×

الكتاب: أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية، 1438 هـ

عدد الصفحات: 652

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-2-34276-6

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

يتناول هذا الكتاب أكثر المسائل الواقعية المرتبطة بالطلاق والفسخ، ويحاول أن يعالجها برؤية مقاصدية على ضوء ما ورد في النصوص المقدسة، واجتهادات المدارس الفقهية المختلفة، ويحوي أربعة أقسام:

الأول: ويبحث في حق كلا الزوجين في إيقاع الطلاق، والضوابط الشرعية التي تحفظ هذا الحق وتحميه من استعماله في غير ما قصده الشرع من مقاصد.

الثاني: ويبحث في التفريق الذي جعله الشارع لولي الأمر، حماية للزوجة من تعسف الزوج، أو تعضيدا لما جعل لها من حق في حل عصمة الزوجية.

الثالث: ويبحث في الصيغ التي يتم بها التطليق من اللفظ والكتابة والإشارة وغيرها، بالإضافة إلى الصيغ المشابهة للطلاق مع أنه لا يقع بها، بل لها أحكامها الخاصة، كالظهار والإيلاء.

الرابع: ويبحث في الآثار الناتجة عن الفرقة الزوجية، وفيه حديث عن أحكام العدة، وعن الضوابط الشرعية للرجعة، مع بيان الحلول التي وضعها الشارع لإعادة الحياة الزوجية إلى مسارها الأصلي، ثم المتعة، باعتبارها من الحقوق المالية التي تنتج عن الطلاق.

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (3 )

 

المقدمة

إن الشرع الحكيم، مع حرصه على استقرار الحياة الزوجية وتوفير كل السبل الكفيلة بتحقيق ذلك، كما رأينا في الأجزاء السابقة، إلا أنه ـ مع ذلك، ومراعاة للواقع، ودرءا للمفاسد التي قد تنتج عن استمرار هذه الحياة الزوجية ـ شرع الأحكام التي تنهي العلاقة الزوجية، وضبطها بضوابط دقيقة حتى يقلل من آثار التفريق وأسبابه ما أمكن.

والبحث المقاصدي في هذه الناحية يطرد مع مقاصد الشرع في الناحيتين السابقتين، وهو الحرص على استمرار الحياة الزوجية واستقرارها، فلذلك كان أكثر عملنا في هذا الجزء هو البحث عن القيود التي تحد من عملية التفريق، وتجعلها محصورة في الرغبة الأكيدة من الزوج أو من الزوجة في التفريق مع إتاحة فرص الرجعة بعد ذلك ما أمكن.

وقد لجأنا لهذا ـ مثلما فعلنا سابقا ـ لتراثنا الإسلامي بمذاهبه المختلفة، زيادة على اللجوء لمصادر الدين الأصلية من الكتاب والسنة، وكانت أكثر آرؤانا الترجيحية في هذا الباب تميل إلى تضييق أبواب التفريق إلا في الحدود التي نراها تدل دلالة كافية على توفر حقيقة قصد التفريق من الزوجين.

وقد قسمنا الحديث في هذا الجزء إلى أربعة أقسام:

الأول: ويبحث في حق كلا الزوجين في إيقاع الطلاق، تناولنا فيه بالتفصيل الضوابط الشرعية التي تحفظ هذا الحق لكلا الزوجين، وفي نفس الوقت تحمي من استعماله في غير ما قصده الشرع من مقاصد، وقد قدمنا له بفصل تمهيدي مهم جعلناه مقدمة لسائر الأقسام.

الثاني: وقد خصصناه للتفريق الذي جعله الشارع لولي الأمر، حماية للزوجة من تعسف الزوج، أو تعضيدا لما جعل لها من حق في حل عصمة الزوجية، وقد خصصناه بقسم خاص بناء على اختلاف أحكامه عن سائر انواع التفريق.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (15 )

الثالث: وقد خصصناه للصيغ التي يتم بها التطليق، وهي الركن الثالث من أركان الطلاق، بل اعتبرها بعضهم الركن الوحيد في الطلاق لأهميتها، وقد تحدثنا فيه عن التعابير التي يمكن استعمالها للتطليق من اللفظ والكتابة والإشارة وغيرها، ثم صيغ التعابير اللفظية، باعتبارها هي الأصل في الاستعمالات العادية للطلاق، ثم تحدثنا عن تقييد صيغ الطلاق بمختلف التقييدات من الشرط والاستثناء والعدد ونحوها.

وبالإضافة إلى ذلك تحدثنا عن الصيغ المشابهة للطلاق مع أنه لا يقع بها، بل لها أحكامها الخاصة، كالظهار والإيلاء.

الرابع: وقد خصصناه للآثار الناتجة عن الفرقة الزوجية، فتناولنا في الحديث عن أحكام العدة، وعن الضوابط الشرعية للرجعة، مع بيان الحلول التي وضعها الشارع لإعادة الحياة الزوجية إلى مسارها الأصلي، وذلك إما بالرجعة في العدة، أو الرجعة بعد انتهائها، ثم تحدثنا عن المتعة، باعتبارها من الحقوق المالية التي تنتج عن الطلاق.

وبذلك شملت هذه الأقسام الأربعة الحديث عن كل أنواع الفرقة الزوجية وضوابطها مع محاولة طرحها بالأسلوب الدقيق المبسط، والحمد لله أولا وآخرا.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (16 )

القسم الأول

حق الزوجين في حل عصمة الزوجية

الفصل الأول

مدخل إلى أحكام الفرقة الزوجية

سنتناول في هذا الفصل التمهيدي الحديث عن موضوعين كلاهما له دور كبير في التأسيس لما سنذكره في الفصول التالية:

أما الأول، فهو الحديث عن أنواع الفرقة الزوجية، وأحكامها وآثارها بصفة عامة، باعتبار هذا الجزء وما يليله من أجزاء مخصصة لهذه الأنواع، ويحتاج التفصيل فيها إلى النظرة الإجمالية التي قدمناها في هذا المبحث، وبه نرى وجه الترتيب الذي راعيناه في هذا الجزء.

أما الثاني، فهو عن الأسس التي اعتمدناها عند ذكر ما نراه من الترجيحات في هذا الباب، وذلك للاستغناء بها عن الاستدلال لكل ترجيح.

وبذلك يكون المبحث الأول مبحثا تمهيديا للمسائل والفروع الفقهية، ويكون المبحث الثاني خاصا بالرؤى الترجيحية.

أولا ـ أنواع الفرقة الزوجية ومقاصدهأ

قسم الفقهاء التفريق الحاصل في الحياة إلى نوعين: فسخ وطلاق، ولكل منهما آثاره الخاصة، وسنتحدث عن كلا النوعين فيما يلي:

النوع الأول ـ الطلاق

وهو النوع الأول من أنواع التفريق، ويقصد به عند الإطلاق، وسنتحدث هنا عن

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (17 )

تعريفه وحكمه الأصلي وأحكامه العارضة، أما أركانه وشروطه وآثارها فمحلها الفصول القادمة من هذا الجزء وما يليه من أجزاء.

تعريف الطلاق:

من التعاريف التي عرف بها الطلاق، والتي تدخلت في بعضها الخلافات الفقهية للمذاهب المختلفة:

1 ـ رفع الحل الذي به صارت المرأة محلا للنكاح إذا تم العدد ثلاثا، ويوجب زوال الملك باعتبار سقوط اليد عند انقضاء العدة في المدخول بها وانعدام العدة عند عدم الدخول والاعتياض عند الخلع (1).

2 ـ هو صفة حكمية ترفع حلية متعة الزوج بزوجته موجبا تكررها مرتين للحر ومرة لذي رق حرمتها عليه قبل زوج (2).

3 ـ هو قول مخصوص أو ما في معناه من شخص مخصوص يرتفع به النكاح أو ينثلم، فقول: يخرج به ارتفاع النكاح بالموت والرضاع، ومخصوص: ليخرج به ارتفاعه باللعان ونحوه من الردة والإسلام وسائر الفسوخ القولية، أو ما في معناه: ليدخل به الطلاق بالكتابة والإشارة من الأخرس، ومن شخص مخصوص: هو الزوج أو وكيله. (3)

وعلاقة المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي هي كما يقول ابن منظور: (طَلاَقُ النساء لمعنيين: أَحدهما حلّ عُقْدة النكاح، والآخر بمعنى التخلية والإِرْسال. ويقال للإِنسان إِذا عُتِقَ طَلِيقٌ أَي صار حرّاً، وأَطْلَقَ الناقة من عِقَالها وطَلَّقَها فَطَلَقَت: هي بالفتح، وناقة طَلْق وطُلُق: لا عِقال عليها) (4)

__________

(1) المبسوط: 6/ 2.

(2) شرح حدود ابن عرفة: 184.

(3) التاج المذهب: 2/ 118.

(4) لسان العرب: 10/ 227، وانظر: طلبة الطلبة: 52.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (18 )

حكم الطلاق:

الحكم الأصلي للطلاق:

اختلف الفقهاء في الحكم الأصلي للطلاق على قولين:

القول الأول: أن إيقاع الطلاق مباح وإن كان مبغضا في الأصل، وهو قول جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:236)، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق:1) وغيرها من آيات الطلاق، وكلها تقتضي إباحة إيقاع الطلاق.

2 ـ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (1)، وفي لفظ: (ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق)، وإنما يكون مبغضا من غير حاجة إليه، وقد سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلالا، فإن قيل بأن كون الطلاق مبغوضا مناف لكونه حلالا، لأن كونه مبغوضا يقتضي رجحان تركه على فعله، وكونه حلالا يقتضي مساواة تركه لفعله، وقد أجيب على ذلك بأن المراد بالحلال ما ليس تركه بلازم، وهو يشمل المباح والواجب والمندوب والمكروه، وقد يقال الطلاق حلال لذاته والأبغضية لما يترتب عليه من انجراره إلى المعصية (2).

3 ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلق حفصة، حتى نزل عليه الوحي يأمره أن يراجعها (3)، ولم يكن هناك كبر سن ولا ريبة.

__________

(1) قال ابن حجر: رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم من حديث محارب بن دثار عن بن عمر بلفظ (الحلال) بدل المباح ورواه أبو داود والبيهقي مرسلا، تلخيص الحبير: 3/ 205، وانظر: البيهقي: 7/ 322، أبو داود: 2/ 255، ابن ماجة: 1/ 650.

(2) انظر: عون المعبود: 6/ 161.

(3) الحاكم: 4/ 16، المعجم الكبير: 23/ 188، مجمع الزوائد: 9/ 244.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (19 )

4 ـ أنه كما أن فيه معنى كفران النعمة من وجه، فإن فيه معنى إزالة الرق من وجه آخر، لأن النكاح نوع من الرق كما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته) (1). ولأجله صان الشرع القرابة القريبة عن هذا الرق حيث حرم نكاح الأمهات والبنات والأخوات (2).

5 ـ أن هذا إزالة الملك بطريق الإسقاط فيكون مباحا في الأصل كالإعتاق.. ومن هذا الباب كونه مزيلا للنكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها، فيكون مكروها فقط لا حراما.

القول الثاني: أن إيقاع الطلاق محرم لا يباح إلا عند الضرورة، وقد ذكر هذا القول السرخسي (3) من غير إشارة إلى قائله، بينما ذكر ابن قدامة الإجماع على الجواز، قال في المغني: (أجمع الناس على جواز الطلاق، والعبرة دالة على جوازه، فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين، فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة، وضررا مجردا بإلزام الزوج النفقة والسكنى، وحبس المرأة، مع سوء العشرة، والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح، لتزول المفسدة الحاصلة منه) (4)

ولا يختلف ما ذكره ابن قدامة من الإجماع على ما ذكره السرخسي لأن الحكم الأصلي الذي يقصده السرخسي، هو الطلاق من غير حاجة إليه، وقد ذكر ابن قدامة في حكم هذا النوع من الزواج عن أحمد روايتين: إحداهما أنه محرم، والثانية، أنه مباح.

__________

(1) قال العراقي في تخريجه لأحاديث إحياء علوم الدين للغزالي: حديث: النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته ـ رواه أبو عمر التوقاني في معاشرة الأهلين موقوفا على عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، قال البيهقي: وروي ذلك مرفوعاً، والموقوف.

(2) المبسوط:6/ 2.

(3) المبسوط:6/ 2، وانظر: تبيين الحقائق: 3/ 253.

(4) المغني: 7/ 277.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (20 )

وقد ذكر العراقي أن هذا هو الحكم الأصلي للطلاق عند الحنفية، فقال عند بيان كون العدة بالحيض لا بالطهر: (وليس في ذلك تطويل عند الحنفية الذين يرون العدة بالحيض فإنهم يعتبرون ثلاث حيض كاملة، فالمعنى عندهم أن الأصل في الطلاق الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية، وإنما يباح للحاجة، والمعتبر دليلها، وهو الإقدام على الطلاق في زمن الرغبة) (1)

بل ذكر أن هذا هو الحكم الأصلي عند المالكية، ففي العناية: (قال مالك: الأصل في الطلاق هو الحظر والإباحة لحاجة الخلاص) (2) ومن الأدلة التي ذكروها لذلك:

1 ـ أنه ضرر بنفسه وزوجته، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه، فكان حراما، كإتلاف المال، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) (3)

2 ـ أن فيه كفران النعمة فإن النكاح نعمة من الله تعالى على عباده، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21)، وكفران النعمة حرام.

3 ـ أنه رفع للنكاح المسنون فلا يحل إلا عند الضرورة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر إلى معنى قول الفقهاء (الحكم الأصلي للطلاق)، فإن أريد به الحكم العام للطلاق، والذي يتناول أكثر الناس، فإن الأرجح في هذا هو القول بالإباحة، لأن الناس عادة لا يطلقون إلا لسبب قد يعقل، وقد لا يعقل، أما التطليق لغير سبب، فقلما يحدث، وهو بذلك يعود إلى نوع من الأحكام العارضة التي سنذكرها.

__________

(1) طرح التثريب: 7/ 84.

(2) العناية: 3/ 468.

(3) أخرجه مالك (2/ 745، رقم 1429)، والشافعى (1/ 224) والدارقطنى (3/ 77)، والحاكم (2/ 66، رقم 2345) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. والبيهقى (6/ 69، رقم 11166) وغيرهم.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (21 )

أما إن أريد به الاقتصار على ذكره عند بيان حكم الطلاق، كأن يسأل شخص عن حكم الطلاق فيجاب بأنه حلال أو أنه أبغض الحلال، فإن الأرجح في هذا هو خطأ هذه الإجابة، بل قد يكون القول بالتحريم أرجح في هذه الحالة، لأن القول بالإباحة مطلقا قد يكون نوعا من التشجيع على الطلاق، فلهذا إما أن يذكر الحكم مفصلا بأنواعه المختلفة أو أن يسأل عن السبب الداعي للطلاق فيفتى على أساسه، لأن الكثير من العامة تغريه الإباحة، وقد يقع بواسطتها في المحظور.

وهذا لا يقتصر على الطلاق فقط، بل يتعداه لكثير من الأحكام الشرعية، فإن الأرجح فيها جميعا هو ذكر الأحكام العارضة باعتبارها الأصل، فالأحوال مختلفة، وتعميم الحكم قد يوقع في اللبس والخطأ.

الأحكام العارضة للطلاق:

نص أكثر الفقهاء على الأحكام العارضة للطلاق، وقد اختلفت المذاهب الفقهية في التعبير عنها، وسنذكر هنا بعض ما قالوا في ذلك، ونرجئ التفاصيل المتعلقة بالفروع إلى محلها من هذا الفصل أو غيره:

فقد نص الشافعية على أن الطلاق أربعة أقسام: حرام ومكروه وواجب ومندوب ولا يكون مباحا مستوى الطرفين (1):

الطلاق الواجب: ويتحقق في صورتين وهما:

1 ـ في الحكمين إذا بعثهما القاضي عند الشقاق بين الزوجين ورأيا المصلحة في الطلاق وجب عليهما الطلاق.

2 ـ وفي المولى إذا مضت عليه أربعة أشهر وطالبت المرأة بحقها فامتنع من الفيئة والطلاق، فالأصح عند الشافعية أنه يجب على القاضي أن يطلق عليه طلقة رجعيه.

__________

(1) شرح النووي على مسلم:10/ 62.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (22 )

الطلاق المكروه: وذلك إذا كان الحال بينهما مستقيما، فيطلق بلا سبب وعليه يحمل حديث (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (1)

الطلاق الحرام: وهو في ثلاث صور هي: في الحيض بلا عوض منها ولا سؤالها، والثاني في طهر جامعها فيه قبل بيان الحمل، والثالث إذا كان عنده زوجات يقسم لهن وطلق واحدة قبل أن يوفيها قسمها.

الطلاق المندوب: وهو عندما لا تكون المرأة عفيفة أو يخافا أو أحدهما أن لا يقيما حدود الله أو نحو ذلك.

ونص الحنابلة على أن الطلاق على خمسة أقسام (2):

الطلاق الواجب: وهو طلاق المولي بعد التربص إذا أبى الفيئة، وطلاق الحكمين في الشقاق، إذا رأيا ذلك.

الطلاق المكروه: وهو الطلاق من غير حاجة إليه، وقال القاضي: فيه روايتان؛ إحداهما: أنه محرم؛ لأنه ضرر بنفسه وزوجته، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه، فكان حراما، كإتلاف المال، والثانية، أنه مباح.

الطلاق المباح: وهو عند الحاجة إليه لسوء خلق المرأة، وسوء عشرتها، والتضرر بها من غير حصول الغرض بها.

الطلاق المندوب: وقد ذكروا له موضعين:

1 ـ عند تفريط المرأة في حقوق الله الواجبة عليها، مثل الصلاة ونحوها، ولا يمكنه إجبارها عليها، أو تكون له امرأة غير عفيفة، قال أحمد: لا ينبغي له إمساكها؛ وذلك لأن

__________

(1) أخرجه أبو داود (2/ 255، رقم 2178)، وابن ماجه (1/ 650، رقم 2018)، والحاكم (2/ 214، رقم 2794) وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبى وقال: على شرط مسلم. وابن عدى (6/ 461، ترجمة 1941 معرف بن واصل)، والبيهقى (7/ 322، رقم 14671)

(2) المغني: 7/ 277، وانظر: كشاف القناع: 5/ 232.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (23 )

فيه نقصا لدينه، ولا يأمن إفسادها لفراشه، وإلحاقها به ولدا ليس هو منه، ولا بأس بعضلها في هذه الحال، والتضييق عليها؛ لتفتدي منه، قال ابن قدامة: ويحتمل أن الطلاق في هذين الموضعين واجب (1).

2 ـ الطلاق في حال الشقاق، وفي الحال التي تحوج المرأة إلى المخالعة لتزيل عنها الضرر.

الطلاق المحرم: وهو الطلاق في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، قال ابن قدامة: (أجمع العلماء في جميع الأمصار وكل الأعصار على تحريمه، ويسمى طلاق البدعة؛ لأن المطلق خالف السنة، وترك أمر الله تعالى ورسوله) (2)

ونكتفي بهذين المذهبين، فسائر الأقوال لا تكاد تخرج على ما ذكرا.

الحكمة من الطلاق

يتصور الكثير من محدودي النظر، الذين يعشون بأجسادهم في مستنقعات من الدناءة، وبعقولهم في عوالم من المثل، بأن تشريع الطلاق جريمة من الجرائم وإثم من أكبر الآثام.

وهذه النظرة ـ كالنظرة للتعدد أو الحجاب أو غيرها من أحكام الدين ـ نظرة لا علاقة لها بالواقع، لأن الدراسة المتمعنة للواقع وللفطرة البشرية لا بد أن تهدي إلى ضرورة إباحة الطلاق وتشريع القوانين التي تحفظه من التعسف، وتحفظ آثاره من الضياع.

أما الإسلام فإنه (يشرع لأناس يعيشون على الأرض، لهم خصائصهم، وطباعهم البشرية، لذا شرع لهم كيفية الخلاص من هذا العقد، إذا تعثر العيش، وضاقت السبل، وفشلت الوسائل للإصلاح، وهو في هذا واقعي كل الواقعية، ومنصف كل الإنصاف لكل

__________

(1) المغني: 7/ 277.

(2) المغني: 7/ 277.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (24 )

من الرجل والمرأة.

فكثيراً ما يحدث بين الزوجين من الأسباب والدواعي، ما يجعل الطلاق ضرورة لازمة، ووسيلة متعينة لتحقيق الخير، والاستقرار العائلي والاجتماعي لكل منهما، فقد يتزوج الرجل والمرأة، ثم يتبين أن بينهما تبايناً في الأخلاق، وتنافراً في الطباع، فيرى كل من الزوجين نفسه غريباً عن الآخر، نافراً منه، وقد يطّلع أحدهما من صاحبه بعد الزواج على ما لا يحب، ولا يرضى من سلوك شخصي، أو عيب خفي، وقد يظهر أن المرأة عقيم لا يتحقق معها أسمى مقاصد الزواج، وهو لا يرغب التعدد، أولا يستطيعه، إلى غير ذلك من الأسباب والدواعي، التي لا تتوفر معها المحبة بين الزوجين ولا يتحقق معها التعاون على شؤون الحياة، والقيام بحقوق الزوجية كما أمر الله، فيكون الطلاق لذلك أمراً لا بد منه للخلاص من رابطة الزواج التي أصبحت لا تحقق المقصود منها، والتي لو ألزم الزوجان بالبقاء عليها، لأكلت الضغينة قلبيهما، ولكاد كل منهما لصاحبه، وسعى للخلاص منه بما يتهيأ له من وسائل، وقد يكون ذلك سبباً في انحراف كل منهما، ومنفذاً لكثير من الشرور والآثام.

لهذا شُرع الطلاق وسيلة للقضاء على تلك المفاسد، وللتخلص من تلك الشرور، وليستبدل كل منهما بزوجه زوجاً آخر، قد يجد معه ما افتقده مع الأول، فيتحقق قول الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} (النساء:130)

وهذا هو الحل لتلك المشكلات المستحكمة المتفق مع منطق العقل والضرورة، وطبائع البشر وظروف الحياة)

وقد كان الغرب ـ وهو الذي يتصور إيمانه بالمسيحية وخضوعه للكنيسة ـ حياته متزمتا ملتزما بالزوجة الواحدة طول العمر، رافعا شعار المثالية، ولكن الفطرة سرعان ما أغارت عليه، ليعترف بالطلاق، ويقنن له، بل إن نسبة ارتفاع الطلاق فيه تفوق التصور.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (25 )

ونحن نورد هنا لمن يتصورون أن لهم الحق في مناقشة الإسلام في تشريعه الطلاق ما قاله (بيتام) رجل القانون الإنجليزي، قال: (لو وضع مشروع قانوناً يحرم فض الشركات، ويمنع رفع ولاية الأوصياء، وعزل الوكلاء، ومفارقة الرفقاء، لصاح الناس أجمعون: أنه غاية الظلم، واعتقدوا صدوره من معتوه أو مجنون، فيا عجباً أن هذا الأمر الذي يخالف الفطرة، ويجافي الحكمة، وتأباه المصلحة، ولا يستقيم مع أصول التشريع، تقرره القوانين بمجرد التعاقد بين الزوجين في أكثر البلاد المتمدنة، وكأنها تحاول إبعاد الناس عن الزواج، فإن النهي عن الخروج من الشيء نهي عن الدخول فيه، وإذا كان وقوع النفرة واستحكام الشقاق والعداء، ليس بعيد الوقوع، فأيهما خير؟.. ربط الزوجين بحبل متين، لتأكل الضغينة قلوبهما، ويكيد كل منهما للآخر؟ أم حل ما بينهما من رباط، وتمكين كل منهما من بناء بيت جديد على دعائم قوية؟، أو ليس استبدال زوج بآخر، خيراً من ضم خليلة إلى زوجة مهملة أو عشيق إلى زوج بغيض) (1)

زيادة على هذا، فإن تشريعات الإسلام في هذا الجانب تحفظ الطلاق من استعماله في غير ما وضع له، وتحفظ كل ما قد ينجر عنه من آثار سلبية، ومن ذلك:

1 ـ أنه نفّر من الطلاق وبغضه إلى النفوس فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة)، وحذر من التهاون بشأنه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بال أحدكم يلعب بحدود الله، يقول: قد طلقت، قد راجعت)

2 ـ أنه اعتبر الطلاق آخر العلاج، بحيث لا يصار إليه إلا عند تفاقم الأمر، واشتداد الداء، وحين لا يجدي علاج سواه، وأرشد إلى اتخاذ الكثير من الوسائل قبل أن يصار إليه، فرغب الزوج في الصبر والتحمل على الزوجات، وإن كانوا يكرهون منهن بعض الأمور، إبقاء للحياة الزوجية، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا

__________

(1) منقول من موقع islamunveiled.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (26 )

شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيرا} (النساء:19)

3 ـ أنه أرشد الزوج إذا لاحظ من زوجته نشوزاً إلى ما يعالجها به من التأديب المتدرج: الوعظ ثم الهجر، ثم الضرب غير المبرح، قال تعالى: {) وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} (النساء:34)

4 ـ أنه شرع التحكيم بينهما، إذا عجزا عن إصلاح ما بينهما، بوسائلهما الخاص.

5 ـ أنه أرشد الزوجة إذا ما أحست فتوراً في العلاقة الزوجية، وميل زوجها إليها إلى ما تحفظ به هذه العلاقة، ويكون له الأثر الحسن في عودة النفوس إلى صفائها، بأن تتنازل عن بعض حقوقها الزوجية، أو المالية، ترغيباً له بها وإصلاحاً لما بينهما.

6 ـ أن الطلاق كما يكون لصالح الزوج، فإنه أيضاً يكون لصالح الزوجة في كثير من الأمور، فقد تكون هي الطالبة للطلاق، الراغبة فيه، فلا يقف الإسلام في وجه رغبتها وفي هذا رفع لشأنها، وتقدير لها، لا استهانة بقدرها، كما يدّعي المدّعون، وإنما الاستهانة بقدرها، بإغفال رغبتها، وإجبارها على الارتباط برباط تكرهه وتتأذى منه.

7 ـ أنه أثبت للأم حضانة أولادها الصغار، ولقريباتها من بعدها، حتى يكبروا، وأوجب على الأب نفقة أولاده، وأجور حضانتهم ورضاعتهم، ولو كانت الأم هي التي تقوم بذلك.

النوع الثاني ـ الفسخ

تعريف الفسخ:

من التعاريف التي عرف بها الفسخ، مع التنبيه إلى أن هذه التعاريف ليست مختصة بفسخ التفريق بين الزوجين، بل تشمله كما تشمل غيره:

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (27 )

1 ـ أن لا يترتب على العقد أثر في المستقبل لا بطلان أثره أصلا (1).

2 ـ الفسخ رفع الأصل والوصف (2).

3 ـ الانفساخ انقلاب كل واحد من العوضين إلى دافعه، والفسخ هو قلب كل واحد من العوضين إلى صاحبه (3).

وقد فرق الفقهاء بين فرقة الفسخ وفرقة الطلاق مع أن كلاهما فسخ، بأن (الفسخ الحقيقي هو الرافع للعقد كالفسخ بعيب المبيع أو الثمن المعين أو تلف واحد منهما قبل القبض، أو بعيب أحد الزوجين. والمجاز أن لا يكون رافعا، بل قاطعا كالطلاق ليس رفعا لعقد النكاح بل قطعا للعصمة) (4)

أسباب الفسخ:

اختلفت المذاهب الفقهية في الأسباب التي تكون بها الفرقة فسخا بما يعسر ضبطه، ولذلك سنذكر هنا أقوال المذاهب الفقهية مع إرجاء أدلتها وتفاصيلها في محالها الخاصة بها:

مذهب الحنفية:

نصوا على أن الفرقة الزوجية تكون فسخاً في مواضع، منها (5):

1 ـ تباين الدار حقيقة وحكماً، ومعنى ذلك أن يترك أحد الزوجين الحربيين دار الحرب إلى دار الإسلام مسلماً أو ذمياً، فإذا فعل ذلك بانت منه امرأته أما المستأمن، وهو الذي يدخل دار الإسلام بأمان لتجارة ونحوها بنية العودة إلى بلاده، فإن امرأته لا تبين

__________

(1) رد المحتار: 5/ 705.

(2) بدائع الصنائع: 5/ 176.

(3) قال الزركشي بعد إيراده لهذا التعريف: (وبذلك رددنا على أبي حنيفة أن الخلع فسخ، لأنه لا يشترط فيه رد الصداق فما انقلب كل واحد من العوضين لصاحبه فذهبت حقيقة الفسخ)، المنثور في القواعد الفقهية:3/ 42.

(4) المنثور في القواعد الفقهية: 3/ 48.

(5) غمز عيون البصائر:2/ 104.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (28 )

منه.

2 ـ فساد العقد بسبب من الأسباب كما إذا تزوجها بغير شهود، أو إلى مدة معينة، أو نحو ذلك، مما تقدم تفصيله في محاله المختلفة.

3 ـ أن يفعل ما يوجب حرمة المصاهرة بأصول المرأة الاناث وفروعها، كأن يقبل بنت زوجته بشهوة. أو أمها. أو نحو ذلك، مما هو مفصل في الفصل الخاصة بالموانع المؤبدة للزواج.

4 ـ إذا فعلت الزوجة ما يوجب حرمة المصاهرة مع أصوله، أو فروعه الذكور، كتقبيل ابن زوجها البالغ بشهوة، ونحوه.

5 ـ إسلام أحد الزوجين الكافرين في دار الحرب، فإذا أسلمت الزوجة وهي في دار الحرب تبين من زوجها الكافر بعد ثلاث حيض كما ذكر في فصل الكفاءة.

6 ـ أن ترضع الزوجة ضرتها الصغيرة، فإنها تصبح أمها في الرضاع، فتبين منه هي ومن أرضعتها وهذه البينونة فسخ لا طلاق لأنهما يحرمان عليه مؤبداً.

7 ـ أن يرتد أحد الزوجين، فإنه إذا وقع ذلك بانت منه امرأته فسخاً لا طلاقاً.

أما فرقة الطلاق، فتكون فيما عدا هذه المواضع، ومنها صريح الطلاق وكنايته، والعيوب المفرقة بين الزوجين كالجب. والعنة، والفرقة بالإيلاء، والفرقة باللعان.

وضابط ذلك عندهم أن كل فرقة جاءت من قبل المرأة لا بسبب من الزوج فهي فسخ، كخيار العتق والبلوغ، وكل فرقة جاءت من قبل الزوج فهي طلاق، كالإيلاء والجب والعنة، وإنما كانت ردته فسخا مع أنها من قبله لأن بها ينتفي الملك فينتفي الحل، والفرقة إنما جاءت بالتنافي لا لوجود المباشرة من الزوج، وإنما شرط القضاء في الفرقة بالجب، وما عطف عليه، لأن في أصلها ضعفا، فتوقف عليه كالرجوع في الهبة، وفيه إيماء إلى أن الزوج لو كان غائبا لم يفرق بينهما للزوم القضاء على الغائب.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (29 )

مذهب الشافعية:

وقد نصوا على أن الفسخ ينقسم إلى قسمين (1):

فسخ اختياري: ويشمل العيوب الخمسة والغرور وعدم الكفاءة ابتداء ودواما، ليدخل الفسخ بالخلف والعتق تحت عبد، والعجز عن العوض؛ ليدخل الفسخ بالإعسار بالنفقة وبالمهر قبل الدخول.

فسخ قهري: وهو ما ينفسخ فيه بنفسه، ولا يتوقف فيه على تفريق الحاكم ولا أحد الزوجين، ومن أصنافه التي ذكروها:

1 ـ اختلاف دين الزوجين بالردة.

2 ـ إسلام المشرك على أكثر من أربع ينفسخ في الزائد قال ابن الرفعة: من اندفع نكاحها، فهو بطريق البينونة بلا شك.

3 ـ اللعان.

4 ـ الرضاع.

5 ـ إسلام أحد الزوجين وتخلف الآخر حتى انقضت العدة.

6 ـ فرقة الردة.

أما التفريق بالطلاق، فهو فيما عدا الحالات السابقة، وهي ألفاظ الطلاق صريحة، وكناية والخلع، وفرقة الإيلاء، وفرقة الحكمين، فإذا وكل الزوج حكمين في تطليق امرأته أو وكلتهما الزوجة في طلاقها بعوض مالي ففعلا، فإنه يكون طلاقاً لا فسخاً.

مذهب المالكية:

اختلف المالكية في تمييز ما يفسخ بطلاق مما يفسخ بغير طلاق قولين، هما (2):

__________

(1) المنثور في القواعد الفقهية:3/ 24.

(2) شرح ميارة:1/ 248، وانظر: شرح حدود ابن عرفة:177.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (30 )

القول الأول: أن كل نكاح كان للزوج أو للزوجة أو للولي إمضاؤه وفسخه ففسخه بطلقة بائنة، وما كانوا مغلوبين على فسخه ففسخه بغير طلاق، والأول كنكاح الأجنبي يرده الولي، فالخيار فيه للولي وإذا كان بالزوجة عيب فالخيار للزوج، أو به عيب فالخيار للزوجة، ثم مثل للثاني وهو ما كانوا مغلوبين على فسخه بولاية المرأة والعبد ونكاح الشغار والمريض والمحرم بحج أو عمرة، وكالصداق الفاسد قبل البناء، وكالمجمع على فسخه.

القول الثاني: أن ما اختلف في إجازته وفسخه ففسخه بطلاق كولاية المرأة والعبد ونكاح الشغار ونكاح المريض والمحرم وكالصداق الفاسد قبل البناء، وما اتفق على فسخه ففسخه بغير طلاق كالخامسة وأخت المرأة أو عمتها أو خالتها، وقد روي عن مالك ورجع إليه ابن القاسم.

انطلاقا من هذا فقد ذكروا المواضع التي تكون فيها الفرقة فسخا وهي كما يلي:

الفسخ: تكون الفرقة فسخاً فيما يلي:

1 ـ في العقد الفاسد المجمع على فساده، ومنه نكاح المتعة على المعتمد.

2 ـ الفرقة بالرضاع، فإنها فسخ بلا طلاق.

3 ـ الفرقة باللعان، فإنها توجب تأبيد التحريم، فلا يحل له أن يتزوجها بحال، فلا يعتبر ذلك طلاقاً.

4 ـ الفرقة بسبب السبي، فإنها تقطع علاقة الزوجية بين الزوجين، فإذا سبيت المرأة الحربية وهي كافرة وزوجها غير كافر، فإنها تصير غير زوجة له فتحل لغيره بمجرد أن تحيض مرة واحدة.

5 ـ إذا أسلم أحد الزوجين الكافرين، فإن الفرقة بينهما فسخ بغير طلاق.

وما عدا هذه الحالات، فهو طلاق، وهو كما يلي:

1 ـ كل عقد فاسد مختلف فساده كنكاح الشغار، ونكاح السر، والنكاح بدون ولي

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (31 )

ونحو ذلك مما تقدم في محله، فكل عقد فاسد عند المالكية صحيح عند غيرهم فإنه يفسخ بطلاق يحسب من عدد الطلقات، أما إذا كان مجمعاً على فساده فإنه يفسخ بغير طلاق، ومن ذلك العقد على امرأة في عدة الغير، أو العقد على محرمة من المحارم، أو العقد على خامسة وتحته أربعة، أو نحو ذلك من العقود المجمع على فسادها فإنها تفسخ بغير طلاق.

2 ـ فسخ الحاكم بالغيب طلاق بائن، سواء طلق هو أو أمرها بأن تطلق نفسها إلا إذا كان مولياً وطلق عليه، فإن طلاق الحاكم في هذه الحالة يكون رجعياً، ومثله ما إذا طلق عليه الحاكم بسبب الإعسار عن دفع النفقة فإن طلاقه يكون رجعياً.

3 ـ الردة طلاق بائن على المشهور.

4 ـ الخلع، وهو طلاق صريح عندهم.

5 ـ الطلاق الصريح، والكناية.

6 ـ الفرقة بسبب الإيلاء طلاق.

7 ـ الفرقة بسبب العيب طلاق، فيأمره القاضي بالطلاق أو يطلق عليه القاضي أو جماعة المسلمين. أو يأمرها به فتطلق نفسها، ويحكم القاضي به أو يثبته طلاقاً على الخلاف في الطلاق بالعيب، إلا أنه بائن في العيب ورجعي في الإيلاء إلا إذا طلق هو رجعياً.

8 ـ الفرقة بسبب الإعسار عن دفع الصداق أو دفع النفقة، فإن الحاكم يطلق عليه طلقة واحدة رجعية إن أبى عن تطليقها، أو يأمرها بأن تطلق نفسها ثم يحكم به كما تقدم.

مذهب الحنابلة:

وقد نصوا على أن الفسخ يكون في أمور هي:

1 ـ الخلع إذا كان بغير لفظ الطلاق أو نيته.

2 ـ ردة أحد الزوجين.

3 ـ الفرقة لعيب من العيوب التي سنذكرها في هذا الفصل، ولا يفسخه إلا حاكم.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (32 )

الفرقة بسبب إعساره عن دفع الصداق والنفقة ونحوها، ولا يفسخه إلا حاكم أيضاً.

4 ـ إسلام أحد الزوجين، وينفسخ نكاحهما إذا انقضت عدتها، أما إذا أسلمت المرأة ثم أسلم زوجها وهي في العدة فإن نكاحهما يبقى.

5 ـ فرقة الإيلاء، وهي منوطة بالحاكم كما سنرى في محله.

6 ـ الفرقة بسبب اللعان فإن اللعان يوجب التحريم بينهما على التأبيد، ولو لم يحكم به القاضي بحيث لا تحل له بعد ذلك.

أما الطلاق، فهو فيما عدا هذه الأحوال المذكورة.

مذهب الظاهرية:

ذكر ابن حزم أن ما يقع به فسخ النكاح بعد صحته ثمانية أوجه فقط، هي (1):

1 ـ أن تصير حريمة برضاع.

2 ـ أن يطأها أبوه، أو جده بجهالة؛ أو بقصد إلى الزنا.

3 ـ أن يتم التعانه والتعانها.

4 ـ أن تكون أمة فتعتق، فلها الخيار في فسخ نكاحها من زوجها أو إبقائه.

5 ـ اختلاف الدينين إلا في جهة واحدة، وهي أن يسلم الزوج وهي كتابية، فإنهما يبقيان على نكاحهما، وينقسم اختلاف دينهما في غير ذلك إلى خمسة أقسام: أن يسلم هو وهي كافرة غير كتابية، أو أن تسلم هي، وهو كافر كتابي، أو غير كتابي، أو أن يرتد هو دونها، أو أن ترتد هي دونه، أو أن يرتدا معا. ففي كل هذه الوجوه ينفسخ نكاحهما سواء أسلم إثر إسلامها، أو أسلمت إثر إسلامه، أو راجع الإسلام، أو راجعت الإسلام، أو راجعاه معا، لا ترجع إليه في كل ذلك إلا برضاهما وبصداق، وبولي، وإشهاد. ولا يجب أن يراعى في

__________

(1) المحلى: 9/ 329.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (33 )

ذلك شيء من عدة، ولا عرض إسلام.

6 ـ أن يملكها، أو بعضها.

7 ـ أن تملكه أو بعضه.

8 ـ موته أو موتها، ولا خلاف في ذلك.

مذهب الزيدية:

وقد نصوا على أن الفسخ يكون بأحد أمور أربعة (1):

1 ـ أن تكون ملتهما واحدة حال الزوجية، ثم يطرأ عليها اختلاف فإنه يرتفع النكاح بينهما بتجدد اختلاف الملتين بينهما سواء ارتدا عن الإسلام أم كانا يهوديين فتنصروا أم العكس في وقتين لا في وقت والتبس فهما على نكاحهما، ومثال ذلك أن يكونا مسلمين فيرتد أحدهما أو كافرين فيسلم أحدهما أو يهوديين فيتنصر أحدهما أو العكس فقد اختلفت ملتهما في جميع هذه الصور وهي كلها توجب ارتفاع النكاح بينهما.

2 ـ تجدد الرق عليهما، ومثال ذلك أن يكونا كافرين في دار الحرب ولو مملوكين لحربي فيسبيهما المسلمون أو غيرهم، أو كانا رقين مسلمين لمسلم فسباهما أهل الحرب فإنهما يملكا في الصورتين وينفسخ النكاح بتجدد الرق عليهما أو على أحدهما نحو أن يسبى الزوج وحده أو الزوجة وحدها.

3 ـ ملك أحدهما الآخر أو بعضه، وذلك نحو أن تكون هي حرة وهو عبد، فتشتريه أو ترثه أو يوهب لها أو نحو ذلك، أو هو الحر فيملكها بأي هذه الوجوه، فإن النكاح يرتفع بينهما، ولا ينفسخ النكاح بأن يملك أحدهما الآخر أو بعضه إلا إذا كان ملك الرقبة لا المنفعة نافذا كالبيع بغير خيار والإرث مع عدم الاستغراق ونحو ذلك، فأما إذا لم يكن قد نفذ لم ينفسخ النكاح حتى ينفذ.

__________

(1) التاج المذهب: 2/ 180.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (34 )

4 ـ رضاع طرأ بعد الزوجية صيرها محرما نحو أن ترضع زوجها الصغير أو ترضعه أختها أو ترضع زوجة له أخرى صغيرة أو نحو ذلك وهكذا لو كانت هي الصغيرة فأرضعتها أم الزوج أو زوجته أو نحو ذلك.

مذهب الإمامية:

من الموارد التي ذكروا فيها حق الزوجين في الفسخ ما يسمى خيار العيب، فإذا علم الزوج بعد العقد بوجود أحد العيوب الستة الآتية في الزوجة حين العقد فيكون له الفسخ من دون طلاق:

1 ـ الجنون ولو كان أدوارياً، وليس منه الإغماء والصرع.

2 ـ الجذام.

3 ـ البرص.

4 ـ العمى.

5 ـ العرج ولو لم يبلغ حدّ الإقعاد.

ولا يثبت الخيار للزوج في العيوب المتقدمة إذا حدثت بعد العقد وإن كان قبل الوطء.

ونصوا على أنه يثبت خيار العيب للزوجة إذا كان الزوج ممجبوباً أو مصاباً بالعنن سواء كان الجب أو العنن سابقاً على العقد أم كان حادثاً بعده أو بعد العقد والوطء معاً..

واختلفوا في ثبوت خيار العيب لها في جنون الزوج سواء كان سابقاً على العقد أم حادثاً بعده أو بعد العقد والوطء أم لا؟ وكذا فيما لو كان خصياً حين العقد أو وجيّاً أو مجذوماً أو أبرص، فإن اختارت الفسخ فلا يترك الاحتياط في جميع ذلك بعدم ترتيب أثر الزوجية أو الفرقة إلاّ بعد تجديد العقد أو الطلاق.

ونصوا على أنه يجوز للرجل الفسخ بعيب المرأة من دون إذن الحاكم وكذا المرأة بعيب

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (35 )

الرجل، نعم مع ثبوت العنن إذا لم ترضَ المرأة بالصبر معه لا يحق لها الفسخ إلاّ بعد رفع أمرها إلى الحاكم الشرعي.. وإذا علم بشهادة الطبيب الأخصائي الموثوق به أن الزوج سوف لا يقدر على الوطء أبداً جاز لها الفسخ من دون الانتظار إلى تمام السنة.

ونصوا على أنه إذا فسخ الرجل بأحد عيوب المرأة فإن كان الفسخ بعد الدخول استحقّت المرأة تمام المهر وعليها العدة كما في الطلاق وإن كان الفسخ قبله لم تستحقّ شيئاً ولا عدّة عليها. هذا إذا لم يكن تدليس، وأما مع التدليس (المتحقق بتوصيف المرأة للرجل عند إرادة الزواج بالسلامة من العيب مع العلم به أو بالسكوت عن بيان العيب ممن عليه البيان مع إقدام الزوج بارتكاز السلامة منه) فإن كان المدلِّس نفس المرأة لم تستحق المهر إذا اختار الرجل الفسخ وإن اختار البقاء فعليه تمام المهر لها، وإن كان المدلّس غير الزوجة فالمهر المسمى يستقرّ على الزوج بالدخول ولكن يحقّ له بعد دفعه إليها أن يرجع به على المدلِّس.

وإذا فسخت المرأة بعيب الرجل استحقت تمام المهر إن كان بعد الدخول وإن كان قبله لم تستحق شيئاً إلاّ في العنن فإنها تستحق عليه فيه نصف المهر المسمى (1).

 

الترجيح:

نرى أن الأرجح في تصنيف أنواع الفرقة الزوجية هو أنه يمكن تقسيمها إلى أربعة أنواع، وليس ذلك من باب التصنيف العلمي فقط، وإنما لكثير من المقاصد التي ترتبط بهذا التصنيف، وهذه الأصناف هي:

الطلاق: ويختص بحالة واحدة، وهي التفريق الحاصل من الزوج لزوجته قصدا من غير إكراه، فلذلك لو أكرهه القاضي على تطليقها لا يعتبر طلاقا، وإنما يدخل في التفريق القضائي، لأن الزوج لم يفعل غير ما أمره القاضي دون قصد منه لذلك، والمصلحة التي

__________

(1) انظر المسائل المنتخبة للسيد علي السيستاني.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (36 )

نريدها من هذا الحصر، هو تضييق عدد الطلاق، والحفاظ على فرص الرجعة، لأن اعتبار التفريق القضائي مثلا طلاقا يقلل من الفرص التي جعلها للشرع للزوج للرجعة، ومثل ذلك اعتبار الخلع أو الإيلاء أو غيرها من أنواع التفريق.

والدليل الشرعي على ذلك سنفصله في محله، ولكن من باب الاختصار فإن النصوص الشرعية لم تذكر الطلاق إلا مرتبطا بالرجل، ثم قيدت هذا الارتباط بالقصد، فدل مجموع هذين على أن الطلاق هو ما كانت هذه صفته لا غير.

حل العصمة الزوجية بيد المرأة: وله موضع واحد هو الخلع، ويمكن أن يضاف إليه التفريق للضرر من غير قضاء القاضي كما نص المالكية، أو التفريق بالتمليك والتخيير كما نص أكثر الفقهاء، وسنناقش اعتبار ذلك في محله، وكل هذه الأنواع يمكن تسميتها فسخا، باعتبارها لا تؤثر في عدد الطلاق، ولا تنتج عنها آثار الطلاق.

حل العصمة الزوجية بيد القضاء: وهو التفريق المرتبط بقضاء القاضي، لاحتياجه إلى التحري والتوثيق والتأكد، وأكثر ما يكون هذا النوع من التفريق مرتبطا بمطالبة الزوجة أو الزوج، وهذا التفريق لا يؤثر كذلك في عدد الطلاق، ولا يحرم الزوج من الفرص التي جعلها الشرع له.

حل العصمة الزوجية المعلق بالكفارة: وهو نوعان: الظهار والإيلاء فأحكامهما أقرب إلى مسائل الأيمان منها بمسائل الطلاق، وما دعانا إلى عدم إدراج هذا النوع في أنواع التفريق الأخرى، هو الحرص على بيان عدم تشابه هذا النوع مع سائر الأنواع، في حقيقته أو أحكامه، لأن بعض الفقهاء خلطوا أحكام هذا النوع بسائر الأحكام مما نشر الاعتقاد من أن هذا النوع طلاق كسائر الطلاق.

أما سائر الأنواع الأخرى التي ذكرها الفقهاء، وأدرجوها في الفسخ بسبب فساد الزواج أو بطلانه، فليست من هذا الباب لأن الزواج الباطل، وهو المجمع على بطلانه

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (37 )

بحسب تعريف الجمهور ليس زواجا، فلذلك لا يسمى التفريق فيه بأي اسم من الأسماء، لأن الأسماء الشرعية توضع للحقائق الشرعية لا لغيرها.

أما الزواج الفاسد، وهو المختلف فيه، والذي اعتبر فيه الفقهاء آراءهم ومذاهبهم كإجراء العقد بدون شهود، فإن المالكية قالوا: بصحة العقد من غير شهود، خلافا للجمهور، والزواج من أم المزني بها، والمنظور إليها بشهوة، فإن العقد عليها صحيح عند بعض الفقهاء فاسد عند بعضهم، فإن هذا النوع من الزواج لا يصح تسميته زواجا فاسدا، لأن من العلماء المجتهدين من يصححه، فلذلك الأرجح في تسميته هو أنه (زواج مختلف فيه)، وهذا الزواج لا يصح فسخه أو التفريق فيه بين الزوجين إلا إذا رأى ولي الأمر ذلك، فيكون من باب الولاية لا من باب الفتوى، لأن المفتي لا يحق له أن يفرض قناعته على غيره في المسائل المختلف فيها.

ثانيا ـ المقاصد الشرعية من أحكام الفرقة الزوجية

من حكم الشرع الجليلة أنه لم يقصر التفريق في الزواج على جنس دون جنس، بل وضع لكل من الرجل والمرأة النوع الذي يخصه من التفريق، وفي ذلك حكم جليلة ومقاصد الشريفة، سنذكر بعضها فيما يلي:

1 ـ حق الرجل في التفريق

لقد خص الشرع الرجل دون المرأة بالتطليق، وقد تحدث الفقهاء هنا عن الحكمة من اشتراط الذكورة في المطلق، ويمكن جمع الحكم المذكورة في ثلاثة حكم ترجع لثلاثة معان هي: طبيعة الرجل وطبيعة المرأة والتكاليف المعلقة على الرجل، فكل واحد من هذه الثلاثة يقتضي أن يجعل الطلاق بيد الرجل، لأنه من المفسدة العظيمة جعله بيد كليهما:

طبيعة الرجل:

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (38 )

فالرجل في مثل هذه الأمور أقوى وأكثر صبرا من المرأة، وأكثر احتمالا للأذى، وقد ذكرنا بعض مبررات ذلك في محله من هذه السلسلة.

التكاليف المالية التي أنيطت بالرجل:

وهي حق للمرأة، وهذه التكاليف قد تقف حاجزا بين الرجل وبين إيقاع الطلاق لأي نزوة،، فالشريعة قد كلفت الرجل بالإنفاق على المرأة وأولادها منه حال قيام الزوجية وبعدها، وكلفته بأن يبذل لها صداقاً قد يكون بعضه مؤجلاً إلى الطلاق، وأن يدفع لها أجرة حضانة ورضاع إن كان له منها أولاد في سن الحضانة والرضاع، وهذا كله يستلزم نفقات يجب أن يحسب حسابها بعد الفراق، فمن العدل أن يكون الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة، لأنه هو الذي يغرم المال.

طبيعة المرأة:

فالمرأة مهما أوتيت من حكمة فإنها سريعة التأثر بطبيعتها، فليس لها من الجلد والصبر مثل ما للرجل، فلو كان الطلاق بيدها فإنها تستعمله أسوأ استعمال لأنها لا تستطيع ضبط نفسها كما يستطيع الرجل، فمن العدل والمحافظة على استمرار الزوجية وبقائها أن يكون الطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة، زيادة على ذلك أنه ليس أمامها من التكاليف ما يحول بينها وبين إيقاع الطلاق، بل ربما زين لها غضبها إيقاع الطلاق لإرغام زوجها على دفع حقوقها لترهقه بذلك انتقاماً منه.

ثم إن من كرامة المرأة أن لا يكون الطلاق بيدها، لأنه لو كان بيدها، ولم تفارق زوجها بعد أي خلاف يحصل قد يشعرها ذلك بأنها تفرض نفسها على زوجها فرضا، فلذلك من كرامتها أن تجعل كون الأمر بيد زوجها ذريعة للحفاظ على تواجدها في بيت الزوجية.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (39 )

ومع ذلك فإن هناك بعض المفاسد التي قد تنتج عن الطلاق نتيجة سوء استخدامه من الرجل، ولكن تلك المفاسد لا يصح اعتبارها أصلا يلغى الطلاق بسببها لأن المفاسد الناتجة عن إلغائه أخطر وأكثر من المفاسد المتعلقة بوجوده، وقد ذكر ابن القيم تعارض المصالح والمفاسد في الطلاق، وبين رجحان المصالح فيها عند ذكره للحيلة السريجية، والتي يتوهم محتالوها أنه بها يمكن إلغاء الطلاق كلية، فلا يمكن للرجل تطليق زوجته، وتصوروا ذلك مصلحة محضة، فقال: (الشرائع العامة لم تبن على الصور النادرة، ولو كان لعموم المطلقين في هذا مصلحة لكانت حكمة أحكم الحاكمين تمنع الرجال من الطلاق بالكلية، وتجعل الزوج في ذلك بمنزلة المرأة لا تتمكن من فراق زوجها، ولكن حكمته تعالى أولى وأليق من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل مصلحة أكبر منها وأهم، وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما، ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما، وهكذا ما نحن فيه سواء؛ فإن مصلحة تمليك الرجال الطلاق أعلى وأكبر من مصلحة سده عليهم، ومفسدة سده عليهم أكبر من مفسدة فتحه لهم المفضية إلى ما ذكرتم. وشرائع الرب تعالى كلها حكم ومصالح وعدل ورحمة، وإنما العبث والجور والشدة في خلافها) (1)

ثم إن الواقع بعد هذا يدل على هذا فقد حرمت المسيحية الطلاق تحريماً باتاً عند الكاثوليك، وباستثناء علة الزنا عند الأورثوذكس، فكانت النتيجة أن خرج الكثير من المسيحيين على هذا التحريم، مما اضطر معظم الدول المسيحية إلى سن قوانين وضعية، تبيح لهم الطلاق بغير القيود التي شرعها الإسلام، فصاروا يطلقون لأتفه الأسباب، وأصبحت حياتهم الزوجية عرضة للانحلال في كل حين، بل صاروا يغيرون الزوجات كما يغيرون تسريحات الشعر وأنواع الثياب.

__________

(1) إعلام الموقعين:3/ 217.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (40 )

2 ـ حق المرأة في التفريق

وقد جعل الشرع للمرأة من الأسباب التي تحفظ حقها في التفريق بينها وبين زوجها ما يمنع من تسلط الزوج عليها، ويحفظ حقوقها، فلا تستشعر أي قيد يفرضه زوجها عليه غير القيود التي تحتمها العشرة الزوجية، وسنذكر هنا باختصار بعض هذه الأنواع، والتي سنفصل الحديث عنها في محلها من هذا الجزء:

تشريع الخلع:

وهو طلاق المرأة لزوجها ببذلها ما أعطاه لها من مهر، ولا يستغرب هذا التعريف للخلع، لأن التفاصيل التي ذكرها الفقهاء له، والتي سنراها في الفصل الخاص به تصب في ذلك.

وأسبابه لا تعدو من نفور المرأة من زوجها، وقد يكون نفورا ذوقيا لا مبرر له في الرجل، وقد وردت التعابير الكثيرة عن السلف ما يدل على ذلك، فقد قال الحسن البصري: (إذا قالت المرأة لا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة ولا أبر لك قسما حل الخلع (، وقال عطاء بن أبى رباح: (يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها: إنى أكرهك ولا أحبك (، وقال مالك: (لم أزل اسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا، وهو أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة، ولم يسئ إليها، ولم تؤت من قبله، وأحبت فراقه، فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، وإن كان النشوز من قبله بأن يضيق عليها ويضرها رد عليها ما أخذ منها) (1)

بل قد ورد في السنة ما يدل على ذلك، ففي الحديث الذي تستند إليه معظم التفاصيل الفقهية المتعلقة به نرى هذا الاعتبار، فقد جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت:

__________

(1) القرطبي:3/ 139.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (41 )

يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فردتها عليه، وأمره ففارقها. وفي رواية، فقال له: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) (1)

فقد كان سبب مخالعتها هو أنها كانت تبغضه أشد البغض، مع أنه كان يحبها أشد الحب ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما بطريق الخلع، كما روي عن ابن عباس قال: أول من خالع في الإسلام أخت عبد الله بن أبى، أتت النبى صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأسه أبدا، إنى رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، إذ هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها، فقال: أتردين عليه حديقته قالت: نعم، وإن شاء زدته، ففرق بينهما.

ولأجل كون العلة منها والنفور بسببها، فإن الحكمة تقتضي أن ترد عليه ما بذل لها عساه أن يتزوج غيرها، وإلا تضرر ضررا محضا، بل يصبح ذلك ملهاة فتتزوج المرأة متى تشاء، وتطلق متى أحبت دون أن تتضرر أدنى ضرر بينما يعاني الرجل الأمرين مرارة فراق زوجته، ومرارة خسارة ماله.

تشريع التفريق القضائي:

وقد شرع كبديل للخلع حتى لا تفقد المرأة حقها في مالها، وحتى لا يتسلط الزوج عليها، لأن ولي أمر المسلمين في تلك الحالة له الحق في فسخ الزواج بينها وبينه.

ومعظم دواعي التفريق القضائي تعود لمصلحة المرأة، كما سنرى، فمن ذلك مثلا التفريق لتضييق الرجل على زوجته في النفقة أو تفريطه فيها باعتباره قواما عليها، فقد نص الفقهاء على أن المرأة في هذه الحالة مخيرة بين الصبر عليه، وبين فراقه، وأن للقاضي أن يفرق بينهما لهذا العجز والإعسار كماله أن يفرق بينهما لامتناعه عن الإنفاق مع قدرته عليه

__________

(1) البخاري:5/ 2022، مجمع الزوائد: 5/ 4، البيهقي: 7/ 313، الدارقطني: 3/ 254، النسائي: 3/ 369، المجتبى: 6/ 169، ابن ماجة: 1/ 663، سنن سعيد بن منصور: 379، مصنف عبد الرزاق: 6/ 482، أحمد: 2/ 296، 4/ 3.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (42 )

واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة:229)، وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكا بمعروف، فيتعين التسريح، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد أطعمني واستعملني، ويقول الولد إلى من تدعني) (1)، وعن ابن أبي الزناد، قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، أيفرق بينهما؟ قال: نعم. قلت: سنة؟ قال: سنة، وهذا التعبير ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن ذلك التفريق لثبوت الضرر من الزوج، فقد نص الفقهاء على هذا الحق في مواضع مختلفة، بل ورد عن مالك أن للمرأة أن تطلق نفسها منه، من غير عوض، ففي العتبية من رواية عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب فيمن تشكت امرأته ضرره، فأشهد لها إن عاد فهي مصدقة في ذلك، وأمرها بيدها تطلق نفسها ألبتة، فأشهدت بعد أيام وزوجها غائب أن زوجها عاد إلى أذاها، وأنها طلقت نفسها، وأنكر الزوج أن يكون أذاها ثم قدمت المرأة وزعمت أنها كذبت فيما شكت من الأذى ولا يعرف ذلك إلا بقولها قال: قد بانت منه ولزمه ما قضت؛ لأنه جعلها مصدقة وقال مثله أشهب (2).

وغيرها من أنواع التفريق كالتفريق للعيوب والفقد والغيبة واللعان وغيرها، وكلها تصب في مصالح الزوجة، كما سنرى تفاصيلها في محلها.

ثالثا ـ أسس الترجيح في مسائل الطلاق

اختلفت مواقف الفقهاء من أحكام الطلاق اختلافا شديدا متباينا، بحيث كان فيها المتشدد الذي يسرع بالتطليق لأتفه الأسباب، ولأبسط الصيغ، بل يوقعه بائنا بينونة لا ينفك عنها

__________

(1) أخرجه البخارى (5/ 2048، رقم 5040)، وابن حبان (8/ 149 رقم 3363). وأخرجه أيضا: البيهقى (7/ 470، رقم 15488)

(2) المنتقى:4/ 65.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (43 )

إلا بتزوجها زوجا آخر، بل أزواجا آخرين كما في هذه المسألة التي نص عليها المالكية بقولهم: (إن شك أطلق زوجته طلقة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا؟ لم تحل إلا بعد زوج لاحتمال كونه ثلاثا، ثم إن تزوجها بعد زوج وطلقها طلقة أو اثنتين فلا تحل إلا بعد زوج، لاحتمال أن يكون المشكوك فيه اثنتين وهذه ثالثة، ثم إن تزوجها وطلقها لا تحل إلا بعد زوج، لاحتمال أن يكون المشكوك فيه واحدة وهاتان اثنتان محققتان، ثم إن طلقها ثالثة بعد زوج لم تحل إلا بعد زوج، لاحتمال أن يكون المشكوك فيه ثلاثا، وقد تحقق بعدها ثلاث وهكذا لغير نهاية، إلا أن يبت طلاقها كأن يقول أنت طالق ثلاثا، أو إن لم يكن طلاقي عليك ثلاثا فقد أوقعت عليك تكملة الثلاث، فينقطع الدور وتحل له بعد زوج هذه المسألة الدولابية، لدوران الشك فيها) (1)

وكما نص الحنفية في طلاق المخطئ أن من أراد أن يقول لامرأته اسقيني ماء فقال لها: أنت طالق، وقع، واستدلوا على ذلك بأن الفائت بالخطأ ليس إلا القصد، وهو ليس شرطا لوقوع الطلاق كالهازل واللاعب بالطلاق (2).

__________

(1) حاشية الصاوي: 2/ 590، وانظر: التاج والإكليل:4/ 88، الشرح الكبير: 2/ 403.

(2) بدائع الصنائع:3/ 101، ومما يروى من التساهل في الطلاق واللعب به أن رجلا من العرب طلق في يوم خمس نسوة. وذلك أنه دخل عليهن يوما فوجدهن متلاحيات متنازعات وكان شنظيرا. فقال: إلى متى هذا التنازع ما إخال هذا الأمر إلا من قبلك يقول ذلك لامرأة منهن اذهبي فأنت طالق. فقالت له صاحبتها: عجلت عليها الطلاق ولو أدبتها بغير ذلك لكنت حقيقا. فقال لها: وأنت أيضا طالق. فقالت الثالثة: قبحك الله فوالله لقد كانتا إليك محسنتين وعليك مفضلتين. فقال: وأنت أيتها المعددة أياديهما طالق أيضا. فقالت له الرابعة وكانت هلالية وفيها أناة شديدة: ضاق صدرك عن أن تؤدب نساءك إلا بالطلاق. فقال لها: وأنت طالق أيضا. وكان ذلك بمسمع جارة له فأشرفت عليه وقد سمعت كلامه فقالت: والله ما شهدت العرب عليك وعلى قومك بالضعف إلا لما بلوه منكم ووجدوه فيكم أبيت إلا طلاق نسائك في ساعة واحدة. قال: وأنت أيضا أيتها المؤنبة المتكلفة طالق إن أجاز زوجك. فأجابه من داخل بيته: هيه قد أجزت قد أجزت.

ومن ذلك أن المغيرة بن شعبة دخل على زوجته فارعة الثقفية وهي تتخلل حين انفتلت من صلاة الغداة فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام اليوم إنك لجشعة وإن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لبشعة كنت فبنت. فقالت: والله ما اغتبطنا إذا كنا ولا أسفنا إذ بنا وما هو لشيء مما ذكرت ولكني استكت فتخللت للسواك. فخرج المغيرة نادما على ما كان منه.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (44 )

ومنهم في مقابل ذلك من حاول أن يلغي الطلاق إلغاء كليا بوضع الصيغ التي تحبس صاحبها عن التعليق، وتجعل كل ما وضع الشارع من أساليب للتفريق بين الزوجين لغوا وهدارا، كهذه الصيغة المنسوبة لابن سريج، فقد نصوا على أنه لو قال: كلما طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا، لا يقع منه الطلاق بعد ذلك؛ لأنه لو وقع لزم وقوع ما علق به وهو الثلاث، وإذا وقعت الثلاث امتنع وقوع هذا المنجز، فوقوعه يفضي إلى عدم وقوعه، وما أفضى وجوده إلى عدم وجوده لم يوجد (1).

وذكر ابن دقيق العيد وجها آخر معاكسا لهذه الحيلة، فقال: (الحيلة في حل الدور: أن يعكس، فيقول: كلما لم يقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثا، فإذا طلقها وجب أن يقع الثلاث؛ لأن الطلاق القبلي - والحالة هذه - معلق على النقيضين، وهو الوقوع وعدمه وكل ما كان لازما للنقيضين، فهو واقع ضرورة، ويشبهه قولهم في الوكالة: كلما عزلتك، فأنت وكيلي، نفاذ العزل: أن يقول: كلما عدت وكيلي، فأنت معزول، ثم يعزله) (2)

وقد أضاف السيوطي إلى هذا نظائر أخرى، فقال: (ذكر نظائر هذه المسألة، قال: إن آليت منك، أو ظاهرت منك، أو فسخت بعيبك؛ أو لاعنتك، أو راجعتك فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم وجد المعلق به لم يقع الطلاق وفي صحته الأوجه) (3)، وبهذا شملت هذه الحيلة معظم ما وضعه الشرع من وسائل التفريق بين الزوجين، فينتفي ما وضعه الشارع من المصالح التي قد تدعو إليها الحاجة للتفريق.

وقد ذكر ابن تيمية السبب الداعي لوضع هذه الصيغة والاحتيال بها على عدم وقوع الطلاق، فقال: (وما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على دفع الطلاق

__________

(1) المنثور في القواعد الفقهية: 2/ 157.

(2) نقلا عن: الأشباه والنظائر: 381.

(3) الأشباه والنظائر: 381.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (45 )

أم قاله طردا لقياس اعتقد صحته، واحتال بها من بعده، لكني رأيت مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة، ومقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق، ولهذا صاغوها بقوله: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا؛ لأنه لو قالوا إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا لم تنفعه هذه الصيغة في الحيلة وإن كان كلاهما في الدور سواء) (1)

وبين هذين الموقفين المتناقضين وقف بعض العلماء مواقف نراها وسطية مقاصدية لا هي بالمتشددة، فتقطع العصمة بسبب وبغير سبب، ولا هي متراخية، فتزيل الطلاق بالكلية، وهذا الموقف يمثله علماء كثيرون ومن مذاهب مختلفة.

ومنهم ابن تيمية، وتبعه ابن القيم في كثير مما ذكره، بل زاد عليه في مسائل كثيرة، وقد كان موقفه من طلاق الغضبان داعية للرصافي لوضع قصيدة تمدحه، وترد في نفس الوقت على الفقهاء الذي يبالغون في إيقاع الطلاق، سنذكر منها هنا ما يتعلق بهذا الباب، قال الرصافي:

ألا قل في الطلاق لموقعيه... بما في الشرع ليس له وجوب

غلوتم في ديانتكم غلوا... يضيق ببعضه الشرع الرحيب

أراد الله تيسيرا وأنتم... من التعسير عندكم ضروب

وقد حلت بأمتكم كروب... لكم فيهن لا لهم الذنوب

وهي حبل الزواج ورق حتى... يكاد إذا نفخت له يذوب

كخيط من لعاب الشمس أدلت... به في الجو هاجرة حلوب

يمزقه من الأفواه نفث... ويقطعه من النسم الهبوب

 

وبعد أن ذكر مواقف الفقهاء المتشددة أتبعها بالثناء على ابن القيم وشيخه ابن تيمية،

__________

(1) الفتاوى الكبرى:4/ 142.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (46 )

بقوله:

فدى ابن القيم الفقهاء كم قد... دعاهم للصواب فلم يجيبوا

ففي إعلامه للناس رشد... ومزدجر لمن هو مستريب

نحا فيما أتاه طريق علم... نحاها شيخه الحبر الأديب

وبين حكم دين الله لكن... من الغالين لم تعه القلوب

لعل الله يحدث بعد أمرا... لنا فيخيب منهم من يخيب

 

هذا عند علماء المدرسة السنية، أما الإمامية فهم أوسع المذاهب الفقهية في باب الطلاق، وأقرب إلى مقاصد الشريعة في هذا الباب.

يقول علاء آل جعفر في كتابه (أصل الشيعة وأصولها) مبينا وجهة نظر الإمامية في مسائل الطلاق: (وعرفت أن من شأن ذلك الربط [أي عقد الزواج] وطبيعته ـ مع إرسال العقد وإطلاقه ـ أن يبقى ويدوم إلى الموت، بل وما بعد الموت، إلا أن يحصل له رافع يرفعه، وعامل يزيله، ولما كانت الحاجة والضرورة، والظروف والأحوال قد تستوجب حل ذلك الربط، وفك تلك العقدة، ويكون من صالح الطرفين أو أحدهما ذلك، لذلك جعل الشارع الحكيم أسباباً رافعة، وعوامل قاطعة، تقطع ذلك الحبل، وتفصل ذلك الوصل.

فإن كانت النفرة والكراهة من الزوج، فالطلاق بيده، وإن كانت من الزوجة فالخلع بيدها، وإن كان منهما فالمباراة بيدهما، ولكل واحد منها أحكام وشروط، ومواقع خاصة لا تتعداها، ولا يقوم سواها مقامها.

ولكن لما كان دين الاسلام ديناً اجتماعياً، وأساسه التوحيد والوحدة، وأهم مقاصده الاتفاق والإلفة، وأبغض الأشياء اليه التقاطع والفرقة، لذلك ورد في كثير من الأحاديث ما يدل على كراهة الطلاق والردع عنه، فكانت الحاجة والسعة على العباد، وجعلهم في فسحة من الأمر تقتضي بتشريعه، والرحمة والحكمة، وإرشاد العباد إلى مواضع جهلهم

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (47 )

بالعاقبة: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (النساء:19) كل ذلك يقتضي التحذير منه، والردع عنه، والأمر بالتروي والتبصر فيه) (1)

وانطلاقا من هذه النظرة المقاصدية حدد وجهة نظر الإمامية في مسائل الطلاق، فقال: (ونظراً لهذه الغاية، جعل الشارع الحكيم للطلاق قيوداً كثيرة، وشرط فيه شروطاً عديدة، حرصاً على تقليله وندرته، والشيء إذا كثرت قيوده، عز وجوده، فكان من أهم شرائطه ـ عند الإمامية ـ: حضور شاهدين عدلين: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم) (الطلاق:2)، فلو وقع الطلاق بدون حضورهما كان باطلاً، وفي هذا أبدع ذريعة، وأنفع وسيلة، إلى تحصيل الوئام، وقطع مواد الخصام بين الزوجين، فإن للعدول وأهل الصلاح مكانة وتاثيراً في النفوس، كما أن من واجبهم الإصلاح والموعظة، وإعادة مياه صفاء الزوجين المتخاصمين إلى مجاريها، فاذا لم تنجع نصائحهم ومساعيهم في كل حادثة، فلا أقل من التخفيف والتلطيف، والتأثير في عدد كثير) (2)

ثم ينتقد ما عليه الحال عند أهل السنة، فيقول: (وقد ضاعت هذه الفلسفة الشرعية على إخواننا من علماء السنة، فلم يشترطوا حضور العدلين، فاتسعت دائرة الطلاق عندهم، وعظمت المصيبة فيه، وقد غفل الكثير منا ومنهم عن تلك الحكم العالية، والمقاصد السامية، في أحكام الشريعة الإسلإمية، والأسرار الإجتماعية، التي لو عمل المسلمون بها لأخذوا بالسّعادة من جميع أطرافها، ولما وقعوا في هذا الشقاء التعيس، والعيش الخسيس، واختلال النظام العائلي في أكثر البيوت)

ثم ذكر بعض النواحي التي ذهب إليها الإمامية والتي تؤيد النظرة المقاصدية التي التزموها، فقال: (ومن أهم شرائط الطلاق أيضاً: أن لا يكون الزوج مكرهاً ومتهيجاً، أو

__________

(1) أصل الشيعة وأصولها: 278.

(2) أصل الشيعة وأصولها: 278.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (48 )

في حال غضب وانزعاج، وأن تكون الزوجة طاهرة من الحيض، وفي طهر لم يواقعها فيه. وقد اتفقت الإمامية أيضاً على أن طلاق الثلاث واحدة، فلو طلقها ثلاثاً لم تحرم عليه، ويجوز له مراجعتها، ولاتحتاج إلى محلل. نعم، لو راجعها ثم طلقها وهكذا ثلاثاً حرمت عليه في الطلاق الثالث، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ولو طلقها ثم راجعها تسع مرات مع تخلل المحلل حرمت عليه في التاسعة حرمة مؤبدة) (1)

495051

انطلاقا من هذا سنذكر هنا الأسس التي يقوم عليها ما نراه من ترجيحات في هذا الباب، وهي بالتالي نوع من الاستدلال على كل ما سنذكره:

الأساس الأول ـ اعتبار كل الاجتهادات الفقهية

وقد عبر القدماء عن هذه القاعدة بأن كل مجتهد مصيب، ونقصد بالمجتهد هنا من استكمل أدوات الاجتهاد، ونقصد بالاجتهادات ما كان من أهلها، ولو اعتبرها البعض شذوذا أو أقوالا ضعيفة لا سند لها، أو قولا مرجوحا، أو قولا مهجورا، لأن هذه الأقوال جميعا قد يكون فيها وجه من الحق يستدعي ترجيح العمل بها في حاجة من الحاجات أو لمصلحة من المصالح.

وقد أشار إلى هذا الأساس ابن القيم، بل اعتمده ـ مع قوله بعدم صحة اعتبار أن كل مجتهد مصيب ـ وذلك عند بيانه لمخارج الطلاق، فقد عقد فصولا مهمة للمخارج من الوقوع في التحليل، قال في مقدمتها: (أي قول من أقوال المسلمين خرج به من لعنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أعذر عند الله ورسوله وملائكته وعباده المؤمنين من ارتكابه لما يلعن عليه،

__________

(1) أصل الشيعة وأصولها: 280.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (52 )

ومباءته باللعنة) (1)

ثم ذكر مصدره الذي اعتمده لاستنباط هذه المخارج، فقال: (فإن هذه المخارج التي نذكرها دائرة بين ما دل عليه الكتاب والسنة أو أحدهما أو أفتى به الصحابة، بحيث لا يعرف عنهم فيه خلاف، أو أفتى به بعضهم، أو هو خارج عن أقوالهم، أو هو قول جمهور الأمة أو بعضهم أو إمام من الأئمة الأربعة، أو أتباعهم أو غيرهم من علماء الإسلام، ولا تخرج هذه القاعدة التي نذكرها عن ذلك، فلا يكاد يوصل إلى التحليل بعد مجاوزة جميعها إلا في أندر النادر، ولا ريب أن من نصح لله ورسوله وكتابه ودينه، ونصح نفسه ونصح عباده أن أيا منها ارتكب فهو أولى من التحليل) (2)

وهذه القاعدة تستدعي إحسان الظن بالعلماء، واللجوء إليهم على اختلاف مذاهبهم لعلاج المشكلات الواقعية، وإصلاح ما يفسده المتعصبون الذين يفتون بآرائهم، أو بما يفهمونه من الأدلة، بغض النظر عن الواقع وحاجات الناس ومصالحهم.

وقد نص ابن القيم على أنه إذا حلف بالطلاق ألا يكلم فلانا أو لا يدخل داره، فأفتاه مفت بعدم وقوع الطلاق في هذه اليمين، اعتقادا لقول علي بن أبي طالب وطاوس وشريح، أو اعتقادا لقول أبي حنيفة والقفال في صيغة الالتزام دون صيغة الشرط، أو اعتقادا لقول أشهب أنه إذا علق الطلاق بفعل الزوجة أنه لم يحنث بفعلها، أو اعتقادا لقول أبي عبد الرحمن الشافعي أجل أصحاب الشافعي إن الطلاق المعلق لا يصح كما لا يصح النكاح والبيع والوقف المعلق، وهو مذهب جماعة من أهل الظاهر.

قال ابن القيم: (لم يحنث في ذلك كله، ولم يقع الطلاق، ولو فرض فساد هذه الأقوال كلها فإنه إنما فعل المحلوف عليه متأولا مقلدا ظانا أنه لا يحنث به، فهو أولى بعدم الحنث

__________

(1) إعلام الموقعين: 4/ 47.

(2) إعلام الموقعين: 4/ 47.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (53 )

من الجاهل والناسي، وغاية ما يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يستقص، ولم يسأل غير من أفتاه، وهذا بعينه يقال في الجاهل إنه مفرط حيث لم يبحث، ولم يسأل عن المحلوف عليه، فلو صح هذا الفرق لبطل عذر الجاهل ألبتة، فكيف والمتأول مطيع لله مأجور إما أجرا واحدا أو أجرين؟) (1)

ثم ساق الأمثلة الكثيرة على عدم مؤاخذة المقلد أو المتأول، ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤاخذ خالدا في تأويله حين قتل بني جذيمة بعد إسلامهم، ولم يؤاخذ أسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله لأجل التأويل، ولم يؤاخذ من أكل نهارا في الصوم عمدا لأجل التأويل، ولم يؤاخذ أصحابه حين قتلوا من سلم عليهم، وأخذوا غنيمته لأجل التأويل، ولم يؤاخذ المستحاضة بتركها الصوم والصلاة لأجل التأويل، ولم يؤاخذ عمر حين ترك الصلاة لما أجنب في السفر، ولم يجد ماء، ولم يؤاخذ من تمعك في التراب كتمعك الدابة وصلى لأجل التأويل، ولم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمر حين رمى حاطب بن أبي بلتعة المؤمن البدري بالنفاق لأجل التأويل، ولم يؤاخذ أسيد بن حضير بقوله لسعد سيد الخزرج: (إنك منافق تجادل عن المنافقين) لأجل التأويل، ولم يؤاخذ من قال عن مالك بن الدخشم: (ذلك المنافق نرى وجهه وحديثه إلى المنافقين) لأجل التأويل.

قال ابن القيم بعد عرضه لهذه الأدلة وغيرها على عدم المؤاخذة بالتأويل والتقليد: (فلا يحل لأحد أن يفرق بين رجل وامرأته لأمر يخالف مذهبه وقوله الذي قلد فيه بغير حجة؛ فإذا كان الرجل قد تأول وقلد من أفتاه بعدم الحنث فلا يحل له أن يحكم عليه بأنه حانث في حكم الله ورسوله، ولم يتعمد الحنث، بل هذه فرية على الله ورسوله وعلى

__________

(1) إعلام الموقعين: 4/ 89.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (54 )

الحالف، وإذا وصل الهوى إلى هذا الحد فصاحبه تحت الدرك، وله مقام، وأي مقام بين يدي الله يوم لا ينفعه شيخه ولا مذهبه ومن قلده) (1)

واعتبار أن كل مجتهد مصيب، له قيمة عظيمة فيما يسمى بالاجتهاد الانتقائي الذي يختار المفتي فيه أصلح ما يراه للناس، ويعتبر المذاهب المختلفة كلها وجوها من الشريعة يضع كل واحد منها في موضعه الخاص.

ولعل أحسن من استدل لهذه القاعدة، وانتصر لها في واقع كان يموج بالتعصب للمذاهب المختلفة هو الإمام أبو حامد الغزالي، وسنذكر هنا أدلته على هذه القاعدة، وإجابته عن الشبه التي أثارها المخالفون، وهي عين الشبه التي ينطلق منها من يفتي جميع الناس بقول واحد، ويداوي أمراضهم جميعا بعلاج واحد، فيشفي قوما، ويقتل أقواما.

قال الغزالي بعد ذكره للخلاف في المسألة: (والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطئ المخالف فيه أن كل مجتهد في الظنيات مصيب وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى) (2)، ثم ساق الأدلة على اعتبار هذه القاعدة، فقسم الأدلة التي يستدل بها الفقهاء إلى نوعين من الأدلة:

النوع الأول: أدلة نصية قاطعة لا مجال فيها للنظر، ولا يصح الخطأ فيها إلا مع عدم بلوغها، وهو ما إذا كان في المسألة نص للشارع أخطأه المجتهد، قال الغزالي: (ينظر، فإن كان النص مما هو مقدور على بلوغه لو طلبه المجتهد بطريقه فقصر ولم يطلب فهو مخطئ وآثم بسبب تقصيره؛ لأنه كلف الطلب المقدور عليه فتركه فعصى وأثم وأخطأ حكم الله تعالى عليه) (3)

__________

(1) إعلام الموقعين: 4/ 90.

(2) المستصفى: 1/ 352.

(3) المستصفى: 1/ 352.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (55 )

فالخطأ فيه هذه الحالة معتبر، ولا يصح القول معها بأن كل مجتهد مصيب، لأن هناك مرجعا ينبغي أن يرجع إليه المجتهد، ولكنه لم يفعل، أما إذا لم يبلغه النص لا لتقصير من جهته لكن لعائق من جهة بعد المسافة وتأخير المبلغ والنص قبل أن يبلغه ليس حكما في حقه فهذا يختلف حكمه، قال الغزالي: (قد يسمى مخطئا مجازا على معنى أنه أخطأ بلوغ ما لو بلغه لصار حكما في حقه، ولكنه قبل البلوغ ليس حكما في حقه فليس مخطئا حقيقة؛ وذلك أنه لو صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس بعد أن أمر الله تعالى جبريل أن ينزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويخبره بتحويل القبلة فلا يكون النبي مخطئا؛ لأن خطاب استقبال الكعبة بعد لم يبلغه فلا يكون مخطئا في صلاته، فلو نزل فأخبره وأهل مسجد قباء يصلون إلى بيت المقدس ولم يخرج بعد إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا مناد من جهته فليسوا مخطئين، إذ ذلك ليس حكما في حقهم قبل بلوغه؛ فلو بلغ ذلك أبا بكر وعمر واستمر سكان مكة على استقبال بيت المقدس قبل بلوغ الخبر إليهم فليسوا مخطئين؛ لأنهم ليسوا مقصرين) (1)

النوع الثاني: المسائل غير النصية، وهي التي لا نص فيها، وهي موضع الكلام في هذه القاعدة، وإليها ترجع أكثر الاختلافات الفقهية، وقد بدأ الغزالي استدلاله على هذا النوع بهذا التساؤل الوجيه: (كيف يتصور الخطأ فيها؟) (2) أو بعبارة أكثر وضوحا: ما هو المرجع الذي نفرق به بين الاجتهاد المصيب والاجتهاد المخطئ مع عدم الدليل النصي.

وقد وضع الغزالي الاحتمالات الممكنة في ذلك، وأجاب عنها، فقال: (فإن قيل: فرضتم المسألة حيث لا دليل على الحكم المنصوص ونحن نخطئه إذا كان عليه دليل ووجب عليه طلبه فلم يعثر عليه، قلنا: عليه دليل قاطع أو دليل ظني؟ فإن كان عليه دليل قاطع فلم يعثر عليه وهو قادر عليه فهو آثم عاص ويجب تأثيمه وحيث وجب تأثيمه وجبت تخطئته

__________

(1) المستصفى: 1/ 352.

(2) المستصفى: 1/ 353.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (56 )

كانت المسألة فقهية أو أصولية أو كلامية، وإنما كلامنا في مسائل ليس عليها دليل قاطع، ولو كان لنبه عليه من عثر عليه من الصحابة غيره ولشدد الإنكار عليهم، فإن الدليل القاطع في مثل هذه المسألة نص صريح أو في معنى المنصوص على وجه يقطع به ولا يتطرق الشك إليه والتنبيه على ذلك سهل، أفيقولون: لم يعثر عليه جميع الصحابة م فأخطأ أهل الإجماع الحق أو عرفه بعضهم وكتمه أو أظهره فلم يفهمه الآخرون أو فهموه فعاندوا الحق وخالفوا النص الصريح وما يجري مجراه؟ وجميع هذه الاحتمالات مقطوع ببطلانها) (1)

ثم ذكر انطلاقا من أن معظم المسائل الفقهية مسائل ظنية، بسببها وقع الخلاف، وليس هناك مرجع يرجع إليه في إثبات المصيب، فإن القول بتخطئة واحد منهم تخطئة مطلقة لا يصح، قال الغزالي: (ومن نظر في المسائل الفقهية التي لا نص فيها علم ضرورة انتفاء دليل قاطع فيها، وإذا انتفى الدليل فتكليف الإصابة من غير دليل قاطع تكليف محال، فإذا انتفى التكليف انتفى الخطأ) (2)

وقد يحتج هنا من يبالغ في القول بقطعية الظني بناء على قناعته الشخصية، وهو ما يحصل الآن في أكثر مواطن الخلاف، قال الغزالي ردا على هذه الشبهة: (الأمارات الظنية ليست أدلة بأعيانها، بل يختلف ذلك بالإضافات، فرب دليل يفيد الظن لزيد وهو بعينه لا يفيد الظن لعمرو مع إحاطته به، وربما يفيد الظن لشخص واحد في حال دون حال، بل قد يقوم في حق شخص واحد في حال واحدة في مسألة واحدة دليلان متعارضان كان كل واحد لو انفرد لأفاد الظن ولا يتصور في الأدلة القطعية تعارض) (3)

ثم ذكر مثالا على ذلك لا يختلف فيه، وهو من مواقف الصحابة وهو أن أبا بكر رأى

__________

(1) المستصفى: 1/ 353.

(2) المستصفى: 1/ 353.

(3) المستصفى: 1/ 353.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (57 )

التسوية في العطاء، إذ قال: (الدنيا بلاغ، كيف وإنما عملوا لله عز وجل وأجورهم على الله)، أما عمر فنظر إلى المسألة من زاوية مختلفة فقال: (كيف تساوي بين الفاضل والمفضول؟)، فقد رأى التفاوت لكون ذلك ترغيبا في طلب الفضائل، ولأن أصل الإسلام وإن كان لله فيوجب الاستحقاق، قال الغزالي تعليقا على هذين الموقفين المتناقضين: (والمعنى الذي ذكره أبو بكر فهمه عمر ما ولم يفده غلبة الظن وما رآه عمر فهمه أبو بكر ولم يفده غلبة الظن ولا مال قلبه إليه)

ثم بين أن العلة في ذلك اختلاف الطبائع والمشارب، ويصعب مع هذا الاختلاف حمل الناس كلهم على رأي واحد وفهم واحد، فقال: (وذلك لاختلاف أحوالهما، فمن خلق خلقة أبي بكر في غلبة التأله وتجريد النظر في الآخرة غلب على ظنه لا محالة ما ظنه أبو بكر ولم ينقدح في نفسه إلا ذلك، ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته في الالتفات إلى السياسة ورعاية مصالح الخلق وضبطهم وتحريك دواعيهم للخير فلا بد أن تميل نفسه إلى ما مال إليه عمر مع إحاطة كل واحد منهما بدليل صاحبه، ولكن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون) (1)

ثم ذكر أن هذا الاختلاف الذي يرجع للطبائع والمشارب هو الذي يتحكم في أكثر الاختلافات، قال: (فمن مارس علم الكلام ناسب طبعه أنواع من الأدلة يتحرك بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه، ولذلك من مارس الوعظ صار مائلا إلى جنس ذلك الكلام بل يختلف باختلاف الأخلاق، فمن غلب عليه الغضب مالت نفسه إلى كل ما فيه شهامة وانتقام، ومن لان طبعه ورق قلبه نفر عن ذلك ومال إلى ما فيه الرفق والمساهلة،

__________

(1) المستصفى: 1/ 354.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (58 )

فالأمارات كحجر المغناطيس تحرك طبعا يناسبها كما يحرك المغناطيس الحديد دون النحاس) (1)

وانطلاقا من هذه المقدمات يذكر الغزالي السبب الذي جعل الفقهاء يتصورون أدلتهم الخلافية أدلة قطعية، يضيقون بها على غيرهم، ويتعصب لها من يتعصب زاعما الخطأ في غيرها، وأنه لا دليل سواها، فيقول (أصل الخطأ في هذه المسألة إقامة الفقهاء للأدلة الظنية وزنا حتى ظنوا أنها أدلة في أنفسها لا بالإضافة، وهو خطأ محض يدل على بطلانه البراهين القاطعة) (2)

ومن الشبه التي قد تعترض بعد هذا، وهي من الشبه التي نجد بعض الفقهاء على أساسها يتنابزون بالألقاب، وينكر كل واحد على الآخر الخطأ في فهم المسألة مع وضوحها، وهو أن الأدلة مع قطعيتها قد تكون غامضة، فيدركها قوم دون قوم، فمن أدركها كان الصواب معه، ومن أخطأها كان مخطئا يلزم تنبيهه.

وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بقوله: (الشيء ينقسم إلى معجوز عنه ممتنع وإلى مقدور عليه على يسر وإلى مقدور عليه على عسر؛ فإن كان درك الحق المعين معجوزا عنه ممتنعا فالتكليف به محال، وإن كان مقدورا على يسر فالتارك له ينبغي أن يأثم قطعا لأنه ترك ما قدر عليه وقد أمر به، وإن كان مقدورا على عسر فلا يخلو إما أن يكون العسر صار سببا للرخصة وحط التكليف كإتمام الصلاة في السفر أو بقي التكليف مع العسر، فإن بقي التكليف مع العسر فتركه مع القدرة إثم كالصبر على قتال الكفار مع تضاعف عددهم فإنه شديد جدا وعسير ولكن يعصي إذا تركه.. وكذلك الحق في المسائل الفقهية مع العسر إن أمر به فالمخطئ آثم فيه وإن لم يؤمر بإصابة الحق، بل بحسب غلبة الظن فقد أدى ما كلف

__________

(1) المستصفى: 1/ 354.

(2) المستصفى: 1/ 354.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (59 )

وأصاب ما هو حكم في حقه وأخطأ ما ليس حكما في حقه، بل هو بصدد أن يكون حكما في حقه لو خوطب به أو نصب على معرفته دليل قاطع) (1)

ثم لخص هذا التوجيه للمسألة وبيان أثرها بقوله: (وهذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل منصف ويرد النزاع إلى عبارة، وهو أن ما ليس حكما في حقه قد أخطأه، وذلك مسلم ولكنه نوع مجاز كتخطئة المصلي إلى بيت المقدس قبل بلوغ الخبر، ثم هذا المجاز أيضا إنما ينقدح في حكم نزل من السماء ونطق به الرسول كما في تحويل القبلة ومسألة المخابرة، أما سائر المجتهدات التي يلحق فيه المسكوت بالمنطوق قياسا واجتهادا فليس فيها حكم معين أصلا، إذ الحكم خطاب مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع وليس فيها خطاب ونطق فلا حكم فيها أصلا إلا ما غلب على ظن المجتهد) (2)

هذا ما ذكره الغزالي من أدلة، ونرى أنه من الناحية العملية، ولو مع عدم القول بهذا، فقد نص كثير من العلماء على أنه لا الإنكار في المسائل المختلف فيها، فلا يصح الإنكار على من أخذ بقول من الأقوال لأي قناعة من القناعات، قال السيوطي: (الإنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه، فأما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصا أو إجماعا قطعيا أو قياسا) (3)

ونختم هذا الأساس بمقولة لها قيمة كبيرة في التعامل مع النصوص بها يمكن التوفيق بين الأقوال المختلفة، نوجهها خاصة لمن يزعم الانفراد بفهم النصوص، وكأن الكتاب والسنة حكر عليه، وهي لإمام من أئمة الزيدية، هو أحمد بن يحي بن المرتضى قال:

__________

(1) المستصفى: 1/ 354.

(2) المستصفى: 1/ 354.

(3) المنثور في القواعد الفقهية: 2/ 140.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (60 )

(ولا يمتنع أن يخاطبنا الله بخطاب يختلف مفهومه، ويريد من كل ما فهمه لجواز تعلق المصلحة به) (1)

فكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يحيط به فهم، أو يحده قول، أو يحصيه مذهب.

الأساس الثاني ـ أن الفقه ليس محصورا في المذاهب الأربعة

وهذا الأساس هو الذي دعانا للبحث في أقوال السلف، ولو لم يقل بها إمام من أئمة المذاهب الأربعة، لأن البعض يتعامل مع هذه المذاهب، وكأن اتفاقها إجماع يحرم خرقه، ويعتبر شاذا من لا يقول به، ثم ينتقون من أقوال هذه المذاهب ما يرونه معتمدا أو مشهورا أو عليه العمل، ويعتبرون ما عداه ضعيفا أو مهجورا مع أنه قد يهجر في زمان ليحيا في غيره، أو يضعف مع شخص ليقوى مع غيره.

ولأجل هذا الأساس لم نعتبر رجحان قول من الأقوال المذكورة في هذا الباب إلا وله سنده من أقوال السلف، وخاصة ابن عباس وتلاميذه، والتي لا يصح القول بأن ابن عباس تراجع عنها، فالأسانيد تثبت صحة ما ذكره وتنفي تراجعه.

وقد أشار كثير من العلماء لهذا الاعتبار مع وضوحه وعدم الحاجة إلى البرهنة عليه، وقد عقد له ابن القيم فصلا في الإعلام قال فيه: (فصل: القول في جواز الفتوى بالآثار السلفية والفتاوي الصحابية، وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قربها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين، وهلم جرا وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب، وهذا حكم بحسب الجنس لا بحسب كل

__________

(1) البحر الزخار: 1/ 195.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (61 )

فرد فرد من المسائل، كما أن عصر التابعين، وإن كان أفضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص، ولكن المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم؛ فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين) (1)

ثم بين خطأ الاقتصار في الفتوى على مذاهب المتأخرين وهجر أقوال المتقدمين مع كونها أقرب لزمن الوحي، فقال: (ولعله لا يسع المفتي والحاكم عند الله أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الأئمة ويأخذ برأيه وترجيحه ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري، وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر المروزي، وأمثالهم، بل يترك قول ابن المبارك والأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة، وأمثالهم، بل لا يلتفت إلى قول ابن أبي ذئب والزهري والليث بن سعد، وأمثالهم، بل لا يعد قول سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وسالم وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وشريح، وأبي وائل وجعفر بن محمد، وأضرابهم مما يسوغ الأخذ به، بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلده على فتوى أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب، وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبادة بن الصامت، وأبي موسى الأشعري، وأضرابهم، فلا يدري ما عذره غدا عند الله إذا سوى بين أقوال أولئك وفتاويهم، وأقوال هؤلاء وفتاويهم، فكيف إذا رجحها عليها؟ فكيف إذا عين الأخذ بها حكما، وإفتاء، ومنع الأخذ بقول الصحابة،

__________

(1) إعلام الموقعين: 4/ 118.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (62 )

واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها، وشهد عليه بالبدعة والضلالة ومخالفة أهل العلم) (1)

وما ذكره ابن القيم يصدق على كثير من الآراء التي سنراها، التي زعم فيها الإجماع، واعتبر الخلاف فيها شذوذا مع أنه يتصدر القائلين بها جبال من رجال السلف، وكأن تلك الجبال سراب لم يلتفت إليه عند الحكم بدعوى الإجماع.

بل إن ابن القيم يذهب إلى أكثر من ذلك، حيث أنه يرى جواز الأخذ بقول الشيعة الإمامية في مسائل الخلاف، وأنه لا فرق في ذلك بينهم وبين سائر المذاهب الإسلامية، يقول في كتابه [الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة] عند بيانه لبعض مخارج الطلاق: (الوجه التاسع: إن فقهاء الإمامية من أولهم إلى آخرهم ينقلون عن أهل البيت أنه لا يقع الطلاق المحلوف به وهذا متواتر عندهم عن جعفر بن محمد وغيره من أهل البيت، وهب أن مكابرا كذبهم كلهم وقال قد تواطئوا على الكذب عن أهل البيت ففي القوم فقهاء وأصحاب علم ونظر في اجتهاد وإن كانوا مخطئين مبتدعين في أمر الصحابة فلا يوجب ذلك الحكم عليهم كلهم بالكذب والجهل، وقد روى أصحاب الصحيح عن جماعة من الشيعة وحملوا حديثهم واحتج به المسلمون ولم يزل الفقهاء ينقلون خلافهم ويبحثون معهم والقوم وإن أخطأوا في بعض المواضع لم يلزم من ذلك أن يكون جميع ما قالوه خطأ حتى يرد عليهم هذا لو انفردوا بذلك عن الأمة فكيف وقد وافقوا في قولهم من قد حكينا قولهم وغيره ممن لم تقف على قوله) (2)

ولست أدري ما يجيب به من يزعمون أنهم أتباع لابن القيم عن قوله هذا، وهم يعتبرون الشيعة أصحاب دين آخر، لا علاقه له بالإسلام، ولا بالدين الذي يدينون به..

__________

(1) إعلام الموقعين: 4/ 118.

(2) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 616)

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (63 )

وهذا يدل على مزاجيتهم واتباعهم لأهوائهم، وأنه لا علاقة لهم بمن يزعمون أنهم يتبعونهم.

الأساس الثالث ـ أن الورع هو حفظ كيان الأسرة المسلمة

وسبب اعتبار هذا أساسا من الأسس التي يعتمد عليها في الترجيح أو الإفتاء في هذا الباب هو ذلك الورع البارد الذي يحمل البعض على الإسراع بالإفتاء بالتطليق خشية أن تصبح معاشرة المستفتي مع زوجته معاشرة سفاح، وأن يصبح أولادهما أولاد زنى، فيفتي بالطلاق كما يفتي ببطلان الصلاة، متصورا أن كلتا النتيجتين واحدة، بل إنه في الصلاة قد يبرز تضلعه الفقهي ليبين للعامي كيف يرقع صلاته، ويبذل من الجهد في ذلك ما لو بذل عشره لحمى بيوت المسلمين من التصدع.

والورع في هذا الباب كما نراه ليس في التفريق بين المرء وزوجه وإنما في البحث المضني وببذل أقصى الطاقة لإرجاعه لزوجته إرجاعا شرعيا، ولو بغير ما يقتنع به من أقوال الفقهاء، فقناعته لا ينبغي أن تتحكم في مصالح المسلمين.

وقد قال الإمام أحمد، مبينا موضع الورع الحقيقي في هذا الباب: (الذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر الطلاق قد أتى خصلتين: حرمها عليه، وأحلها لغيره، فهذا خير من هذا، وأنا اتقي جميعها) (1)

وبين ابن القيم أن هذا هو سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب، فللورع ميادينه الخاصة التي لا يصح تجاوزها، قال ابن القيم: (فعند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السعة والرحمة وعند غيره الشدة والنقمة، فما جاءه مكروب إلا وجد عنده تفريج كربته ولا لهفان إلا وجد عنده إغاثة لهفته، فما فرق بين زوجين إلا عن وطر واختيار، ولا شتت شمل محبين إلا عن إرادة منهما وإيثار،

__________

(1) طلاق الغضبان:45.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (64 )

ولم يخرب ديار المحبين بغلظ اللسان ولم يفرق بينهم بما جرى عليه من غير قصد الإنسان، بل رفع المؤاخذة بالكلام الذي لم يقصده بل جرى على لسانه بحكم الخطأ والنسيان أو الإكراه والسبق على طريق الاتفاق) (1)

ونذكر هنا للاستدلال على هذا الأساس ما أورده الغزالي من ردود على الشبه التي يستند إليها أهل هذا النوع من الورع، وعلى أساسها قد يلزمون أنفسهم وغيرهم قولا واحدا يأبون ما عداه، وسنسوق ما ذكره من شبه ثم رده عليها:

وقد قسم الشبه التي أوردها المخالفون من المتشددين في التزام الأقوال إلى قسمين نذكرهما فيما يلي:

الشبه العقلية:

وقد أورد أربع شبه، نقتصر منها على الشبهتين التاليتين، لعلاقتها بالموضوع:

الشبهة الأولى:

أن هذا المذهب في نفسه محال لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو أن يكون قليل النبيذ مثلا حلالا حراما، والنكاح بلا ولي صحيحا باطلا، والمسلم إذا قتل كافرا مهدرا ومقادا إذ ليس في المسألة حكم معين وكل واحد من المجتهدين مصيب، فإذا الشيء ونقيضه حق وصواب، وقد قال بعضهم: هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقا وبالآخر يرفع الحجر ويخير بين الشيء ونقيضه عند تعارض الدليلين ويخير المستفتي لتقليد من شاء وينتقي من المذاهب أطيبها عنده (2).

وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بالتنبيه إلى نوع الخطاب بالحكم الشرعي، فهو ليس كما يظن من أورد هذه الشبهة، بل ما يعتقده الكثير من الناس من أنه يتعلق بالأعيان،

__________

(1) طلاق الغضبان:25.

(2) المستصفى: 1/ 355.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (65 )

بل إن الشرع علقه بأفعال المكلفين، فلذلك لا يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم على عمرو، فالمرأة تحل للزوج وتحرم على الأجنبي، والميتة تحل للمضطر دون المختار، والصلاة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض.

والتناقض الحقيقي ليس في هذا، وإنما هو أن يجتمع التحليل والتحريم في حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد، فإذا تطرق التعدد والانفصال إلى شيء من هذه الجملة انتفى التناقض، فالصلاة في الدار المغصوبة حرام وقربة في حالة واحدة لشخص واحد لكن من وجه دون وجه، فاختلاف الأحوال ينفي التناقض.

وهذا عام في الأحوال المختلفة والأسباب المختلفة، ولا فرق بين أن يكون اختلاف الأحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر أو بالعلم والجهل أو غلبة الظن، فالصلاة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا جهل كونه محدثا.

وبناء على هذا نص الغزالي على وجه الورع في التزام الأقوال، فليس الورع فيها بمراعاة أعيانها، وإنما بالقناعة التي ينطلق صاحبها منها، والتي تختلف باختلاف الأحوال، يقول الغزالي: (ولو قال الشارع: يحل ركوب البحر لمن غلب على ظنه السلامة ويحرم على من غلب على ظنه الهلاك فغلب على ظن الجبان الهلاك وعلى ظن الجسور السلامة حرم على الجبان وحل للجسور لاختلاف حالهما وكذلك لو صرح الشارع وقال: من غلب على ظنه أن النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه ومن غلب على ظنه أنه بالمباحات أشبه فقد حللته له لم يتناقض) (1)

وبناء على هذا المثال يتوجه ما ذكرنا من اعتبار الأحوال المختلفة التي لا يجدي معها التعصب لقول بعينه.

ثم إن الغزالي بأسلوبه الجدلي على طريقة المتكلمين سلم لأصحاب الشبهة ما أوردوه

__________

(1) المستصفى: 1/ 355.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (66 )

من اعتبار الحل والحرمة وصفا للأعيان، ورد بأن القول بذلك أيضا لا يتناقض مع ما ذكره، لأنه يكون من الأوصاف الإضافية، فلا يتناقض عقلا أن يكون الشخص الواحد أبا ابنا لكن لشخصين وأن يكون الشيء مجهولا ومعلوما لكن لاثنين وتكون المرأة حلالا حراما لرجلين كالمنكوحة حرام للأجنبي حلال للزوج والميتة حرام للمختار حلال للمضطر.

الشبهة الثانية:

وهي الشبهة التي يتمسك بها المغالون في التعصب للمذاهب الفقهية بحيث يعتبرون الخروج عن الالتزام بها بدعة، وقد عبر الغزالي عن هذه الشبهة في واقع كان يموج بالتعصب المذهبي، وهو في ذلك لا يبتعد عن واقع كثير من المجتمعات الإسلامية المحافظة اليوم، فقال: (لو صح ما ذكرتموه لجاز لكل واحد من المجتهدين في القبلة والإناءين إذا اختلف اجتهادهما أن يقتدي بالآخر؛ لأن صلاة كل واحد صحيحة، فلم لا يقتدي بمن صحت صلاته؟ وكذلك ينبغي أن يصح اقتداء الشافعي بحنفي إذا ترك الفاتحة، وصلاة الحنفي أيضا صحيحة؛ لأنه بناها على الاجتهاد، فلما اتفقت الأمة على فساد هذا الاقتداء دل على أن الحق واحد) (1)

وقد رد الغزالي على هذه الشبة بأن الاتفاق في هذا غير مسلم، لأن كل مصل يصلي لنفسه ولا يجب الاقتداء إلا بمن هو في صلاة، وصلاة الإمام غير مقطوع ببطلانها فكيف يمتنع الاقتداء؟

ومثل هذا يجاب عنه في كثير من مسائل الطلاق كما سنرى، لأن الزعم باعتبار بقائه مع زوجته سفاحا قول من أقوال مذهبه الذي يأتم به، ويصح له أن يأتم بغيره ويتفادى وقوع الطلاق، ويكون مع ذلك ورعا، لأنه لم يخرج من أحكام الشريعة.

الشبه النقلية:

__________

(1) المستصفى: 1/ 357.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (67 )

وقد ذكر الغزالي خمس شبه نوردها جميعا فيما يلي (1):

الشبهة الأولى: وهي الاستدلال بقوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 78،79)، ووجه الدليل أن فيها اختصاص سليمان عليه السلام بمدرك الحق وأن الحق واحد.

وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بالوجوه التالية:

الوجه الأول: أنه من أين صح أنهما بالاجتهاد حكما، ومن العلماء من منع اجتهاد الأنبياء عقلا ومنهم من منعه سمعا ومن أجاز أحال الخطأ عليهم، فكيف ينسب الخطأ إلى داود عليه السلام ومن أين يعلم أنه قال ما قال عن اجتهاد؟

الوجه الثاني: أن الآية أدل على نقيض مذهبهم إذ قال تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} والباطل والخطأ يكون ظلما وجهلا لا حكما وعلما، ومن قضى بخلاف حكم الله تعالى لا يوصف بأنه حكم الله وأنه الحكم والعلم الذي آتاه الله لا سيما في معرض المدح والثناء.

الوجه الثالث: وهو أنه يحتمل أنهما كانا مأذونين في الحكم باجتهادهما فحكما وهما محقان، ثم نزل الوحي على وفق اجتهاد سليمان عليه السلام فصار ذلك حقا متعينا بنزول الوحي.

الشبهة الثانية: وهي الاستدلال بقوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83) وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران:7) ووجه الدليل أن في مجال النظر حقا متعينا يدركه المستنبط.

وقد رد الغزالي على هذه الشبهة بالوجهين التاليين:

__________

(1) انظر: المستصفى: 1/ 359.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (68 )

الوجه الأول: أنه ربما أراد به الحق فيما الحق فيه واحد من العقليات والسمعيات والقطعيات، إذ منها ما يعلم بطريق قاطع نظري مستنبط.

الوجه الثاني: أنه ليس فيه تخصيص بعض العلماء، فكل ما أفضى إليه نظر عالم فهو استنباطه وتأويله وهو حق مستنبط وتأويل أذن للعلماء فيه دون العوام وجعل الحق في حق العوام الحق الذي استنبطه العلماء بنظرهم وتأويلهم فهذا لا يدل على تخطئة البعض.

الشبهة الثالثة: وهي من أقوى الشبه، وهي الاستدلال بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر) ووجه الدليل أنه ذكر فيه خطأ وصوابا.

وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بالوجهين التاليين:

الوجه الأول: أن هذا هو القاطع على أن كل واحد مصيب إذ له أجر وإلا فالمخطئ الحاكم بغير حكم الله تعالى، كيف يستحق الأجر؟

الوجه الثاني: هو أنا لا ننكر إطلاق اسم الخطإ على سبيل الإضافة إلى مطلوبه لا إلى ما وجب عليه، فإن الحاكم يطلب رد المال إلى مستحقه وقد يخطئ ذلك فيكون مخطئا فيما طلبه مصيبا فيما هو حكم الله تعالى عليه وهو اتباع ما غلب على ظنه من صدق الشهود، وكذلك كل من اجتهد في القبلة.

الشبهة الرابعة: وهي الاستدلال بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} (آل عمران:103) وقوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (آل عمران:46) وغيرها من الآيات الحاثة على التآلف، والإجماع منعقد على الحث على الألفة والموافقة والنهي عن الفرقة، وقد أجاب الغزالي على ذلك بالوجوه التالية:

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (69 )

الوجه الأول: أن اختلاف الحكم باختلاف الأحوال في العلم والجهل والظن كاختلافه باختلاف السفر والإقامة والحيض والطهر والحرية والرق والاضطرار والاختيار.

الوجه الثاني: أن الأمة مجمعة على أنه يجب على المختلفين في الاجتهاد أن يحكم كل واحد بموجب اجتهاده وهو مخالف لغيره، والأمر باتباع المختلف أمر بالاختلاف.

الشبهة الخامسة: وهذه الشبهة هي أساس الورع الذي ذكرنا، وتنطلق من الآثار الكثيرة الدالة على حذر الصحابة من الخطأ في الاجتهاد، ومنها قول أبي بكر: (أقول في الكلالة برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن الشيطان)، وقول علي لعمر ما: (إن لم يجتهدوا فقد غشوا وإن اجتهدوا فقد أخطئوا، أما الإثم فأرجو أن يكون عنك زائلا وأما الدية فعليك) ولما كتب أبو موسى كتابا عن عمر كتب فيه: (هذا ما أرى الله عمر) فقال: امحه واكتب هذا ما رأى عمر فإن يك خطأ فمن عمر، وقال في جواب المرأة التي ردت عليه في النهي عن المبالغة في المهر حيث ذكرت القنطار في الكتاب: (أصابت امرأة وأخطأ عمر)

وقد أجاب الغزالي على هذه الشبهة بأن الخطأ في الاجتهاد الذي لا يجوز اعتباره، ويتورع عن القول به، يكون في أربعة مواضع، هي: (أن يصدر الاجتهاد من غير أهله، أو لا يستتم المجتهد نظره، أو يضعه في غير محله بل في موضع فيه دليل قاطع، أو يخالف في اجتهاده دليلا قاطعا، فينتفي الخطأ متى صدر الاجتهاد من أهله وتم في نفسه ووضع في محله ولم يقع مخالفا لدليل قاطع، ثم مع ذلك كله يثبت اسم الخطإ بالإضافة إلى طلب لا إلى ما وجب كما في القبلة وتحقيق مناط الأحكام) (1)

أما ما ورد عن الصحابة من ذلك فقد يكون خوفا من دليل قاطع غفل عنه، أو لم

__________

(1) المستصفى: 1/ 361.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (70 )

يستتم نظره ولم يستفرغ تمام وسعه، أو يخاف أن لا يكون أهلا للنظر في تلك المسألة أو أمن ذلك كله لكن قال ما قال إظهارا للتواضع والخوف من الله تعالى.

بعد هذا العرض للأدلة، نرى أنه من الورع البحث في أقوال المجتهدين من السلف ومن بعدهم لحفظ بيوت المسلمين من التصدع وحفظ أولاد المسلمين من التشرد، وأن لا يلزم أحد بقناعته غير نفسه، فالشريعة لا يمثلها قول أو رأي أو مذهب أو اتجاه، بل تمثلها جميع الأقوال والآراء والمذاهب والاتجاهات.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (71 )

الفصل الثاني

حق الزوج في حل عصمة الزوجية

نتناول في هذا الفصل الركن الأول من أركان الطلاق، وهو من يوقع الطلاق، ومن يصح منه، وهو من أهم أركان هذا النوع من التفريق، باعتبار الطلاق هو الحق الذي جعله الله للرجل لحل العصمة الزوجية، فلذلك كان من اللازم وضع ضوابط لهذا الذي أنيط بلسانه وتصرفاته استمرار الحياة الزوجية أو انقطاعها.

وهذه الضوابط تستدعي معرفة الشروط التي يتأهل بها المطلق لأن يقوم بالتطليق، والنظر في الأحوال التي يمر بها المطلق وتأثيرها في إيقاع الطلاق أو عدم تأثيرها، وأخيرا فيما لو جعل المطلق الأمر لغيره.

وقد خصصنا لكل واحد من هذه الثلاثة مبحثا خاصا، والذي دعانا إلى هذا هو ضرورة الضبط الذي تستدعيه القسمة العقلية، لأن المطلق إما أن يطلق بنفسه أو يوكل غيره للتطليق، ثم هو في حال تطليقه بنفسه إما أن يكون أهلا للتطليق أو غير أهل، فإن كان أهلا، فإما أن يكون بحالة معتدلة أو بحالة قد تشوش عليه أهليته، وبذلك تنضبط هذه القسمة مع ما ذكرنا.

أولا ـ أهلية المطلق لإيقاع الطلاق وضوابطها الشرعية

أما عن أهلية المطلق فتتحقق بتوفر الشروط التالية مع اختلاف بين الفقهاء في اعتبارها أو في اعتبار تفاصيل بعضها:

1 ـ الذكورة

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (72 )

اتفق الفقهاء على أن من شروط المطلق أن يكون ذكرا، ومن الأدلة على ذلك أن كل النصوص الشرعية أسندته إلى الرجل، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق: 1)، وقوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (البقرة: 236)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} (الأحزاب: 49)، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} (النساء: 20)

ومن السنة الأحاديث الكثيرة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن عمر: طلق زوجتك، وقوله مرة أخرى: مره فليراجعها، ثم يطلقها (1).

وقد دلت هذه النصوص بهذا على قصر الطلاق بيد الرجل، وقد ذكرنا أن للمرأة حقها في التفريق إذا أرادت ذلك، أو توفرت الأسباب الداعية لذلك.

2 ـ العقل

لأن الطلاق من الأفعال التي تحتاج إلى التمييز والنظر، ويخالفها كل ما يتناقض مع ذلك، ولذلك وقع الإجماع على عدم صحة طلاق غير العاقل، ولكن مع ذلك قد يختلف الناس في تفسير العقل والجنون، فلذلك فصل الفقهاء في أحكام زوال العقل وأنواعه حتى ينضبط بالضوابط الشرعية، وفيما يلي تفصيل لأحكام طلاق المجنون وأنواعه.

أ ـ تعريف الجنون وأنواعه:

تعريف الجنون:

عرفه الفقهاء والأصوليون بعبارات مختلفة منها (2):

__________

(1) أخرجه الترمذى (3/ 479، رقم 1176) وقال: - حسن صحيح -. وأخرجه أيضا: أحمد (2/ 26، رقم 4789)، ومسلم (2/ 1095، رقم 1471)، وأبو نعيم فى الحلية (7/ 95)، والبيهقى (7/ 325، رقم 14690)

(2) شرح التلويح: 3/ 334.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (73 )

1 ـ هو اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهجه إلا نادرا.

2 ـ هو اختلال القوة المميزة بين الأشياء الحسنة والقبيحة المدركة للعواقب بأن لا تظهر آثارها، وأن تتعطل أفعالها.

3 ـ هو اختلال القوة التي بها إدراك الكليات.

أنواع الجنون:

قسم الفقهاء الجنون باعتبارين مختلفين:

باعتبار الأصالة والعروض: فالجنون إما أن يكون أصليا، إما لنقصان جبل عليه دماغه في أصل الخلقة، وإما لخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال بسبب خلط أو آفة، وإما لاستيلاء الشيطان عليه، وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه بحيث يفرح، ويفزع من غير ما يصلح سببا (1)، وهذا النوع مما لا يرجى زواله.

وإما أن يكون عارضا، وهو ما إذا زال الاعتدال الحاصل للدماغ خلقة إلى رطوبة مفرطة، أو يبوسة متناهية، وهذا النوع مما يرجى زواله بالعلاج بما خلق الله تعالى من الأدوية.

باعتبار الاستمرار والطروء: والجنون بهذا التقسيم إما أن يكون مطبقا أو غير مطبق، فالمطبق هو الملازم الممتد، والامتداد ليس له ضابط عام بل يختلف باختلاف الأحوال (2)، وغير المطبق، وهو الطارئ الذي لا يستقر، وهذا النوع من الجنون لا يمنع أصل التكليف.

__________

(1) شرح التلويح: 3/ 334.

(2) اختلف الحنفية في حد الجنون المطبق على قولين:

القول الأول: هو ما يستوعب الشهر، وهو قول أبو يوسف، لأن هذا القدر أدنى ما يسقط به عبادة الصوم، فكان التقدير به أولى.

القول الثاني: هو ما يستوعب الحول، وهو قول محمد، لأن المستوعب للحول هو المسقط للعبادات كلها فكان التقدير به أولى، شرح التلويح: 3/ 334..

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (74 )

ب ـ حكم طلاق المجنون:

اتفق الفقهاء على عدم صحة طلاق المجنون والمعتوه لفقدان أهلية الأداء في الأول، ونقصانها في الثاني، فألحقوهما بالصغير غير البالغ، فلم يقع طلاقهما، وقد نقل الإجماع على ذلك، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق) (1)

2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل الطلاق جائز، إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله) (2)، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم أن طلاق المعتوه المغلوب على عقله لا يجوز إلا أن يكون معتوها يفيق الأحيان فيطلق في حال إفاقته.

3 ـ أنه قول يزيل الملك، فاعتبر له العقل، كالبيع.

وهذا في الجنون الدائم المطبق، أما الجنون المتقطع، فإن حكم طلاق المبتلى به منوط بحاله عند الطلاق، فإن طلق وهو مجنون لم يقع، وإن طلق في إفاقته وقع لكمال أهليته، قال الشافعي: (ولا يجوز طلاق الصبي حتى يستكمل خمس عشرة أو يحتلم قبلها، ولا طلاق المعتوه، ولا طلاق المجنون الذي يجن ويفيق إذا طلق في حال جنونه وإن طلق في حال صحته جاز) (3)

ج ـ ما يلحق بالمجنون:

__________

(1) أخرجه أحمد (6/ 144، رقم 25157)، وأبو داود (4/ 139، رقم 4398)، والنسائى (6/ 156، رقم 3432)، وابن ماجه (1/ 658، رقم 2041)، والحاكم (2/ 67، رقم 2350) وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أيضا: إسحاق ابن راهويه (3/ 988، رقم 1713)، والدارمى (2/ 225، رقم 2296)

(2) قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان وعطاء بن عجلان ضعيف ذاهب الحديث، الترمذي:3/ 496،مصنف ابن أبي شيبة: 4/ 73.

(3) الأم:5/ 235.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (75 )

ألحق الفقهاء بالمجنون النائم، والمغمى عليه، والمبرسم، والمدهوش، وذلك لانعدام أهلية الأداء لديهم، قال الزيلعي: (لو أن الصبي والمجنون طلق امرأته لم يقع طلاقه، وكذا المغمى عليه والمبرسم والمدهوش والنائم والمعتقل والذي شرب الدواء مثل البنج ونحوه فتغير عقله إذا طلق واحد من هؤلاء زوجته لم يقع طلاقه (1).

3 ـ البلوغ

حكم طلاق الصغير:

تنقسم مراحل الصغر في عرف الفقهاء إلى مرحلتين:

مرحلة عدم التمييز: وتبدأ هذه المرحلة منذ الولادة إلى التمييز، وقد اتفق الفقهاء على أن الصبي في هذه المرحلة لا يقع طلاقه (2) لأنه لا يعقل.

مرحلة التمييز: وتبدأ هذه المرحلة منذ قدرة الصغير على التمييز بين الأشياء، أي أن يكون له إدراك يفرق به بين النفع والضرر، وليس للتمييز سنا معينة يعرف بها، ولكن تدل على التمييز أمارات التفتح والنضوج، فقد يصل الطفل إلى مرحلة التمييز في سن مبكرة، وقد يتأخر إلى ما قبل البلوغ، وتنتهي هذه المرحلة بالبلوغ.

وقد اختلف الفقهاء في حكم الصغير في هذه المرحلة إذا عقل الصبي المميز الطلاق، وعلم أن زوجته تبين به، وتحرم عليه، هل يقع طلاقه أم لا على قولين:

__________

(1) تبيين الحقائق:2/ 195.

(2) نص الفقهاء على أن هذا بالنسبة لزوجته، أما إذا طلق الصبي أو الكافر زوجة غيره فتصح إجازة الزوج ; لأن المطلق حقيقة الزوج، ولذلك تعتد المطلقة من يوم إجازته لا من يوم الطلاق، انظر: حاشية العدوي:2/ 98.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (76 )

القول الأول: أن طلاق المميز (1) يقع، وقد روي ذلك عن سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، والشعبي، وإسحاق، وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الطلاق لمن أخذ بالساق) (2)، والحديث في الأصل ورد في طلاق العبد كما روى ابن عباس قال: أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل فقال: يا رسول الله سيدي زوجني أمته، وهو يريد أن يفرق بيني وبينها، قال فصعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فقال: يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته، ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، وهو يدل بإطلاقه على أن الطلاق بيد الزوج أي كان، فيدخل فيه الصبي المميز.

2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله) (3)

3 ـ أنه طلاق من عاقل صادف محل الطلاق، فوقع كطلاق البالغ.

القول الثاني: أن طلاقه لا يقع حتى يحتلم، وهو قول النخعي، والزهري، ومالك، وحماد، والثوري، وأبي عبيد، والشافعي، ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

__________

(1) اختلف الفقهاء القائلون بإيقاع طلاق الصبي المميز في السن الذي يكون به مميزا على الأقوال التالية، والتي حكاها ابن قدامة:

القول الأول: تحديد من يقع طلاقه من الصبيان بكونه يعقل، وهو أكثر الروايات عن أحمد، وهو اختيار القاضي.

القول الثاني: تحديده بما بين عشر إلى اثنتي عشرة إذا عقل الطلاق، وهو رواية عن أحمد، وهو يدل على أنه لا يقع لدون العشر. وهو اختيار أبي بكر، ووجه ذلك بأن العشر حد للضرب على الصلاة والصيام، وصحة الوصية، فكذلك هذا.

القول الثالث: إذا أحصى الصلاة، وصام رمضان، جاز طلاقه، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن.

القول الرابع: إذا بلغ أن يصيب النساء، وهو قول عطاء.

القول الخامس: إذا جاوز اثنتي عشرة، وهو قول إسحاق، انظر: المغني:7/ 290.

(2) مجمع الزوائد: 4/ 334، البيهقي: 7/ 370، الدارقطني: 4/ 37، ابن ماجة: 1/ 672، قال ابن حجر: وفي إسناده بن لهيعة وهو ضعيف، وله طريق أخرى عند الطبراني في الكبير، وفيه يحيى الحماني ورواه بن عدي والدارقطني من حديث عصمة بن مالك وإسناده ضعيف، تلخيص الحبير:3/ 219، وانظر: الدراية: 2/ 199، كشف الخفاء:2/ 52.

(3) أخرجه الترمذى (3/ 496، رقم 1191)، وقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان، وعطاء بن عجلان ضعيف.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (77 )

1 ـ قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (النور:59)،ويقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء:6) وقد استدل الشافعي بهاتين الآيتين على اشتراط البلوغ (1)، وهما واضحتان في الدلالة على ذلك.

2 ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاز ابن عمر في القتال وهو ابن خمس عشرة ورده ابن أربع عشرة.

3 ـ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم) (2)

4 ـ أنه غير مكلف، فلم يقع طلاقه كالمجنون.

الترجيح:

ذكرنا في الفصول الماضية استحباب تأخير الزواج إلى ما بعد البلوغ، بل إلى الفترة التي ينضج فيها العقل ويستقر، لكن إن تم الزواج، فإن إيقاع الطلاق يبقى متوقفا على تمام العقل بالبلوغ.

إجازة البالغ طلاقه في فترة الصبى:

اتفق الفقهاء على أنه لو كان للصبي امرأة فطلقها في حال صباه أو طلقها وكيل عنه (3)، فإنه لا عبرة بهذا التطليق، ولو أجازه الصبي بعد ما كبر؛ لأنه لا مجيز لهذا التصرف عند وقوعه، ولأن ثبوت الولاية عليه لتوفير المنفعة له لا للإضرار به.

__________

(1) الأم:5/ 270.

(2) أخرجه أحمد (1/ 154، رقم 1327)، وأبو داود (4/ 140، رقم 4402)، والحاكم (4/ 430، رقم 8169)

(3) نص المالكية على أن للولي أن يطلق زوجة الصغير إن رأى المصلحة في ذلك، انظر: حاشية العدوي:2/ 98.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (78 )

أما إذا قال حين كبر قد أوقعت عليها الطلاق الذي أوقع عليها فلان، فإنه يقع الطلاق بذلك؛ لأن هذا اللفظ إيقاع مستقبل، ولأنه يملك الإيقاع ابتداء بهذا اللفظ فيكون إضافته إلى غيره أوقع، وهذا بخلاف الإجازة منه، لأن الإجازة تقيد للتصرف الذي باشره فلان (1).

 

ثانيا ـ أحوال المطلق وأحكامها

1 ـ الإكراه

وهو حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته لو خلي ونفسه، فيكون معدما للرضى لا للاختيار (2)، فالفعل يصدر عن المكره باختياره لكنه يصدر مستندا إلى اختيار آخر (3).

وقد قسم الإكراه تقسيمات مختلفة وباعتبارات مختلفة، ومما نحتاج إلى معرفته هنا تقسيمه بحسب موجبه، فقد قسم إلى قسمين:

الإكراه بحق: وهو الإكراه المشروع الذي لا ظلم فيه ولا إثم، وهو ما توافر فيه أمران:

أن يحق للمكره التهديد بما هدد به، باعتباره وليا لأمر كلف به شرعا، مثل القاضي أو من ينوب عنه.

أن يكون المكره عليه مما يحق للمكره الإلزام به.

__________

(1) المبسوط:25/ 24.

(2) عرف التفتازاني الاختيار بأنه القصد إلى مقدور متردد بين الوجود والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر، شرح التلويح على التوضيح:2/ 390.

(3) شرح التلويح على التوضيح:2/ 390، البحر المحيط:2/ 75.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (79 )

الإكراه بغير حق: وهو الإكراه ظلما، أو الإكراه المحرم، لتحريم وسيلته، أو لتحريم المطلوب به.

حكم طلاق المكره:

اتفق الفقهاء (1) على أن النوع الأول من الإكراه، وهو الإكراه بحق لا يقع به الطلاق، لأنه إكراه بحق، ولمصلحة الزوجة، ومن ولي الأمر، وسنرى أحكامه وأنواعه في الفصل الخاص بحل العصمة الزوجية بيد القضاء.

أما الإكراه بغير حق كمن أكره على الطلاق ظلما، فقد اختلف الفقهاء هل يقع طلاقه أم لا؟ على قولين (2):

القول الأول: أن طلاق المكره لا يقع، وقد روي ذلك عن مالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق وأبو ثور، وأبو عبيد وأحمد، وهو قول الظاهرية، واستدلوا على ذلك بما يلي (3):

1 ـ دلالة القرآن الكريم على عدم اعتبار الإكراه في كثير من الأمور هي أعظم من الطلاق، فلم يعتبر الإكراه في الكفر، كما قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} (النحل:106)، ولذلك احتج عطاء بالآية، وقال: الشرك أعظم من الطلاق (4)

__________

(1) انظر: الفروع: 5/ 285، منار السبيل: 2/ 211، كشاف القناع: 5/ 235، كتب ورسائل ابن تيمية في الفقه: 33/ 38، المغني: 7/ 291، المهذب: 2/ 78، إعانة الطالبين: 4/ 6، الوسيط: 5/ 387، حاشية البجيرمي: 4/ 4، الهداية شرح البداية: 1/ 229، البحر الرائق: 3/ 266، حاشية ابن عابدين: 3/ 235، التاج والإكليل: 4/ 45، الشرح الكبير: 4/ 48.

(2) وقد ذكر ابن حزم قولا ثالثا هو أن طلاق المكره إن أكرهه اللصوص لم يلزمه، وإن أكرهه السلطان لزمه، نسبه إلى الشعبي، ووروى قولا رابعا نسبه إلى إبراهيم وأحد قولي سفيان، وهو أن من أكره ظلما على الطلاق فورك إلى شيء آخر لم يلزمه، فإن لم يورك لزمه، ولا ينتفع الظالم بالتوريك. المحلى:9/ 464، وما ذكره من هذه الأقوال يؤول إلى ما ذكرنا.

(3) القرطبي:10/ 184، نيل الأوطار:7/ 22، فتح الباري: 9/ 390، المغني:7/ 291.

(4) أخرجه سعيد بن منصور عنه بإسناد صحيح، نيل الأوطار: 7/ 22.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (80 )

2 ـ ولم يعتبر تعالى الإكراه على الإيمان، كما قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} (البقرة:256)، ولم يعتبر الإكراه على الزنا، فقال تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور:33) فكيف يعتبر الإكراه على الطلاق، وهو أدنى منها جميعا.

3 ـ دلالة السنة العامة على عدم اعتبار تصرفات المكره، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه) (1)، قال ابن حجر: (إنه سوى بين الثلاثة في التجاوز فمن حمل التجاوز على رفع الإثم خاصة دون الوقوع في الإكراه لزم أن يقول مثل ذلك في النسيان) (2)

4 ـ الدلالة الخاصة من السنة على عدم وقوع طلاقه، فعن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول (لا طلاق في إغلاق) (3)، وهذا الحديث هو حديث هذا الباب، فلذلك

__________

(1) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، الحاكم: 2/ 216، وانظر: مجمع الزوائد: 6/ 250، البيهقي: 6/ 84، ابن ماجة: 1/ 959، وقد اختلف في الحكم على الحديث على ما يلي:

1. قال ابن رجب: حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي (وخرجه ابن حبان في صحيحه والدارقطني وعندهما عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس عن النبي (وهذا إسناد صحيح في رواته كلهم محتج بهم في الصحيحين.

2. وقد أنكره الإمام أحمد جدا وقال ليس يروى فيه إلا عن الحسن عن النبي (مرسلا، وقال أبو حاتم هذه أحاديث منكرةكأنها موضوعة، وقال لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث عن عطاء وإنما سمعه من رجل لم يسمه توهم أنه عبدالله بن عامر أو إسماعيل بن مسلم قال: ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده، انظر: كشف الخفاء: 1/ 522، جامع العلوم والحكم: 1/ 373.

(2) فتح الباري: 9/ 390.

(3) قال ابن حجر: رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وأبو يعلى والحاكم والبيهقي من طريق صفية بنت شيبة عنها، وصححه الحاكم، وفي إسناده محمد بن عبد بن أبي صالح وقد ضعفه أبو حاتم الرازي ورواه البيهقي من طريق ليس هو فيها لكن لم يذكر عائشة، وزاد أبو داود وغيره ولا إعتاق، تلخيص الحبير: 3/ 210، وانظر: الحاكم: 2/ 216، البيهقي: 7/ 357، الدارقطني: 4/ 36، ابن ماجة: 1/ 660، ابن أبي شيبة: 4/ 83، أحمد: 6/ 276.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (81 )

سنرى الوجوه الكثيرة للاستدلال به، فقد فسره علماء الغريب بالإكراه وهو قول ابن قتيبة والخطابي وابن السيد وغيرهم، وفسروه بالجنون واستبعده المطرزي وفسروه بالغضب، وقال أبو عبيد الإغلاق التضيق، وقال أبو بكر: سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين، فقالا: يريد الإكراه؛ لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه (1).

5 ـ الآثار الكثيرة الواردة عن السلف والدالة على عدم وقوع طلاق المكره (2)، ومنها ما روي عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: قالت امرأة لزوجها: سمني؟ فسماها الظبية، قالت: ما قلت شيئا؟ قال: فهات ما أسميك به؟ قالت: سمني خلية طالق، قال: فأنت خلية طالق، فأتت عمر، فقالت: إن زوجي طلقني؟ فجاء زوجها فقص عليه القصة؟ فأوجع عمر رأسها، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها.. وروي أن علي بن أبي طالب كان لا يجيز طلاق المكره، وعن ثابت الأعرج، قال: سألت ابن عمر، وابن الزبير عن طلاق المكره فقالا جميعا: ليس بشيء، وعن ابن عباس قال: ليس لمكره ولا لمضطر طلاق، قال ابن حزم بعد إيراده الآثار الواردة عن الصحابة في ذلك: (فهو قول من ذكر من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعا) (3)

القول الثاني: أن طلاق المكره يقع، وهو قول أبي قلابة، والشعبي، والنخعي، والزهري والثوري، وأبي حنيفة وصاحبيه (4)، واستدلوا على ذلك بما يلي (5):

__________

(1) انظر: تلخيص الحبير: 3/ 210، نيل الأوطار:7/ 22.

(2) انظر الآثار الواردة عن الصحابة في ذلك في: المحلى:9/ 463، المصنف لابن أبي شيبة:4/ 39.

(3) المحلى:9/ 463.

(4) نص الحنفية على أن طلاق المكره واقع سواء كان المكره سلطانا، أو غيره أكرهه بوعيد متلف، أو غير متلف، المبسوط:24/ 40.

(5) شرح معاني الآثار:3/ 95.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (82 )

1 ـ من السنة، ذكر ابن الجوزي أن أصحاب هذا القول استدلوا بثلاثة أحاديث هي (1): قوله صلى الله عليه وآله وسلم (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) (2)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب عليه) (3)، وما رووه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلا كان نائما مع امرأته فقامت فأخذت سكينا، وجلست على صدره ووضعت السكين على حلقه وقالت له طلقني أو لأذبحنك، فناشدها الله فأبت، فطلقها ثلاثا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال (لا قيلولة في الطلاق) (4)

2 ـ واستدل له الطحاوي بحديث عام، وهو ما روي عن حذيفة بن اليمان قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي فأخذنا كفار قريش، فقالوا إنكم تريدون محمدا فقلنا: ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرناه فقال: انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله تعالى عليهم) (5)، قال: فكان في هذا الحديث ما قد دل على أن اليمين على الإكراه تلزم كما تلزم على الطواعية.

3 ـ أن الحديث الذي استدل به المخالفون وهو (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) لا يدل على الإكراه، وقد أوله الطحاوي بقوله: (ثم تأملنا هذا الحديث لنقف على المراد به ما هو؟ فكان أحسن ما حضرنا فيه – والله أعلم – أن الإغلاق هو الإطباق على الشيء فاحتمل

__________

(1) التحقيق في أحاديث الخلاف:2/ 294، وانظر: نصب الراية: 3/ 222.

(2) الحاكم: 2/ 216، الترمذي: 3/ 490، البيهقي: 7/ 340، أبو داود: 2/ 259، ابن ماجة: 1/ 658، المنتقى لابن الجارود: 1/ 178، وهو من رواية عبد الرحمن بن حبيب بن أردك وهو مختلف فيه قال النسائي منكر الحديث ووثقه غيره فهو على هذا حسن، تلخيص الحبير:3/ 210.

(3) أخرجه الترمذى (3/ 496، رقم 1191)، وقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان، وعطاء بن عجلان ضعيف.

(4) قال ابن حجر: ذكره بن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة وأنه واه جدا، تلخيص الحبير:3/ 217، وقال البخاري: حديث منكر، نصب الراية: 3/ 222.

(5) مسلم: 3/ 1414، البيهقي: 9/ 145.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (83 )

بذلك عندنا أن يكون في هذا الحديث أريد به الإجبار الذي يغلق على المعتق، وعلى المطلق حتى يكون منه العتاق والطلاق على غير اختيار منه لهما ولا يكون في العتاق مثابا كما يثاب سائر المعتقين الذين يريدون بعتاقهم الله على عتاقهم، وكالمطلقين الذين تلحقهم الذنوب في طلاقهم الذين يضعونه في غير موضعه، والذين يوقعون من عدده أكثر مما أبيح لهم أن يوقعوه منه وموضعه الذي أمروا أن يضعوه فيه هو الطهر قبل المسيس والعدد الذي أمروا به هو الواحدة لا ما فوقها) (1)

4 ـ أن حديث رفع الحرج عن المكره لا يدخل فيه الطلاق، وإنما المراد منه الإكراه على الكفر (لأن القوم كانوا حديثي العهد بالإسلام، وكان الإكراه على الكفر ظاهرا يومئذ وكان يجري على ألسنتهم كلمات الكفر خطأ وسهوا، فعفا الله تعالى عن ذلك عن هذه الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (2)

5 ـ الآثار الواردة عن السلف في ذلك، ومنها ما رووا أن امرأة سلت سيفا فوضعته على بطن زوجها وقالت: والله لأنفذنك، أو لتطلقني، فطلقها ثلاثا، فرفع ذلك إلى عمر فأمضى طلاقها، وعن ابن عمر أنه سأله رجل فقال له: أنه وطئ فلان على رجلي حتى أطلق امرأتي، فطلقتها فكره له الرجوع إليها (3)، وعن علي بن أبي طالب أنه قال: (كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه)، وروي عن ابن عمر أنه أجاز طلاق المكره، وعن الشعبي والنخعي والزهري وقتادة وأبي قلابة أنهم أجازوه، وعن سعيد بن جبير أنه بلغه قول الحسن ليس طلاق المكره بشيء فقال: يرحمه الله إنما كان أهل الشرك يكرهون الرجل على الكفر والطلاق، فذلك الذي ليس بشيء، وأما ما صنع أهل الإسلام بينهم فهو جائز (4).

__________

(1) مشكل الآثار:1/ 127.

(2) شرح معاني الآثار: 3/ 95.

(3) يحتمل أن ذلك لأنه لم ير ذلك إكراها.

(4) انظر الآثار الواردة عن الصحابة في ذلك في: المحلى:9/ 463، المصنف:4/ 39، نصب الراية: 3/ 223.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (84 )

6 ـ أنه طلاق من مكلف، في محل يملكه، فينفذ، كطلاق غير المكره، بالإضافة إلى أن الفائت بالإكراه ليس إلا الرضا، وهو ليس بشرط لوقوع الطلاق، فإن طلاق الهازل واقع وليس براض به طبعا، وكذلك الرجل قد يطلق امرأته الفائقة حسنا وجمالا الرائقة تغنجا ودلالا لخلل في دينها، وإن كان لا يرضى به طبعا ويقع الطلاق عليها.

7 ـ أن الإكراه لا يعمل على الأقوال كما يعمل على الاعتقادات؛ لأن أحدا لا يقدر على استعمال لسان غيره بالكلام على تغيير ما يعتقده بقلبه جبرا فكان كل متكلم مختارا فيما يتكلم به فلا يكون مستكرها عليه حقيقة.

8 ـ أنه قاصد دفع الهلاك عن نفسه، ولا يندفع عنه إلا بالقصد إلى ما وضع له، فكان قاصدا إليه ضرورة (1).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بعدم وقوع طلاق المكره، وهو ما دلت عليه الأدلة، وما تقتضيه المصلحة الشرعية، بل إن في ذلك سدا لذريعة الإكراه نفسها، وحماية للمسلمين أن تسلب زوجاتهم بأي طريق، لأن من اعتقد جدوى إكراه رجل ما على التلفظ بألفاظ الطلاق يغريه ذلك بإكراهه بخلاف ما لو سد عليه الباب، فإنه لا يفكر فيه مطلقا.

فلذلك كان في إيقاع طلاق المكره من المضار والمفاسد ما لا يحصى، وأخطرها هو الإغراء بالإكراه نفسه، لأن الرجل من المسلمين قد يكون ظالما مفسدا، ولكنه في هذا الميدان يخاف أن يتزوج زوجة رجل لم تخرج من ذمته، فإذا قيل لهذا إن تهديدك لفلان وجبرك على تطليق زوجته يجعلها طالقا ويبيحها لك لن يحجزه عن الإكراه حاجز.

ثم كيف ترد النصوص الكثيرة التي ذكرناها والأدلة العامة التي تتناول جميع الأحكام الشرعية وتنضبط معها لأحاديث ضعيفة لا تصح وأقيسة لا تنهض للاحتجاج

__________

(1) بدائع الصنائع:7/ 182.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (85 )

بها على ما هو دون هذا فمن الغريب أن يستدل الحنفية بقولهم: (طلاق المكره يلزم لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل)، فكيف يعتبر عدم الرضا لا غيا، ولماذا يقاس عل الهازل (1) ولا يقاس على غيره مما هو أشبه به؟

شروط الإكراه المؤثر

ذكر الفقهاء الكثير من الشروط المعتبرة في الإكراه المؤثر، وسنقتصر منها هنا على ما يتعلق منها بالإكراه في الطلاق فقط، وهذه الشروط هي:

1 ـ قدرة المكره وخوف المكره:

وهو قدرة المكره (بالكسر) على إيقاع ما هدد به، لكونه متغلبا ذا سطوة وبطش وإن لم يكن سلطانا ولا أميرا، لأن تهديد غير القادر لا اعتبار له، وخوف المكره (بفتح الراء) من إيقاع ما هدد به (2)، وقد اتفق الفقهاء على اعتبار هذا الشرط في تحقق الإكراه إذا كان المخوف عاجلا، أما إن كان آجلا، فقد اختلفوا فيه على قولين:

القول الأول: تحقق الإكراه مع التأجيل، وهو قول المالكية والحنابلة والأذرعي من الشافعية.

القول الثاني: أن الإكراه لا يتحقق مع التأجيل، ولو إلى الغد، وهو قول الشافعية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار الإكراه ولو مع تأجيل المكره عقوبته، لأن الدافع للطلاق ليس قصد الطلاق والرغبة فيه، وإنما التأثير الخارجي، فللتأثير الخارجي أثره بغض النظر عن كونه عاجلا أم آجلا، فالعبرة ليست بهما، وإنما بنوع الإكراه، فقد يكون إكراها بسيطا عاجلا، فلا يعتبر، وقد يكون إكراها خطيرا آجلا، فيؤثر ويقع.

__________

(1) انظر ما يتعلق بطلاق الهازل في هذا المبحث.

(2) والمقصود بخوف الإيقاع اليقين أو غلبة الظن، لأن غلبة الظن معتبرة عند عدم الأدلة، وتعذر التوصل إلى الحقيقة.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (86 )

2 ـ شدة الضرر المتوقع من المكره:

مثل كون ما هدد به قتلا أو إتلاف عضو، ولو بإذهاب قوته مع بقائه كإذهاب البصر، أو القدرة على البطش أو المشي مع بقاء أعضائها، أو غيرهما مما يوجب غما يعدم الرضا، أما التهديد بما يمكن تحمله كالجوع، فيتراوح بين هذا وذاك، فلا يصير ملجئا إلا إذا بلغ الجوع بالمكره (بالفتح) حد خوف الهلاك.

ثم الذي يوجب غما يعدم الرضا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فليس العامة من الناس كالخاصة، ولا الضعاف كالأقوياء، ولا تفويت المال اليسير كتفويت المال الكثير، والنظر في ذلك مفوض إلى الحاكم، يقدر لكل واقعة قدرها.

3 ـ عدم الرضا بما أكره عليه:

وهو أن يكون المكره ممتنعا عن الفعل المكره عليه لولا الإكراه، فلا يعتبر إكراه من تكون له رغبة مسبقة في التطليق، فيطلق لرغبته لا لكونه مكرها.

4 ـ تعين الفعل المكره عليه:

وهو أن يكون محل الفعل المكره عليه متعينا، ومثال عدم التعيين من أكره على طلاق إحدى زوجتيه، فطلقهما جميعا، وقد اختلف الفقهاء في هذا بناء على اعتبار هذا الشرط أو عدم اعتباره على قولين:

القول الأول: اعتبار هذا الشرط على الإطلاق، وهو قول الشافعية وبعض الحنابلة.

القول الثاني: عدم اعتبار هذا الشرط، فيتحقق الإكراه برغم هذا التخيير، وهو قول الحنفية والمالكية، وبعض الشافعية والحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر إلى قصده من طلاق من لم يكره على طلاقها، فإن كان قاصدا لطلاقها طلقت منه، وإن لم يكن قاصدا بل أغلق الخوف عليه عقله، فلم

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (87 )

يدر ما يقول لم تطلق منه.

5 ـ سلب الخيار من المكره:

وذلك بألا يكون للمكره مندوحة عن الفعل المكره عليه، فإن كانت له مندوحة عنه، ثم فعله لا يكون مكرها عليه، وعلى هذا لو خير المكره بين أمرين فإن الحكم يختلف تبعا لتساوي هذين الأمرين أو تفاوتهما من حيث الحرمة والحل.

فإن تفاوت الأمران المخير بينهما، وكان أحدهما محرما لا يرخص فيه ولا يباح بحال كالزنى والقتل، فإنه لا يكون مندوحة، ويكون الإكراه واقعا على المقابل له.

وقد اختلف الفقهاء فيما لو وقع التخيير بين طلاق امرأته وبيع شيء من ماله، هل يعتبر ذلك إكراها أم لا على قولين:

القول الأول: يترتب حكم الإكراه على فعل أي واحد من الأمرين المخير بينهما، لأن الإكراه ليس إلا على الأحد الدائر دون تفاوت، وهذا لا تعدد فيه، ولا يتحقق إلا في معين.

القول الثاني: لا يترتب حكم الإكراه في هذه الصور، وهو قول الشافعية وبعض الحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، لأن المال محترم شرعا، ولو سلم ماله للمكره ربما لا يستطيع استرجاعه، بخلافه طلاقه لزوجته، فإن طلاقها أمر معنوي بالنسبة له، ولا عبرة له لوقوعه تحت تأثير الإكراه.

2 ـ الجهل

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (88 )

اختلف العلماء في تعريف الجهل لتعدد أنواعه واقتصار بعض التعاريف على نوع منه، ولأهمية التعرف على حقيقة الجهل لعلاقتها بهذا المطلب نذكر بعض التعاريف وما نوقشت به (1):

1 ـ أنه عدم العلم عما من شأنه أن يعلم، ويسمى بسيطا، وقد قيل بأن هذا لا يسمى جهلا، واختاره ابن السمعاني، ومما تعقب به هذا التعريف أنه غير مانع لدخول الظن عند من لا يراه علما، والشك والغفلة.

2 ـ عدم كل علم أو ظن أو شك أو وقف عما من شأنه أن يكون معلوما أو مظنونا أو مشكوكا أو موقوفا فيه ممن شأنه أن يوصف بذلك، وقد ورد هذا التعريف لتصحيح التعريف السابق.

3 ـ أنه الاعتقاد الباطل، وهذا التعريف خاص بالجهل المركب، وقال الآمدي: (اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر، ونقض بالنظر المطابق عكسا، فإن الناظر ما لم يكن عالما أو ظانا فهو جاهل؛ لكونه ضدا لهما عنده فيكون الناظر إذن جاهلا مع أن اعتقاده مطابق)

4 ـ أنه اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به، واعترض عليه بأنه يستلزم كون المعدوم شيئا، إذ الجهل يتحقق بالمعدوم كما يتحقق بالموجود، أو كون المعدوم المجهول غير داخل في الحد وكلاهما فاسد.

5 ـ هو صفة تضاد العلم عند احتماله وتصوره، واحترز به عن الأشياء التي لا علم لها فإنها لا توصف بالجهل لعدم تصور العلم فيها.

وأساس الاختلاف في هذه التعاريف هو أن الجهل نوعان:

1 ـ الجهل البسيط، وهو عدم العلم ممن شأنه أن يكون عالما.

__________

(1) البحر المحيط:1/ 101، كشف الأسرار:4/ 330، شرح التلويح:2/ 359.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (89 )

2 ـ الجهل المركب، وهو اعتقاد جازم غير مطابق للواقع.

فيجتمع كلاهما في اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه، وهو في النوع الأول عدمي يقابل العلم تقابل العدم والملكة. وبالثاني وجودي يقابل العلم تقابل الضدين، والثاني يقال فيه: أخطأ وغلط، ومخاطبته مخاطبة عناد ومخاطبة الأول مخاطبة تعليم.

ويمكن تقسيم طلاق الجاهل بحسب الحكم المترتب عن جهله إلى قسمين:

الجهل الباطل:

وهو الجهل الذي لا يصلح عذرا، وهذا القسم لا يصلح أن يكون عذرا في الآخرة، وإن كان قد يصلح عذرا في أحكام الدنيا، ومن أمثلة هذا الجهل في الطلاق:

المثال الأول: أن يأخذ المطلق بقول من خالف في اجتهاده الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع، أو عمل بالغريب على خلاف الكتاب أو السنة المشهورة، كالقول مثلا بأن الطلاق لا يقع إلا بحكم القاضي، فلا عبرة بهذا الاجتهاد، وصاحبه ليس معذورا فيه.

المثال الثاني: الجهل الناشئ عن عدم سؤال العلماء خشية من الأحكام الشرعية، كمن تلفظ بالطلاق، وخاف إن استفتى العلماء أن يفتوه بوقوعه، فيسكت عن السؤال ويتعلل بالجهل، فهذا الجهل غير معتبر، وقد قال الشافعي في مثل هذا: لو عذر الجاهل لأجل جهله لكان الجهل خيرا من العلم، إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف، ويريح قلبه من ضروب التعنيف، فلا حجة للعبد في جهله بالحكم بعد التبليغ والتمكين؛ {لِأَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء:165) (1)

المثال الثالث: أن جهل الحكم بالتحريم، وهو مسقط للإثم والحكم في الظاهر لمن يخفى عليه لقرب عهده بالإسلام ونحوه، فإن علمه وجهل المرتب عليه لم يعذر، ومثال هذا في الطلاق من جهل أحكام الطلاق، فطلق زوجته، وجهل الأثر الذي يترتب عليه من

__________

(1) المنثور في القواعد الفقهية:2/ 16.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (90 )

ذلك، فإنه معذور في حال الجهل بالطلاق نفسه، غير معذور في حال جهله بالأثر فقط، كما لو جهل تحريم الكلام في الصلاة عذر، ولو علم التحريم وجهل الإبطال بطلت.

الجهل المعتبر:

وهو الجهل الذي يصلح عذرا، وهو الجهل الذي يكون في موضع الاجتهاد الصحيح، بأن لا يكون مخالفا للكتاب أو السنة أو الإجماع، ومن أمثلته المتعلقة بالطلاق:

المثال الأول: الجهل بأحكام الطلاق وصيغه للمسلمين في البلاد البعيدة عن بلاد المسلمين، ولم يتمكن أصحابها من الاتصال بالعلماء أو لم ينتبهوا إلى ذلك، لأن الفقهاء نصوا على أن من مكث في دار الحرب، ولم يعلم أن عليه الصلاة والزكاة وغيرهما ولم يؤدها لا يلزمه قضاؤها لخفاء الدليل في حقه، وهو الخطاب لعدم بلوغه إليه حقيقة بالسماع وتقديرا بالشهرة، فيصير جهله بالخطاب عذرا.

بخلاف من أسلم في دار الإسلام لشيوع الأحكام والتمكن من السؤال، قال السيوطي: (كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل منه دعوى الجهل إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزنى، والقتل، والسرقة، والخمر، والكلام في الصلاة، والأكل في الصوم) (1).

المثال الثاني: طلاق من جهل معنى الطلاق، فقد نص الفقهاء على أنه لا يقع طلاق من يجهل معنى اللفظ الدال على الطلاق، قال في المغني: إن قال الأعجمي لامرأته أنت طالق ولا يفهم معناه لم تطلق؛ لأنه ليس بمختار للطلاق فلم يقع طلاقه كالمكره، وذلك، لأنه لم يلتزم بمقتضاه، ولم يقصد إليه.

وقد اختلف الفقهاء فيما لو قال الأعجمي: أردت به ما يراد عند أهله، على قولين أصحهما أنه لم يرده، لأن الإرادة لا تتوجه إلا إلى معلوم أو مظنون؛ لأنه إذا لم يعرف معنى

__________

(1) الأشباه والنظائر:200.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (91 )

اللفظ لم يصح قصده.

وقال الزركشي: (إذا نطق الأعجمي بكلمة كفر، أو إيمان، أو طلاق، أو إعتاق، أو بيع، أو شراء، أو نحوه، ولا يعرف معناه، لا يؤاخذ بشيء منه، لأنه لم يلتزم مقتضاه، وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه العبارة بلفظ أعجمي لا يعرف معناه (1)

ومثل هذا الجهل بالحساب كما لو قال طلقة في طلقتين، وجهل الحساب، ولكن قصد معناه فقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقيل: تقع طلقة وقيل طلقتان.

المثال الثالث: إذا نطق العربي بكلمات عربية لكنه لا يعرف معانيها في الشرع، مثل قوله لزوجته: أنت طالق للسنة أو للبدعة، وهو جاهل بمعنى اللفظ، أو نطق بلفظ الخلع أو النكاح، قال عز الدين بن عبد السلام: (أنه لا يؤاخذ بشيء، إذ لا شعور له بمدلوله حتى يقصده باللفظ. قال: وكثيرا ما يخالع الجهال من الذين لا يعرفون مدلول لفظ الخلع ويحكمون بصحته للجهل بهذه القاعدة) (2)

وقول العز لو التزم في الفتوى لضيق كثيرا أبواب الطلاق خاصة بين ما يجري من العامة من ألفاظ الطلاق كناية دون إدراك لمدلولوتها.

3 ـ ملحقات الجهل

نقصد بملحقات الجهل في هذا العنوان ما يكون سببا من أسباب الجهلة أو مظهرا من مظاهره أو درجة من درجاته، وقد اقتصرنا على أربع ملحقات هي أهم ما في هذا الباب وسائر ما ذكر في عوارض الأهلية مما يتعلق بالطلاق يندرج تحتها، وهذه الأربعة هي: النسيان والشك والخطأ، والتقليد.

__________

(1) المنثور في القواعد الفقهية:2/ 13.

(2) قواعد الأحكام:2/ 121.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (92 )

فدرجات العلم مثلا من الظن والشك والوهم يقتصر الفقهاء منها على الشك، ويعبرون به عن الكل، وهكذا في النسيان يعبرون به عن السهو والغفلة والذهول، كما قال الآمدي: إن الذهول والغفلة والنسيان عبارات مختلفة، لكن يقرب أن تكون معانيها متحدة، وكلها مضادة للعلم، بمعنى أنه يستحيل اجتماعها معه.

النسيان

من التعاريف التي عرف بها النسيان وما في معناه (1):

1 ـ هو عدم الاستحضار للشيء في وقت الحاجة لاستحضاره، وقد شمل هذا التعريف النسيان والسهو، فقد فرقوا بينهما فاعتبروا السهو هو زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة، بخلاف النسيان، فهو زوالها عنهما معا فيحتاج حينئذ في حصولها إلى سبب جديد (2).

2 ـ هو عدم ما في الصورة الحاصلة عند العقل عما من شأنه الملاحظة في الجملة، وهو أعم من أن يكون بحيث يتمكن من ملاحظتها أي وقت شاء، ويسمى هذا ذهولا، وسهوا أو يكون بحيث لا يتمكن من ملاحظتها إلا بعد تجشم كسب جديد (3).

3 ـ النسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع على حفظه، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة وإما عن قصد، حتى ينحذف عن قلبه ذكره (4).

__________

(1) ذكر بعضهم عدم الحاجة لتعريف النسيان معللا ذلك بأنه من الوجدانيات التي لا تفتقر إلى تعريف بحسب المعنى فإن كل عاقل يعلم النسيان كما يعلم الجوع والعطش، انظر: التقرير والتحبير:2/ 177، ولكن مع ذلك يحتاج لهذا التعريف ولغيره مهما كان معروفا لضرورة الضبط.

(2) التقرير والتحبير:2/ 177.

(3) شرح التلويح:2/ 335.

(4) غمز عيون البصائر:1/ 83.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (93 )

4 ـ السهو غفلة القلب عن الشيء المعلوم فيتنبه له بأدنى تنبيه، بخلاف النسيان فإنه زوال المعلوم، فيستأنف تحصيله، قال في مجمع الأنهر: (لكن الفقهاء لا يفرقون بينهما وكذا لا يفرقون بينه وبين الشك) (1)

وقد اختلفت نظرات الفقهاء في مسائل طلاق الناسي بحسب نوع النسيان، وموضوعه وتعلقه، فلذلك لا نستطيع أن نحصر فيها أقوالا بعينها، فلكل مسألة قولها الخاص، وقد سئل ابن حجر الهيثمي في فتاواه مسألة تتعلق بطلاق الناسي، فأجاب عليها، ثم علق على ذلك بقوله: (ولكثرة اختلاف الناس في هذه المسألة بأطرافها سكت كثيرون عن الترجيح فيها، وامتنع الماوردي وغيره من الإفتاء في ذلك، قال: واستعمال التوقي أولى من زلات الأقدام، ومن يحتاط في دينه لا يفتي في ذلك في زماننا لكثرة الكذب في دعوى النسيان والجهل من العامة ولا سيما النساء) (2)

ولعل أشد المذاهب في اعتبار وتأثير طلاق الناسي قول الحنفية، فقد جاء في المبسوط: (وإذا قال الرجل: فلانة بنت فلان طالق، وسمى امرأته ونسيها، ثم قال: عنيت بذلك امرأة أجنبية على ذلك الاسم، والنسب لم يصدق، والطلاق واقع على امرأته في القضاء؛ لأن كلام العقل محمول على الصحة ما أمكن، وله ولاية الإيقاع على امرأته دون الأجنبية فلا يصدق فيما يدعي من إلغاء كلامه في القضاء، ولكن يدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن ما قاله محتمل، ويجوز أن يكون مراده أن فلانة طالق من زوجها على سبيل الحكاية، أو على سبيل الإيقاع فيكون موقوفا على إجازة الزوج، ولا يسع امرأته أن تقيم معه؛ لأنها مأمورة باتباع الظاهر كالقاضي) (3)

__________

(1) مجمع الأنهر:1/ 148.

(2) الفتاوى الفقهية الكبرى:4/ 178.

(3) المبسوط:6/ 145.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (94 )

وفي درر الحكام للحنفية: (أو ناسيا بأن أراد أن يقول سبحان الله مثلا، فجرى على لسانه أنت طالق تطلق؛ لأنه صريح لا يحتاج إلى النية) (1)

ومثله ما روي عن الحسن البصري، قال الصنعاني: (اختلفوا في طلاق الناسي فعن الحسن أنه كان يراه كالعمد إلا إذا اشترط. أخرجه ابن أبي شيبة عنه وعن عطاء، وهو قول الجمهور أنه لا يكون طلاقا للحديث) (2)

وأيسر المذاهب في طلاق الناسي قول الإمامية، فقد اعتبروا القصد شرطا من شروط صحة الطلاق، مع اشتراط النطق بالصريح، فلو لم ينو الطلاق لم يقع كالساهي والنائم والغالط ولو نسي أن له زوجة، فقال: نسائي طوالق، أو زوجتي طالق ثم ذكر لم يقع به فرقة، ولو أوقع وقال: لم أقصد الطلاق قبل منه ظاهرا، ودين بنيته باطنا، وإن تأخر تفسيره، ما لم تخرج عن العدة؛ لأنه إخبار عن نيته (3).

أما الجمهور، فقد وقفوا موقفا بين الفريقين، فاختلفوا في حكم طلاق الناسي بحسب المسائل المختلفة، وسنذكر في الفصل القادم ما يتعلق بنسان المطلقة في حالة ما لو طلق امرأة من نسائه ثم نسي عنها، وهي أهم مسائل طلاق الناسي.

ومعظم أقوال الجمهور في أقوال الناسي تجنح إلى عدم اعتباره، وقد سئل الرملي عمن حلف بالطلاق أن لا يأكل لفلان طعاما فأكل طعامه ناسيا حلفه، ثم سأل شخصا يعتقده عن ذلك فأفتاه بوقوع الطلاق، ثم أكل طعام المحلوف عليه عامدا ظانا صحة فتواه، فهل يقع عليه الطلاق بالأكل بعد الفتيا سواء أكان من أفتاه أهلا للفتوى أم لا؟

__________

(1) درر الحكام:1/ 360.

(2) سبل السلام:2/ 259.

(3) شرائع الإسلام:3/ 4.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (95 )

فأجاب بأنه لم يقع عليه طلاق بأكله الواقع بعد الفتوى، وإن لم يكن من أفتاه أهلا لها لظنه أنه غير معلق عليه الطلاق (1).

وقال ابن حجر الهيثمي: (متى حلف بطلاق أو غيره على فعل نفسه ففعله ناسيا للتعليق أو ذاكرا له مكرها على الفعل أو مختارا جاهلا بالمعلق عليه لا بالحكم خلافا لمن وهم فيه لم يحنث للخبر السابق (إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، أي لا يؤاخذهم بشيء من هذه الثلاثة ما لم يدل دليل على خلافه (2).

ولكنه علق على ذلك بما يسد الذريعة على اتخاذ النسيان وسيلة للتهرب من الأحكام، فقال: (أما إذا لم يقصد منعه ولا حثه أو كان ممن لا يبالى بتعليقه كالسلطان والحجيج، أو لم يعلم به ففعله فإنه يحنث به ولو مع النسيان وقسيمه؛ لأن الغرض حينئذ مجرد التعليق بالفعل من غير قصد منع، أو حث نعم يستثنى من ذلك ما إذا قصد مع الحث، أو المنع فيمن يبالي به أعلامه به، ولم يعلم به فلا تطلق على المعتمد الذي اقتضاه كلام الشيخين وغيرهما ونقله الزركشي عن الجمهور ولو علق بفعله ناسيا أو جاهلا أو مكرها ففعله كذلك حنث؛ لأنه ضيق على نفسه، أو بدخول نحو بهيمة، أو طفل فدخل غير مكره حنث، أو مكرها فلا. وفارق ما مر من الوقوع في بعض الصور مع الإكراه) (3)

انطلاقا من هذا، فإنا نرى من حيث النظر إلى النصوص العامة، والمقاصد الشرعية عدم اعتبار طلاق الناسي مهما كان نوع نسيانه ديانة وقضاء حتى لو كان متناسيا لا ناسيا، لأن دور المفتي أو القاضي ليس التنقيب عن صدقه أو كذبه، وإنما الحكم له بظاهر الحال، وظاهر الحال يستدعي حسن الظن بالمسلم.

__________

(1) فتاوى الرملي:3/ 294.

(2) الفتاوى الفقهية الكبرى:4/ 178.

(3) الفتاوى الفقهية الكبرى:4/ 178.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (96 )

ولن يعجزنا أن نجد الدليل على ذلك، فحسبنا قول الله تعالى: {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} (البقرة:286)، فهذا الدعاء محقق الإجابة، فكيف يؤاخذ المسلم على نسيانه بعد هذا في أمر لا يتعلق به حق الغير، بل يتعلق به الضرر بالغير، وقد قال ابن العربي في الآية: (ذكر أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة؛ وهذا يدل على ما قدمناه من أنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم في طلاق ولا غيره) (1)

وقد استدل البخاري بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (2) على أنه لا يؤاخذ الناسي، والمخطئ في الطلاق، والعتاق ونحوهما؛ لأنه لا نية لناس ولا مخطئ، وهو كذلك.

وكل الأدلة الشرعية بعد ذلك تدل على هذا، قال ابن القيم: (ومن تدبر مصادر الشرع وموارده تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم) (3)

ونفس الحكم يقال فيمن ذهل، فطلق أو ذهل ففعل ما علق عليه الطلاق، فالذهول حالة عادية لا يمكن للإنسان أن يتصرف فيها، وهو وإن كان صاحبه أكثر تكليفا من الناسي إلا أن حاله من حيث التكليف كحال الناسي.

الشك

__________

(1) أحكام القرآن لابن العربي:3/ 241.

(2) البخاري: 1/ 3، ابن حبان: 2/ 113، البيهقي: 1/ 215، أبو داود: 2/ 262، ابن ماجة: 2/ 1413.

(3) إعلام الموقعين:3/ 79.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (97 )

التعريف المشهور للشك، والذي يتداول في كل العلوم الشرعية من التوحيد والأصول وغيرها هو استواء الطرفين المتقابلين لوجود أمارتين متكافئتين في الطرفين أو لعدم الأمارة فيهما (1).

لكن استعمال الفقهاء الغالب لهذا المصطلح يختلف عن هذا، فهم يطلقون الشك في حالتي الاستواء والرجحان على النحو الذي استعملت فيه هذه الكلمة لغة فقالوا: من شك في الطلاق، أي من لم يستيقن، بقطع النظر عن استواء الجانبين أو رجحان أحدهما.

قال النووي: (اعلم أن مراد الفقهاء بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والصوم والطلاق والعتق وغيرها هو التردد بين وجود الشيء وعدمه، سواء كان الطرفان في التردد سواء أو أحدهما راجحا، فهذا معناه في استعمال الفقهاء في كتب الفقه. وأما أصحاب الأصول ففرقوا بينهما فقالوا: التردد بين الطرفين إن كان على السواء فهو الشك، وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم)

وقد تعقبه الزركشي فقال: (زعم النووي أنه كاللغة في سائر الأبواب، لا فرق بين المساوي والراجح وهذا إنما قالوه في الأحداث وقد فرقوا في مواضع كثيرة بينهما)

ومن الفروق التي ذكرها مما يتعلق بالطلاق، قال: (ومنها قالوا في كتاب الطلاق إنه لا يقع بالشك، فأرادوا به الطرف المرجوح، ولهذا قال الرافعي: قولهم، لا يقع الطلاق بالشك مسلم لكنه يقع بالظن الغالب، ويشهد له: لو قال إن كنت حاملا فأنت طالق، فإذا مضت ثلاثة قروء من وقت التعليق وقع الطلاق مع أن الأقرؤ لا تفيد إلا الظن) (2)

وللشك في الطلاق مسائل كثيرة لا يمكن حصرها، فمنها مثلا أن يظن أن امرأته طلقت بيمين معينة فيفعل المحلوف عليه بناء على أنه لا يؤثر في الحنث، كما لو قال: إن

__________

(1) انظر التعاريف الكثيرة للشك في: البحر المحيط:1/ 107.

(2) المنثور في القواعد:2/ 255.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (98 )

كلمت فلانا فأنت طالق ثلاثا، ثم عقد بعدها يمينا أخرى فقال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق ثلاثا، فقيل له: إن امرأتك قد كلمت فلانا، فاعتقد صدق القائل، وأنها قد طلقت منه، ففعل ما حلف عليه ثانيا بناء على أن العصمة قد انقطعت، ثم تبين له بعد ذلك أن المخبر كاذب.

ومثله ما لو قيل له: قد كلمت فلانا، فقال: طلقت مني ثلاثا، ثم بان له أنها لم تكلمه.

ومثله ـ وهو أكثر الأمثلة وقوعا ـ ما لو أخبر عن زوجته بما يسوؤه، كما لو قيل له: إن امرأتك قد مسكت تشرب الخمر مع فلان، فقال: هي طالق ثلاثا، ثم تبين بعد ذلك كذب المخبر، وأن ذلك مجرد إشاعة.

ويقاس على هذه الأمثلة غيرها من أنواع التطليق بسبب الظن الذي ينفيه الواقع، وقد اختلف الفقهاء في ذلك اختلافا يعسر ضبطه، فلذلك سنقتصر على ذكر هذه الأحوال الأربعة التي تضم أكثر مسائل الشك ليستدل بها على غيرها:

الشك في وقوع أصل التطليق:

اتفق الفقهاء على أنه إذا شك الزوج في أصل التطليق بأن شك هل طلق زوجته أم لا فإنه لا يقع الطلاق في هذه الحالة، وقد نقل الإجماع على ذلك، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن النكاح ثابت بيقين فلا يزول بالشك لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء:36)

2 ـ عن عبد الله بن زيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) (1)، فأمره بالبناء على اليقين واطراح الشك.

3 ـ أنه شك طرأ على يقين فوجب اطراحه كما لو شك المتطهر في الحدث أو المحدث

__________

(1) البخاري: 1/ 64، مسلم: 1/ 276، ابن خزيمة: 1/ 16، ابن حبان: 6/ 389، مسند أبي عوانة: 1/ 201، الترمذي: 1/ 109، الدارمي: 1/ 198.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (99 )

في الطهارة.

الشك في عدد الطلاق:

اختلف الفقهاء فيمن شك هل طلق زوجته واحدة أو اثنتين أو ثلاثا مع تيقنه من إيقاع الطلاق على قولين:

القول الأول: اعتبار العدد الأكبر، فلا تحل له إلا بعد زوج آخر لاحتمال كونه ثلاثا، وهو قول المالكية، وبعض الحنابلة والشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (1)

2 ـ أنه تيقن التحريم؛ لأنه تيقن وجوده بالطلاق، وشك في رفعه بالرجعة فلا يرتفع بالشك كما لو أصاب ثوبه نجاسة وشك في موضعها فإنه لا يزول حكم النجاسة بغسل موضع من الثوب ولا يزول إلا بغسل جميعه.

القول الثاني: اعتبار العدد الأقل، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فإذا راجعها حلت له على رأي هؤلاء، واستدلوا على ذلك بأن ما زاد على القدر الذي تيقنه طلاق مشكوك فيه فلم يلزمه كما لو شك في أصل الطلاق.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هنا ما سنذكره في صيغة الطلاق من عدم اعتبار الطلاق الثلاث في مجلس واحد، ولكنا سنناقش هنا سبب هذا التشديد الذي جعل أصحاب القول الأول يميلون إلى جعله ثلاثا، والتفريق التام بين الرجل وزوجه، وهو ما ذكروه من استحباب الورع في التزام الطلاق، بل وجوبه.

بل قد روي عن شريك أنه إذا شك في طلاقه طلقها واحدة ثم راجعها؛ لتكون الرجعة عن طلقة فتكون صحيحة في الحكم، وقد رد عليه ابن قدامة بأن التلفظ بالرجعة

__________

(1) البخاري: 2/ 724، ابن خزيمة: 4/ 59، ابن حبان: 2/ 498، الحاكم: 1/ 116.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (100 )

ممكن مع الشك في الطلاق ولا يفتقر إلى ما تفتقر إليه العبادات من النية، ولأنه لو شك في طلقتين فطلق واحدة لصار شاكا في تحريمها عليه فلا تفيده الرجعة.

وقال العز بن عبد السلام: (وإن شك أطلق قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل انقضاء العدة، فليجدد رجعة ونكاحا، وإن كان بعد انقضائها، فليجدد النكاح، وإن شك أطلق واحدة أو اثنتين، فإن أراد بقاء النكاح مع الورع، فليطلق طلقة معلقة على نفي الطلقة الثانية، بأن يقول إن لم أكن طلقتها فهي طالق كي لا يقع عليه طلقتان، وإن شك في الطلقة أرجعية هي أم خلع فليرتجع، وليجدد النكاح؛ لأنها إن تكن رجعية، فقد تلافاها بالرجعة، وإن كانت خلعا، فقد تلافاها) (1)

ونرى أن الأورع في هذا هو عدم اعتبار الشك مطلقا، لأن الورع في الأصل هو ما يكون بين العبد ربه وما يتعلق بحقوق الناس، أما ما تترتب عنه مفاسد للخلق، فإن الشرع جاء لدرء المفاسد.

الشك في صفة الطلاق:

ومثاله أن يتردد في كونها طلقة بائنة أو رجعية، وقد اختلف الفقهاء في اعتبار أحد هذين النوعين في صيغ الطلاق على قولين:

القول الأول: يحكم بالرجعية لأنها أضعف الطلاقين فكان متيقنا بها، فلو قال الرجل لزوجته: أنت طالق أقبح طلاق فهو رجعي عند أبي يوسف لأن قوله: أقبح طلاق يحتمل القبح الشرعي وهو الكراهية الشرعية، ويحتمل القبح الطبيعي وهو الكراهية الطبيعية، والمراد بها أن يطلقها في وقت يكره الطلاق فيه طبعا، فلا تثبت البينونة فيه بالشك.

__________

(1) قواعد الأحكام:2/ 18.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (101 )

القول الثاني: يحكم بالبينونة، وهو قول محمد بن الحسن الشيباني، لأن المطلق قد وصف الطلاق بالقبح، والطلاق القبيح هو الطلاق المنهي عنه، وهو البائن، ولذلك يقع بائنا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة إن كان الشك دائرا بين كون الطلقة بائنة أو رجعية اعتبارها رجعية، فهو أقل ضررا، ولا يمكن القول بعدم اعتبارها مطلقا لأن الطلاق متيقن، ولكن الشك في البينونة وعدمها.

الشك في الطلاق المعلق:

ويضرب الفقهاء مثالا هنا لعدم اعتبار الشك، ولو كان متحققا في موضع لا بعينه وهو ما إذا رأى رجلان طائرا فحلف أحدهما بالطلاق أنه غراب وحلف الآخر بالطلاق أنه حمام فطار، ولم يعلما لم يحكم بحنث واحد منهما؛ لأن يقين النكاح ثابت ووقوع الطلاق مشكوك فيه، فإن ادعت امرأة أحدهما حنثه فيها فالقول قوله؛ لأن الأصل معه واليقين في جانبه.

ومثله ما لو كان الحالف واحدا فقال: إن كان غرابا فزينب طالق، وإن كان حماما فهند طالق ولم يعلم ما هو لم يحكم بحنثه في شيء؛ لأنه متيقن للنكاح شاك في الحنث فلا يزول عن يقين النكاح والملك بالشك.

أما لو قال أحد الرجلين: إن كان غرابا فامرأته طالق ثلاثا، وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فامرأته طالق ثلاثا فطار، ولم يعلما فقد حنث أحدهما لا بعينه ولا يحكم به في حق واحد منهما بعينه بل تبقى في حقه أحكام النكاح من النفقة والكسوة والسكنى؛ لأن كل واحد منهما يقين نكاحه باق ووقوع طلاقه مشكوك فيه، وقد اختلفوا هنا في إباحة معاشرة كليهما لزوجته على قولين:

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (102 )

القول الأول: أنه يحرم عليهما؛ وهو قول الحنابلة، لأن أحدهما حانث بيقين، وامرأته محرمة عليه وقد أشكل فحرم عليهما جميعا كما لو حنث في إحدى امرأتيه لا بعينها، ومن الأدلة على ذلك أنه إنما تحقق حنثه في واحدة غير معينة وبالنظر إلى كل واحدة مفردة فيقين نكاحها باق وطلاقها مشكوك فيه، لكن لما تحققنا أن إحداهما حرام ولم يمكن تمييزها حرمتا عليه جميعا، وكذلك هاهنا قد علمنا أن أحد هذين الرجلين قد طلقت امرأته وحرمت عليه وتعذر التمييز فيحرم الوطء عليهما، ويصير كما لو تنجس أحد الإناءين لا بعينه، فإنه يحرم استعمال كل واحد منهما سواء كانا لرجلين أو لرجل واحد.

القول الثاني: لا يحرم على واحد منهما معاشرة امرأته، وهو قول الحنفية والشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه محكوم ببقاء نكاحه ولم يحكم بوقوع الطلاق عليه.

2 ـ أنه لا يصح قياسه على الحانث في إحدى امرأتيه؛ لأنه معلوم زوال نكاحه عن إحدى زوجتيه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم وقوع الطلاق في هذا، وسنبين أدلته التفصيلية في محلها.

الخطأ:

وهو أن يفعل فعلا من غير أن يقصده قصدا تاما، كمن أراد أن يتكلم بغير الطلاق فسبق لسانه بالطلاق، لكن لم يقصد به الطلاق فوجد قصد غير تام.

وذلك لأن تمام قصد الفعل بقصد محله، وفي الخطأ يوجد قصد الفعل دون قصد المحل، وهو مراد من قال: إنه فعل يصدر بلا قصد إليه عند مباشرة أمر مقصود سواء (1).

__________

(1) شرح التلويح:2/ 390، المبسوط:26/ 67، البحر المحيط:1/ 111.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (103 )

والخطأ نوعان:

1 ـ أن ينعدم منه القصد إلى المحل الذي أصاب، كأن يقصد الرمي إلى صيد أو هدف أو كافر فيصيب مسلما، ومثله في الطلاق ما ذكرناه من سبق اللسان بلفظ الطلاق دون قصد منه.

2 ـ أن يكون باعتبار ما في قصده، وإن كان هو قاصدا إلى المحل الذي أراد، كأن يرمي شخصا يظنه حربيا، فإذا هو مسلم، أو يظنه صيدا فإذا هو مسلم، مثاله في الطلاق أن يطلق زوجة من زوجاته، وهو يظنها أخرى.

وقد اختلف الفقهاء في حكم طلاق المخطئ على قولين:

القول الأول: يقع طلاق الخاطئ، وهو قول الحنفية، وقد روي عن أبي حنيفة أن من أراد أن يقول لامرأته اسقيني ماء فقال لها: أنت طالق، وقع، واستدلوا على ذلك بأن الفائت بالخطأ ليس إلا القصد، وهو ليس شرطا لوقوع الطلاق كالهازل واللاعب بالطلاق (1).

القول الثاني (2): لا يقع طلاق المخطئ، وهو قول الجمهور، ومن الأمثلة على ذلك أنه إذا تلفظ بكلمة الطلاق أو صيغها الصريحة ثم قال: أردت بقولي: فارقتك، أي بجسمي، أو بقلبي أو بمذهبي، أو سرحتك من يدي، أو شغلي، أو من حبسي، أو أي سرحت شعرك، قبل قوله.

ومثله ما لو قال: أردت بقولي: أنت طالق أي: من وثاقي، أو قال: أردت أن أقول: طلبتك. فسبق لساني، فقلت: طلقتك. ونحو ذلك، دين فيما بينه وبين الله تعالى، فمتى علم من نفسه ذلك، لم يقع عليه فيما بينه وبين ربه.

ونقل عن أحمد أنه سئل عن رجل حلف، فجرى على لسانه غير ما في قلبه، فقال:

__________

(1) بدائع الصنائع:3/ 101.

(2) المغني: 7/ 294، المحلى:9/ 459.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (104 )

أرجو أن يكون الأمر فيه واسعا.

ونقل عن مالك أنه إذا قال: أنت طالق ألبتة - وهو يريد أن يحلف على شيء - ثم بدا له فترك اليمين؟ فليست طالقا، لأنه لم يرد أن يطلقها (1).

وقال الشافعي: ما غلب المرء على لسانه بغير اختيار منه لذلك فهو كلا قول، لا يلزمه به طلاق ولا غيره.

وقد اختلف أصحاب هذا القول (2) في قبول دعواه في الحكم على رأيين:

الرأي الأول: لا يقبل إن كان في حال الغضب، أو سؤالها الطلاق، لأن لفظه ظاهر في الطلاق، وقرينة حاله تدل عليه، فكانت دعواه مخالفة للظاهر من وجهين، فلا تقبل، أما إن لم تكن هذه الحال فإنه يقبل قوله، وهو قول جابر بن زيد، والشعبي، والحكم، وأحمد، لأنه فسر كلامه بما يحتمله احتمالا غير بعيد، فقيل: كما لو قال؛ أنت طالق، أنت طالق. وقال: أردت بالثانية إفهامها.

الرأي الثاني: لا يقبل قوله، وهو مذهب الشافعي؛ لأنه خلاف ما يقتضيه الظاهر في العرف، فلم يقبل في الحكم، كما لو أقر بعشرة، ثم قال: زيوفا، أو صغارا، أو إلى شهر.

ومما استدل به أصحاب هذا القول:

1 ـ قول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ

__________

(1) نقلا عن المحلى:9/ 459، وهذا بخلاف من حلف بطلاق على شيء فوجده خلافا أو أن لا يكلم فلانا فكلمه ناسيا، ففي المدونة: سئل ابن شهاب عن رجل قال: هذا فلان، فقال رجل: ليس به، قال: امرأته طالق ثلاثا إن لم يكن فلانا، أو قال: إن كلم فلانا فامرأته طالق ثلاثا، فكلمه ناسيا قال: نرى أن يقع عليه الطلاق، وفيها عن يونس أنه سأل ربيعة عن رجل ابتاع سلعة فقال له رجل: بكم أخذتها فأخبره، فقال: لم تصدقني فطلق امرأته إن لم يخبره، فقال: بكم؟ فقال: بدينار ودرهمين ثم إنه ذكر فقال: أخذتها بدينار وثلاثة دراهم قال ربيعة أرى إن خطأه بما نقص أو زاد سواء قد طلق امرأته ألبتة. انظر: المدونة: 2/ 80.

(2) واتفقوا على أن من صرح بذلك في اللفظ، فقال: طلقتك من وثاقي، أو فارقتك بجسمي، أو سرحتك من يدي. فلا شك في أن الطلاق لا يقع ; لأن ما يتصل بالكلام يصرفه عن مقتضاه، كالاستثناء والشرط.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (105 )

وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب:5)

2 ـ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) (1) فصح أن لا عمل إلا بنية ولا نية إلا بعمل.

3 ـ من أقوال الصحابة، حديث خيثمة بن عبد الرحمن السابق ذكره، وهو أنه قالت امرأة لزوجها: سمني؟ فسماها الظبية، قالت: ما قلت شيئا؟ قال: فهات ما أسميك به؟ قالت: سمني خلية طالق، قال: فأنت خلية طالق، فأتت عمر فقالت: إن زوجي طلقني؟ فجاء زوجها فقص عليه القصة؟ فأوجع عمر رأسها، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم وقوع الطلاق مطلقا ديانة وقضاء، فذلك ما تدل عليه الأدلة الشرعية الكثيرة، وهو أوفق بمقاصد الشريعة من حيث تضييق باب الطلاق، وقد اعتبر ابن القيم هذا وما سبق ذكره من المخارج التي يضيق بها باب الطلاق، يقول في إعلام الموقعين: (المخرج الخامس: أن يفعل المحلوف عليه ذاهلا، أو ناسيا، أو مخطئا، أو جاهلا، أو مكرها، أو متأولا، أو معتقدا أنه لا يحنث به تقليدا لمن أفتاه بذلك، أو مغلوبا على عقله، أو ظنا منه أن امرأته طلقت فيفعل المحلوف عليه بناء على أن المرأة أجنبية فلا يؤثر فعل المحلوف عليه في طلاقها شيئا) (2).

وما قاله ابن القيم ليس استحسانا، وإنما هو ما ترشد إليه الأدلة الكلية، لأن الأدلة الخاصة بهذا المسائل ليست من القطعية بحيث ترفع الخلاف، فلذلك كان الرجوع للأدلة الكلية أولى، وقد قال ابن القيم عن هذه الأدلة الكلية: (عدم الحنث في ذلك هو الصواب

__________

(1) والبخارى (6/ 2551، رقم 6553)، ومسلم (3/ 1515، رقم 1907)

(2) إعلام الموقعين: 4/ 63.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (106 )

بلا ريب، وعليه تدل الأدلة الشرعية؛ ألفاظها وأقيستها واعتبارها، وهو مقتضى قواعد الشريعة؛ فإن البر والحنث في اليمين نظير الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، وإن فعل المكلف ذلك في أمر الشارع ونهيه لم يكن عاصيا، فأولى في باب اليمين أن لا يكون حانثا) (1)

ولا بأس أن نسرد هنا بعض ما ذكره ابن القيم كأمثلة على هذه الأدلة:

1 ـ أنه إنما عقد يمينه على فعل ما يملكه، والنسيان والجهل والخطأ والإكراه غير داخل تحت قدرته، فما فعله في تلك الأحوال لم يتناوله يمينه، ولم يقصد منع نفسه منه.

2 ـ أن الله تعالى قد رفع المؤاخذة عن المخطئ والناسي والمكره، فإلزامه بالحنث أعظم مؤاخذة لما تجاوز الله عن المؤاخذة به.

3 ـ أنه تعالى لما تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها لم تتعلق به المؤاخذة في الأحكام.

4 ـ أن فعل الناسي والمخطئ بمنزلة فعل النائم في عدم التكليف به، ولهذا هو عفو لا يكون به مطيعا ولا عاصيا.

5 ـ أن الله تعالى إنما رتب الأحكام على الألفاظ؛ لدلاتها على قصد المتكلم بها، وإرادته، فإذا تيقنا أنه قصد كلامها، ولم يقصد معانيها، ولم يقصد مخالفة ما التزمه ولا الحنث فإن الشارع لا يلزمه بما لم يقصده، بل قد رفع المؤاخذة عنه بما لم يقصده من ذلك.

6 ـ أن اللفظ دليل على القصد، فاعتبر؛ لدلالته عليه، فإذا علمنا يقينا خلاف المدلول لم يجز أن نجعله دليلا على ما تيقنا خلافه. وقد رفع الله المؤاخذة عن قتل المسلم المعصوم بيده مباشرة إذا لم يقصد قتله بل قتله خطأ، ولم يلزمه شيئا من ديته، بل حملها غيره، فكيف يؤاخذه بالخطأ والنسيان في باب الأيمان.

7 ـ رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤاخذة عمن أكل وشرب في نهار رمضان ناسيا لصومه، مع أن أكله وشربه فعل لا يمكن تداركه، فكيف يؤاخذه بفعل المحلوف عليه ناسيا ويطلق عليه

__________

(1) إعلام الموقعين:4/ 65.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (107 )

امرأته ويخرب بيته ويشتت شمله وشمل أولاده، وأهله وقد عفا له عن الأكل والشرب في نهار الصوم ناسيا.

8 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عفا عمن أكل أو شرب في نهار الصوم عمدا غير ناس لما تأول الخيط الأبيض والخيط الأسود بالحبلين المعروفين، فجعل يأكل حتى تبينا له وقد طلع النهار، وعفا له عن ذلك، ولم يأمره بالقضاء، لتأويله، فما بال الحالف المتأول لا يعفى له عن الحنث بل يخرب بيته، ويفرق بينه وبين حبيبته ويشتت شمله كل مشتت؟

9 ـ أن الشارع قد عفا عن المتكلم في صلاته عمدا، ولم يأمره بالإعادة لما كان جاهلا بالتحريم لم يتعمد مخالفة حكمه، فألغى كلامه، ولم يجعله مبطلا للصلاة، فكيف لا يقتدى به ويلغى قول الجاهل وفعله في باب الأيمان ولا يحنثه كما لم يؤثمه الشارع؟

10 ـ أن الشارع إذا كان قد عفا عمن قدم شيئا أو أخره من أعمال المناسك من الحلق والرمي والنحر نسيانا أو جهلا فلم يؤاخذه بترك ترتيبها نسيانا، فكيف يحنث أن قدم ما حلف على تأخيره أو أخر ما حلف على تقديمه ناسيا أو جاهلا؟

11 ـ أن الشارع إذا كان قد عفا عمن حمل القذر في الصلاة ناسيا أو جاهلا به، فكيف يؤاخذ الحالف ويحنث به؟

قال ابن القيم بعد ذكره لتلك الأمثلة وغيرها: (وبالجملة فقواعد الشريعة وأصولها تقتضي ألا يحنث الحالف في جميع ما ذكرنا ولا يطرد على القياس ويسلم من التناقض إلا هذا القول، وأما تحنيثه في جميع ذلك فإن صاحبه وإن سلم من التناقض لكن قوله مخالف لأصول الشريعة وقواعدها، وأدلتها، ومن حنث في بعض ذلك دون بعض تناقض، ولم يطرد له قول، ولم يسلم له دليل عن المعارضة) (1)

__________

(1) إعلام الموقعين:4/ 66.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (108 )

4 ـ السكر

عرفه ابن العربي بأنه عبارة عن حبس العقل عن التصرف على القانون الذي خلق عليه في الأصل من النظام والاستقامة، فكل ما حبس العقل عن التصرف فهو سكر، وقد يكون من الخمر، وقد يكون من النوم، وقد يكون من الفرح والجزع.

ولكن هذا التعريف غير مانع لما ذكره ابن العربي من أن الإطلاق الشرعي للسكر يراد منه سكر الخمر، قال: (وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن المراد بهذا السكر سكر الخمر (1)

وعرفه في كشف الأسرار بأنه (سرور يغلب على العقل بمباشرة بعض الأسباب الموجبة له، فيمنع الإنسان عن العمل بموجب عقله من غير أن يزيله) (2)،وعلى هذا القول لا يكون ما حصل من شرب الدواء مثل الأفيون من أقسام السكر؛ لأنه ليس بسرور.

وعرف بأنه غفلة تلحق الإنسان مع فتور في الأعضاء بمباشرة بعض الأسباب الموجبة لها من غير مرض وعلة.

وعرف بأنه معنى يزول به العقل عند مباشرة بعض الأسباب المزيلة، وعلى هذا القول بقاؤه مخاطبا بعد زوال العقل يكون أمرا حكميا ثابتا بطريق الزجر عليه لمباشرته المحرم، لا أن يكون العقل باقيا حقيقة؛ لأنه يعرف بأثره ولم يبق للسكران من آثار العقل شيء فلا يحكم ببقائه.

وعرف بأنه حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة إليه، فيتعطل معه عقله المميز بين الأمور الحسنة، والقبيحة (3).

__________

(1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 552.

(2) كشف الأسرار:4/ 352.

(3) شرح التلويح على التوضيح:2/ 369.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (109 )

وقد نص أكثر الفقهاء على أن ضابط السكر هو من اختلط كلامه وكان غالبه هذيانا، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة، وهو قول الظاهرية، قال ابن حزم: (حد السكر: هو أن يخلط في كلامه فيأتي بما لا يعقل، وبما لا يأتي به إذا لم يكن سكران، وإن أتى بما يعقل في خلال ذلك، لأن المجنون قد يأتي بما يعقل، ويتحفظ من السلطان ومن سائر المخاوف. وأما من ثقل لسانه وتخبل مخرج كلامه وتخبلت مشيته وعربد فقط إلا أنه لم يتكلم بما لا يعقل - فليس هو سكران) (1)

واستدل لذلك بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء:43)، ووجهها بقوله: (فبين الله تعالى أن السكران لا يعلم ما يقول، فمن لم يعلم ما يقول فهو سكران، ومن علم ما يقول فليس بسكران. ومن خلط فأتى بما يعقل وما لا يعقل فهو سكران، لأنه لا يعلم ما يقول)

وقيل بأن السكران هو الذي لا يعرف الأرض من السماء، والرجل من المرأة، وهو قول أبي حنيفة والمزني من الشافعية (2)، وهو قريب من الأول.

بناء على هذا، فقد اختلف الفقهاء في وقوع طلاق السكران على قولين:

القول الأول: أنه يقع طلاقه، وهو مروي عن النخعي، وابن سيرين، والحسن، وميمون بن مهران، وحميد بن عبد الرحمن، وعطاء، وقتادة، والزهري، وهو قول سفيان الثوري، والحسن بن حي، والشافعي - في أحد قوليه (3)، ومالك (4)، وأبي حنيفة، ومن الأدلة على ذلك:

__________

(1) المحلى: 9/ 472.

(2) معالم القربة في معالم الحسية:35.

(3) للشافعي في ذلك قولان: أحدهما: يلزمه الطلاق وعليه أكثر أصحابه. والثاني لا يلزمه وبه قال المزني.

(4) اختلف قول المالكية في تصرفات السكران فقال مالك: طلاق السكران ونكاحه وجميع أفعاله جائزة إلا الردة فقط، فلا يحكم له في شيء من أموره بحكم المرتد، وروى عنه ابن وهب يجوز طلاقه ولا يجوز نكاحه، وقال مطرف بن عبد الله: لا يلزم السكران شيء ولا يؤاخذ بشيء، إلا بأربعة أشياء لا خامس لها - هكذا قال، ثم سماها - فقال: الطلاق، والعتق، والقتل، والقذف.

وقال أبو عبدالله المازري: وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران، وقال محمد بن عبدالحكم لا يلزمه طلاق ولا عتاق، وقد نزل ابن رشد الخلاف على المخلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الإختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب قال فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة فلا إختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأحواله فيما بينه وبين الناس وفيما بينه وبين الله تعالى، انظر: القرطبي: 5/ 204، المدونة:6/ 24، مواهب الجليل:3/ 452، التاج والإكليل:4/ 43.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (110 )

1 ـ دليل الوصف في قوله تعالى:: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء:43)، لأنه إن كان خطابا له في حال سكره فهو نص على أنه مكلف، وإن كان خطابا له قبل سكره فهو دليل على أنه مخاطب في حال سكره؛ لأنه لا يقال: إذا جننت فلا تفعل كذا.

2 ـ حديث (لا قيلولة في الطلاق) (1)

3 ـ حديث: (كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه) (2)

4 ـ أن الصحابة أوقعوا عليه الطلاق، فقد روي أن رجلا من أهل عمان تملأ من الشراب فطلق امرأته ثلاثا فشهد عليه نسوة فكتب إلى عمر بذلك، فأجاز شهادة النسوة، وأثبت عليه الطلاق.

5 ـ أن الصحابة أقاموه مقام الصاحي في كلامه فإنهم قالوا: إذا شرب سكر، وإذا

__________

(1) أخرجه العقيلي كما في نصب الراية (3/ 222)، وابن حزم في المحلى (10/ 203) متصلا وفي سنده بقية بن الوليد وهو مدلس وقد عنعن، وروي مرسلا وليس فيه بقية، وفي المتصل والمرسل الغازي بن جبلة قال البخاري: حديثه منكر في طلاق المكره، وكذا قال أبو حاتم: انظر لسان الميزان (4/ 479)، الكامل لابن عدي (6/ 9)، نصب الراية (3/ 222)

(2) أخرجه الترمذى (3/ 496، رقم 1191)، وقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان، وعطاء بن عجلان ضعيف.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (111 )

سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون (1).

6 ـ أن الخطاب إنما يتوجه باعتدال الحال، ولكنه أمر باطن لا يوقف على حقيقته فيقام السبب الظاهر الدال عليه، وهو البلوغ عن عقل مقامه؛ تيسيرا، وبالسكر لا ينعدم هذا المعنى.

7 ـ إذا ثبت أنه قيلولة مخاطب فإن غفلته عن نفسه لما كانت بسبب معصية، ولا يستحق به التخفيف، لم يكن ذلك عذرا في المنع من نفوذ شيء من تصرفاته بعد ما تقرر سببه.

8 ـ أنه بالسكر لا يزول عقله إنما يعجز عن استعماله؛ لغلبة السرور عليه، بخلاف البنج، فإن غفلته ليست بسبب هو معصية، وما يعتريه نوع مرض لا أن يكون سكرا حقيقة، فيكون بمنزلة الإغماء.

9 ـ أن السكران يخالف النائم؛ لأن النوم يمنعه من العمل، والسكر لا يمنعه من العمل مع أن الغفلة بسبب النوم لم تكن عن معصية.

10 ـ أن إيقاع الطلاق عقوبة له.

11 ـ أن ترتب الطلاق على التطليق من باب ربط الأحكام بأسبابها فلا يؤثر فيه.

12 ـ عدم صحة قياس السكران المغلوب على عقله بالمجنون المغلوب على عقله، وذلك من وجهين (2):

__________

(1) قال ابن حزم: هذا خبر مكذوب قد نزه الله تعالى عليا وعبد الرحمن عنه، لأنه لا يصح إسناده، وقد رد عليه من باب المعنى بقوله:) ثم عظيم ما فيه من المناقضة، لأن فيه إيجاب الحد على من لا حد عليه، وهلا قلتم إذا هذى كفر وإذا كفر قتل (المحلى: 10/ 211، وانظر: زاد المعاد:5/ 213.

(2) الأم:5/ 270.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (112 )

الوجه الأول: أن المريض مأجور ومكفر عنه بالمرض مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله، والسكران آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم فكيف يقاس من عليه العقاب بمن له الثواب.

الوجه الثاني: أن الصلاة والفرائض من حج أو صيام أو غيرها مرفوعة عمن غلب على عقله ولا ترفع عن السكران.

أن كل من لزمه القطع بالسرقة والقصاص في القتل لزمه الطلاق، ولا خلاف في إلزامه القطع بالسرقة، ومثله القصاص في القتل فلا خلاف فيه.

القول الثاني: عدم وقوع طلاقه، وهو مذهب يحيى بن سعيد الأنصاري وحميد بن عبدالرحمن وربيعة والليث بن سعد بن الحسن وإسحاق بن راهويه وأبي ثور والشافعي في أحد قوليه واختاره وغيره من الشافعية ومذهب أحمد في إحدى الروايات عنه وهي التي استقر عليها وصرح برجوعه إليها (1)، وهذا مذهب أهل الظاهر كلهم واختاره من الحنفية أبو الطحاوي وأبو الحسن الكرخي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى:: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء:43)، فجعل سبحانه قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول، قال الشوكاني: (وقد تمسك بهذا من قال إن طلاق السكران لا يقع لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد) (2)، وقال ابن حرم: (ومن أخبر الله تعالى أنه لا يدري ما يقول، فلا يحل أن يلزم شيئا من الأحكام لا طلاقا ولا غيره مخاطب إذ ليس من ذوي الألباب) (3)

2 ـ حديث ماعز بن مالك، فإنه لما جاء الى النبى صلى الله عليه وآله وسلم وأقر أنه زنى أمر النبى صلى الله عليه وآله وسلم أن

__________

(1) منار السبيل: 2/ 210.

(2) فتح القدير:1/ 468.

(3) المحلى:10/ 209.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (113 )

يستنكهوه ليعلموا هل هو سكران أم لا (1)، فإن كان سكران لم يصح إقراره، وإذا لم يصح إقراره علم أن أقواله باطلة كأقوال المجنون.

3 ـ ما رووا في قصة حمزة (2) لما عقر بعيري علي فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقف عليه يلومه فيه النظر وصوبه وهو سكران، وقال: هل أنتم إلا عبيد لأبي فنكص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عقبيه وهذا القول لو قاله غير لكان ردة وكفرا ولم يؤاخذ بذلك حمزة.

4 ـ ما صح عن عثمان بن عفان أنه قال: ليس لمجنون ولا سكران طلاق، وقال: عطاء طلاق السكران لا يجوز، وصح عن عمر بن عبد العزيز أنه أتي بسكران طلق فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو طلقها وهو لا يعقل فحلف فرد إليه امرأته وضربه الحد.

5 ـ أنه لا يقع الطلاق إلا ممن يعلم ما يقول كما أنه لا تصح صلاته في هذه الحالة ومن لا تصح صلاته لا يقع طلاقه.

6 ـ أنه ليس للسكران قصد صحيح، والإيقاع يعتمد القصد الصحيح؛ ولهذا لا يصح من الصبي، والمجنون، ولأن غفلته عن نفسه فوق غفلة النائم، فإن النائم ينتبه إذا نبه والسكران لا ينتبه، ثم طلاق النائم لا يقع، فطلاق السكران، أولى.

7 ـ أنه لا يصح أن يقال بأن غفلته هنا بسبب المعصية، وذلك سبب للتشديد عليه لا للتخفيف، لأن السكران لو ارتد تصح ردته بالاتفاق، ولا تقع الفرقة بينه وبين امرأته، ولو اعتبر هذا المعنى؛ لحكم بصحة ردته.

8 ـ أن خطابه يحمل على الذي يعقل الخطاب أو على الصاحي، وأنه نهي عن السكر من أجل الصلاة وأما من لا يعقل فلا يؤمر ولا ينهى.

9 ـ أن إلزامه بجناياته محل نزاع لا محل وفاق، فعن أحمد أنه كالمجنون في كل فعل له

__________

(1) ونرى انها من المكذوبات الموضوعات التي وضعها بنو امية وأتباعهم لتشويه أقارب رسول الله (.

(2) المحلى:10/ 209.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (114 )

العقل.

10 ـ ما أجمع العلماء عليه بأن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس.

11 ـ أن الإجماع منعقد على أن شرط التكليف العقل، وأن من لا يعقل ما يقول فليس بمكلف، ولو كان مكلفا لوجب أن يقع طلاقه إذا كان مكرها على شربها أو غير عالم خمر وهم لا يقولون به.

12 ـ إن الحد عقوبة، وقد حصل رضي الله سبحانه من هذه العقوبة بالحد ولا عهد لنا في الشريعة بالطلاق والتفريق بين الزوجين.

13 ـ أن حديث (لا قيلولة في الطلاق) خبر لا يصح، ولو صح لوجب حمله على طلاق مكلف يعقل دون من لا يعقل، ولهذا لم يدخل فيه طلاق المجنون.

14 ـ أن خبر (كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه) (1) لا يصح، ولو صح لكان في المكلف.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التفريق بين أحوال السكران، فإن كان له بعض العقل الذي يعي به ما يقول، وقصد الطلاق من غير غضب ونحوه، فإن طلاقه يقع، لأن له القدرة العقلية الكافية للتصرف، ولو صح حمل القول الأول على هذا لانتفى الخلاف، لاتفاق أصحاب القول الثاني على أن من بقي معه من عقله ما يدرك به ويصح معه القصد صح طلاقه.

وقد فهم الباجي في محاولته للجمع بين روايات المالكية في المسألة هذا من اختلاف الروايات فقال: (والذي عندي في هذا أن السكران المذكور لا يذهب عقله جملة، وإنما يتعين

__________

(1) أخرجه الترمذى (3/ 496، رقم 1191)، وقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن عجلان، وعطاء بن عجلان ضعيف.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (115 )

مع صحة قصده إلى ما يقصده ولذلك يقتص منه في القتل لا خلاف فيه، وأما لو بلغ إلى حد أن يغمى عليه ولا يبقى له عقل جملة فهذا لا يصح منه تطليق إذا بلغ هذه الحالة ولا يتهيأ منه ضرب ولا قصد إلى قتل ولا غيره، وإنما تكلم الفقهاء على المعتاد من سكر الخمر؛ لأن سكر الخمر ليس بمنزلة الجنون الذي يذهب العقل جملة، وإنما يتغير العقل تغييرا يجترئ به على معان لا يجترئ عليها صاحيا كالسفيه، ولو علم أنه بلغ حد الإغماء لما اقتص منه ولا لزمه طلاق ولا غيره كسائر من أغمي عليه)

والقول بعدم وقوع طلاق السكران يتوافق مع ما ذكرنا من لزوم تضييق دائرة الطلاق ما أمكن، أما ما يستشعره البعض من بغض للسكر، ولزوم عقوبته، فإن هذا البغض لا ينبغي أن يتعدى حده ليفرق بين الزوجين بسببه، فقد يتوب السكران ويصلح حاله، ثم لماذا نلزمه الطلاق عقوبة وقد جعل الشرع للسكر عقوبته الخاصة به؟ ثم من نحن حتى نعاقبه؟

وقد ذكر ابن حزم أن اعتبار العقوبة هو أعظم ما دعا للقول بوقوع طلاق السكران، فقال: (فنظرنا فيما يحتج به من خالف قولنا، فوجدناهم يقولون هو أدخل على نفسه ذهاب عقله بمعصيته لله تعالى فقلنا: فكان ماذا ومن أين وجب إذا أدخل ذلك على نفسه أن يؤاخذ بما يجنى في ذهاب عقله؟ وهذا ما لا يوجد في قرآن ولا سنة) (1)

ثم ذكر من مثالا متفقا عليه يدل على أن المعصية لا تعني التضييق على العاصي فيما أحل له، فقال: (ولا خلاف بينكم فيمن تردى ليقتل نفسه عاصيا لله تعالى فسلمت نفسه إلا أنه سقط على رأسه، ففسد عقله، وفيمن حارب وأفسد الطريق فضرب في رأسه ففسد عقله أنه لا يلزمه شيء مما يلزم الأصحاء، وهو الذي أدخل على نفسه الجنون بأعظم المعاصي، ثم لا يختلفون فيمن أمسكه قوم عيارون فضبطت يداه ورجلاه وفتح فمه بكلوب

__________

(1) المحلى:10/ 210.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (116 )

وصب فيه الخمر حتى سكر أنه مؤاخذ بطلاقه وهو لم يدخل على نفسه شيئا ولا عصى فظهر فساد اعتراضهم) (1)

5 ـ الغضب

وقد عرف بأنه (تغير يحصل عند ثوران دم القلب ذروته الانتقام) (2)، وقد ذكر العلماء للغضب بحسب شدته وضعفه ثلاث درجات لها علاقة بما سنذكره من حكم طلاق الغضبان، هذه الدرجات هي:

الغضب البسيط: وهو الذي لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه، ويعلم ما يقول وما يقصده.

الغضب الشديد: وهو ما يغلق عليه باب العلم والإرادة بحيث لا يعلم ما يقول ولا يريده.

الغضب المتوسط: وهو ما كان وسطا بين الغضب البسيط والغضب الشديد.

أما الغضب البسيط فلا خلاف بين العلماء في وقوع طلاقه وصحة عقوده، ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردده فكره.

ولا خلاف كذلك في عدم وقوع طلاق صاحب الغضب الشديد، لأن أقوال المكلف لا تعتبر إلا بعلمه بصدورها منه وبفهمه لمعناها، وإرادته للتكلم بها، فلذلك لا يؤاخذ النائم والمجنون والسكران، ومن يتكلم باللفظ وهو لا يعلم معناه.

أما الغضب المتوسط، فيختلف حكمه باختلاف أسبابه، وأسبابه ثلاثة واحد متفق على وقوع الطلاق فيه واثنان مختلف فيهما:

__________

(1) المحلى:10/ 210.

(2) التعاريف:539، التعريفات:209.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (117 )

السبب المتفق على وقوع الطلاق فيه:

وهو الطلاق مع العلم والقصد، لا مجرد إطفاء الغضب، كأن يكون قد غضب عليها لما علم وقوع شيء منها، فتكلم بكلمة الطلاق قاصدا للطلاق عالما بما يقول، قاصدا من ذلك عقوبتها على ذلك، فهذا يقع طلاقه بالضرورة، إذ لو لم يقع هذا الطلاق لم يقع أكثر الطلاق فانه غالبا لا يقع مع الرضا.

ومثاله ما لو زنت امرأته فغضب، فطلقها، لأنه لا يرى المقام مع زانية، فلم يقصد بالطلاق إطفاء نار الغضب، بل التخلص من المقام مع زانية، بخلاف من خاصمته زوجته وهو يعلم من نفسه إرادة المقام معها على الخصومة وسوء الخلق، ولكن حملة الغضب على أن يشفي نفسه بالتكلم بالطلاق كسرا لها وإطفاء لنار غضبه.

الأسباب المختلف فيها:

الطلاق لمجرد الظن الذي ينفيه التحقيق:

وهو أن يبلغه عن زوجته مثلا ما يشتد غضبه لأجله، ويظن أنه حق فيطلقها لأجله، ثم يتبين أنها بريئة منه، وأكثر الفقهاء على وقوع طلاقه، للأدلة التي سنذكرها، ورجح ابن القيم عدم وقوع طلاقه، لأنه إنما أوقع الطلاق لعلة فإذا انتفت العلة تبين أنه لم يكن مريدا لوقوعه بدونها، سواء صرح بالعلة أو لم يصرح بها، لأن العلة بمنزلة الشرط، كما لو قال: أنت طالق، وقال: أردت إن فعلت كذا وكذا.

طلاق الغاضب من غير قصد:

وهو أن لا يقصد أمرا بعينه، ولكن الغضب حمله على ذلك وغير عقله ومنعه كمال التصور والقصد، فكان بمنزلة الذي فيه نوع من السكر والجنون، فليس هو غائب العقل بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية، ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرا، وقد اختلف الفقهاء في وقوع طلاق من غضب هذا الغضب على قولين:

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (118 )

القول الأول: وقوع طلاقه، وهو قول جمهور العلماء (1)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن الغضبان أتى بالسبب اختيارا وأراد في حال الغضب ترتب أثره عليه، ولا يضر عدم إرادته له في حال رضاه إذ الاعتبار بالإرادة إنما هو التلفظ، بخلاف المكره فإنه محمول على التكلم بالسبب غير مريد لترتب أثره عليه وبخلاف السكران المغلوب عقله، فإنه غير مكلف والغضبان مكلف مختار فلا وجه لإلغاء كلامه.

2 ـ أنه لا يصح قياس الغضبان على المكره، لأن المكره إذا تكلم بما اكره عليه دفع عنه الضرر والغضبان لا يدفع عنه بهذا القول ضررا.

3 ـ أنه يلزم من عدم وقوع طلاقه أنه لو حلف في هذه الحال لا تنعقد يمينه.

القول الثاني: عدم وقوع طلاقه، وهو اختيار الطحاوي وأبي الحسن الكرخي وإمام الحرمين وابن تيمية وأحد قولي الشافعي، وقول الإمامية (2)، وقد استدل ابن القيم لذلك بالأدلة الكثيرة، وسنذكر الكثير منها هنا لأهمية المسألة:

1 ـ النصوص الدالة على عدم المؤاخذة إلا بالكسب، ومنها قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيم} (البقرة:225) ووجه الاستدلال بالآية هو ما روي في تفسيرها من اعتبار الغضب من لغو اليمين، فعن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان، وعن طاووس قال: كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان فلا كفارة عليه فيها لقوله تعالى: {لَا

__________

(1) انظر: الروض المريع: 3/ 145، زاد المستقنع: 181، كشاف القناع: 5/ 235، حواشي الشرواني: 8/ 32، حاشية ابن عابدين: 3/ 244، حاشية الدسوقي: 2/ 366.

(2) نقل ابن القيم عن جعفر الصادق قوله: (لا طلاق الا على بينة، ولا طلاق الا على طهر من غير جماع، وكل طلاق في غضب او يمين او عتق فليس بطلاق الا لمن اراد الطلاق)، فهم يشترطون في وقوع الطلاق اذن الشارع فيه ومالم يأذن فيه الشارع فهو عندهم لاغ غير نافذ، قال ابن تيمية: (وقولهم اصح في الدليل من قول من يوقع الطلاق الذي لم يأذن فيه الله وسوله ويراه صحيحا لازما)، انظر: طلاق الغضبان لابن القيم:64.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (119 )

يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (البقرة:225) (1)

2 ـ أن الله تعالى قد جعل لغو اليمين مقابلا لكسب القلب، كما قال تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (البقرة:225) مع العلم أن الغضبان والحالف على الشيء يظنه كما حلف عليه لم يكسب قلبه عقد اليمين ولا قصدها، والله تعالى قد رفع المؤاخذة بلفظ جرى على اللسان لم يكسبه القلب ولا يقصده فلا تجوز المؤاخذة بما رفع الله المؤاخذة به، ومن هذا الباب لم يؤاخذ الله تعالى الذي اشتد فرحه بوجود راحلته بعد الإياس منها فلما وجدها أخطأ من شدة الفرح وقال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فجرى هذا اللفظ على لسانه من غير قصد فلم يؤاخذه كما يجري الغلط في القرآن على لسان القارئ.

3 ـ أن دعاء الغضبان على أهله في حال غضبه لا يصح ولا يؤثر، وهو المقصود بقوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} (يونس:11)، وقوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} (الإسراء:11)، ووجه الاستدلال بالآيتين هو قول مجاهد في تفسيرها بأن ذلك هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم: اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب في الخير لأهلكهم، فصار الغضب بهذا مانعا من انعقاد سبب الدعاء مع دلالة النصوص على أن تأثيره في الإجابة أسرع من تأثير الأسباب في أحكامها، فالله تعالى يجيب دعاء الصبي والسفيه والمجنون ومن لا يصح طلاقه ولا عقوده رحمة من الله تعالى به، فعدم إيقاع طلاقه ينبغي أن تكون من هذا الباب.

4 ـ قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ

__________

(1) انظر: تفسير الطبري:2/ 409.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (120 )

بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأعراف:150)، ووجه الاستدلال بالآية: أن موسى عليه السلاملم يكن ليلقي ألواحا فيها كلام الله تعالى فيكسرها اختيارا منه لذلك، ولا كان فيه مصلحة لبني إسرائيل، وإنما حمله على ذلك الغضب فعذره الله تعالى به، ولم يعتب عليه بما فعل، لأن مصدره الغضب الخارج عن قدرة العبد واختياره فالمتولد عنه غير منسوب إلى اختياره ورضاه به.

وقد ذكر ابن القيم إشارة في قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (الأعراف:154)، وهي أن الله تعالى عدل عن قوله سكن إلى قوله (سكت) تنزيلا للغضب منزلة السلطان الآمر الناهي الذي يقول لصاحبه: افعل لا تفعل فهو مستجيب لداعي الغضب الناطق فيه المتكلم على لسانه فهو أولى بان يعذر من المكره الذي لم يتسلط عليه غضب يأمره وينهاه، ولهذا يقاس الغضبان على المكره (1).

5 ـ النصوص الدالة على أن الغضب من الشيطان كقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف:200) لأن ما يتكلم به الغضبان في حال شدة غضبه من طلاق وأو شتم ونحوه هو من نزغات الشيطان فإنه يلجئه إلى أن يقول ما لم يكن مختارا، والدليل على ذلك ما ورد في الحديث أن رجلين استبا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى احمر وجه أحدهما وانتفخت أوداجه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) (2)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، وانما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) (3)، وإذا كان هذا السبب

__________

(1) طلاق الغضبان:34.

(2) البخاري: 5/ 2267، ابن حبان: 12/ 505، النسائي: 6/ 104.

(3) أحمد: 4/ 226، مسند الطيالسي:.25، المعجم الكبير: 17/ 167.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (121 )

وأثره من إلجاء الشيطان لم يكن من اختيار العبد فلا يترتب عليه حكمه.

6 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا طلاق ولا عتاق في اغلاق) (1)، وقد كان الخلاف في هذا الحديث هو سبب الخلاف في كثير من مسائل أحوال المطلق، وقد ذكر ابن القيم أنه اختلف في تفسير الإغلاق على ثلاثة تفسيرات (2)، هي:

التفسير الأول: أنه الإكراه، وهو قول أهل الحجاز، لأن الذي اكره على أمر قد أغلق عليه باب القصد والإرادة لما أكره عليه، فالإغلاق في حقه بمعنى إغلاق أبواب القصد والإرادة له، ومن هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له) (3)

التفسير الثاني: هو الغضب الشديد، وهو قول أهل العراق، لأن الغضبان هو الذي يمنعه الغضب من معرفة ما يقول وقصده فهو من أعظم الإغلاق، وهو في هذا الحال بمنزلة المجنون، وهذا لا يتوجه فيه نزاع انه لا يقع طلاقه والحديث يتناول هذا القسم قطعا.

التفسير الثالث: أن الإغلاق يشمل هذا النوع من الغضب زيادة على شموله معنى الإكراه.

7 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين) (4)، ووجه الاستدلال بالحديث أنه إذا كان النذر وهو طاعة محضة قد أثر الغضب في انعقاده لكون الغضبان لم يقصده، وإنما حمله على بيانه الغضب فالطلاق بطريق الأولى، أما ترتب الكفارة على النذر، فلأن الكفارة لا تستلزم التكليف، ولهذا تجب في مال الصبي والمجنون إذا قتلا صيدا أو

__________

(1) أخرجه أحمد (6/ 276، رقم 26403)، وأبو داود (2/ 258، رقم 2193)، وابن ماجه (1/ 660، رقم 2046)، والحاكم (2/ 216، رقم 2802) وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقى (7/ 357، رقم 14874)

(2) طلاق الغضبان: 37.

(3) البخاري: 6/ 2718، مسلم: 4/ 2063، ابن حبان: 3/ 257، النسائي: 6/ 150، الموطأ: 213، أحمد: 2/ 243.

(4) البيهقي: 10/ 70، المجتبى: 7/ 28، المعجم الأوسط: 2/ 297، أحمد: 4/ 440، المعجم الكبير:18/ 164.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (122 )

غيره وتجب على قاتل الصيد ناسيا أو مخطئا، وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيا عند كثير من العلماء.

8 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) (1)، ووجه الاستدلال بالحديث، أنه لولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينهه عن الحكم حال الغضب.

9 ـ عن ابن عباس قال: (الطلاق عن وطر، والعتق ما ينبغي به وجه الله) (2)، فحصر الطلاق فيما كان عن وطر وهو الغرض المقصود، والغضبان بهذه الصورة لا وطر له.

10 ـ أن الطلاق حكم شرعي يستدعي دليلا شرعيا، وهو إما نص أو معقول نص، وكلاهما منتف، وبما أن اللازم منتف فالملزوم مثله.. وكذلك فإن النكاح ثابت بإجماع فلا يزول إلا بإجماع مثله، أو أن نكاحه قبل صدور هذا اللفظ منه ثابت بالإجماع والأصل بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه.

11 ـ قياس الغضبان عل المكره: وذلك من وجوه، منها أن كلاهما يشترك في إرادة التنفيس عن الألم، لأن الأمر الذي حمل المكره على التكلم بالطلاق هو قصد الاستراحة من توقع ما أكره به أو من ألم ما أكره به، وهو يستوي في هذا مع الغضبان لأنه إذا اشتد به الغضب يألم بحمله، فيقول ما يقول ويفعل ما يفعل ليدفع عن نفسه حرارة الغضب، فيستريح بذلك، ومثله من يلطم وجهه ويصيح صياحا قويا ويلقي ما في يده دفعا لألم الغضب.

ومنها أن العاقل لا يستدعي الغضب ولا يريده، بل هو اكره شئ إليه، فلذلك لم يكن ذلك مضافا إلى اختياره وإرادته، فكما أن إرادة السبب إرادة للمسبب، فكذلك كراهة

__________

(1) البخاري: 6/ 2616، ابن حبان: 11/ 449، الترمذي:3/ 620، البيهقي: 10/ 105، أبو داود: 3/ 302، ابن ماجة:2/ 776.

(2) البخاري: 5/ 2019.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (123 )

السبب وبغضه كراهة للمسبب.

ومنها أن الخوف في قلب المكره كالغضب في قلب الغضبان، لكن المكره مقهور بغيره من خارج، والغضبان مقهور بغضبه الداخل فيه، وقهر الإكراه يبطل حكم الأقوال التي أكره عليها ويجعلها بمنزلة كلام النائم والمجنون دون حكم الأفعال لأنه يقتل إذا قتل ويضمن إذا تلف، فكذلك قهر الغضب يبطل حكم أقوال الغضبان دون أفعاله حتى لو قتل في هذه الحالة قتل أو أتلف شيئا ضمنه.

ومنها أن المكره أحسن حالا من الغضبان من عدة وجوه، فلذلك لا يقع طلاقه من باب فحوى الخطاب.

ومن الأمور التي يفضل فيها المكره على الغضبان أن للمكره قصدا وإرادة حقيقة لكنه محمول عليه، أما الغضبان فليس له قصد في الحقيقة فإذا لم يقع طلاق المكره، فطلاق هذا أولى بعدم الوقوع.

ومنها أن الغضبان قد يفعل امورا من شق الثياب وإتلاف المال ما لو أكره بها لم يفعلها، وهذا يدل على أن المقتضي لفعلها فيه اولى من اقتضاء الاكراه لفعلها والمكره لو فعل به ذلك كان مكرها فالغضبان كذلك.

12 ـ قياس الغضبان على الناسي: لأن الناس لا يؤاخذ بنسيانه، ولهذا لم يؤاخذ فتى موسى عليه السلام لما قال: {وَمَا أَنْسَانِي إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (الكهف:63)، والعلة في عدم المؤاخذة به هي أنه من أثر فعل الشيطان في القلب، وهو يشترك في ذلك مع الغضب فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الغضب من الشيطان، فيكون أثره مضافا إليه، فلا يؤاخذ به العبد كأثر النسيان.

فلو حلف ـ مثلا ـ أن لايتكلم بكذا، فتكلم به ناسيا لم يحنث لعدم قصده وارادته لمخالفة ما عقد يمينه عليه، وهذه نفس حال الغضبان، لأنه لم يقصد حقيقة ما تكلم به

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (124 )

وموجبه بل جرى على لسانه كما جرى كلام الناسي على لسانه.

13 ـ قياس الغضبان على المريض: فالغضب مرض من الأمراض وداء من الأدواء، يقول ابن القيم: (هو في أمراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في أمراض الأبدان، فالغضبان المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه) (1)

ثم بين وجه القياس على الغضب المتوسط بقوله: (وهذا قياس صحيح في الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى لا يعلم ما يقول، وأما إذا كان يعلم ما يقول ولكن يتكلم به حرجا وضيقا وغلقا لا قصدا للوقوع فهو يشبه المبرسم والهاجر من الحمى من وجه، ويشبه المكره القاصد للتكلم من وجه، ويشبه المختار القاصد للطلاق من وجه فهو متردد بين هذا وهذا وهذا، ولكن جهة الاختيار والقصد فيه ضعيف فإنه يعلم من نفسه أنه لم يكن مختارا لما صدر منه من خراب بيته وفراق حبيبه وكونه يراه في يد غيره فإن كان عاقلا لايختار هذا الا ليدفع به ما هو أكره إليه منه أو ليحصل به ما هو أحب إليه فإذا انتفى هذا أو هذا لم يكن مختارا لذلك وهذا أمر يعلمه كل إنسان من نفسه فصار تردده بين المريض المغلوب والمكره المحمول على الطلاق وأيهما كان فانه لا ينفذ طلاقه)

ويذكر أن من الناس من إذا لم ينفذ غضبه قتله أو مرض مرضا شديدا أو أغشى عليه، فإذا نفذ مثل هذا غضبه بقتل أو ظلم لغيره لم يعذر بذلك، أما إذا نفذ بقول فانه يمكن إهدار قوله وان لا يترتب أثره عليه، وخاصة إذا كان التلفظ بالطلاق دواء لهذا المرض وشفاء له بإخراج هذه الكلمة من صدره وتنفسه بها (2)، يقول ابن القيم: (فمن كمال هذه الشريعة

__________

(1) طلاق الغضبان:38.

(2) ولهذا ذهب بعض الفقهاء الى انه لا يجلد القذف في حال الخصومة والغضب وانما يجلد به اذا اتى به اختيارا وقصدا لقذفه وهو قول قوي جدا ويدل عليه ان الخصم لا يعذر بجرحه لخصمه وطعنه فيه حال الخصومة بقوله: هو فاجر ظالم غاشم يحلف على الكذب ونحو ذلك.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (125 )

ومحاسنها وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة أن لا يؤاخذ بها ويلزم بموجبها وهو لم يلتزمه) (1)

14 ـ أن العبرة في العقود بالمقاصد: فالغضبان ليس له قصد معتبر في حل عقدة النكاح، بخلاف الهازل لأنه قصد التكلم باللفظ وإراده رضا واختيار منه لم يحمل على التلفظ به، فالسبب الذي إليه قد أتي به اختيارا وقصدا مع علمه به لم يحمل عليه، والسبب إلى المشرع ليس إليه فلا يصح قياس أحدهما بالآخر وكيف يقاس الغضبان على المتخذ آيات الله هزؤا؟

ثم إن الشريعة اعتبرت العوارض النفسية، وجعلت لها تأثير في القول إهدارا واعتبارا وإعمالا وإلغاء، كما ذكرنا سابقا، وعارض الغضب لا يقل عنها، بل قد يكون أقوى من كثير من سائر العوارض، فإذا كان الواحد من هؤلاء لا يترتب على كلامه مقتضاه لعدم القصد فالغضبان الذي لم يقصد ذلك أن لم يكن أولى بالعذر منهم لم يكن دونهم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة والأوفق بمقاصد الشريعة من تضييق باب الطلاق هو القول الثاني، بأدلته الكثيرة، والتي بذل ابن القيم جهده فيها، قال ابن القيم: (هذا ما ظهر في هذه المسألة بعد طول التأمل والفكر، ونحن من وراء القبول والشكر لمن رد ذلك بحجة يجب المصير إليها، ومن وراء الرد على من رد ذلك بالهوى والعناد) (2)

وقد يرى البعض أن معظم هذه الأدلة عامة، وأكثرها فهوم لا علاقة لها بهذا الباب، وهذا خطأ في التعامل مع الأدلة الشرعية، لأنه لو قلنا ذلك لعطلنا الأدلة العامة، وانغمسنا فيما نتصوره نحن من خصوصيات قد لا تصح، فالفقه الإسلامي هو شرع الله تعالى، وهذا

__________

(1) طلاق الغضبان:55.

(2) طلاق الغضبان:71.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (126 )

الشرع يتناسق تناسقا تاما في جميع ميادينه، فلذلك لا غرابة أن يستدل ابن القيم لهذه المسألة بعدم إجابة دعاء الغضبان على ولده، وهي مسألة أقرب للغيب منها للعمل، ومع ذلك فإن وجه الاستدلال صحيح، لأن الذي يستجيب الدعاء هو الله تعالى، فإذا لم يستجب لعبده في حال الغضب، وكان دعاء العبد في ذلك الحال لغو، فالأولى أن يلغى كلامه مع عبد مثله لثبوت الضرر في كليهما.

فالقياس على هذا أصح من القياس على المعاوضات ونحوها لتعلقها بحقوق العباد، ولأن الرحمة بأحد المتعاقدين قد تضر الآخر، أما في الطلاق فالضرر يصيب العاقد والمعقود عليه، فلذلك كانت الرحمة بأحدهما رحمة بالآخر.

ثم إن هذه المسألة مما تعم به البلوى، والفتوى بوقوع طلاق الغضبان إما أن ينتج خراب بيوت الورعين، أو أن يظل الشخص مع زوجته، وهو يعتقد في قرارة نفسه على ما أفتي له أنه في حالة عشرة حرام دائمة معها، وفي ذلك ما فيه من المفاسد والأضرار.

وقد استقبلت رسالة ابن القيم في عدم وقوع طلاق الغضبان بالرفض من كثير من الفقهاء حتى الحنابلة أنفسهم، قال ابن عابدين نقلا عن بعض الحنابلة: (وللحافظ ابن القيم الحنبلي رسالة في طلاق الغضبان قال فيها إنه على ثلاثة أقسام أحدها أن يحصل له مبادي الغضب بحيث لا يتغير عقله ويعلم ما يقول ويقصده وهذا لا إشكال فيه، الثاني أن يبلغ النهاية فلا يعلم ما يقول ولا يريده فهذا لا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله، الثالث من توسط بين المرتبتين بحيث لم يصر كالمجنون، فهذا محل النظر والأدلة تدل على عدم نفوذ أقواله (، فبعد أن حكى قول ابن القيم في المسألة قال: (لكن أشار في الغاية [وهو من كتب الحنابلة] إلى مخالفته في الثالث حيث قال: ويقع طلاق من غضب خلافا لابن القيم)، ويعقب عليه في الحاشية بقوله: (وهذا الموافق عندنا) (1)

__________

(1) حاشية ابن عابدين:3/ 244.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (127 )

ونقل ابن حجر عن بعضهم قوله في الرد على ابن القيم، فقال: (وقال ابن المرابط: الإغلاق حرج النفس، وليس كل من وقع له فارق عقله، ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان لكان لكل أحد أن يقول فيما جناه كنت غضبانا)،قال ابن حجر تعقيبا عليه: (وأراد بذلك الرد على من ذهب إلى أن الطلاق في الغضب لا يقع، وهو مروي عن بعض متأخري الحنابلة، ولم يوجد عن أحد من متقدميهم الا ما أشار إليه أبو داود) (1)

وفي مقابل ذلك كتب الرصافي قصيدته التي أشرنا إليها سابقا يثني فيها على ابن القيم، ويذكر في ذلك قصة امرأة طلقها زوجها في حال غضب، ثم يذكر لهما ما حصل بعد ذلك من ندم وحسرة، ولهذا التصوير قيمته في الترجيح، فالفقيه هو الذي يتصور ما ينجر عن المسألة من المخاطر قبل الرمي بفتواه، فإن رأى ما لديه من قناعة من حيث الأدلة أو من حيث المذهب الذي يقلده، يتنافى مع المصلحة الشرعية، فالأولى أن يسكت ويتوقف حتى لا يضر غيره لقناعة اقتنعها اليوم قد يقتنع بغيرها غدا، أو لإمام اتبعه اليوم قد يتبع غيره غدا، يقول الرصافي:

بدت كالشمس يحضنها الغروب... فتاة راع نضرتها الشحوب

منزهة عن الفحشاء خود... من الخفرات آنسة عروب

نور تستجد بها المعالي... وتبلى دون عفتها العيوب

 

وبعد أن وصفها بما شاء أن يصفها به من حسن وجمال ذكر تغير حالها فجأة، فقال:

ولكن الشوائب أدركته... فعاد وصفوه كدر مشوب

ذوي منها الجمال الغض وجدا... وكاد يجف ناعمه الرطيب

أصابت من شيبتها الليالي... ولم يدرك ذؤابتها المشيب

__________

(1) فتح الباري: 9/ 389.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (128 )

ثم يذكر سبب هذا التغير المفاجئ الذي حصل لها، وهو تطليق زوجها لها في حالة غضب ليس معها، فقد كان حبل المودة بينهما متصلا، وإنما مع رفقائه وخلطائه:

رعى ورعت فلم تر قط منه... ولم ير قط منها ما يريب

توثق حبل ودهما حضورا... ولم ينكث توثقه المغيب

فغاضب زوجها الخلطاء يوما... بامر للخلاف به نشوب

فاقسم بالطلاق لهم يمينا... وتلك النية خطا وحوب

وطلقها على جهل ثلاثا... كذلك يجهل الرجل الغضوب

 

وبعدما حصل هذا الطلاق الثلاث في تلك الحالة ذهب لأصحاب الفتوى الذين سارعوا للتفريق بينه وبين زوجته:

وأفتى بالطلاق طلاق بت... ذوو فتيا تعصبهم عصيب

فبانت عنه لم تأت الدنايا... ولم يعلق بها الذام المعيب

 

ثم يصور تصويرا جميلا ما حصل لهما بعد الطلاق من حزن وأسف تجعل المفتي الذي يتصور هذه الحالة يتوقف دهرا قبل أن ينبس بكلمة:

فظلت وهي باكية تنادي... بصوت منه ترتجف القلوب

لماذا يا نجيب صرمت حبلي... وهل أذنبت عندك يا نجيب

ابن ذنبي إلي فدتك نفسي... فإني عنه بعدئذ أتوب

أما عاهدتني بالله أن لا... يفرق بيننا إلا شعوب

لئن فارقتني وصددت عني... فقلبي لا يفارقه الوجيب

فما لفتت إليه الجيد... حتى تخطفه بأزمتيه ذيب

فراحت من تحرقها عليه... بداء مالها فيه طبيب

تشم الأرض تطلب منه ريحا... وتنجب والبغام هو النحيب

وتمزع في الفلاة لغير وجه... وآونة لمصرعه تؤوب

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (129 )

ويذكر إجابته لها وحسرته عليها، والتي لا تقل عن حسرتها عليه، فيقول:

فأطرق رأسه خجلا وأغضى... وقال ودمع عينيه سكوب

نجيبة اقصري عني فاني كفاني... من لظي الندم اللهيب

وما والله هجرك باختياري... ولكن هكذا جرت الخطوب

فليس يزول حبك من فؤادي... وليس العيش دونك لي يطيب

 

6 ـ الهزل

عرفه السرخسي بأنه اسم لكلام يكون على نهج كلام الصبيان، لا يراد به ما وضع له (1)، وعرفه ابن القيم بأنه الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته، بل على وجه اللعب (2)، وعرف بأن يراد بالشيء ما لم يوضع له، وهو ضد الجد، وهو أن يراد بالشيء ما وضع له (3).

وليس المراد من الوضع هاهنا وضع أهل اللغة لا غير، كالأسد للهيكل المعلوم والإنسان للحيوان الناطق، بل المراد وضع العقل أو الشرع، لأن الكلام موضوع عقلا لإفادة معناه حقيقة كان أو مجازا، والتصرف الشرعي موضوع لإفادة حكمه، فإذا أريد بالكلام غير موضوعه العقلي، وهو عدم إفادة معناه أصلا، وأريد بالتصرف غير موضوعه الشرعي، وهو عدم إفادته الحكم أصلا فهو الهزل.

وبهذا يتبن الفرق بين المجاز والهزل، لأن الموضوع العقلي للكلام وهو إفادة المعنى في المجاز مرادا، وإن لم يكن الموضوع له اللغوي مرادا، وفي الهزل كلاهما ليس بمراد، ولهذا فسر الهزل باللعب، لأن اللعب ما لا يفيد فائدة أصلا، وعبر عنه بعضهم بأنه ما لا يراد به

__________

(1) المبسوط: 7/ 61.

(2) إعلام الموقعين:3/ 100.

(3) كشف الأسرار:4/ 357.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (130 )

معنى، ولتفادي هذا الاشتباه كان أنسب التعاريف أن يقال بأن الهزل هو كلام لا يقصد به ما صلح له الكلام بطريق الحقيقة، ولا ما صلح له بطريق المجاز (1).

انطلاقا من هذا، فقد اختلف الفقهاء في حكم طلاق الهازل على قولين:

القول الأول: عدم وقوع طلاقه، وهو قول الإمامية بناء على الأصول التي اعتمدوها في هذا الباب، والتي سبق ذكرها، فهم ينصون على أنه لابد في المطلق من خمسة شروط: أن يكون زوجاً، بالغاً، عاقلاً، مختاراً، قاصداً، فلا يقع طلاق السكران، ولا من زال عقله بإغماه أو تناول النوم. ولا أثر لطلاق المكره. ولو بالإنذار والتهديد مع غلبة الظن بان المتوعد على فعل ما توعد به. ولا لطلاق الهازل والمخطئ أخذاً بقول الصادق: (لا يجوز الطلاق في استكراه. ولا طلاق إلا لمن أراد الطلاق)، ولأن الايقاعات والعقود بكاملها عندهم تابعة للقصود.

القول الثاني: وقوع طلاقه، وهو قول جمهور الفقهاء، بل حكي الإجماع على ذلك، قال المناوي: (يقع طلاق الهازل وحكي عليه الإجماع) (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة) (3)

2 ـ ورود الآثار عن السلف في ذلك، ومنها (4): قال عمر: أربع جائزات إذا تكلم بهن الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر، وقال أبو الدرداء: ثلاث اللعب فيهن كالجد:

__________

(1) انظر: كشف الأسرار:4/ 357، شرح التلويح على التوضيح:2/ 373، التقرير والتحبير:2/ 195، تحفة المحتاج:8/ 29.

(2) فيض القدير:3/ 300.

(3) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد وعبد الرحمن بن حبيب هذا هو بن أردك من ثقات المدنيين ولم يخرجاه، الحاكم:2/ 216، قال الترمذي: حديث حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي (وغيرهم، الترمذي: 3/ 490، البيهقي: 7/ 340، أبو داود: 2/ 259، ابن ماجة: 1/ 658.

(4) انظر هذه الآثار في: ابن أبي شيبة:4/ 115، مصنف عبد الرزاق: 6/ 133.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (131 )

الطلاق، والعتاق، والنكاح، وقال ابن مسعود: النكاح جده ولعبه سواء.

3 ـ أن الهازل أتى بالقول غير ملزم لحكمه، وترتيب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم أبى؛ لأن ذلك لا يقف على اختياره.

4 ـ أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه، وقصد اللفظ المتضمن للمعنى قصد لذلك للمعنى لتلازمهما، إلا أن يعارضه قصد آخر كالمكره والمخادع المحتال؛ فإنهما قصدا شيئا آخر غير معنى القول وموجبه.

5 ـ أن الهازل يختلف عن المكره، لأن قصد المكره دفع العذاب عن نفسه ولم يقصد السبب ابتداء، أما الهازل فقصد السبب ولم يقصد حكمه، ولا ما ينافي حكمه فترتب عليه أثره.

6 ـ أن هذا لا ينتقض بلغو اليمين، لأن اللاغي لم يقصد السب، وإنما جرى على لسانه من غير قصده؛ فهو بمنزلة كلام النائم والمغلوب على عقله.

7 ـ أن الهزل أمر باطن لا يعرف إلا من جهة الهازل، فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد الآخر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة من حيث تحقيق المقاصد الشرعية من حفظ الأسرة هو القول الأول، وهو الذي تدل عليه الأدلة الكثيرة.. لكن مع ذلك فإن للقول الثاني الكثير من المصالح المعتبرة في هذا الباب، ومنها:

الناحية الأولى: تعظيم ما أمر الله بتعظيمه، فالزواج والطلاق أمور معظمة شرعا، بل هي تشبه العبادات في نفسها، ولهذا يستحب عقد الزواج في المساجد، مع النهي عن البيع فيها، فلذلك يجب التعامل معها بالجد الذي تستحقه، فإذا ما أصبحت ميدانا للنكتة والهزل كان في ذلك المفاسد الكبرى سواء على العقيدة أو في السلوك، وقد روي عن أبي الدرداء

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (132 )

قال كان الرجل في الجاهلية يطلق، ثم يراجع ويقول: كنت لاعبا، ويعتق ثم يراجع ويقول: كنت لاعبا، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (البقرة:231) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من طلق أو حرم أو نكح أو أنكح فقال إني كنت لاعبا فهو جاد) (1)

قال ابن العربي في تفسيرها: (قال علماؤنا: معناه لا تأخذوا أحكام الله في طريق الهزء، فإنها جد كلها، فمن هزأ بها لزمته.. ومن اتخاذ آيات الله هزوا ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق مائة، فقال: يكفيك منها ثلاث، والسبعة والتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا (فمن اتخاذها هزوا على هذا مخالفة حدودها فيعاقب بإلزامها، وعلى هذا يتركب طلاق الهازل) (2)

وليس في هذا تحريم للعب والمزاح، ولكن المزاح واللعب له حدوده، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يمزح مع الصحابة ويباسطهم، أما مع ربه تعالى فيجد كل الجد، ولهذا قال للأعرابي يمازحه: من يشتري مني العبد؟ فقال: تجدني رخيصا يا رسول الله؟ فقال: بل أنت عند الله غال، وقد قصد صلى الله عليه وآله وسلم أنه عبد الله، والصيغة صيغة استفهام، وهو صلى الله عليه وآله وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقا.

أما إذا تعلق الأمر بحدود الله وأحكامه فيجد كل الجد، بل إن النكتة في مثل هذا ثقيلة يرفضها الذوق السليم، قال ابن القيم: (ولو أن رجلا قال: من يتزوج أمي أو أختي، لكان من أقبح الكلام، وقد كان عمر يضرب من يدعو امرأته أخته، وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود أن رجلا قال لامرأته: يا أخته، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أختك هي؟ إنما جعل إبراهيم ذلك حاجة لا مزاحا (3)، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته) (4)

__________

(1) مجمع الزوائد:4/ 387.

(2) أحكام القرآن لابن العربي:1/ 271.

(3) إعلام الموقعين:3/ 100.

(4). ابن ماجة: 1/ 650، البيهقي: 7/ 322

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (133 )

الناحية الثانية: أن في ذلك مصلحة للزوجة حتى لا يؤذيها زوجها في كل الحين بمثل هذا المزاح الثقيل البارد، الذي كان يمارسه أهل الجاهلية الأولى، بل تمارسه الجاهلية المعاصرة عندما تتخذ من قضايا الأسرة الحساسة ميدانا للمسرحيات الهازلة والأفلام الهابطة، والروايات البذيئة، فتجعل من الزواج لعبة تسلية لا كلمة الله الثقيلة وميثاقه الغليظ.

ولنتصور رجلا يدخل على زوجته كل حين ليرمي لها بصيغ الطلاق ما تنهد له الجبال، ثم بعد أن يرى تغير حالها، واحتيارها من هذا التحول المفاجئ، يضحك ضحكة القلوب الفارغة، ويقول لها: إنما كنت أمزح.

كيف نتصور كرامة هذه المرأة التي أصبحت ميدانا للنكتة والمزاح، وكيف نتصور بعد ذلك قيمة هذا الرجل أمامها، وهو يتلاعب معها بأسس العشرة بينهما؟ ثم كيف يقبل قوله بعد ذلك إن طلقها جادا؟

ثالثا ـ التطليق بالوكالة

ينقسم التوكيل في الطلاق بحسب من يوكل إليه إلى قسمين، هما:

توكيل الزوجة

وقد نص أكثر الفقهاء على أن توكيل الزوجة نوعان: تمليك وتخيير، وفيما يلي تفصيل ما يتعلق بهما من مسائل:

التمليك:

تعريفه:

اختلف الفقهاء في تعريفه بحسب مواقفهم منهن فقد عرفه المالكية بأنه جعل إنشائه حقا لغيره راجحا في الثلاث، ومن صيغه: جعلت أمرك أو طلاقك بيدك.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (134 )

وقد فرق فقهاء المالكية بين التمليك والتوكيل والتخيير، فقالوا: التوكيل هو جعل إنشاء الطلاق لغيره، باقيا منع الزوج منه، أي لأن للموكل له عزل وكيله متى شاء لأن الوكيل يفعل ما وكل فيه نيابة عن موكله.

أما الفرق بين التخيير والتمليك فأمر عرفي لا دخل للغة فيه، فقولهم في المشهور الآتي: أن للزوج البقاء على العصمة والذهاب لمناكرة المملكة دون المخيرة، إنما نشأ من العرف وعلى هذا ينعكس الحكم بانعكاس العرف، وقال القرافي: (إن مالكا رحمه الله بنى ذلك على عادة كانت في زمانه أوجبت نقل اللفظ عن مسماه اللغوي إلى هذا المفهوم، فصار صريحا فيه أي في الطلاق، أي وليس من الكنايات كما قاله الأئمة، قال: وهذا هو الذي يتجه وهو سر الفرق بين التخيير والتمليك، غير أنه يلزم عليه بطلان هذا الحكم اليوم ووجوب الرجوع إلى اللغة (1).

وقد ذكر القرطبي أن من المالكية من ذهب إلى عدم التفريق بينهما، فقال: (ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والقضاء ما قضت فيهما، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، وقال ابن شعبان: وقد اختاره كثير من أصحابنا وهو قول جماعة من أهل المدينة، قال أبو عمر وعلى هذا القول أكثر الفقهاء، والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما، وذلك أن التمليك عند مالك هو قول الرجل لامرأته: قد ملكتك أي قد ملكتك ماجعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض، وادعى ذلك كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها، وقالت طائفة من أهل المدينة له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها (2)

__________

(1) انظر: حاشية الصاوي:2/ 593، الخرشي:4/ 69.

(2) القرطبي:14/ 172.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (135 )

وعرفه ابن قدامة بقوله: (هو أن يقول الزوج لزوجته: ملكتك أمرك أو أمرك بيدك) (1)

حكمه:

اختلف الفقهاء في حكم تمليك الزوج زوجته حق طلاق نفسها على قولين:

القول الأول: عدم صحة التمليك سواء كان للزوجة أو لغيرها، وعدم نفوذ ذلك، ويروى عن ابن مسعود، وهو قول الظاهرية، يقول ابن حزم: (ومن خير امرأته فاختارت نفسها، أو اختارت الطلاق، أو اختارت زوجها، أو لم تختر شيئا، فكل ذلك لا شيء، وكل ذلك سواء، ولا تطلق بذلك، ولا تحرم عليه، ولا لشيء من ذلك حكم، ولو كرر التخيير وكررت هي اختيار نفسها، أو اختيار الطلاق ألف مرة. وكذلك إن ملكها أمر نفسها، أو جعل أمرها بيدها ولا فرق) (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن القوامة بيد الرجل، وبها استحق كون العصمة الزوجية بيده، فلا يصح جعلها بيد المرأة.

2 ـ روي أن رجلا قال لامرأة له: إن أدخلت هذا العدل البيت فأمر صاحبتك بيدك، فأدخلته، ثم قالت: هي طالق، فرفع ذلك إلى عمر فأبانها منه، فمروا بعبد الله بن مسعود فأخبروه؟ فذهب بهم إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء، ولم يجعل النساء قوامات على الرجال؟ فقال عمر: فما ترى؟ قال: أراها امرأته، قال عمر: وأنا أرى ذلك، فجعلها واحدة) (3)

__________

(1) المغني:7/ 308.

(2) المحلى:9/ 291.

(3) ذكره ابن حزم: المحلى:10/ 119.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (136 )

القول الثاني: صحة التمليك ونفوذه، وأن القضاء ما قضت، وهو قول جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ تخيير النبي صلى الله عليه وآله وسلم نساءه، فاخترنه، وقصة ذلك كما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءها حين أمر الله أن يخير أزواجه قالت: فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: إن الله قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:28) إلى تمام الآيتين، فقلت له: (ففي أي هذا أستأمر أبواي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة) (1)

2 ـ أن الطلاق تصرف شرعي قولي، وهو حق الرجل كما تقدم، فيملكه ويملك الإنابة فيه كسائر التصرفات القولية الأخرى التي يملكها، كالبيع والإجارة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن للزوج الحق في تمليك زوجته حق طلاقها مع استحسان أن لا يتم ذلك الطلاق إلا بتلفظه به، متى احتاجت إلى إيقاعه (2)، والقصد من هذا الحكم مراعاة أمرين:

1 ـ حق الزوج في توكيل وتفويض الزوجة أمر نفسها، وهو حق شرعي لا يمكن إلغاؤه، لأن من ملك الشيء كان له الحق في تمليكه.

__________

(1) البخاري: 4/ 1796، مسلم: 2/ 1103، ابن حبان: 10/ 89، الترمذي: 5/ 350 مجمع الزوائد: 5/ 10، البيهقي: 7/ 36، النسائي: 3/ 260، ابن ماجة: 1/ 662، المعجم الأوسط: 8/ 326، أحمد: 6/ 163.

(2) نص بعض مراجع الإمامية على أنه اذا أرادت الزوجة أن تطلق نفسها بنفسها في حال توكيل الزوج لها تقول: زوجة موکّلي أنا طالق أو تقول: زوجة موکّلي فلانة طالق، تذکر اسمها واذا وکّلت غيرها في إيقاع الطلاق يقول الوکيل: زوجة موکّل موکّلتي طالق..

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (137 )

2 ـ أن لا يكون ذلك إلا بتلفظ الزوج مراعاة لاشتراط كون التطليق بيد الرجل كما سبق من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الطلاق لمن أخذ بالساق)، ولأن توكيل الأمر وتفويضها تفويضا مطلقا سيؤول لا محالة إلى الفراق بأي سبب من الأسباب، لذلك كان الأوفق بسد باب توسيع أسباب الطلاق هو إبقاء الطلاق بيد الرجل.

زيادة على ذلك، فإن الرجل قد يكون سبب تمليكه لزوجته هذا سبيلا للتخلص منها ثم الادعاء بأن الفراق كان منها، فلذلك كان في هذا تشريكا له في المسؤولية، فهو يملك أن يعطي هذا الحق، ولكن إجازته تبقى رهينة رأيه النهائي.

أما الاستدلال على هذا بما وقع من تخيير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنسائه، فلا يصح الاستدلال به، بل إن آية التخيير حملت أشياء كثيرة في هذا الباب لا تحتملها (1)، فلذلك لا بأس أن نذكر هنا أساس الاستدلال بها، وما نراه من الترجيح في فهمها، لأن معظم استدلالات الباب ترتبط بها.

وقد ذكر العلماء أن في موضوع التخيير في الآية خلافا على قولين، هما:

1 ـ أن التخيير كان بين البقاء على الزوجية أو الطلاق، وقد قال بذلك عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة.

2 ـ أن التخيير كان بين الدنيا، فيفارقهن وبين الآخرة، فيمسكهن لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن، ولم يخيرهن في الطلاق، ذكره الحسن وقتادة ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال: لم يخير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة.

__________

(1) ومن ذلك قول القرطبي:) إن شرط وجوابه {فتعالين} فعلق التخيير على شرط، وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان، فينفذان ويمضيان خلافا للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته أنت طالق إن دخلت الدار أنه لايقع الطلاق إن دخلت الدار، لأن الطلاق الشرعي هو المنجز في الحال (القرطبي:14/ 170.، وما ذكره من فهمه وفهم الفقهاء لذلك لا دليل عليه في الآية ولا غيرها كما سنرى في الطلاق المعلق.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (138 )

وقد رجح أكثر العلماء القول الأول، كما قال القرطبي: (قلت القول الأول أصح لقول عائشة لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت: قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفكان طلاقا، وفي رواية فاخترناه فلم يعده طلاقا، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق لذلك قال: (يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي فيه تستأمري أبويك)، الحديث ومعلوم أنه لم يرد الإستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة، فثبت أن الإستئمار إنما وقع في الفرقة أو النكاح (1).

وبنوا على هذا الترجيح الأحكام الكثيرة التي سنراها سواء فيما يتعلق بالتمليك أو بالتخيير، ونرى أن الخلاف في المسألة غير صحيح، وأن كلا القولين يذكر ناحية من نواحي التخيير، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم خير نساءه بين أمرين: بين الحياة الدنيا وزينتها مما أباح الله تعالى، وبين ما تقتضيه مسؤولية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرسالية من زهد وتضحية، وعقب عن كل اختيار من ذينك الخيارين نتيجة تخصه، فنتيجة الخيار الأول الذي هو ابتغاء الحياة الدنيا هي أن يسرحهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سراحا جميلا، والسراح الجميل هو الطلاق الذي لا يحمل أي ضرر، ونتيجة الخيار الثاني هي إمساكهن مع الأجر العظيم المعد لهن.

فهذا ما يفهم من ظاهر الآية، فالتخيير بهذا ومثله التمليك، ليس طلاقا ولا صيغة من صيغ الطلاق كما اختار أكثر الفقهاء، وإنما هو من باب حسن العشرة الزوجية، فالزوج إن كان كريم الأصل، ورأى نفور زوجته منه جعل لها الحق في اختيار نفسها سواء بصيغة التمليك أو صيغة التخيير من غير أن يلزمه ذلك شيئا، لأن الشرع جعل له الحق في حال نفور زوجه منه من غير سبب يرجع إليه في أن تفتدي بمالها وتعوض عليه بعض الضرر الذي أصابه من فراقها له.

__________

(1) القرطبي:14/ 171.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (139 )

فإذا تنازل بحسن وخلقه وخيرها يبقى أمر الطلاق بيده في حال اختيارها مفارقته، وهو ما صرحت به الآية في قوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:28)، فلم يرتب الله تعالى الفراق بمجرد اختيارهن بل ربطه بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما جعل للرجال من حق الطلاق.

وقد رجح هذا ابن حزم هذا المعنى للآية عند رده على الفهوم التي استندت لها وجعلتها بابا من أبواب الطلاق، فقال: (وأما غيرهم فنقول: لهم الآية نفسها تبطل دعواكم، لأن نصها {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:28)، فإنما نص الله تعالى أنه إن أردن الدنيا ولم يردن الآخرة طلقهن حينئذ من قبل نفسه مختارا للطلاق، لا أنهن طوالق بنفس اختيارهن الدنيا، ومن قال هذا فقد حرف كلام الله تعالى وأقحم في حكم الآية كذبا محضا ليس فيها منه نص ولا دليل) (1)

مدته:

اختلف الفقهاء في المدة التي يستمر فيها توكيل الزوج لزوجته على قولين:

القول الأول: أنه متى جعل أمر امرأته بيدها، فهو بيدها أبدا، لا يتقيد ذلك بالمجلس، وقد روي ذلك عن علي، وبه قال الحكم، وأبو ثور، وابن المنذر، وهو قول الإمامية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول علي في رجل جعل أمر امرأته بيدها، قال: هو لها حتى تنكل، وليس له مخالف من الصحابة مخالفا، فيكون إجماعا.

2 ـ أنه نوع توكيل في الطلاق، فكان على التراخي، كما لو جعله لأجنبي.

__________

(1) المحلى:10/ 123.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (140 )

القول الثاني: أن ذلك مقصور على المجلس، ولا طلاق لها بعد مفارقته، وهو قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، واستدلوا على ذلك بأنه تخيير لها، فكان مقصورا على المجلس، كقوله: اختاري.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن ذلك بحسب صيغة التوكيل وملابساته، فإن أفادت الصيغة الديمومة كانت دائمة، وإن اقتصرت على فترة معينة قصرت عليها، وفي حال عدم دلالة الصيغة أو المناسبة أو العرف، فإن الزوج مصدق في مراده من تمليكه، فهو أحق بهذا الأمر الذي وكله الشرع إليه من غيره.

نكول الزوج عن تمليك الزوجة أمرها:

اختلف الفقهاء فيما لو رجع الزوج فيما جعل لزوجته من تلميكها أمر نفسها، أو قال: فسخت ما جعلت إليك، هل يقبل منه أم لا على قولين:

القول الأول: يقبل منه، ويبطل ما جعل لها، وإن وطئها الزوج كان رجوعا، وإن ردت المرأة ما جعل إليها بطل، كما تبطل الوكالة بفسخ الوكيل، وهو قول عطاء، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والأوزاعي، وإسحاق وأحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه توكيل، فكان له الرجوع فيه كالتوكيل في البيع، وكما لو خاطب بذلك أجنبيا.

2 ـ أن الطلاق لا يصح تمليكه، ولا ينتقل عن الزوج، وإنما ينوب فيه غيره عنه، فإذا استناب غيره فيه كان توكيلا لا غير.

3 ـ إن سلم أنه تمليك، فالتمليك يصح الرجوع فيه قبل اتصال القبول به، كالبيع.

القول الثاني: ليس له الرجوع في قوله، وهو قول الزهري، والثوري، ومالك، والحنفية، واستدلوا على ذلك بأنه ملكها ذلك، فلم يملك الرجوع، كما لو طلقت.

الترجيح:

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (141 )

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن للزوج حق الرجوع فيما ملكه لزوجته، لأنه حقه كما ذكرنا سابقا، فقد يرى الزوج مفسدة في ترك الأمر بيد زوجته، فلذلك كان له حق التراجع، أما الزوجة إن أرادت فراق زوجها، فإن الشرع قد وضع لها ذلك في إطاره المحدد.

وقوع الطلاق بالتمليك حال رد الزوجة:

اختلف الفقهاء في وقوع الطلاق بمجرد تمليك المرأة في حال ردها، لما جعل لها على قولين:

القول الأول: لا يقع الطلاق بمجرد هذا القول، ما لم ينو به إيقاع طلاقها في الحال، أو تطلق نفسها، فإذا ردت الأمر الذي جعل إليها بطل، ولم يقع شيء، أما إن نوى بهذا تطليقها في الحال، طلقت في الحال، ولم يحتج إلى قبولها، كما لو قال: حبلك على غاربك، وهو قول أكثر العلماء، لأنه توكيل، أو تمليك لم يقبله المملك، فلم يقع به شيء، كسائر التوكيل والتمليك.

القول الثاني: يقع الطلاق بمجرد هذا القول، فلذلك إن ردت ما جعل لها، تقع واحدة رجعية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار نيته في التلفظ بهذا اللفظ، فإن أراد به الطلاق فهو طلقة واحدة حتى ولو نوى ثلاثا ـ كما سنرى في صيغة الطلاق ـ ولا ينبغي أن يحمل كلامه على غير ما أراده، فهو مصدق على كل حال.

افتقار التمليك لنية الزوج:

اختلف الفقهاء في افتقار تمليك الزوج أو توكيله زوجته إلى نية أم لا على قولين:

القول الأول: أن تمليك الزوج زوجته أمرها كناية في حق الزوج، يفتقر إلى نية أو دلالة حال، كما في سائر الكنايات، فإن عدم لم يقع به طلاق، وهو قول الحنفية والشافعية

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (142 )

والحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنه ليس بصريح، وإنما هو كناية، فيفتقر إلى ما يفتقر إليه سائر الكنايات.

القول الثاني: أنه لا يفتقر إلى نية، وهو قول مالك، لأنه من الكنايات الظاهرة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم اعتباره صيغة من صيغ الطلاق، فلذلك لا يحتاج إلى البحث عن نيته والتشويش عليه بذلك، فقد يحمله الورع أو التورع على تطليقها من غير إرادته، فالوسوسة في الطلاق وصيغه أخطر من الوسوسة في أبواب الطهارة، وكم من البيوت خربت بسبب هذا النوع من الورع، والسبب فيه في أكثر الأحيان من يتجرأ على الفتوى، فيظل يوسوس له بأنه زان إن بقي مع زوجته بعد تلفظه بتلك الصيغة أو غيرها.

فلذلك نرى في مثل هذا أن يترك لحاله، ولو شاء أن يطلق لطلق باللفظ الفصيح الصريح الذي لا يحمل أي شبهة، فمن الخطأ أن ندرأ الحدود بالشبهات، ولا نحفظ البيوت بالشبهات.

افتقار التمليك لنية الزوجة:

اختلف الفقهاء القائلون بالتمليك فيما لو قبلت المرأة التمليك بلفظ الكناية، هل يفتقر إلى نيتها أم لا على قولين:

القول الأول: يفتقر وقوع الطلاق إلى نيتها، وأنه يقع الثلاث إذا نوت، وهو قول الشافعية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنها موقعة للطلاق بلفظ الكناية، فافتقر إلى نيتها، كالزوج.

2 ـ أن اللفظ يحتمل الثلاث؛ لأنها تختار نفسها بالواحدة، وبالثلاث، فإذا نوياه وقع، كقوله: أنت بائن.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (143 )

القول الثاني: لا يفتقر وقوع الطلاق إلى نيتها، لا يقع إلا واحدة بائنة، وإن نوت ثلاثا، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن الزوج علق الطلاق بفعل من جهتها، فلم يفتقر إلى نيتها، كما لو قال: إن تكلمت فأنت طالق فتكلمت.

2 ـ أن ذلك تخيير، والتخيير لا يدخله عدد، كخيار المعتقة، إذا نوى الزوج.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم القول بكلا القولين كما ذكرنا سابقا، ولكن أيسرهما هو القول الثاني، من باب تقليل عدد الطلقات.

اختلاف الزوجين في عدد الطلقات المملكة:

اختلف الفقهاء فيما لو طلقت نفسها ثلاثا، وادعى الزوج أنه لم يجعل إليها إلا واحدة على قولين:

القول الأول: لا يلتفت إلى قوله، والقضاء ما قضت، وقد روي هذا القول عن عثمان، وابن عمر، وابن عباس، وروي ذلك عن علي، وفضالة بن عبيد. وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والزهري، وهو قول أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه لفظ يقتضي العموم في جميع أمرها؛ لأنه اسم جنس مضاف، فيتناول الطلقات الثلاث، كما لو قال: طلقي نفسك ما شئت.

2 ـ أنه من الكنايات الظاهرة، والكنايات الظاهرة تقتضي ثلاثا.

القول الثاني: أنها تطليقة واحدة، وقد روي عن عمر، وابن مسعود، وبه قال عطاء ومجاهد، والقاسم، وربيعة، ومالك والأوزاعي، والشافعي (1)، واستدلوا على ذلك بأنه نوع تخيير، فيرجع إلى نيته فيه، كقوله: اختاري.

__________

(1) وقال الشافعي: إن نوى ثلاثا، فلها أن تطلق ثلاثا، وإن نوى غير ذلك، لم تطلق ثلاثة، والقول قوله في نيته.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (144 )

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة مثلما ذكرنا سابقا أن له الحق في طلقة واحدة يملكها هو ويتلفظ بها هو تلفظا صريحا، ولا ينبغي أن نتصور هنا أننا نخالف بذلك ما روي عمن ذكر من الصحابة لأن أكثر ما يذكره الفقهاء من هذه النسب تحتاج إلى تمحيص سندي لا يقل عن التمحيص الذي لقيته أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخطورة هذه النقول في حال ضعفها أو وضعها لا تقل عن الأحاديث الشريفة، خاصة وأن دعوى الانتساب للسلف ترتبط بها.

وسنعرض لأمثال هذه النقول عند الحديث عن حكم الطلاق الثلاث في صيغة الطلاق.

تخيير الزوجة

التخيير هو أن يخير الزوج زوجته بين البقاء معه أو الطلاق، وأكثر الفقهاء على جواز ذلك، كما ذكرنا في حكم التوكيل، ويرتبط التخيير بالتمليك في نواح سبق ذكرها، وينفصل عنه في بعضها، وسنذكر هنا بعض المسائل التي قد يبدو تشابهها مع ما سبقها من مسائل، ولكنها تختلف عنها في بعض التفاصيل:

مدة التخيير:

تختلف أحكام مدة التخيير وآثارها بحسب تقييد الزوج لمدة التخيير وعدمها كما سنرى في الحالتين التاليتين:

تقييد المدة:

وهو أن يحدد لها مدة للتخيير كأن يقول لها ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة: لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، أو أن يقول لها: اختاري نفسك اليوم، وغدا.

وقد اتفق الفقهاء على أنه يصح هذا التخيير وتعتبر مدته، واختلفوا فيما لو ردته في اليوم الأول، هل يبطل بذلك في الثاني أم لا؟ ومثله ما لو خيرها شهرا، فاختارت نفسها،

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (145 )

ثم تزوجها، فهل عليه الخيار في ذلك، وقد اختلف العلماء في هاتين المسألتين على قولين:

القول الأول: لا يبطل في الأولى وأن لها الخيار في الثاني، وهو قول أبي حنيفة، لأنهما خياران في زمنين، فلم يبطل أحدهما برد الآخر.

القول الثاني: يبطل في الأولى، وليس لها الخيار في الثانية، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه خيار واحد، في مدة واحدة، فإذا بطل أوله بطل ما بعده، كما لو كان الخيار في يوم واحد، وكخيار الشرط وخيار المعتقة.

2 ـ أنهما ليسا خيارين، وإنما هو خيار واحد في يومين بخلاف قوله: اختاري نفسك اليوم، واختاري نفسك غدا. فإنهما خياران؛ لأن كل واحد ثبت بسبب مفرد.

3 ـ أنها استوفت ما جعل لها في هذا العقد، فلم يكن لها في عقد ثان.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو قول الجمهور درءا لمفسدة الطلاق من جهة، ولأن موقفها الأول كاف في بيان رأيها، فإذا ما تراجعت عنه لم يكن ذلك لها.

الحالة الثانية: إطلاق المدة:

وهو أن يطلق التخيير دون تحديد المدة، وقد اختلف الفقهاء في هذه الحالة هل هو على الفور أم على التراخي على قولين:

القول الأول: أن التخيير على التراخي، ولها الاختيار في المجلس وبعده، ما لم يفسخ أو يطأ، وهو قول الزهري، وقتادة، وأبو عبيد، وابن المنذر، ومالك في إحدى الروايتين عنه، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة لما خيرها: إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، وهذا يمنع قصره على المجلس.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (146 )

2 ـ أنه جعل أمرها إليها، فأشبه أمرك بيدك.

القول الثاني: أن التخيير على الفور، إن اختارت في وقتها، وإلا فلا خيار لها بعده، وهو قول أكثر العلماء، وقد روي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وجابر، وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعية وأبي حنيفة، وأحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ عن سعيد بن المسيب، أنه قال: قضى عمر وعثمان، في الرجل يخير امرأته، أن لها الخيار ما لم يتفرقا.

2 ـ عن عبد الله بن عمر، قال: ما دامت في مجلسها، ونحوه عن ابن مسعود، وجابر، وليس لهم مخالف في الصحابة، فكان إجماعا.

3 ـ أنه خيار تمليك، فكان على الفور، كخيار القبول.

4 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل لها الخيار على التراخي ليس دليلا على هذا، لأنه لم يقع به التطليق.

وقد اتفق أصحاب هذا القول على أنهما لو تفرقا عن ذلك الكلام إلى كلام غيره، فإنه يبطل خيارها، وهو قول أبي حنيفة، وقول للشافعي، وظاهر مذهب أحمد (1)، لأنه تمليك مطلق، تأخر قبوله عن أول حال الإمكان، فلم يصح، كما لو قامت من مجلسها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لأن عدم التحديد ينصرف إلى وقت الحديث، فإذا لم تجب في ذلك الحين لم يكن لها الحق في التخيير، إلا إذا دلت القرائن على إرادته التراخي، وحكم ذلك ما ذكرنا في الحالة الأولى.

نوع الطلاق الذي تملكه الزوجة بتخيير الزوج:

__________

(1) قال أحمد: الخيار على مخاطبة الكلام أن تجاوبه ويجاوبها، إنما هو جواب كلام، إن أجابته من ساعته، وإلا فلا شيء.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (147 )

اختلف الفقهاء في نوع الطلاق الذي تملكه الزوجة بتوكيل الزوج هل هو طلاق رجعي أم بائن على الأقوال التالية:

القول الأول: أن لفظة التخيير لا تقتضي بمطلقها أكثر من تطليقة رجعية (1)، وهو قول ابن عمر، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعمر، وعائشة، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنه كناية خفية لا يلزم به شيء إلا بالنية، لأن لفظ التخيير يحتمل التخيير في الطلاق وغيره، فإن أراد الطلاق فيحتمل الوحدة والكثرة، والأصل بقاء العصمة حتى ينوي.

القول الثاني: هي واحدة بائن، وقد روي ذلك عن جابر، وعبد الله بن عمر، وهو قول أبي حنيفة، ورواه ابن خويز منداد عن مالك، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:28) قالوا هذه الآية تدل على البينونة بالثلاث (2).

__________

(1) بخلاف تقييدها، كما لو جعل إليها أكثر من ذلك، فلها ما جعل إليها، سواء جعله بلفظه، مثل أن يقول: اختاري ما شئت. أو اختاري الطلقات الثلاث إن شئت. فلها أن تختار ذلك.

أما إن قال: اختاري من الثلاث ما شئت. فلها أن تختار واحدة أو اثنتين، وليس لها اختيار الثلاث بكمالها ; لأن من للتبعيض، فقد جعل لها اختيار بعض الثلاث، فلا يكون لها اختيار الجميع.

أو حدد بنيته، وهو أن ينوي بقوله: اختاري عددا، فإنه يرجع إلى ما نواه ; لأن قوله: اختاري كناية خفية، فيرجع في قدر ما يقع بها إلى نيته، كسائر الكنايات الخفية، فإن نوى ثلاثا، أو اثنتين، أو واحدة، فهو على ما نوى، وإن أطلق النية، فهي واحدة، وإن نوى ثلاثا، فطلقت أقل منها، وقع ما طلقته ; لأنه يعتبر قولهما جميعا، فيقع ما اجتمعا عليه، كالوكيلين إذا طلق واحد منهما واحدة والآخر ثلاثا.

(2) وقد تعقب هذا الدليل بأربعة أوجه، هي:

الوجه الأول: أنه (كان المطلق لا النساء لقوله - سبحانه وتعالى -: {وأسرحكن سراحا جميلا}

الوجه الثاني: لو سلمنا أن الأزواج كن اللاتي طلقن لكن السراح لا يوجب إلا واحدة كما لو قال سرحتك.

الوجه الثالث: لو سلمنا أنه الثلاث لكنه مختص به (; لأن تحريم الطلاق الثلاث معلل بالندم وهو (أملك لنفسه منا.

الوجه الرابع: أن التخيير إنما كان بين الحياة الدنيا والدار الآخرة. انظر: أنوار البروق:3/ 211.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (148 )

2 ـ أن إحدى نسائه صلى الله عليه وآله وسلماختارت نفسها فكانت ألبتة فكان ذلك أصلا في الخيار (1).

3 ـ أن المفهوم من هذا اللفظ عادة إنما هو التخيير في الكون في العصمة أو مفارقتها هذا هو السابق للفهم من قول القائل لزوجته خيرتك.

4 ـ أن قوله: اختاري تفويض مطلق، فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم، وذلك طلقة واحدة، ولا يجوز أن تكون بائنا؛ لأنها طلقة بغير عوض، لم يكمل بها العدد بعد الدخول، فأشبه ما لو طلقها واحدة.

5 ـ أن التخيير يخالف التوكيل، بقوله: أمرك بيدك، فإنه للعموم، فإنه اسم جنس، فيتناول جميع أمرها.

القول الثالث: أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث، وقد روي عن زيد بن ثابت، وهو قول الحسن البصري، وبه قال مالك والليث، لأن الملك إنما يكون بذلك.

القول الرابع: أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء، وقد روي عن علي (2)، وسبق ذكر من قال بذلك من العلماء.

الترجيح:

ذكرنا سابقا أن التخيير والتمليك لا ينوبان عن الطلاق، بل إن الطلاق يبقى دائما بيد الزوج، وأن تخيير الزوج من حسن العشرة لا من صيغ الطلاق، وقد سبق ذكر بعض أدلة ذلك، ومما يدل على ذلك أيضا أن عائشة لم يثبت ذلك عنها قط، إنما المروي عنها أن مسروقا سألها عن الرجل يخير زوجته فتختاره، أيكون طلاقا؟ فإن الصحابة اختلفوا فيه. فقالت عائشة: خير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءه فاخترنه، أكان ذلك طلاقا؟ وروي، فلم يكن شيئا.

__________

(1) وهذا غير صحيح، ففي الصحيحين: أن عائشة قالت إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواجه مثل ذلك، انظر ما ذكرنا سابقا من تخريج الحديث.

(2) القرطبي:14/ 171.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (149 )

أما قولها: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتخيير نسائه بدأ بي، فقال: إني ذاكر لك أمرا، إن الله تعالى قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:28)، وليس في هذا تخيير بطلاق، وإنما يرجع إلى أحد وجهين: التخيير بين الدنيا، فيوقع الطلاق؛ وبين الآخرة فيكون الإمساك.

وليس في الحديث ما يدل على التطليق، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة: ابعثي إلى أبويك فقالت: يا رسول الله، لم؟ فقال: إن الله أمرني أن أخيركن. فقالت: إني أختار الله ورسوله، فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك. فقالت له عائشة: يا رسول الله؛ إن لي إليك حاجة؛ لا تخير من نسائك من تحب أن تفارقني، فخيرهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميعا، فكلهن اخترنه، قالت عائشة: خيرنا فاخترناه، فلم يكن طلاقا.

قال القرافي بعد ذكر اتفاق أبي حنيفة والشافعي وأحمد على أن التخيير كناية لا يلزم به شيء إلا بنيته لاحتماله التخيير في الطلاق: (والصحيح الذي ظهر أن قول الأئمة الثلاثة هو مقتضى اللفظ لغة لا مرية في ذلك، وأن مالكا أفتى بالثلاث على عادة كانت في زمانه أوجبت نقل اللفظ عن مسماه اللغوي إلى هذا المفهوم، فصار صريحا فيه، وهذا هو الذي يتجه وهو سر الفرق بين التخيير والتمليك)

ثم عقب على ذلك بقوله: (غير أنه يلزم عليه بطلان هذا الحكم اليوم ووجوب الرجوع إلى اللغة، ويكون كناية محضة كما قاله الأئمة الثلاثة لتغير العرف)، وأعطى قاعدة ذلك، وهي: (أن اللفظ متى كان الحكم فيه مبنيا على نقل عادي بطل ذلك الحكم عند بطلان تلك العادة، وتغير إلى حكم آخر إن شهدت له عادة أخرى، هذا هو الفقه) (1)

وقوع الطلاق بالتخيير حال رد الزوجة:

اختلف الفقهاء في وقوع الطلاق بمجرد تخيير الزوجة وعدم افتقار ذلك إلى قبولها

__________

(1) أنوار البروق:3/ 211.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (150 )

على قولين:

القول الأول: إن خيرها، فاختارت زوجها، أو ردت الخيار، أو الأمر، لم يقع شيء، وقد روي ذلك عن عمر، وعلي، وزيد، وابن مسعود، وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والثوري، والشافعي، وابن المنذر وأحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول عائشة: قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أفكان طلاقا، وقالت: (لما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتخيير أزواجه، بدأ بي، فقال: إني لمخبرك خبرا، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، ثم قال: إن الله تعالى قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:28)، حتى بلغ: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب:29)، فقلت: في أي هذا استأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما فعلت.

2 ـ أنها مخيرة اختارت النكاح، فلم يقع بها الطلاق، كالمعتقة تحت عبد.

القول الثاني: تقع واحدة رجعية، وقد روي ذلك عن علي والحسن، وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بان قوله اختاري كناية عن إيقاع الطلاق فإذا أضافه إليها وقعت طلقة كقوله أنت بائن.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة عدم وقوع الطلاق بالضرورة، ولو اعتبر ذلك طلاقا لكان نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهن مطلقات، وهو ما لا يقبل عقلا ولا شرعا.

ثم كيف يستجاز اعتبار التخيير كناية عن الطلاق، والتخيير في أصل دلالته كناية عن تمسك الزوج بزوجته لا بإرادته فراقها، فلو أراد فراقها لطلقها دون الحاجة لرأيها.

صيغة قبول التخيير:

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (151 )

شدد الفقهاء في الألفاظ التي تدل على قبولها بالتوكيل أو التخيير، حتى أنهم قالوا: لو قالت: اخترت، ولم تقل: نفسي لم تطلق، وإن نوت، ولو قال الزوج: اختاري ولم يقل: نفسك. ولم ينوه، لم تطلق، ما لم تذكر نفسها، ما لم يكن في كلام الزوج أو جوابها ما يصرف الكلام إليه؛ لأن ذلك في حكم التفسير، فإذا عري عن ذلك لم يصح، بخلاف قولها: اخترت أهلي. أو أبوي، فإنه يقع الطلاق بشرط أن تنويه؛ لأن هذا يصلح كناية من الزوج، فيما إذا قال: الحقي بأهلك. فكذلك منها.

ومن الألفاظ التي رفض الفقهاء قبولها احتياطا:

1 ـ لو قالت: اخترت نفسي، فإن هذه الصيغة تفتقر إلى نيتها، لأنه لفظ كناية منها، فإن نوى أحدهما دون الآخر، لم يقع؛ لأن الزوج إذا لم ينو فما فوض إليها الطلاق، فلا يصح أن يوقعه، وإن نوى ولم تنو هي، فقد فوض إليها الطلاق، فما أوقعته، فلم يقع شيء، كما لو وكل وكيلا في الطلاق، فلم يطلق، وإن نويا جميعا، وقع ما نوياه من العدد إن اتفقا فيه، وإن نوى أحدهما أقل من الآخر، وقع الأقل؛ لأن ما زاد انفرد به أحدهما، فلم يقع.

2 ـ لو قالت: قبلت. لم يقع شيء؛ لاحتمال انصرافه إلى قبول الوكالة، فلم يقع شيء، كما لو قال لأجنبي: أمر امرأتي بيدك. فقال: قبلت.

3 ـ لو قالت: أخذت أمري، ليس بشيء حتى تبين.

تكرار التخيير:

اختلف الفقهاء فيما لو كرر الزوج لفظة الخيار، فقال: اختاري، اختاري، اختاري، وقبلت، هل تقع ثلاثا أم واحدة على الأقوال التالية:

القول الأول: إذا قبلت، وقع ثلاثا؛ وهو قول الشعبي، والنخعي وأبي حنيفة، ومالك، واستدلوا على ذلك بأن اللفظة الواحدة تقتضي طلقة، فإذا تكررت اقتضت ثلاثا، كلفظة الطلاق، لأنه كرر ما يقع به الطلاق، فتكرر، كما لو كرر الطلاق.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (152 )

القول الثاني: أنه واحدة رجعية، وهو قول عطاء، وأبي ثور ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن تكرير التخيير لا يزيد به الخيار، كشرط الخيار في البيع.

2 ـ أنه يحتمل التأكيد، فإذا قصده قبل منه، كما لو قال: أنت طالق الطلاق.

توكيل غير الزوجة

اختلف الفقهاء في جواز توكيل الزوج من ينوب عنه في التطليق (1) على قولين:

القول الأول: عدم اعتبار التوكيل مطلقا صحة ونفوذا، وهو قول الظاهرية (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن كل ذلك إلزام حكم لم يلزم قط، وحل عقد ثابت، ونقل ملك بلفظ.

2 ـ أنه لا يجوز أن يتكلم أحد عن أحد إلا حيث أوجب ذلك نص، ولا نص على جواز الوكالة في شيء من هذه الوجوه.

3 ـ أن الأصل أن لا يجوز قول أحد على غيره، ولا حكمه على غيره لقول الله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام:164)

القول الثاني: جواز ذلك ونفوذه، وهو قول جمهور العلماء، وقد اختلفوا في ذلك مثلما اختلفوا في توكيل الزوجة، هل هو على الدوام أم يبقى خاصا بمجلس التوكيل على ما ذكر سابقا، إلا أن الشافعي وافق على هذا في حق غيرها؛ لأنه توكيل، وقال الحنفية: ذلك مقصور على المجلس؛ لأنه نوع تخيير، فأشبه ما لو قال: اختاري، وقد سبق ذكر أدلة الفريقين.

__________

(1) مثل قوله للموكل: أمر امرأتي بيدك، أو جعلت لك الخيار في طلاق امرأتي، طلق امرأتي.

(2) المحلى:7/ 91.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (153 )

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول إغلاقا لأبواب الطلاق وسدا لمنافذه وحرصا على الحياة الزوجية، وكل ذلك تدل عليه المقاصد الشرعية، وتصرح به النصوص القطعية، فليس في النصوص ما يدل على جعل أمر الحياة الزوجية بيد الغير.

فالطلاق كالصلاة لا تصح الوكالة فيها مطلقا، لأن التوكيل في الصلاة يؤدي إلى قطع الصلة بين العبد وربه، فكذلك الطلاق، قد يؤدي التوكيل فيه إلى قطع الصلة بين المرأة وزوجها، وقد يستغرب هذا القياس، ولكن الأغرب منه هو قياس الحياة الزوجية على البيع والشراء والمعاوضات المالية، فأي صلة بين الحياة الزوجية والحياة الاقتصادية؟ وهل الزوجان سلعة وثمن؟ فلذلك كما يبعد ما ذكرنا من قياس يبعد ما ذكروا منه.

ثم لماذا يلجأ الزوج للتوكيل، إن كان أخرس فتكفيه الإشارة، وإن كان بعيدا تكفيه الرسالة، فليس له عذر يمنعه من إيقاع الطلاق بنفسه، بل إن التكلفة التي يتكلفها للتكليف قد يغنيه ما هو أقل منها على أن يلي الأمر بنفسه، فإنه سيبحث عن الوكيل بشروطه الشرعية، ثم يوكله بصيغة شرعية، وفي كل ذلك تكليف ومشقة.

زيادة على ذلك أن التوكيل قد يصبح بابا من أبواب المساومة، فقد يقع الرجل في ضائقة من الضوائق، فيلتف به من يعجب بزوجته أو يحسده على نعمته، فيجعل إعانته موقوفة على توكيله أمر أسرته.

ثم بعد ذلك كيف تستقر الأسرة، وفي كل لحظة قد يأتي الوكيل ليخبر بأنه قد قرر قطع العلاقة الزوجية.

إن تصور مثل هذا وغيره يكفي للقول بعدم اعتبار الوكالة في هذا الباب، فإن رحمة الشريعة وعدلها وحفاظها على الحقوق تأبى كل ذلك، بل ما هو أدنى من ذلك.

وفيما سنعرضه من أقوال الفقهاء دليل على أن الوكالة في الطلاق ذريعة من ذرائع

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (154 )

الفساد تقتضي المصالح المعتبرة سدها.

صفات الوكيل:

نص الفقهاء على أنه يصح توكيل كل من يصح طلاقه لنفسه، فيصح توكيل الكافر، لأنه ممن يصح طلاقه لنفسه، فصح توكيله فيه، ويصح توكيله لامرأة، لأنه يصح توكيلها في العتق، فصح في الطلاق، وإن جعله في يد صبي يعقل الطلاق، انبنى ذلك على صحة طلاقه لزوجته، على ما مضى سابقا من الخلاف بين العلماء في شأنه.

واختلف الفقهاء ـ هنا ـ في جواز توكيل من ليست له أهلية التصرف كالمجنون والصبي غير المميز على قولين:

القول الأول: لا يصح أن يجعل الأمر بأيديهم، فإن فعل، فطلق واحد منهم، لم يقع طلاقه، وهو قول الجمهور، لأنهما ليسا من أهل التصرف، فلم يصح تصرفهم، كما لو وكلهم في العتق.

القول الثاني: يصح أن يجعل الأمر بأيديهم، وهو قول الحنفية.

الترجيح:

إن ما ذكره الفقهاء في هذا دليل على ما ذكرنا سابقا من عدم اعتبار الوكالة، فكيف تستقر الحياة الزوجية بعد توكيل الصبي والمجنون والكافر، وكيف يهنأ عيش الزوجة، وهي تنتظر كل لحظة نوبة من نوبات المجنون تعيدها إلى أهلها أو ترمي بها في الشارع، أو نزوة من نزوات الصبي تدمر البيت على أهله.

إن وجود الاختلاف في مثل هذه المسائل نفسها ينافي المقاصد الشرعية، لأن الحياة الزوجية مبينة على كلمة الله وميثاقه الغليظ، فكيف توضع في أيد لا تعقل ولا تميز ولا تقدر حق الميثاق الغليظ.

ولكن الأساس في كل هذا هو القياس المبني على الوهم أكثر من بنائه عل الواقع،

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (155 )

والمبني على الفروع أكثر من بنائه على الأصول، والمغلب للحرفية أكثر من تغليبه للمقاصدية.

توكيل اثنين:

نص الفقهاء على جواز توكيل اثنين في الطلاق، وليس لأحدهما أن يطلق على انفراد، إلا أن يجعل إليه ذلك؛ لأنه إنما رضي بتصرفهما جميعا، واختلفوا فيما لو طلق أحدهما واحدة، والآخر ثلاثا، فقيل بوقوعها واحدة لأنهما طلقا جميعا واحدة، مأذونا فيها، فصح لو جعل إليهما واحدة، وقيل: لا يقع شيء، وهو ما نراه راجحا لما ذكرنا سابقا.

ما يخرج به الوكيل عن الوكالة

إكمالا لما ذكرنا من حكم الوكالة وصفات الوكيل نذكر هنا ما يخرج به الوكيل عن الوكالة، وهو من الأحكام المهمة، وهي وإن كانت عامة إلا أن لها أهميتها الخاصة هنا، على الأقل في تضييق الطلاق عند من يقول باعتبار الوكالة في الطلاق.

وقد نص الحنفية على أن الوكيل يخرج عن الوكالة بأشياء، منها (1):

عزل الموكل إياه ونهيه:

باعتبار الوكالة عقدا غير لازم (2)، فهو عقد محتمل للفسخ بالعزل والنهي، ويشترط في العزل علم الوكيل به، لأن العزل فسخ للعقد، فلا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، كالفسخ.

ويتحقق العزل بكل ما يدل عليه، فإذا عزله وهو حاضر انعزل، ولو كان غائبا فكتب إليه كتاب العزل، فبلغه الكتاب، وعلم بما فيه، انعزل؛ لأن الكتاب من الغائب كالخطاب من الحاضر، ومثله لو أرسل إليه رسولا، فبلغ الرسالة، فإنه ينعزل كائنا ما كان الرسول

__________

(1) بدائع الصنائع:6/ 37، المبسوط:19/ 131، المغني:5/ 53، 5/ 72.

(2) ومثله أن يتصرف الموكل بنفسه فيما وكل به قبل تصرف الوكيل، لأن تصرف الموكل نفسه يتضمن عزل الوكيل ; لأنه أعجزه عن التصرف فيما وكله به والوكيل بعد ما انعزل لا يعود وكيلا، إلا بتجديد التوكيل.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (156 )

عدلا كان أو غير عدل، حرا كان أو عبدا، صغيرا كان أو كبيرا، لأن الرسول قائم مقام المرسل معبر وسفير عنه فتصح سفارته بعد أن صحت عبارته على أي صفة كان.

وإن أخبره بالعزل رجلان عدلان كانا أو غير عدلين أو رجل واحد عدل، ينعزل سواء صدقه الوكيل أو لم يصدقه إذا ظهر صدق الخبر؛ لأن خبر الواحد مقبول في المعاملات، فإن لم يكن عدلا فخبر العدلين أو العدل أولى، وقد اختلفوا فيما لو أخبره واحد غير عدل على قولين:

القول الأول: إن صدقه ينعزل، وإن كذبه لا ينعزل، ولو ظهر صدق الخبر، وهو قول أبي حنيفة، لأن الإخبار عن العزل له شبه الشهادة؛ لأن فيه التزام حكم المخبر به وهو العزل، وهو لزوم الامتناع من التصرف، ولزوم العهدة فيما يتصرف فيه بعد العزل، فأشبه الشهادة؛ فيجب اعتبار أحد شروطها وهو العدالة أو العدد.

القول الثاني: ينعزل إذا ظهر صدق الخبر وإن كذبه، وهو قول صاحبي أبي حنيفة، لأن الإخبار عن العزل من باب المعاملات، فلا يشترط فيه العدد، ولا العدالة كما في الإخبار في سائر المعاملات.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، لعدم الضرر من تبين كذب المخبر، بخلاف المفسدة التي تترتب على صدقه إن كان صادقا.

لحاقه بدار الحرب مرتدا:

وقد اختلف الفقهاء (1) في هذا على قولين:

__________

(1) وقد اتفقوا على أنه إن كان الموكل امرأة فارتدت، فالوكيل على وكالته حتى تموت أو تلحق بدار الحرب، لأن ردة المرأة لا تمنع نفاذ تصرفها ; لأنها لا تؤثر فيما رتب عليه النفاذ وهو الملك.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (157 )

القول الأول: يخرج به الوكيل عن الوكالة، وهو قول أبي حنيفة، بناء على أن تصرفات المرتد موقوفة عنده، فكانت وكالة الوكيل موقوفة أيضا، فإن أسلم الموكل نفذت. وإن قتل على الردة أو لحق بدار الحرب، بطلت.

القول الثاني: لا يخرج به الوكيل عن الوكالة، وهو قول الجمهور، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن العدالة غير مشترطة فيه، ومثلها الدين.

2 ـ أنه يصح تصرفه لنفسه، فلم تبطل وكالته، كما لو لم يلحق بدار الحرب.

3 ـ أن الردة لا تمنع ابتداء وكالته فلم تمنع استدامتها، كسائر الكفر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن ارتداده عن دينه وفراره لدار الحرب يجعله عدوا للمسلمين وتحرم موالاته، فكيف يوثق في مثله، ليوكل في مثل هذا، بل لا يصح توكيله مطلقا، لأن التوكيل دليل الثقة والمودة، وقد فرض بغضه في الله، وحرم توليه، أو إلقاء المودة إليه.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (158 )

الفصل الثالث

من يقع عليها الطلاق

نتناول في هذا الفصل الركن الثاني من أركان الطلاق، وهو المحل الذي يقع عليه الطلاق، وهو أيضا يحتاج إلى ضبط وحصر حتى يتقيد الطلاق في أضيق الأطر، وقد رأينا أن هذه التقييد يستلزم ثلاثة شروط خصصنا كل شرط منها بمبحث خاص، وهي:

1 ـ أن تكون المطلقة زوجة ثابتة الزوجية، وقد يستغرب أن يعتبر هذا شرطا، ولكن ما سنذكره يزيل الغرابة، فمن الفقهاء من يوقع الطلاق ولو على الأجنبية، فتبين من زوجها يوم يدخل بها.

2 ـ أن تكون معينة بأي نوع من أنواع التعيين التي تدل على أنها مقصودة بالذات.

3 ـ أن يتم طلاقها بالصفة السنية، لا البدعية.

وهذه الضوابط الثلاثة التي سنتناولها في هذا الفصل تحمي مراعاتها من أن يقع الطلاق على من لم تقصد، ويضيق أبوابا من الطلاق فتحها الناس على أنفسهم، وأعانهم عليها بعض الفقهاء.

أولا ـ ثبوت الزوجية

ونقصد به أن المرأة التي يصح إيقاع الطلاق عليها ينبغي أن تكون زوجة له، وقد عقد عليها بالفعل عقدا شرعيا معتبرا، وقد اختلف الفقهاء في هذا اختلافا شديدا سنخصه بالتفصيل في هذا المبحث:

1 ـ حكم طلاق غير الزوجة

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (159 )

اتفق الفقهاء على أنه لا يقع الطلاق على المرأة الأجنبية إن كان تنجيزا، وقد نقل الإجماع على ذلك (1)، وهو ظاهر، أما إن كان تعليقا بالنكاح كأن يقول: إن نكحت فلانة، فهي طالق ففيه ثلاث أقوال (2):

القول الأول: عدم وقوع الطلاق مطلقا، وقد روي هذا عن ابن عباس، وبه قال سعيد ابن المسيب، وعطاء، والحسن، وعروة، وجابر بن زيد، وسوار والقاضي، والشافعي وأبو ثور، وابن المنذر، ورواية عن أحمد (3)، وهو قول الإمامية والظاهرية، ورواه الترمذي عن علي، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، وعلي بن الحسين، وشريح، وغير واحد من فقهاء التابعين، ورواه البخاري عن اثنين وعشرين صحابيا (4)، قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:49) (5)، وهي آية المسألة، وقد استدل بها الخلف والسلف، قال ابن

__________

(1) انظر: سبل السلام:3/ 179.

(2) المدونة:2/ 71، الأم: 5/ 268، المصنف لابن أبي شيبة:4/ 20 مشكل الآثار: 1/ 131، المحلى 9/ 199، المغني: 9/ 415، أنوار البروق: 1/ 101، التاج والإكليل: 5/ 339، بدائع الصنائع: 3/ 138، شرائع الإسلام:3/ 5، تبيين الحقائق: 2/ 232.

(3) إذا قال: إن اشتريت هذا الغلام فهو حر. فاشتراه عتق، وإن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق. فهذا غير الطلاق، هذا حق لله تعالى، والطلاق يمين، ليس هو لله تعالى، ولا فيه قربة إلى الله تعالى، انظر: المبدع:7/ 324.

(4) انظر: فتح الباري:9/ 381.

(5) اختلف الفقهاء في الاستدلال بهذه الآية، فكل حملها على مراده، قال الجصاص: (تنازع أهل العلم في دلالة هذه الآية في صحة إيقاع طلاق المرأة بشرط التزويج، وهو أن يقول:) إن تزوجت امرأة فهي طالق (، فقال قائلون: قد اقتضت الآية إلغاء هذا القول وإسقاط حكمه ; إذ كانت موجبة لصحة الطلاق بعد النكاح، وهذا القائل مطلق قبل النكاح، وقال آخرون: دلالتها ظاهرة في صحة هذا القول من قائله ولزوم حكمه عند وجود النكاح ; لأنها حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح، ومن قال لأجنبية: إذا تزوجتك فأنت طالق، فهو مطلق بعد النكاح ; فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه وإثبات حكم لفظه. انظر: أحكام القرآن للجصاص:5/ 232.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (160 )

جريج: بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز؟ فقال ابن عباس: (أخطأ في هذا إن الله تعالى يقول: {إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولم يقل إذا طلقتم المؤمنات، ثم نكحتموهن) (1)

2 ـ وقد ذكر ابن كثير من استدل من السلف بالآية، فقال: (وقد استدل ابن عباس ما وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعلي بن الحسين زين العابدين وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح، لأن الله تعالى قال: {إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فعقب النكاح بالطلاق، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله (2) وذكر ابن الجوزي استمرار الخلف في الاستدلال بالآية، فقال: (واستدل أصحابنا بهذه الآية لأنه جعل الطلاق بعد النكاح، وقال سماك بن الفضل النكاح عقدة والطلاق يحلها فكيف يحل عقدة لم تعقد، فجعل بهذه الكلمة قاضيا على صنعاء) (3)

3 ـ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق:1) قال الشافعي بعد سرده لهذه الآيات: (لم أعلم مخالفا في أن أحكام الله تعالى في الطلاق والظهار والإيلاء لا تقع إلا على زوجة ثابتة النكاح يحل للزوج جماعها) (4)

4 ـ ورود الأحاديث التي يقوي بعضها بعضا، والتي تدل بمجموعها على عدم صحة الطلاق قبل الزواج، قال ابن الجوزي: (لنا ستة أحاديث (5)، ومن هذه الأحاديث

__________

(1) انظر: المحلى:10/ 207.

(2) ابن كثير:3/ 499.

(3) زاد المسير:6/ 402.

(4) الأم:5/ 268.

(5) التحقيق في أحاديث الخلاف:2/ 289.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (161 )

وأقواها قوله صلى الله عليه وآله وسلم (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق فيما لا يملك، ولا طلاق لابن آدم فيما لا يملك) (1)، قال البيهقي: أصح حديث فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال الترمذي: هو أحسن شيء روي في هذا الباب، قال البيهقي: قال البخاري: أصح شيء فيه وأشهره حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (2).

ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها) (3)

ومنها ما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال قال لي عم لي: اعمل عملا حتى أزوجك ابنتي، فقلت: إن تزوجتها فهي طالق ثلاثا، ثم بدا لي أن أتزوجها، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي: تزوجها فإنه لا طلاق إلا بعد نكاح، فتزوجتها فولدت لي أسعدا وسعيدا، ومثله ما روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي عرضت على قرابة لي أتزوجها فقلت: هي طالق ثلاثا إن تزوجتها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل كان قبل ذلك من ملك قال: لا قال: لا بأس فتزوجها (4).

ومنها ما روي عن ابن عمر قال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق، قال: (طلق ما لا يملك (5)

ومنها ما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا طلاق إلا بعد نكاح ولا عتق

__________

(1) قال الترمذي: هذا حديث حسن، الترمذي: 3/ 486، الحاكم: 2/ 222، أحمد: 2/ 190.

(2) انظر: فتح الباري:9/ 381.

(3) الدارقطني: 4/ 17، وقال: يزيد بن عياض ضعيف، انظر: الحقيق في أحاديث الخلاف: 12/ 290.

(4) الدارقطني:4/ 19، وانظر: التحقيق في أحاديث الخلاف:2/ 290.

(5) الدارقطني: 4/ 16.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (162 )

إلا بعد ملك) (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس على رجل طلاق فيما لا يملك (2)

5 ـ ورود الآثار الكثيرة من السلف على القول بذلك، ويدل على أن هذا القول هو المفتى به في عهد السلف ما روي عن المنذر ابن علي بن أبي الحكم أن بن أخيه خطب بنت عمه، فتشاجروا في بعض الأمر فقال الفتى: هي طالق إن نكحتها حتى آكل الغضيض، [قال: والغضيض طلع النخل الذكر]، ثم ندموا على ما كان من الأمر، فقال المنذر: أنا آتيكم بالبيان من ذلك، فانطلق إلى سعيد بن المسيب فذكر له، فقال ابن المسيب: ليس عليه شيء، طلق ما لم يملك قال: ثم إني سألت عروة بن الزبير فقال مثل ذلك، ثم سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن فقال مثل ذلك، ثم سألت أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال مثل ذلك، ثم سألت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فقال مثل ذلك، ثم سألت عمر بن عبدا لعزيز فقال: هل سألت أحدا قلت: نعم، فسماهم قال: ثم رجعت إلى القوم فأخبرتهم (3).

6 ـ أن ما روي من السلف من ثبوت الطلاق محمول عل الكراهة، كما سئل القاسم وسالم عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق قالا: هي كما قال، وعن أبي أسامة عن عمر بن حمزة أنه سأل سالما والقاسم وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعبد الله بن عبد الرحمن عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة فهي طالق البتة فقالوا

__________

(1) رواه أبو يعلى وصححه الحاكم وهو معلول، وأخرج ابن ماجه عن المسور بن مخرمة مثله وإسناده حسن لكنه معلول أيضا، قال الحاكم: أنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، لقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر، وهو معلول بما قاله الدارقطني: الصحيح مرسل ليس فيه جابر، قال يحيى بن معين: لا يصح عن النبي () لا طلاق قبل نكاح (، وقال ابن عبد البر:) روي من وجوه إلا إنها عند أهل العلم بالحديث معلولة (، سبل السلام:3/ 179.

(2) أحمد: 2/ 189.

(3) فتح الباري:9/ 384.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (163 )

كلهم: لا يتزوجها، قال ابن حجر: (وهو محمول على الكراهة دون التحريم، لما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن أن القاسم سئل عن ذلك فكرهه، فهذا طريق التوفيق بين ما نقل عنه من ذلك) (1)

7 ـ أن القائل إن تزوجت فلانة فهي طالق مطلق لأجنبية، وهو محال حين الطلاق، والمتجدد هو نكاحها والنكاح لا يكون طلاقا، فعلم أنه لو طلقت، فإنما يكون ذلك استنادا إلى الطلاق المتقدم معلقا، وهي إذ ذاك أجنبية الصفة لا يجعله متكلما بالطلاق عند وجودها، فإنه عند وجودها مختار للنكاح غير للطلاق فلا يصح كما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وهي زوجته تطلق بغير خلاف.

8 ـ عدم صحة القياس على نذر العتق، وذلك من وجوه:

الوجه الأول: أن العتق له قوة وسراية ولا يعتمد نفوذ الملك لأنه ينفذ في ملك ويصح أن يكون الملك سببا لزواله بالعتق عقلا وشرعا.

الوجه الثاني: أن العتق ومثله النذر قربة محبوبة لله تعالى، والتوسل إليه بكل وسيلة مفضية إلى محبوبه، بخلاف الطلاق فإنه مبغض إلى الله وهو أبغض الحلال إليه ولم يجعل ملك البضع بالنكاح سببا لإزالته.

الوجه الثالث: أن تعليق العتق بالملك من باب نذر القرب والطاعات والتبرر، كقوله: إن آتاني الله من فضله لأتصدقن بكذا وكذا، فإذا وجد الشرط لزمه ما علقه به من المقصودة بخلاف تعليق الطلاق على الزواج.

القول الثاني: وقوع الطلاق مطلقا، وهو قول النخعي والشعبي ومجاهد وعمر بن عبد العزيز، وقول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد، فلم يفرقوا بين من عم أو خص، ومن الأدلة على ذلك:

__________

(1) فتح الباري:9/ 384.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (164 )

1 ـ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:49)، وقد استدلوا بالآية من وجهين:

الوجه الأول: نفي صحة الاستدلال بالآية على صحة القول الأول، قال ابن التين: (احتجاج البخاري بهذه الآية على عدم الوقوع لا دلالة فيه (وقال ابن المنير: (ليس فيها دليل، لأنها إخبار عن صورة وقع فيه الطلاق بعد النكاح، ولا حصر هناك، وليس في السياق ما يقتضيه) (1)

الوجه الثاني: الاستدلال بالآية على وقوع الطلاق، قال الجصاص في بيان وجه الاستدلال: (دلالتها ظاهرة في صحة هذا القول من قائله ولزوم حكمه عند وجود النكاح، لأنها حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح، ومن قال لأجنبية: إذا تزوجتك فأنت طالق فهو مطلق بعد النكاح، فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه وإثبات حكم لفظه، وهذا القول هو الصحيح) (2)

2 ـ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة:1)،فقد اقتضى ظاهر الآية إلزام كل عاقد موجب عقده ومقتضاه، فلما كان هذا القائل عاقدا على نفسه إيقاع طلاق بعد النكاح وجب أن يلزمه حكمه، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون عند شروطهم) (3)، فقد أوجب ذلك أن كل من شرط على نفسه شرطا ألزم حكمه عند وجود شرطه.

3 ـ أن النصوص الواردة في الباب محمولة على نفي التخيير، لا على عدم وقوع

__________

(1) فتح الباري:9/ 384.

(2) أحكام القرآن للجصاص: 5/ 232.

(3) أخرجه الطبرانى (4/ 275، رقم 4404). قال الهيثمى (4/ 205): فيه حكيم بن جبير، وهو متروك، وقال أبو زرعة: محله الصدق إن شاء الله. وأخرجه أيضا: الإسماعيلى (3/ 749)، وابن عدى (6/ 42 ترجمة 1586 قيس بن الربيع)

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (165 )

الطلاق، وهذا الحمل مأثور عن السلف كالشعبي والزهري وغيرهما، فعن هشام بن سعد أنه قال لابن شهاب، وهو يذاكره هذا النحو من الطلاق: (ألم يبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك)، فقال ابن شهاب: بلى قد قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أنزلتموه على خلاف ما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنما هو أن يذكر الرجل للرجل المرأة، فيقال له تزوجها، فيقول: هي طالق ألبتة فهذا ليس بشيء، فأما من قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق ألبتة، فإنما طلقها حين تزوجها، أو قال هي حرة إن اشتريتها، فإنما أعتقها حين اشتراها.

وروي عن الزهري كذلك في قول عائشة،: (لا طلاق إلا بعد نكاح) قال الزهري: وإنما تعني بذلك الرجل يقال له نزوجك فلانة، فيقول هي طالق، فأما إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لزمه الطلاق، قال في الدراية: (وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي والنخعي والزهري وسالم والقاسم وعمر بن عبد العزيز ومكحول والأسود وأبي بكر بن حزم وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبد الله بن عبد الرحمن في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق هو كما قال) (1)

4 ـ رواية ذلك عن السلف، فقد رووا أن عمر قال في رجل قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق قال: هو كما قال، ورووا أن رجلا خطب امرأة فقال هي علي كظهر أمي إن تزوجتها فأمره عمر أن يتزوجها ولا يقربها حتى يكفر كفارة الظهار، ورووا عن الأسود أنه قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها ناسيا فأتى ابن مسعود فذكر ذلك له فألزمه الطلاق (2).

5 ـ اتفاق العلماء على أن النذر لا يصح إلا في ملك، واعتبار أن من قال: (إن رزقني

__________

(1) الدراية:2/ 72.

(2) انظر هذه الآثار بأسانيدها وتخريجها في أحكام القرآن للجصاص:5/ 235.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (166 )

الله ألف درهم فلله علي أن أتصدق بمائة منها) أنه ناذر في ملكه من حيث أضافه إليه وإن لم يكن مالكا في الحال، فكذلك الطلاق إذا أضافه إلى الملك كان مطلقا.

6 ـ اتفاق العلماء على أن من قال لجاريته: (إن ولدت ولدا فهو حر) فحملت بعد ذلك وولدت أنه يعتق وإن لم يكن مالكا في حال القول؛ لأن الولد مضاف إلى الأم التي هو مالكها، كذلك إذا أضاف الطلاق إلى التزوج.

7 ـ أنه لا يخلو العاقد لهذا القول من أن يكون مطلقا في حال العقد، أو في حال الإضافة ووجود الشرط، فلما اتفق الجميع على أن من قال لامرأته: إذا بنت مني وصرت أجنبية فأنت طالق أنه موقع للطلاق في حال الإضافة، لا في حال القول، وأنه بمنزلة من أبان امرأته، ثم قال لها: أنت طالق، فسقط حكم لفظه، ولم يعتبر حال العقد مع وجود النكاح فيها، صح أن الاعتبار بحال الإضافة دون حال العقد، فإن القائل للأجنبية: إذا تزوجتك فأنت طالق موقع للطلاق بعد الملك.

القول الثالث: التفريق بين التخصيص والتعميم، فيقع الطلاق بالتخصيص ولا يقع بالتعميم، فمن حلف بطلاق من يتزوج إن لم يسم قبيلة أو يعين امرأة أنه لا شيء عليه، إلا إذا سد على نفسه باب الاستمتاع فلا يلزمه شيء، أما إذا لم يسد على نفسه باب الاستمتاع فإنه يلزمه ذلك (1)، وهو مذهب مالك، وبه قال النخعي والشعبي والأوزاعي، وقد استدلوا على ذلك زيادة على ما سبق ذكره من أدلة القول الثاني مارواه مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود كان يقول فيمن قال: كل امرأة أنكحها فهي طالق أنه إذا لم يسم قبيلة أو امرأة بعينها فلا شيء عليه قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت.

__________

(1) وهو أن يقول مثلا: إن تزوجت امرأة من قبيلة كذا، أو يضيف ذلك إلى بلد فيقول:: إن تزوجت امرأة من مصر أو تزوجت امرأة بالشام، أو يضيف ذلك إلى زمن لا يستوعب عمره أو أكثر مثل أن يقول: إن تزوجت هذا العام أو هذه العشرة الأعوام فمثل هذا يلزمه ; لأنه لم يسد على نفسه باب الاستمتاع.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (167 )

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، فهو الذي تدل عليه النصوص، وتقتضيه المقاصد الشرعية من تضييق باب الطلاق ومنع التلاعب به، وفيما ذكرنا من أدلة القول ما يكفي للدلالة على هذا.

2 ـ طلاق الزوجة من زواج فاسد

اتفق الفقهاء على أنه لا يقع الطلاق في نكاح باطل إجماعا، كنكاح خامسة وأخت على أختها (1)، واختلفوا في النكاح الفاسد المختلف فيه على قولين:

القول الأول (2): أن التفريق في النكاح الفاسد إما أن يكون بتفريق القاضي أو بمتاركة الزوج، وهو قول الحنفية والشافعية، وأن هذا التفريق ليس بطلاق.

وقد نص الحنفية على أنه لا يتحقق الطلاق في النكاح الفاسد، بل هو متاركة فيه ولا تحقق للمتاركة إلا بالقول إن كانت مدخولا بها، كقوله: تاركتك أو تاركتها أو خليت سبيلك أو خليت سبيلها أو خليتها.

أما غير المدخول بها فتتحقق المتاركة بالقول وبالترك عند بعضهم وهو تركها على قصد أن لا يعود إليها، وعند البعض لا تكون المتاركة إلا بالقول فيهما حتى لو تركها ومضى على عدتها سنون لم يكن لها أن تتزوج بآخر، وإنكار الزوج النكاح إن كان بحضرتها فهو متاركة وإلا فلا كإنكار الوكيل الوكالة.

أما علم غير المتاركة بالمتاركة، فقد اختلف فيه، فقيل إنه شرط لصحة المتاركة حتى لو لم يعلمها لا تنقضي عدتها، وقيل: إن علم المرأة في المتاركة ليس

__________

(1) كشاف القناع:5/ 237.

(2) تيببن الحقائق:2/ 153، الفتاوى الهندية:1/ 330، الجوهرة النيرة:2/ 78.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (168 )

واختلفوا في ثبوت المتاركة من المرأة فقيل: إن المتاركة لا تكون من المرأة أصلا كما قيده الزيلعي بالزوج، وقيل: إن لكل واحد منهما أن يستبد بفسخه قبل الدخول وبعده، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن وقوع الطلاق يختص بنكاح صحيح.

2 ـ أنه ليس بطلاق حقيقة إنما هو فسخ.

وقد كان هذا القول من الطرق التي تحلل بها المرأة إلى زوجها، وذلك بالبحث في مفسد من مفسدات الزواج على مذهب من المذاهب، ثم الحكم بعدم وقوع الطلاق لذلك، وكمثال على الفتاوى في ذلك ما سئل شهاب الدين الرملي عما لو طلقها ثلاثا، ثم اتفقا على عدم شرط من شروط النكاح ولم يقبل إقرارهما، فإذا قبلها الحاكم وحكم بفساد العقد هل تحل للزوج بلا محلل أو لا؟ فأجاب بأنه يحل لمطلقها نكاحها بلا محلل لوجود الحكم بفساد النكاح فيترتب عليه جميع مقتضاه (1).

القول الثاني: وقوع الطلاق في النكاح الفاسد المختلف فيه، وهو قول المالكية والحنابلة، فقد سئل ابن القاسم: طلق قبل أن يفسخ نكاحه، أيقع طلاقه عليها، وهو إنما هو نكاح لا يقر على حال؟ فقال: لم أسمع من مالك فيه شيئا وأرى أنه لا يقع طلاقه لأن الفسخ فيه يكون طلاقا قال: وذلك إن كان ذلك النكاح حراما ليس مما اختلف الناس فيه، فأما ما اختلف الناس فيه حتى يأخذ به قوم ويكرهه قوم فإن المطلق يلزمه ما طلق فيه وقد فسرت هذا قبل ذلك ويكون الفسخ فيه عندي تطليقة (2)

وقد بين الشيخ عليش وجه استدلال من قال بوقوع الطلاق، فقال إجابة على سؤال نصه: (أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا مختلفا فيه في المذهب أو غيره بالبينونة، والرجعة،

__________

(1) فتاوى الرملي:3/ 176.

(2) المدونة:2/ 121.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (169 )

ثم بعد ذلك أوقع الثلاث فهل يلحق به نظرا للمخالف كمن طلق في نكاح مختلف فيه، ويكون محل قولهم البائن لا يرتدف عليه غيره إذا كان متفقا عليه أو لا؟)

فأجاب: (نعم يلحق به نظرا للمخالف واستحسانا، واحتياطا للفروج إذا كان الإرداف في العدة) (1)

وقد نص الحنابلة على أنه لا يكون الطلاق في نكاح مختلف فيه بدعيا في حيض، فيجوز فيه ولا يسمى طلاق بدعة؛ لأن الفاسد لا تجوز استدامته كابتدائه. (2)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على ما سبق ذكره من تضييق دائرة الطلاق ما أمكن، ولأن الزوجة من زواج فاسدة لا تعتبر زوجة حقيقية، لأن الزوجة الحقيقية هي التي تستقر معاشرتها مع زوجها، ولا تطلق إلا برغبته أو بأسباب التفريق المشروعة، وليس في الزواج الفاسد كل ذلك، فهو تفريق بغير رغبته ولا رغبة زوجته، فلذلك كان الأصلح لهما عدم اعتبار ذلك التفريق طلاقا حتى إذا ما صححا العقد وتزوجا زواجا صحيحا خلت ذمتهما من أي طلقة.

3 ـ إضافة الطلاق إلى بعض أجزاء المرأة

تكلم الفقهاء في تبعيض الطلاق وتجزئته من ناحيتين:

الناحية الأولى: إذا طلق جزءا من طلقة، وسنعرض لها في محلها الخاص من صيغة الطلاق.

__________

(1) فتح العلي المالك:2/ 9.

(2) مطالب أولي النهى:5/ 327.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (170 )

الناحية الثانية: إذا طلق جزءا منها، وهو الذي سنتحدث عنه هنا لعلاقته بالزوجة، لأن السؤال الذي يرد بعد معرفة ثبوت الزوجية هو هل الزوجية تتعلق بجميع المرأة أم أنه يصح تعليقها على بعض أجزائها.

وقد اتفق الفقهاء هنا على أنه إن أضاف الطلاق إلى الريق والدمع والعرق والحمل لم تطلق، قال ابن قدامة: (لا نعلم فيه خلافا)؛ ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن هذه ليست من جسمها وإنما الريق والدمع والعرق فضلات تخرج من جسمها فهو كلبنها.

2 ـ أن الحمل مودع فيها، وليس جزءا منها، كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُون} (الأنعام:98) قيل: مستودع في بطن الأم.

وقد اختلفوا فيما لو طلق الزوج من المرأة جزءا من أجزائها الثابتة، على قولين:

القول الأول: يقع بذلك الطلاق، سواء كان ما طلقه جزءا شائعا كنصفها أو سدسها أو جزءا من ألف جزء منها أو جزءا معينا كيدها أو رأسها أو أصبعها، وهو قول الحسن ومذهب الشافعي وأبي ثور وابن القاسم صاحب مالك (1).

__________

(1) اختلف المالكية في الشعر، والكلام على قولين:

القول الأول: تعليق الطلاق أو العتق بالشعر غير لازم وكذلك الكلام،، وكذلك من قال سعالك علي حرام، وهو قول سحنون ورواه ابن المواز عن ابن عبد الحكم، لأنه مما لا تحله الحياة.

القول الثاني: أنه لازم، وقد روي عن أشهب، لأنه مما يقع به الالتذاذ على وجه الاستمتاع، فأشبه الوجه، واليدين، انظر: المنتقى:4/ 6، قال ابن العربي:) فأما إذا قال لها: كلامك طالق ; فلا إشكال فيه، فإن الكلام حرام سماعه، فهو من محللات النكاح فيلحقه الطلاق (أحكام القرآن لابن العربي:1/ 651.

واختلفوا في إضافة الطلاق إلى الروح، وهو نفس الخلاف عند الشافعية، قال ابن العربي:) وأما الروح والحياة فليس للنكاح فيهما متعلق، فوجه وقوع الطلاق بتعليقه عليهما خفي، وهو أن بدنها الذي فيه المتاع لا قوام له إلا بالروح والحياة. وهو باطن فيها ; فكأنه قال لها: باطنك طالق، فيسري الطلاق إلى ظاهرها فإنه إذا تعلق الطلاق بشيء منها سرى إلى الباقي) أحكام القرآن:1/ 651.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (171 )

ففي المدونة أرأيت الرجل إن قال: لامرأته يدك طالق أو رجلك طالق أو إصبعك طالق؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئا، وأرى أنه إذا طلق يدا أو رجلا أو ما أشبه ذلك فهي طالق كلها وكذلك الحرية (1)

وفي الأم، قال الشافعي: وإذا قال الرجل لامرأته بدنك أو رأسك أو فرجك أو رجلك أو يدك أو سمى عضوا من جسدها أو إصبعها أو طرفا ما كان منها طالق فهي طالق، ولو قال لها بعضك طالق أو جزء منك طالق أو سمى جزءا من ألف جزء طالقا كانت طالقا والطلاق لا يتبعض وإذا قال لها أنت طالق نصف أو ثلث أو ربع تطليقة أو جزءا من ألف جزء كانت طالقا والطلاق لا يتبعض (2).

ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن ذلك على سيل الاحتياط، قال العز بن عبد السلام: (إذا طلق من امرأته جزءا معينا أو شائعا سرى الطلاق إلى بقيتها احتياطا للأبضاع بخلاف الأوقاف والصدقات، فإن التصرف فيها مقصور على محله) (3)

2 ـ أنه أضاف الطلاق إلى جزء ثابت استباحه بعقد النكاح فأشبه الجزء الشائع والأعضاء الخمسة.

3 ـ أنه أضاف الطلاق إلى جزء مستمتع به منها بعقد النكاح، فيقع الطلاق كالوجه والرأس.

4 ـ أن مبنى الطلاق على الغلبة والسراية فإذا أوقعه على جزء منها، يسري إلى جميعها

__________

(1) المدونة:2/ 69.

(2) الأم:5/ 200.

(3) قواعد الأحكام:2/ 90.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (172 )

كالجزء الشائع، وبه فارق النكاح فإنه غير مبني على السراية ولهذا لا تصح إضافته إلى جزء شائع.

5 ـ أن الحل والحرمة إذا اجتمعا في المحل يترجح جانب الحرمة في الابتداء والانتهاء، والدليل عليه أنه لو قال لها: أنت طالق شهرا، يقع مؤبدا ولو قال: تزوجتك شهرا، لم يصح النكاح فيجعل ذكر جزء منها كذكر جزء من الزمان في الفصلين.

6 ـ أنها جملة لا تتبعض في الحل والحرمة وجد فيها ما يقتضي التحريم والإباحة فغلب فيها حكم التحريم كما لو اشترك مسلم ومجوسي في قتل صيد.

7 ـ أن قياسهم لا يصح، لأنه الشعر والظفر ليس بثابت فإنهما يزولان ويخرج غيرهما ولا ينقض مسهما الطهارة.

القول الثاني: أنه إن أضافه إلى جزء شائع أو واحد من أعضاء خمسة؛ الرأس والوجه والرقبة والظهر والفرج (1) طلقت، وإن أضافه إلى جزء معين غير هذه الخمسة لم تطلق، وهو قول الحنفية، وقد قيدوا ذلك بما لو قصد بالجزء الكل، قال السرخسي: (لو قال لها: رأسك طالق، كانت طالقا لا بإضافة الطلاق إلى الرأس بعينه، فإنه لو قال: الرأس منك طالق أو وضع يده على رأسها وقال: هذا العضو منك طالق، لا يقع شيء ولكن باعتبار أن الرأس يعبر به عن جميع البدن يقال هؤلاء رءوس القوم، ومع الإضافة إلى الشخص أيضا يعبر به عن جميع البدن يقول الرجل: أمري حسن ما دام رأسك أي ما دمت باقيا (2)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق:1)، أمر الله تعالى بتطليق النساء، والنساء جمع المرأة والمرأة اسم لجميع أجزائها، والأمر بتطليق

__________

(1) لو أضاف الطلاق إلى دبرها لا يقع ; لأن الدبر لا يعبر به عن جميع البدن بخلاف الفرج، بدائع الصنائع:3/ 144.

(2) المبسوط:6/ 89.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (173 )

الجملة يكون نهيا عن تطليق جزء منها لا يعبر به عن جميع البدن؛ لأنه ترك لتطليق جملة البدن، والأمر بالفعل نهي عن تركه والمنهي لا يكون مشروعا فلا يصح شرعا.

2 ـ أن الوجه يعبر به عن جميع البدن يقول الرجل لغيره: يا وجه العرب، وكذلك الجسد والبدن والرقبة والعنق يعبر بها عن جميع البدن قال الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (النساء:92) وقال الله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِين} (الشعراء:4)، وكذلك الروح يعبر بها عن جميع البدن فصار هو بهذا اللفظ مضيفا الطلاق إلى جميعها فكأنه قال: أنت طالق.

3 ـ أن سائر الأعضاء ليست بمحل لإضافة النكاح إليها، فكذلك الطلاق.

4 ـ أن هذه الأعضاء تبع في حكم النكاح والطلاق، ولهذا صح النكاح والطلاق وإن لم يكن لها أصبع، ويبقى بعد فوات الأصبع.

5 ـ أن ذكر التبع، لا يصير الأصل مذكورا وإذا كان تبعا، لا يكون محل الإضافة التصرف إليه، والسراية إنما تتحقق بعد صحة الإضافة، ولذلك فإن وقوع الطلاق بذكر الوجه والرأس ليس بطريق السراية، بل باعتبار دلالتها عن جميع البدن.

6 ـ أنه لا يمكن تصحيح الكلام هنا بطريق الإضمار، وهو أن يقدم الإيقاع على البدن لتصحيح كلامه؛ لأنه لو كان هذا كلاما مستقيما، لصح إضافة النكاح إلى اليد بهذا الطريق.

7 ـ أن المقتضى تبع للمقتضي، وجعل الأصل تبعا للأصبع متعذر فلهذا لا يصح بطريق الاقتضاء.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الطلاق منصرف إلى الزوجة، وأجزاء الزوجة لا تعبر عنها بالضرورة.

ثانيا ـ تعيين المطلقة

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (174 )

1 ـ طرق تعيين المطلقة

اتفق الفقهاء على اشتراط تعيين المطلقة، وقد اتفقوا على أن طرق التعيين كلها يقع بها الطلاق، وقد خصوا بالتفصيل ثلاثة طرق هي: الإشارة، والوصف، والنية، فأيها قدم جاز، ولعلاقة هذه الطرق ببعضها حالتان:

توافق طرق التعيين:

اتفق الفقهاء على أنه لو عين المطلقة بالإشارة والصفة والنية وقع الطلاق على المعينة، كأن قال لزوجته التي اسمها ليلى مشيرا إليها: يا ليلى، أنت طالق، قاصدا طلاقها، فإنها تطلق بالاتفاق، لتمام التعيين بذلك.

فإن أشار إلى واحدة من نسائه دون أن يصفها بوصف، ولم ينو غيرها، وقال لها: أنت طالق، وقع الطلاق عليها، لأن الإشارة كافية للتعيين.

ومثل ذلك ما لو وصفها بوصفها دون إشارة ودون قصد غيرها، فإنها تطلق أيضا، كما إذا قال: ليلى طالق.

ومثل ذلك ما لو نوى واحدة من نسائه، ولم يشر إليها ولم يصفها، كما إذا قال: إحدى نسائي طالق، ونوى واحدة منهن، فإنها تطلق دون غيرها، وكذلك لو قال: امرأتي طالق، وليس له غير زوجة واحدة، فإنها تطلق.

تعارض طرق التعيين:

ولها صور كثيرة، مثل أن ينوي خلاف ما يتلفظ، أو يشير خلاف ما يصف، كأن يشير إلى واحدة من نسائه، ويسمي غيرها، ومثال ذلك أن يقول لإحدى زوجاته واسمها سلمى: أنت يا ليلى طالق، وكانت الأخرى اسمها ليلى، وسنذكر هنا آراء المذاهب الفقهية في المسألة لكثرة التفاصيل بين المذاهب المختلفة، ثم نعقبها ببيان الأقوال العامة في المسألة:

مذهب الحنفية:

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (175 )

نص الحنفية (1) على أنه لو قال: يا زينب، فأجابته عمرة؛ فقال: أنت طالق ثلاثا طلقت التي أجابته، لأنه أتبع الإيقاع الجواب فيصير مخاطبا للمجيبة، وإن قال: أردت زينب قلنا تطلق زينب بقصده، ولكنه لا يصدق في صرف الكلام عن ظاهره فتطلق عمرة أيضا بالظاهر كما لو قال: زينب طالق، وله امرأة معروفة بهذا الاسم تطلق، فإن قال: لي امرأة أخرى بهذا الاسم تزوجتها سرا، وإياها عنيت قلنا تطلق تلك بنيته، والمعروفة بالظاهر.

ولو قال: يا زينب أنت طالق ولم يجبه أحد طلقت زينب؛ لأنه أتبع الإيقاع النداء فيكون خطابا للمنادى وهي زينب.

وإن قال لامرأته يشير إليها: يا زينب أنت طالق فإذا هي عمرة طلقت عمرة، إن كانت امرأته، وإن لم تكن امرأته، لم تطلق زينب؛ لأن التعريف بالإشارة أبلغ من التعريف بالاسم، فإن التعريف بالإشارة يقطع الشركة من كل وجه، وبالاسم لا، فكان هذا أقوى، ولا يظهر الضعيف في مقابلة القوي؛ فكان هو مخاطبا بالإيقاع لمن أشار إليها خاصة.

وإن قال: يا زينب أنت طالق، ولم يشر إلى شيء غير أنه رأى شخصا فظنها زينب، وهي غيرها طلقت زينب في القضاء؛ لأنه بنى الإيقاع على التعريف بالاسم هنا فإنما يقع على المسماة، ولا معتبر بظنه؛ لأن التعريف لا يحصل به في الظاهر، والقاضي مأمور باتباع الظاهر، فأما فيما بينه وبين الله تعالى لا تطلق هي ولا الأخرى؛ لأنه عناها بقلبه، والله تعالى مطلع على ما في ضميره فيمنع ذلك الإيقاع على زينب التي لم يعنها بقلبه، وعلى التي عناها بقلبه؛ لأنه لم يخاطبها بلسانه حين أتبع الخطاب النداء.

مذهب الشافعية:

نص الشافعية على طلاق المجيبة في الأصح، أما المناداة فلم تطلق، وفي قول آخر لم تطلقا، ولو قال الرجل لزوجته وأجنبية معها: إحداكما طالق، ثم قال: قصدت الأجنبية،

__________

(1) انظر: المبسوط: 6/ 121.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (176 )

قبل قوله في الأصح لدى الشافعية، لاحتمال كلامه ذلك ولكون الأجنبية من حيث الجملة قابلة - أي للطلاق - فتقدم النية، وفي قول آخر تطلق زوجته، لأنها محل الطلاق دون الثانية، فلا يصرف قوله إلى قصده، للقاعدة الفقهية الكلية: إعمال الكلام أولى من إهماله، فإن لم يكن له قصد أصلا، طلقت زوجته قولا واحدا للقاعدة السابقة، فلو قال لزوجته ورجل: أحدكما طالق، وقصد الرجل، بطل قصده، وطلقت زوجته، لأن الرجل ليس محل الطلاق أصلا. ولو قال لإحدى زوجتيه: إحداكما طالق إن فعلت كذا، ثم فعل المحلوف عليه بعد موت إحداهما، تعينت الثانية الحية للطلاق، طلقت (1).

مذهب المالكية:

نص المالكية على لو كان له زوجتان: سلمى وعمرة، فدعا سلمى فأجابته عمرة، فظنها سلمى فطلقها، طلقت سلمى ديانة وقضاء عند المالكية للقصد، أما عمرة فتطلق قضاء لا ديانة لعدم القصد، ففي المدونة، سئل ابن القاسم: (أرأيت لو أن رجلا قال: حكمة طالق، وامرأته تسمى حكمة وله جارية يقال لها حكمة؟ قال: لم أرد امرأتي وإنما أردت جاريتي حكمة، فقال: سمعت مالكا وسألناه عن الرجل يحلف للسلطان بطلاق امرأته طائعا فيقول امرأتي طالق إن كان كذا وكذا لأمر يكذب فيه، ثم يأتي مستفتيا ويزعم أنه إنما أراد بذلك امرأة كانت له قبل ذلك وأنه إنما ألغز على السلطان في ذلك، قال مالك: لا أرى أن ذلك ينفعه وأرى امرأته طالقا وإن جاء مستفتيا فأما مسألتك إن كان على قوله بينة لم ينفعه قوله إنما أراد جاريته، وإن لم تكن عليه بينة، وإنما جاء مستفتيا لم أرها مثل مسألة مالك ولم أر عليه في امرأته طلاقا؛ لأن هذا سمى حكمة، وإنما أراد جاريته وليست عليه بينة ولم يقل امرأتي (2)

__________

(1) مغني المحتاج:3/ 304.

(2) المدونة:2/ 291.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (177 )

تعيين المطلقة بالنية:

اختلف الفقهاء في أثر النية في تعيين المطلقة، وذلك عند احتمال وجود غيرها، وعند احتمال خطئه دون تعمده، ومن الأمثلة التي ضربها الفقهاء لذلك (1):

المثال الأول:

ما لو كانت لرجل امرأتان، فدعا إحداهما فأجابته، فقال: أنت طالق، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: تطلق المجيبة وحدها؛ لأنها مخاطبة بالطلاق، فطلقت، كما لو لم ينو غيرها، ولا تطلق المنوية؛ لأنه لم يخاطبها بالطلاق، ولم تعترف بطلاقها، وهو قول الشافعية والحنفية.

وقد نص الحنفية على أن هذا يعتبر في القضاء، أما فيما بينه وبين الله تعالى فإنما يقع على التي نوى، وقد نصوا على أنه لو قال لزوجته: أنت فلانة فقالت: الأخرى: نعم، فقال: إذن أنت طالق لا تطلق، أما لو أجابها بقوله: عليك الطلاق أو لك اعتبرت النية، ولو كان له امرأتان اسمهما واحد ونكاح إحداهما فاسد فقال: فلانة طالق وقال: عنيت التي نكاحها فاسد لا يصدق في القضاء (2).

القول الثاني: ينظر إلى نيته في هذه الحالة، فإن لم تكن له نية، أو نوى المجيبة وحدها، طلقت وحدها؛ لأنها المطلقة دون غيرها، أما إن قال: ما خاطبت بقولي: أنت طالق، إلا الزوجة الأخرى، وكانت حاضرة، فإنها تطلق وحدها إلا إذا قال: علمت أن المجيبة هي الزوجة الأولى، فخاطبتها بالطلاق، وأردت طلاق ثانية، فإنهما تطلقان معا، باتفاق الفقهاء.

أما إن قال: ظننت المجيبة الزوجة الأولى فطلقتها، فقد اختلف الفقهاء في المطلقة

__________

(1) المغني:7/ 304.

(2) فتح القدير:4/ 3.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (178 )

منهما على الأقوال التالية:

القول الأول: تطلق الأولى والثانية، وهو قول النخعي، وقتادة، والأوزاعي، وأصحاب الرأي، ورواية عن أحمد، لأنه خاطبها بالطلاق، وهي محل له، فطلقت، كما لو قصدها.

القول الثاني: لا تطلق إلا التي نوى، وهو قول الحسن، والزهري، وأبي عبيد، ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بأنه لم يقصدها بالطلاق، فلم تطلق، كما لو أراد أن يقول: أنت طاهر. فسبق لسانه، فقال: أنت طالق.

المثال الثاني:

لو لقي أجنبية، ظنها زوجته، فقال: يا فلانة أنت طالق، يقصد زوجته، فإذا هي أجنبية، وقد اختلف الفقهاء في حصول الطلاق لزوجته بهذا القول على قولين:

القول الأول: طلقت زوجته، وهو قول الجمهور، لأنه قصد زوجته بلفظ الطلاق، فطلقت، كما لو قال: علمت أنها أجنبية، وأردت طلاق زوجتي.

أما إن قال لها: أنت طالق، ولم يذكر اسم زوجته، فإن ذلك يحتمل أنه قصد امرأته بلفظ الطلاق، واحتمل أن لا تطلق؛ لأنه لم يخاطبها بالطلاق، ولا ذكر اسمها معه، وإن علمها أجنبية، وأراد بالطلاق زوجته، طلقت. وإن لم يردها بالطلاق، لم تطلق.

القول الثاني: لا تطلق؛ لأنه خاطب بالطلاق غيرها، فلم يقع، كما لو علم أنها أجنبية، فقال: أنت طالق، وهو قول الشافعية.

المثال الثالث:

نص الفقهاء على أنه إن أشار إلى زوجته الأولى، فقال: يا فلانة، أنت طالق، ونيته طلاق الثانية، فسبق لسانه إلى نداء الأولى، طلقت الأولى وحدها؛ لأنه لم يرد بلفظه إلا طلاقها، وإنما سبق لسانه إلى غير ما أراده، فأشبه ما لو أراد أن يقول: أنت طاهر، فسبق

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (179 )

لسانه إلى أنت طالق.

أما إن أتى باللفظ مع علمه أن المشار إليها الزوجة الثانية، فإنهما تطلقان معا، الثانية بالإشارة إليها، وإضافة الطلاق إليها، والأولى بنيته، وبلفظه بها، وإن ظن أن المشار إليها الثانية، طلقت، واختلف في تطليق الثانية كما سبق بيانه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار النية واللفظ جميعا، وأن تطابق النية اللفظ، كما سنشرح ذلك بتفصيل عند الحديث عن صيغ الطلاق.

ونرى أنه لا يصح التفريق في هذا بين وقوع الطلاق قضاء دون وقوعه ديانة، لأن الغرض من الحكم القضائي هو تقرير وتطبيق الناحية التعبدية لا التعارض بينه وبينها، والأصل في القضاء في مثل هذه الأحوال التي قد تنهار بسببها البيوت الحرص على استمرار العلاقة لا البحث عن أي سبيل لقطعها.

فكيف يقبل أن تطلق امرأتان في لحظة واحدة لأن إحداهما قصدت بالنية، والأخرى لم تفعل شيئا إلا أنها سارعت لإجابة زوجها مع أنه دعا ضرتها، مع التعليل بأن ذلك أتبع لإيقاع الجواب، فيصير مخاطبا للمجيبة، ومن أدرانا بحال الزوج حينذاك، وهل سمع حقيقة الجواب أم أن ما هو فيه جعله غافلا حتى على من أجابته؟

ومثل ذلك ما قالوا بأنه لو قال لامرأته يشير إليها: يا زينب أنت طالق فإذا هي عمرة طلقت عمرة، فأي ذنب تطلق به عمرة؟ وهي لم تقصد في القلب، ولم يتلفظ باسمها باللسان، ولعل زوجها أعماه حاله عن تثبيت النظر إليها، وهكذا يقال في كل المسائل الأخرى، وأن العبرة من كل ذلك هو نيته بدون تفريق بين الديانة والقضاء، وأن المرجع في ذلك كله قول الزوج، فهو أعلم بمراد نفسه، وقد قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب:5)، وقال

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (180 )

صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فالعبرة بالنية قبل أن تكون بالوصف أو بالإشارة، وقد سبق ذكر حديث خيثمة بن عبد الرحمن قال: قالت امرأة لزوجها: سمني؟ فسماها الظبية، قالت: ما قلت شيئا؟ قال: فهات ما أسميك به؟ قالت: سمني خلية طالق، قال: فأنت خلية طالق، فأتت عمر فقالت: إن زوجي طلقني؟ فجاء زوجها فقص عليه القصة؟ فأوجع عمر رأسها، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوجع رأسها.

فإنه لا فرق بين الحالتين، لأن عمرة التي ذكرها الفقهاء قد تريد أن تطلق من زوجها فتحتال على ذلك بإجابة زوجها بدل ضرتها.

الجمع بين زوجته وأجنبية:

اتفق الفقهاء على أنه لو قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق. أو قال لحماته: ابنتك طالق، ولها بنت سوى امرأته، أو كان اسم زوجته زينب، فقال: زينب طالق، طلقت زوجته؛ لأنه لا يملك طلاق غيرها.

أما إن قال: أردت الأجنبية، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على الأقوال التالية:

القول الأول: لم يصدق، وهو قول أحمد، فقد نص في رجل تزوج امرأة، فقال لحماته: ابنتك طالق. وقال: أردت ابنتك الأخرى، التي ليست بزوجتي، فقال: يحنث، ولا يقبل منه.

وهذا في الحكم، فأما فيما بينه وبين الله تعالى، فيدين فيه، فمتى علم من نفسه أنه أراد الأجنبية، لم تطلق زوجته؛ لأن اللفظ محتمل له، وإن كان غير مقيد، ولو كانت ثم قرينة دالة على إرادته الأجنبية، مثل أن يدفع بيمينه ظلما، أو يتخلص بها من مكروه، قبل قوله في الحكم؛ لوجود الدليل الصارف إليها، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه لا يحتمل غير امرأته على وجه صحيح، فلم يقبل تفسيره بها، كما لو فسر كلامه بما لا يحتمله.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (181 )

2 ـ أن ما ذكروه من الفرق لا يصح، فإن (إحداكما) ليس بصريح في واحدة منهما، إنما يتناول واحدة لا بعينها، وزينب يتناول واحدة لا بعينها، ثم تعينت الزوجة لكونها محل الطلاق، وخطاب غيرها به عبث، كما إذا قال: إحداكما طالق، ثم لو تناولها بصريحه لكنه صرفه عنها دليل، فصار ظاهرا في غيرها.

3 ـ أنه لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمتلاعنين: (أحدكما كاذب) لم ينصرف إلا إلى الكاذب منهما وحده، ولما قال حسان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا سفيان: فشركما لخيركما الفداء لم ينصرف شرهما إلا إلى أبي سفيان وحده، وخيرهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده.

القول الثاني: يقبل هاهنا، ولا يقبل فيما إذا قال: زينب طالق، وقال: أردت أجنبية اسمها زينب، وهو قول الشافعي، لأن زينب لا يتناول الأجنبية بصريحه، بل من جهة الدليل، وقد عارضه دليل آخر وهو أنه لا يطلق غير زوجته أظهر، فصار اللفظ في زوجته أظهر، فلم يقبل خلافه، أما إذا قال: إحداهما. فإنه يتناول الأجنبية بصريحه.

القول الثالث: يقبل في الجميع، وهو قول الحنفية وأبي ثور، لأنه فسر كلامه بما يحتمله.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة مثلما ذكرنا سابقا أن العبرة بالنية واللفظ جميعا، وأن اللفظ لابد أن يكون متوافقا مع النية.

2 ـ حكم التشريك في الطلاق

اتفق الفقهاء على وقوع طلاق من جمع بين زوجاته في صيغة الطلاق دون تحديد واحدة معينة، واختلفوا في اعتبار عدد الطلقات، وفي كيفية التعامل مع أنواع صيغ التشريك في الطلاق، وسنذكر هنا آراء المذاهب الفقهية في ذلك مع بيان أن للمسألة علاقة بصيغ

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (182 )

الطلاق من جهة، وبحكم الطلاق الثلاث من جهة أخرى، وسنعرض لهما في الفصل الخاص بالصيغة:

مذهب المالكية:

اختلف المالكية في بعض صيغ التشريك على رأيين:

الرأي الأول: إذا قال لزوجاته الأربع شركت بينكن في طلقة، فإن كل واحدة تطلق عليه طلقة، وإن قال شركت بينكن في تطليقتين طلقت كل واحدة منهن طلقتين، وإن قال شركت بينكن في ثلاث تطليقات طلقت كل واحدة منهن ثلاث تطليقات، وهو قول سحنون (1).

الرأي الثاني: أنه إذا قال لزوجاته الأربع بينكن طلقة واحدة أو طلقتان أو ثلاث تطليقات وقع على كل واحدة طلقة واحدة، لأنه قد ناب كل واحدة ربع طلقة أو نصف طلقة أو ثلاثة أرباع طلقة فكملت عليها، لأن الكسر في الطلاق حكمه التكميل، وإذا قال لهن: بينكن خمس تطليقات أو ست تطليقات أو سبع تطليقات أو ثمان تطليقات فإنه يقع على كل واحدة منهن طلقتان وإن قال لهن: بينكن تسع تطليقات إلى أكثر فإنه يقع على كل واحدة منهن ثلاث تطليقات، وهو قول جمهور المالكية (2).

مذهب الحنفية:

نص الحنفية على أنه لو قال لأربع نسوة: بينكن طلقة طلقت كل واحدة منهن واحدة، وكذا لو قال بينكن طلقتان، أو ثلاث، أو أربع إلا إذا نوى أن كل طلقة بينهن جميعا

__________

(1) قد جعل بعضهم كلام سحنون خلافا للأول وبعضهم موافقا وكأنه قال: وطلقة في أربع قال لهن بينكن ما لم يشرك فإن شرك طلقن ثلاثا ثلاثا وعلى أنه خلاف يكون المعول عليه الأول ومسألة التشريك الآتية تدل على أنه مقابل وكلام المؤلف في التوضيح يستشعر منه أنه مرتضيه لأنه قال ونسبها ابن الحاجب لسحنون لاحتمال أنه لا يوافق عليه ابن القاس، الخرشي:4/ 52.

(2) الخرشي:4/ 52.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (183 )

فتقع على كل واحدة منهن ثلاث إلا في التطليقتين، فتقع على كل واحدة منهن ثنتان، ولو قال بينكن خمس تطليقات ولا نية له طلقت كل واحدة منهن طلقتين، وكذا ما زاد إلى ثمان تطليقات، فإن زاد على الثمان فكل واحدة منهن طالق ثلاثا.

ولو قال: فلانة طالق ثلاثا وفلانة معها، أو قال أشركت فلانة معها في الطلاق طلقتا ثلاثا ثلاثا، ولو قال: لأربع أنتن طوالق ثلاث طلقت كل واحدة ثلاثا (1).

مذهب الشافعية:

نص الشافعية على أنه لو قال لأربع: أوقعت عليكن أو بينكن طلقة أو طلقتين أو ثلاثا أو أربعا وقع على كل منهن طلقة، لأن كلا يصيبها عند التوزيع واحدة أو بعضها فتكمل، فإن قصد توزيع كل طلقة عليهن وقع على كل منهن في ثنتين ثنتان وفي ثلاث وأربع ثلاث عملا بقصده، بخلاف ما لو أطلق لبعده عن الفهم، ولو قال خمسا أو ستا أو سبعا أو ثمانيا فطلقتان ما لم يرد التوزيع أو تسعا فثلاث مطلقا.

فإن قال: أردت بينكن أو عليكن لم يقبل ظاهرا في الأصح، لأنه خلاف ظاهر اللفظ من اقتضاء الشركة، أما باطنا فيدين والثاني يقبل لاحتمال بينكن لما أراده بخلاف عليكن فلا يقبل إرادة بعضهن به جزما.

ولو أوقع بينهن ثلاثا ثم قال أردت اثنتين على هذه وقسمت الأخرى على الباقيات قبل، وعليه لو أوقع بين أربع أربعا، ثم قال أردت على ثنتين طلقتين طلقتين دون الأخريين لحق الأوليين طلقتان طلقتان عملا بإقراره، ولحق الأخريين طلقة طلقة لئلا يتعطل الطلاق في بعضهن.

__________

(1) مجمع الأنهر:1/ 389.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (184 )

ولو قال أوقعت بينكن سدس طلقة وربع طلقة وثلث طلقة طلقن ثلاثا لأن تغاير الأجزاء وعطفها مشعر بقسمة كل جزء بينهن (1)

ولو طلقها ثم قال للأخرى أشركتك معها، أو جعلتك شريكتها، أو أنت مثلها، أو كهي، فإن نوى بذلك طلاقها المنجز طلقت وإلا فلا تطلق لاحتمال قصده أن الأولى لا تطلق حتى تدخل الأخرى ولم يقبل منه؛ لأنه رجوع عن التعليق الأول، وإن قال: أردت إذا دخلت الأولى طلقت الثانية قبل وطلقتا بدخولها، أو أردت تعليق طلاق الثانية بدخولها نفسها كما في الأولى قبل وتعلق طلاق كل منهما بدخول نفسها، وإن أطلق فالظاهر حمله على هذا الأخير.

ولو طلق رجل زوجته، وقال رجل آخر ذلك لامرأته، كقوله: أشركتك مع مطلقة هذا الرجل أو جعلتك شريكتها، فإن نوى طلاقها طلقت وإلا فلا؛ لأنه كناية وإن أشركها مع ثلاث طلقهن هو أو غيره ونوى وأراد أنها شريكة كل منهن طلقت ثلاثا، أو أنها مثل إحداهن طلقت واحدة، وكذا إن أطلق نية الطلاق ولم ينو واحدة ولا عددا لأن جعلها كإحداهن أسبق إلى الفهم وأظهر من تقدير توزيع كل طلقة، وإن أشركها مع امرأة طلقها هو أو غيره ثلاثا ونوى الشركة في عدد الطلاق طلقت طلقتين؛ لأنه أشركها معها في ثلاث فيخصها طلقة ونصف وتكمل، وقيل واحدة؛ لأنها المتيقنة، وقيل ثلاث لأنه أشركها معها في كل طلقة. أما إذا لم ينو ذلك فيقع واحدة كما جزم به صاحب الأنوار، ولو أوقع بين ثلاث طلقة ثم أشرك الرابعة معهن وقع على الثلاث طلقة طلقة، وعلى الرابعة طلقتان، إذ يخصها بالشركة طلقة ونصف.

ولو طلق إحدى نسائه الثلاث ثلاثا ثم قال للثانية: أشركتك معها ثم للثالثة أشركتك مع الثانية طلقت الثانية طلقتين؛ لأن حصتها من الأولى طلقة ونصف، والثالثة

__________

(1) نهاية المحتاج:6/ 464..

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (185 )

طلقة؛ لأن حصتها من الثانية طلقة.

وهذا كله فيما إذا علم طلاق التي شوركت، فإن لم يعلم كما لو قال: طلقت امرأتي مثل ما طلق زيد، وهو لا يدري كم طلق زيد ونوى عدد طلاق زيد، فمقتضى كلام الرافعي أنه لا يقع قاله الزركشي، ومراده العدد لا أصل الطلاق (1).

مذهب الحنابلة:

اختلف الحنابلة فيما لو قال لزوجاته الأربع: أوقعت عليكن طلقة، أو اثنتين، أو ثلاثا، أو أربعا هل تقع لكل واحدة طلقة أم يبن جميعا على رأيين:

الرأي الأول: وقع بكل واحدة طلقة، هذا المذهب، وعليه أكثر الحنابلة.

الرأي الثاني: إذا قال: أوقعت بينكن ثلاثا بن منه، واختاره أبو بكر، والقاضي، قال في الرعاية الصغرى: وعنه: إن أوقع ثنتين وقع ثنتان، وإن أوقع ثلاثا أو أربعا فثلاث، قال ابن عبدوس في تذكرته: والأقوى يقع ثلاثة في غير الأولى.

وبناء على هذا الاختلاف وقع اختلافهم في سائر الصيغ، فلو قال: أوقعت بينكن خمسا، فعلى الأول: يقع بكل واحدة طلقتان كذا لو أوقع ستا أو سبعا، أو ثمانيا، وعلى الثانية: يقع ثلاث، وإن أوقع تسعا فأزيد فثلاث على كلا الروايتين.

أما لو قال: أوقعت بينكن طلقة وطلقة وطلقة، فثلاث على كلا الروايتين على الصحيح من المذهب، وقيل: واحدة على الرواية الأولى (2).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار قصد الزوج في طلاقه، فإن قصد طلاق الجميع طلق الجميع، ولكن بشرط تحقق جميع الضوابط التي رجحناها في هذا الكتاب، فإن كانت

__________

(1) مغني المحتاج:4/ 485.

(2) الإنصاف:9/ 17.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (186 )

إحداهن حائضا مثلا، فإنه لا يشملها الطلاق، أو طلق واحدة مثلا برضى، وطلق الأخريات بعدها وهو في حالة غضب، لم يقع طلاقهن.

ولا يستعصي علينا تصور ذلك، فإنه قد يطلق واحدة منهن مثلا لرغبته في طلاقها، فيلمنه على ذلك ويعاتبنه فيه، أو يعاتبه أجنبي، فيغضب، ويرمي الطلاق على سائر أزواجه، فإن الطلاق في هذه الصورة لا يقع لأن الدافع له غضب الزوج لا الرغبة في الطلاق، وهكذا في سائر الضوابط.

أما التفاصيل التي ذكرها الفقهاء هنا، فلا حاجة لها إذا قلنا بأن الطلاق الثلاث في مجلس واحد لا يقع إلا طلقة واحدة، وهو الأرجح الذي تدل عليه الأدلة الكثيرة كما سنرى في صيغة الطلاق، وهو الأوفق كذلك بالمقاصد الشرعية من تشريع العدة والرجعة والعدد في الطلاق، وسنرى تفاصيل ذلك في محالها.

3 ـ نسيان المطلقة المعينة

فقد يطلق رجل ما امرأة من زوجاته، ثم ينسى من وقع عليها الطلاق، وقد اختلف الفقهاء في التعامل مع هذه الحالة على الأقوال التالية (1):

القول الأول: أنه يعين في المبهمة، ويقف في حق المنسية عن الجميع، فينفق عليهن ويكسوهن، ويعتزلهن إلى أن يفرق بينهما الموت أو يتذكر، ولا يقرع بينهن، وإذا كان الطلاق لواحدة لا بعينها ولا نواها، فإنه يختار صرف الطلاق إلى أيتهن شاء، وإن كان الطلاق لواحدة بعينها ونسيها، فإنه يتوقف فيهما حتى يتذكر، وهو قول أبي حنيفة (2) والشافعي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

__________

(1) الطرق الحكمية:252.

(2) وللحنفية قول آخر هو أنه إذا طلق امرأة من نسائه لا بعينها، فإنه لا يحال بينه وبينهن، وله أن يطأ أيتهن شاء، فإذا وطئ انصرف الطلاق إلى الأخرى، واختاره ابن أبي هريرة من الشافعية.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (187 )

1 ـ أن التحريم قد حصل في واحدة لا بعينها، فكان له تعيينها باختياره، كما لو أسلم الحربي وتحته خمس نسوة، أو أختان: اختار.

2 ـ أن المنسية والمشتبهة يجوز أن تذكر، وتعلم عينها بزوال، الاشتباه؛ فلهذا لم يملك صرف الطلاق فيها إلى من أراد، بخلاف المبهمة فإنه لا يرجى ذلك فيها.

3 ـ التحريم هاهنا حكم تعلق بفرد لا بعينه من جملة، فكان المرجع في تعيينه إلى المكلف، كما لو باع قفيزا من صبرة.

4 ـ لما كان له تعيين المطلقة في الابتداء، كان له تعيينها في ثاني الحال.

القول الثاني: يقع الطلاق على الجميع، وهو قول المالكية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن الحكم إنما عم احتياطا للفروج ودليل مشروعية هذا الاحتياط كل دليل دل على وجوب توقي الشبهات (1).

2 ـ أن مفهوم أحد الأمور قدر مشترك بينها لصدقه على كل واحد منها والصادق على عدد وأفراد مشترك فيه بين تلك الأفراد (2).

3 ـ أن الطلاق تحريم لأنه رافع لموجب النكاح والنكاح للإباحة ورافع الإباحة محرم، فالطلاق محرم.

__________

(1) هذا هو الدليل الأصلي للمسألة عند المالكية، ولكن القرافي ذكر لها الأدلة التالية، وقال بعد ذكرها منبها على عدم إيراد من سبقه على دليل ذلك: (فإذا قيل لهم: ما الدليل على مشروعية هذا الاحتياط في الشرع لم يجدوه وأما مع ذكر هذه القواعد فتصير هذه المسألة ضرورية بحيث يتعين الحق فيها تعينا ضروريا)، وقد تعقبه ابن الشاط بالرد على ما ذكره من قواعد، وقالبعدها: (والجواب الصحيح ما أجاب به الأكابر وهو أن الحكم إنما عم احتياطا للفروج ودليل مشروعية هذا الاحتياط كل دليل دل على وجوب توقي الشبهات.) أنوار البروق:1/ 157.

(2) هذه هي القاعدة الأساسية التي اعتمد عليها القرافي، وقد تعقبها ابن الشاط بقوله: (ليس الأمور هو القدر المشترك بل أحد الأمور واحد غير معين منها، ولذلك صدق على كل واحد منها، وقوله والصادق على عدد وأفراد مشترك فيه بين تلك الأفراد إن أراد بذلك الحقيقة الكلية فليس أحد الأمور هو الحقيقة الكلية وإن أراد أن لفظ أحد الأمور يختص به معين من تلك الأمور فذلك صحيح ولا يحصل ذلك مقصوده.) أنوار البروق:1/ 157.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (188 )

4 ـ أن تحريم المشترك يلزم منه تحريم جميع الجزئيات، فيحرمن كلهن بالطلاق.

5 ـ أنه لا يصح قياس هذه المسألة على خصال الكفارة، لأن إيجاب إحدى الخصال إيجاب للمشترك ووجوب المشترك يخرج المكلف عن عهدته بفرد إجماعا، وأما الطلاق في هذه الصورة فهو تحريم لمشترك فيعم أفراده وأفراده هم النسوة فيعمهن الطلاق (1).

6 ـ أن عمر بن عبد العزيز قضى به في رجل من أهل البادية كان يسقي على مائه، فأقبلت ناقة له فنظر إليها من بعيد فقال: إحدى امرأتيه طالق ألبتة إن لم تكن فلانة الناقة له، فأقبلت ناقة غير تلك الناقة فقدم الأعرابي المدينة فدخل على أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو عامل لعمر بن عبد العزيز على المدينة وعمر يومئذ الخليفة فقص عليه قضيته فأشكل عليه القضاء فيها، فكتب إلى عمر في ذلك، فكتب إليه عمر إن كان نوى واحدة منهما حين حلف فهو ما نوى وإلا نطلقهما عليه جميعا (2).

القول الثالث: أنه لا يقع الطلاق بواحدة منهن وهو قول الإمامية كما سنرى ذلك في محله؛ لكن ابن القيم قال: (ولا يعرف له قائل) (3)، واستدل له بأن النكاح ثابت بيقين، وكل واحدة منهن مشكوك فيها: هل هي المطلقة أم لا؟ فلا تطلق بالشك، ولا يمكن إيقاع الطلاق بواحدة غير معينة، وليس البعض أولى بأن يوقع عليها الطلاق من البعض.

__________

(1) أنوار البروق:1/ 157.

(2) المدونة: 2/ 70.

(3) الطرق الحكمية:253.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (189 )

القول الرابع: استعمال القرعة لتعيين المطلقة المنسية، أو اختيار إحدى النساء للتطليق (1)، وهو قول أحمد واختيار ابن تيمية وابن القيم (2)، فقد روي عن أحمد في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن، ولم تكن له نية في واحدة بعينها: يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهي المطلقة، وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ثم نسيها، قال: والقرعة سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء بها القرآن، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ حديث عمران بن حصين في عتق الأعبد الستة، فإن تصرفه في الجميع لما كان باطلا، جعل كأنه أعتق ثلثا منهم غير معين، فعينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرعة، والطلاق كالعتاق في هذا، لأن كل واحد منهما إزالة ملك مبني على التغليب والسراية، فإذا اشتبه المملوك في كل منهما بغيره: لم يجعل التعيين إلى اختيار المالك.

2 ـ أن الحقوق إذا تساوت على وجه لا يمكن التمييز بينها إلا بالقرعة صح استعمالها فيها، مثلما لو أراد أن يسافر بإحدى نسائه، أو إذا تساوى المدعيان في الحضور عند الحاكم، وكذلك الأولياء في النكاح إذا تساووا في الدرجة وتشاحوا في العقد.

__________

(1) اتفق الفقهاء القائلون بالقرعة على أن المطلقة بالقرعة إذا تزوجت لا يقبل قوله بأن المطلقة كانت غيرها، لما فيه من إبطال حق الزوج، حتى لو أقام بينة على أن المطلقة غيرها، لأن القرعة تصيب طريقا إلى وقوع الطلاق فيمن أصابتها، ولو كانت غير المطلقة في نفس الأمر، فالقرعة فرقت بينهما، وتأكدت الفرقة بتزويجها.

واتفقوا كذلك فيما إذا كانت القرعة بحكم الحاكم، فإن حكمه يجري مجرى التفريق بينهما فلا يقبل قوله بأن المطلقة غيرها، واختلفوا فيما لو لم تتزوج على قولين:

القول الأول: تعود إليه من حين وقعت عليها القرعة، ويقع الطلاق بالمذكورة، وقد نص عليه أحمد، لأن القرعة إنما كانت لأجل الاشتباه، وقد زال بالتذكر.

القول الثاني: أنها لا ترد إليه بعد انقضاء عدتها وملكها نفسها، إلا أن تصدقه، ولهذا لو قال بعد انقضاء عدتها: كنت راجعتك قبل انقضاء العدة، لم تقبل منه إلا ببينة أو تصديقها، ولو قال ذلك والعدة باقية، قبل منه لأنه يملك إنشاء الرجعة، وهو اختيار ابن القيم، انظر: الطرق الحكمية:264.

(2) قال ابن القيم: وبالجملة: فالقرعة طريق شرعي، شرعه الله ورسوله للتمييز عند الاشتباه، فسلوكه أولى من غيره من الطرق، الطرق الحكمية:261.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (190 )

3 ـ أن الله تعالى القرعة طريقا إلى الحكم الشرعي في كتابه، وفعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمر بها، وحكم بها علي بن أبي طالب في المسألة بعينها.

4 ـ قال وكيع: سمعت عبد الله قال: سألت أبا جعفر عن رجل له أربع نسوة، فطلق إحداهن، لا يدري أيتهن طلق، فقال: علي يقرع بينهن.

5 ـ أن تعيين المكلف تابع لاختياره وإرادته، وتعين القرعة إلى الله تعالى، والعبد يفعل القرعة وهو ينتظر ما يعينه له القضاء والقدر، شاء أم أبى.

6 ـ أن التعيين إذا لم يكن لنا سبيل إليه بالشرع فوض إلى القضاء والقدر، وصار الحكم به شرعيا قدريا: شرعيا في فعل القرعة، وقدريا: فيما تخرج به، وذلك إلى الله، لا إلى المكلف. قال ابن القيم: (فلا أحسن من هذا ولا أبلغ في موافقته شرع الله وقدره)

7 ـ أنه قد وقع الشك في سبب الحل، فلا يرفع التحريم الأصلي إلا بالنكاح، ثم وقع في عين غير معينة، ومعنا أصل الحل المستصحب، فلا يمكن تعميم التحريم، ولا إلغاؤه بالكلية، ولم يبق طريق إلى تعيين محله إلا بالقرعة، فتعينت طريقا.

8 ـ أن الطلاق قد وقع على واحدة منهن معينة؛ لامتناع وقوعه في غير معين، فلم يملك المطلق صرفه إلى أيتهن شاء، لكن التعيين غير معلوم لنا، وهو معلوم عند الله، وليس لنا طريق إلى معرفته، فتعينت القرعة.

9 ـ أن التعيين بالقرعة تعيين بسبب قد نصبه الله ورسوله سببا للتعيين عند عدم غيره، والتعيين بالاختيار تعيين بلا سبب، حيث انتفت أسباب التعيين وعلاماته. ولا يخفى أن التعيين بالسبب الذي نصبه الشرع له أولى من التعين الذي لا سبب له.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة القول بعدم وقوع الطلاق للجميع، وهو القول الثالث، بناء على ما ذكرناه من قاعدة التضييق في الطلاق.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (191 )

طلاق المبهمات عند موت إحداهن:

اختلف الفقهاء فيما لو طلق إحدى زوجتيه لا بعينها، ثم ماتت إحداهما، على قولين:

القول الأول: لم يتعين الطلاق في الباقية وأقرع بين الميتة والحية، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأنه لا يملك التعيين باختياره، وإنما يملك الإقراع، ولم يفت محله، فإنه يخرج المطلقة، فيتبين وقوع الطلاق من حين التطليق، لا من حين الإقراع.

القول الثاني: يتعين الطلاق في الباقية، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنه مخير في التعيين، ولم يبق من يصح إيقاع الطلاق عليها إلا الحية، ومن خير بين أمرين ففاته أحدهما: تعين الآخر.

2 ـ أنه لا يصح أن يبتدئ في الميتة الطلاق، فلا يصح أن يعينه فيها بالقرعة، كالأجنبية.

القول الثالث: لا يتعين فيها، وله تعيينه في الميتة، وهو قول الشافعية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثالث، فهو أوفق الأقوال مع مقصد الشريعة من تضييق دائرة الطلاق.

موت المطلق قبل تعيين مطلقته:

وهي مسألة تتعلق بالميراث لا بالحياة الزوجية، وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين (1):

القول الأول: يقسم الميراث بين الجميع، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بأنهما قد تساويا في سبب الاستحقاق، لأن حجة كل واحدة منهما كحجة الأخرى، فوجب أن يتساويا في الإرث، كما لو أقامت كل واحدة منهما البينة بالزوجية.

__________

(1) الطرق الحكمية:262.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (192 )

القول الثاني: يوقف ميراث الزوجات حتى يصطلحن عليه، وهو قول الشافعية، وهو مذهب الشافعية في معظم المسائل التي لا يستبين فيها وجه الحق.

القول الثالث: إذا طلق إحدى نسائه، ومات قبل البيان، فإن الورثة يقرعون بينهن، فمن وقعت عليها القرعة لم ترث، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن القرعة تخلص من المفاسد التي تلزم من القولين السابقين، فإن لازم القول الأول توريث من يعلم أنها أجنبية، لأنها مطلقة في حال الصحة ثلاثا، ولازم القول الثاني وقف المال، وتعريضه للفساد والهلاك، وعدم الانتفاع به، وإن كان حيوانا فربما كانت مئونته تزيد على أضعاف قيمته، وهذا لا مصلحة فيه، ثم إنهن إذا علمن أن المال يهلك إن لم يصطلحن عليه كان ذلك إلجاء لهن إلى إعطاء غير المستحقة.

2 ـ أنه بما أن المستحقة للميراث إحداهما دون الأخرى، فوجب أن يقرع بينهما كما يقرع بين العبيد إذا أعتقهم في المرض، وبين الزوجات إذا أراد السفر بإحداهن.

3 ـ أن الحاكم إنما نصب لفصل الأحكام، لا لوقفها وجعلها معلقة، فتوريث الجميع على ما فيه أقرب للمصلحة من حبس المال وتعريضه للتلف، مع حاجة مستحقيه إليه.

4 ـ أن الأصل العام في الشريعة عدم وقف القضايا على اصطلاح المتخاصمين، بل يشير عليهما بالصلح، فإن لم يصطلحا فصل الخصومة، وبهذا تقوم مصلحة الناس.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول لأن تعيين المطلقة إنما يكون بيد الزوج، والزوج قد مات، فكيف تحرم حقها الثابت بالأدلة القطعية بمجرد توهم أن الزوج طلقها من غير بينة تثبت ذلك.

ثالثا ـ الصفة البدعية للطلاق وأحكامهأ

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (193 )

معظم أحكام الطلاق السني والبدعي مرتبطة بمن يقع عليها الطلاق، فلذلك سنتكلم عنها في هذا المبحث، وبعضها الآخر متعلقة بالصيغة، وسنتكلم عنها في محلها من الجزء الخاص بالصيغة.

1 ـ تقسيم الطلاق إلى سني وبدعي

اتفق الفقهاء على تقسيم الطلاق من حيث وصفه الشرعي إلى سني وبدعي، والسني والبدعي لا يراد بهما هنا ما يراد بهما في سائر الإطلاقات الشرعية، فإن السني هنا هو ما وافق السنة في طريقة إيقاعه، لا أنه سنة، لما تقدم من النصوص المنفرة من الطلاق، وأنه أبغض الحلال إلى الله تعالى، أما البدعي، فهو ما خالف السنة في ذلك (1).

وقد استند العلماء في تحديد صفات الطلاق السني والبدعي إلى الأدلة التالية:

1 ـ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق:1)، وقد فسر ابن مسعود ذلك بأن يطلقها في طهر لا جماع فيه، ومثله عن ابن عباس.

2 ـ ما رواه ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء (2)، وقد جاء في بعض الروايات بلفظ السنة، فقد وردت بلفظ (يا ابن عمر ما هكذا أمر الله، أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء) (3)

__________

(1) انظر: القرطبي:3/ 132.

(2) للحديث روايات مختلفة سنعرض لما تمس إليه الحاجة منها في أثناء هذا المبحث، انظر هذه الروايات في: البخاري: 5/ 2011، مسلم: 2/ 1095، المنتقى: 1/ 183، مسند أبي عوانة: 3/ 144، الدارمي: 2/ 213، البيهقي: 7/ 323، الدارقطني:4/ 6، مسند الشافعي: 101، أبو داود: 2/ 25، النسائي: 3/ 339، ابن ماجة: 1/ 651، الموطأ:2/ 576، أحمد: 2/ 61، مسند ابن الجعد: 409..

(3) مجمع الزوائد:4/ 136.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (194 )

قال ابن عبد البر: (هذا حديث مجتمع على صحته من جهة النقل، ولم يختلف أيضا في ألفاظه عن نافع، وقد رواه عنه جماعة أصحابه كما رواه مالك سواء (1)، وقد كان لاختلاف رواية الحديث أثرها في الخلاف الفقهي في هذه المسائل كما سنرى، قال ابن القيم: (ففى تعدد الحيض والطهر ثلاثة ألفاظ محفوظة متفق عليها من رواية ابنه سالم ومولاه نافع وعبد الله بن دينار وغيرهم والذين زادوا قد حفظوا ما لم يحفظه هؤلاء، ولو قدر التعارض فالزائدون أكثر وأثبت في ابن عمر وأخص به فرواياتهم أولى لأن نافعا مولاه أعلم الناس بحديثه وسالم ابنه كذلك وعبد الله بن دينار من أثبت الناس فيه وأرواهم عنه فكيف يقدم اختصار أبي الزبير ويونس بن جبير على هؤلاء (2)

3 ـ وما ورد عن عبد الله بن مسعود أنه قال: طلاق السنة تطليقة وهي طاهر في غير جماع، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم تعتد بعد ذلك بحيضة (3).

4 ـ عن عكرمة أنه سمع بن عباس يقول: (الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلال ووجهان حرام، فأما الحلال فإن يطلقها طاهرا جماع أو يطلقها حاملا مستبينا حملها، وأما الحرام فإن يطلقها حائضا، أو يطلقها حين يجامعها لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا) (4)

5 ـ عن علي قال: (ما طلق رجل طلاق السنة فيندم أبدا) (5)

طرق تصنيف الطلاق السني والبدعي:

__________

(1) التمهيد:15/ 51.

(2) حاشية ابن القيم:6/ 174.

(3) كتاب الآثار لأبي يوسف:129.

(4) البيهقي: 7/ 325.

(5) البيهقي: 7/ 325.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (195 )

قبل أن نعرض للأحكام المتعلقة بمن يقع عليها الطلاق، لا بأس أن ننظرة نظرة مجملة للطرق الفقهية في أقسام الطلاق السني والبدعي، ومواقفها العامة من هذين النوعين من أنواع الطلاق، لعلاقتها بما سنتكلم عنه من الأحكام (1):

طريقة الحنفية:

قسم الحنفية الطلاق إلى سني وبدعي، وقسموا السني إلى قسمين: حسن وأحسن، وذلك يختلف عندهم بحسب كون الزوجة مدخولا بها، كما يلي:

أما بالنسبة للمدخول أو المختلى بها، فالأحسن عندهم: أن يوقع المطلق على زوجته طلقة واحدة رجعية في طهر لم يطأها فيه، ولا في حيض أو نفاس قبله، ولم يطأها غيره فيه بشبهة أيضا، فإن زنت في حيضها ثم طهرت، فطلقها لم يكن بدعيا.

وأما الحسن: فأن يطلقها واحدة رجعية في طهر لم يطأها فيه ولا في حيض أو نفاس قبله، ثم يطلقها طلقتين أخريين في طهرين آخرين دون وطء، هذا إن كانت من أهل الحيض، وإلا طلقها ثلاث طلقات في ثلاثة أشهر، كمن بلغت بالسن ولم تر الحيض.

أما غير المدخول أو المختلى بها، فالحسن: أن يطلقها واحدة فقط، ولا حرج أن يكون ذلك في حيض أو غيره، ولا يضر أن طلاقها يكون بائنا؛ لأنه لا يكون إلا كذلك.

وما سوى هذه الأنواع فبدعي عندهم، كأن يطلقها مرتين أو ثلاثا في طهر واحد معا أو متفرقات، أو يطلقها في الحيض أو النفاس، أو يطلقها في طهر مسها فيه، أو في طهر مسها في الحيض قبله. فإن طلقها في الحيض، ثم طلقها في الطهر الذي بعده، كان الثاني بدعيا أيضا؛ لأنهما بمثابة طهر واحد، وعليه أن ينتظر حيضها الثاني، فإذا طهرت منه طلقها إن شاء، ويكون سنيا عند ذلك، ولو طلقها في الحيض، ثم ارتجعت، ثم طلقها في الطهر الذي

__________

(1) انظر: المغني: 7/ 278، بدائع الصنائع: 3/ 88، الفتاوى الكبرى: 3/ 225، الفروع: 5/ 274، فتح القدير: 3/ 483، التاج والإكليل: 5/ 302، أسنى المطالب: 3/ 263.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (196 )

بعده كان بدعيا في الأرجح، وهو ظاهر المذهب، وقال القدوري: يكون سنيا.

وهذا كله ما لم تكن حاملا، أو صغيرة دون سن الحيض، أو آيسة، فإن كانت كذلك كان طلاقها سنيا، سواء مسها أم لم يمسها؛ لأنها في طهر مستمر، ولكن لا يزيد على واحدة، فإن زاد كان بدعيا.

واستثنى الحنفية من البدعي عامة: الخلع، والطلاق على مال، والتفريق للعلة، فإنه لا يكون بدعيا ولو كان في الحيض، لما فيه من الضرورة، وكذلك تخييرها في الحيض سواء اختارت نفسها في الحيض أم بعده وكذلك اختيارها نفسها في الحيض، سواء أخيرها في الحيض أم قبله، فإنه لا يكون بدعيا لأنه ليس من فعله المحض.

طريقة الجمهور:

قسم جمهور الفقهاء الطلاق من حيث وصفه الشرعي إلى سني وبدعي، ولم يذكروا للسني تقسيما، فهو عندهم قسم واحد، إلا أن بعض الشافعية قسموا الطلاق إلى سني وبدعي، وما ليس سنيا ولا بدعيا، وهو ما استثناه الحنفية من البدعي كما تقدم.

والسني عند الجمهور هو ما يشمل الحسن والأحسن عند الحنفية معا، والبدعي هو ما يقابل البدعي عند الحنفية، إلا أنهم خالفوهم في أمور منها:

- أن الطلاق الثلاث في ثلاث حيضات سني عند الحنفية، وهو بدعي عند الجمهور.

- أن الطلاق ثلاثا في طهر واحد لم يصبها فيه، فإنه سني عند الشافعية أيضا، وهو رواية عند الحنابلة، اختارها الخرقي. وذهب المالكية إلى أنه محرم كما عند الحنفية، وهو رواية ثانية عند الحنابلة.

أما مذهب الظاهرية، فقد نص ابن حزم على قول المذهب في قوله: (من أراد طلاق امرأة له قد وطئها لم يحل له أن يطلقها في حيضتها، ولا في طهر وطئها فيه. فإن طلقها طلقة

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (197 )

أو طلقتين في طهر وطئها فيه، أو في حيضتها: لم ينفذ ذلك الطلاق وهي امرأته كما كانت، إلا أن يطلقها كذلك ثالثة أو ثلاثة مجموعة فيلزم، فإن طلقها في طهر لم يطأها فيه فهو طلاق سنة لازم - كيفما أوقعه - إن شاء طلقة واحدة، وإن شاء طلقتين مجموعتين، وإن شاء ثلاثا مجموعة. فإن كانت حاملا منه أو من غيره: فله أن يطلقها حاملا وهو لازم، ولو إثر وطئه إياها فإن كان لم يطأها قط فله أن يطلقها في حال طهرها وفي حال حيضتها - إن شاء - واحدة، وإن شاء اثنتين وإن شاء ثلاثا. فإن كانت لم تحض قط، أو قد انقطع حيضها طلقها أيضا كما قلنا في الحامل متى شاء (1)

طريقة الإمامية:

قسموا الطلاق إلى نوعين: بدعي وسنّي.

الطلاق البدعي: وهو الباطل، فيدخل فيه المطلّقة ثلاثا باعتبار بطلان الثلاث، ويشمل ما كان صحيحا عند الجمهور كطلاق الحائض وشبهه وإن كان حراما عندهم، وما كان صحيحاً غير حرام كطلاق الكناية، وما كان غير صحيح وحرام كفاقد الشرط عندهم (2).

الطلاق السني: ويُطلّق الطلاق السني المنسوب إلى السنة على كل طلاق جائز شرعا، والمراد به الجائز بالمعنى الأعم، وهو ما قابل الحرام، ويقال له: طلاق السنة بالمعنى الأعم، ويقابله البدعي (3)، ويقسمونه إلى قسمين:

الطلاق البائن: وهو كل طلاق لا يكون للزوج المراجعة فيه إلا بعقد جديد ومهر مستأنف، أو بعد أن تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، والبائن على ضروب أربعة: طلاق غير المدخول بها،

__________

(1) المحلى:9/ 365.

(2) كاشف الغطاء، أنوار الفقاهة - كتاب الطلاق، ص 21.

(3) الشهيد الثاني، الروضة البهية، ج 6 ص 33..

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (198 )

وطلاق العدة، والخلع، والمبارأة (والتطليقة الثالثة بعد كل تطليقتين من أي طلاق كان) (1)

وقد ذكر صاحب الجواهر أن الطلاق البائن ستة اقسام وهي: طلاق الغير مدخول بها، وطلاق اليائسة، وطلاق الصغيرة، وطلاق المختلعة، وطلاق المبارأة، وطلاق المطلّقة ثلاثا بينهما رجعتان (2).

الطلاق الرجعي: كل طلاق يكون له المراجعة بغير تجديد عقد، وقد عرّفه صاحب المسالك بقوله: (ما كان قابلا للرجوع فيه شرعا وإن لم يحصل الرجوع، وذلك ما عدا الأقسام الستّة، ومنه طلاق المختلعة بعد رجوعها في البذل فيكون طلاقها تارة من أقسام البائن،، وتارة من أقسام الرجعي) (3).. والطلاق الرجعي ينقسم الى قسمين:

الطلاق العدي: ما يرجع فيه، ويواقع، ثمّ يطلّق فهذه تحرم في التاسعة تحريما مؤبّدا وما عداه تحرم في كلّ ثالثة حتّى تنكح غيره (4).

الطلاق غير العدي: وهو أن يترك العدة تنتهي فيعقد على الزوجة من جديد باختيارها، وهو طلاق السنّة، أو الطلاق السنّي (5).

2 ـ أثر الطلاق في الحيض

__________

(1) ابن زهرة، غنية النزوع، ص 373..

(2) النجفي، جواهر الكلام، ج 32 ص 120 - 121..

(3) النجفي، جواهر الكلام، ج 32، ص 120 - 121.

(4) الخوانساري، جامع المدارك، ج 4، ص 518.

(5) الصدر، ما وراء الفقه، ج 6، ص 310..

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (199 )

اتفق الفقهاء على أن إيقاع الطلاق في فترة الحيض حرام (1)، وهو أحد أقسام الطلاق البدعي لنهي الشارع عنه، لما مر من حديث ابن عمر ولمخالفته قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق:1)، أي في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وزمن الحيض لا يحسب من العدة، ولأن في إيقاع الطلاق في زمن الحيض ضررا بالمرأة لتطويل العدة عليها حيث إن بقية الحيض لا تحسب منها، وقد نقل العلماء الإجماع على ذلك قال ابن تيمية: (إن الطلاق في الحيض محرم بالكتاب والسنة والإجماع؛ فإنه لا يعلم في تحريمه نزاع، وهو طلاق بدعة) (2)، واختلفوا في وقوعه وعدم وقوعه على قولين:

القول الأول: وقوع الطلاق، وهو ما عليه جماهير العلماء (3)، حتى قال ابن عبد البر: (وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار وجمهور علماء المسلمين وإن كان الطلاق عند جميعهم في الحيض بدعة غير سنة، فهو لازم عند جميعهم ولا مخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال والجهل، فإنهم يقولون: إن الطلاق لغير السنة غير واقع ولا لازم، وروي مثل ذلك عن بعض التابعين، وهو شذوذ لم يعرج عليه أهل العلم من أهل الفقه والأثر في شيء من أمصار المسلمين لما ذكرنا) (4)، ومن أدلتهم على ذلك:

1 ـ قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق:1)، فسرها ابن عبد البر بقوله: (يريد أنه عصى ربه، وفارق امرأته) (5)

__________

(1) وهو نفس حكمهم في النفاس، والاختلاف نفسه جار فيه، فلذلك لم نذكر النفاس كل مرة بجنب الحيض، قال ابن عبد البر:) الحائض والنفساء لا يجوز طلاق واحدة منهما حتى تطهر، فإن طلقها زوجها في دم حيض أو دم نفاس طلقة أو طلقتين لزمه ذلك (التمهيد:15/ 68.

(2) الفتاوى الكبرى:3/ 247.

(3) انظر: القرطبي: 18/ 152، الجصاص: 3/ 99، المبدع:7/ 250، الإنصاف للمرداوي:8/ 448، روضة الطالبين: 8/ 7، المجموع: 2/ 386، شرح فتح القدير: 6/ 460، الفواكه الدواني: 2/ 33 وغيرها.

(4) التمهيد:15/ 58.

(5) التمهيد:15/ 59.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (200 )

2 ـ أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تحيض وتطهر، ثم تحيض وتطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق، فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها أن يطلق لها النساء، وقد استدل بهذا الحديث من وجوه:

الوجه الأول: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن عمر بمراجعة امرأته إذ طلقها حائضا، والمراجعة لا تكون إلا بعد لزوم الطلاق، ولو لم يكن الطلاق في الحيض واقعا ولا لازما ما قال له راجعها، لأنه محال أن يقال لرجل امرأته في عصمته لم يفارقها راجعها، بدليل قول الله تعالى في المطلقات: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} (البقرة:228) ولم يقل هذا في الزوجات اللاتي لم يلحقهن الطلاق (1).

الوجه الثاني: أن ابن عمر الذي عرضت له القضية احتسب بذلك الطلاق، وأفتى بذلك وهو ممن لا يدفع علمه بقصة نفسه، قال نافع بعد روايته للحديث: (وكان عبد الله ابن عمر إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: إذا أنت طلقت امرأتك وهي حائض مرة أو مرتين، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بهذا، وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت الله فيما أمرك به من طلاق امرأتك (2)، وعن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: نعم (3).

3 ـ أن ما رواه الشعبي عن ابن عمر من عدم الاعتداد بها، فهو مؤول، وأن معناه: لا يعتد بتلك الحيضة في العدة، ولم يرد لا يعتد بتلك التطليقة، وقد روي عنه ذلك منصوصا كما رواه شريك عن جابر عن عامر في رجل طلق امرأته وهي حائض، فقال: يقع عليه الطلاق ولا يعتد بتلك الحيضة.

__________

(1) التمهيد:15/ 58.

(2) التمهيد: 15/ 64.

(3) مسند الشافعي: 193، اختلاف الحديث: 261.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (201 )

4 ـ لو جاز أن تكون الطلقة الواحدة في الحيض لا يعتد بها لكانت الثلاث أيضا لا يعتد بها، وهذا ما لا إشكال فيه عند كل ذي فهم، لأن كليهما طلاق بدعي.

5 ـ أن الطلاق ليس من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله تعالى فلا تقع إلا على حسب سنتها، وإنما هو زوال عصمة فيها حق لآدمي فكيفما أوقعه وقع، فإن أوقعه لسنة هدي ولم يأثم، وإن أوقعه على غير ذلك أثم ولزمه ذلك.

6 ـ أنه محال أن يلزم المطيع ولا يلزم العاصي، ولو لزم المطيع الموقع له إلا على سنته ولم يلزم العاصي لكان العاصي أخف حالا من المطيع.

القول الثاني: عدم وقوع الطلاق، وهو قول الإمامية، وقد نسبه ابن تيمية لطاوس، وعكرمة، وخلاس، وعمر، ومحمد بن إسحاق، وحجاج بن أرطاة. وأهل الظاهر: كداود، وأصحابه وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويروى عن أبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهما من أهل البيت، وهو قول ابن حزم كما مر ذكر تفاصيل مذهبه في ذلك، وقد انتصر له ابن القيم وابن تيمية في محال مختلفة من كتبهما، وسنسوق هنا ما ذكره هؤلاء الفقهاء الثلاثة من أدلة (1):

1 ـ قوله تعالى في غير الموطوءة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:49)

2 ـ قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:236)، قال ابن حزم: (فأباح عز وجل طلاق التي لم تمس بالوطء، ولم

__________

(1) حاشية ابن القيم على سن أبي داود: 6/ 166 فما بعدها، المحلى:9/ 365، وانظر: زاد المعاد: 5/ 218، 5/ 634، شرح العمدة: 1/ 514، مجموع الفتاوى: 33/ 82، 3/ 31، 29/ 378.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (202 )

يحد في طلاقها وقتا، ولا عددا، فوجب من ذلك أن هذا حكمها وإن دخل بها، وطال مكثها معه، لأنه لم يمسها)

3 ـ قوله تعالى في الموطوءة: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (الطلاق:1) قال ابن حزم: (والعدة لا تكون من الطلاق إلا في موطوءة فعلمنا الله عز وجل كيف يكون طلاق الموطوءة، وأخبرنا أن تلك حدود الله، وأن من تعداها ظالم لنفسه. فصح أن من ظلم وتعدى حدود الله - عز وجل - ففعله باطل مردود، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) (1)، فصح أن الطلاق المذكور لا يكون إلا للعدة كما أمر الله عز وجل.

4 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)،وفي لفظ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد، والرد فعل بمعنى المفعول أي فهو مردود، وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة حتى كأنه نفس الرد، وهو تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده وعدم اعتباره في حكمه المقبول، فالمطلق في الحيض قد طلق طلاقا ليس عليه أمر الشارع فيكون مردودا فلو صح ولزم لكان مقبولا منه وهو خلاف النص.

5 ـ أن دعوى الإجماع في المسألة لا تصح، قال ابن حزم راد على على دعوى الإجماع: (ثم اختلف الناس في الطلاق في الحيض إن طلق الرجل كذلك، أو في طهر وطئها فيه، هل يلزم ذلك الطلاق أم لا؟ ادعى بعض القائلين بهذا أنه إجماع؟ وقد كذب مدعي ذلك، لأن الخلاف في ذلك موجود، وحتى لو لم يبلغنا لكان القاطع - على جميع أهل الإسلام - بما لا يقين عنده به، ولا بلغه عن جميعهم -: كاذبا على جميعهم)، قال ابن حزم: (والعجب من

__________

(1) أخرجه أبو داود (4/ 200، رقم 4606)

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (203 )

جرأة من ادعى الإجماع على خلاف هذا - وهو لا يجد فيما يوافق قوله في إمضاء الطلاق في الحيض، أو في طهر جامعها فيه كلمة عن أحد من الصحابة غير رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسن منها عن ابن عمر، وروايتين ساقطتين عن عثمان، وزيد بن ثابت)

6 ـ رواية ذلك عن السلف، وممن نقل عنهم ابن حزم القول بذلك ابن عباس، وقد مر معنا قوله سابقا، قال ابن حزم: (ومن المحال أن يخبر ابن عباس عما هو جائز بأنه حرام)، وروى عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد لذلك، وروى عن خلاس بن عمرو أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض؟ قال: لا يعتد بها.

7 ـ أن وصف العقد المحرم بالصحة إما أن يعلم بنص من الشارع أو من قياسه أو من توارد عرفه في محال حكمه بالصحة أو من إجماع الأمة، وليس في هذه المسألة شيء من ذلك، بل نصوص الشرع تقتضي رده وبطلانه وكذلك قياس الشريعة، واستقراء موارد عرف الشرع في مجال الحكم بالصحة إنما يقتضي البطلان في العقد المحرم لا الصحة، وكذلك الإجماع فإن الأمة لم تجمع قط على صحة شيء حرمه الله ورسوله لا في هذه المسئلة ولا في غيرها فالحكم بالصحة فيها لا يستند إلى دليل.

8 ـ أن للشارع في الطلاق المباح حكمان: أحدهما إباحته والإذن فيه، والثاني جعله سببا للتخلص من الزوجة، فإذا لم يكن الطلاق مأذونا فيه انتفى الحكم الأول وهو الإباحة، فما الموجب لبقاء الحكم الثاني، وقد ارتفع سببه؟ مع العلم أن بقاء الحكم بدون سببه ممتنع.

9 ـ أن دعوى أن الطلاق المحرم سبب لذلك، فليس في لفظ الشارع ما يدل عليه، وليس هناك ما يستدل به على الصحة والفساد إلا موافقة الأمر والإذن وعدم موافقتهما، فإن حكم بالصحة مع مخالفة أمر الشارع وإباحته لم يبق طريق إلى معرفة الصحيح من الفاسد، إذ لم يأت من الشرع إخبار بأن هذا صحيح وهذا فاسد غير الإباحة والتحريم، فإذا

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (204 )

جوز ثبوت الصحة مع التحريم فبأي شيء به بعد ذلك على فساد العقد وبطلانه.

10 ـ مخالفته للقياس، لأن الطلاق لما كان منقسما إلى حلال وحرام، فإن قياس قواعد الشرع أن حرامه باطل غير معتد به كالنكاح وسائر العقود التي تنقسم إلى حلال وحرام، ولا ينقض ذلك الظهار لأنه لا يكون قط إلا حراما، فهو منكر من القول وزور، ولا شبه له بالطلاق.

11 ـ أن قواعد الشريعة تنص على أن النهي يقتضي التحريم فكذلك يقتضي الفساد وليس هناك ما يستدل به على فساد العقد إلا النهي عنه، لأنه إذا صحح استوى هو والحلال في الحكم الشرعي وهو الصحة، وإنما يفترقان في موجب ذلك من الإثم والذم ومعلوم أن الحلال المأذون فيه لا يساوي المحرم الممنوع منه أبدا، فالمحرم إنما حرم لئلا ينفذ ولا يصح فإذا نفذ وصح وترتب عليه حكم الصحيح كان ذلك عائدا على مقتضى النهي بالابطال.

12 ـ أن هذا الطلاق منع منه الشارع وحجر على العبد في اتباعه فكما أفاد منعه وحجره عدم جواز الإيقاع أفاد عدم نفوذه، وإلا لم يكن للحجر فائدة، لأن فائدة الحجر عدم صحة ما حجر على المكلف فيه، وقد ضرب لابن القيم مثالا لذلك بما لو أن الزوج أذن لرجل بطريق الوكالة أن يطلق امرأته طلاقا معينا فطلق غير ما أذن له فيه، فإنم ذلك لا ينفذ لعدم إذنه، فالله تعالى إنما أذن للعبد في الطلاق المباح، ولم يأذن له في المحرم، فكيف يصحح ما لم يأذن به ويقع ويجعل من صحيح أحكام الشرع.

13 ـ أن الشارع جعل للمكلف مباشرة الأسباب، أما أحكامها المترتبة عليها فليست له وإنما هي إلى الشارع، فإذا كان السبب محرما كان ممنوعا منه ولم ينصبه الشارع مقتضيا لآثار السبب المأذون فيه، والحكم ليس للمكلف حتى يكون إيقاعه إليه غير مأذون فيه، ولا نصبه الشارع لترتب الآثار عليه فترتيبها عليه إنما هو بالقياس على السبب المباح المأذون فيه، وهو قياس في غاية الفساد إذ هو قياس أحد النقيضين على الآخر في التسوية بينهما في الحكم

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (205 )

ولا يخفى فساده.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة القول الثاني، والذي لا يوقع الطلاق، بناء على مراعاة مصلحة الحفاظ على الأسرة، وبناء على السماحة والرحمة للزوجين جميعا، فلا يقع طلاقه لزوجته، وهو ما يضيق دائرة الطلاق، ويضعها في إطار محدود، فلذلك كان هذا القول أولى وأنسب وأرفق بالناس وأقرب للسنة، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.

ولا بأس من أن نذكر هنا بعض النواحي المقاصدية التي أرادها ونظر من خلالها أصحاب القول الثاني لهذه المسألة، فمن المقاصد التي ذكرها ابن القيم:

1 ـ أنه لو كان الطلاق نافذا في الحيض لكان الأمر بالمراجعة والتطليق بعده تكثيرا من الطلاق البغيض إلى الله وتقليلا لما بقي من عدده الذي يتمكن من المراجعة معه، ومعلوم أنه لا مصلحة في ذلك.

2 ـ أن مفسدة الطلاق الواقع في الحيض لو كان واقعا لا يرتفع بالرجعة والطلاق بعدها، بل إنما يرتفع بالرجعة المستمرة التي تلم شعث النكاح وترقع خرقه، فأما رجعة يعقبها طلاق، فلا تزيل مفسدة الطلاق الأول لو كان واقعا.

3 ـ أن الشارع إنما حرمه ونهى عنه لأجل المفسدة التي تنشأ من وقوعه لأن ما نهى عنه الشرع وحرمه لا يكون قط إلا مشتملا عن مفسدة خالصة أو راجحة فنهى عنه قصدا لإعدام تلك المفسدة، فلو حكم بصحته ونفوذه لكان ذلك تحصيلا للمفسدة التي قصد الشارع إعدامها وإثباتا لها.

4 ـ أن ما حرمه الله تعالى من العقود فهو مطلوب الإعدام بكل طريق حتى يجعل وجوده كعدمه في حكم الشرع، ولهذا كان ممنوعا من فعله باطلا في حكم الشرع والباطل

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (206 )

شرعا كالمعدوم، ومعلوم أن هذا هو مقصود الشارع مما حرمه ونهى عنه، فالحكم ببطلان ما حرمه ومنع منه أدنى إلى تحصيل هذا المطلوب وأقرب بخلاف ما إذا صحح فإنه يثبت له حكم الوجود.

5 ـ أن صحة العقد هي عبارة عن ترتب أثره المقصود للمكلف عليه، وهذا الترتب نعمة من الشارع أنعم بها على العبد وجعل له طريقا إلى حصولها بمباشرة الأسباب التي أذن له فيها، فإذا كان السبب محرما منهيا عنه كانت مباشرته معصية، فكيف تكون المعصية سببا لترتب النعمة التي قصد المكلف حصولها؟

حكم إجبار من طلق امرأته في الحيض والنفاس على مراجعتها:

اختلف الفقهاء فيمن طلق زوجته وهي حائض أو نفساء، هل يجبر على رجعتها أم لا على الأقوال التالية:

القول الأول: يؤمر برجعتها إذا طلقها حائضا، ولا يجبر على ذلك، هو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل وأبي ثور والطبري.

القول الثاني: كل من طلق امرأته حائضا أجبر على رجعتها، وإن طلقها نفساء لم يجبر على رجعتها، وهو مذهب داود بن علي.

القول الثالث: يجبر على مراجعتها إذا طلقها في الحيض أو في النفاس، وهو قول المالكية، واستدلوا بما يقتضيه الأمر من وجوب الائتمار واستعمال المأمور ما أمر به حتى يخرجه عن جبر الوجوب، ولم يستدلوا بغير هذا، قال ابن عبد البر: (ولا دليل ههنا على ذلك والله أعلم.) (1)، وقد اختلف قول المالكية في الوقت الذي تتم فيه الرجعة على رأيين:

__________

(1) التمهيد: 15/ 67.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (207 )

الرأي الأول: يجبر على الرجعة أبدا ما لم تخرج من عدتها سواء أدرك ذلك في تلك الحيضة التي طلق فيها أو الطهر الذي بعده أو الحيضة الثانية أو الطهر بعدها ما لم تنقض العدة، وهو قول مالك وأكثر أصحابه.

الرأي الثاني: يجبر على الرجعة ما لم تطهر وحتى تحيض ثم تطهر فإذا صارت في الحال التي أباح له النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلاقها لم يجبر على رجعتها، وهو قول أشهب بن عبدالعزيز.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة في هذه الحالة بالإضافة إلى ما سبق ذكره في الترجيح السابق أن الأولى هو القول الأول لما يفضي عليه القول الثاني من تكثير عدد الطلقات، وبالتالي قد يؤدي إلى البينونة الكبرى، وهو ما لم يقصده الشارع بتعديد فرص الطلاق، ولهذا كان الأولى إما القول بعدم وقوع الطلاق كما ذكرنا ذلك سابقا، أو القول بعدم إجباره على الرجعة، أما القول بوقوع الطلاق مع وجوب الرجعة ففيه تناقض واضح ومفسدة عظيمة، وقد قال ابن رشد مع مالكيته: (من قال بوقوع الطلاق وجبره على الرجعة فقد تناقض، فتدبر ذلك) (1)

3 ـ حكم الطلاق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها

اختلف الفقهاء (2) في جواز طلاقها في الطهر التالي للحيضة التي طلق فيها على قولين:

القول الأول: يجوز طلاقها في الطهر التالي لتلك الحيضة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى، ومن أدلتهم على ذلك:

__________

(1) بداية المجتهد:2/ 49.

(2) حاشية ابن القيم: 6/ 174.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (208 )

1 ـ أن في بعض طرق حديث ابن عمر في الصحيح: (ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا (وفي لفظ: (ثم ليطلقها طاهرا من غير جماع قبل عدتها (وفي لفظ) فإذا طهرت فليطلقها لطهرها (قال فراجعها ثم طلقها لطهرها، وفي حديث أبي الزبير قال: (إذا طهرت فليطلق أو ليمسك) وكل هذه الألفاظ في الصحيح.

2 ـ أن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي بعده وكما يجوز أيضا طلاقها فيه لو لم يتقدم طلاق في الحيض.

القول الثاني: المنع حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى تلك الحيضة، ثم تطهر كما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مذهب بعض المالكية ورواية عن أحمد، ومن أدلتهم على ذلك:

1 ـ أمره صلى الله عليه وآله وسلم لابن عمر بإمساكها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر.

2 ـ أن الرجعة لا تكاد تعلم صحتها إلا بالوطء لأنه المبتغى من النكاح، ولا يحصل الوطء إلا في الطهر، فإذا وطئها حرم طلاقها فيه حتى تحيض، ثم تطهر فاعتبرنا مظنه الوطء ومحله ولم يجعله محلا للطلاق.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة والأوفق بالمقاصد الشرعية من حيث تضييق دائرة الطلاق هو القول الثاني الذي دل عليه الحديث، أما رعاية هذا القول للمقاصد الشرعية، فمن وجوه متعددة ذكرها وانتصر لها ابن القيم، ومنها:

1 ـ أنه لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة فإن الله تعالى إنما شرع الرجعة لإمساك المرأة وإيوائها ولم شعث النكاح وقطع سبب الفرقة، ولهذا سماه إمساكا فأمره الشارع أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر لتكون الرجعة للامساك لا للطلاق.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (209 )

2 ـ أن من مقاصد تحريم الطلاق في الحيض عدم إطالة العدة عليها، فلو طلقها عقب الرجعة من غير معاشرة لم تكن قد استفادت بالرجعة فائدة، لأن تلك الحيضة التي طلقت فيها لم تكن تحتسب عليها من العدة وإنما تستقبل العدة من الطهر الذي يليها أو من الحيضة الأخرى على الاختلاف في الأقراء، فإذا طلقها عقب تلك الحيضة كانت في معنى ممن طلقت ثم راجعها ولم يمسها حتى طلقها، فإنها تبنى على عدتها في أحد القولين لأنها لم تنقطع بوطء، فالمعنى المقصود إعدامه من تطويل العدة موجود بعينه هنا لم يزل بطلاقها عقب الحيضة، فأراد الشارع قطع حكم الطلاق جملة بالوطء، فاعتبر الطهر الذي هو موضع الوطء فإذا وطئ حرم طلاقها حتى تحيض ثم تطهر.

3 ـ أنها ربما كانت حاملا وهو لا يشعر، لأن الحامل قد ترى الدم أثناء حملها، فأراد الشارع أن يستبرئها بعد تلك الحيضة بطهر تام، ثم بحيض تام فحينئذ تعلم هل هي حامل أو حائل، فإنه ربما يمسكها إذا علم أنها حامل منه، وربما تكف هي عن الرغبة في الطلاق إذا علمت أنها حامل، وربما يزول الشر الموجب للطلاق بظهور الحمل، فأراد الشارع تحيق علمها بذلك نظرا للزوجين ومراعاة لمصلحتهما، وحسما لباب الندم وهذا من أحسن محاسن الشريعة.

الطهر الذي يقع فيه الطلاق السني:

اختلف العلماء في الطهر الذي يقع فيه الطلاق السني على الأقوال التالية (1):

القول الأول: انقطاع الدم، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد، لأن الحائض إذا انقطع دمها صارت كالجنب يحرم عليها ما يحرم عليه ويصح منها ما يصح منه ومعلوم أن المرأة الجنب لا يحرم طلاقها.

__________

(1) حاشية ابن القيم: 6/ 177.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (210 )

القول الثاني: التطهر بالغسل أو ما يقوم مقامه من التيمم، وهو رواية عن أحمد، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ ما رواه نافع عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة، فانطلق عمر فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مر عبد الله فليراجعها فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى، فلا يمسها حتي يطلقها فإن شاء أن يمسكها فليمسكها، فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) وهذا على شرط الصحيحين وهو مفسر لقوله: فإذا طهرت، فيجب حمله عليه.

2 ـ أنها لو كانت كالجنب لحل وطؤها.

القول الثالث: إن طهرت لأكثر الحيض حل طلاقها بانقطاع الدم، وإن طهرت لدون أكثره لم يحل طلاقها حتى تصير في حكم الطاهرات بأحد ثلاثة أشياء إما أن تغتسل، وإما أن تتيمم عند العجز وتصلي، وإما أن يخرج عنها وقت صلاة لأنه متى وجد أحد هذه الأشياء حكمنا بانقطاع حيضها، وهو مذهب الحنفية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة للاعتبارات السابقة الأخذ بالقول الثاني، لأن اغتسالها وتطهرها قد يصرف الزوج عن طلاقها، فقد تدعوه رغبته فيها لإمساكها، خاصة بعد اغتسالها، فإذا ما عاشرها حرم عليه طلاقها شهرا كاملا بعد ذلك، وقد يغير الله في ذلك الشهر من حال إلى حال.

ففي هذا القول مصلحة كبيرة من حيث تضييق وقت الطلاق، وهو ما قد يضيق الطلاق نفسه.

ثم إن المرأة بعد طهرها وقبل تطهرها قد لا تتغير حالتها النفسية مع زوجها لوجود أثر الحيضة فيها، فإذا ما تطهرت واغتسلت كان ذلك طهرا لنفسها قد يدعوها إلى ما يصرف

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (211 )

عن زوجها التفكير في طلاقها.

وزيادة على ذلك كله تصريح الحديث بذلك في بعض رواياته، هو تفسير لقوله (فإذا طهرت) (1)

4 ـ أحكام الطلاق في الطهر الذي مسها فيه

أثر الطلاق في طهر مسها فيه:

والخلاف في المسألة مثلما ذكرنا سابقا في طلاق الحائض، وتكاد تتفق على نفس الأدلة، وسنذكر هنا بعض النقول عن أصحاب الأقوال للدلالة على ذلك:

القول الأول: وقوع الطلاق في هذه الحالة، وهو قول الجمهور، وقد ذكرنا أن هناك من ادعى الإجماع في المسألة، أما أقوال الأئمة في ذلك، ففي المدونة) قلت: هل كان مالك يكره أن يطلق الرجل امرأته في طهر قد جامعها فيه أم لا؟ قال: نعم كان يكرهه ويقول: إن طلقها فيه فقد لزمه (2)، وقال الشافعي: (ولو طلقها طاهرا بعد جماع أحببت أن يرتجعها ثم يمهل ليطلق كما أمر وإن كانت في طهر بعد جماع فإنها تعتد به (3)

القول الثاني: عدم وقوع الطلاق في هذه الحالة، وهو قول من ذكرنا سابقا يتزعمهم ابن حزم وابن تيمية ابن القيم، قال ابن حزم: (فإن طلقها طلقة أو طلقتين في طهر وطئها فيه، أو في حيضتها: لم ينفذ ذلك الطلاق وهي امرأته كما كانت، إلا أن يطلقها كذلك ثالثة أو ثلاثة مجموعة فيلزم)، وقال ابن تيمية: (الطلاق في زمن الحيض محرم لاقتضاء النهي الفساد، ولأنه خلاف ما أمر الله به وإن طلقها في طهر أصابها فيه حرم ولا يقع) (4)

__________

(1) انظر: نيل الأوطار:6/ 255.

(2) المدونة:2/ 3.

(3) الأم:8/ 295.

(4) الفتاوى الكبرى:5/ 490.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (212 )

حكم الرجعة من الطلاق في الطهر الذي مسها فيه:

اتفق الفقهاء (1) على أن من طلق زوجته في الطهر الذي مسها فيه قد ارتكب بذلك حراما، وهو طلاق بدعة، واختلفوا هل يجب عليه مراجعتها أم لا على قولين:

القول الأول: لا يجب عليه مراجعتها، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن عبد البر وابن قدامة، قال ابن عبدالبر: (أجمعوا على أن الرجعة لا تجب في هذه الصورة)، ولكن هذا الإجماع ليس ثابتا، ومن الأدلة على هذا القول:

1 ـ عدم صحة القياس على الأمر بالرجعة في الطلاق من الحيض، لأن زمن الطهر وقت للوطء والطلاق وزمن الحيض ليس وقتا لواحد منهما، فظهر الفرق بينهما فلا يلزم من الأمر بالرجعة في غير زمن الطلاق الأمر بها في زمنه.

2 ـ أن المعنى الذي وجبت لأجله الرجعة إذا طلقها حائضا منتف في صورة الطلاق في الطهر الذي مسها فيه، فإنه إنما حرم طلاقها في زمن الحيض لتطويل العدة عليها فإنها لا تحتسب ببقية الحيضة قرءا اتفاقا، فتحتاج إلى استئناف ثلاثة قروء كوامل، أما الطهر فإنها تعتد بما بقي منه قرءا ولو كان لحظة، فلا حاجة بها إلى أن يراجعها، فإن من قال الأقراء الأطهار كانت أول عدتها عنده عقب طلاقها، ومن قال هي الحيض استأنف بها بعد الطهر وهو لو راجعها، ثم أراد أن يطلقها لم يطلقها إلا في طهر فلا فائدة في الرجعة، وهذا هو الفرق المؤثر بين الصورتين.

القول الثاني: وجوب الرجعة في هذا الطلاق، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد كما ذكر ابن القيم، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يطلقها إذا شاء قبل أن يمسها، وقال: (فتلك العدة التي أمر بها الله أن تطلق النساء)، وهذا ظاهر في التحريم.

__________

(1) حاشية بان القيم: 6/ 177.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (213 )

2 ـ أنه طلاق محرم فتجب الرجعة فيه كما تجب في الطلاق في زمن الحيض، ولأن زمن الطهر متى اتصل به المسيس صار كزمن الحيض في تحريم الطلاق، ولا فرق بينهما.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة مثلما ذكرنا سابقا هو عدم القول بالرجعة ـ إن قلنا بوقوع الطلاق ـ حتى لا تكثر عدد الطلقات، لأن الشرع قصد أمرين: تضييق الطلاق، وتقليل عدد الطلقات في حال عدم وجود مسلك له، حتى لا تنقطع علاقة الزوجية بالكلية.

حكم العدة في الطهر الذي مسها فيه:

اختلف الفقهاء القائلون بإيقاع الطلاق البدعي في بداية عدة من طلقها في طهر مسها فيه على قولين:

القول الأول: لو بقي من الطهر لحظة حسبت لها قرءا، وإن كان قد جامع فيه، باعتبار الأقراء الأطهار، وهو مذهب الإمام أحمد والشافعي ومالك وأصحابهم، ومن أدلتهم على ذلك:

1 ـ أنه إنما حرم الطلاق في زمن الحيض دفعا لضرر تطويل العدة عليها، فلو لم تحتسب ببقية الطهر قرءا كان الطلاق في زمن الطهر أضر بها وأطول عليها.

2 ـ لم يحرم الطلاق في الطهر لأجل التطويل الموجود في الحيض، ولكنه حرم لكونها مرتابة فلعلها قد حملت من ذلك الوطء، فيشتد ندمه إذا تحقق الحمل ويكثر الضرر، فإذا أراد أن يطلقها طلقها طاهرا من غير جماع، لأنهما قد تيقنا عدم الريبة، وأما إذا ظهر الحمل فقد دخل على بصيرة وأقدم على فراقها حاملا.

القول الثاني: أن العدة إنما يكون استقبالها من طهر لم يمسها فيه، إن دل على أنها بالاطهار، وهو قول أبي عبيد، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى بينهما في المنع من الطلاق فيهما، وأخبر أن العدة التي أمر بها

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (214 )

الله أن يطلق لها النساء هي من وقت الطهر الذي لم يمسها فيه، فمن أين لنا أن الطهر الذي مسها فيه هو أول العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.

2 ـ أنه كما لا تكون عدتها متصلة بالحيضة التي طلق فيها ينبغي أن لا تكون متصلة بالطهر الذي مسها فيه، وكما لا تحتسب ببقية الحيضة لا تحتسب ببقية هذا الطهر الممسوسة فيه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة والأوفق بمقاصد الشريعة من ترك مدة كافية للعدة لتكون فرصة للمراجعة، هو الأخذ بالقول الثاني، ولا حرج في طول مدة العدة للزوجة بسبب ذلك، لأن ذلك قد يكون في مصلحة بيت الزوجية، أو في مصلحة الزوجة نفسها، ثم ما هو ضررها من طول العدة وزوجها مكلف برعايتها من كل النواحي.

وقد أشار ابن القيم إلى بعض النواحي المقاصدية في هذا، فذكر بأن الشارع إنما جعل استقبال عدة المطلقة من طهر لم يمسها فيه ليكون المطلق على بصيرة من أمره والمطلقة على بصيرة من عدتها أنها بالإقراء، فأما إذا مسها في الطهر ثم طلقها، فإنه لا يدري أحاملا هي أم حائلا، ولم تدر المرأة أعدتها بالحمل أم بالأقراء؟ فكان الضرر عليهما في هذا الطلاق أشد من الضرر في طللاقها وهي حائض، فلا تحتسب ببقية ذلك الطهر قرءا كما لم يحتسب الشارع به في جواز إيقاع الطلاق فيه.

5 ـ حكم طلاق الحامل

اتفق الفقهاء على وقوع طلاق الحامل حتى من قال بعدم وقوع الطلاق البدعي لعدم بدعية هذا الطلاق، قال ابن تيمية: (أما طلاق السنة أن يطلقها في طهر لا يمسها فيه، أو

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (215 )

يطلقها حاملا قد استبان حملها؛ فإن طلقها في الحيض؛ أو بعد ما وطئها وقبل أن يستبين حملها له: فهو طلاق بدعة) (1)

وقد اختلف العلماء في حكم طلاق الحامل هل هو سني أم بدعي على قولين:

القول الأول: أن طلاقها سني، وهو قول جمهور العلماء، قال ابن عبدالبر: (لا خلاف بين العلماء أن الحامل طلاقها للسنة) (2)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ ما ورد في الرواية الأخرى عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا، أو حاملا)

2 ـ أنه إذا لم يكن طلاقها سنيا كان بدعيا بالضرورة، لأن القسمة منحصرة بينهما.

3 ـ أن المرأة لها حالتان أحدهما أن تكون حائلا فلا تطلق إلا في طهر لم يمسها فيه، أو أن تكون حاملا فيجوز طلاقها، والفرق بين الحامل وغيرها في الطلاق إنما هو بسبب الحمل وعدمه، لا بسبب حيض ولا طهر، ولهذا يجوز طلاق الحامل بعد المسيس دون الحائل.

4 ـ أن حيض الحامل ـ في حال اعتبار حيضها ـ ليس له تأثير في العدة لا في تطويلها ولا تخفيفها إذا عدتها بوضع الحمل.

القول الثاني: أن طلاق الحامل ليس بسني ولا بدعي (3)، وهو قول الشافعية، قال الشافعي: ولو لم يدخل بها أو دخل بها وكانت حاملا أو لا تحيض من صغر أو كبر، فقال: أنت طالق ثلاثا للسنة أو البدعة طلقت مكانها؛ لأنها لا سنة في طلاقها ولا بدعة (وإنما يثبت لها ذلك من جهة العدد لامن جهة الوقت، والذي اقتضى هذا القول هو الجمع بين دليلين يحتملان كلا النوعين:

__________

(1) الفتاوى الكبرى:3/ 247.

(2) التمهيد:15/ 80.

(3) ذكره ابن القيم في: حاشيةابن القيم على سن أبي داود 6/ 17، وابن تيمية في الفتاوى الكبرى: 3/ 277.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (216 )

الدليل الأول: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أباح طلاقها في طهر لم يمسها فيه، فإذا مسها في الطهر وحملت واستمر حملها استمر المنع من الطلاق، فكيف يبيحه تجدد ظهور الحمل، فهذا الدليبل يقتضي بدعية طلاق الحامل.

الدليل الثاني: أن المعنى الذي لأجله حرم الطلاق بعد المسيس معدوم عند ظهور الحمل، لأن المطلق عند ظهور الحمل قد دخل على بصيرة، فلا يخاف ظهور أمر يتجدد به الندم، وليست المرأة مرتابة لعدم اشتباه الأمر عليها، بخلاف طلاقها مع الشك في حملها، وهذا الدليل يقتضي سنية طلاق الحامل.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة بناء على ما ورد من نصوص، وما انتفى من محاذير سنية طلاق الحامل ونفوذه، لطول فترة الحمل، وهي كافية للرجعة إن أراداها.

ومن جهة ثانية، يكون طلاق الزوج بعد ثبوت حمل زوجته دليلا على عدم رغبته في الاستمرار بالزواج بها، وقد أشار إلى هذه الناحية السرخسي بقوله: (وإذا أراد أن يطلق امرأته وهي حامل طلقها واحدة متى شاء حتى أنه لا بأس بأن يطلقها عقيب الجماع، لأن كراهة الإيقاع عقيب الجماع لاشتباه أمر العدة عليها، وخوف الندم إذا ظهر بها حبل، وذلك غير موجود هنا، ولأن الحبل يزيد في رغبته فيها فيكون إيقاع الطلاق بعد ظهوره دليل عدم موافقة الأخلاق) (1)

وقد بين في الفروق سر الفرق بين التطليق بعد جماع الحامل والآيس والصغيرة دون غيرهما بقوله: (يجوز أن يطلق الحامل والآيسة والصغيرة عقيب جماعه، ولا يجوز أن يطلق ذوات الحيض في طهر قد جامعها فيه، والفرق أن الوطء في الآيسة، والصغيرة والحامل لا يفيد حبلا، فأمن الندم عقيب الوطء، لحدوث الحبل، فجاز له أن يطلقها كما لو مضت

__________

(1) المبسوط:6/ 10.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (217 )

حيضة في ذوات الأقراء، وأما في ذوات الأقراء فلم يوجد ما يؤمن معه وجود الحبل من الوطء، فلم يؤمن الندم، فلا ينبغي له أن يطلقها، لقوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (الطلاق:1)) (1)

ولكن مع ذلك فإن دائرة الطلاق، وإن توسعت من جهة الوقت، فإنها تضيق من جهة العدد، لأنه لا يصح تطليقها إلا مرة واحدة طول فترة الحمل، وقد سئل ابن القاسم: (أرأيت الحامل إذا أراد زوجها أن يطلقها ثلاثا كيف يطلقها؟ قال: قال مالك: لا يطلقها ثلاثا ولكن يطلقها واحدة متى شاء ويمهلها حتى تضع جميع ما في بطنها.. وقد قال مالك في طلاق الحامل للسنة أن يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تضع حملا قال ذلك عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وغيرهما وقاله ابن المسيب وربيعة والزهري) (2)

أما لو أراد أن يضيق على نفسه فيجمع الطلقات جميعا، فإن لذلك حكمه الشرعي الذي سنراه في صيغة الطلاق.

__________

(1) الفروق:1/ 160.

(2) المدونة:2/ 4..

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (218 )

الفصل الرابع

حق المرأة في حل عصمة الزوجية

أولا ـ أحكام الخلع وآثاره

1 ـ حقيقة الخلع:

اختلفت عبارات الفقهاء في التعبير عنه بناء على آرائهم الفقهية، وفيما يلي بعض التعاريف على المذاهب القهية المشتهرة:

1 ـ عرفه الحنفية بقولهم: هو عبارة عن عقد بين الزوجين، المال فيه من المرأة تبذله فيخلعها أو يطلقها (1).

2 ـ عرفه المالكية بقولهم: هو إزالة العصمة بعوض من الزوجة أو غيرها، وعرفه خليل بأنه الطلاق بعوض وبلا حاكم (2).

3 ـ عرفه الشافعية بقولهم: هو فرقة بعوض بلفظ طلاق أو خلع (3)

4 ـ عرفه ابن حزم بقوله: هو: الافتداء إذا كرهت المرأة زوجها، فخافت أن لا توفيه حقه، أو خافت أن يبغضها فلا يوفيها حقها (4)

5 ـ وعرفه الإباضية بقولهم: فرقة بين الزوجين بردها إليه صداقها، وقبوله إياه (5)

والعلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي كما قال العلماء هي أَن الله تعالى جعل

__________

(1) الجوهرة النيرة:2/ 59.

(2) الفواكه الدواني:2/ 34.

(3) مغني المحتاج:4/ 430.

(4) المحلى:9/ 511.

(5) شرح النيل:7/ 252.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (219 )

النساء لباساً للرجال، والرجالَ لباساً لهنَّ؛ فقال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (البقرة:187)؛ فإِذا افتدت المرأَة بمال تعطيه لزوجها ليُبِينَها منه فأَجابها إِلى ذلك، فقد بانت منه وخلَع كل واحد منهما لباسَ صاحبه.

وقد اختلف الفقهاء في التعبير عن الخلع، وعن المختلعة، وسنذكر هنا هذه المصطحات تيسيرا لفهم النصوص التي قد نوردها من أقوال الفقهاء والتي تختلف في التعبير عنه:

الصلح: وهو في اللغة اسم من المصالحة وهي التوفيق والمسالمة بعد المنازعة، ومعناه في الشرع عقد يرفع النزاع، والصلح من الألفاظ التي يؤول إليها معنى الخلع الذي هو بذل المرأة العوض على طلاقها، والخلع يطلق غالبا على حالة بذلها له جميع ما أعطاها، والصلح على حالة بذلها بعضه.

الفدية: وهي في اللغة اسم للمال الذي يدفع لاستنقاذ الأسير، وفدت المرأة نفسها من زوجها تفدي، وافتدت أعطته مالا حتى تخلصت منه بالطلاق، والفقهاء لا يخرجون في تعريفهم للفدية عما ورد في اللغة، والفدية والخلع معناهما واحد، وهو بذل المرأة العوض على طلاقها، ولفظ المفاداة من الألفاظ الصريحة في الخلع عند الشافعية وعند الحنابلة لوروده في القرآن كما سنرى.

المبارأة: وهي في اللغة صيغة مفاعلة تقتضي المشاركة في البراءة، وهي في الاصطلاح اسم من أسماء الخلع والمعنى واحد وهو بذل المرأة العوض على طلاقها لكنها تختص بإسقاط المرأة عن الزوج حقا لها عليه. وهي عند أبي حنيفة كالخلع كلاهما يسقطان كل حق لكل واحد من الزوجين على الآخر مما يتعلق بالنكاح كالمهر والنفقة الماضية دون المستقبلة.

وقد اختلف الفقهاء في التعبير عن هذ المصطلحات، وخاصة المالكية والإباضية، وسنذكر هنا بعض أقوالهم فيها:

فعند المالكية، وفي المدونة، قال مالك: (المبارئة التي تبارئ زوجها قبل أن يدخل بها،

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (220 )

فتقول: خذ الذي لك فتاركني.. والمختلعة التي تختلع من كل الذي لها، والمفتدية التي تعطيه بعض الذي لها وتمسك بعضه، قال مالك: وهذا كله سواء) (1)

أما الإباضية، فقد اختلفوا في تحديد هذه المصطلحات اختلافا عريضا، ومن أقوالهم فيها: (إن الخلع، والفداء، والفدية، والصلح، والمباراة، والبرءان سواء، تقع بالبعض والكل وأكثر منه، وقيل: إنهن بمعنى: وهو بذل المرأة العوض على طلاقها، إلا إن اسم الخلع يختص ببذلها جميع ما أعطاها، والصلح ببعضه، والفدية والفداء بأكثر، والمباراة والبرءان إسقاطها عنه حقا لها عليه، وقيل: الافتداء ببعض الصداق، والخلع بكله، أو بترك النفقة عليها وهي حامل، أو وترك نفقة ولدها، أو نحو ذلك مما لها) (2)

2 ـ أحكام الخلع

الحكم الأصلي للخلع:

اختلف الفقهاء في حكم الخلع على قولين:

القول الأول: أنه جائز في الحال الذي لو كرهت المرأة زوجها، لخلقه، أو خلقه، أو دينه، أو كبره، أو ضعفه، وخشيت أن لا تؤدي حق الله تعالى في طاعته، وهو قول جماهير الفقهاء.

وقد ذكر العلماء أن لهذا الخوف من ترك إقامة حدود الله وجهين، إذا وقع أحدهما وأشفقا من ترك إقامة حدود الله التي حدها لهما حل الخلع، وهذان الوجهان هما (3):

الوجه الأول: أن يكون أحدهما سيئ الخلق أو كلاهما، فيفضي بهما ذلك إلى ترك إقامة حدود الله فيما ألزم كل واحد منهما من حقوق النكاح في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ

__________

(1) المدونة:2/ 249، وانظر: القرطبي:3/ 146.

(2) شرح النيل:7/ 252.

(3) أحكام القرآن للجصاص:1/ 533.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (221 )

بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:228)

الوجه الثاني: أن يكون أحدهما مبغضا للآخر فيصعب عليه حسن العشرة والمجاملة، فيؤديه ذلك إلى مخالفة أمر الله في تقصيره في الحقوق التي تلزمه، وفيما ألزم الزوج من إظهار الميل إلى غيرها في قوله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء:129)

وقد وردت التعابير الكثيرة عن السلف في وصف هذه الحالة، ومن عباراتهم في ذلك قول الحسن البصري: (إذا قالت المرأة لا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة ولا أبر لك قسما حل الخلع)، وقال الشعبى: (ألا يقيما حدود الله ألا يطيعا الله وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة)، وقال عطاء بن أبى رباح: (يحل الخلع والأخذ أن تقول المرأة لزوجها إنى أكرهك ولا أحبك (، وقال مالك: (لم أزل اسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر المجتمع عليه عندنا، وهو أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة، ولم يسئ إليها، ولم تؤت من قبله، وأحبت فراقه، فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، وإن كان النشوز من قبله بأن يضيق عليها ويضرها رد عليها ما أخذ منها) (1)

ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229)، قال القرطبي: (والآية خطاب للأزواج، نهوا أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بأن ينفرد الرجل بالضرر، وخص بالذكر ما أتى الأزواج نساءهم، لأن العرف بين الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج من يده لها صداقا وجهازا فلذلك خص بالذكر (2)

__________

(1) القرطبي:3/ 139.

(2) القرطبي: 3/ 137.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (222 )

2 ـ أن قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (النساء:20)، وليس فيه ما يوجب نسخ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229) كما زعم المخافون، للوجهين التاليين:

الوجه الأول: أن كل واحدة منهما مقصورة الحكم على حال مذكورة فيها، لأن حظر الخلع إنما هو في النشوز إذا كان من قبله، وأراد استبدال زوج مكان زوج غيرها، وأباحه إذا خافا أن لا يقيما حدود الله، فليس في إحداهما ما يعترض به على الأخرى، ولا يوجب نسخها ولا تخصيصها أيضا، قال ابن عبد البر: (ومن قال بأن قوله {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله} منسوخ بالآيتين، فإن قوله مدفوع بأنه إنما يكون النسخ بالخلاف، ولا خلاف في الآيتين للآية الأخرى، لأنهما إذا خافا ألا يقيما حدود الله، فقد صار الأمر منهما جميعا، والعمل في الآية الأخرى منسوب إلى الزوج خاصة، وذلك إرادته لاستبدال زوج مكان زوج، ولأن الزوجة إذا خافت ألا تقيم حدود الله فاختلعت منه فقد طابت نفسها بما أعطت (1)

وذلك لأن النسخ يستدعي تعارض الأحكام في محل واحد وحالة واحدة، قال الطبري: (إنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة، وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة والمفهوم في العقل والفطرة، وهو من محمود والمنسوخ بمعزل عنه (2)

الوجه الثاني: إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين على

__________

(1) التمهيد:23/ 370.

(2) تفسير الطبري:2/ 473.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (223 )

تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها، وفي ذلك ما يكفي للدلالة على عدم نسخ الآية (1).

4 ـ أن الاستدلال بقول الله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (النساء:19) على عدم صحة الخلع مطلقا، وهو قول ابن سيرين وأبي قلابة كما سنرى، لا يصح، قال ابن عبد البر: (قول ابن سيرين وأبي قلابة عندي ليس بشئ، لأن الفاحشة قد تكون البذاء والأذى، ومنه قيل للبذيئ فاحش ومتفحش، وعلى أنه لو أطلع منها على الفاحشة كان له لعانها، وإن شاء طلقها، وأما أن يضارها حتى تفتدي منه بما لها فليس له ذلك، ولا أعلم أحدا قال له أن يضارها، ويسئ إليها حتى تختلع منه (2)، وقد فسر ابن مسعود وإبن عباس والضحاك وقتادة الفاحشة المبينة في هذه الآية بالبغض والنشوز قالوا: فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها، وقال عطاء الخراساني: (كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك بالحدود (3)

5 ـ جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق، إلا أني أخاف الكفر. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فردتها عليه، وأمره ففارقها. وفي رواية، فقال له: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) (4)، ويقال إنها كانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب ففرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما

__________

(1) تفسير الطبري:2/ 473.

(2) القرطبي: 5/ 96.

(3) القرطبي: 5/ 95.

(4) هذا الحديث ورد بروايات مختلفة كثيرة، سنرى ما تمس إليه الحاجة عند الاستدلال في هذا المبحث، وسنذكر هنا المصادر التي ورد فيها بما يغني عن ذكرها كل حين: البخاري:5/ 2022، مجمع الزوائد: 5/ 4، البيهقي: 7/ 313، الدارقطني: 3/ 254، النسائي: 3/ 369، المجتبى: 6/ 169، ابن ماجة: 1/ 663، سنن سعيد بن منصور: 379، مصنف عبد الرزاق: 6/ 482، أحمد: 2/ 296، 4/ 3، المعجم الكبير: 6/ 103، 11/ 310، 11/ 349، 24/ 211، 24/ 223.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (224 )

بطريق الخلع، فكان أول خلع في الإسلام، كما روي عن ابن عباس قال: أول من خالع في الإسلام أخت عبد الله بن أبى، أتت النبى صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأسه أبدا، إنى رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، إذ هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها، فقال: أتردين عليه حديقته قالت: نعم، وإن شاء زدته، ففرق بينهما.

6 ـ الآثار الواردة عن السلف، قال ابن قدامة: (وهو قول عمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة، لم نعرف لهم في عصرهم مخالفا، فيكون إجماعا) (1)، ومن الآثار الواردة عن الصحابة في ذلك ما روي عن علي، أنه قال: (كلمات إذا قالتهن المرأة حل له أن يأخذ الفدية: إذا قالت له لا أطيع لك أمرا ولا أبر لك قسما ولا أغتسل لك من جنابة)،وعن ابن عباس قال: (تركها إقامة حدود الله استخفاف بحق الزوج وسوء خلقها، فتقول: والله لا أبر لك قسما ولا أطأ لك مضجعا ولا أطيع لك أمرا، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية ولا يأخذ أكثر مما أعطاها شيئا ويخلي سبيلها وإن كانت الإساءة من قبلها)

القول الثاني: حرمة الخلع، وهو قول بعض العلماء من المتقدمين، وقد اختلفوا في نوع الحرمة، هل هي مطلقة أم مقيدة على الآراء التالية:

الرأي الأول: هو محرم مطلقا، وهو قول بكر بن عبد الله المزني وقول عطاء، قال ابن عبد البر: (ولا نعلم أحدا خالفه، إلا بكر بن عبد الله المزني؛ فإنه لم يجزه)، واستدل على ذلك بأن آية الخلع منسوخة بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (النساء:20)

فعن عقبة بن أبي الصهباء قال: سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد منه امرأته الخلع، قال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا، قلت له: يقول الله في كتابه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229) قال: هذه نسخت بقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} (النساء: 20)، وروى أبو عاصم

__________

(1) المغني:7/ 248.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (225 )

عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت إذا كانت له ظالمة مسيئة فدعاها إلى الخلع أيحل له؟ قال: لا، إما أن يرضى فيمسك وإما أن يسرح (1).

الرأي الثاني: أن الخلع محرم إلا في حالة واحدة هي ارتكاب الزوجة للفاحشة، وقد روي عن ابن سيرين وأبي قلابة، واستدلا على ذلك بقول الله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (النساء:19)

الرأي الثالث: أن الخلع لا يحل إلا من الناشز، وهو قول عطاء والزهري وعمرو بن شعيب، فقد روي عن الزهري أنه قال: (لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته شيئا من الفدية حتى يكون النشوز من قبلها: قيل له: وكيف يكون النشوز؟ قال: أن تظهر له البغضاء، وتسيء عشرته، وتظهر له الكراهية، وتعصي أمره، فإذا فعلت ذلك، فقد حل له أن يقبل منها ما أعطاها، لا يحل له أكثر مما أعطاها (2)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذهب إليه جمهور العلماء، بل يكاد يكون إجماعا، وهو أن الخلع من الوسائل المباحة التي شرعها الشارع للتفريق بين الزوجين، وهو قول ينسجم مع الكثيرمن المصالح المعتبرة، فالله تعالى كما جعل الطلاق بيد الرجل في حال عدم قدرته على استمرار العشرة مع زوجته، مع التنازل عن حقوقه المادية التي بذلها لزوجته من نفقة ومهر وغيرها، جعل للمرأة حق التفريق بينها وبين زوجها في حال كون النفور منها، وضريبة ذلك هو إعطاؤها ما قد يغطي عن الزوج بعض الأضرار التي تصيبه من فراقها، وبما قد يتمكن معه من الزواج بامرأة أخرى بدلها.

وبهذا نرى أن حقيقة العصمة وإن كانت بيد الرجل إلا أن للمرأة حقا في حل هذه

__________

(1) تفسير الطبري:2/ 472.

(2) التمهيد:23/ 368، وانظر: سبل السلام: 2/ 244.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (226 )

العصمة بشرط التعويض عن الأضرار التي تصيب الزوج بسبب نفورها منه، بل رأى بعض الفقهاء استحباب ذلك خاصة إذا خشيت على دينها، مثلما فعلت زوجة ثابت بن قيس، جاء في الإنصاف للمرداوي: (إذا كانت المرأة مبغضة للرجل، وتخشى أن لا تقيم حدود الله في حقه فلا بأس أن تفتدي نفسها منه، فيباح للزوجة ذلك والحالة هذه. على الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وجزم الحلواني بالاستحباب، وأما الزوج، فالصحيح من المذهب أنه يستحب له الإجابة إليه، وعليه الأصحاب، واختلف كلام الشيخ تقي الدين رحمه الله في وجوب الإجابة إليه. وألزم به بعض حكام الشام المقادسة الفضلاء) (1)

أما رأي بكر بن عبد الله المزني، فقد قال النحاس: (هذا قول شاذ خارج عن الإجماع لشذوذه، وليست إحدى الآيتين دافعة للأخرى، فيقع النسخ، لأن قوله تعالى: {فإن خفتم} الآية ليست بمزالة بتلك الآية، لأنهما إذا خافا هذا لم يدخل الزوج في {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} (النساء:20) لأن هذا للرجال خاصة) (2)

دوافع الخلع وأحكامهأ

لا تخلو دوافع الخلع من ثلاثة أحوال على ما تقتضيه القسمة العقلية وهي إما أن لا يكون هناك دافع للخلع من كليهما، أو أن يكون الدافع له أحدهما (3)، وهو إما أن يكون الزوج أو الزوجة، وبيان ذلك فيما يلي:

1 ـ الخلع من غير سبب:

اختلف الفقهاء في حكم مخالعة الزوجة لزوجها من غير سبب على قولين:

__________

(1) الإنصاف:8/ 382.

(2) القرطبي: 3/ 140.

(3) ولم نتحدث عن كون الدافع من كليهما لأنه يضم لكون الدافع من الزوج كما سنرى.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (227 )

القول الأول: أنه يكره لها ذلك، فإن فعلت صح الخلع، وهو قول أكثر العلماء منهم أبو حنيفة والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء:4)

2 ـ أن الآية التي احتج بها المخالفون لا حجة فيها، لأن الله تعالىلم يذكرها على جهة الشرط، وإنما ذكرها لأنه الغالب من أحوال الخلع، فخرج القول على الغالب.

القول الثاني: حرمة الخلع من غير سبب، وهو قول ابن المنذر وداود، قال ابن المنذر: وروي معنى ذلك عن ابن عباس وكثير من أهل العلم.

وذهب ابن حزم إلى الحرمة وعدم الصحة إلا في حالتين: إذا كرهت المرأة زوجها، فخافت أن لا توفيه حقه، أو خافت أن يبغضها فلا يوفيها حقها، فلها أن تفتدي في هذه الحالة منه ويطلقها، بشرط تراضيهما. قال ابن حزم: (ولا يحل الافتداء إلا بأحد الوجهين المذكورين، أو باجتماعهما، فإن وقع بغيرهما فهو باطل، ويرد عليها ما أخذ منها، وهي امرأته كما كانت، ويبطل طلاقه ويمنع من ظلمها فقط) (1)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (البقرة:229)، وهو صريح في التحريم إذا لم يخافا إلا يقيما حدود الله، ثم قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229)، فدل بمفهومه على أن الجناح لاحق بهما إذا افتدت من غير خوف، ثم غلظ بالوعيد فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُون} (البقرة:229)

2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق، من غير ما بأس فحرام عليها رائحة

__________

(1) المحلى:9/ 511.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (228 )

الجنة (1)

3 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المختلعات والمنتزعات هن المنافقات) (2)

4 ـ عن عائشة بنت سهل أنها كانت عند ثابت بن قيس بن شماس، فضربها فكسر نغضها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الصبح، فاشتكت إليه فدعا النبى صلى الله عليه وآله وسلم ثابتا فقال: خذ بعض ما لها وفارقها، قال: ويصلح ذلك يا رسول الله قال: نعم قال: فإنى أصدقتها حديقتين، وهما بيدها، فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: (خذها وفارقها)، فأخذهما وفارقها (3)، وهو يدل على سبب الخلع.

5 ـ أنه إضرار بها وبزوجها، وإزالة لمصالح النكاح من غير حاجة، فحرم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) (4)

6 ـ أنه لا يلزم من جواز إعطاء المرأة من مهرها لزوجها في غير عقد، الجواز في المعاوضة؛ بدليل الربا، فقد حرمه الله في العقد وأباحه في الهبة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التشديد على المرأة في كراهة اختلاعها من زوجها إلى درجة التحريم في حال كون ذلك عن هوى مجرد، لا عن سبب دعاها إلى ذلك، وعلى ذلك تدل النصوص التي ساقها أصحاب القول الثاني، قال ابن قدامة: (والحجة مع من حرمه، وخصوص

__________

(1) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، الحاكم: 2/ 218، الدارمي: 2/ 216، البيهقي: 7/ 316، ابن ماجة: 1/ 662، مصنف ابن أبي شيبة: 4/ 112، أحمد: 1/ 323، شعب الإيمان: 4/ 390.

(2) قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي، الترمذي:3/ 492، مجمع الزوائد:5/ 5، البيهقي: 7/ 316، أحمد: 2/ 414، مسند أبي يعلى: 11/ 110.

(3) أخرجه عبد الرزاق (6/ 483، رقم 11759)

(4) أخرجه مالك (2/ 745، رقم 1429)، والشافعى (1/ 224) والدارقطنى (3/ 77)، والحاكم (2/ 66، رقم 2345) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. والبيهقى (6/ 69، رقم 11166) وغيرهم.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (229 )

الآية في التحريم، يجب تقديمه على عموم آية الجواز، مع ما عضدها من الأخبار) (1)

لكن هناك من الأسباب ما لا يمكن التصريح به، فلذلك تصبح الحرمة من المسائل التعبدية المحضة، فلا يصح إحراج المرأة أو إحراج الرجل معها للتعرف على أسبابها، كما لا يسأل الرجل عن سبب تطليقه لزوجته، كما ورد ذلك في الحديث.

ولكن ما يمكن فعله هو وعظ المرأة وتنبيهها إلى حرمة مفارقتها لبيت الزوجية من غير سبب معقول، وترك الخيار بعد ذلك لدينها وورعها حتى لا تفضح أسرار البيوت.

2 ـ الخلع عند ثبوت الضرر من الزوج:

اختلف الفقهاء في حكم الخلع عند ثبوت الضرر من الزوج، كما لو عضلها، وضارها بالضرب والتضييق عليها، أو منعها حقوقها؛ من النفقة، والقسم ونحو ذلك، لتفتدي نفسها منه، ففعلت على قولين (2):

القول الأول: الخلع باطل، والعوض مردود، إلا أن يكون ذلك بسبب نشوزها، ومنعها حقه (3)، وهو قول جماهير العلماء، قال القرطبي: (أجمعوا على تحظير أخذ ما لها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها (4)، وقد روي عن ابن عباس وعطاء ومجاهد والشعبي والنخعي والقاسم بن محمد وعروة وعمرو بن شعيب وحميد بن عبد الرحمن والزهري وبه قال مالك والثوري وقتادة والشافعي وإسحاق وغيرهم، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا

__________

(1) المغني:7/ 248.

(2) المغني:7/ 248.

(3) وقد نص في المغني على أن مثله ما لو آذاها ولا يريد بذلك أن تفتدي نفسها، لأنه لم يعضلها ليذهب ببعض ما آتاها، ومع ذلك فإن عليه إثم الظلم، ولكن هذا يتناقض مع هذا القول لأن أي مؤذ لزوجته لن يبرر إضراره لزوجته بإرادة الخلع وإلا عومل بخلاف مقصوده.

(4) القرطبي: 3/ 137.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (230 )

حُدُودَ اللَّهِ} (البقرة:229)، فقد حرم الله تعالى في هذه الآية أن يؤخذ منها شيء إلا بعد الخوف بألا يقيما حدود الله، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد، والخطاب في الآية للزوجين، وقد اختلف المفسرون في معنى الخوف في الآية، فقيل: هذا الخوف هو بمعنى العلم أي أن يعلما ألا يقيما حدود الله، وقيل: هو من الخوف الحقيقي، وهو الإشفاق من وقوع المكروه وهو قريب من معنى الظن (1).

2 ـ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (النساء:19)، وقد قرن النهي عن العضل (2) بما كانوا عليه في الجاهلية من إرث المرأة لبينان شناعة هذا الفعل.

3 ـ أنه عوض أكرهن على بذله بغير حق، فلم يستحق، كالثمن في البيع، والأجر في الإجارة.

القول الثاني: العقد صحيح، والعوض لازم، وهو آثم عاص، وهو قول أبي حنيفة، قال أبو الحسن بن بطال وروى ابن القاسم عن مالك مثله (3)، ومن الأدلة على ذلك ما ورد في حديث حبيبة، أنها كانت تحت ثابت بن قيس، فضربها فكسر ضلعها، فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثابتا، فقال: خذ بعض مالها، وفارقها ففعل.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، وهو الذي تدل عليه النصوص، ويتوافق مع المصالح الشرعية، لأن الخلع لو تم بعد حصول الإذية من الرجل كان في ذلك ذريعة لكل من

__________

(1) انظر: القرطبي:3/ 137.

(2) أصل العضل التضييق والحبس، ومنه عضلت المرأة بولدها عسر عليها كأعضلت فهي معضل ومعضل، ويقال عضل المرأة يعضلها منعها الزوج ظلما وعضلت الأرض بأهلها غصت، روح المعاني: 4/ 241.

(3) القرطبي: 3/ 137، وقال ابن القاسم: وليس من الإضرار البغض لها وإنما الأذى بضرب، أو إيصال شتم في غير حق، أو أخذ مال أو المشاورة، شرح ميارة:1/ 194.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (231 )

يريد أن يطلق زوجته، ويسترد مهره، ويتخلص من الحقوق الواجبة عليه، بل مثل هذا تطلق زوجته لإضراره بها مع تكليفه بالحقوق الواجبة عليه كما سنرى في الفصل التالي.

وقد نص الفقهاء في هذا على أنها إذا خالعته، ثم ادعت أنها إنما خالعته لظلمه لها في بدنها، أو لضرره بها كما لو كان يمنعها من زيارة والديها على أن الظلم والضرر كما كالمترادفين فإن أثبتت ذلك، فلها استرجاع مالها وينفذ الطلاق بائنا لأن الله تعالى شرط في حلية ما تدفعه أن يكون عن طيب نفس فقال عز من قائل {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء:4)

وقد شدد ابن المنذر النكير على أصحاب القول الثاني قائلا: (وهذا من قوله خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف الخبر الثابت عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وخلاف ما أجمع عليه عامة أهل العلم من ذلك، ولا أحسب أن لو قيل لأحد أجهد نفسك في طلب الخطإ ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق الكتاب بتحريم شئ لم يقابله مقابل بالخلاف نصبا، فيقول بل يجوز ذلك ولا يجبر على رد ما أخذ) (1)

3 ـ الخع عند ثبوت الضرر من الزوجة

اختلف الفقهاء فيما لو ثبت الضرر من الزوجة، بأن أتت بفاحشة مثلا، فعضلها زوجها لتفتدي نفسها منه، ففعلت، هل يصح الخلع أم لا على قولين:

القول الأول: يصح الخلع، وهو قول جمهور الفقهاء، واستدلوا على ذلك بآيتين من القرآن الكريم فيهما الغنى، هما:

الآية الأولى: قول الله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (النساء:19)، والاستثناء من النهي إباحة، وهذه الآية من أصول الآيات التي تحفظ بها حقوق المرأة في الإسلام، وهي في تركيبها المعجز تحمل المعاني الكثيرة، والتي يذكرها البعض كخلاف تفسيري أو فقهي، ونذكرها هنا كمعان تحتملها الآية كما تحتمل غيرها، وسنقتصر منها على موضع الدلالة، فالنهي عن العضل موجه إما للأزواج أو للأولياء أو للورثة،

__________

(1) القرطبي: 3/ 137.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (232 )

ومما يتعلق بالاستشهاد هنا هو كونه خطابا للأزواج، ومن معاني العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال (1):

1 ـ أن الرجل كان يكره صحبة امرأته، ولها عليه مهر فيحبسها ويضربها لتفتدي، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي.

2 ـ أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ويشهد على ذلك فاذا خطبت فأرضته أذن لها وإلا عضلها قاله ابن زيد.

3 ـ أنهم كانوا بعد الطلاق يعضلون كما كانت الجاهلية تفعل فنهوا عن ذلك روي عن ابن زيد أيضا.

وقيل في الفاحشة قولان:

1 ـ أنها النشوز على الزوج، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة في جماعة.

2 ـ أنه الزنى قاله الحسن وعطاء وعكرمة في جماعة، وقد روى معمر عن عطاء الخراساني قال كانت المرأة إذا أصابت فاحشة أخذ زوجها ماساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحد.

الآية الثانية: قول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه} (البقرة:229)، وهي متى زنت، لم يأمن أن تلحق به ولدا من غيره، وتفسد فراشه، فلا تقيم حدود الله في حقه.

القول الثاني: لا يصح الخلع، وهو أحد قولي الشافعي، لأنه عوض أكرهت عليه، فأشبه ما لو لم تزن.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول ففي الآيتين المذكورتين الغنى في الدلالة،

__________

(1) انظر: زاد المسير: 2/ 40.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (233 )

فالضرر هنا من الزوجة، فلذلك كان للزوج الحق في استرجاع ما أعطاها مقابل تسريحها، ولكن هذا متوقف على أن تكون قد أتت حقا بالفاحشة التي تبيح له أخذ مالها، وقد قال الطبري في تأويلها: (وأولى ما قيل في تأويل قوله إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أنه معني به كل فاحشة من بذاءة باللسان على زوجها وأذى له وزنا بفرجها، وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (النساء:19) كل فاحشة مبينة ظاهرة، فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنا أو نشوز فله عضلها على ما بين الله في كتابه والتضييق عليها حتى تفتدي منه بأي معاني فواحش أتت بعد أن تكون ظاهرة مبينة) (1)

ويدل عليه من السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الله في النساء فانكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (2)

قال الطبري تعليقا على هذا الحديث: (فبين أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره وأمكنت من جماعها سواه أن له منعها من الكسوة والرزق بالمعروف مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف، وإذا كان ذلك له فمعلوم أنه غير مانع لها بمنعه إياها ماله منعها حقا لها واجبا عليه، وإذا كان ذلك كذلك فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها فأخذ منها زوجها ما أعطته أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح، وإذ كان ذلك كذلك كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (النساء:19)، وإذ صح ذلك تبين فساد قول من قال {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ

__________

(1) الطبري: 4/ 311.

(2) أخرجه أحمد (5/ 72، رقم 20714) قال الهيثمى (3/ 266): رواه أحمد وأبو حرة الرقاشى وثقه أبو داود وضعفه ابن معين، وفيه على بن زيد وفيه كلام..

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (234 )

بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} منسوخ بالحدود، لأن الحد حق الله تعالى على من أتى بالفاحشة التي هي زنا، وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه فحق لزوجها، كما عضله إياها وتضييقه عليها، إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه حق له وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر) (1)

وقت الخلع

اتفق الفقهاء على أن وقت الخلع لا يعرض له ما يعرض للطلاق من السنية والبدعية، فلذلك نص الفقهاء على أنه لا بأس بالخلع في الحيض (2) والطهر الذي أصابها فيه؛ لأن المنع من الطلاق في الحيض من أجل الضرر الذي يلحقها بطول العدة، والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه، وهو أعظم من ضرر طول العدة، فجاز دفع أعلاهما بأدناهما، ولذلك لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المختلعة عن حالها، ولأن ضرر تطويل العدة عليها، والخلع يحصل بسؤالها، فيكون ذلك رضاء منها به، ودليلا على رجحان مصلحتها فيه (3).

وقد تعقب بعضهم الاستدلال بعدم استفسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم المختلعة عن حالها، فقال: (أما استدلاله ففيه نظر، لأن في رواية الشافعي وغيره أنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، وبابه الذي يخرج منه إلى المسجد من لازم من يجيء إليه أن يدخل المسجد، ففي دخولها المسجد دليل على كونها طاهرا غير حائض)

قال ابن حجر معقبا على هذا: (هكذا بحث المخرج تبعا لغيره، وفيه نظر لا يخفى على ذي فهم، بل لا يلزم من إطلاق الإذن بالنسبة إلى زمن السنة والبدعة، عمومه في الحالتين، وأيضا

__________

(1) الطبري: 4/ 312.

(2) خالف في ذلك بعض المالكية، ففي التاج:) قال ابن شاس: الخلع في الحيض لا يجوز وقد قيل: إنه يجوز برضاها وعلى هذا يجوز برضاها دون خلع. ابن عرفة: لا أعرف من نقل الجواز (التاج والإكليل: 5/ 304.

(3) المغني:7/ 247، الفتاوى الكبرى:3/ 287، البحر الزخار: 4/ 152، البحر الرائق: 3/ 257، تحفة المحتاج: 7/ 497، شرائع الإسلام: 3/ 40، مطاب أولى النهي: 5/ 339.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (235 )

فإطلاق الإذن في الاختلاع يعارضه إطلاق المنع من طلاق الحائض، فبينهما عموم وخصوص وجهي فتعارضا) (1)

نوع الفرقة في الخلع

اختلف الفقهاء في نوع الفراق الحاصل بالخلع على قولين:

القول الأول: إن الخلع بعوض فسخ بأي لفظ كان، ولو وقع بصريح الطلاق، وليس من الطلاق الثلاث، وهو قول ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأبي ثور ورواية عن أحمد، قال ابن تيمية: (وهذا هو المنقول عن عبد الله بن عباس وأصحابه وعن الإمام أحمد وقدماء أصحابه لم يفرق أحد من السلف ولا أحمد بن حنبل ولا قدماء أصحابه في الخلع بين لفظ ولفظ لا لفظ الطلاق ولا غيره، بل ألفاظهم كلها صريحة في أنه فسخ بأي لفظ كان، قال عبد الله: رأيت أبي يذهب إلى قول ابن عباس وابن عباس صح عنه أنه كل ما أجازه المال فليس بطلاق، والذي يقتضيه القياس أنهما إذا طلقها لنكاح ثبت صداق المثل فهكذا الخلع وأولى) (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن الله تعالى لما قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229)، ثم عقب ذلك بقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} إلى أن قال في نسق التلاوة {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (البقرة:230)، فأثبت الثالثة بعد الخلع، دل ذلك على أن الخلع ليس بطلاق؛ إذ لو كان طلاقا لكانت هذه رابعة؛ لأنه ذكر الخلع بعد التطليقتين ثم ذكر الثالثة بعد الخلع.

2 ـ أنها فرقة خلت عن صريح الطلاق ونيته، فكانت فسخا كسائر الفسوخ.

3 ـ أنه لا يصح ما نقل خلاف ذلك عن الصحابة، قال ابن تيمية: (ونقل عن طائفة

__________

(1) تلخيص الحبير:3/ 419.

(2) الفتاوى الكبرى:5/ 485.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (236 )

من الصحابة؛ لكن لم يثبت عن واحد منهم، بل ضعف أحمد بن حنبل وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم جميع ما روي في ذلك عن الصحابة) (1)

القول الثاني: أنه طلقة بائنة، وقد روي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وقبيصة، وشريح ومجاهد وأبي سلمة بن عبد الرحمن والنخعي والشعبي والزهري ومكحول وابن أبي نجيح، ومالك والأوزاعي والحنفية، ورواية عن أحمد، قال الجصاص: (وهو قول فقهاء الأمصار لا خلاف بينهم فيه) (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن ما استدلوا به من القرآن الكريم لا يصح، وذلك لأن قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} (البقرة: 229) أفاد حكم الاثنين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع، وأثبت معهما الرجعة بقوله تعالى: {فإمساك بمعروف}، ثم ذكر حكمهما إذا كانتا على وجه الخلع، وأبان عن موضع الحظر والإباحة فيهما، والحال التي يجوز فيها أخذ المال أو لا يجوز، ثم عطف على ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (البقرة:230) فعاد ذلك إلى الاثنتين المقدم ذكرهما على وجه الخلع تارة وعلى غير وجه الخلع أخرى، فليس في الآيات دلالة على أن الخلع بعد الاثنتين، ثم الرابعة بعد الخلع.

وقد بالغ ابن العربي في الإنكار على الوجه الذي فسر به أصحاب القول الأول الآية، فقال: (ولا يفهم هذا إلا غبي أو متغاب؛ لأن الله تعالى قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229)، فإن وقع شيء من هذا الطلاق بعوض كان ذلك راجعا إلى الأولى والثانية دون الثالثة التي هي {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} حسبما تقدم؛ فلا جناح عليه فيه، فإن طلقها ثالثة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره كان بفدية أو

__________

(1) الفتاوى الكبرى:3/ 271.

(2) الجصاص: 1/ 539.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (237 )

بغير فدية) (1)

2 ـ عن سعيد بن المسيب قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخلع تطليقة.

3 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم لثابت بن قيس حين نشزت عليه امرأته: خل سبيلها، وفي بعض الألفاظ: فارقها، بعدما قال للمرأة: ردي عليه حديقته، قال: قد فعلت. ومعلوم أن من قال لامرأته: قد فارقتك، أو قد خليت سبيلك، ونيته الفرقة، أنه يكون طلاقا، فدل ذلك على أن خلعه إياها بأمر الشارع كان طلاقا.

4 ـ أما ما روي عن ابن عباس فإن لايصح، فعن عبد الملك بن ميسرة قال: سأل رجل طاوسا عن الخلع، فقال: ليس بشيء؛ فقلت: لا تزال تحدثنا بشيء لا نعرفه فقال: والله لقد جمع ابن عباس بين امرأة وزوجها بعد تطليقتين وخلع، قال الجصاص: (ويقال: هذا مما أخطأ فيه طاوس، وكان كثير الخطإ مع جلالته وفضله وصلاحه يروي أشياء منكرة، منها أنه روى عن ابن عباس أنه قال: من طلق ثلاثا كانت واحدة، قالوا: وكان أيوب يتعجب من كثرة خطإ طاوس، وذكر ابن أبي نجيح عن طاوس أنه قال: الخلع ليس بطلاق، قال: فأنكره عليه أهل مكة، فجمع ناسا منهم واعتذر إليهم وقال: إنما سمعت ابن عباس يقول ذلك (2).

5 ـ أنه لا خلاف أنه لو قال لها: قد طلقتك على مال، أو قد جعلت أمرك إليك بمال كان طلاقا، وكذلك لو قال لها: قد خلعتك بغير مال، يريد به الفرقة كان طلاقا، كذلك إذا خلعها بمال.

6 ـ أنه لا يصح قياس الخلع على الإقالة في البيع، لأنه لا خلاف في جواز الخلع بغير مال وعلى أقل من المهر، والإقالة لا تجوز بالثمن الذي كان في العقد، ولو كان الخلع فسخا

__________

(1) أحكام القرآن لابن العربي:1/ 264..

(2) الجصاص:1/ 539.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (238 )

كالإقالة لما جاز إلا بالمهر الذي تزوجها عليه.

7 ـ أن في اتفاق الجميع على جوازه بغير مال وبأقل من المهر دلالة على أنه طلاق بمال، وأنه ليس بفسخ، وأنه لا فرق بينه وبين قوله قد طلقتك على هذا المال.

8 ـ أنها بذلت العوض للفرقة، والفرقة التي يملك الزوج إيقاعها هي الطلاق دون الفسخ، فوجب أن يكون طلاقا.

9 ـ أنه أتى بكناية الطلاق، قاصدا فراقها، فكان طلاقا، كغير الخلع.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة من باب رعاية المقاصد الشرعية من تضييق منافذ الطلاق وإتاحة الفرص للرجعة هو اعتباره فسخا لا طلاقا، لأنا إذا اعتبرناها طلقة، فخالعها مرة، حسبت طلقة، فنقص بها عدد طلاقها، وإن خالعها ثلاثا طلقت ثلاثا، فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره. وإن قلنا: هو فسخ، لم تحرم عليه، وإن خالعها مائة مرة.

زيادة على ذلك، فإن القول باعتباره فسخا ينسجم مع ما ذكرنا من أن الخلع هو الطلاق الخاص بالمرأة، فلذلك لا يصح أن ينقص من فرص تطليق الرجل، كما لا ينقص تفريق الحاكم ذلك.

طلاق المختلعة

اختلف الفقهاء في أثر تطليق المختلعة في فترة عدتها على القول بأن الفرقة طلاق، كما ذكرنا الخلاف في المسألة السابقة، على قولين:

القول الأول: يلحقها الطلاق الصريح المعين، دون الكناية والطلاق المرسل، وهو أن يقول: كل امرأة لي طالق، وقد روي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب، وشريح، وطاوس، والنخعي والزهري والحكم وحماد، والثوري، وهو قول الحنفية، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن الله تعالى شرع صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق، فقد قال تعالى في نسق

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (239 )

التلاوة: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} (البقرة:230) عطفا على ما تقدم ذكره، وقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (البقرة:229) فأباح لهما التراجع بعد التطليقة الثالثة بشريطة زوال ما كانا عليه من الخوف لترك إقامة حدود الله (1).

2 ـ رووا حديثا في ذلك هو: (المختلعة يلحقها الطلاق، ما دامت في العدة) (2)

3 ـ أنه جائز أن يندما بعد الفرقة ويحب كل واحد منهما أن يعود إلى الألفة، فدل ذلك على أن هذه الثالثة مذكورة بعد الخلع.

القول الثاني: لا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق، ولو واجهها به، وهو قول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة، وجابر بن زيد، والحسن، والشعبي ومالك، والشافعي، وإسحاق وأبي ثور، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه لا يصح استدلال المخالفين بالآية لأن معناها فإن طلقها ولم تعتد، لأنه شرع قبل الابتداء بطلاقين فيكون الابتداء ثالثة، ولا طلاق بعدها ليكون مرتبا عليها، ويكون معقبا به، فالصريح المذكور على سبيل المعاقبة معناه إن لم يكن فداء ولكن كان صريحا، وذلك لأن الله تعالى شرع طلقتين صريحتين، ثم ذكر بعدهما إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان، إما بالترك لتبين، وإما بالطلقة الثالثة، فيكون تمليكا للثالثة؛ فإن افتدت فلا جناح عليها فيه، وإن لم تفتد وطلقها كان كذلك، كما أخبر به، فيكون بيانا لكيفية التصرف فيما بقي من ملك الثالثة (3).

2 ـ أن الحديث الذي استدل به المخالفون لا أصل له.

__________

(1) الجصاص:1/ 539.

(2) قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع لا أ صل له، التحقيق في أحاديث الخلاف: 2/ 295.

(3) أحكام القرآن لابن العربي:1/ 264.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (240 )

3 ـ أنه قول ابن عباس وابن الزبير، ولا نعرف لهما مخالفا في عصرهما.

4 ـ أنها لا تحل له إلا بنكاح جديد، فلم يلحقها طلاقه، كالمطلقة قبل الدخول، أو المنقضية عدتها.

5 ـ أنها ليست زوجته، فلم يلحقها طلاقه، كالأجنبية، قال الشافعي مبينا القاعدة في هذا ومثله: (إذا خالعها ثم طلقها في العدة لم يقع عليها الطلاق لأنها ليست بزوجة ولا في معاني الأزواج بحال بأن يكون له عليها رجعة ولا تحل له إلا بنكاح جديد كما كانت قبل أن ينكحها، وكذلك لو آلى منها أو تظاهر أو قذفها لم يقع عليه إيلاء ولا ظهار ولا لعان إن لم يكن ولد ولو ماتت أو مات لم يتوارثا، وإنما قلت هذا بدلالة كتاب الله عز وجل لأن الله تعالى حكم بهذه الأحكام الخمسة من الإيلاء والظهار واللعان والطلاق والميراث بين الزوجين، فلما عقلنا عن الله تعالى أن هذين غير زوجين لم يجز أن يقع عليها طلاقه (1)

6 ـ أنها لا يقع بها الطلاق المرسل، ولا تطلق بالكناية، فلا يلحقها الصريح المعين، كما قبل الدخول. ولا فرق بين أن يواجهها به، فيقول: أنت طالق. أو لا يواجهها به، مثل أن يقول: فلانة طالق.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة بناء على ما سبق من تضييق باب الطلاق هو عدم صحة طلاق المختلعة في فترة عدتها لسببين:

1 ـ أنه لغو محض، فالمرأة تبين من زوجها بالخلع ولا حاجة بعده لإيقاع الطلاق، فيصير بذلك الطلاق كاتخاذ آيات الله هزوا، لاستعماله لغير ما شرع له.

2 ـ أنه ضرر محض، فهو ينقص من الفرص التي أتاحها الشارع للزوجين للرجعة من غير سبب معقول.

__________

(1) الأم: 5/ 213.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (241 )

رجعة المختلعة

اختلف الفقهاء في ثبوت الرجعة للزوج بعد اختلاع زوجته على الأقوال التالية:

القول الأول: لا يثبت في الخلع رجعة، وقد اتفق على القول بهذا من اعتبر الخلع فسخا أو طلاقا، وهو قول جمهور العماء، قال ابن قدامة: (هو قول أكثر أهل العلم؛ منهم الحسن وعطاء وطاوس والنخعي والثوري والأوزاعي ومالك والشافعي وإسحاق)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قوله تعالى: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229) وإنما يكون فداء إذا خرجت به عن قبضته وسلطانه، وإذا كانت له الرجعة، فهي تحت حكمه.

2 ـ أن القصد إزالة الضرر عن المرأة، فلو جاز ارتجاعها، لعاد الضرر.

القول الثاني: الزوج بالخيار بين إمساك العوض ولا رجعة له، وبين رده وله الرجعة، وقد روي عن الزهري وسعيد بن المسيب، وهو قول ابن حزم، قال في بيان علة قوله: (قد بين الله تعالى حكم الطلاق، وأن {َبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (البقرة:228)، قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} (الطلاق:2) فلا يجوز خلاف ذلك، وما وجدنا قط في دين الإسلام عن الله تعالى، ولا عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم طلاقا بائنا لا رجعة فيه، إلا الثلاث مجموعة أو مفرقة، أو التي لم يطأها، ولا مزيد، وأما عدا ذلك فآراء لا حجة فيها، وأما رده ما أخذ منها فإنما أخذه لئلا تكون في عصمته، فإذا لم يتم لها مرادها فمالها الذي لم تعطه إلا لذلك، مردود عليها، إلا أن يبين عليها أنها طلقة له الرجعة فيها، فترضى، فلا يرد عليها شيئا) (1)

القول الثالث: إن كان الخلع بلفظ الطلاق فله الرجعة، وهو قول أبي ثور، لأن الرجعة؛ من حقوق الطلاق، فلا تسقط بالعوض، كالولاء مع العتق.

الترجيح:

__________

(1) المحلى: 9/ 519.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (242 )

نرى أن الأرجح في المسألة والذي تدل عليه النصوص، ويتفق مع المقاصد الشرعية هو القول الأول، لأن القولين الآخرين يلغيان الخلع، بل يجعلانه وسيلة من وسائل التلصص على مال الزوجة، فالزوج على اعتبار القولين الثاني والثالث يقبلان الخلع ويقبضان المال، ثم ينكثانه بالرجعة.

ومثل هذا الحكم ليس خاصا بالخلع فقط، بل هو جار في كل الأحكام الشرعية، قال العز ابن عبد السلام ضاربا بعض الأمثلة على ذلك: (الإسقاط بالأعواض كإسقاط حق الزوج من البضع بالخلع أو بالطلاق على مال، وكالصلح عن الدين فإنه يسقطه عن المدين ولا ينقله إليه، وكذلك العتق على مال، وبيع العبد من نفسه فإنه يسقط الملك، ولا ينقله إلى الرقيق، وكذلك الصلح عن القصاص في النفوس والأطراف فإنه يسقط القصاص عن الجاني ولا ينقله إليه، فيقع بهذه التصرفات النقل في أحد الجانبين والإسقاط من الآخر. وأما مقابلة الإسقاط عند تساوي الديون في باب التقاص فلا نقل فيه من الجانبين ولا من أحدهما، وإنما هو سقوط في مقابلة سقوط إذا لم يشترط الرضا أو إسقاط في مقابلة إسقاط ما لها عليه في ذمته، ولا يقابل إسقاط حد القذف بشيء من الأعواض على الأصح) (1)

حكم التراجع عن الخلع

اتفق الفقهاء على أنه الخلع إن تم وفق الضوابط الشرعية، فليس لأحدهما أن يتراجع عن إمضائه (2)، ولكن إن شرط في الخلع أن له الرجعة، فقد اختلف الفقهاء في صحة هذا الشرط واعتباره على قولين (3):

__________

(1) قواعد الأحكام:2/ 83.

(2) لكن نص الإمامية على أنه إذا صح الخلع، فلا رجعة له، ولها الرجوع في الفدية، ما دامت في العدة، ومع رجوعها يرجع إن شاء، شرائع الإسلام:3/ 42، وهو قول حسن لأن المرأة هي المختلعة فتصح رجعتها إذا رضي الزوج، بخلاف رجعته هو.

(3) المغني:7/ 252.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (243 )

القول الأول: يبطل الشرط، ويصح الخلع، وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك، ورواية عن أحمد، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن الخلع لا يفسد بكون عوضه فاسدا، فلا يفسد بالشرط الفاسد، كالنكاح.

2 ـ أنه لفظ يقتضي البينونة، فإذا شرط الرجعة معه، بطل الشرط، كالطلاق الثلاث.

القول الثاني: يبطل الخلع وتثبت الرجعة، وهو قول الشافعي، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن شرط العوض والرجعة متنافيان، فإذا شرطاهما سقطا، وبقي مجرد الطلاق فتثبت الرجعة بالأصل لا بالشرط.

2 ـ أنه شرط في العقد ما ينافي مقتضاه، فأبطله، كما لو شرط أن لا يتصرف في المبيع.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة عدم اعتبار ذلك الشرط لمنافاته للخلع، فلذلك يصح الخلع، ويفسد الشرط، مع ضرورة تبيين هذا الحكم للمختلع نفيا للضرر عنه، فقد يقبل بفدية قليلة مع اشتراط هذا الشرط، ثم يفاجأ بعدها بإلغاء شرطه، وفي هذه الحالة ـ أي عند حصول الغرر ـ نرى أن يؤخذ بالقول الثاني، لأنه كما أن للزوجة الحق في الاختلاع، فإن للزوج الحق في التبين ونفي الغرر.

من يتولى التفريق

اختلف الفقهاء في من يتولى التفريق في الخلع على قولين:

القول الأول: أن الحاكم هو الذي يتولى التفريق، وهو قول سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين، قال شعبة قلت لقتادة: عمن أخذ الحسن الخلع إلى السلطان، قال: عن زياد وكان واليا لعمر وعلي، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قراءة حمزة إلا أن يخافا بضم الياء على ما لم يسم فاعله والفاعل محذوف وهو الولاة والحكام واختاره أبو عبيد.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (244 )

2 ـ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} (البقرة:229)،فجعل الخوف لغير الزوجين، ولو أراد الزوجين لقال: {فإن خافا}

القول الثاني: أن الرجل إذا خالع امرأته فإنما هو على ما يتراضيان به ولا يجبره السلطان على ذلك، وهو قول الجمهور من العلماء، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن ما استدلوا به لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ، ولا المعنى، أما الإعراب فإن عبد الله بن مسعود قرأ إلا أن يخافا تخافوا، فهذا في العربية إذا رد إلى ما لم يسم فاعله قيل: إلا أن يخاف، وأما اللفظ فإن كان على لفظ يخافا وجب أن يقال: فإن خيف، وإن كان على لفظ) فإن خفتم (وجب أن يقال) إلا أن تخافوا (وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال: (لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخاف غيركم (ولم يقل تعالى: (فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية فيكون الخلع إلى السلطان (1)

2 ـ أنه صح عن عمر وعثمان وابن عمر جوازه دون السلطان.

3 ـ أنه كما جاز الطلاق والنكاح دون السلطان فكذلك الخلع.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن لولي الأمر الحق في تلبية طلب المرأة الاختلاع من زوجها إن تيقن أن ذلك في مصلحتها، لأن الزوج قد يرفض أي عرض تقدمه زوجته لاختلاعها، ويؤذيها بذلك، فيسد عليها الباب الذي فتحه الشرع لها، ويدل على هذا حديث ثابت بن قيس لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرق بينها وبين زوجها بطلبها، وكان صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك يتولى ولاية أمر المسلمين.

زيادة على أن في تدخل ولي الأمر سدا لذريعة المساومات التي قد يغالي الزوج فيها لتلبية طلب الزوجة بالخلع.

__________

(1) القرطبي:3/ 138.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (245 )

ثانيا ـ أركان الخلع وضوابطهأ

اختلف الفقهاء في تصنيف أركان الخلع على طريقتين:

الطريقة الأولى: طريقة الجمهور غير الحنفية، وهي اعتبار خمسة أركان للخلع، وهي: الموجب، والقابل، والمعوض، والعوض، والصيغة، فالموجب هو الزوج أو وليه، والقابل هو الملتزم للعوض، والمعوض هو الاستمتاع بالزوجة، والعوض هو الشيء المخالع به، والصيغة هي الإيجاب والقبول والألفاظ التي يقع بها الخلع.

الطريقة الثانية: طريقة الحنفية، وقد ذكروا له ركنين إن كان بعوض، وهما: الإيجاب والقبول، لأنه عقد على الطلاق بعوض، فلا تقع الفرقة ولا يستحق العوض بدون القبول، بخلاف الخلع بغير عوض فإنه إذا قال خالعتك ولم يذكر العوض، ونوى الطلاق فإنه يقع الطلاق عليها، سواء قبلت أو لم تقبل؛ لأن ذلك طلاق بغير عوض فلا يفتقر إلى القبول.

الركن الأول: موجب الخلع

وهو الزوج، وقد اتفق الفقهاء على أنه يشترط فيه نفس شروط من يملك التطليق، وقد تحدثنا عن تلك الشروط وما يتعلق بها في الفصل الخاص بمن يقع منه الطلاق، وسنذكر هنا بعض النقول عن المذاهب الفقهية المشتهرة في شروط الموجب، وسبب قياسه على المطلق:

فقد نصت المذاهب الأربعة على ذلك: قال ابن قدامة: (كل زوج صح طلاقه، صح خلعه؛ لأنه إذا ملك الطلاق، وهو مجرد إسقاط من غير تحصيل شيء، فلأن يملكه محصلا للعوض أولى (1)، وفي المدونة: (قلت: أرأيت طلاق المكره ومخالعته قال: مالك: لا يجوز طلاق المكره فمخالعته مثل ذلك عندي (2)، وقال الشافعي: (ولا يجوز خلع زوج حتى

__________

(1) المغني:7/ 269.

(2) المدونة:2/ 79.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (246 )

يجوز طلاقه، وذلك أن يكون بالغا غير مغلوب على عقله، فإذا كان غير مغلوب على عقله فخلعه جائز محجورا عليه كان أو رشيدا أو ذميا أو مملوكا من قبل أن طلاقه جائز، فإذا جاز طلاقه بلا شيء يأخذه كان أخذه ما أخذ عليه فضلا أولى أن يجوز من طلاقه بلا شيء وهو في الخلع كالبالغ الرشيد) (1)

ونص الإمامية على أنه يعتبر في الخالع شروط أربعة هي: البلوغ، وكمال العقل، والاختيار، والقصد. فلا يقع مع الصغر، ولا مع الجنون، ولا مع الإكراه، ولا مع السكر، ولا مع الغضب الرافع للقصد. ولو خالع ولي الطفل بعوض صح، إن لم يكن طلاقا، وبطل مع القول بكونه طلاقا (2).

ونص الزيدية على أن من صح طلاقه صح خلعه، ومن لا فلا (3).

ونص الإباضية على أنه يجوز (الفداء والخلع من مريضين ومعتلين، والشيخ الفاني والعجوز وقائم عليه البحر في سفينة، ومحيط به حريق أو ماء، ومشرف على موت بجوع أو عطش أو حر أو برد أو بغير ذلك، وحامل ومصلوب ومجروح، وكل من ترجع أفعاله للثلث بخوف الموت عليه ما عقل، ومحرم بحج أو عمرة أو بهما، أو معتكف كالطلاق، ولزمت السكران من طلاق وفداء وغيرهما ما عقل، إلا إن زال عقله، وقيل: لزمه الطلاق ولو زال) (4)

واتفق الفقهاء على أن خلع الزوج المريض مرض الموت جائز ونافذ، سواء أكان بمهر المثل أم أقل منه؛ لأنه لو طلق بغير عوض لصح، فلأن يصح بعوض أولى؛ ولأن الورثة لا يفوتهم بخلعه شيء.

__________

(1) الأم:5/ 314.

(2) شرائع الإسلام:3/ 40.

(3) البحر الزخار:4/ 181.

(4) شرح النيل:7/ 281.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (247 )

وقد اتفقوا على أنه لا توارث بينهما سواء أمات في العدة أم بعدها وخالف ذلك المالكية (1) فنصوا على أن زوجته المطلقة في المرض ترثه إن مات من مرضه المخوف الذي خالعها فيه، ولو خرجت من العدة وتزوجت غيره ولو أزواجا، أما هو فلا يرثها إن ماتت في مرضه المخوف الذي طلقها فيه، ولو كانت هي مريضة أيضا؛ لأنه الذي أسقط ما كان بيده، ففي المدونة: (قلت: أرأيت إن اختلعت منه في مرضه فمات من مرضه ذلك أترثه في قول مالك أم لا؟ قال: قال مالك: نعم، ترثه. قلت: وكذلك إن جعل أمرها بيدها أو خيرها فطلقت نفسها وهو مريض أترثه في قول مالك؟ قال: قال مالك: نعم ترثه. قلت: ولم وهو لم يفر منها إنما جعل ذلك إليها ففرت بنفسها؟ قال: قال مالك: كل طلاق وقع في مرض فالمبارأة للمرأة إذا مات من ذلك المرض وبسببه كان ذلك لها) (2)

ونص الحنفية على أنه لو خلعها أجنبي من الزوج بمال ضمنه للزوج، وكان ذلك في مرض موت الأجنبي جاز، ويعتبر البدل من ثلث مال الأجنبي، فلو كان الزوج مريضا حين تبرع الأجنبي بخلعها، فلها الإرث لو مات الزوج من مرضه ذلك، وهي في العدة لأنها لم ترض بهذا الطلاق فيعتبر الزوج فارا (3).

ولو أوصى الزوج لها بمثل ميراثها أو أقل صح؛ لأنه لا تهمة في أنه أبانها ليعطيها ذلك فإنه لو لم يبنها لأخذته بميراثها، وإن أوصى لها بزيادة عليه فللورثة منعها ذلك؛ لأنه اتهم في أنه قصد إيصال ذلك إليها؛ لأنه لم يكن له سبيل إلى إيصاله إليها وهي في عصمته، فطلقها ليوصل ذلك إليها فمنع منه كما لو أوصى لوارث.

__________

(1) هذا على المشهور، ومقابله ما روي عن مالك من عدم إرثها لانتفاء التهمة لكونها طالبة للفراق، بلغة السالك:2/ 527.

(2) المدونة:2/ 254.

(3) البحر الرائق:4/ 80.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (248 )

الركن الثاني: ملتزم العوض في الخلع

يشترط في المرأة التي تبذل الخلع الشروط التالية، على اختلاف بين الفقهاء في اعتبار بعضها:

1 ـ القدرة على التصرف في مالها:

وقد اختلف الفقهاء في اشتراط كون قابل الخلع مطلق التصرف في المال أم لا على الأقوال التالية:

القول الأول: اعتبار هذا الشرط، وهو مذهب الجمهور، فلذلك إذا بلغت رشيدة وحجر عليها لم يصح خلعها، ولو خالعها بلفظ الخلع فإن كان بعد الدخول طلقت رجعيا، وإن كان قبله طلقت بائنا ولا مال له، ولغا ذكر المال؛ لأنها ليست من أهل التزامه وإن أذن لها الولي، وإن لم يحجر عليها يصح.

وقد لخص الشافعي مذهبه في ذلك بقوله: (جماع معرفة ما يجوز خلعه من النساء أن ينظر إلى كل من جاز أمره في ماله، فنجيز خلعه، ومن لم يجز أمره في ماله فنرد خلعه، فإن كانت المرأة صبية لم تبلغ، أو بالغا ليست برشيدة، أو محجورا عليها، أو مغلوبة على عقلها، فاختلعت من زوجها بشيء قل أو كثر، فكل ما أخذ منها مردود عليها، وما طلقها على ما أخذ منها واقع عليها، وهذا يملك الرجعة فإذا بطل ما أخذ ملك الرجعة في الطلاق الذي وقع به إلا أن يكون طلقها ثلاثا أو تطليقة لم يكن بقي له عليها غيرها) (1)

ونص المالكية على أنه إذا كانت مالكة أمر نفسها، فإن كانت محجورا عليها بأب، أو وصي، أو سيد يحجر على أمته، فإنه لا يصح خلعها، فإن وقع الطلاق نفذ الخلع وارتجع

__________

(1) الأم:5/ 214.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (249 )

الولي ما أعطته من المال وطالب بما وهبته من صداق، أو غيره (1)؛ هذا إذا لم تكن بلغت، فإن كانت بالغا فقد قال سحنون: يجوز أن تفتدي من زوجها قبل البناء وله ما أخذ ولا رجوع لها فيه وقال أصبغ: لا يجوز ما بادلت به الصغيرة ولا السفيهة البالغ وكذلك بعد موت الأب ويرد الزوج ما أخذ وبمضي الفراق.

القول الثاني: أنه يصح خلعها، ويقع الفراق، ولا يلزمها بذل العوض، فإن كان الزوج طلقها تطليقة على ذلك المال، فهو يملك رجعتها، وهو قول الحنفية، ومن الأدلة على ذلك (2):

1 ـ أن وقوع الطلاق في الخلع يعتمد وجوب القبول لا وجوب المقبول، وقد تحقق القبول منها، وكأن الزوج علق طلاقها بقبولها الجعل، فإذا قبلت وقع الطلاق لوجود الشرط، ولم يلزمها المال.

2 ـ أن وقوع الطلاق باللفظ الصريح لا يوجب البينونة إلا عند وجوب البدل، ولم يجب البدل هنا بخلاف ما إذا كان بلفظ الخلع، فإن مقتضى لفظ الخلع البينونة.

القول الثالث: يصح خلع المحجور عليها لفلس، بخلاف المحجور عليها لسفه، أو صغر أو جنون، وأن بذلها للعوض صحيح؛ وهو مذهب الحنابلة،، ويرجع عليها بالعوض إذا أيسرت وفك الحجر عنها، وليس له مطالبتها في حال حجرها، كما لو استدانت منه، أو باعها شيئا في ذمتها، أما المحجور عليها لسفه، أو صغر، أو جنون، فلا يصح بذل العوض منها في الخلع؛ لأنه تصرف في المال، وليس هي من أهله، وسواء أذن فيه الولي أو لم يأذن؛

__________

(1) هذا هو المشهور في المذهب المالكي، وفي العتبية من رواية يحيى بن يحيى عن ابن القاسم في التي لم تبلغ المحيض، وقد بنى بها الزوج فصالحته على ما أعطته أن ذلك نافذ وله ما أخذ إن كان مما يصالح به مثلها، ووجه ذلك أنها مالكة أمرها في الاستمتاع ولها أن تسقط حقها إذا شاءت فكان لها المعاوضة عنه باستخلاصه على عوض تدفعه إذا لم يكن في ذلك غبن عليها كما يجوز لها أن تشتري خبزا لقوتها لما كانت تملك أكله أو تركه ولم يكن للولي نظر في ذلك وقال أبو بكر بن اللباد إن المعروف من قول أصحابنا أن المال مردود، والخلع ماض، انظر: المنتقى:4/ 66.

(2) المبسوط:24/ 174، الفروق:2/ 269.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (250 )

لأنه ليس له الإذن في التبرعات، ومن الأدلة على ذلك، أن المحجور عليها لفلس لها ذمة يصح تصرفها فيها.

وليس لولي هؤلاء المخالعة بشيء من مالهن؛ لأنه إنما يملك التصرف بما لها فيه الحظ، وهذا لا حظ فيه، بل فيه إسقاط نفقتها ومسكنها وبذل مالها، ويحتمل أن يملك ذلك، إذا رأى الحظ فيه، ويمكن أن يكون الحظ لها فيه بتخليصها ممن يتلف مالها، وتخاف منه على نفسها وعقلها، ولذلك لم يعد بذل المال في الخلع تبذيرا ولا سفها، فيجوز له بذل مالها لتحصيل حظها، وحفظ نفسها ومالها، كما يجوز بذله في مداواتها، وفكها من الأسر (1).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر في سبب طلب مخالعة المرأة لزوجها، فإن كان سببا معتبرا ثابتا، وأن علاجه يستحيل بغير الخلع جازت المخالعة ولو كانت محجورا عليها، لأن الحجر مرتبط بإضاعة المال فيما لا مصلحة فيه، وهذا فيه المصلحة العظيمة للمرأة، فكان بالنسبة لها كالدواء الذي تضطر إلى استعماله، ولا خلاف بين الفقهاء في أن المحجور عليه يملك شراء مثل هذا الدواء.

والدليل الأكبر على هذا هو أن الرجل المحجور عليه يملك أن يطلق زوجته، وأنه لايقف في سبيله أحد إذا أراد ذلك مع أنه قد بذل مالا لزوجته من النفقة والمهر، وسيحتاج إلى مال آخر إذا أراد الزواج، فكيف نجيز له التصرف في ماله لمثل هذه الحاجة، ولا نجيز لها التصرف فيها، مع أن كلا من الخلع والطلاق يشتركان في كونهما من التفريق الشرعي، بل في كونهما تفريقا بعوض لأن الزوج قد بذل عوضه بالمهر سابقا، والزوجة تبذله بالخلع لاحقا، فالشبه بينهما كبير، فالطلاق هو خلع الرجل، والخلع هو طلاق المرأة.

2 ـ أن تكون صحيحة:

__________

(1) المغني:7/ 267، الإنصاف:8/ 391.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (251 )

اتفق الفقهاء على أنه يجوز للزوجة المريضة مرضا مخوفا أن تخالع زوجها في مرضها لأنه معاوضة كالبيع، قال ابن قدامة: (المخالعة في المرض صحيحة، سواء كان المريض الزوج أو الزوجة، أو هما جميعا؛ لأنه معاوضة، فصح في المرض، كالبيع. ولا نعلم في هذا خلافا) (1) واختلفوا في المقدار الذي يأخذه الزوج في مقابل ذلك مخافة أن تكون الزوجة راغبة في محاباته على حساب الورثة على قولين:

القول الأول: أن اختلعت المريضة بمهرها الذي كان لها على زوجها، ثم ماتت في العدة، فله الأقل من ميراثه، ومن المهر إن كان يخرج من ثلث مالها مهر، وإن لم يكن لها مال سوى ذلك، فله الأقل من ميراثه منها، ومن الثلث، وإن ماتت بعد انقضاء العدة، فله المهر من ثلث مالها، وهو قول الحنفية خلافا لزفر الذي اعتبار البدل من جميع المال، لا من ثلثه، واعتبر الخلع بالنكاح، فإن المريض لو تزوج امرأة بصداق مثلها اعتبر من جميع ماله؛ لأن ذلك من حوائجه، وكذلك المريضة إذا اختلعت؛ لأن ذلك من حوائجها لتتخلص به من أذى الزوج (2).

القول الثاني: أن الخلع إن كان بمهر المثل نفذ دون اعتبار الثلث، وإن كان بأكثر فالزيادة كالوصية للزوج، وهو قول الشافعية وتعتبر الزيادة الثلث، ولا تكون كالوصية للوارث لخروجه بالخلع عن الإرث، ولو اختلعت بجمل قيمته مائة درهم ومهر مثلها خمسون درهما فقد حابت بنصف الجمل، فينظر إن خرجت المحاباة من الثلث، فالجمل كله للزوج عوضا ووصية (3).

القول الثالث: أن للزوج ما خالعته عليه إن كان قدر ميراثه منها فما دون، وإن كان بزيادة فله الأقل من المسمى في الخلع أو ميراثه منها؛ وهو قول الحنابلة، ومن الأدلة على ذلك، أن ذلك لا تهمة فيه بخلاف الأكثر منها، فإن الخلع إن وقع بأكثر من الميراث تطرقت إليه التهمة من قصد

__________

(1) المغني: 7/ 270.

(2) المبسوط: 6/ 192، بدائع الصنائع:3/ 149.

(3) الأم:5/ 214.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (252 )

إيصالها إليه شيئا من مالها بغير عوض على وجه لم تكن قادرة عليه أشبه ما لو أوصت أو أقرت له، وإن وقع بأقل من الميراث فالباقي هو أسقط حقه منه فلم يستحقه، فتعين استحقاقه الأقل منهما، وإن شفيت من مرضها ذاك الذي خالعته فيه فله جميع ما خالعها به كما لو خالعها في الصحة؛ لأنه ليس من مرض موتها (1).

القول الرابع: أنه يجوز خلع الزوجة المريضة مرضا مخوفا إن كان بدل الخلع بقدر إرثه أو أقل لو ماتت، ولا يتوارثان، وهو قول المالكية (2)، أما إن زاد بأن كان إرثه منها عشرة وخالعته بخمسة عشر وأولى لو خالعته بجميع مالها فيحرم عليه لإعانته لها على الحرام، وينفذ الطلاق ولا توارث بينهما إن كان الزوج صحيحا، ولو ماتت في عدتها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الرابع، وقريب منه القول الثالث، فهما أحوط الأقوال، وأكثرها سدا للذريعة، وأجلبها لمصلحة الزوجة وورثتها، لأن الخلع في مرض الموت أو المرض المخوف لا مبرر له، وربما كان المبرر الوحيد الذي يسوغه أن يتحيل الزوج بطلب الخلع إسقاط حق الورثة في الميراث، ويستغل في ذلك مرض الزوجة المخوف ليملي لها بهذه الحيلة.

وفي تيسير مثل هذه الحيلة بالقول بإيقاعها ضرر للمرأة ولورثتها، أما المرأة فقد يضارها زوجها في تلك الحالة لتطلب منه فداء نفسها، والمضارة هنا كما قد يفهم، ليس المراد منها المضارة التي يفرق بسببها القاضي، لأن المضارة التي يلحظها القاضي لا تتعدى المضار المادية بخلاف

__________

(1) المغني:6/ 115.

(2) عن مالك في ذلك روايتان:

ـ لا يجوز الخلع، وهو مروي في كتاب ابن المواز عن مالك، لأنه عاوضها بالطلاق على أمر لا تملكه، لأن الزوجة لا تملك تصيير ما لها إليه حال مرضها.

ـ جواز ذلك، رواه ابن عبد الحكم عنه; لأن مرض أحد الزوجين لا يمنع وقوع الطلاق فلم يمنع المقصود به من إزالة الملك انظر: المنتقى:4/ 66..

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (253 )

الأضرار النفسية والمعنوية، والتي تتفاقم في حال مثل هذا المرض الخطير، فلذلك عدم اعتبار المخالعة في تلك الحالة يسد عليه باب الشر في نفسه وباب الشر عن زوجه.

أما الورثة، فإن الشرع أعطاهم حقوقهم بسبب قربهم وحاجتهم كما أعطى الزوج حقه من الميراث، فلا يتعدى أحدهما حق الآخر، فتعدي أي طرف لذلك يعامل بنقيضه، ولنتصور لتقريب المسألة امرأة يكون لها أب ضعيف أو أم محتاجة، فيأتي هذا الزوج الجشع ليأخذ كل مالها، ويحرمها ويحرم من أعطاهم الشرع من الميراث لأنه لم يخسر شيئا، فالزوجة على أبواب الموت.

ثم إن الأدب الشرعي الذي يلزم الشرع بتطبيقه تشريعا وتوجيها يقتضي الوقوف مع المرأة في هذه الحالة، وإلزام الزوج بمساندتها ولو بتطليقها بغير عوض، لا أن يزيد طينتها بلة، ويأخذ منها مالها بغير حق.

3 ـ أن تكون زوجة:

اتفق الفقهاء على أن الخلع لا يصح إلا مع الزوجة التي في عصمة زوجها حقيقة، وهي التي لم تفارق زوجها بطلاق بائن ونحوه، كاللعان مثلا.

واختلفوا فيما لو كانت زوجته حكما، وهي التي طلقها زوجها طلاقا رجعيا، ولم تنقض عدتها، هل تصح مخالعتها أم لا على قولين:

القول الأول: مخالعة الزوج للرجعية في أثناء العدة صحيحة، ولا تسترد المال الذي دفعته للزوج ولزم الزوج أن يوقع عليها طلقة أخرى بائنة، وهو قول المالكية، وعند الشافعية في أظهر الأقوال، وهو مذهب الحنابلة سوى الخرقي، ومن الأدلة على ذلك أنها حينئذ زوجة والنكاح بينها وبين زوجها قائم، وتسري عليها كافة الأحكام الخاصة بالزوجات، ولو مات زوجها قبل انقضاء عدتها فإنها ترث منه.

القول الثاني: عدم صحة مخالعتها، وهو قول للشافعية (1)، لعدم الحاجة إلى الافتداء.

__________

(1) وللشافعية قول آخر هو أن الرجعية يصح خلعها بالطلقة الثالثة دون الثانية لتحصل البينونة الكبرى.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (254 )

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، لأن الغرض من الخلع هو تحقيق رغبة المرأة في انفصالها عن زوجها في حال عدم رضى الزوج بطلاق زوجته، فإذا تحققت الرغبة من الرجل في طلاقها انتفى الداعي للخلع، وكان فيه مضرة محضة للمرأة، وطمع خالص من الرجل، وهو من أكل المال بالباطل، فهو طلقها ثم استرد ما أعطاه الشرع لها من غير وجه حق، وذلك يتنافى مع التفريق الحسن الذي أوجبه الشرع، فهذا بدل ان يعطيها متعتها سلبها مهرها.

ولكن مع ذلك إن أراد الزوج مخالعة شرعية، فيمكنه أن يرجعها ويحسن إليها ولا يضارها لتفتدي منه، فإن طلبت الفرقة بعد ذلك كان ذلك سببا وجيها للفرقة، وأبيح به ما حرم عليه من أخذ مالها، وتوفر كل ذلك يقتضي تحريا من القضاء، لأن في التطليق السابق ثم الإرجاع وطلب المخالعة يحمل شبهة المضارة، فيحتاج ذلك إلى نوع من التحري حتى لا يؤكل مال المرأة بالباطل.

4 ـ أن لا يكون ملتزم العوض أجنبيأ

وهو إما أن يكون ولي المرأة، أو فضوليا متطوعا، وسنتكلم عن كليهما فيما يلي:

خلع الفضولي:

وقد اختلف الفقهاء هنا في صحة خلع الفضولي أو الأجنبي أو المتطوع على اختلاف عباراتهم فيه على قولين:

القول الأول: جوازه وصحته، وهو قول الجمهور، قال ابن قدامة: (وهذا قول أكثر أهل العلم) (1)، ولهم في ذلك بعض التفاصيل نذكرها فيما يلي:

فقد شرط الحنفية (2) أن يضيف البدل إلى نفسه على وجه يفيد ضمانه له أو ملكه إياه، مثل أن يقول: اخلعها بألف علي أو على أني ضامن أو على ألفي هذه، فإن أرسل الخلع بأن

__________

(1) المغني:7/ 269.

(2) انظر: تبيين الحقائق: 3/ 245، العناية: 10/ 264، فتح القدير: 4/ 240.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (255 )

قال: على ألف أو على هذا الجمل، فإن قبلت لزمها تسليمه، أو قيمته إن عجزت، وإن أضافه إلى غيره كجمل فلان اعتبر قبول فلان.

وهو جائز عند المالكية (1) مطلقا سواء قصد الفضولي بذلك جلب مصلحة أو درء مفسدة أو إسقاط نفقتها عن الزوج، إلا أن ابن عبد السلام من المالكية قيد صحته بعدم قصد الفضولي إسقاط نفقة العدة عن الزوج (2).

ونص الشافعية (3) على جوازه بناء على أن الخلع طلاق، سواء أكان بلفظ طلاق أم خلع، قال الشافعي: (لا يجوز خلع المحجور عليها بحال إلا بأن يتطوع عنها أحد يجوز أمره في ماله فيعطي الزوج شيئا على أن يفارقها فيجوز للزوج (4) فخلع الفضولي عندهم بناء على هذا القول كاختلاع الزوجة لفظا وحكما، فإذا قال الزوج للفضولي طلقت امرأتي على ألف في ذمتك فقبل، أو قال الفضولي للزوج: طلق امرأتك على ألف في ذمتي فأجاب، وقع الطلاق بائنا بالمسمى، وللزوج أن يرجع قبل قبول الفضولي نظرا لشوب التعليق، وللفضولي أن يرجع قبل إجابة الزوج نظرا لشوب الجعالة

ونص أكثر الحنابلة على أن خلع الفضولي جائز، ولا تتوقف صحته على قبول المرأة فيكون التزامه للمال فداء لها، كالتزام المال لعتق السيد عبده، وقد يكون له في ذلك غرض صحيح، كتخليصها ممن يسيء عشرتها ويمنعها حقوقها.

__________

(1) مواهب الجليل: 4/ 19، فتح العلي المالك: 2/ 65.

(2) فإن قصد إسقاطها عنه فقد حكي فيه ثلاثة أقوال:

1.يرد العوض ويقع الطلاق بائنا وتسقط نفقة العدة وهو ظاهر المدونة واقتصر عليه البرزلي.

2.يرد العوض ويقع الطلاق رجعيا ولا تسقط نفقتها واختاره ابن عبد السلام وابن عرفة.

3.يقع الطلاق بائنا ولا تسقط النفقة ويجري مثل هذا فيمن قصد دفع العوض ليتزوجها، انظر: فتح العلي المالك:2/ 65.

(3) أسنى المطالب: 3/ 245، فتاوى الرملي: 3/ 211.

(4) الأم:5/ 214.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (256 )

ونص الإمامية على أنه يصح بذل الفداء منها، ومن وكيلها، وممن يضمنه بإذنها، واختلفوا في الفضولي، وذكروا أن الأشبه المنع، أما لو قال: طلقها على ألف من مالها وعلي ضمانها، أو على عبدها هذا وعلي ضمانه صح. فإن لم ترض بدفع البذل صح الخلع، وضمن المتبرع، وفيه تردد (1).

ونص الزيدية على أنه لا يشترط كون عوض الخلع من الزوجة، بل يصح من غيرها كثمن المبيع، ويصح مخالعة الأب والأجنبي عنها، كما يصح مخالعتها بنفسها، إذ الطلاق إلى الزوج فلا يحتاج إلى قبولها إلا لالتزام العوض فقط، فإن التزمه غيرها وقع الطلاق لكمال شرطه وصحة الالتزام (2).

ومن الأدلة على ذلك (3):

1 ـ أنه بذل مال في مقابلة إسقاط حق عن غيره فصح، كما لو قال: أعتق عبدك، وعلي ثمنه.

2 ـ أنه لو قال: ألق متاعك في البحر وعلي ثمنه صح، ولزمه ذلك، مع أنه لا يسقط حقا عن أحد، فهاهنا أولى.

3 ـ أنه حق على المرأة، يجوز أن يسقط عنها بعوض، فجاز لغيرها، كالدين.

4 ـ أنه يحتلف عن البيع، لأنه تمليك، فلا يجوز بغير رضاء من يثبت له الملك.

القول الثاني: عدم صحة خلع الفضولي، وهو قول أبي ثور، ومن قال من الشافعية والحنابلة إن الخلع فسخ، وهو القول الأرجح عند الإمامية، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن الفضولي يبذل عوضا في مقابلة ما لا منفعة له فيه.

__________

(1) شرائع الإسلام:3/ 38.

(2) البحر الزخار:4/ 189.

(3) المغني:7/ 269.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (257 )

2 ـ أن الفسخ بلا سبب لا ينفرد به الزوج فلا يصح طلبه منه.

3 ـ أن الخلع من عقود المعاوضات، فلا يجوز لزوم العوض لغير صاحب المعوض كالبيع.

4 ـ أنه تعالى أضاف الفدية إليها في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229) وبذل الوكيل والضامن بإذنها كبذلها، فيبقى المتبرع على أصل المنع.

5 ـ أصالة بقاء النكاح إلى أن يثبت المزيل.

6 ـ مفهوم الخطاب، فلا يملك الزوج البذل، ولا يقع الطلاق إن لم يتبع به، فإن أتبع به كان رجعيا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن صحة خلع الفضولي تتوقف على ثلاثة اعتبارات دلت عليها الأدلة الخاصة والعامة، وتحققت فيها المقاصد الشرعية، وهذه الاعتبارات هي:

1 ـ النظر إلى موقف المرأة من هذا الخلع، فإن كان ذلك موافقا لرغبتها، ومنسجما مع حبها للتخلص من عشرة زوجها، فإن خلع الفضولي هنا يصح، ودليل ذلك أن الخلع هو حل العصمة بيد المرأة، فإذا ما تدخل أجنبي على غير ما ترضى المرأة لا يعتبر في الشرع خلعا، وهو بذلك تغيير للمعنى الشرعي لحقيقة الخلع.

2 ـ النظر للحياة الزوجية، فإذا ما كانت هذه الحياة يسودها الشقاق، ويتحكم فيها سوء العشرة، ولا تستقر فيها السكينة، ولم يجد الوعظ للزوجين شيئا، ولا كل الطرق التي سبق ذكرها من الحلول الشرعية للمخالفات الزوجية، ورأى بعض المحسنين أن يغري الزوج ببعض المال لتطليقها كان له ذلك بشرط موافقة المرأة كما ذكرنا سابقا، أو ثبوت الضرر الشديد في حال عدم موافقتها.

3 ـ النظر في سبب تدخل الفضولي، وهو أهم ما ينبغي أن يراعى، فلا نقر ما ذكر

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (258 )

أصحاب القولين من أنه بذل للمال في غير غرض، وتشبيه ذلك بمن قال: ألق متاعك في البحر وعلي ثمنه، لأن أغراض الفضولي هاهنا تتنوع بتنوع الخير والشر في الناس، فقد يكون غرضه نبيلا يريد أن ينقذ المرأة من زوج لا تتحمل العشرة معه، يقدم ذلك خالصا لوجه الله، وقد يكون غرض حاسد رأى حاجة الزوج إلى المال، وحسده على زوجته، فاستغل فرصة الحاجة ليفرق بينه وبين زوجه، وقد يكون غرض حاقد استغل غناه وحاجة الزوج أو طمعه لينفذ انتقامه في الزوجة أو وليها أو أولادها، وقد يكون غرض شهواني لم تملأ عينه كل نساء الدنيا، وطمح ببصره لامرأة متزوجة، فبذل ماله ليفرق بينها وبين زوجها.

ولا يمكن أن نحصر وجوه المقاصد خيرها وشرها هنا، ولكنها كلها ليست من النوع الذي ذكر الفقهاء، وإلا لعد الفضولي سفيها يحجر عليه لإنفاقه المال في غير غرض.

بناء على هذه الاعتبارات الثلاثة، فإن خلع الفضولي لا يقر شرعا إلا بمراعاتها جميعا سدا للذريعة حتى لا تحطم الأسر المبنية على كلمة الله وميثاقه الغليظ بالأموال.

خلع الولي:

اختلف الفقهاء في صحة خلع الولي ونفوذها على قولين (1):

القول الأول: عدم جواز مخالعة الولي، فليس للأب أن يخالع على شيء من مال ابنته، سواء كانت محجورا عليها، أو لم تكن، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وابن حزم، ومن الأدلة على ذلك (2):

1 ـ قوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام:164) فمخالعة الأب أو الوصي أو السلطان عن صغيرة أو كبيرة كسب على

__________

(1) انظر: المغني: 7/ 270، تبيين الحقائق: 2/ 283، العناية: 4/ 236، القواعد لابن رجب: 329، الإنصاف: 8/ 386، التاج والإكليل: 5/ 273، أسنى المطالب: 3/ 261.

(2) المحلى:10/ 3، المبسوط:6/ 179.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (259 )

غيره، وهو لا يجوز.

2 ـ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (النساء:29)، واستحلال الزوج مالها بغير رضا منها أكل مال بالباطل، وهو حرام.

3 ـ أنه ليس له ولاية إلزام المال إياها بهذا السبب إذ لا منفعة لها فيه، ولا يدخل في ملكها بمقابلة شيء.

4 ـ أن ذلك تبرع بمالها فلا يملكه، كما لا يملك إسقاط سائر ديونها.

وقد نص الحنفية هنا على أنه إذا خلع الرجل ابنته الصغيرة أو الكبيرة من زوجها على صداقها ولم يدخل بها وضمنه الأب وقع الطلاق، وإن لم يضمنه الأب لم يقع، وقد فرقوا بينهما بأن الزوج أزال ملكه عن بعضها بشرط أن يسلم البدل له، فإذا ضمن فقد سلم له البدل، فحصل مقصوده بالعقد فوقع وليس كذلك إذا لم يضمن، لأنه لم يحصل مقصوده بالعقد، وهو إنما رضي بزوال ملكه عن البضع بشرط أن يسلم البدل له، ولم يسلم فلم يقع الطلاق (1).

ونص الزيدية على أن (للأب مخالعة زوج ابنته الصغيرة حيث العوض منه، إذ لا يشترط النشوز إلا حيث العوض منها، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229)) (2)

القول الثاني: يجوز له أن يخالع عن ابنته الصغيرة بكرا كانت أو ثيبا، وهو قول مالك، وروى عنه أن له أن يخالع عن ابنته البكر مطلقا؛ لكونه يجبرها على النكاح. وروي عنه أنه يخالع عن ابنته مطلقا، كما يجوز له أن يزوجها بدون مهر المثل للمصلحة، وفي المدونة: (

__________

(1) الفروق:1/ 180.

(2) البحر الزخار:4/ 182.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (260 )

أرأيت إن خالعها الأب وهي صبية صغيرة على أن يترك لزوجها مهرها كله أيكون ذلك جائزا على الصبية في قول مالك؟ قال: نعم) (1)

أما الثيب فقد روى ابن القاسم عن مالك: (إذا زوج الرجل ابنته وهي ثيب من رجل فخلعها الأب من زوجها على أن ضمن الصداق للزوج، وذلك بعد البناء فلم ترض الثيب أن تتبع الأب، فإن لها أن تتبع الزوج وتأخذ صداقها من الزوج، ويكون ذلك للزوج على الأب دينا يأخذه من الأب.. وكذلك الأخ في هذا هو بمنزلة الأب) (2)

وقد نص بعض الشافعية على أنه يجوز في حق البكر الصغيرة أن يخالعها بالإبراء من نصف مهرها في حالة اعتبار من بيده عقدة النكاح هو الولي (3)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن للأب أن يتملك لنفسه من مال ولده ما لا يضر بالولد، حتى لو زوجها واشترط لنفسه بعض الصداق جاز له ذلك.

2 ـ إذا كان له من التصرف في المال والتملك هذا التصرف لم يبق إلا طلبه لفرقتها، وذلك يملكه بإجماع المسلمين.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر إلى الاعتبارات التي ذكرناها في خلع الفضولي، فإن الأب وإن كان الظاهر عليه الشفقة على ابنته إلا أن ذلك ليس عاما، وفي حال عمومه ليست كل شفقة تكون في مصلحة المشفق عليه، فلذلك وجب الرجوع إلى التعرف على رغبة المرأة الصادقة الخالية عن كل تأثير أجنبي حتى لو كان تأثير والدها.

لأن الشرع وإن أعطى للوالدين مكانة سامية، وطالب بحقهما، إلا أن حقهما محدود

__________

(1) المدونة:2/ 253.

(2) المدونة:2/ 253.

(3) وخطأه بعضهم ; لأنه إنما يملك الإبراء بعد الطلاق ; لأنه إذا ملك إسقاط حقها بعد الطلاق لغير فائدة فجواز ذلك لمنفعتها وهو يخلعها من الزوج أولى ; ولهذا يجوز عندهم كلهم أن يختلعها الزوج بشيء من ماله.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (261 )

بالضوابط الشرعية، فليس من حقهما تطليق الزوج من زوجته، ولا الزوجة من زوجها، وإلا أصبح الأبناء في سجن الآباء وارتفع عنهم التكليف.

والنظر الذي ينبغي أن يركز عليه هنا ليس العوض الذي ستدفعه المرأة أو ينوب عنها وليها في دفعه، وإنما في العلة التي تدفع إلى كل ذلك، فقد تأخذ الأب أنفة لموقف من مواقف صهره، فيبذل ماله، بل مال ابنته ليفرقها عنه، فيحطم أسرة من أجل غضبة غضبها، نفخ فيها الشيطان، فالخلع حق المرأة وحدها كحق الرجل في الطلاق، وتدخل الأجانب في هذه الحقوق من غير سبب مثار للتهمة، فلذلك يكون أولى الأقوال فيها وأصلحها سد الذريعة أمام كل ثغرة قد يدخل منها الشيطان للتفريق بين المرء وزوجه.

فلا يمكن انطلاقا من هذا التزام قول بعينه والافتاء به في كل الأحوال، بل لكل قول مناسبته، ولكل حال حكمه، ولأن يخطئ المفتي فيجمع شمل أسرة على قول من الأقوال حتى يصلح الله بينها، خير من أن يصيب في التفريق بينهما.

 

الركن الثالث: صيغة الخلع

صيغة الخلع هي الإيجاب والقبول، وقد ذكرنا أنهما ركنا الخلع عند الحنفية إن كان بعوض، ويتعلق بهذا الركن الممسائل التالية:

شروط صيغة الخلع:

ذكر الفقهاء لصيغة الخلع شروطا تؤكد إرادة الخلع، وهي نفس الشروط التي سبق ذكرها في صيغة الطلاق، ولهذا نصوا على أن شرطه شرط الطلاق (1)، وهي الشروط المعهودة في الفقه في مسألة الصيغة كعدم التعليق، وعدم التأقيت، وأن لا يتخلل الإيجاب والقبول كلام أجنبي ولا

__________

(1) انظر: تبيين الحقائق:2/ 267، البحر الرائق:7/ 78.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (262 )

سكوت طويل، وأن يتوافقا معنى، وغيرها (1)، وسنذكر هنا بعضها على اختلاف بين الفقهاء في اعتبار بعض تفاصيلها:

1 ـ إن بدأ الزوج بصيغة معاوضة، كقوله خالعتك على كذا القبول لفظا ممن يتأتى منه النطق، وبالإشارة المفهمة من الأخرس وبالكتابة منهما.

2 ـ أن لا يتخلل بين الإيجاب والقبول كلام أجنبي كثير ممن يطلب منه الجواب لإشعاره بالإعراض بخلاف اليسير مطلقا، والكثير ممن لم يطلب منه الجواب.

3 ـ أن يكون القبول على وفق الإيجاب، فلو اختلف الإيجاب والقبول كطلقتك بألف فقبلت بألفين، وعكسه كطلقتك بألفين فقبلت بألف، أو طلقتك ثلاثا بألف فقبلت واحدة بثلث ألف، فلغو في المسائل الثلاث للمخالفة كما في البيع.

4 ـ أنه إذا ابتدأ الزوج بصيغة تعليق في الإثبات، كمتى أو متى ما، أو أي حين، أو زمان، أو وقت أعطيتني كذا فأنت طالق فلا يشترط فيه القبول لفظا؛ لأن الصيغة لا تقتضيه، ولا يشترط الإعطاء فورا في المجلس أي مجلس التواجب. بخلاف ما لو ابتدأ بصيغة تعليق في النفي، كقوله متى لم تعطني كذا فأنت طالق، فإنه يكون على الفور ومثل ذلك ما لو قالت له: متى طلقتني فلك علي ألف، فإن الجواب يختص بمجلس التواجب.

ونرى أن هذه الشروط وغيرها مما يؤكد إرادة الخلع قد تختلف بحسب الأحوال، فلذلك كانت العبرة برضا الطرفين بالخلع، لا بالصيغة الشكلية لمجلس الخلع، فلو تخلل مثلا بين الإيجاب والقبول كلام أجنبي كثير ممن يطلب منه الجواب، ثم أجاب، وأقره القابل، وعلم هذا الإقرار ولو من غير تصريح كان كافيا لصحة الخلع، لأن الإشعار بالإعراض وتأثيره في حال عدم الرضا لا في كل حال، وهكذا يقال في كل الشروط، بل قد تضاف لها شروط أخرى بحسب الأعراف المختلفة، والعبرة في الخيرة ترجع إلى الرضا لا بشكل الكلام.

__________

(1) انظر: حاشية الجمل:4/ 302.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (263 )

ألفاظ الخلع

اختلف الفقهاء في الألفاظ التي يعبر بها عن الخلع اختلافا لا يمكن ضبطه، فلذلك نكتفي بذكر أقوال فقهاء بعض المذاهب المشتهرة:

عند الحنفية: ألفاظ الخلع سبعة وهي (1): خالعتك - باينتك - بارأتك - فارقتك - طلقي نفسك على ألف - والبيع كبعت نفسك - والشراء كاشتري نفسك.

عند المالكية: أربعة ألفاظ وهي (2): الخلع والفدية، والصلح، والمبارأة وكلها تؤول إلى معنى واحد وهو بذل المرأة العوض على طلاقها.

وعن ابن القاسم فيمن قال: أنت طالق واحدة بائنة فهي البتة في التي بنى بها، وإن قال: هي طالق طلاق الخلع فهي واحدة بائنة وكذلك إن قال: خالعت امرأتي أو باريتها أو افتدت مني لزمته طلقة بائنة، وقال أصبغ: إن قال لها: أنت صلح أو طالق طلاق الصلح أو قد صالحتك أو يقول اشهدوا أني قد صالحت امرأتي وهي غائبة أو حاضرة راضية أو كارهة أخذ منها عوض أو لم يؤخذ فهي طلقة بائنة، وكذلك قوله أنت مبارية أو طلقتك طلاق المبارأة أو قد بارأتك رضيت أو لم ترض.

عند الشافعية والحنابلة: تنقسم ألفاظ الخلع عندهما (3) إلى صريح وكناية: فالصريح المتفق عليه عندهم لفظان: لفظ خلع وما يشتق منه لأنه ثبت له العرف. ولفظ المفاداة وما يشتق منه لوروده في القرآن، وزاد الحنابلة لفظ فسخ لأنه حقيقة فيه، وهو من كنايات الخلع عند الشافعية ومن كناياته عندهم أيضا بيع، ولفظ بارأتك، وأبرأتك، وأبنتك.

وصريح الخلع وكنايته، كصريح طلاق وكنايته عند الشافعية والحنابلة، فإذا طلبت الخلع

__________

(1) رد المحتار: 3/ 444.

(2) انظر: المدونة: 2/ 249، مواهب الجليل:4/ 24.

(3) حاشية الجمل: 4/ 302، الأشباه والنظائر: 301، الإنصاف: 8/ 393.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (264 )

وبذلت العوض فأجابها بصريح الخلع وكنايته، صح من غير نية؛ لأن دلالة الحال من سؤال الخلع، وبذل العوض صارفة إليه فأغنى عن النية فيه، وإن لم يكن دلالة حال فأتى بصريح الخلع وقع من غير نية، سواء قلنا هو فسخ أو طلاق، ولا يقع بالكناية إلا بنية ممن تلفظ به منهما، ككنايات الطلاق مع صريحه.

قال الشافعي: وجماع هذا أن ينظر إلى كل كلام يقع به الطلاق بلا خلع فنوقعه به في الخلع، وكل ما لا يقع به طلاق بحال على الابتداء يوقع به خلع، فلا نوقع به خلعا حتى ينوي به الطلاق، وإذا لم يقع به طلاق فما أخذ الزوج من المرأة مردود عليها، فإن نوى بالخلع اثنتين أو ثلاثا فهو ما نوى، وكذلك إن سمى عددا من الطلاق فهو ما سمى (1).

عند الزيدية: وصريحه عندهم هو الخلع وما يتصرف منه كخالعتك وأنت مخالعة وكذا المبارأة، أما كنايته فهو ذكر العوض مع لفظه فإنه إذا قال خالعتك أو بارأتك على كذا فهو كناية طلاق إن أراد به الطلاق، ولزم كسائر الكنايات وإلا لم يقع، والقول قوله في ذلك، لأنه لا يعرف إلا من جهته بخلاف قوله طلقتك وأنت طالق على كذا فإنه صريح طلاق (2).

عند الإمامية: صيغة الخلع عندهم (3) أن يقول الزوج: خلعتك على كذا، أو أنت مختلعة على كذا، أو خلعت فلانة أو هي مختلعة على كذا، ثم يتبعه بالطلاق على الفور فيقول بعد ذلك: فأنت طالق في القول الأقوى عندهم، وقيل: يقع بمجرده من غير إتباعه به، فإن اعتبر إتباعه بالطلاق فلا شبهة في عده طلاقا، وعلى القول الآخر هل يكون فسخا، أو طلاقا قولان أصحهما الثاني.

__________

(1) الأم:5/ 212.

(2) التاج المذهب:2/ 193.

(3) انظر: الروضة البهية:6/.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (265 )

وعلى القولين لا بد من قبول المرأة عقيبه، بلا فصل معتد به، أو تقدم سؤالها له قبله كذلك، ولو أتى بالطلاق مع العوض، فقال: أنت طالق على كذا مع سبق سؤالها له، أو مع قبولها بعده كذلك أغنى عن لفظ الخلع وأفاد فائدته، ولم يفتقر إلى ما يفتقر إليه الخلع من كراهتها له خاصة لأنه طلاق بعوض لا خلع.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في هذا هو أن ما ذكره الفقهاء من ألفاظ الخلع ربما يعبر عن بيئات معينة وفي وقت معين، ولا يعبر عن موقف الشريعة العام، لأن الشريعة ليست مختصة بجنس دون جنس ولا لسان دون لسان ولا عصر دون عصر، فلذلك نرى بدل تحديد ألفاظ تعبر عن معان أرادها الشرع ورتب عليها آثارها، وعبر عنها بالصيغ التي يفهمها الناس زمن الوحي، أن نضع القيود حول المعاني المقصودة حتى تنضبط بضابط الشرع، فإذا ماضبط ترك للناس بحسب بيئاتهم وأعرافهم وألسنتهم حرية التعبير عنها، فقد يعبر عنها بعضهم بكلمة وبعضهم بجملة وبعضهم بنص طويل.

وإنما قلنا هذا الترجيح لسببين:

1 ـ سبب متعلق بالخلع، وهو أن الكلام في أمور لا تستعمل ولا توجد في الواقع بعد عن الفقه، لأن الغرض منه حل مشكلات الواقع لا التحليق خارج إطاره.

2 ـ سبب متعلق بتعليم الفقه خاصة، وهو أن طالب هذا العلم يرهق نفسه بحفظ صيغ الطلاق والخلع والنكاح والبيع وغيرها لينغمس بذلك في الحرفية، فيعامل الناس بألفاظهم لا بمقاصدهم، وهو خلاف طلب الشرع.

وقد ذكر ابن القيم أن القاعدة في هذا ومثله هو أن العبارة وضعت لخدمة المقصد، ولا يصح أن تنقلب الحالة، قال في بيان القاعدة الشرعية في ذلك، والتي تدل عليه النصوص الكثيرة: (وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (266 )

التصرفات والعبارات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات؛ فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالا أو حراما، وصحيحا أو فاسدا، وطاعة أو معصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو مستحبة أو محرمة أو صحيحة أو فاسدة) (1)

اشتراط الخيار في الخلع:

نص الحنفية (2) على أنه يصح للزوجة شرط الخيار في الخلع لا للزوج، لأن إيجاب الزوج يمين ولهذا لا يملك الرجوع عنه، أما من جانبها فهو معاوضة لكون الموجود من جهتها مالا، ولهذا يصح رجوعها قبل القبول، ولا تصح إضافته وتعليقه بالشرط، ولا يتوقف على ما وراء المجلس فصار كالبيع.

قال في الجوهرة النيرة في حقيقة الخلع بين الزوج والزوجة: (وحكمه من جهتها حكم المعاوضة حتى يجوز لها الرجوع عنه، ويبطل بإعراضها ويجوز لها فيه شرط الخيار على الصحيح ولا يصح تعليقه بالأخطار وحكمه من جهة الزوج حكم التعليق أي طلاق معلق بشرط حتى لا يصح رجوعه عنه ولا يجوز له فيه شرط الخيار ولا يبطل بإعراضه عنه ويصح تعليقه بالخطر) (3)

وهو قول قوي يتوافق مع المصالح الشرعية، لأن الخلع هو طلاق المرأة بعوض، فيجوز لها التراجع عن ذلك إن شرطته ما دامت في عدتها، فهو في ذلك يشبه طلاق الرجل من أن له أن يتراجع عن طلاقه بالرجعة ما دامت المرأة في عدتها.

الركن الرابع: العوض في الخلع

ويتعلق به المسائل التالية:

__________

(1) إعلام الموقعين:3/ 79.

(2) خلافا لأبي يوسف ومحمد.

(3) الجوهرة النيرة: 2/ 59.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (267 )

مقداره:

أجمع العلماء (1) على إجازة الخلع بالصداق الذي أصدقها إذا لم يكن مضرا بها، وخافا ألا يقيما حدود الله، واختلفوا في الخلع على أكثر مما أعطاها على قولين:

القول الأول: جواز الخلع بقليل المال وكثيره وبأكثر من الصداق وبمالها كله إذا كان ذلك من قبلها، قال ابن قدامة: (وهذا قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد وقبيصة بن ذؤيب والنخعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي. ويروى عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها، وعقاص رأسها كان ذلك جائزا) (2)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ قول الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229)، قال إسماعيل: (فإن قال قائل: إنما هو معطوف على ما أعطاها من صداق أو بعضه، قيل له: لو كان كذلك لكان {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229) منه أو من ذلك، وهو بمنزلة من قال: لا تضربن فلانا إلا أن تخاف منه، فإن خفته فلا جناح عليك فيما صنعت به، فهذا إن خافه كان الأمر إليه فيما يفعل به، لأنه لو أراد الضرب خاصة لقال من الضرب أو فيما صنعت به منه) (3)

2 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك بامرأة ثابت بن قيس بن شماس حين جاءت فقالت: لا أنا ولا ثابت لزوجها، وقالت: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي وافر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خذ منها) فأخذ منها وترك، وفي حديث آخر ذكره ابن نبهان حين تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أتردين إليه حديقته؟ قالت: نعم، وأزيده فأعاد ذلك ثلاث مرات، فقال عند الرابعة:

__________

(1) انظر: الأم: 5/ 214، المصنف: 4/ 193، شرائع الإسلام: 3/ 38، العناية: 4/ 215، البحر الزخار: 4/ 183، التاج: 5/ 276، أسنى المطالب: 3/ 27.

(2) المغني:7/ 247.

(3) انظر: التمهيد: 23/ 369.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (268 )

ردي عليه حديقته وزيديه (1).

3 ـ عن ابن سيرين قال: جاءت امرأة إلى عمر تشتكي زوجها فحبست في بيت فيه زبل فباتت فلما أصبحت بعث إليها فقال: كيف بت الليلة؟ فقالت: ما بت ليلة أكون فيها أقر عينا من الليلة، فسألها عن زوجها فأثنت عليه خيرا وقالت: إنه وإنه ولكن لا أملك غير هذا، فأذن لها عمر في الفداء.

4 ـ رواية ذلك عن السلف، قال مالك: (ولم أر أحدا ممن يقتدى به يكره أن تفتدي المرأة بأكثر من صداقها، وقد قال الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229)، وإن مولاة لصفية اختلعت من زوجها بكل شيء لها فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر، وقال ربيعة وأبو الزناد: لا جناح عليه أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها (2) قالت الربيع بنت معوذ: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي، فأجاز ذلك عثمان بن عفان، قال ابن قدامة: (ومثل هذا يشتهر، فلم ينكر، فيكون إجماعا ولم يصح عن علي خلافه (3)

5 ـ أنه إذا حل له أن يأكل ما طابت به نفسا له من غير فراق، جاز له أن يأكل ما طابت له به نفسا وتأخذه بالفراق إذا كان ذلك برضاها ولم يضرها.

القول الثاني: لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وروي عن علي وهو قول طاوس وعطاء سعيد بن المسيب والحسن وطاوس وسعيد بن جبير والأوزاعي، وبه قال أحمد وإسحاق قال الأوزاعي: (كان القضاة لا يجيزون أن يأخذ إلا ما ساق إليها)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده زينب بنت عبد الله بن أبى ابن سلول وكان أصدقها حديقة فكرهته فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: (أما الزيادة فلا، ولكن حديقته، فقالت: نعم

__________

(1) انظر: المدونة: 2/ 246.

(2) المدونة: 2/ 246.

(3) المغني:7/ 247.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (269 )

فأخذها له وخلى سبيلها.

2 ـ روى عن عطاء مرسلا أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها)

3 ـ أنه بدل في مقابلة فسخ، فلم يزد على قدره في ابتداء العقد، كالعوض في الإقالة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو توقفها على حكم القاضي الذي ينظر في ملابسات المسألة، فيحكم لكل حالة بحكمها، فإن ما قاله جمهور الفقهاء قد يصدق على زوجة لا يزيد ما تملكه على ما أعطاها زوجها إلا شيئا قليلا قد لا تعتبر زيادته، وقد لا تتضرر بنقصانه، لكن إن كان للزوجة مال كثير، ثم احتال عليها زوجها بأنواع المضارة التي قد لا يفطن لها، أو لا تعتبر في القضاء، لتفتدي منه، فإذا ما أقدمت على ذلك أخذ يساومها على نفسها ليأخذ أضعاف ما أعطاها.

فمثل هذا الجشع الحريص لا ينبغي أن يفتح له الباب، ويؤذن له في أخذ كل شيء من مالها ما أعطاها وما لم يعطها، بل إن القواعد الشرعية الكثيرة تأبى أن يزاد على ما أعطاها إلا إذا كان ضرره بفقدها شديدا، فتعوض عليه بحسبه، وفق ما يراه ولي الأمر من ذلك.

وليس في الآية التي استشهد بها دليل نصي على أن له أن يقبل منها كل مالها، لأن نص الآية في الأصل على إباحة الخلع لا على تحديد العوض، وفهم الفقيه لهذه الدلالة لا يحولها نصا فيها، ومثلها الحديث المروي في ذلك، فقد روي بروايات مختلفة لا يصح تغليب بعضها على بعض، ولو صح أنها أعطته أكثر مما أعطاها، فقد يكون ذلك مما يستهان بمثله، ومثل ذلك الروايات عن السلف، فقد رويت روايات مختلفة تجعل من كلامهم فيها تعبيرا على أحوال مختلفة، والتعميم في مثل هذا لا يصح، فلمثله يسيل لعاب المحتالين.

شروط العوض

1 ـ عدم الغرر:

اختلف الفقهاء في اعتبار نفي الغرر على قولين:

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (270 )

القول الأول: جواز الغرر في بدل الخلع، وهو قول المالكية (1)، فيجوز على ثمرة لم يبد صلاحها، وعلى جمل شارد، أو جنين في بطن أمه، أو نحو ذلك من وجوه الغرر، على خلاف البيوع والنكاح، وله المطالبة بذلك كله، فإن سلم كان له، وإن لم يسلم فلا شئ له، والطلاق نافذ على حكمه، فإن خالعها على جميع ما تملك، ولم يوجد لها شيء، أو وجد فيه ما لا ينتفع به كالحجر، فقد اختلف فيه قول المالكية على الآراء التالية (2):

الرأي الأول: لا يلزمه طلاق، وإن وجد فيه ما ينتفع به كالدرهم ونحوه لزمه الخلع، وهو قول أشهب، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنها غرته فلم يلزمه الخلع كما لو قالت له: أخالعك بعبدي هذا، وهو حر، فإنه لا يلزمه خلع، أو أخالعك بهذه الدار ولم تكن لها.

2 ـ أنه إنما أوقع الطلاق بشرط أن يحصل له شيء ينتفع به، فلما وجده على غير ذلك بطل الطلاق جملة كما لو غرته من حر فخالعته به على أنه عبد.

الرأي الثاني: يلزمه الخلع؛ لأنه رضي بما غرته به، وهو قول عبد الملك واختاره ابن المواز وسحنون.

الرأي الثالث: قال مطرف: لو أخذت لوزة، أو حصاة وخالعته بها، فإن كان شيء مما ينتفع به، وإن قل فرضي به وعرف ما هو فهو خلع، وأما حصاة وما لا ينتفع به فليس بخلع، وهو طلاق

__________

(1) وقد نصوا على أنها لو اختلعت منه برضاع ابنها منه حولين جاز، وإن شرطه الزوج فهو باطل موضوع عن الزوجة، وفي الخلع بنفقتها على الابن بعد الحولين مدة معلومة قولان:

أحدهما: يجوز، وهو قول المخزومى واختاره سحنون.

الثانى: لا يجوز، رواه ابن القاسم عن مالك، ولم يمنع مالك الخلع بنفقة ما زاد على الحولين لأجل الغرر، وإنما منعه لأنه حق يختص بالأب على كل حال، فليس له أن ينقله إلى غيره، والفرق بين هذا وبين نفقة الحولين أن تلك النفقة وهى الرضاع قد تجب على الأم حال الزوجية وبعد الطلاق إذا أعسر الأب، فجاز أن تنقل هذه النفقة إلى الأم، لأنها محل لها وقد احتج مالك على هذا بقوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة}، انظر: القرطبي:3/ 145.

(2) المنتقى: 4/ 64.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (271 )

رجعي، ووجه قوله أن الطلاق قد وقع فلما لم يكن له عوض لم يكن بائنا وكان رجعيا.

ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ عموم قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229)

2 ـ أنه مما يملك بالهبة والوصية، فجاز أن يكون عوضا في الخلع كالمعلوم.

3 ـ أن الخلع طلاق، والطلاق يصح بغير عوض أصلا، فإذا صح شئ، فلأن يصح بفاسد العوض أولى، لأن أسوأ حال المبذول أن يكون كالمسكوت عنه، ولما كان النكاح الذي هو عقد تحليل لا يفسده فاسد العوض، فلأن لا يفسد الطلاق الذي هو إتلاف وحل عقد أولى.

القول الثاني: الخلع جائز، مع لزوم التعويض، وقد نسبه ابن قدامة إلى الجمهور، قال: (وجملة ذلك أن الرجل إذا خالع امرأته على عوض يظنه مالا، فبان غير مال، مثل أن يخالعها على عبد تعينه فيبين حرا، أو مغصوبا، أو على خل فيبين خمرا، فإن الخلع صحيح في قول أكثر أهل العلم (1)، وقد حكاه ابن خويز منداد عن مالك، ومن الأدلة على ذلك) (2):

1 ـ أن عقود المعاوضات إذا تضمنت بدلا فاسدا، وفاتت رجع فيها إلى الواجب في أمثالها من البدل.

2 ـ أنها غرته بتسمية المتاع، لأنه اسم لما يكون متقوما منتفعا، فإذا لم يوجد في البيت شيء كان مغرورا من جهتها.

3 ـ أن للمغرور دفع الضرر عن نفسه بالرجوع على الغار.

4 ـ أن الخلع معاوضة بالبضع، فلا يفسد بفساد العوض، كالنكاح، ولكنه يرجع عليها بطلب العوض.

__________

(1) المغني: 7/ 260.

(2) انظر: المبسوط: 6/ 186.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (272 )

وقد اختلف أصحاب هذا القول في نوع العوض الذي يلزمه على ثلاثة آراء:

الرأي الأول: أن تعطيه قيمته سليما، وهو قول الحنفية والصاحبين وأبي ثور، فإن خالعها على هذا الدن الخل، فبان خمرا، رجع عليها بمثله خلا؛ لأن الخل من ذوات الأمثال، وقد دخل على أن هذا المعين خل، فكان له مثله، كما لو كان خلا فتلف قبل قبضه، وقد قيل: يرجع بقيمة مثله خلا؛ لأن الخمر ليس من ذوات الأمثال. والصحيح الأول؛ لأنه إنما وجب عليها مثله لو كان خلا، كما توجب قيمة الحر بتقدير كونه عبدا، فإن الحر لا قيمة له، ومن الأدلة على ذلك أنها عين يجب تسليمها مع سلامتها، وبقاء سبب الاستحقاق، فوجب بدلها مقدرا بقيمتها أو مثلها، كالمغصوب والمستعار، ومن أمثلة ذلك:

1 ـ إن خالعها على ثوب وصفه فإنه يصح، وعليها أن تعطيه إياه سليما؛ لأن إطلاق ذلك يقتضي السلامة، كما في البيع والصداق. فإن دفعته إليه معيبا، أو ناقصا عن الصفات المذكورة، فله الخيار بين إمساكه، أو رده والمطالبة بثوب سليم على تلك الصفة؛ لأنه إنما وجب في الذمة سليما تام الصفات، فيرجع بما وجب له، لأنها ما أعطته الذي وجب له عليها (1).

2 ـ إن خالعها على ثوب، على أنه قطن، فبان كتانا، لزم رده، ولم يكن له إمساكه؛ لأنه جنس آخر، واختلاف الأجناس كاختلاف الأعيان، بخلاف ما لو خالعها على وصف فخرج على وصف آخر، فإن الجنس واحد.

الرأي الثاني: يرجع بالمسمى، وهو قول أبي حنيفة، لأن خروج البضع لا قيمة له، فإذا غر به، رجع عليها بما أخذت، لأنه لا يمكن إثبات الرجوع بقيمة المتاع؛ لكونه مجهول الجنس، والقدر، ولا بقيمة البضع؛ لأنه عند الخروج من ملك الزوج غير متقوم، فإنه لا يملكها شيئا، إنما يسقط حقه عنها، فكان، أولى الأشياء ما ساق إليها من الصداق، فإن الغرر يندفع عنه بالرجوع

__________

(1) المغني:7/ 258.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (273 )

بذلك، ومن الأمثلة التي ضربوها لذلك:

1 ـ إن اختلعت منه بما تكتسب العام من مال، أو بما ترثه، أو بما تتزوج عليه، أو بما تحمل غنمها فيما يستقبل كان له المهر الذي أعطاها في جميع ذلك؛ لأن المسمى لا يصلح عوضا في شيء من النقود، لأنه لا يدري أيكون أم لا، أو لأنه مجهول الجنس والصفة، والقدر، فلا يصح التزامه في الخلع، ولكنها غرته بتسمية المال، فيلزمها رد ما ساق إليها بسبب الغرور (1).

2 ـ ما لو اختلعت على أن تزوجه امرأة وتمهر عنه، فالخلع جائز، والشرط باطل؛ للجهالة المستتمة في المسمى، ولكن الغرور يتمكن لتسمية الإمهار، فعليها رد العوض، وإن اختلعت منه على موصوف من المكيل، أو الموزون، أو النبات، فهو جائز كما في الصداق، وإن اختلعت منه على ثوب أو على دار، فالتسمية فاسدة للجهالة المستتمة كما في الصداق، وله المهر الذي أعطاها بسبب الغرور، وكذلك إن اختلعت منه بدابة للجهالة المستتمة، فإن اسم الدابة يتناول أجناسا مختلفة، فله المهر الذي أعطاها.

الرأي الثالث: يرجع بمهر المثل لأنه عقد على البضع بعوض فاسد، فأشبه النكاح بخمر، وتطبيقاته تشبه تطبيقات الرأي الثاني إلا أنه بدل المسى يعطي مهر المثل.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الخيار في هذا للمختلع، وحاله في تقبل ذلك وعدمه لا تعدو الحالتين التاليتين:

الحالة الأولى: أن يرضى بالغرر الذي حصل له، ويتقبله، فتخلع المرأة عل أساس رضاه، وذلك لا حرج فيه، وكما استدل الفقهاء على عدم تحديد عوض الخلع كثرة بقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (البقرة:229)، فينبغي أن يستدلوا بالآية هنا على ذلك، لأن العبرة

__________

(1) المبسوط: 6/ 189.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (274 )

بالتراضي.

الحالة الثانية: أن لا يرضى بما حصل له من غرر، وهو في هذه الحالة مخير بين أمرين:

1 ـ أن يطلب قيمة ما اتفقا عليه إن اتفقا على شيء معين، فإن لم يتفقا، بأن خالعته مثلا على ما عندها، فظهر أنه ليس لها شيء، فإن الخلع لا يصح هنا إلا إذا رضي الزوج بذلك، لأن الخلع حق المرأة والعوض حق الزوج، ولا ينبغي تغليب حق على حق.

2 ـ أن يرجعها لعصمته، لعدم اكتمال شرائط الخلع، فخلعه لها كان معلقا على العوض، فلما زال العوض زال معه الخلع.

أما ما نص عليه الحنفية والشافعية من تسليم المهر المسمى أو المثل، فإن ذلك لا يتفق مع القواعد الشرعية المصرحة باشتراط الرضا في كل العقود، فقد يكون المسمى بالنسبه لما اختلعا عليه ضخما فتتضرر الزوجة، أو ضئيلا، فيتضرر الزوج، فيدرؤ الغرر القديم بالغرر الجديد، ويزال الغرر الذي فرضه الهوى بالغرر الذي نص عليه الفقه.

حكم الخلع من غير بدل

اختلف الفقهاء في صحة إيقاع الخلع دون عوض على الأقوال التالية (1):

القول الأول: هو خلع، وهو قول مالك، لأن عدم حصول العوض في الخلع لا يخرجه عن مقتضاه، وأصل ذلك إذا خالع بخمر أو خنزير.

القول الثاني: يكون طلاقا رجعيا، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد، وأشهب، وقيل بأنه الرواية الصحيحة عن مالك، لأنه طلاق عرا عن عوض واستيفاء عدد فكان رجعيا كما لو كان بلفظ الطلاق، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أنه قطع للنكاح، فصح من غير عوض، كالطلاق.

2 ـ أن الأصل في مشروعية الخلع أن توجد من المرأة رغبة عن زوجها، وحاجة إلى

__________

(1) القرطبي: 3/ 145، المغني: 7/ 257.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (275 )

فراقه، فتسأله فراقها، فإذا أجابها، حصل المقصود من الخلع، فصح، كما لو كان بعوض.

القول الثالث: لا يصح الخلع إلا بعوض، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، فإذا قال لها: اخلعي نفسك. فقالت: خلعت نفسي، لم يكن خلعا إلا على شيء، إلا أن يكون نوى الطلاق، فيكون ما نوى، وإن لم ينو به الطلاق، لم يكن شيئا، ومثله ما لو قال: فسخت النكاح، ولم ينو به الطلاق، لم يقع شيء، بخلاف ما إذا دخله العوض، فإنه يصير معاوضة، فلا يجتمع له العوض والمعوض.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار رضا الزوج بذلك، فإن رضي بالخلع من غير بدل كان خلعا، وهذا يتفق مع المصلحة الشرعية في إتاحة الفرص للمراجعة، بخلاف اعتباره طلاقا، لأن الخلع لا يعتبر من عدد الطلاق، فيحصل الفسخ مع بقاء فرص التطليق.

وقد يقال بأن هذا يتناقض مع اعتبار العوض ركنا في الخلع، والجواب على ذلك بأن هذا الركن يتوقف على رضا الزوج، كما أن المهر شرط في الزواج ومع ذلك يمكن أن يكون شيئا رمزيا لا قيمة مادية له، فالعبرة في الجهتين برضا الطرفين.

بل نرى أن في تنازل الزوج عن حقه في العوض من كرم الخلق والمروءة التي توجبها العشرة الزوجية.

الخلع على الحقوق الزوجية

اختلف الفقهاء في كون العوض هو تبرئة المرأة زوجها من حقوقها، كأن تبرئه من نفقة حملها أو من رضاع ولدها، أو تقول له: طلقني وأنا أبرأتك من حقوقي، أو وأنا آخذ الولد بكفالته وأبرأتك من نفقته، ونحو ذلك على قولين:

القول الأول: عدم صحة الخلع على ذلك، وهو قول ابن حزم، قال ابن حزم في بيان وجه استدلاله: (لا يجوز الخلع على أن تبريه من نفقة حملها أو من رضاع ولدها، وكل ذلك باطل، لأنه

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (276 )

غير معلوم القدر، وقد يزيد السعر وقد ينقص، ولأنه لم يجب لها بعد، فمخالعتها بما لا تملكه باطل وظلم) (1)

القول الثاني: إنه يصح الخلع على ذلك، وهو قول جماهير العلماء (2)، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ أن الرضاع مما يصح الاستئجار عليه قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الطلاق:6) فيصح أن يجعل جعلا في الخلع.

2 ـ أنه يصح الخلع بالمعدوم الذي ينتظر وجوده كما تحمل أمتها وشجرها.

3 ـ أن نفقة حملها ورضاع ولدها، ونفقته قد انعقد سبب وجوده وجوازه.

ولأصحاب هذا القول بعض التفاصيل المرتبطة بهذا الجانب، والتي يعسر ضبطها، وقد ذكرنا منها هنا ما تمس الحاجة إليه على المذاهب الفقهية المشتهرة، ويستدل بما ذكر على ما لم يذكر:

مذهب الحنفية: نص الحنفية على أنه إن خلع امرأته على رضاع ابنه منها سنتين جاز الخلع وعليها أن ترضعه سنتين، فإن مات ابنها قبل أن ترضعه شيئا يرجع عليها بقيمة الرضاع للمدة، وإن مات في بعض المدة رجع عليها بقيمة ما بقي، وهلاك الولد قبل الرضاع كهلاك عوض اختلعت عليه فهلك في يدها قبل التسليم فيرجع إلى قيمته، ولو شرط عليها نفقة الولد بعد الحولين وضرب لذلك أجلا أربع سنين أو ثلاث سنين فذلك باطل، وإن هلك الولد قبل تمام الرضاع فلا شيء عليها؛ لأن النفقة ليس لها مقدار معلوم فكانت الجهالة متفاحشة فلا يلزمها شيء ولكن الطلاق (3).

مذهب المالكية: نص المالكية على أنه لو خالعها على نفقة ولدها مدة الحولين ورضاعه فيهما جاز ذلك، وقد اختلفوا فيما لو شرط عليها نفقة الابن بعد الحولين أربع سنين

__________

(1) المحلى:10/ 3.

(2) الفتاوى الكبرى:3/ 336.

(3) بدائع الصنائع: 3/ 150.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (277 )

أو ثلاثا على رأيين (1):

الرأي الأول: أن ما زاد على نفقة الابن وإرضاعه في الحولين فهو باطل موضوع عن الزوجة، وإن شرط الزوج وليس له بما بطل من شرطه شيئا، وهو رواية ابن القاسم عن مالك، وقد علل ذلك بأن المتخالعين أدخلا الغرر فيما أوقعا به الخلع من النفقة، وما عدا ذلك من الغرر كالعبد الآبق، والجمل الشارد فالغرر دخل فيه بغير فعلها، وعلل بأنه حق مختص بالأب على كل حال فليس له أن ينقله إلى غيره، والفرق بين هذا وبين نفقة الحولين أن تلك النفقة وهي الرضاع قد تجب على الأم حال الزوجية وبعد الطلاق إذا أعسر الأب فجاز أن تنقل هذه النفقة إلى الأم.

الرأي الثاني: أن ما زاد على الحولين من مدة أربعة أعوام، أو إلى انقضاء أمد الحضانة جائز، وهو رواية المخزومي عن مالك، واختاره سحنون، لأنه إزالة ملك تجوز إزالته بالغرر فجاز إزالته بنفقة أربعة أعوام أصل ذلك العتق.

مذهب الحنابلة: نص الحنابلة على إن خالعها على رضاع ولده عامين، أو سكنى دار صح، فإن مات الولد، أو خربت الدار رجع بأجرة باقي المدة من أجرة الرضاع والدار (2)

ونصوا على انه إن خالعها على كفالة ولده عشر سنين، صح، وإن لم يذكر مدة الرضاع منها، ولا قدر الطعام والأدم، ويرجع عند الإطلاق إلى نفقة مثله، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله أخي موسى، آجر نفسه بطعام بطنه وعفة فرجه (ولأن نفقة الزوجة مستحقة بطريق المعاوضة، وهي غير مقدرة.

وللوالد أن يأخذ منها ما يستحقه من مؤنة الصبي، وما يحتاج إليه؛ لأنه بدل ثبت له في ذمتها، فله أن يستوفيه بنفسه وبغيره، فإن أحب أنفقه بعينه، وإن أحب أخذه لنفسه، وأنفق عليه غيره. وإن أذن لها في إنفاقه على الصبي، جاز فإن مات الصبي بعد انقضاء مدة الرضاع، فلأبيه أن

__________

(1) المنتقى: 4/ 62، المدونة:2/ 248.

(2) الإنصاف:8/ 400.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (278 )

يأخذ ما بقي من المؤنة (1).

مذهب الشافعية: نص الشافعية على أنه لو خالعها على أن عليها رضاع ابنها وقتا معلوما كان جائزا، لأن الإجارة تصح على الرضاع بوقت معلوم، فلو مات المولود وقد مضى نصف الوقت رجع عليها بنصف مهر مثلها، ولو لم ترضع المولود حتى مات أو انقطع لبنها أو هربت منه حتى مضى الرضاع رجع عليها بمهر مثلها، قال الشافعي: (وإنما قلت: إذا مات المولود رجع عليها بمهر مثلها ولم أقل يأتيها بمولود مثله ترضعه كما يتكارى منها المنزل فيسكنه غيره والدابة فتحمل عليها ورثته غيره إذا مات، ويفعل ذلك هو وهو حي لأن إبداله مثلها ممن يسكن سكنه ويركب ركوبه سواء لا يفرق السكن ولا الدابة بينهما، وأن المرأة تدر على المولود ولا تدر على غيره، ويقبل المولود ثديها ولا يقبله غيره، ويستمريه منها ولا يستمريه من غيرها، ولا ترى أمه ولا تطيب نفسها له وليس هذا في دار ولا دابة يركبها راكب ولا يسكنها ساكن (2)

وقد نصوا على انه إن خالعها على كفالة ولده عشر سنين لا يصح حتى يذكر مدة الرضاع، وقدر الطعام وجنسه، وقدر الإدام وجنسه، ويكون المبلغ معلوما مضبوطا بالصفة كالمسلم فيه، وما يحل منه كل يوم.

مذهب الإمامية: نص الإمامية على أنه لو كان الفداء رضاع ولده صح، مشروطا بتعيين المدة، وكذا لو طلقها على نفقته، بشرط تعيين القدر الذي يحتاج إليه، من المأكل والكسوة والمدة، ولو مات قبل المدة، كان للمطلق استيفاء ما بقي، فإن كان رضاعا رجع بأجرة مثله، وإن كان إنفاقا رجع بمثل ما كان يحتاج إليه في تلك المدة، مثلا أو قيمة، ولا

__________

(1) المغني:7/ 256.

(2) الأم:5/ 215.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (279 )

يجب عليها دفعه دفعة، بل أدوارا في المدة، كما كان يستحق عليها لو بقي (1).

مذهب الإباضية: نص الإباضية على أنه إن افتدت منه على أن تمون ولده منها مدة معلومة من درهم إلى عشرة آلاف، وعلى رد صداقها إليه صح ولم يدرك أن تمون ولده لأنه زيادة، وإن خالعها أو فاداها على أن تمونه فلها أن ترجع ولو عينت المدة كعشر سنين، وقالت: من درهم إلى كذا لجهلهما كم يستغرق الولد من ذلك، وإن فاداها بأن ترضع ولده إلى معلوم جاز، وقيل: لا، وإن ولدت من بطن ولو ثلاثا لزمها إرضاعهم إن لم يعين، وأجازوا أن يأخذ الزيادة إن لم يسئ إليها، وإن قالت: خذ مائة درهم أو أقل أو أكثر، واتركني الليلة فله أخذها فيتركها ولا فداء ولا إيلاء، وإن قالت: تركت لك صداقي، أو كذا وكذا منه، على أن تتركني الليلة، فتركها فله ذلك، وفي وقوع الفداء قولان، وقيل: إن تركها أربعة أشهر بانت بإيلاء وله ما أعطته (2).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الخلع على هذا يصح، لأن الشرع اعتبر في مثل هذا تراضي الطرفين، وقد ذكرنا أن الخلع لا يختلف عن الطلاق، فالمطلق قد افتدى من زوجته بالمهر، والزوجة تفتدي من زوجها بعوض الخلع، وبما أن المهر يصح أن يكون منفعة بنص القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام مع الشيخ الصالح، فإن عوض الخلع، وهو نظير المهر يصح أن يكون كذلك.

ولكن القول بالصحة مطلقا قد يكون باب من أبواب الفساد، وهو ما لحظه ابن حزم فسد الباب مطلقا، ولكن الأصح هو سد المفسدة لا سد الباب، والمفسدة التي نراها قد تنتج عن الإطلاق في هذا ومثله نوعان:

1 ـ الضرر الحاصل للزوجة، وذلك فيما لوكان عوض الخلع مرهقا، كما ذكر بعض

__________

(1) شرائع الإسلام:3/ 38.

(2) شرح النيل: 7/ 289.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (280 )

الفقهاء من جواز إنفاقها عليه عشر سنين، فإن في هذا عنتا لا يصح شرعا قبوله، بل يلزم الزوج هنا بالقبول بالخلع على ما لا يؤدي إلى ضررها، والأفضل أن يقيد في حده الأعلى بالمهر ونحوه على حسب أحوال الزوجة والزوج في ذلك، كما ذكرنا في مقدار العوض، وهذا ما لحظه الإمام مالك من عدم صحة الخلع على ما زاد على نفقة الابن وإرضاعه في الحولين وعلل ذلك بأنه باطل موضوع عن الزوجة.

2 ـ النزاع بين الزوجين بعد تمام الخلع، وذلك عند عدم التحديد أو التوثيق، والشرع ألزم في مثل هذا سدا لباب النزاع تحديد العقود وتوثيقها، فلذلك نرى الأرجح في هذا هو ما ذهب إليه الفقهاء الذين اشترطوا التحديد في الطعام وغيره، لأن الإطلاق سيثير النزاع الذي نهى عنه الشرع.

انطلاقا من هذا نرى صحة الخلع على أمثال هذه المنافع بالشروط التالية:

1 ـ تراضي الطرفين على ذلك.

2 ـ أن لا تكون في تلك المنافع مبالغة مؤذية للمرأة، ويحدد تلك المبالغة وضع المرأة ووضع زوجها، ويتكفل بمعرفة ذلك الخبراء المختصون.

3 ـ تفادي النزاع المستقبلي بتحديد كل ما يلزم تحديده من مدد، وأجناس وأنواع وتفاصيل، بحيث لا تترك لذلك مجالا للنزاع.

4 ـ توثيق العقود في ذلك تفاديا للخلاف.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (281 )

القسم الثاني

حل عصمة الزوجية بيد القضاء

نتناول في هذا القسم نوع التفريق الذي جعله الشارع لولي الأمر بناء على رعايته لمصالح المسلمين، وهذا النوع من التفريق يرتبط جميعه بالضرر، ويحتاج إلى التحري والوسائل التي لا يطيق تكاليفها غير القاضي أو من ينوب عنه، وقد حاولنا أن نحصر أنواع التفريق التي جعلت بيد القضاء في ثلاثة أنواع:

النوع الأول: التفريق بسبب الضرر الجبلي، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بالعيوب الموجبة للخيار، وهي أضرار جبلية لا علاقة للتكليف بها، وقد يحصل فيها من أنواع التغرير ما يستدعي تدخل القضاء، فلذلك جعل الفسخ فيها بيد القضاء.

النوع الثاني: التفريق بسبب التفريط في حقوق الزوجية من النفقة، وغيبة الزوج وفقده، أو الضرر الذي يسببه الزوج لزوجته، وهذا النوع كسبي، وهو يستدعي تدخل القضاء كذلك إما للتحري أو للإلزام والإعذار أو للتفريق إذا اقتضى الأمر ذلك.

النوع الثالث: التفريق بسبب اتهام الزوج لزوجته، وقد نسبناه إلى التفريق بأسباب أخلاقية، لأنه إما أن يكون الزوج كاذبا أو أن تكون المرأة زانية، وكلاهما يتنافى مع الأخلاق الإسلامية، وهذا النوع يستدعي تدخل القضاء للتحري، بل يستدعي كذلك تدخل الأطباء للتحقق من صدق الأمر، ونسبة الأولاد.

وقد خصصنا لكل نوع من الأنواع فصلا خاصا.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (282 )

الفصل الأول

التفريق بسبب الضرر الجبلي

أولا ـ العيوب التي تثبت الخيار للزوجين

اختلفت تعابير الفقهاء في تعريف العيب بحسب مواضع العيب، فالعيب المؤثر في البيع الذي يثبت بسببه الخيار هو ما نقصت به الملكية أو الرغبة أو الغبن، والعيب في الكفارة ما أضر بالعمل ضررا بينا، والعيب في الأضحية هو ما نقص به اللحم، والعيب في النكاح ما ينفر عن الوطء ويكسر ثورة التواق، والعيب في الإجارة ما يؤثر في المنفعة تأثيرا يظهر به تفاوت الأجرة (1).

1 ـ العيوب المعتبرة في الفسخ:

اختلف الفقهاء في العيوب التي تثبت الخيار للزوجين على قولين:

القول الأول: أنه ليس في النكاح عيوب توجب الحق في طلب الفسخ، لا بشرط ولا بغير شرط مطلقاً إلا في ثلاثة أمور هي: كون الرجل عنيناً أو مجنوناً أو خصياً أما ما عدا ذلك فلا يترتب عليه فسخ النكاح، ولو اشتد، أما المرأة، فخلوها عن العيب ليس بشرط للزوم النكاح، فلا يفسخ النكاح بشيء من العيوب الموجودة فيها، وهو قول النخعي، والثوري، والحنفية (2)، وقد روي عن علي: (لا ترد الحرة بعيب)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن علاقة الزوجية لها قدسية لا تقل عن قدسية القرابة، فإذا ارتبط اثنان برابطة

__________

(1) انظر: المجموع: 11/ 301، المبسوط:18/ 133، فتح القدير:6/ 355.

(2) وقال محمد: خلوه من كل عيب لا يمكنها المقام معه إلا بضرر كالجنون والجذام والبرص، شرط لزوم النكاح حتى يفسخ به النكاح، وخلوه عما سوى ذلك ليس بشرط، انظر: بدائع الصنائع:2/ 327..

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (283 )

الزوجية، وجب على كل منهما أن يحتمل ما ينزل بصاحبه من بلواء، فلا يصح أن ينفصل منه لمصيبة حلت به، بل يجب عليه مواساته بقدر ما يستطع فكما أن الإنسان لا يمكنه أن يقطع لحمة القرابة عندما يصاب أخوه أو قريبه بداء، فكذلك لا يصح له أن يقطع علاقة الزوجية لذلك.

2 ـ أن الجب والعنة والخصاء تتنافى معها الزوجية، لأن المجبوب، والعين والخصي كالمرأة - والمرأة لا تتزوج المرأة - لولا ذلك لما جاز طلب فسخ عقد الزواج بحال.

3 ـ أن النكاح لا يفسخ بسائر العيوب، فلا يفسخ بهذه العيوب أيضا.

4 ـ أن العيب لا يفوت ما هو حكم هذا العقد من جانب المرأة، وهو الازدواج الحكمي، وملك الاستمتاع، وإنما يختل، ويفوت به بعض ثمرات العقد، وفوات جميع ثمرات هذا العقد لا يوجب حق الفسخ بأن مات أحد الزوجين عقيب العقد حتى يجب عليه كمال المهر، ففوات بعضها أولى.

5 ـ أن الحكم الأصلي للنكاح هو الازدواج الحكمي، وملك الاستمتاع شرع مؤكدا له، والمهر يقابل إحداث هذا الملك، وبالفسخ لا يظهر أن إحداث الملك لم يكن، فلا يرتفع ما يقابل، وهو المهر، فلا يجوز الفسخ.

6 ـ أن هذه العيوب لا تمنع من الاستمتاع أما الجنون، والجذام، والبرص، فلا يشكل، وكذلك الرتق والقرن؛ لأن اللحم يقطع والقرن يكسر، فيمكن الاستمتاع.

7 ـ أن الحديث الذي استدل به أصحاب القول الثاني نقول بموجبه فإنه يجب الاجتناب عنه، والفرار يمكن بالطلاق لا بالفسخ، وليس فيه تعيين طريق الاجتناب والفرار.

القول الثاني: وهو اعتبار غيرها من العيوب، وهو قول الجمهور، وقد روي ذلك عن عمر، وابنه، وابن عباس. وبه قال جابر بن زيد، والشافعي، وإسحاق وأحمد، واستدلوا

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (284 )

على ذلك بما يلي:

1 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) (1)، والفسخ طريق الفرار، ولو لزم النكاح لما أمر بالفرار.

2 ـ أن مصالح النكاح لا تقوم مع هذه العيوب أو تختل بها؛ لأن بعضها مما ينفر عنها الطباع السليمة، وهو الجذام والجنون والبرص، فلا تحصل الموافقة فلا تقوم المصالح أو تختل وبعضها مما يمنع من الوطء وهو الرتق والقرن، وعامة مصالح النكاح يقف حصولها على الوطء، فإن العفة عن الزنا والسكن والولد لا يحصل إلا بالوطء.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم اعتبار التحديد الذي ذكره الحنفية أو الذي ذكره الجمهور من اقتصارهم على عيوب معينة، وإغفال ما هو أخطر منها، كالأمراض المعدية مثلا، لأن من تزوجت بمريض بهذا المرض ونحوه تؤدي بنفسها إلى حصول العدوى لا محالة، أما الأمراض غير المعدية والتي تقتصر خطورتها علىعدم حصول الرضى الجنسي بين الزوجين، فهو يرجع إلى مدى تقبلها لذلك، كما ذكرنا سابقا.

قال ابن القيم: (وأما الإقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها، أو مساو فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو إحداهما كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، والإطلاق ينصرف إلى السلامة، فهو كالمشروط عرفا، وقد قال أمير المؤمنين عمر الله عنه لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له: أخبرها أنك عقيم، وخيرها) (2)

ثم أعطى قاعدة ذلك بقوله: (والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا

__________

(1) البخاري: 5/ 2158، البيهقي: 7/ 135، ابن أبي شيبة: 5/ 142، أحمد: 2/ 443.

(2) زاد المعاد:5/ 184.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (285 )

يحصل به مقصود النكاح، يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط المشترطة في النكاح أولى من شروط البيع، وما ألزم الله ورسوله مغرورا قط ولا مغبونا بما غر به وغبن، ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما اشتمل عليه من الرحمة لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة)

وبهذا كان يقضي السلف، فعن ابن سيرين، أنه خاصم رجل إلى شريح فقال: إن هؤلاء قالوا لي إنا نزوجك بأحسن النساء، فجاءوني بامرأة عمشاء، فقال شريح: (إن كان دلس لك بعيب لم يجز)، قال ابن القيم معلقا على هذا القول: (فتأمل هذا القضاء إن كان دلس لك بعيب كيف يقتضي أن كل عيب دلست به المرأة فللزوج الرد به، وما قال يرد النكاح من كل داء عضال)

وليس هذا القضاء خاصا بشريح، بل (ومن تأمل فتاوي الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب)

أما العيوب غير المنفرة أو المعدية، والتي لا يحصل بها ضرر للزوجة، فإنها غير معتبرة في الكفاءة إلا إذا تم الاتفاق على اشتراط السلامة منها، أو دل العرف على اشتراطها، قال ابن القيم: (إذا اشترط السلامة أو شرط الجمال فبانت شوهاء أو شرطها حديثة السن فبانت عجوزا شمطاء أو بيضاء فبانت سوداء أو بكرا فبانت ثيبا فله الفسخ في ذلك كله، فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها، وإن كان بعده فلها المهر، وهو غرم على وليها إن غره، وإن كانت هي الغارة سقط مهرها أو رجع عليها به إن كانت قبضته) (1)

هذا بالنسبة للزوج، أما الزوجة، فهي أولى لأنه إذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى، وإذا جاز لها الفسخ إذا ظهر للزوج صناعة دنيئة لا تشينه ولا في عرضه وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به، فإنها إذا شرطته شابا جميلا

__________

(1) زاد المعاد:5/ 185.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (286 )

صحيحا فبان شيخا مشوها أعمى أطرش أخرس أسود، فكيف تلزم به وتمنع الفسخ، (هذا في غاية الامتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع، وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص، ولا يمكن منه بالجرب المتمكن وهو أشد إعداء من ذلك البرص اليسير، وكذلك غيره من أنواع الداء، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته، وحرم على من علمه أن يكتمه فكيف بالعيوب في النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بنت قيس حين استشارته في معاوية أو أبي الجهم: (أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) فعلم أن بيان في النكاح أولى وأوجب، فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به سببا للزومه) (1)

وقد قسم الجمهور العيوب التي تجوز للزوجين الخيار إلى ثلاثة أقسام هي:

أ ـ العيوب المشتركة بين الزوجين

أي (2) أنها قد توجب في الرجل، وقد توجد في المرأة، وقد توجد فيهما معا، فمتى أصاب أحدهما بالآخر عيبا، وبه عيب من غير جنسه، كالأبرص يجد المرأة مجنونة أو مجذومة كان للآخر أن يطلب مفارقته بفسخ النكاح، ولو كان معيباً مثله، لأن الإنسان يكره من غيره ما لا يكره من نفسه.

أما إذا وجد المجبوب المرأة رتقاء، فلا يثبت لهما خيار؛ لأن عيبه ليس هو المانع لصاحبه من الاستمتاع، وإنما امتنع لعيب نفسه، أما إن وجد أحدهما بصاحبه عيبا به مثله، ففيه قولان كلاهما وجهان عند الحنابلة (3):

القول الأول: لا خيار لهما؛ لأنهما متساويان، ولا مزية لأحدهما على صاحبه، فأشبها

__________

(1) زاد المعاد:5/ 185.

(2) دليل الطالب: 235، منار السبيل: 2/ 164، إعانة الطالبين: 3/ 334، الفواكه الدواني: 2/ 37، الشرح الكبير: 2/ 77، القوانين الفقهية: 142، حاشية العدوي: 2/ 101، جواهر العقود: 2/ 32.

(3) كشاف القناع: 5/ 111.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (287 )

الصحيحين.

القول الثاني: له الخيار؛ لوجود سببه، فأشبه ما لو غر عبد بأمة.

الترجيح: نرى أن الأرجح في المسألة هو ثبوت الخيار لهما، لوجود الغرر من كليهما، فلذلك لكل منهما الحق في فسخ هذا الزواج المبني على التدليس.

وقد ذكر الجمهور هذه العيوب، وهي:

الجنون:

وهو يثبت الخيار في قول الجمهور، سواء كان مطبقا أو كان يجن في الأحيان؛ لأن النفس لا تسكن إلى من هذه حاله، إلا أن يكون مريضا يغمى عليه، ثم يزول، فذلك مرض لا يثبت به خيار. فإن زال المرض، ودام به الإغماء، فهو كالجنون، وقد ذكر المالكية للجنون حالتين هما:

الحالة الأولى: أن يحدث قبل العقد، وحكمه في هذه الصورة أنه إن لم يعلم به الزوج أو العكس، فلكل من الزوجين أن يرد به الآخر قبل الدخول وبعده، بشرط أن يقع من صاحبه ضرر كضرب أو إفساد مال، أما إذا كان يتخبط ويفيق، كالمصروع، فإنه لا يرد به.

الحالة الثانية: أن يحدث بعد العقد وقبل الدخول، وللمالكية في هذه الحالة أربعة آراء هي:

الرأي الأول: لا يثبت الخيار للزوج، سواء كان ذلك قبل الدخول أو بعده، وهذا هو المعتمد، لأن المرأة مستضعفة بطبيعها، وهي رهينة المنزل، يمكن اتقاء الضرر الذي يترتب على جنونها، ويمكن الاستمتاع بها وهي على هذه الحالة بخلاف الزوج، كما أن الزوج بيده عقد النكاح فيمكنه أن يطلق عند عدم تمكنه من دفع ضررها.

الرأي الثاني: أنه لا فرق في ذلك بين الزوج والزوجة، فالجنون العارض بعد العقد يجعل الخيار لكل من الزوجين قبل الدخول وبعده.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (288 )

قال الباجي: (فإذا قلنا: يفرق بينهما في الجنون ضرب له أجل سنة يتعالج فيها، وقد قال مالك: يحبس في حديد أو غيره إن خيف عليها منه، وهذا في الذي يخاف عليها منه وهي مع ذلك لا تستوحش من مجالسته ويخاف عليها من ذلك أذى، فإن عندي أنه يفرق بينهما، فإن برئ المجنون في السنة قال مالك، فإن برئ وإلا فهي بالخيار) (1)

الرأي الثالث: إن حدث قبل الدخول كان للمرأة الرد دون الرجل، وإن حصل بعد الدخول ليس لها الرد كالرجل، وأشار ابن حبيب إلى التفرقة بين الجنون الموجود حين العقد، والحادث بعده فقال فيمن زوج ابنه صغيرا فلما بلغ ظهر أنه أحمق مطبق فأرادت هي أو ولي الصغيرة الفسخ وقالت: كان الجنون به قديما وبالبلوغ ظهر فهذا لا يعرف، وهو على أنه حادث

الرأي الرابع: لا يرد بالجنون الحاصل بعد العقد مطلقاً سواء عرض للرجل أو للمرأة، وقد روى عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب في المجنون سواء كان جنون إفاقة أو مطبق إن كان يؤذيها ويخاف عليها منه حيل بينهما وأجل سنة ينفق عليها من ماله، فإن برئ وإلا فهي بالخيار، وإن كان يعفيها من نفسه ولا تخاف منه في خلوته بها فلا حجة لها وقال نحوه أشهب ووجه ذلك أن هذا ليس بمعنى مؤثر في الاستمتاع، فإذا أعفاها من نفسه ولم يخف منه عليها فلا خيار لها.

الجذام:

وييثبت به (2) الخيار للزوجة، سواء وجد في الرجل قبل العقد أو بعده، سواء كان قليلاً أو كثيراً بشرط أن يكون محققاً، أما إذا كان مشكوكاً في أنه جذام، أو لا، فإنه لا يرد به

__________

(1) المنتقى:4/ 122.

(2) وهو علة يحمر منها العضو ثم يسود ثم يتقطع ويتناثر، ويحدث ذلك في كل عضو لكنه في الوجه أغلب، الإقناع للشربيني:4/ 320.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (289 )

اتفاقاً أما الرجل فله حق الفسخ إن كان موجوداً في المرأة قبل العقد أو عند العقد، سواء كان قليلاً أو كثيراً، ولا حق له في الفسخ بالجذام الحادث بعد العقد مطلقاً، كما لا حق لأحدهما في الفسخ بالجذام القائم بأصولهما كالأب، والجد والأم خوفاً من وصول الداء بطريق الوراثة لأن ذلك غير مستيقن، فلا عبرة به.

وقد اختلف الفقهاء في مقدار الجذام الذي يوجب لها الخيار على قولين كلاهما للمالكية (1):

القول الأول: ليس له حد إلا أن يكون بشعا حسا لا يحتمل النظر إليه وتغض الأبصار دونه فلها الخيار، وهو قول أشهب، لأنه لا يمنع نفس الاستمتاع، وإنما يلزمه، فإذا لم يكن فيه أذى ولا مضرة من قبحه فلا خيار لها.

القول الثاني: أنه إذا كان بالرجل جذام لا شك فيه، وإن لم يكن مؤذيا ولا فاحشا فليفرق بينهن إن طلبت ذلك؛ لأنه لا تؤمن زيادته. وأما الخفي الذي يشك فيه ولا يعرف أنه جذام فلا يفرق بينهما، وهو قول ابن وهب؛ لأن النفوس مجبولة على كراهته، والنفار ممن هو به، وذلك يمنع النشاط إلى الاستمتاع، والانبساط إليه فاقتضى ذلك منع الاستمتاع كما لو كان الجذام بالمرأة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو اعتبار الأذى وعدم إمكان الشفاء والأمن من العدوى في الجذام وغيره، فإذا تحققت هذه الاعتبارات الثلاثة، بأن كان غير مؤذ لقلته أو لخفائه، وكان في نفس الوقت محتمل الشفاء، أو على الأقل أمن عدم الانتشار، وأمن أن تحصل به العدوى لم يستحق أحد الزوجين الفسخ، بخلاف غياب أحد هذه الاعتبارات.

طلب التفريق بعد الرضى:

__________

(1) المنتقى:4/ 121.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (290 )

اختلف الفقهاء فيما لو اختارت المقام معه، ثم قامت بعد سنين بطلب التفريق بينها وبينه بسبب جذامه على قولين (1):

القول الأول: أنه يصح طلبها التفريق، وهو قول أشهب، لأن هذا أمر يشتد ضرره ويتزايد أمره ولا يكاد يثبت على حالة واحدة.

القول الثاني: أن الإمام إذا خير زوجة الأجذم فاختارت المقام ثم قامت بعد سنين لا حجة لها إذا كان رضاها عند السلطان أو غيره إذا أشهدت إلا أن يتزايد أمره، وهو قول ابن القاسم، لأنها إذا رضيت المقام معه عند السلطان لزمها، لأن السلطان قد حكم بإسقاط خيارها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أنه ليس لها الفسخ بعد الرضى التام كما نص عليه أصحاب القول الثاني إلا إذا تزايد الداء، أو خافت من العدوى، فلها الخيار في ذلك، ولو كان بعد الرضى، لأن في رضاها ثم نفورها بعد مدة أذى للزوج، وقد يسبب ذلك ضررا له، فلذلك لم يكن لها الحق في التفريق بالفسخ، وإن أرادت مفارقة زوجها كان لها الحق في الخلع الذي يعوض بعض أضرار الزوج من فراقها.

البرص:

ولحكمه حالتان (2):

الحالة الأولى: إن يكون قبل العقد: ويفرق في هذه الحالة بين كون البرص (3) كثيراً، فيجعل لكل من الزوجين الخيار في الفسخ، أما إذا كان يسيراً فترد به المرأة باتفاق، وفي رد

__________

(1) المنتقى:4/ 121.

(2) الوسيط: 5/ 159، حواشي الشرواني: 7/ 278، روضة الطالبين: 7/ 176، شرح فتح القدير: 4/ 304، التاج والإكليل: 3/ 484، الكافي: 259.

(3) وهو بياض شديد يبقع الجلد ويذهب دمويته، الإقناع للشربيني:4/ 320.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (291 )

الرجل باليسير من البرص رأيان:

الرأي الأول: وهو الرد من قليله وكثيره، ففي العتبية من سماع ابن القاسم عن مالك: أترد المرأة من قليل البرص؟، فقال: ما سمعت إلا ما في الحديث، وما فرق بين قليل ولا كثير.

الرأي الثاني: ترد من قليله ولو أحيط علما فيما خف منه أنه لا يزيد لم ترد منه، ولكن لا يعلم ذلك فترد من قليله، وهو قول ابن القاسم ودليله أن يسيره لا يؤثر في الاستمتاع، ولكنه لا يكاد يتوقف قبل المعتاد منه التزايد فكان ذلك لتيقنه بمنزلة الموجود منه. (1)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الرد من قليله وكثيره قبل العقد حتى لا يتم البناء إلا على توافق تام بين الزوجين، ومثله في كل مرض يمكن تطوره، فالأفضل قبل البناء التروي حتى لا يحصل التفريق بعد البناء، تطبيقا لقواعد إزالة الضرر.

الحالة الثانية: أن يحدث بعد العقد: ويفرق في هذه الحالة كذلك بين كونه يسيراً، فلا رد به لأحدهما، سواء وجد في الزوج أو الزوجة، أما إن كان كثيراً وكان في الرجل كان للمرأة الحق في الفسخ، وإن كان في المرأة فليس للرجل حق الفسخ، وذلك لأن الرجل بيده الطلاق، فإن تضرر منها فارقها بالطلاق، والفرق بين حدوثه بعد العقد وقبله ظاهر، لأن المفروض قبل العقد أن تكون المرأة سليمة من العيوب المنفرة، أما بعد العقد فالبرص مصيبة من المصائب التي تعرض لأحد الزوجين، ولما كانت الزوجة لا تملك الفراق جعل لها الخيار بخلاف الرجل الذي يملكه.

العذيطة:

__________

(1) المنتقى:3/ 279.

 

أحكام الطلاق والفسخ برؤية مقاصدية (292 )

وهي (1) عيب يرد به الزوجان إذا كان قديماً موجوداً في أحدهما قبل العقد، أما إذا حدث بعد العقد أو شك في حدثه بعد العقد، فإنه لا يثبت لأحدهما به الخيار، وبعضهم يقول، إن العذيطة إذا حدثت على الرجل بعد العقد كان للمرأة حق الفسخ بها، بخلاف ما إذا حدثت على المرأة فإنها لا تجعل للرجل الحق في الفسخ، كالجذام، لأن الرجل بيده الطلاق دونها.

أما البول على الفراش أو عند الجماع أو بالريح، فهذه لا فسخ فيها عند الجمهور، وقال أبو بكر وأبو حفص: إذا كان أحدهما لا يستمسك بوله فللآخر الخيار، قال أبو الخطاب: ويتخرج على ذلك من به الباسور، والناصور، والقروح السيالة في الفرج، لأنها تثير نفرة، وتتعدى نجاستها، وتسمى من لا تحبس نجوها الشريم، ومن لا تحبس بولها المشولة، ومثلها من الرجال الأفين. (2)

كون أحد الزوجين خنثى:

وقد ذكر الحنابلة فيه وجهان؛ أحدهما، يثبت الخيار؛ لأن فيه نفرة ونقصا وعارا، وهو الأرجح لما سبق بيانه.

ب ـ العيوب الخاصة بالرجل