة وبأفلح وبيسار وبنافع ونحو ذلك، ثم رأيته سكت بعد عنها فلم يقل شيئاً، ثم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينه عن ذلك، ثم أراد عمر أن ينهى عن ذلك ثم تركه)

وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن عشت إن شاء الله أنهي أمتي أن يسموا نافعاً

__________

(1) اختلف في المراد بالنهي عن تخصيص شجرة العنب بهذا الاسم:

فقيل: إن ذلك من باب الإخبار بأن قلب المؤمن أولى به منه، فلا يمنع من تسميته بالكرم كما قال في (المسكين) و(الرقوب) و(المفلس)

وقيل: أن تسميته بهذا مع اتخاذ الخمر المحرم منه وصف بالكرم والخير والمنافع لأصل هذا الشراب الخبيث المحرم، وذلك ذريعةٌ إلى مدح ما حرم الله وتهييج النفوس إليه؟

ونرى مع صحة احتمال المعنى الأول إلى أن الأولى أن لا يسمى شجر العنب كرماً حفاظا على ظاهر النص.

(2) قال النووي: (هكذا وقع هذا اللفظ في معظم نسخ صحيح مسلم التي ببلادنا أن يسمى بيعلى وفي بعضها بمقبل بدل يعلى، وفي الجمع بين رواه البخاري ومسلم للحميدي بيعلى، وذكر القاضي أنه في أكثر النسخ. بمقبل وفي بعضها بيعلى، قال: والأشبه أنه تصحيف، قال: والمعروف بمقبل، وهذا الذي أنكره القاضي ليس بمنكر بل هو المشهور وهو صحيح في الرواية وفي المعنى)

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (221)

وأفلح وبركة) (1)

ومعنى إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينهى عن هذه الأسماء أنه أراد أن ينهى عنها نهي تحريم فلم ينه، وأما النهي الذي هو لكراهة التنزيه فقد نهى عنه في الأحاديث الباقية.

وهذا يشبه في عصرنا ـ مع الفارق العظيم ـ قرارات بعض لدول بمنع أسماء معينة.

تغيير أسماء الصحابة: لأن التغيير لا يكون إلا عن اسم مكروه إلى اسم حسن، وقد غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض أسماء الصحابة، بل أسماء الأسماء الأماكن، بل روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان (إذا سمع الاسم القبيح حوله إلى ما هو أحسن منه) (2) وهو أعم من ذلك كله.

ومن النماذج التي نقلها لنا الرواة، ما روي عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمل إليه أبو أسيد ابنا له فقال: ما اسمه؟ قال فلان قال: لا، ولكن اسمه المنذر (3) (4)

ومنها ما روي عن أبي هريرة أن زينب كان اسمها برة، فقيل تزكي نفسها، فسماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب (5)، وفي حديث آخر عن زينب بنت أبي سلمة قالت: سميت برة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سموها زينب. قالت: ودخلت عليه زينب بنت جحش واسمها برة فسماها زينب) (6)

وكأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذا وضع بديلا لاسم (برة) الذي كان معروفا حينها باسم ثابت هو (زينب) ليسهل التعرف عليه.

وإن كان هذا قد يعارض بما روي عن ابن عباس قال: (كانت جارية اسمها برة

__________

(1) أبو داود في سننه.

(2) ابن أبي شيبة من مرسل عروة، وقد وصله الترمذي من وجه آخر عن هشام بذكر عائشة فيه.

(3) قال الداودي سماه المنذر تفاؤلا أن يكون له علم ينذر به.

(4) رواه البخاري ومسلم.

(5) رواه البخاري ومسلم.

(6) مسلم.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (222)

فحول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسمها جويرية، وكان يكره أن يقال خرج من عند برة) (1)

ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: ما اسمك؟ قال: أصرم قال: بل أنت زرعة) (2)

ومنها ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل يكنى أبا الحكم: إن الله هو الحاكم فما لك من الولد؟ قال سريج ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قال سريج قال فأنت أبو سريج)

ومنها ما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير اسم عاصية وقال: أنت جميلة)

قال أبو داود يذكر الأسماء التي غيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وغير النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة - بإسكان التاء وفتحها - وشيطان والحاكم وغراب وحباب وشهاب، فسماه هاشما وسمى حربا سليما، وسمى المضطجع المنبعث وأرضا يقال لها عقرة سماها خضرة، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى وبنو الدنية سماهم بني الرشد. وسمى بني مغوية ببني رشدة)

ولما قدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، واسمها يثرب لا تعرف بغير هذا الاسم، غيره بطيبة (لما زال عنها ما في لفظ يثرب من التثريب بما في معنى طيبة من الطيب، استحقت هذا الاسم، وازدادت به طيباً آخر، فأثر طيبها في استحقاق الاسم وزادها طيباً إلى طيبها)

ومنها ما روي عن سعيد بن المسيب بن حزن عن أبيه أن أباه حزنا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما اسمك؟ قال حزن قال أنت سهل قال: لا أغير اسما سمانيه أبي، قال ابن

__________

(1) مسلم.

(2) سنن أبي داود بإسناد حسن.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (223)

المسيب: (فما زالت الحزونة (1) فينا بعد (2) (3)

وقد استنبط العلماء من إجازة صلى الله عليه وآله وسلم له بأن ذلك التغيير ليس (على وجه المنع من التسمي بها بل على وجه الاختيار، ومن ثم أجاز المسلمون أن يسمى الرجل القبيح بحسن، والفاسد بصالح ويدل عليه أنه صلى الله عليه وآله وسلملم يلزم حزنا لما امتنع من تحويل اسمه إلى سهل بذلك، ولو كان ذلك لازما لما أقره على قوله لا أغير اسما سمانيه أبي)، وقال بن بطال: (فيه أن الأمر بتحسين الأسماء وبتغيير الاسم إلى أحسن منه ليس على الوجوب)

ولا نرى صحة هذا التعليل لأن هذا لا يمكن النهي عنه عن طريق الجبر، وليس هو كذلك من الأمور التي رتب عليها الشرع الحدود والتعازير، فيجبره صلى الله عليه وآله وسلم على الاسم الجديد، بل تركه وما اختاره ولو كان فيه كراهة أو إثما.

بل نرى أن في فعل هذا الصحابي خطأ عظيما، والصحابة مختلفوا المراتب والدرجات، ففرق عظيم بين هذا الذي اختار تسمية أبيه على تسمية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين علي الذي كناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي تراب بجوار أبي الحسن، فكانت أحب كنيته إليه، فعن سهل بن سعد قال: (وكانت أحب، أسماء علي إليه، وإن كان ليفرح، إن يدعى بها) (4)

زيادة على هذا، فقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب:36))، ثم عقب على ذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36)

__________

(1) الحزونة غلظ الوجه وشيء من القساوة.

(2) وقال بن التين معنى قول بن المسيب فما زالت فينا الحزونة يريد اتساع التسهيل فيما يريدونه وقال الداودي يريد الصعوبة في أخلاقهم إلا أن سعيدا أفضى به ذلك إلى الغضب في الله وقال غيره يشير إلى الشدة التي بقيت في أخلاقهم فقد ذكر أهل النسب أن في ولده سوء خلق معروف فيهم لا يكاد يعدم منهم.

(3) البخاري.

(4) رواه البخاري ومسلم.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (224)

بعد هذا..

فقد اعتبر العلماء هذه الأسماء التي نهى صلى الله عليه وآله وسلم عنها، أو طالب بتغييرها نماذج عن الأسماء المنهي عنها، فلذلك جوزوا القياس في هذا الباب، قال النووي: (قال أصحابنا: يكره التسمية بهذه الأسماء المذكورة في الحديث وما في معناها ولا تختص الكراهة بها وحدها وهي كراهة تنزيه لا تحريم)

وانطلاقا من هذا نحاول حصر علل النهي في العلل التالية:

1 ـ الأسماء الشركية

كما أن أفضل الأسماء وأحبها إلى الله تعالى هي التي تحمل طابع العبودية لله مرتبطة بصفته وأسمائه الحسنى، فإن أبشع الأسماء وأقبحها، وأعظمها حرمة هي الأسماء التي تحمل معاني الشرك، فتصف الخلق بصفات الخالق.

وقد أشار إلى هذا النوع من الأسماء قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (لأعراف:190)

فمما ورد في تفسيرها ما نسب إليه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه (عبد الحارث) فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره) (1)

وهذا لا يصح، فأمنا حواء ـ عليها السلام ـ كانت أعرف بالله من أن يجرها الشيطان إلى مثل هذا، والأصح ما روي عن الحسن من أن هذا كان في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم،

__________

(1) رواه أحمد والترمذي والحاكم في المستدرك قال ابن كثير: وهذا الحديث معلول وقد رجّح كونه موقوفاً على الصحابي وبيّن أنه غير مرفوع وضعّف ما ورد من آثار، ابن كثير: 2/ 275.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (225)

وعن قتادة قال كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم اللّه أولاداً فهودوا ونصروا) (1)

وبدل لهذا النوع من السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أخنع الأسماء (2) عند الله رجل تسمى باسم ملك الأملاك)

وقد استدل العلماء بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد فيه، قال الطحاوي: (المراد بملك الأملاك الله تعالى فكان المسمى باسم من أسمائه عز وجل متكبرا فرده الله عز وجل بذلك إلى الخضوع والذلة، إذ كان أكبر أسمائه عز وجل إنما هي صفاته التي يبين بها عز وجل عن خلقه من الرحمة ومن العزة ومن العظمة ومن الجلال، ومما سوى ذلك عز وجل فكان بما سوى ذلك من أسمائه عز وجل كاسمه الأعظم مما قد قال عز وجل هل تعلم له سميا فقصر بالخلق عن ذلك، وتفرد به عز وجل وأضاف أسماءه إليه فقال عز وجل ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)

ويقاس على هذا الاسم ما في معناه مثل خالق الخلق وأحكم الحاكمين وسلطان السلاطين وأمير الأمراء، بل ألحق به بعضهم التسمية بشيء من أسماء الله الخاصة به كالرحمن والقدوس والجبار.

__________

(1) قال ابن كثير: وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظاً عن رسول اللّه (لما عدل عنه هو ولا غيره، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابين. ابن كثير: 2/ 275.

(2) عبر رسول الله (عن الاسم وأراد المسمى، لأن الخضوع والذلة إنما تقع على ذي الاسم لا الاسم نفسه؛ لأن الاسم لا يلحقه ذم ولا مدح وإنما ذلك من باب قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (الأعلى:1)، لأن التسبيح للمسمى لا للاسم، ومثل هذا كثير في القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى في قصة نبيه لوط - عليه السلام -: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ) (الانبياء:74)، فإنه لم يرد بذلك القرية نفسها، وإنما أراد أهلها الذين كانوا يعملون الخبائث.

ومثل ذلك قوله تعالى: {) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112)، فإنه أراد بذلك أهلها لا هي نفسها.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (226)

وقد اختلف الفقهاء هنا في إلحاق اسم: (قاضي القضاة) أو (حاكم الحكام) وهي من المصطلحات الإدارية المستعملة في العصور السابقة على قولين:

القول الأول: عدم الجواز، وهو قول الزمخشري وأيده علم الدين العراقي ردا على تعقب كلام بن المنير فصوب ما ذكره الزمخشري من المنع، وأيدهم الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة، قال: (يلتحق بملك الأملاك قاضي القضاة وان كان اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة وقد أسلم أهل المغرب من ذلك فاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة)

قال الزمخشري في قوله تعالى: {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود:45): (أي أعدل الحكام وأعلمهم إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل)، قال: ورب غريق في الجهل والجور من مقلدي زماننا قد لقب أقضى القضاة ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر)

وقد ردوا على ما استدل به المخالفون من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أقضاكم على) بأن التفضيل في ذلك وقع في حق من خوطب به ومن يلتحق بهم فليس مساويا لإطلاق التفضيل بالألف واللام.

القول الثاني: الجواز، وهو قول ابن المنير، ومن الأدلة على ذلك: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أقضاكم على)، فيستفاد منه أن لا حرج على من أطلق على قاضي يكون أعدل القضاة أو أعلمهم في زمانه أقضى القضاة أو يريد إقليمه أو بلده، مع أن هناك فرقا بين قاضي القضاة وأقضى القضاة.

وقد رجح هذا القول ابن حجر، قال: (بل هو الذي يترجح عندي فإن التسمية بقاضي القضاة وجدت في العصر القديم من عهد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة وقد منع الماوردي من جواز تلقيب الملك الذي كان في عصره بملك الملوك مع أن الماوردي كان يقال له أقضى القضاة وكأن وجه التفرقة بينهما الوقوف مع الخبر وظهور إرادة العهد الزماني في القضاة)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الإعمال الحقيقي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى باسم ملك الأملاك) يقتضي القول بحرمة هذا الاصطلاح، لأنه لا فرق بينهما في الدلالة.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (227)

زيادة على أن التأويل الذي ذكره ابن المنير قد يعرض مثله لملك الملوك، بل قيل ذلك حتى رد بعض العلماء على ذلك بقوله تعليقا على الحديث السابق: (وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء، لأن الزجر عن ملك الأملاك والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقا سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض أم على بعضها سواء كان محقا في ذلك أم مبطلا مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقا ومن قصده وكان فيه كاذبا)

ومما يروى من تنزه القضاة عن هذا اللقب أن القاضي عز الدين بن جماعة ذكر أنه رأى أباه في المنام فسأله عن حاله فقال: (ما كان علي أضر من هذا الاسم)، فأمر الموقعين أن لا يكتبوا له في السجلات قاضي القضاة، بل قاضي المسلمين (1).

2 ـ الأسماء المسببة للتطير

وهي الأسماء التي قد تحمل في معانيها التشاؤم والحزن والألم ونحو ذلك، لما تتركه في نفس الإنسان ومجتمعه من الآثار.

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يستحبّ الاسم الحسن، وأمر إذا أبردوا إليه بريداً أن يكون حسن الاسم، وكان يأخذ المعاني من أسمائها في المنام واليقظة، كما رأى أنه وأصحابه في دار عقبة بن رافع، فأتوا برطبٍ من رطب ابن طاب، فأوله بأن لهم الرفعة في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن الدين الذي قد اختاره الله لهم قد أرطب وطاب.

وتأول سهولة أمرهم يوم الحديبية من مجياء سهيل بن عمرو إليه.

وندب جماعة إلى حلب شاة، فقام رجلٌ يحلبها، فقال: (ما اسمك؟) قال: (مرة، فقال: (اجلس)، فقام آخر فقال: (ما اسمك؟) قال: أظنه حرب، فقال: (اجلس)، فقام آخر فقال: (ما اسمك؟) فقال: يعيش، فقال: (احلبها).

__________

(1) وقد خطأ ابن حجر هذا التأويل، فقال: (وفهم من قول أبيه أنه أشار إلى هذه التسمية مع احتمال أنه أشار إلى الوظيفة، بل هو الذي يترجح عندي).

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (228)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكره الأمكنة المنكرة الأسماء، ويكره العبور فيها، كما مر في بعض غزواته بين جبلين، فسأل عن اسميهما فقالوا: فاضحٌ ومخزٍ، فعدل عنهما، ولم يجز بينهما.

وللنهي عن هذا النوع من الأسماء سببان:

أثرها الاجتماعي: لأن الأسماء ـ كما ذكرنا ـ تدخل في التهيئة الاجتماعية السليمة للإنسان، والناس ينفرون من الأسماء التي تحمل دلالات غير مرغوبة لهم، فلذلك قد يصبح الاسم سببا لتأذي الناس من المسمى.

ولهذا نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا النوع من الأسماء، مشيرا إلى بعض نماذجها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وأقبحها حرب ومرة) (1)

وذلك لأن مسمى الحرب والمرة أكره شيء للنفوس وأقبحها عندها، فكان أقبح الأسماء حرباً ومرة (2).

ويلحق بهذا (حنظلة، وحزن، وما أشبههما)

بل يلحق بها (يسار وأفلح ونجيح ورباح) مع كون معانيها من الفأل الحسن، وذلك لأنها قد تؤدي إلى التطير من جهة أخرى، (كما إذا قلت لرجل: أعندك يسار، أو رباح، أو أفلح؟ قال: لا، تطيرت أنت وهو من ذلك)

وقد أشار إلى هذا ما ورد في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسمين غلامك أفلح ولا نجيحا ولا يسارا ولا رباحا، فإنك إذا قلت: أثم هو؟ قالوا لا) (3)

والشر ع ـ مع تحريمه للتطير ـ إلا أنه راعى مشاعر الناس بحيث لا يقع على أسماعهم ما قد يؤذيهم، قال ابن القيم: (اقتضت حكمة الشارع، الرؤوف بأمته، الرحيم بهم، أن

__________

(1) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.

(2) زاد المعاد: 2/ 342.

(3) اختلف هل هذه الزيادة من تمام الحديث المرفوع، أو مدرجةٌ من قول الصحابي.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (229)

يمنعهم من أسبابٍ توجب لهم سماع المكروه أو وقوعه، وأن يعدل عنها إلى أسماء تحصل المقصود من غير مفسدة)

ومن جهة أخرى، فإن هذه الأسماء قد تصبح محل سخرية من الناس، (بأن يسمى يساراً من هو من أعسر الناس، ونجيحاً من لا نجاح عنده، ورباحاً من هو من الخاسرين) (1)

وقد قال الشاعر هاجيا:

سموك من جهلهم سديداً... والله ما فيك من سداد

أنت الذي كونه فساداً... في عالم الكون والفساد

فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمى به.

وقال الآخر:

وسميته صالحاً فاغتدى... بضد اسمه في الورى سائراً

وظن بأن اسمه ساترٌ... لأوصافه فغدا شاهراً

قال ابن القيم معللا سر تحول الاسم إلى سبب للذم: (وهذا كما أن من المدح ما يكون ذماً وموجباً لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس، فإنه يمدح بما ليس فيه، فتطالبه النفوس بما مدح به، وتظنّه عنده، فلا تجده كذلك، فتنقلب ذمًّا، ولو ترك بغير مدح، لم تحصل له هذه المفسدة، ويشبه حاله حال من ولي ولاية سيئة، ثم عزل عنها) (2)

التأثير النفسي: ويشير إلى هذا ما روي عن سعيد بن المسيب بن حزن عن أبيه أن أباه حزنا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما اسمك؟ قال حزن قال أنت سهل قال: لا أغير اسما سمانيه

__________

(1) زاد المعاد: 2/ 342.

(2) زاد المعاد: 2/ 342.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (230)

أبي، قال ابن المسيب: (فما زالت الحزونة (1) فينا بعد (2) (3)، فسعيد ابن المسيب أقر بتأثير هذا الاسم في مسماه.

وقد علل هذا التأثير ابن القيم بقوله: (لما كان بين الأسماء والمسميات من الارتباط والتناسب والقرابة، ما بين قوالب الأشياء وحقائقها، وما بين الأرواح والأجسام، عبر العقل من كل منهما إلى الآخر)

ولما كان الاسم الحسن يقتضي مسماه، ويستدعيه من قرب، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض قبائل العرب وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده: (يا بني عبد الله إن الله قد حسن اسمكم واسم أبيكم) قال ابن القيم: (فانظر كيف دعاهم إلى عبودية الله بحسن اسم أبيهم، وبما فيه من المعنى المقتضى للدعوة) (4)

وضرب مثالا على هذا بأسماء الستة المتبارزين يوم بدر كيف اقتضى القدر مطابقة أسمائهم لأحوالهم يومئذ، فكان الكفار: شيبة، وعتبة، والوليد، ثلاثة أسماء من الضعف، فالوليد له بداية الضعف، وشيبة له نهاية الضعف، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} (الروم:54)، وعتبة من العتب، فدلت أسماؤهم على عتبٍ يحلّ بهم، وضعفٍ ينالهم، وكان أقرانهم من المسلمين: عليٌّ، وعبيدة، والحارث ثلاثة أسماء تناسب أوصافهم، وهي العلو، والعبودية،

__________

(1) الحزونة غلظ الوجه وشيء من القساوة.

(2) وقال بن التين معنى قول بن المسيب فما زالت فينا الحزونة يريد اتساع التسهيل فيما يريدونه وقال الداودي يريد الصعوبة في أخلاقهم إلا أن سعيدا أفضى به ذلك إلى الغضب في الله وقال غيره يشير إلى الشدة التي بقيت في أخلاقهم فقد ذكر أهل النسب أن في ولده سوء خلق معروف فيهم لا يكاد يعدم منهم.

(3) البخاري.

(4) زاد المعاد: 2/ 339.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (231)

والسعي الذي هو الحرث فعلوا عليهم بعبوديتهم وسعيهم في حرث الآخرة (1).

ومثل ذلك اسمه صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن القيم: (وتأمل كيف اشتق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من وصفه اسمان مطابقان لمعناه، وهما أحمد ومحمد، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة محمد، ولشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، فارتبط الاسم بالمسمى ارتباط الروح بالجسد، وكذلك تكنيته لأبي الحكم بن هشام بأبي جهل كنية مطابقة لوصفه ومعناه، وهو أحقّ الخلق بهذه الكنية، وكذلك تكنية الله عز وجل لعبد العزى بأبي لهب، لما كان مصيره إلى نار ذات لهب، كانت هذه الكنية أليق به وأوفق، وهو بها أحقّ وأخلق) (2)

3 ـ أسماء التزكية

وهي الأسماء التي تحل أوصافا مبالغا فيها من الصلاح لمسمياتها، كالتقي، والمتقي، والمطيع، والطائع، والراضي، والمحسن، والمخلص، والمنيب، والرشيد، والسديد، وغيرها.

ومثل ذلك الألقاب الدالة على هذه المعاني، قال الشيخ الشعراني نقلا عن شيخه (علي الخواص) مستنكرا واقعه: (وينبغي اجتناب الألقاب الكاذبة كشمس الدين، وقطب الدين وبدر الدين ونحوها وإن كان لها معنى صحيح بالتأويل، كأن يقال المراد أنه شمس دين نفسه، أو قطب دين نفسه، أو بدر دين نفسه وهكذا، وهذا أمر قد عم غالب الناس حتى العلماء والصالحين، وصاروا يستنكرون النداء بأسمائهم المجردة عن الألقاب كمحمد وعمر وعلي ونحو ذلك، واتباع السنة أولى. ومن أراد التفخيم لعالم أو صالح فليخاطبه بلفظ السيادة، كسيدي محمد، وسيدي عمر، ونحو ذلك، فإنه أبعد عن الكذب من قطب الدين ونحوه)

وقد نص الفقهاء على كراهة التسمية بهذا التوع من الأسماء، أما تسمية الكفار بذلك، فلا يجوز التمكين منه، ولا دعاؤهم بشيءٍ من هذه الأسماء، ولا الإخبار عنهم بها، والله عز

__________

(1) زاد المعاد: 2/ 339.

(2) زاد المعاد: 2/ 339.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (232)

وجل يغضب من تسميتهم بذلك.

قال النووي: (مما تعم به البلوى ووقع في الفتاوى التسمية بست الناس أو ست العرب أو ست القضاة أو بست العلماء ما حكمه؟ والجواب: أنه مكروه كراهة، شديدة، وتستنبط كراهته مما سبق في حديث: (أخنع اسم عند الله) ومن حديث تغيير اسم برة إلى زينب، ولأنه كذب. ثم اعلم أن هذه اللفظة باطلة عدها أهل اللغة في لحن العوام؛ لأنهم يريدون بست الناس سيدتهم، ولا يعرف أهل اللغة لفظة ست إلا في العدد)

وقد دل على النهي على هذا النوع من الأسماء قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزكّوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم)، وعن أبي هريرة أن زينب كان اسمها برة، فقيل تزكي نفسها، فسماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب (1).

4 ـ أسماء الظالمين

كاسم (فرعون) و(قارون) و(النمروذ) وغيرها من الأسماء التي عرف بها الظالمون والكفار، لما لها من أثر نفسي واجتماعي ـ كما ذكرنا ـ زيادة على أن فيها إحياء لأسماء ينبغي إماتتها وإهانتها.

فكيف يخبر شخص عن حبه لمن اسمه (فرعون) مثلا، هل يقول: (أنا أحب فرعون) هكذا بإطلاق، أم يكتب اسمه بماء الذهب ليعلقه في بيته وذاكرته وينقشه في قلبه، مع أن اسم فرعون لا ينبغي في الأصل ان يرد على الخاطر إلا مهانا ذليلا كما وصفه القرآن الكريم.

وقد ورد النص على النهي عن التسمية بهذا النوع من الأسماء في بعض الأحاديث الضعيفة، ومنها ما روي من حديث بن مسعود نهى رسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يسمى الرجل عبده أو ولده حربا أو مرة أو وليدا) (2)

__________

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2) الطبراني، قال ابن حجر (سنده ضعيف جدا).

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (233)

وورد فيه أيضا حديث آخر عن سعيد بن المسيب قال: ولد لأخي أم سلمة ولد فسماه الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سميتموه بأسماء فراعنتكم، ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد هو أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه) (1) وفي رواية بشر بن بكر من الزيادة: (غيروا اسمه فسموه عبد الله)

قال الوليد بن مسلم في روايته قال الأوزاعي: (فكانوا يرونه الوليد بن عبد الملك ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد لفتنة الناس به حين خرجوا عليه فقتلوه وانفتحت الفتن على الأمة بسبب ذلك وكثر فيهم القتل) (2)

ويدخل في هذا الأسماء التي اختص بها غير المسلمين، قال الشعراني: (.. ونمنع بعضهم من تسمية ميخائيل وغبريان ونحوهما كشموال، من حيث كونها صارت من أسماء اليهود والنصارى، كما نمنع المسلم من لبس العمامة الصفراء والزرقاء، من حيث كونهما صارا شعارا لأهل الكتابين، ويؤيد ذلك حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)

أحكام الكنأ

وهي تختلف عن الاسم في أن الغرض منها تكريم المكنى والتنويه به واحترامه، وهي عرف عربي قصدوا به هذا القصد، فاستحب عندهم كما قال الشاعر:

أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب

__________

(1) مرسل أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه والبيهقي في الدلائل من طريقه قال حدثنا محمد بن خالد بن العباس السكسكي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبو عمرو الأوزاعي وأخرجه البيهقي في الدلائل أيضا من رواية بشر بن بكر عن الأوزاعي وأخرجه عبد الرزاق في الجزء الثاني من أماليه عن معمر كلاهما عن الزهري.

(2) وهكذا أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن إسماعيل بن أبي إسماعيل عن إسماعيل بن عياش عن الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب أخرجه أبو نعيم في الدلائل من رواية الحارث وأخرجه أحمد عن أبي المغيرة عن إسماعيل بن عياش فزاد فيه قال حدثني الأوزاعي وغيره عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر به فزاد فيه عمر فادعى بن حبان أنه لا أصل له.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (234)

واستحبابه في الشرع ـ كما نرى ـ منوط بحصول هذا القصد، وتحقق هذا الغرض، فإن خلا منه، أو كان من الأعراف من لا يعتبر الكنية تشريفا أو تنويها أو أن فيها نوعا من الاحترام، فإن حكمها حينذاك لا يصل إلى مرتبة الاستحباب.

قال النووي: (يستحب تكنية أهل الفضل من الرجال والنساء، سواء كان له ولد أم لا، وسواء كني، بولده أو بغيره وسواء كني، الرجل بأبي فلان أو أبي فلانة، وسواء كنيت المرأة بأم فلان أو أم فلانة، ويجوز التكنية بغير أسماء الآدميين، كأبي هريرة وأبي المكارم وأبي الفضائل وأبي المحاسن وغير ذلك، ويجوز تكنية الصغير، وإذا كني من له أولاد كني بأكبرهم، ولا بأس بمخاطبة الكافر والفاسق والمبتدع بكنيته إذا لم يعرف بغيرها أو خيف من ذكره باسمه مفسدة، وإلا فينبغي أن لا يزيد على الاسم (1)

أما أدلة ذلك، فهي أكثر من أن تحصى، قال النووي: (وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بما ذكرته. فأما أصل الكنية فهو أشهر، من أن تذكر فيه أحاديث الآحاد)

فقد كان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم إطلاق الكنى على أصحابه، فقد كنى صهيباً بأبي يحيى، وكنى علياً بأبي تراب بجوار بأبي الحسن، وكانت أحب كنيته إليه.

ويستوي في استحباب التكنية ـ بالقصد الذي ذكرنا ـ الرجال والنساء، وقد ذكرنا حديث عائشة (يا رسول اللّه! كلُّ صواحبي لهنّ كُنى، قال: فاكْتَنِي بابْنِكَ عَبْدِ اللّه)، وكان لنسائه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً كنى كأم حبيبة، وأم سلمة.

__________

(1) وقد استدل الفقهاء لجواز تكنية الكافر من النصوص قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد:1)، وقد رد على هذا بأن هذا كراهة لاسمه حيث أن اسمه هو عبد العزى.

ومن السنة ما ورد في رواه البخاري ومسلم أن النبي (قال لسعد بن عبادة ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب، يريد عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق، وفي الصحيح قوله (: (هذا قبر أبي رغال) وكان أبو رغال كافرا.

وقد ذكر العلماء شرط ذلك، وهو أن لا يكون من باب الاحترام، وإنما من باب التعريف إلا إذا كان في ذلك نوعا من تأليف قلبه.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (235)

تكنية من لا ولد له

كان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم أنه يكني من لا ولد له، فعن عائشة قالت: يا رسول اللّه! كلُّ صواحبي لهنّ كُنى، قال: (فاكْتَنِي بابْنِكَ عَبْدِ اللّه) (1)

وعن علقمة عن بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كناه أبا عبد الرحمن قبل أن يولدله (2).

وقد كان من الصحابة جماعات لهم كنى قبل أن يُولد لهم، كأبي هريرة، وأنس، وأبي حمزة، وخلائق لا يُحصون من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، عن الزهري قال: (كان رجال من الصحابة يكتنون قبل أن يولد لهم) (3)

ولا كراهةَ في ذلك، لأن القصد ـ كما ذكرنا ـ هو الاحترام لا ذكر الواقع.

وروي عن فضيل بن عمرو: قلت لإبراهيم: (إني أكنى أبا النضر وليس لي ولد وأسمع الناس يقولون من اكتنى وليس له ولد فهو أبو جعر) فقال إبراهيم: (كان علقمة يكنى أبا شبل، وكان عقيما لا يولد له) (4)، وعن علقمة قال: (كناني عبد الله بن مسعود قبل أن يولد لي) (5)، وعن هلال الوزان: قال: (كناني عروة قبل أن يولد لي) (6)

وقد كان ذلك مستعملا عند العرب، قال الشاعر:

لها كنية عمرو وليس لها عمرو

تكني الصبيان

__________

(1) قال الراوي: يعني عبد اللّه بن الزبير، وهو ابن أختها أسماء بنت أبي بكر، وكانت عائشةُ تُكَنَّى أُمّ عبد اللّه، قال النووي: (هذا هو الصحيح المعروف، وأما ما رويناه في كتاب ابن السني عن عائشة ا قالت: أسقطتُ من النبيّ (سَقْطاً فسمّاه عبد اللّه، وكنّاني بأُمّ عبد اللّه)، فهو حديث ضعيف)

(2) الطبراني وسنده صحيح.

(3) ابن أبي شيبة.

(4) سعيد بن منصور.

(5) البخاري في الأدب المفرد.

(6) البخاري.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (236)

كان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم من باب العطف على الصغير تكنيته ليربي فيه معاني الرجولة من صغره، وقد روي عن أنس قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أحسنَ الناس خلقاً، وكان لي أخ يُقال له أبو عمير ـ قال الراوي: أحسبه قال فَطِيمٌ ـ وكان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاءَه يقول: (يا أبا عُمَيْرٍ! ما فَعَلَ النُغَيْرُ)

وقد كان ذلك من عادة العرب، وكانوا يقصدون بذلك التفاؤل بأنه سيعيش حتى يولد له، أوللأمن من التلقيب، لأن الغالب أن من يذكر شخصا فيعظمه أن لا يذكره باسمه الخاص به، فإذا كانت له كنية أمن من تلقيبه، ولهذا قال قائلهم: (بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليها الألقاب) وقالوا: (الكنية للعرب كاللقب للعجم)

أحكام الألقاب

الألقاب المكروهة

اتفق الفقهاء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، قال الله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَان} (الحجرات:11)

فقد نهي في الآية عن التنابز (1) بالألقاب في معرض النهي عن السخرية واللمز وكل السلوكيات التي قد تضر بالعلاقات الاجتماعية.

وقد ورد في سبب نزولها عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: (كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعي ببعضها فعسى أن يكره، فنزلت هذه الآية) (2)

وفي رواية عنه قال: فينا نزلت هذه الآية، في بني سلمة: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَان) (الحجرات:11)، قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلموليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمي قول يا فلان فيقولون: (مه يا رسول الله، إنه يغضب

__________

(1) النبز (بالتحريك) اللقب، والجمع الأنباز. والنبز (بالتسكين) المصدر، تقول: نبزه ينبزه نبزا، أي لقبه. وفلان ينبز بالصبيان أي يلقبهم، شدد للكثرة. ويقال النبز والنزب لقب السوء. وتنابزوا بالألقاب: أي لقب بعضهم بعضا.

(2) الترمذي، وقال: هذا حديث حسن.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (237)

من هذا الاسم)، فنزلت هذه الآية: (ولا تنابزوا بالألقاب") (1)

وقيل: إن المراد من ذلك مناداة المسلم بـ (يا يهودي يا نصراني)، وهو قول الحسن ومجاهد، قالا: (كان الرجل يعير بعد إسلامه بكفره يا يهودي يا نصراني، فنزلت)، ومثله قول قتادة وأبي العالية وعكرمة: (هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق)

وكلا المعنيين صحيح، ومن التنابز بالألقاب، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في المعنى الثاني: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه) (2)

وقد روي من التشديد في هذا أن أبا ذر كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ترى ها هنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه)، ونزلت الآية السابقة.

ومنه أو قريب منه قول ابن عباس: (التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب، فنهى الله أن يعير بما سلف)

ومع هذا، فقد نص الفقهاء على جواز مخاطبة الإنسان من يتبعه من ولد ومتعلم ونحوهم باسم قبيح تأديبا وزجرا ورياضة إذا احتيج إلى ذلك.

ومما يروى في ذلك أن أبا بكر قال لابنه عبد الرحمن: يا غنثر (3) (4)

التلقيب الوصفي

نص الفقهاء على جواز تلقب الإنسان بوصف يغلب عليه من باب التعريف له بشرط عدم كراهة الملقب للقبه، وذلك كالتلقيب بـ (الأعرج والأحدب وغيرها)

وهو مما اتفق الفقهاء على جوازه، قال القرطبي: (جوزته الأمة وأتفق على قول أهل

__________

(1) أبو داود.

(2) مسلم والترمذي.

(3) غنثر - بغين معجمة مضمومة ثم نون ساكنة ثم ثاء مثلثة مفتوحة ومضمومة، ومعناه البهيم.

(4) رواه البخاري ومسلم.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (238)

الملة)، وعلى هذا المعنى ترجم البخاري في في باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل، قال: وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما يقول ذو اليدين)

ومثل ذلك مما نص على جوازه ما كان ظاهره الكراهة، ولكن الغرض منه الصفة لا العيب من باب الضرورة، وقد سئل عبدالله بن المبارك عن الرجل يقول: حُميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحُميد الأعرج، ومروان الأصغر، فقال: إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به.

وقد روي عن عبدالله بن سرجس قال: رأيت الأصلع - يعني عمر - يقبل الحجر) (1) في رواية الأصيلع.

ويستوي في ذلك ما لو كان صفة كالأعمش والأعمى والأعرج والأحول والأصم والأبرص والأصفر والأحدب والأزرق والأفطس والأشتر والأثرم والأقطع والزمن، والمقعد والأشل. أو كان صفة لأبيه أو لأمه، أو غير ذلك مما يكرهه.

قال القرطبي: (واتفقوا على جواز ذكره بذلك على جهة التعريف لمن لا يعرفه إلا بذلك، ودلائل كل ما ذكرته، مشهورة حذفتها لشهرتها)

ونرى أن هذا، وخاصة بعد ما بولغ فيه، يصرف عن الأسماء الشرعية المستحبة، زيادة على أن الحياء قد يغلب على بعض الناس، فيستحيي من إظهار كراهته لما لقب به، بل هو في حال إظهاره للغضب قد يصير محلا للسخرية منه به، فلذلك تبدو منه اللامبالاة التي لا تعبر عن شعوره الحقيقي.

وقد أنكر ابن العربي على أهل زمانه المبالغة في هذا، قال: (وقد ورد لعمر الله من ذلك في كتبهم ما لا أرضاه في صالح جزرة، لأنه صحف (خرزة) فلقب بها، وكذلك قولهم في محمد بن سليمان الحضرمي (مطين)، لأنه وقع في طين ونحو ذلك مما غلب على المتأخرين،

__________

(1) مسلم.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (239)

ولا أراه سائغا في الدين)

وقد كان موسى بن علي بن رباح المصري يقول: (لا أجعل أحدا صغر اسم أبي في حل، وكان الغالب على اسمه التصغير بضم العين)

ويدخل في هذا الباب ـ مع الاتفاق على جوازه للضرورة، ان ينادي شخصا لا يعرف اسمه بعبارة لا يتأذى بها كـ (يا أخي يا فقير يا فقيه يا صاحب الثوب الفلاني، ونحو ذلك)

وقد روي من ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل يمشي بين القبور: (يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك) (1)، بل روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا لم يحفظ اسم الرجل قال: (يا ابن عبد الله) (2)

الألقاب المستحبة

اتفق الفقهاء على استحباب مخاطبة الإنسان باللقب الذي يحبه بالشروط التي سبق ذكرها في الأسماء، وذلك لما ورد من النصوص الدالة على ألقاب الصحابة، ومحبتهم لتلك الألقاب.

ومنها (أبو تراب)، وهو وإن كان في ظاهره كنية إلا أن له حكم اللقب، وهو لقب علي بن أبي طالب كنيته أبو الحسن، وقد ورد في سبب تلقيبه به: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجده نائما في المسجد وعليه التراب فقال: قم أبا تراب) (3) فلزمه هذا اللقب الحسن، وقد روي عن سهل بن سعد قال: (وكانت أحب أسماء علي إليه، وإن كان ليفرح، إن يدعى بها)

ومنها (ذو اليدين) واسمه الخرباق - بكسر الخاء المعجمة وبالباء الموحدة، وآخره قاف - كان في يده طول، فقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعوه ذا اليدين.

__________

(1) أبو داود.

(2) ابن السني.

(3) انظر قريبا منه: البخاري، مناقب علي..

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (240)

وقد لقب حمزة بأسد الله، وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب. ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها - من العرب والعجم - تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. قال الماوردي: فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب.

وقد نص الفقهاء ـ هنا ـ على أنه يستحب للولد والتلميذ أن لا يسمي أباه ومعلمه وسيده باسمه، بل يناديه ويخاطبه بما يعبر عن احترامه له من لقبه أو كنيته، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى رجلا معه غلام، فقال للغلام: من هذا؟ قال: أبي قال: (لا تمش أمامه ولا تستسب (1) له ولا تجلس قبله ولا تدعه باسمه) (2)، وعن عبد الله بن زحر قال: (يقال من العقوق أن تسمي أباك، وأن تمشي أمامه)

ثانيا ـ حق الأولاد في العقيقة

وهي ما يذكى عن المولود شكرا لله تعالى بنية وشرائط مخصوصة، وسبب تسميتها بذلك أنه يشق حلقها بالذبح، وقد كره بعض الفقهاء تسميتها عقيقة وقالوا: يستحب تسميتها: نسيكة أو ذبيحة.

وقد اختلف الفقهاء في حكم العقيقة على الأقوال التالية:

القول الأول: أنها واجبة، وهو قول بريدة بن الحصيب والحسن البصري وأبي الزناد وداود الظاهري ورواية عن أحمد، بل قال ابن حزم بأنه يجبر عليها، قال: (العقيقة فرض واجب يجبر الإنسان عليها إذا فضل له عن قوته مقدارها)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

__________

(1) أي لا تفعل فعلا تتعرض فيه لأن يسبك عليه أبوك زجرا وتأديبا.

(2) ابن السني.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (241)

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مع الغلام عقيقة فاهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى) (1)، قال ابن حزم: (أمره عليه السلام بالعقيقة فرض لا يحل لأحد أن يحمل شيئا من أوامره عليه السلام على جواز تركها إلا بنص آخر وارد بذلك، وإلا فالقول بذلك كذب وقفو لما لا علم لهم به، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)

2 ـ قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (كل غلام وهينة بعقيقة تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه) (2).

3 ـ عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة) (3)، وفي لفظ: (أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين) (4)

4 ـ عن أم كرز الكعبية، أنها سألت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن العقيقة فقال: (نعم عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة ولا يضركم ذكرانا كن أو أناثا) (5)

عن بريدة الأسلمي: إن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس - ومثله عن فاطمة بنت الحسين.

القول الثاني: أن العقيقة سنة، وهو قول جمهور الفقهاء؛ منهم ابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وفقهاء التابعين، وأئمة الأمصار، إلا الحنفية والظاهرية، وذهب المالكية إلى أنها مندوبة، وهو قول الإمامية، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن العقيقة فقال لا أحب العقوق وكأنه كره الاسم فقالوا يا رسول اللّه إنما نسألك عن أحدنا يولد له قال

__________

(1) رواه الجماعة إلا مسلما.

(2) رواه الخمسة وصححه الترمذي.

(3) رواه أحمد والترمذي وصححه.

(4) رواه أحمد وابن ماجه.

(5) رواه أحمد والترمذي وصححه.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (242)

من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة) (1)، وهو يقتضي عدم الوجوب لتفويضه إلى الاختيار، وهي قرينة صارفة للأوامر ونحوها عن الوجوب إلى الندب.

2 ـ الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة والتابعين، وهو أمر معمول به بالحجاز قديما وحديثا، وقد ذكر مالك في الموطأ أنه الأمر الذي لا اختلاف فيه عندهم، وقال يحيى الأنصاري التابعي: أدركت الناس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية. قال ابن المنذر: وممن كان يرى العقيقة ابن عمر وابن عباس وفاطمة بنت رسول الله وعائشة وبريدة الأسلمي والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وعطاء والزهري وأبو الزناد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وآخرون من أهل العلم يكثر عددهم. قال: وانتشر عمل ذلك في عامة بلدان المسلمين، مبتغين في ذلك ما سنه لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2).

3 ـ أنها ذبيحة لسرور حادث، فلم تكن واجبة، كالوليمة والنقيعة.

القول الثالث: أنها مباحة، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (نسخت الأضحية كل دم كان قبلها ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله ونسخت الزكاة كل صدقة كانت قبلها)، والعقيقة كانت قبل الأضحية فصارت منسوخة بها كالعتيرة والعقيقة ما كانت قبلها فرضا بل كانت فضلا وليس بعد نسخ الفضل إلا الكراهة بخلاف صوم عاشوراء وبعض الصدقات المنسوخة حيث لا يكره التنفل بها بعد النسخ لأن ذلك كان فرضا وانتساخ الفرضية لا يخرجه عن كونه قربة في نفسه (3).

__________

(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.

(2) المجموع: 8/ 431.

(3) بدائع الصنائع: 5/ 127.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (243)

2 ـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العقيقة فقال لا أحب العقوق، وكأنه كره الاسم، قال: (يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له) قال: (من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك عنه عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة)، قال الطحاوي: (فكان ما في هذين الحديثين قد دل أن أمرها قد رد إلى الاختيار لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ولد له مولود فأراد أو أحب أن ينسك عنه فليفعل)، وكان ما قد رويناه قبل ذلك في توكيد أمرها هو على حسب ما كانت عليه في الجاهلية، ثم جاء الإسلام فأقرت على ما كانت عليه في الجاهلية فعقلنا بذلك أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما قد خالف ذلك كان طارئا عليه وناسخا له) (1)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن العقيقة خاضعة للاستطاعة، فمن كان مستطيعا وجبت عليه، ومن لم يكن مستطيعا، لكن يستطيع أداءها ببعض التكلف الذي لا يضره سنت له، فإن كان ذلك بتكلف يضره نهي عنها، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

وقد اشتد ابن الحاج على من يسرفون في العوائد مع التقصير فيما تتطلبه السنن من التكاليف، فقال: (ثم العجب ممن يدعي الفقر منهم، ويعتل به على ترك سنة العقيقة، ويتكلف لبعض العوائد التي أحدثوها ما يزيد على ثمن العقيقة الشرعية. فمن ذلك ما يفعله بعضهم في اليوم السابع من عمل الزلابية، أو شرائها وشراء ما تؤكل به ما ثمنه أضعاف ما يفعل به العقيقة الشرعية. هذا ما يفعله بعضهم في اليوم السابع مع وجود النفقة الكثيرة فيه لغير معنى شرعي، بل للبدعة والظهور والقيل والقال. وبعضهم يفعل ذلك أيضا في اليوم الثاني من الولادة. وبعضهم يفعل ذلك في اليوم السابع وفي اليوم الثاني والثالث من الولادة. وبعضهم يقتصر على أحدهما ويعتلون في ذلك بكونهم لا يقدرون على

__________

(1) مشكل الآثار: 1/ 79.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (244)

العقيقة، والعقيقة الشرعية ثمنها أيسر وأخف من ذلك بل لو اقتصر على ترك ما أحدثوه في العصيدة من البدعة لكان فيه ثمن العقيقة الشرعية وزيادة)

الحكمة منها

اتفق العلماء على أن الحكمة من العقيقة هي إظهار البشر والسرور بالنعمة، ونشر النسب بالمولود، زيادة على أنها قربان يقرب عن المولود في أول خروجه إلى الدنيا، وأنها تفك الرهان المرتهن به المولود، قال ابن القيم: (إن الله جعل العقيقة عن المولود سببا لفك رهانه من حبس الشيطان الذي يعلق به حين خروجه إلى الدنيا، فكانت العقيقة فداء وتخليصا له من حبس الشيطان له وسجنه في أسره ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى) (1)

وقال ابن الحاج: (وفي فعل العقيقة من الفوائد أشياء كثيرة: منها: امتثال السنة، وإخماد البدعة، ولو لم يكن فيها من البركة إلا أنها حرز للمولود من العاهات والآفات كما ورد، فالسنة مهما فعلت كانت سببا لكل خير وبركة، والبدعة بضد ذلك. وقد حكي عن بعضهم أنه دخل عليه بعض أصحابه فوجدوا الذهب والفضة منثورين في بيته، وأولاده ذاهبون وراجعون عليها، فقالوا له: يا سيدنا، أما هذا إضاعة مال، قال: بل هي في حرز قالوا له: وأين الحرز، قال لهم: هي مزكاة، وذلك حرزها، فكذلك فيما نحن بسبيله من عق عنه، فهو في حرز من العاهات والآفات، وأقل آفة تقع بالمولود يحتاج وليه أن ينفق عليه قدر العقيقة الشرعية أو أكثر منها، فمن كان له لب فليبذل جهده على فعلها؛ لأنها جمعت بين حرز المال والبدن، أما البدن فسلامة المولود سيما من الآفات والعاهات كما تقدم. وأما كونها حرزا للمال، فإن النفقة في العقيقة نزر يسير بالنسبة إلى ما يتكلفونه من العوائد المتقدم ذكرها، وغيرها من النفقات فيما يتوقع على المولود من توقع العاهات والآفات، وفيها كثرة

__________

(1) الترمذي.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (245)

الثواب الجزيل لأجل امتثال السنة في فعلها وتفريقها سيما في هذا الزمان، فإن فيها الأجر الكثير لقلة فاعلها. لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحيا سنة من سنني قد أميتت فكأنما أحياني ومن أحياني كان معي في الجنة)، فقد شهد صلى الله عليه وآله وسلم لمن أحيا سنة من السنن إذا أميتت بالمعية معه صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة) (1)

وقد حكى في ذلك عن بعضهم، فقال: (وقد وقع لسيدي أبي محمد رحمه الله وهو بمدينة تونس أنه لما أن ازداد له مولود طالبوه ببعض عوائدهم الجارية فأبي عليهم، وقال: السنة أولى قال: وكنت مريضا لا أقدر على الحركة، فلما أن عزمت على العقيقة وجزمت بها رأيت فيما يرى النائم أني ماش على طريق ومعي شخص، فبينما نحن نمشي في الطريق وإذا بجيفة قد عرضت لنا في وسطها، فقال لي ذلك الشخص الذي كان معي: عسى أنك تعينني على زوال هذه الجيفة عن الطريق؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعبر من هاهنا الساعة قال: فقلت له: نعم فأزلنا الجيفة عن الطريق ونظفناه، وإذا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقبل فسلمت عليه، فقال لي: وعليك السلام يا فقيه ورحمة الله وبركاته، فانتبهت من نومي، فوجدت العافية في الوقت، فأصبحت وخرجت واشتريت الذبيحة للعقيقة بنفسي، فلما أن عملتها جمعت بعض الإخوان وحدثتهم بما جرى فاشتهر الأمر، وكانت العقيقة إذ ذاك قد دثرت عند بعض الناس حتى كأنها لا تعرف فاشتهرت بعد ذلك في البلد.. فأولت الجيفة على العوائد وأولت إزالتها وتنظيف الطريق على امتثال السنة) (2)

العقيقة عن الميت

اختلف الفقهاء في حكم العقيقة عن الميت على قولين:

القول الأول: استحباب العقيقة، وهو قول الشافعي، قال ابن حزم: (وإن مات قبل

__________

(1) المدخل: 3/ 295.

(2) المدخل: 3/ 295.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (246)

السابع عق عنه) ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الغلام مرتهن بعقيقة تذبح عنه يوم سابعه ويدمى)، من التفاسير التي فسر بها هذا: أن معناه أنه إذا مات وهو طفل ولم يعق عنه لم يشفع لابويه، ومنها أن العقيقة لازمة لابد منها فشبه لزومها للمولود بلزوم الرهن للمرهون في يد المرتهن.

2 ـ ظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما، وأميطوا عنه الأذى)

3 ـ عن أم كرز الخزاعية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة) فلم يقيد صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بحياته.

القول الثاني: لا تستحب، وهو قول الحسن البصري ومالك، وقد فسروا معنى أنه مرهون بالعقيقة بمعنى أنه لا يسمى ولا يحلق شعره إلا بعد ذبحها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ارتباطها بالحياة، لأن لها حكما معلومة معقولة المعنى، وأهمها إظهار الفرح والاستبشار، وهو لا يحصل بعد الموت، بل يحصل عكسه.

ثم لا يصح تكليفه من أصيب هذه المصيبة بما يرهقة من التكاليف.

العقيقة عن الأنثى

اختلف الفقهاء في حكم العقيقة عن الإناث على قولين:

القول الأول: أن الأنثى تشرع العقيقة عنها كما تشرع عن الذكر، وهو مذهب جماهير الفقهاء، بل يكاد يكون إجماعا، ومن الأدلة على ذلك حديث أم كرز الخزاعية أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في العقيقة: (عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة) (1)

القول الثاني: لا عقيقة عن الجارية، وهو قول الحسن وقتادة، ولا نعرف ما استدلوا به لهذا.

__________

(1) أبو داود كتاب الأضاحي.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (247)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول لظهور دليله.

وقت العقيقة

اتفق الفقهاء على أن وقت ذبح العقيقة لا يصح قبل تمام انفصال المولود، فإن حصل فهو ذبيحة عادية، واختلفوا في وقت العقيقة بعد ميلاده على الأقوال التالية:

القول الأول: السنة أن تذبح يوم السابع، فإن فات ففي أربع عشرة، فإن فات ففي إحدى وعشرين، ويروى عن عائشة، وهو قول إسحاق، وهو قول الحنابلة.

قال ابن قدامة: (ولا نعلم خلافا بين أهل العلم القائلين بمشروعيتها في استحباب ذبحها يوم السابع)

واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه)

أما كونه في أربع عشرة ثم في أحد وعشرين فاستدلوا له بقول عائشة وهو من التقديرات، والظاهر أنها لا تقولها إلا توقيفا.

القول الثاني: وقت العقيقة يكون في سابع الولادة ولا يكون قبله، وهو قول الحنفية والمالكية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن كل ذلك مجزئ.

قضاء العقيقة

اختلف الفقهاء في حكم قضاء العقيقة بعد فوات وقتها على الأقوال التالية:

القول الأول: أن العقيقة لا تفوت بتأخيرها عن اليوم السابع، وهو قول الجمهور منهم عائشة وعطاء وإسحاق، ومن الأدلة على ذلك: أنه قد وجب الذبح يوم السابع ولزم

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (248)

إخراج تلك الصفة من المال فلا يحل إبقاؤها فيه فهو دين واجب إخراجه.

القول الثاني: إن وقت العقيقة يفوت بفوات اليوم السابع، وهو قول مالك

القول الثالث: إن وقت الإجزاء في حق الأب ونحوه ينتهي ببلوغ المولود، وهو قول الشافعية، وقد نصوا على أن العقيقة لا تفوت بتأخيرها، لكن يستحب ألا تؤخر عن سن البلوغ، فإن أخرت حتى يبلغ سقط حكمها في حق غير المولود وهو مخير في العقيقة عن نفسه، واستحسن القفال الشاشي أن يفعلها، ونقلوا عن نصه في البويطي: أنه لا يفعل ذلك واستغربوه.

القول الرابع: إن فات ذبح العقيقة في اليوم السابع يسن ذبحها في الرابع عشر، فإن فات ذبحها فيه انتقلت إلى اليوم الحادي والعشرين من ولادة المولود فيسن ذبحها فيه، وهو قول الحنابلة (1)، وهو قول ضعيف عند المالكية، وهو مروي عن عائشة واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم) قال العقيقة تذبح لسبع ولأربع عشرة ولإحدى وعشرين) (2)

2 ـ نقل الترمذي عن أهل العلم: (أنهم يستحبون أن تذبح العقيقة في السابع فان لم يمكن ففي الرابع عشر فان لن يمكن فيوم أحد وعشرين) (3)

الترجيح:

نرى ان الأرجح في المسألة هو القول الأول باعتبار العقيقة من الأمور التي توحد بين أفراد المجتمع زيادة على كونها من إطعام الطعام الذي وردت النصوص باستحبابه مطلقا.

__________

(1) وعند الحنابلة في اعتبار الأسابيع بعد ذلك روايات، قال ابن قدامة: (وإن ذبح قبل ذلك أو بعده أجزأه لأن المقصود يحصل وإن تجاوز أحدا وعشرين احتمل أن يستحب في كل سابع، فيجعله في ثمانية وعشرين فإن لم يكن ففي خمسة وثلاثين، وعلى هذا قياسا على ما قبله واحتمل أن يجوز في كل وقت لأن هذا قضاء فائت، فلم يتوقف كقضاء الأضحية وغيرها.

(2) البيهقي.

(3) وتعقبه الحافظ بأنه لم ينقل ذلك صريحا الا عن أبي عبد اللّه البوشنجي ونقله صالح بن أحمد عن أبيه.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (249)

زيادة على أن الشخص قد يمر بظروف معينة تحول بينه وبين أداء العقيقة بالصفة الشرعية، فيؤخر أداءها إلى وقت يساره.

طبخ العقيقة

اختلف الفقهاء في حكم طبخ العقيقة على قولين:

القول الأول: يستحب طبخ العقيقة كلها حتى ما يتصدق به منها، وهو قول جمهور الفقهاء، ومن الأدلة على ذلك حديث عائشة: (السنة شاتان مكافئتان عن الغلام وعن الجارية شاة، تطبخ جدولا ولا يكسر عظما، ويأكل ويطعم ويتصدق وذلك يوم السابع) (1)

القول الثاني: يجوز في العقيقة تفريقها نيئة ومطبوخة، وهو قول الحنفية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هوأن تراعى مصلحة من تفرق له، فإن كانت مصلحته في طبخها طبخت، وإلا تركت نيئة.. ومثل ذلك تراعى قدرة صاحب العقيقة، فقد لا يكون له من أهله من يطبخها، فيفرقها نيئة.

كسر عظام العقيقة

القول الأول: يستحب أن لا تكسر عظام العقيقة، وإنما تطبخ جدولا (2)، لا يكسر لها عظم، وهو قول عائشة وعطاء وابن جريج، والشافعي، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ حديث عائشة السابق: (السنة شاتان مكافئتان عن الغلام وعن الجارية شاة، تطبخ جدولا ولا يكسر عظما، ويأكل ويطعم ويتصدق وذلك يوم السابع)

2 ـ عن عطاء: (كانوا يستحبون أن لا يكسر لها عظم)

3 ـ عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث من عقيقة الحسن والحسين إلى

__________

(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

(2) هو والإرب، والشلو، والعضو والوصل، كله واحد أي عضوا عضوا، وهو الجدل.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (250)

القابلة برجلها، وقال: لا تكسروا منها عظما) (1)

4 ـ عن الزهري في العقيقة قال: (تكسر عظامها ورأسها ولا يمس الصبي بشيء من دمها) (2)

5 ـ إنما فعل بها ذلك؛ لأنها أول ذبيحة ذبحت عن المولود، فاستحب فيها ذلك تفاؤلا بالسلامة.

القول الثاني: يرخص في كسرها، وهو قول الزهري ومالك، وهو قول الظاهرية، قال ابن حزم: (لم يصح في المنع من كسر عظامها شيء) (3)

أما حديث عائشة، فقال فيه ابن حزم: (هذا لا يصح؛ لأنه من رواية عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، ثم لو كان صحيحا لما كانت فيه حجة؛ لأنه عمن دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم)

أما حديث جعفر بن محمد عن أبيه، فقال فيه ابن حزم: (هذا مرسل ولا حجة في مرسل، ويلزم من قال بالمرسل أن يقول بهذا لا سيما مع قول أم المؤمنين، وعطاء، وغيرهما بذلك)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول مراعاة لما ورد في النصوص من ذلك.

لطخ رأس المولود بدم العقيقة

اختلف الفقهاء في حكم لطخ رأس المولود من العقيقة على قولين:

القول الأول: كراهة لطخ رأس المولود بدم العقيقة، وهو قول الزهري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وداود، ومن الأدلة على ذلك:

__________

(1) ابن أبي شيبة.

(2) ابن أبي شيبة.

(3) المحلى: 6/ 240.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (251)

1 ـ عن عائشة قالت: (كانوا في الجاهلية إذا عقوا عن الصبي خضبوا بطنه بدم العقيقة فإذا حلقوا رأس المولود وضعوها على رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اجعلوا مكان الدم خلوقا) (1) زاد أبو الشيخ: (ونهى ان يمس رأس المولود بدم)

2 ـ عن يزيد بن عبد اللّه المزني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم) (2)

3 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما، وأميطوا عنه الأذى)

4 ـ أن لفظة (ويدمى) تصحيف، قال أبو داود في سننه وغيره من العلماء: (هذه اللفظة لا تصح، بل هي تصحيف والصواب: ويسمى)

القول الثاني: يستحب ذلك ثم يغسل، وهو قول الحسن وقتادة، وابن حزم، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ ما رواه ابن حزم عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته حتى تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويدمى)

2 ـ أن قتادة ـ وهو راوي الحديث ـ كان إذا سئل عن الدم كيف يصنع؟ قال: (إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة فاستقبلت بها أوداجها، ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه بعد ويحلق)

3 ـ رد ابن حزم على قول أبي داود: (أخطأ همام إنما هو يسمى) بقوله: (بل وهم أبو داود؛ لأن هماما ثبت وبين أنهم سألوا قتادة عن صفة التدمية المذكورة فوصفها لهم)

4 ـ حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الغلام مرتهن بعقيقة تذبح عنه يوم سابعه

__________

(1) ابن حبان في صحيحه.

(2) ابن ماجه، وهذا مرسل لأن يزيد لا صحبة له وقد وصله البزار من هذه الطريق وقال عن أبيه ومع هذا فقد قيل إنه عن أبيه مرسل.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (252)

ويدمى)

5 ـ عن ابن عمر قال: (يحلق رأسه ويلطخه بالدم، ويذبح يوم السابع ويتصدق بوزنه فضة)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن الثاني كان من فعل الجاهلية، زيادة على أن العقيقة لها حكم معقولة المعنى، وهذا لا دلالة له على شيء، زيادة على نجاسة الدم المسفوح.

وقد رجح هذا الشوكاني، فقال: (فيه دليل على تلطيخ رأس المولود بالدم من عمل الجاهلية وانه منسوخ كما تقدم وأصرح منه في الدلالة على النسخ حديث عائشة عند ابن حبان وابن السكن وصححاه كما تقدم بلفظ: (فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعلوا مكان الدم خلوقا)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ونلطخه بزعفران) فيه دليل على استحباب تلطيخ رأس الصبي بالزعفران أو غيره من الخلوق كما في حديث عائشة المذكور) (1)

المكلف بالعقيقة

اختلف الفقهاء في المكلف بالعقيقة على الأقوال التالية:

القول الأول: أن العقيقة تطلب من الأصل الذي تلزمه نفقة المولود بتقدير فقره، فيؤديها من مال نفسه لا من مال المولود، ولا يفعلها من لا تلزمه النفقة إلا بإذن من تلزمه، وهو قول الشافعية (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن الأصل هو أن المكلف بالإنفاق هو المكلف بالعقيقة.

__________

(1) نيل الأوطار:5/ 160.

(2) ويشترط في المطالب بالعقيقة عندهم أن يكون موسرا بأن يقدر عليها فاضلة عن مؤنته ومؤنة من تلزمه نفقته قبل مضي أكثر مدة النفاس وهي ستون يوما، فإن قدر عليها بعد ذلك لم تسن له.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (253)

2 ـ لا يرد على هذا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عق عن الحسن، والحسين، مع أن الذي تلزمه نفقتهما هو والدهما؛ لأنه يحتمل أن نفقتهما كانت على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا على والديهما، ويحتمل أنه صلى الله عليه وآله وسلم عق عنهما بإذن أبيهما.

القول الثاني: أنه يتعين الأب إلا أن يموت أو يمتنع، وهو قول المالكية والحنابلة، باعتباره المكلف بالنفقة في الحالة العادية.

وقد نص الحنابلة على أنه لا يعق غير أب إلا إن تعذر بموت أو امتناع، فإن فعلها غير الأب لم تكره ولكنها لا تكون عقيقة، وإنما عق النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسن والحسين؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وصرحوا بأنها تسن في حق الأب وإن كان معسرا، ويقترض إن كان يستطيع الوفاء. قال أحمد: (إذا لم يكن مالكا ما يعق فاستقرض أرجو أن يخلف الله عليه؛ لأنه أحيا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)

القول الثالث: أنها تصح من غير الأب مع وجوده وعدم امتناعه، وقد رجحه الشوكاني، واستدل له بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن والحسين.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أداء العقيقة بغض النظر عمن أداها، هل أبوه أم قريبه، أم تطوع أي شخص لذلك، فذلك من التراحم الذي قصده الشرع بين المسلمين، ويستحب في أحكامه التوسعة لا التضييق.

وهذا كله زيادة على عدم الدليل في المسألة، فالفعل وحده لا يدل على شيء، بل قد يدل على أداء العقيقة بغض النظر عمن حصلت منه.

عقيقة الإنسان عن نفسه

اختلف الفقهاء فيمن لم يعق له في صغره، هل يستطيع العق عن نفسه في كبره على قولين:

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (254)

القول الأول: لا عقيقة عليه، وهو قول الجمهور، وسئل أحمد عن هذه المسألة فقال: ذلك على الوالد يعنى لا يعق عن نفسه لأن السنة في حق غيره، ومن الأدلة على ذلك: أنها مشروعة في حق الوالد، فلا يفعلها غيره كالأجنبى وكصدقة الفطر.

القول الثاني: يعق عن نفسه، وهو قول عطاء، والحسن وقول للشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ ما روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق عن نفسه بعد البعثة (1).

2 ـ أنها مشروعة عنه ولأنه مرتهن بها فينبغي أن يشرع له فكاك نفسه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، لا بناء على الحديث، وإنما بناء على كون العقيقة من مظاهر التراحم والتواصل الاجتماعي.

مصرف العقيقة

اختلف الفقهاء في مصرف العقيقة على الأقوال التالية:

القول الأول: أنها كالأضحية في الأكل والهدية والصدقة سبيلها، وهو قول الشافعي وأحمد، قال ابن قدامة: (والأشبه قياسها على الأضحية؛ لأنها نسيكة مشروعة غير واجبة، فأشبهت الأضحية، ولأنها أشبهتها في صفاتها وسنها وقدرها وشروطها، فأشبهتها في مصرفها. وإن طبخها، ودعا إخوانه فأكلوها، فحسن)

القول الثاني: أن صاحبها حر في كيفية صرفها، وقال ابن سيرين: اصنع بلحمها كيف شئت، وسئل أحمد عنها، فحكى قول ابن سيرين، وهذا يدل على أنه ذهب إليه، وسئل

__________

(1) أخرجه البيهقي، ولكنه قال انه منكر وفيه عبد اللّه بن محرر بمهملات وهو ضعيف جدا كما قال الحافظ وقال عبد الرزاق إنما تكلموا فيه لاجل هذا الحديث. قال البيهقي وروى من وجه آخر عن قتادة عن انس وليس بشيء. وأخرجه أبو الشيخ من وجه آخر عن أنس وأخرجه أيضا ابن أيمن في مصنفه والخلال من طريق عبد اللّه بن المثني عن ثمامة بن عبد اللّه عن أنس عن أبيه به وقال النووي في شرح المهذب هذا حديث باطل وأخرجه أيضا الطبراي والضياء من طريق فيها ضعف.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (255)

هل يأكلها كلها؟ قال: لم أقل يأكلها كلها، ولا يتصدق منها بشيء.

القول الثالث: تطبخ بماء وملح، وتهدى الجيران والصديق، ولا يتصدق منها بشيء، وهو قول ابن جريج.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، لأن العقيقة يختلف تطبيقها باختلاف البيئات وظروف الناس، ولا يمكن تكليف الناس جميعا بهيئة واحدة، بل الغرض هو تحقيق السنة بغض النظر عن كيفية أدائها.

قدر العقيقة

اختلف الفقهاء في قدر العقيقة على قولين:

القول الأول: عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة، وهو قول جمهور العلماء منهم ابن عباس وعائشة وأحمد وإسحاق وأبي ثور، ومن الأدلة على ذلك: الأحاديث السابقة.

القول الثاني: يعق عن الغلام والجارية شاة شاة، وهو مذهب الإمامية، وقد وردت الروايات الكثيرة عن أئمة أهل البيت بذلك (1).

القول الثالث: لا عقيقة عن الجارية، وهو قول الحسن وقتادة، لأن العقيقة شكر للنعمة الحاصلة بالولد، والجارية لا يحصل بها سرور، فلا يشرع لها عقيقة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الأصل هو التسوية بين الأبناء في العقيقة من غير تفريق بين الذكر والأنثى.

ما يجزئ في العقيقة

__________

(1) فعن عليّ بن جعفر، عن أخيه، قال: سألته عن العقيقة عن الغلام والجارية سواء. قال: كبش كبش. الوسائل: ج 15 ص 148 ح 5..

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (256)

اختلف الفقهاء في أجناس الأنعام المجزئة في العقيقة على قولين:

القول الأول: يجزئ في العقيقة الجنس الذي يجزئ في الأضحية، وهو الأنعام من إبل وبقر وغنم، ولا يجزئ غيرها، وهو قول أنس بن مالك والحنفية، والشافعية والحنابلة والإمامية، وهو أرجح القولين عند المالكية ومقابل الأرجح أنها لا تكون إلا من الغنم.

القول الثاني: لا يجزئ إلا الغنم، وقد حكاه ابن المنذر عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو قول الظاهرية، قال ابن حزم: (لا يجزئ في العقيقة إلا ما يقع عليه اسم شاة - إما من الضأن، وإما من الماعز فقط - ولا يجزئ في ذلك من غير ما ذكرنا لا من الإبل ولا من البقر الإنسية، ولا من غير ذلك. ولا تجزئ في ذلك جذعة أصلا، ولا يجزئ ما دونها مما لا يقع عليه اسم شاة. ويجزى الذكر والأنثى من كل ذلك؛ ويجزئ المعيب سواء كان مما يجوز في الأضاحي أو كان مما لا يجوز فيها، والسالم أفضل)

القول الثالث: يستحب العقيقة ولو بعصفور، وقد رواه ابن حزم عن عن محمد بن إبراهيم التيمي، قال: روينا من طريق ابن وهب عن مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: سمعت أنه يستحب العقيقة ولو بعصفور.

وقد يستدل لهذا بحديث سلمان بن عامر: (أريقوا عنه دما) (1)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن كل ذلك يجوز من باب التيسير ورفع الحرج، وتحقق هذه السنة من جميع أصناف المؤمنين، فقيرهم وغنيهم، فلا يحرم من فضلها أحد.

ولكن المستحب للأغنياء هو أدء أفضل ما ذكر الفقهاء وأكثره لتحقيق أكبر قدر من

__________

(1) وقد رد ابن حزم على هذا الاستدلال بقوله: ) فإن قيل: فهلا أجزتم أن يعق بما شاء متى شاء؟ لحديث سلمان بن عامر: (أريقوا عنه دما)؟ قلنا: ذلك خبر مجمل، فسره الذي فيه {عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، تذبح يوم السابع، فكانت هذه الصفة واجبة، وكان من عق بخلافها مخالفا لهذا النص، وهذا لا يجوز ولا يحل، وكان من عق بهذه الصفة موافقا سلمان بن عامر غير خارج عنه وهذا هو الذي لا يحل سواه)

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (257)

التواصل.

مقدار الجائز في العقيقة

القول الأول: يجزئ فيها المقدار الذي يجزئ في الأضحية وأقله شاة كاملة، أو السبع من بدنة أو من بقرة، وهو قول الشافعية

القول الثاني: لا يجزئ في العقيقة إلا بدنة كاملة أو بقرة كاملة، وهو قول المالكية والحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرناه سابقا من أن كل ذلك وغيره مجزئ، من باب التيسير ورفع الحرج.

ما يستحب قوله

نص الفقهاء على أنه يستحب أن يقول عند الذبح: (اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان)، وذلك لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق عن الحسن والحسين، وقال: (قولوا: بسم الله والله أكبر اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان)

وروى الإمامية عن الامام الصادق أنه أنه قال: إذا أردت أن تذبح العقيقة قلت: (يا قوم إني بري ء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك بسم الله والله أكبر اللهم صل على محمد وآل محمد وتقبل من فلان بن فلان وتسمي المولود باسمه ثم تذبح) (1)

وروي عنه أنه قال تقول (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماتِ والْأَرْضَ حَنِيفاً مُسْلِماً وماا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلااتِي ونُسُكِي ومَحْياايَ ومَمااتِي لِلّاهِ رَبِّ الْعاالَمِينَ لاا شَرِيكَ لَهُ

__________

(1) الكافي، ج 6، ص 31.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (258)

اللَّهُمَّ مِنْكَ ولَكَ اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ) (1)

و عنه: تقول بعد الذبح: (بسم الله وبالله اللهم عقيقة عن فلان لحمها بلحمه ودمها بدمه وعظمها بعظمه اللهم اجعله وقاء لآل محمد) (2)

ورووا عن الامام الباقر أنه قال: إذا ذبحت العقيقة فقل: (بسم الله وبالله والحمد لله والله أكبر إيمانا بالله وثناء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعصمة لأمره والشكر لرزقه والمعرفة بفضله علينا أهل البيت. فإن كان ذكرا فقل- اللهم إنك وهبت لنا ذكرا وأنت أعلم بما وهبت ومنك ما أعطيت وكل ما صنعنا فتقبله منا على سنتك وسنة نبيك ورسولك صلى الله عليه وآله وسلم واخسأ عنا الشيطان الرجيم، لك سفكت الدماء لا شريك لك والحمد للاه رب العالمين) (3)

حلق شعر المولود

اختلف الفقهاء في حكم حلق شعر المولود يوم السابع من ميلاده على قولين:

القول الأول: استحباب حلق شعر رأس المولود يوم السابع، والتصدق بزنة شعره، وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة لما ولدت الحسن: (احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة على المساكين والأوفاض)

القول الثاني: أن حلق شعر المولود مباح، ليس بسنة ولا واجب، وهو قول الحنفية، بناء على أصلهم في أن العقيقة مباحة، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن العقيقة فقال: (لا يحب الله العقوق، من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك عنه، عن الغلام شاتين مكافأتاه وعن الجارية شاة) وهذا ينفي كون العقيقة سنة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم علق العق بالمشيئة وهذا أمارة الإباحة.

الترجيح:

__________

(1) الكافي، ج 6، ص 31.

(2) الكافي، ج 6، ص 31.

(3) الكافي، ج 6، ص 31.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (259)

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على النص الوارد في ذلك إلا إذا كان هناك مضرة.

ما يتصدق به

اختلف الفقهاء فيما يتصدق به على قولين:

القول الأول: ذهب أو فضة، وهو قول المالكية والشافعية، واستدلوا على ذلك بما روي عن ابن عباس قال: (سبعة من السنة في الصبي يوم السابع يسمى ويختن ويماط عنه الأذى وتثقب أذنه عنه ويحلق رأسه ويلطخ بدم عقيقته ويتصدق بوزن شعره ذهبا أو فضة) (1)

القول الثاني: فضة، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ لما روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة لما ولدت الحسن: (احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة على المساكين والأفاوض) (2) يعني أهل الصفة.

2 ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عق عن الحسن والحسين بكبش كبش وأنه تصدق بوزن شعورهما ورقا (3)

3 ـ أن فاطمة كانت إذا ولدت ولدا، حلقت شعره وتصدقت بوزنه ورقا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو خضوع ذلك لقدرة الولي، فإن قدر على الذهب، فهو أفضل، وإن لم يقدر تصدق بالفضة، وإلا سقطت عنه السنية.

ونرى أنه عموما يفتى بالتصدق بالفضة لغلاء الذهب، ولأنه قد يصرف الناس عن

__________

(1) أخرجه الطبراني في الأوسط، قال الشوكاني: (وفي إسناده رواد بن الجراح وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات، وفي لفظه ما ينكر وهو ثقب الأذن والتلطيخ بدم العقيقة).

(2) رواه أحمد.

(3) سعيد، في سننه عن محمد بن على.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (260)

هذه السنة لشدتها، وقد قال في التلخيص: (الروايات كلها متفقة على التصدق بالفضة وليس في شيء منها ذكر الذهب) (1) وقد سبق ذكر بعضها.

__________

(1) التلخيص: 4/ 272.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (261)

الفصل الخامس

حق الأولاد في المعاملة العادلة

وقد عبر صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الحق النفسي للأولاد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم) (1)، وعبر صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الحق بلهجة شديدة جازمة مؤكدة بكل أنواع التأكيد، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) (2)

وروي أن رجلا جاءه ابنه فقبله وأجلسه في حجره ثم جاءته ابنته فأجلسها إلى جانبه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فما عدلت) (3)

وقد ذكر ابن القيم عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن يعدلوا بين الأولاد حتى في القبلة، ونقل عن بعض أهل العلم قوله: (إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فكما أن للأب حق علي ابنه، فان للإبن علي أبيه حق)

وقد عدل الشارع في خطاب كلا المكلفين، فكما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً) (العنكبوت:8)، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (التحريم:6)

وكما قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (البقرة:83)، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اعدلوا بين أولادكم)

بل إن وصية الله للآباء سابقة علي وصية الأولاد بآبائهم، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا

__________

(1) أحمد في المسند 4/ 269، ونص الحديث هو أن رجلا اسمه بشير جاء إلى النبي (فقال: (إن زوجته سألته أن يعطي ابنها غلاماً عبدا، ويشهد رسول الله ()، فقال له رسول الله (: (أله إخوة؟ قال: نعم. قال: (أفكلهم أعطيته مثل ما أعطيته؟)، قال: لا. قال: (فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا علي حق)، وفي رواية قال (: (لا تشهدني علي جور، إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم).

(2) رواه أبو داود.

(3) البيهقي وإسناده حسن.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (262)

أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} (الاسراء:31)

وسنكتفي هنا بذكر الأحكام الفقهية المرتبطة بمظهرين من مظاهر حرص الشرع على حفظ هذا الحق للأولاد:

أولا ـ العدل في المعاملة المادية

اتفق الفقهاء على أن من مقتضيات العدل بين الأولاد التسوية بينهم في العطية، بحيث لا يخص بعضهم بها دون غيره، وقد اختلف الفقهاء في هذا، هل هو محرم، أو مكروه؟ على قولين:

القول الأول: أنه محرم، وهو قول جماهير الفقهاء، للأدلة الكثيرة التي سنفيض فيها عند الحديث عن الحكم الوضعي للمسألة، ومنها:

1 ـ تسميته صلى الله عليه وآله وسلم إياه جورا، وأمره بالرجوع فيه.

2 ـ أن ظاهر الحديث يدل على أنه كان صدقة، والصدقة على الولد لا يجوز الرجوع فيها. فإن الرجوع ههنا يقتضي أنها وقعت على غير الموقع الشرعي، حتى نقضت بعد لزومها.

القول الثاني: أن هذا التفضيل مكروه لا غير، وهو مذهب الشافعي ومالك، وسنفيض في ذكر أدلتهم في محلها عند الكلام عن الحكم الوضعي، ومنها استدلالهم بالرواية التي قيل فيها: (أشهد على هذا غيري)، لأنها تقتضي إباحة إشهاد الغير، ولا يباح إشهاد الغير إلا على أمر جائز. ويكون امتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشهادة على وجه التنزه.

الترجيح:

نرى ان الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على التشديد الوارد في ذلك، إلا إذا ترتبت بعض المصالح من ذلك التفضيل، كما سنرى، قال ابن دقيق العيد بعد ذكرالخلاف

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (263)

في المسألة ـ يرد على القول الثاني ـ: (وليس هذا بالقوي عندي؛ لأن الصيغة وإن كان ظاهرها الإذن - إلا أنها مشعرة بالتنفير الشديد عن ذلك الفعل، حيث امتنع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من المباشرة لهذه الشهادة، معللا بأنها جور، فتخرج الصيغة عن ظاهر الإذن بهذه القرائن. وقد استعملوا مثل هذا اللفظ في مقصود التنفير. ومما يستدل به على المنع أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الله) فإنه يؤذن بأن خلاف التسوية ليس بتقوى، وأن التسوية تقوى) (1)

الحكم الوضعي

اختلف الفقهاء القائلون بحرمة عدم التسوية بين الأولاد في العطية في أثر هذا الحكم، هل يبقى حكما أخرويا محضا، أم على الأب (2) أن يرد ما أعطى لبعضهم، أو يسوي بينهم على قولين:

القول الأول: إذا فاضل بين ولده في العطية، أمر برده، فإن خص بعضهم بعطيته، أو فاضل بينهم فيها أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين؛ إما رد ما فضل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر، قال ابن حزم يذكر القائلين بهذا القول: (فهؤلاء أبو بكر، وعمر، وعثمان، وقيس بن سعد، وعائشة بحضرة الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف، ثم مجاهد، وطاوس (3)، وعطاء، وعروة، وابن جريج - وهو قول النخعي، والشعبي، وشريح، وعبد الله بن شداد بن الهاد، وابن شبرمة، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه،

__________

(1) إحكام الأحكام: 2/ 155.

(2) والأم في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب؛ لقول النبي (: (اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم) ولأنها أحد الوالدين، فمنعت التفضيل كالأب، ولأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من الحسد والعداوة، يوجد مثله في تخصيص الأم بعض ولدها، فثبت لها مثل حكمه في ذلك.

(3) نقل ابن حزم عن طاووس أنه قال في الولد: (لا يفضل أحد على أحد بشعرة، النحل باطل، هو من عمل الشيطان، اعدل بينهم كبارا وأبنهم به، قال ابن جريج: قلت له: هلك بعض نحلهم ثم مات أبوهم؟ قال: للذي نحله مثله من مال أبيه) المحلى: 8/ 95.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (264)

وأبي سليمان، وجميع أصحابنا) (1)، وعزاه ابن قدامة إلى أحمد، وابن المبارك وروي معناه عن مجاهد، وعروة، قال طاوس: لا يجوز ذلك، ولا رغيف محترق، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ ما روى النعمان بن بشير قال: (تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليشهده على صدقته، فقال: أكل ولدك أعطيت مثله؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم. قال: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة)، وفي لفظ قال: (فاردده)، وفي لفظ قال: (فأرجعه)، وفي لفظ: (لا تشهدني على جور)، وفي لفظ: (فأشهد على هذا غيري)، وهو حديث صحيح، وهو دليل على التحريم؛ لأنه سماه جورا، وأمر برده، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب.

2 ـ أن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه، كتزويج المرأة على عمتها أو خالتها.

3 ـ أن قول أبي بكر لا يعارض قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحتج به معه، مع أنه يحتمل أن أبا بكر خصها بعطيته لحاجتها وعجزها عن الكسب والتسبب فيه، مع اختصاصها بفضلها، وكونها أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغير ذلك من فضائلها، ويحتمل أن يكون قد نحلها ونحل غيرها من ولده، أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك. ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه؛ لأن حمله على مثل محل النزاع منهي عنه، وأقل أحواله الكراهة، والظاهر من حال أبي بكر اجتناب المكروهات.

4 ـ أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فأشهد على هذا غيري) ليس بأمر؛ لأن أدنى أحوال الأمر الاستحباب والندب، ولا خلاف في كراهة هذا. وكيف يجوز أن يأمره بتأكيده، مع أمره برده، وتسميته إياه جورا، وحمل الحديث على هذا حمل لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على التناقض

__________

(1) المحلى:2/ 95.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (265)

والتضاد. ولو أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإشهاد غيره، لامتثل بشير أمره، ولم يرد، وإنما هذا تهديد له على هذا، فيفيد ما أفاده النهي عن إتمامه.

5 ـ أن سعد بن عبادة قسم ماله بين بنيه في حياته فولد له بعد ما مات فلقي عمر أبا بكر فقال له: ما نمت الليلة من أجل ابن سعد هذا المولود لم يترك له شيء؟ فقال أبو بكر: وأنا والله، فانطلق بنا إلى قيس بن سعد نكلمه في أخيه، فأتيناه فكلمناه فقال قيس: أما شيء أمضاه سعد فلا أرده أبدا، ولكن أشهدكما أن نصيبي له. قال ابن حزم: (قد زاد قيس على حقه، وإقرار أبي بكر لتلك القسمة دليل على صحة اعتدالها)

6 ـ أن أبا بكر قال لعائشة: (يا بنية، إني نحلتك نخلا من خيبر، وإني أخاف أن أكون آثرتك على ولدي، وإنك لم تكوني احتزتيه، فرديه على ولدي؟ فقالت: يا أبتاه، لو كانت لي خيبر بجدادها ذهبا لرددتها)

7 ـ عن معاوية بن حيدة أن أباه حيدة كان له بنون لعلات أصاغر ولده، وكان له مال كثير فجعله لبني علة واحدة، فخرج ابنه معاوية حتى قدم على عثمان بن عفان فأخبره بذلك، فخير عثمان الشيخ بين أن يرد إليه ماله وبين أن يوزعه بينهم؟ فارتد ماله، فلما مات تركه الأكابر لإخوتهم.

8 ـ أن تأويل المخالفين لحديث النعمان بأنه (وهبه جميع ماله) لا يصح، لما ورد في بعض روايات الحديث: (بعض ماله)، وفي بعض الروايات الثابتة: (بعض الموهبة من ماله)

9 ـ أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أشهد على هذا غيري) جاء من باب الوعيد كقول الله تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} (الأنعام:150)، فهو ليس على إباحة الشهادة على الجور والباطل، بل هو من باب قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف:29)، وقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (فصلت:40)، قال ابن حزم: (وحاش له صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيح لأحد الشهادة على ما أخبر به هو أنه جور، وأن يمضيه ولا

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (266)

يرده، هذا ما لا يجيزه مسلم)

10 ـ أن يقال للمخالفين: تلك العطية والصدقة أحق جائز هي أم باطل غير جائز، ولا سبيل إلى قسم ثالث؟ فإن قالوا: حق جائز؟ أعظموا الفرية، إذ أخبروا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أبى أن يشهد على الحق، وهو الذي نزل عليه قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (البقرة:282)، وإن قالوا: إنها باطل غير جائز؟ أعظموا الفرية، إذ أخبروا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم بالباطل، وأنفذ الجور، وأمر بالإشهاد على عقده، وكلا القولين مخرج إلى الكفر بلا مرية، ولا بد من أحدهما.

11 ـ أن تعليل بعضهم عدم شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه إمام والإمام لا يشهد غير صحيح من جهتين:

الأولى: أنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تقويله ما لم يقل.

الثانية: إن قولهم: إن الإمام لا يشهد غير صحيح، بل الإمام يشهد؛ لأنه أحد المسلمين المخاطبين بأن لا يأبوا إذا دعوا، وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (النساء:135)، فهذا أمر للأئمة بلا شك ولا مرية.

12 ـ أن تعليل بعضهم بأن النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض النحل، وهذا غير صحيح، لأن صغر النعمان أشهر من الشمس، وأنه ولد بعد الهجرة بلا خلاف من أحد من أهل العلم، وقد بين ذلك في حديث أبي حيان عن الشعبي عن النعمان: (وأنا يومئذ غلام)، ولا تطلق هذه اللفظة على رجل بالغ أصلا.

13 ـ أن تعليل بعضهم بأن النحل لم يكن قد تم، وإنما كان استشارة، غير صحيح، لأن روايات الحديث تدل على أنه نحله، كما في أول الحديث: (نحلني أبي غلاما) وفي وسطه: (يا رسول الله نحلت ابني هذا غلاما)، أما قول بشير ـ كما في بعض الروايات ـ: (فإن

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (267)

أذنت لي أن أجيزه أجزته)، فإنه قول صحيح، وهو قول مؤمن لا يعمل إلا ما أباحه له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ظاهره بلا تأويل، نعم، إن أجازه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجازه بشير، وإن لم يجزه صلى الله عليه وآله وسلم رده بشير ولم يجزه كما فعل.

14 ـ أن استدلال المخالفين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل ذي مال أحق بماله) لا يصح هنا، لأن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب:36)، وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب:6)، فالذي حكم بإيجاب الزكاة، وفسخ أجر البغي، وحلوان الكاهن، وبيع الخمر، وبيع أم الولد، وبيع الربا، هو الذي فسخ الصدقة والعطية المفضل فيها بعض الولد على بعض، ولو أنهم اعترضوا أنفسهم بهذا الاعتراض في إبطالهم النحل والصدقة التي لم تقبض لكان أصح وأثبت.

15 ـ أن استدلال بعض المخالفين بالعرف لا يصح، وقد قال أنس: (ما أعرف مما أدركت الناس عليه إلا الصلاة)

16 ـ أن ما نسبوه إلى الصحابة لا حجة لهم فيه؛ لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، زيادة على أن حديث أبي بكر قد ورد بخلاف ما أوردوه، وأما قول عمر، وعثمان: (من نحل ولده نحلا)، فنحن لم نمنع نحل الولد وإنما منعنا المفاضلة، وليس في كلامهما إباحة المفاضلة، كما ليس فيه إباحة بيع الخمر والخنازير، زيادة على أنه قد صح عنهما المنع منها، أما الرواية عن ابن عمر فليس فيها أنه لم ينحل الآخرين قبل ولا بعد بمثل ذلك، بل فيها أنه قال: واقد ابني مسكين، فصح أنه لم يكن نحله بعد كما نحل إخوته، فألحقه بهم، وأخرجه عن المسكنة، زيادة على أنها من طريق ابن لهيعة وهو ساقط.

القول الثاني: إذا فاضل بين ولده في العطية، لم يؤمر برده، وهو قول مالك، والليث، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، وروي معنى ذلك عن شريح، وجابر بن زيد،

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (268)

والحسن بن صالح، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن أبا بكر نحل عائشة ابنته جذاذ عشرين وسقا، دون سائر ولده.

2 ـ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث النعمان بن بشير: (أشهد على هذا غيري)، فأمره بتأكيدها دون الرجوع فيها.

3 ـ أنها عطية تلزم بموت الأب، فكانت جائزة، كما لو سوى بينهم.

4 ـ قول عمر من نحل ولدا له.

5 ـ من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن نافع أن ابن عمر قطع ثلاثة أرؤس أو أربعة لبعض ولده دون بعض.

6 ـ عن القاسم بن عبد الرحمن الأنصاري أنه كان مع ابن عمر إذ اشترى أرضا من رجل من الأنصار، ثم قال له ابن عمر: هذه الأرض لابني واقد، فإنه مسكين، نحله إياها دون ولده.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على ما سبق من أدلة، زيادة على أن المصالح الشرعية من العدل بين الأولاد لا تتحقق إلا بهذا القول، قال ابن حزم بعد نقله الطرق الكثيرة لحديث النعمان بن بشير: (فكانت هذه الآثار متواترة متظاهرة: الشعبي، وعروة بن الزبير، ومحمد بن النعمان، وحميد بن عبد الرحمن، كلهم سمعه من النعمان. ورواه عن هؤلاء الحفلاء من الأئمة كلهم متفق على أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفسخ تلك الصدقة والعطية وردها، وبين بعضهم أنها ردت، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أنها جور، والجور لا يحل إمضاؤه في دين الله تعالى، ولو جاز ذلك لجاز إمضاء كل جور وكل ظلم، وهذا هدم الإسلام جهارا) (1)

__________

(1) المحلى:2/ 95.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (269)

ولكن ما معنى العدل بين الأولاد في العطية؟

نرى أن العدل ليس مقصودا به التسوية بينهم في العطية، بل المراد منه إعطاء كل واحد منهم قدر ما يحتاجه، فقد تكون حاجة بعضهم لظروف خاصة كمرض ونحوه أكبر من حاجة الآخر.

وهذا ما فهمه ابن حزم ـ وهو أكبر المدافعين عن العدل في هذه الناحية ـ من معنى العدل، فقد قال: (ولا يحل لأحد أن يهب، ولا أن يتصدق على أحد من ولده إلا حتى يعطي أو يتصدق على كل واحد منهم بمثل ذلك، ولا يحل أن يفضل ذكرا على أنثى، ولا أنثى على ذكر، فإن فعل فهو مفسوخ مردود أبدا ولا بد، وإنما هذا في التطوع - وأما في النفقات الواجبات فلا، وكذلك الكسوة الواجبة. لكن ينفق على كل امرئ منهم بحسب حاجته، وينفق على الفقير منهم دون الغني) (1)

وهذا ما ذهب إليه المتأخرون من الحنفية، قال الكاساني: (إلا أنه لا يكون عدلا سواء كان المحروم فقيها تقيا أو جاهلا فاسقا على قول المتقدمين من مشايخنا وأما على قول المتأخرين منهم لا بأس أن يعطي المتأدبين والمتفقهين دون الفسقة الفجرة) (2)

وقد عبر عن هذا ابن قدامة بقوله: (فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه، مثل اختصاصه بحاجة، أو زمانة، أو عمى، أو كثرة عائلة، أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله، أو ينفقه فيها، فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك؛ لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس به إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة. والعطية في معناه. ويحتمل ظاهر لفظه المنع من التفضيل أو التخصيص على كل حال؛ لكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستفصل بشيرا في عطيته

__________

(1) المحلى:2/ 95.

(2) بدائع الصنائع: 6/ 127.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (270)

والأول أولى إن شاء الله؛ لحديث أبي بكر، ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية، فجاز أن يختص بها، كما لو اختص بالقرابة. وحديث بشير قضية في عين لا عموم لها، وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاستفصال يجوز أن يكون لعلمه بالحال) (1)

كيفية التسوية بين الذكر والأنثى

اختلف الفقهاء في كيفية القسمة إن كان في الأولاد ذكور وإناث على قولين:

القول الأول: أن التسوية المستحبة هي أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله تعالى الميراث (2)، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو قول عطاء، وشريح، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، وأحمد، قال شريح لرجل قسم ماله بين ولده: ارددهم إلى سهام الله تعالى

__________

(1) المغني: 5/ 388.

(2) ومثل هذا الاختلاف اختلافهم في سائر الأقارب، فقد اختلفوا على قولين:

القول الأول: ليس عليه التسوية بين سائر أقاربه، ولا إعطاؤهم على قدر مواريثهم سواء كانوا من جهة واحدة، كإخوة وأخوات، وأعمام وبني عم، أو من جهات، كبنات وأخوات وغيرهم، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1.أنها عطية لغير الأولاد في صحته، فلم تجب عليه التسوية، كما لو كانوا غير وارثين.

2.أن الأصل إباحة تصرف الإنسان في ماله كيف شاء، وإنما وجبت التسوية بين الأولاد بالخبر، وليس غيرهم في معناهم.

3.أن الأولاد استووا في وجوب بر والدهم، فاستووا في عطيته، كما قال النبي ((أيسرك أن يستووا في برك؟ قال: نعم. قال: فسو بينهم)، ولم يوجد هذا في غيرهم.

4.أن للوالد الرجوع فيما أعطى ولده، فيمكنه أن يسوي بينهم باسترجاع ما أعطاه لبعضهم، ولا يمكن ذلك في غيرهم.

5.أن الأولاد لشدة محبة الوالد لهم، وصرف ماله إليهم عادة. يتنافسون في ذلك، ويشتد عليهم تفضيل بعضهم، ولا يباريهم في ذلك غيرهم، فلا يصح قياسه عليهم، ولا نص في غيرهم.

6.أن النبي (قد علم لبشير زوجة، ولم يأمره بإعطائها شيئا حين أمره بالتسوية بين أولاده، ولم يسأله هل لك وارث غير ولدك؟

القول الثاني: المشروع في عطية الأولاد وسائر الأقارب، أن يعطيهم على قدر ميراثهم، فإن خالف وفعل، فعليه أن يرجع ويعمهم بالنحلة، وهو قول أبي الخطاب، قياسا على الأولاد، لأنهم في معناهم، فثبت فيهم مثل حكمهم.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (271)

وفرائضه. وقال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن الله تعالى قسم بينهم، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وأولى ما اقتدى بقسمة الله.

2 ـ أن العطية في الحياة أحد حالي العطية، فيجعل للذكر منها مثل حظ الأنثيين، كحالة الموت.

3 ـ أن العطية استعجال لما يكون بعد الموت، فينبغي أن تكون على حسبه، كما أن معجل الزكاة قبل وجوبها يؤديها على صفة أدائها بعد وجوبها، وكذلك الكفارات المعجلة.

4 ـ أن الذكر أحوج من الأنثى، من قبل أنهما إذا تزوجا جميعا فالصداق والنفقة ونفقة الأولاد على الذكر، والأنثى لها ذلك، فكان أولى بالتفضيل؛ لزيادة حاجته.

5 ـ أن الله تعالى قسم الميراث، ففضل الذكر مقرونا بهذا المعنى فتعلل به، ويتعدى ذلك إلى العطية في الحياة.

6 ـ أن حديث بشير قضية في عين، وحكاية حال لا عموم لها، وإنما ثبت حكمها فيما ماثلها، زيادة على عدم علمنا بحال أولاد بشير، هل كان فيهم أنثى أو لا؟ ولعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علم أنه ليس له إلا ولد ذكر، ثم إنه يصح حمل التسوية على القسمة على كتاب الله تعالى، ويحتمل أنه أراد التسوية في أصل العطاء، لا في صفته، فإن القسمة لا تقتضي التسوية من كل وجه.

7 ـ قول عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى. وهو خبر عن جميعهم.

أن الصحيح من خبر ابن عباس الذي استدلوا به أنه مرسل.

القول الثاني: تعطى الأنثى مثل ما يعطى الذكر، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن المبارك، واستدلوا على ذلك بما يلي:

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (272)

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لبشير بن سعد: (سو بينهم) وعلل ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيسرك أن يستووا في برك؟. قال: نعم. قال: فسو بينهم)، والبنت كالابن في استحقاق برها، وكذلك في عطيتها.

2 ـ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثرا لأحد لآثرت النساء على الرجال) (1)

3 ـ أنها عطية في الحياة، فاستوى فيها الذكر والأنثى، كالنفقة والكسوة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكرناه سابقا من مراعاة حاجة كل واحد منهم بغض النظر عن كونه ذكرا أو أنثى، صغيرا أو كبيرا، بل إنه احيانا تكون حاجة الأنثى في بعض البلاد أكبر من حاجة الذكر، فيعطيها الأب بقدر حاجتها.

أما الميراث، فقد خصه الله تعالى بما بعد الموت، ولا يصح قياس ما بعد الموت على الحياة، بل لا يصح القياس في الميراث مطلقا.

وقد ذكر ابن القيم خلاف هذا الترجيح، مبينا المقاصد الشرعية المتحققة بذلك، ومن الوجوه التي ذكرها (2):

1 ـ أن الله تعالى منع مما يؤدي إلى قطيعة الرحم والتسوية بين الذكر والأنثى مخالفة لما وضعه الشرع من التفصيل فيفضي ذلك إلى العداوة.

2 ـ أن الشرع أعلم بمصالحنا فلو لم يكن الأصلح التفضيل بين الذكر والأنثى لما شرعه.

3 ـ أن حاجة الذكر إلى المال أعظم من حاجة الأنثى.

__________

(1) سعيد في سننه.

(2) بدائع الفوائد: 3/ 672.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (273)

4 ـ أن الله تعالى جعل الأنثى على النصف من الذكر في الشهادات والميراث والديات وفي العقيقة بالسنة.

5 ـ أن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء فإذا علم الذكر أن الأب زاد الانثى علاالعطية التي أعطاها الله وسواها بمن فضله الله عليها أفضى ذلك إلاالعداوة والقطيعة كما إذا فضل عليه من سوى الله بينه وبينه فأي فرق بين أن يفضل من أمر الله بالتسوية بينه وبين أخيه ويسوى بين من أمر الله بالتفضيل بينهما.

ولا يبعد ما ذكره ابن القيم بشرط أن تكون حاجة الأنثى أقل من حاجة الذكر، وبذلك يؤول الأمر إلى مراعاة الحاجة.

موت الجائر في العطية

اختلف الفقهاء فيما لو فاضل بين ولده في العطايا، أو خص بعضهم بعطية، إذا كان ذلك في صحته (1)، ثم مات قبل أن يسترده، هل يثبت ذلك للموهوب له، ويلزم، أم أن لبقية الورثة استرداد ما أعطاه على قولين:

القول الأول: ثبتت العطية ولزمت، ولا يمكن للورثة استردادها، وهو قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وأكثر أهل العلم، وهو المنصوص عن أحمد، في رواية محمد بن الحكم، والميموني، وهو اختيار الخلال، وصاحبه أبي بكر، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول أبي بكر لعائشة لما نحلها نحلا: (وددت لو أنك كنت حزتيه)، فدل على أنها لو كانت حازته لم يكن له الرجوع.

2 ـ قول عمر: (لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد)

__________

(1) أما إن خص في مرض موته بعض ورثته فإنه لا ينفذ؛ لأن العطايا في مرض الموت بمنزلة الوصية، في أنها تعتبر من الثلث إذا كانت لأجنبي إجماعا، فكذلك لا تنفذ في حق الوارث، قال ابن المنذر: (أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم، أن حكم الهبات في المرض الذي يموت فيه الواهب، حكم الوصايا).

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (274)

3 ـ أنها عطية لولده فلزمت بالموت كما لو انفرد.

القول الثاني: أن لسائر الورثة أن يرتجعوا ما وهبه، وهو قول عروة بن الزبير، وإسحاق (1)، وهو رواية أخرى عن أحمد، وقد اختاره ابن بطة وأبو حفص العكبريان، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمى ذلك جورا بقوله: (لا تشهدني على جور)، والجور حرام لا يحل للفاعل فعله، ولا للمعطى تناوله.

2 ـ أن أبا بكر وعمر أمرا قيس بن سعد، أن يرد قسمة أبيه حين ولد له ولد، ولم يكن علم به، ولا أعطاه شيئا، وكان ذلك بعد موت سعد، فروى سعيد، بإسناده من طريقين. أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده، وخرج إلى الشام، فمات بها، ثم ولد بعد ذلك ولد فمشى أبو بكر وعمر، إلى قيس بن سعد، فقالا: إن سعدا قسم ماله، ولم يدر ما يكون، وإنا نرى أن ترد هذه القسمة. فقال قيس: لم أكن لأغير شيئا صنعه سعد، ولكن نصيبي له.

3 ـ أن الموت لا يغيره عن كونه جورا حراما، فيجب رده.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة النظر إلى علة التفضيل، فإن كانت حاجة المفضل إلى المال بخلاف المفضل عليه، فإنه لا يرد، بخلاف ما لو كان التفضيل جائرا، فإنه يرد، وهذا ما يمكن أن يجمع به بين القولين.

ثانيا ـ العدل في المعاملة النفسية

من العدل الذي أمرت به الشريعة الإسلامية في حق الأولاد عدم التفريق بينهم على أساس جنس كل منهما، فلا يفضل أي جنس على الآخر، سواء في المعاملة النفسية أو في

__________

(1) إلا أنه قال: إذا مات الرجل فهو ميراث بينهم، لا يسع أن ينتفع أحد مما أعطي دون إخوته وأخواته.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (275)

الحقوق المادية، وقد سلكت النصوص الشرعية لتعميق هذه المعاني في النفوس المؤمنة المسالك التالية:

1 ـ اعتبار البنات هبة من الله تعالى

فالله تعالى هو الذي خلق كلا الجنسين، وهو الواهب ما يشاء منهم لمن يشاء، رحمة منه وفضلا، قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى:49 ـ 50)

ففي هاتين الآيتين الكريمتين جميع الأسس التي تملأ نفس الإنسان قناعة ورضا وإيمانا بخيرية قضاء الله وهباته لخلقه:

فالله تعالى قدم للآيات ببيان أنه المالك للسموات والأرض، وأنه هو الخالق لما يشاء، فلذلك كان الاعتراض على شيء من خلق الله اعتراضا على الله من جهة، ومعارضة لملك الله ومالكيته للأشياء من جهة أخرى.

ثم إن التأمل في السموات والأرض، والذي قدم به لهذه القضية، كاف في الإذعان لله والثقة في تقسيمه تعالى، فالكون مؤسس على أحسن نظام وأعظمه دقة فلا تفاوت فيه ولا فطور {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) (الملك:3)

وكما أن البناء الكوني مؤسس على أساس الزوجية، كما قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (الرعد:3)، وقال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذريات:49)، فإن حياة الإنسان واستمرار نوعه يستلزم وجود هذه الزوجية في نوع الإنسان، يقول سيد قطب: (وحكمة الله، وقاعدة الحياة، اقتضت أن تنشأ

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (276)

الحياة من زوجين ذكر وأنثى. فالأنثى أصيلة في نظام الحياة أصالة الذكر؛ بل ربما كانت أشد أصالة لأنها المستقر. فكيف يغتم من يبشر بالأنثى، وكيف يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ونظام الحياة لا يقوم إلا على وجود الزوجين دائما؟) (1)

وبعد هذه المقدمة التي تخرج الإنسان من قفص أنانيته إلى رحابة الكون الواسع، وتربطه بالخالق المالك تخبر تتمة الآية بأن الله تعالى بحكمته وعلمه وقدرته وجوده هو الواهب لهذه الزوجية في نوع الإنسان، كما أنه هو الواهب لها في جميع الكون، فهو واهب الإناث كما أنه واهب الذكور، كما أنه الواهب بمنع كل ذلك على من يشاء.

وقد عبر تعالى عن إعطائه الإناث بصيغة الهبة، مسويا لهم في ذلك مع الذكور (2)، ومن سوء الأدب الاعتراض على هبة الكريم، وازدرائها، قال ابن القيم: (قسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود، وأخبر أن ما قدره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه، وكفى بالعبد تعرضا لمقته أن يتسخط ما وهبه) (3)

بل إن الله تعالى قدم الإناث في الذكر على الذكور، ليبين أن رحمته بإعطاء الأنثاقد تكون أعظم من رحمته بإعطائه الذكور (4)، لمن عرف كيف يتعامل مع هبة الله.

__________

(1) الظلال: 2178.

(2) وقد يتعلل البعض هنا بقوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) (آل عمران:36)، فاعتبر الذكورة خيرا من الأنوثة، وهذا خطأ كبير، وهو تحميل للآية ما لا تحتمله، لأن هذه المرأة الصالحة إنما قصدت بكلامها (أنها نذرت خدمة المسجد في ولدها، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها).

(3) تحفة المودود: 20.

(4) من الأسرار التي ذكرها العلماء لتقديم الأنثى على الذكر في الآية:

1.جبرا لهن لأجل استثقال الوالدين لمكانهن.

2. إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان فان الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان، وهذا أحسن من الذي قبله.

3.أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدوهن (أي هذا النوع المؤخر عندكم مقدم عندي في الذكر) وقد ذكر هذا الوجه ابن القيم واختاره.

حقوق الأولاد النفسية والصحية برؤية مقاصدية (277)

وفي التعبير بالهبة دلالة أخرى لها أهميتها الواقعية، وهي أن الكثير من العامة يتصورون أن جنس المولود سببه الأم، فلذلك قد يطلق الرجل امرأته إن ولدت له إناثا (1)، فرد الله تعالى بأن جنس المولود هبة منه لا علاقة له بأحدهما.

وفي التعبير دلالة أخرى أعمق من ذلك كله لتعلقها بالجنس البشري جميعا، وهو أن الأمر لو ترك للأهواء لانقرض الجنس البشري من زمن بعيد، لأن الأهواء قد تميل بحسب (الموضة) إلى جنس معين مما ينشأ عنه اختلال التوازن الذي يحفظ النوع، يقول سيد قطب: (هذا القدر الذي يجريه الله في كل مرة، فيهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، يحافظ على توازن دائم في الأرض كلها بين عدد من يجري بهم ليكونوا إناثا، وعدد من يجري بهم ليكونوا ذكورا. فلا يقع اختلال - على مستوى البشرية كلها - في هذا التوازن. الذي عن طريقة يتم الإخصاب والإكثار، وتتم به حياة زوجية مستقرة في الوقت ذاته.. ذلك أن الأخصاب والإكثار وحده قد يتم بأقل عدد من الذكور.. ولكن الله قدر في الحياة الإنسانية أن هذا ليس هو غاية الالتقاء بين الذكر والأنثى؛ إنما الغاية - التي تميز الإنسان من الحيوان - هي استقرار الحياة الزوجية بين ذكر وأنثى.. لما وراء هذا الاستقرار من أهداف لا تتم إلا به. وأهمها استقرار الذرية في كنف أبوين في محيط أسرة، ليتم إعداد هذه الذرية لدورها الإنساني الخاص - فوق إعدادها لتحصيل القوت وحماية النفس كالحيوان - والدور

__________

(1) ذكر القرطبي عن بعض العرب أن امرأته ولدت بنتا، فهجر