×

الكتاب: القرآن.. والحجج البالغة

الوصف: رواية حول الحقائق القرآنية العظمى والحجج الدالة عليها

السلسلة: التنزيل والتأويل

المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الأولى، 1444 هـ

عدد الصفحات: 679

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-4-72146-0

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

هذا الكتاب هو المقدمة الثامنة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الثالثة من خصائص القرآن الكريم، خاصية إقامة الحجة على المخالفين، وفي كل الشؤون، والتي نص عليها قوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: 149]

وحجة الله البالغة هي التي تبلغ جميع العقول، وتستعمل جميع وسائل الوصول إليها، لتقطع عنها كل الأعذار، وتزيل عنها كل الشبهات، وتكشف عنها ما يحول بينها وبين التسليم للحق.

وهي التي استعملها المتكلمون من علماء العقائد خصوصا، وعبر العصور المختلفة، وإن كانوا قد جنحوا في بعض مباحثهم عن المنهج القرآني البسيط والعميق، والذي لا يتكلف البحث عما لا طاقة للعقول به.

ومن خلال استقرائنا لما ورد في القرآن الكريم من الحجج البالغة وجدناها تتوجه إلى سبعة أصناف من الناس، يوجدون في كل العصور، وإن اختلفت أسماؤهم أو ألقابهم أو المصطلحات الدالة عليهم.

وقد خصصنا كل صنف منهم بفصل خاص، وهم الغافلون، والملاحدة، والمشركون، والربوبيون، والدهريون، والمحرفون، والمعارضون.

القرآن والحجج البالغة (9)

مقدمة

هذا الكتاب هو المقدمة الثامنة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الثالثة من خصائص القرآن الكريم، خاصية إقامة الحجة على المخالفين، وفي كل الشؤون، والتي نص عليها قوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: 149]

وحجة الله البالغة هي التي تبلغ جميع العقول، وتستعمل جميع وسائل الوصول إليها، لتقطع عنها كل الأعذار، وتزيل عنها كل الشبهات، وتكشف عنها ما يحول بينها وبين التسليم للحق.

وهي التي استعملها المتكلمون من علماء العقائد خصوصا، وعبر العصور المختلفة، وإن كانوا قد جنحوا في بعض مباحثهم عن المنهج القرآني البسيط والعميق، والذي لا يتكلف البحث عما لا طاقة للعقول به.

ومن خلال استقرائنا لما ورد في القرآن الكريم من الحجج البالغة وجدناها تتوجه إلى سبعة أصناف من الناس، يوجدون في كل العصور، وإن اختلفت أسماؤهم أو ألقابهم أو المصطلحات الدالة عليهم، وقد خصصنا كل صنف منهم بفصل خاص، وهم بهذا الترتيب:

أولاـ الغافلون: وهم المستغرقون في الحياة الدنيا، ولذلك لا يهتمون لا بالله، ولا باليوم الآخر، ولا بحقيقتهم أو مصيرهم، أو يعتبرون البحث في ذلك فضولا ولا أهمية له.. وقد بدأنا بهم، باعتبار الغفلة هي الخطيئة العظمى التي تحول بين الإنسان وبين البحث، وهي للأسف موجودة في كل العصور، وإن تسمت بأسماء مختلفة.

ثانيا ـ الملاحدة: وهم المنكرون لوجود الله، وقد ذكرنا البراهين القرآنية التي تلزمهم

القرآن والحجج البالغة (10)

الحجة، وهي نفس البراهين التي استعملها المتكلمون والفلاسفة، وإن كانت صياغة القرآن الكريم لها أرق وأسهل وأبسط وأجمل، لأنها لا تكتفي بمخاطبة العقل فقط، وبالمناهج الجافة، وإنما تخاطب الوجدان جميعا.

ثالثا ـ المشركون: وهم الذين يؤمنون بالله، ولكنهم يشركون معه غيره، وقد بينا فيه أنواع الشرك، ومخالفتها للعقل، ومثل ذلك ذكرنا البراهين الدالة على التوحيد، والتي نص عليها القرآن الكريم، وفصلها المتكلمون والفلاسفة الإسلاميون.

رابعا ـ الربوبيون: وهم المنكرون للنبوة، وقد ذكرنا فيه ما ورد في القرآن الكريم من الحجج المختلفة الدالة على النبوة، والتي دل عليها العقل والواقع.

خامسا ـ الدهرية: وهم المنكرون للمعاد، وقد ذكرنا فيه ما ورد في القرآن الكريم من الحجج المختلفة الدالة على إمكانية المعاد وثبوته، والتي دل عليها العقل والواقع.

سادسا ـ المحرفون: وهم الذين حرفوا أديان الأنبياء عليهم السلام، سواء كانوا من اليهود والنصارى أو غيرهم، وقد ذكرنا فيه ما ذكره القرآن الكريم من أسباب التحريف، وردوده المختلفة عليهم سواء في تحريفاتهم المرتبطة بالعقائد، أو تلك المرتبطة بالقيم.

سابعا ـ المعارضون: وهم الذين يعارضون الله تعالى سواء في مقاديره، تحت ما يسمى بمعضلة الشر، أو يعارضون شريعته باسم العلمانية أو غيرها من الأسماء.. وقد ذكرنا ردود القرآن الكريم المختلفة على هؤلاء جميعا.

هذه هي الفصول السبعة للكتاب، والتي صغناها على شكل رواية بسيطة، تحاول أن تقرب تلك المعاني لأكثر الناس بسهولة ويسر، وهي تحوي الكثير من المشاهد التي رآها تلميذ القرآن في رحلته إلى البلاد التي عاين فيها أولئك الذين تتلمذوا على معلمهم الرضا، وكيف استطاع وبالقرآن الكريم أن يجيب على كل إشكالاتهم، ليتحولوا جميعا إلى دعاة إلى

القرآن والحجج البالغة (11)

ما دعاهم إليه.

وقد اخترنا أن يكون معلم هذه الرواية هو الرضا، بناء على أن الإمام الرضا كان من الذين اهتموا بالحوار مع أصحاب الأديان المختلفة، ولذلك تيمنا بذكر اسمه هنا، باعتباره نموذجا للعالم المسلم الذي يقتبس الحجج القرآنية، ويحسن عرضها.

وأنبه إلى أني حاولت في هذا الكتاب مثل سائر الأجزاء السابقة أن أختار من التفاسير في كل آية أسهلها وأيسرها، مع العلم أننا سنمر على نفس الآيات في مواضع أخرى من كتب السلسلة، ولكن بمنهج آخر يتناسب معها، وربما بتعقيد أكبر، ولذلك كانت هذه المقدمات ضرورية لتيسير فهم ما بقي من أجزاء.

وأنبه كذلك إلى أني أتصرف في الاقتبسات بحسب الحاجة، ولذلك لا أورد المصطلحات التي قد يعز فهمها على أكثر الناس إلا إذا اضطررت إلى ذلك.

كما أني أنبه إلى أني في هذا الجزء خصوصا أكتفيت بتوثيق المقتبسات من كتب التفسير أو غيرها من أول الاقتباس، وليس عند كل اقتباس بعده، لأنه عادة يكون في نفس الصفحة أو الصفحات التالية لها.

وقد دفعني إلى ذلك أني رأيت أن الأجدى من باب التيسير تقطيع النصوص المقتبسة إلى مقاطع قصيرة ليسهل فهمها والتصرف فيها، ولذلك اعتمدت أن يكون المتحدثون كثيرين في كل محل، حتى لا أضطر إلى إطالة كلام شخص واحد.. ذلك أن كل مقطع يعبر عن جزء بسيط من الفكرة يسهل فهمه.

القرآن والحجج البالغة (12)

البداية

ما إن طلب مني معلمي تجهيز نفسي لرحلتي الجديدة إلى [القرآن.. والحجة البالغة] حتى رحت أتدبر القرآن الكريم لأبحث في الحجج والبراهين الواردة فيه، وقد توهمت في البداية أنها ستكون خاصة بمسائل التوحيد والبعث، باعتبارها من المسائل الكبرى التي أعرض عنها المشركون والدهريون.. لكني وجدت الأمر مختلف تماما.

لقد وجدت أنه لا توجد أي قضية مطروحة في القرآن الكريم دقيقة أو جليلة.. صغيرة أو كبيرة.. إلا وقد طُرح معها ما يبرهن عليها بأعظم الحجج وأقومها.

وقد دعاني ذلك إلى التعجب من العقول التي أعرضت عنها، ولم تتدبر فيها، مع عمق معانيها، ووضوح دلالتها.

وقد شاء الله أن يتيح لي في ذلك الحين من المشاهد ما يملؤني بالأسى والألم على هجر القرآن الكريم في هذه الناحية، كهجره في غيرها من النواحي.

بل رأيت ما هو أخطر من ذلك، حيث سمعت بعضهم يذكر أن الحجج القرآنية لا تناسب عقول المفكرين والفلاسفة والباحثين.. بل هي تتناسب مع عقول العوام والدهماء والبسطاء الذين لا يفرقون بين المقدمات والنتائح، ولا يعرفون القياس ولا الاستقراء.. ولا الموضوع ولا المحمول.. ولا المنطق الصوري ولا الرياضي.

ورأيت بعضهم يذكر أن الحجج القرآنية تتناسب مع البيئة البدوية البسيطة التي عاش فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاطبها ودعاها، وأنه لذلك ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 17 ـ 20]، حيث ذكر في الآية الكريمة ما يتناسب مع ما يراه

القرآن والحجج البالغة (13)

البدوي من الإبل والسماء والأرض دون غيرها.

ورأيت بعضهم يشيد بالعقول الجبارة للمتكلمين والفلاسفة، ويذكر أنه لولا براهينهم التي صاغوها، أو نقلوها من الفلاسفة السابقين، لما بقي للقرآن الكريم، ولا للدين أي وجود.

وقد حاولت أن أخبرهم بأن كل تلك البراهين التي ذكرها المتكلمون والفلاسفة والعلماء بمختلف مشاربهم توجد في القرآن الكريم، وأن الله تعالى خاطب بها عباده، وبأجمل عبارة وأيسرها بعيدا عن التعقيد والتكلف.. لكني لم أر منهم أي جواب، ولم أسمع منهم أي رد.. لا لأنهم عجزوا عن الرد، بل لأن صوتي كان أدنى وأحقر من أن يبلغهم، أو يلتفتوا إليه.

وكيف يبلغهم صوتي، وأنا عندهم مجرد رويبضة أو نكرة، لا يهتمون بما يقول.. ولا يمكن لمن لم يهتم أن يسمع.

في غمرة ذلك الأسى النفسي الذي مررت به.. أكرمني الله برحلتي الجديدة، والتي لا تختلف في صورتها العامة عن رحلتي السابقة إلى القرآن والعزاء الشافي.. والتي تعلمت منها ومن معلمها الكاظم، أحسن الطرق في تبليغ الحقائق القرآنية، وبأجمل صورة، وأفضل بيان.

وهكذا تعلمت في هذه الرحلة من المعلم الجديد الكثير من المعاني السامية التي سأحكيها لكم، كما رأيتها وسمعتها، وبدقة وأمانة.

وقد كان المعلم الجديد الذي تشرفت بتعلم هذه العلوم النبيلة على يدي من تتلمذ على يديه يُلقب بـ[الرضا]، ولست أدري، هل كان ذلك اسمه، أو أنه لقب أطلق عليه، لما كانت عليه حاله النفسية من الرضا عن الله، وعن شريعة الله، وعن أقدار الله، وعن حجج

القرآن والحجج البالغة (14)

الله.

وقد شاء الله أن لا أرى من حياته إلا مشهد شهادته، والمملوء هو الآخر بكل معاني الرضا والتسليم لله تعالى.

فعندما وصلت إليه في تلك البلاد الغريبة، رأيته يتشحط في دمه، بعد أن أصابه سهم لم يدر أحد مصدره.. وقد سمعته يقول، والابتسامة تغمر محياه: فزت ورب الكعبة.

ثم التفت إلي، وإلى الذين التفوا به يبكون بحرقة شديدة، وقال: الحمد لله رب العالمين، لقد تفضل الله علي بأن أموت الموتة التي كنت أحلم بها طول حياتي.. وأنا أسألكم أن تستمروا في الطريق الذي تسيرون فيه.

ثم سكت قليلا، ليجمع ما بقي له من أنفاس، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: 149]، ثم قال: لقد أقام الله تعالى على عباده الحجج البالغة، فبلِّغوها بأمانة، ولا تسيئوا إليها، ولا تحرفوها.. واعلموا أنكم مبلغون لا مسيطرون.. ودعاة لا قضاة.. وهداة لا منفرون.. وجنود الله، لا جنود إبليس.. فلذلك لا تلزموا أحدا بما تقتنعون به، بل دعوه وعقله ليفكر فيما تطرحونه؛ فإن الهداية من الله لا منكم.

قال ذلك.. ثم لفظ آخر أنفاسه، وهو فرح مسرور يردد الشهادتين بشوق وشغف.

بعد أن رأيت ذلك المشهد المؤلم الذي بدأت به رحلتي الجديدة، أصابني حزن لا يقل عن حزني السابق.. لكن بعض تلاميذ ذلك المعلم الشهيد، وفي الجنازة المهيبة التي أقيمت له، أخذوا بيدي، وانتحوا بي جانبا، وقال لي أحدهم: لا تحزن.. فإن استشهد معلمنا، فنحن خلفاؤه وتلاميذه.. وسترى فينا إن شاء الله ما فاتك أن تراه فيه.. فنحن جميعا نسعى لأن نكون قرآنا ناطقا بمعارفه وقيمه وحججه.

القرآن والحجج البالغة (15)

قلت بألم: ولكن لم قتلوه؟

قال أحدهم: لأن القتل هو حجة المستكبرين الظالمين المعاندين، بعد أن يصيبهم البهت الذي أصاب ذلك الملك الذي ذكره الله تعالى في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258]

قال آخر: وهكذا، فإن معلمنا الرضا بهتهم بحججه العظيمة، والتي كان يستلهمها من القرآن الكريم، ويصيغها بما يتناسب مع عقول من يحاورهم ويحاججهم.

قال آخر: وقد ألان الله له العقول والقلوب، فاستجابت له الكثير من القرى.. واستجاب له الكثير من العقلاء.

قال آخر: لكن الطغاة خشوا على عروشهم من تأثير كلماته، فأرسلوا إليه ذلك السهم الذي ختم الله به حياته.

قلت: فما أنتم فاعلون بعده؟

قال أحدهم: إن مات معلمنا، فقد بقي معلم معلمنا.. فقد كان معلمنا الشهيد يستلهم كل معارفه وحججه من القرآن الكريم، وقد علّمنا من علوم ذلك، ما يجعلنا بتوفيق الله وإذنه أهلا للسير على خطاه.

قلت: منذ متى بدأتم التلمذة على يديه؟

ابتسم أحدهم، وقال: بل قل منذ متى أنقذكم من غفلتكم وجهلكم وإلحادكم وشرككم وظلمكم للحقائق.

قلت: ما تعني؟

القرآن والحجج البالغة (16)

قال أحدهم: لقد كانت كل هذه البلاد التي تراها، وما يحيط بها، بلادا مملوءة بالضلالة والجهل والخرافة والشرك.. اجتمعت فيها أصناف الملل والنحل.. وكنا منهم ومثلهم، نعتقد ما يعتقدون إلى أن جاءنا وحيدا فريدا ليس معه من الدنيا إلى القليل.

قال آخر: لكنه استطاع أن يسلب عقولنا بسلوكه الطيب وكلماته النيرة وحججه البالغة التي لم يكن يستلهمها من غير القرآن الكريم.

قال آخر: وقد استطاع بها أن يحاور فلاسفتنا ومفكرينا ورجال ديننا، فمنهم من اقتنع وسلم، ومنهم من ركب رأسه وعاند وجحد.. لكنه بعد أن رأى من سلوكه وأخلاقه ما رآه، عاد إليه عقله، واهتدى سبيل الرشاد.. إلا نفرا محدودا من المعاندين الذين أصابوه اليوم بسهام غدرهم، وقد أصابوه قبلها بمجموعة سهام، لكن الله رد كيدهم في نحرهم.

قال آخر: لكنا لن نيأس منهم.. بل سنظل نواصل معهم ما كان معلمنا ما يدعونا إليه.

قلت: هل تريدون حربهم وقتالهم؟

قال أحدهم: لو فعلنا ذلك، فسندخل متاهة من الفتن لا نهاية لها.

قال آخر: وحينها سنوفر لهم المبرر ليقمعوا العقول، وينشروا الضلال.

قال آخر: ولذلك سنمارس معهم ما مارسه معلمنا من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.

قال آخر: وإن شاء الله سيتحقق النصر الأعظم، الذي يدخلون به إلى دين الله أفواجا، ومن غير حاجة لأي حرب ولا فتنة.

قلت: لكن دماءكم ستسفك، إن لم تسفكوا دماءهم.

قال أحدهم: نحن نرضى أن تسفك دماءنا كما سفكت دماء معلمنا.. فتلك ضريبة

القرآن والحجج البالغة (17)

الحق التي لا بد منها.

قلت: لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل ذلك.. فقد قاتل المشركين المعاندين.

قال أحدهم: أجل.. هو فعل ذلك في المدينة المنورة، دفاعا عن حرم الإيمان المقدس، وبعد أن أقام الحجة عليهم، وبعد أن تميزت الصفوف.

قال آخر: وهو لم يفعل ذلك في مكة المكرمة، لأن الظروف كانت مختلفة تماما.

قلت: لم أفهم ما تعنون.

قال أحدهم: لقد استطاع أعداؤنا أن يدسوا بيننا الكثير من العملاء، وأعطوهم من الدنيا ما يرضيهم حتى يسفكوا دماء كل من تسبب في هداية هذه البلاد وما جاورها.

قال آخر: ومن الصعب علينا معرفة أمثال هؤلاء.. فهم بيننا ومنا، وهم يقومون بجرائمهم، وهم في غاية التستر.

قال آخر: ولذلك اخترنا واختار معلمنا بدل البحث عنهم أو مواجهتهم بالسيف مواجهتهم بالحجة.

قال آخر: والحمد لله.. في كل حين نجد من هؤلاء من يسلم لنا سلاحه، ويتوب إلى الله بعد أن يستمع لأحاديثنا أو أحاديث معلمنا.

ما وصل التلاميذ من حديثهم لي إلى هذا الموضع، حتى أقيمت صلاة الجنازة، ثم راح القوم بعدها يؤبنونه، وقد سمعت من كلماتهم في الثناء عليه، ومعاهدته على السير على دربه، ما دلني على مبلغ تأثيره فيهم.

القرآن والحجج البالغة (18)

أولاـ القرآن.. والغافلون

كان أول من التقيت به بعد انصرافي من الجنازة، رجلا أمسك بيدي، وقال: هلم معي يا تلميذ القرآن إلينا معشر الغافلين التائبين.. فقد بدأ معلمنا الشهيد دعوته بنا.. فلا يمكن أن تقام الحجة على غافل.. فالغفلة هي الحجاب الأعظم الذي يحول بين العقل والبحث.

قلت: ولكني ـ كما طلب مني معلمي ـ أبحث عن القرآن والحجة البالغة.. والغفلة لها علاقة بالتزكية والتربية، لا بالمعارف والبراهين.

قال: تعلق الغفلة بالتزكية والتربية لا يحول بينها وبين التعلق بالمعارف والبراهين.. فالمعارف والبراهين جواهر سامية لا ينالها الغافلون الذين يحتقرونها ولا يهتمون بها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أرأيت لو أن نيوتن لم يهتم بسقوط التفاحة، وتعامل معها كحادث عادي، وراح يتناولها كما يتناولها سائر الناس، بل راح يسخر من السائل عن سبب سقوطها.. هل يمكنه أن يكتشف تلك الاكتشافات، أو يعرف تلك المعارف.

قلت: لا.. لا يمكنه ذلك.

قال: وهكذا الأمر في كل الأمر في كل المعارف.. فالاهتمام بها، والجد في البحث عنها، وتقدير ما يصل إليه من نتائج هو الذي يؤهله للمعرفة، وإلا فستكون غفلته هي الحجاب بينه وبينها.

ما إن ذكر هذا حتى التقينا نفرا من الناس يقبلون علينا، ويسلمون علي بحرارة، ثم قالوا لصاحبي: أهذا هو الذي ذكره لنا معلمنا الشهيد؟

القرآن والحجج البالغة (19)

قال: أجل.. وقد أتيت به لتحدثوه عنكم، وكيف خرجتم من ضلالات الجهل إلى نور الهداية.

قال أحدهم، وكان أكبرهم: الحمد لله الذي منّ علي بلقائه ليكتب شهادتي، فلعل الله أن ينفع بها بعد وفاتي كما نفع بها في حياتي.

قال آخر: نحن ـ يا تلميذ القرآن ـ لم نكن ـ قبل أن يمن الله علينا بالهداية ـ نفتقر إلى العقل الواعي، ولا إلى القدرة على التفكير، ولا إلى المصادر التي نتلقى منها المعارف.. ولكنا كنا نفتقر إلى الهمة العالية التي تحركنا إليها، والشوق الذي يحدو قلوبنا للإنصات لها.

قال آخر: وقد أدرك معلمنا الشهيد سبب ما حصل لنا، فراح ـ بدل محاجتنا بالبراهين ـ يعلمنا من المعارف ما نطرد به داء الغفلة واللامبالاة وعدم الاهتمام.. وقد كان ذلك وحدة كفيلا لهدايتنا، وبأيسر الطرق.

قال آخر: لقد كان حالنا مثل حال من يستغشي ثيابه حتى لا يرى، ويضع أصابعه في أذنيه حتى لا يسمع.. فلذلك اكتفى معلمنا بإزاحة أثواب الغفلة عن عيوننا وأبصارنا؛ فسمعنا وأبصرنا.. واهتدينا.

قال آخر: وقد استفاد معلمنا هذا المنهج من القرآن الكريم، فقد اعتبر الله تعالى الغفلة السبب في هلاك كل القرى وأصحابها الذين لم يعطوا رسلهم ما يستحقون من الاهتمام، فقال ـ عند بيانه للسبب الأكبر لهلاك قوم فرعون ـ: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 136]

قال آخر: ومثل ذلك اعتبر الغفلة السبب الأكبر للران الذي يطغى على القلوب؛ فيملأها بالكبر، ويصرفها عن تدبر الحقائق، فقال: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا

القرآن والحجج البالغة (20)

وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 146]، وبذلك؛ فإن الغفلة أخطر من الكبر، ذلك أن المتكبر المستيقظ قد يسمع من الآيات، أو يرى من الحجج، ما يجعله متواضعا يستمع للحق، لكن الغافل المخدر يصم آذانه فلا يسمع حقا، ولا يقبل عليه في حال سماعه.

قال آخر: ولهذا أخبرنا الله تعالى أن الغفلة هي سبب الإعراض عن الحق، لعدم الاهتمام به، واللامبالاة تجاهه، قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلناسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 1]

قال آخر: وأخبر عن أدراك الغافلين للآثار التي جنوها من غفلتهم، فقال: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنا ظَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 97]

قال آخر: وأخبر عن قول الملائكة وتأنيبها للغافلين، فقال: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 21، 22]

قال آخر: وأخبر عن أول تحذير إلهي للبشر من عالم الذر، وهو تحذيرهم من الغفلة، فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنا كُنا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]

1. الغفلة والخسارة

بعد أن أورد التائبون من الغفلة ما ورد في القرآن الكريم من الحديث عن الغفلة وآثارها الخطيرة على العقل، قال صاحبي الذي اصطحبني إليهم: بورك فيكم.. وتلميذ

القرآن والحجج البالغة (21)

القرآن ينتظر منكم الآن أن تدلوا بشهاداتكم في الكيفية التي خرجتم بها من هذا الحجاب الأعظم الذي كان يحول بينكم وبين المعرفة والهداية.

المشهد الأول

قال أحدهم، وهو أكبرهم سنا: دعوني أبدأ أنا.. فأنا أكبركم سنا، وأول من لقي المعلم الشهيد، وأول من كان سببا في دلالتكم عليه.

قال أحدهم: أجل.. تفضل.. فنحن في شوق كبير لسماع أحاديثك الجميلة عن معلمنا، فقد كنت سببا في تعرفنا به، واهتدائنا إلى الحق بسببه.

قال (1): عندما التقيت بالمعلم الشهيد لأول مرة كنت أردد بيني وبين نفسي، وأنا أنظر إليه، وهو يبذل كل جهده لتعريف عوام الناس وخصائصهم بربهم ودينهم: لماذا يتحدث هذا الرجل عن الله والدين؟.. أليس من الأجدر به أن يتحدث فيما يتصل بحياتنا اليومية، ويعالج مشاكلها ويكون مؤثرا في تحسين أحوالنا المعاشية؟.. أليس الحديث عن الموجود أو الموجودات الخارجة عن نطاق الحس والتجربة، والتي لا يكون لها أي أثر في حياتنا وجودا أو عدما غير نافع ولا مفيد؟

نظر إلى المعلم الشهيد حينها مبتسما، وقال: لقد سمعت أن هناك أراض خصبة، وفيها سكنات راقية، تُباع بأقل الأثمان، فهل لك في شرائها؟

اهتزت نفسي لما قال، لأني كنت حينها أجمع بين العلم والتجارة، وقد كان يستهويني سوق العقارات، للأرباح الكثيرة التي كنت أجنيها منه.. فلذلك رحت ألح عليه بأن يحدثني عن تلك الأراضي، وباهتمام شديد.

__________

(1) () الله خالق الكون، ص 97.

القرآن والحجج البالغة (22)

لكني لم أكن أعلم أن ما ذكره ليس سوى استدراج لي، لينقلني من الاهتمام بعقارات الدنيا إلى الاهتمام بعقارات الآخرة، ومن الاهتمام بالحرص على ربح المزيد من الأموال إلى الحرص على ربح نفسي ومصيري.

بعد إلحاحي الشديد عليه في أن يعرفني بالمحل الذي تباع فيه تلك العقارات، طلب مني أن أحضر عنده مساء، ليملي علي العنوان، وأخبرني أنه سيلتقي في ذلك المحل ببعض تلاميذه، والذين بدورهم يعرفون العنوان بدقة، ويمكنهم أن يدلوني عليه.

أذكر جيدا أني من حرصي الشديد على الحضور في الموعد، ذهبت مبكرا إلى المكان، وبقيت أنتظر إلى أن جاء المعلم، ثم رحت أسمع إليه وإلى الأسئلة التي يختبر بها تلاميذه وأجوبتهم له، لكن ليس بالصورة التي كنت أستمع بها إليهم، فقد صار شخصا مهما بالنسبة لي، وصارت أحاديثه أكثر أهمية منه.. وذلك ما يسر لي بعدها أن أتغير تماما.

من الأسئلة التي طرحها على تلاميذه، والتي ناسبت طريقة تفكيري سؤاله عن مفهوم الربح والخسارة، وعن سر ما ورد في القرآن الكريم من نسبة الخسارة للمنحرفين عن الصراط المستقيم.

وأول آية كريمة سمعته يسألهم عنها هي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]

حينها قال أحد تلاميذه (1): (الإبتغاء) يعني الطلب والسعي، والأصل فيه أن يكون في الأمور المحمودة والمذمومة.. والآية الكريمة تشير إلى أن الدين الحقيقي الذي ينبغي أن يُطلب هو الإسلام، أي التسليم لأمر الله بمعناه العام، وأما بمفهومه الخاص فهو الانتقال

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 581)

القرآن والحجج البالغة (23)

إلى الدين الإسلامي الذي هو أكمل الأديان.

قال آخر: ولذلك فإن الآية الكريمة تذكر أنه لا يُقبل من أحد سوى الإسلام مع الأخذ بعين الاعتبار احترام سائر الشرائع الإلهية المقدسة.. فكما أن طلاب الجامعة في نفس الوقت الذي يحترمون فيه الكتب الدراسية للمراحل السابقة من الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، فإنه لا يقبل منهم سوى دراسة الكتب والدروس المقررة للمرحلة النهائية.

قال آخر: فكذلك الإسلام.. وأما الذين يتخذون غير هذه الحقيقة دينا، فلن يُقبل منهم هذا أبدا، ولهم على ذلك عقاب شديد.

قال آخر: وأول عقاب يصيبهم الخسارة، ذلك لأن هذا الغافل تاجر بثروة وجوده مقابل بضع خرافات وتقاليد بالية، وعصبيات جاهلية وعنصرية، ولا شك أنه هو الخاسر في هذه الصفقة.

قال آخر: وإذا ما خسر الإنسان ثروة وجوده، وجد نتيجة ذلك حرمانا وعذابا وعقابا يوم القيامة.

قال آخر (1): وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية نزلت في اثني عشر من المنافقين الذين أظهروا الإيمان، ثم ارتدوا، وخرجوا من المدينة إلى مكة، فنزلت الآية وانذرتهم بأنه من اعتنق غير الإسلام فهو من الخاسرين.

قال المعلم: فما تقولون في قوله تعالى في قصة ابن آدم عليه السلام: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 30]؟

قال أحد التلاميذ (2): نظرا لأن كلمة (طوع) تأتي في الأصل من (الطاعة) لذلك

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 581)

(2) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 673)

القرآن والحجج البالغة (24)

يستدل منها أن قلب قابيل بعد أن تقبل الله قربان أخيه هابيل أخذت تعصف به الأحاسيس والمشاعر المتناقضة، فمن جانب استعرت فيه نار الحسد وكانت تدفعه إلى الإنتقام من أخيه هابيل، ومن جانب آخر كانت عواطفه الإنسانية وشعوره الفطري يقبح الذنب والظلم والجور وقتل النفس، يحولان دون قيامه بارتكاب الجريمة، لكن نفسه الأمارة بالسوء تغلبت رويدا رويدا على مشاعره الرادعة فطوعت ضميره الحي وكبلته بقيودها وأعدته لتقل أخيه.

قال آخر: وتدل عبارة (طوعت) مع قصرها على جميع هذه لأن عملية التطويع لا تتم في لحظة واحدة، بل تحصل بشكل تدريجي وعبر صراعات مختلفة.

قال آخر: وتشير الآية الكريمة ـ في آخرها ـ إلى نتيجة عمل قابيل، فتذكر أنه أصبح من الخاسرين.. فأي ضرر أكبر من أن يشتري الإنسان لنفسه عذابا سيلازمه إلى يوم القيامة، ويشمل عذاب الضمير وعقاب الله والعار والأبدي؟

قال آخر (1): كما تشير الآية الكريمة إلى أنه كان يهاب قتل أخيه وتجبن فطرته دونه، لكنه بسبب غفلته، بقيت نفسه الأمارة تشجعه عليه حتى تجرأ وقتله عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر فى العاقبة.

قال آخر: والمشاهد بالاختبار من أعمال الناس أن من تحدثه نفسه بالقتل يجد من نفسه صارفا أو عدة صوارف تنهاه عن القتل حتى تطوع له نفسه القتل بترجيح الفعل على الترك، فحينئذ يقتل إن قدر، وأوله ما يعينه على ذلك غفلته عن العواقب التي سينالها بسبب جريمته.

__________

(1) () تفسير المراغي (6/ 100)

القرآن والحجج البالغة (25)

قال المعلم: أحسنتم، فما تقولون في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 92]

قال أحد التلاميذ (1): لقد هدد الكافرون المتغطرسون المؤمنين بأن يكونوا خاسرين إن استمروا على اتباعهم لشعيب عليه السلام، فذكر الله تعالى أن أولئك المكذبين هم الخاسرون حقا وصدقا، فقد خسروا أنفسهم فكفروا وضلوا، وخسروا ديارهم فهدمت، وخسروا يوم القيامة، فكانوا حطب جهنم، وهم فيها خالدون.

قال المعلم: أحسنت، فما تقولون في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 15]؟

قال أحد التلاميذ (2): هذه الآية الكريمة تشير إلى أن العبرة فى الربح أو الخسارة، هى فى الحساب الختامى، الذي يسوى فيه حساب الإنسان.. أما هذا الحساب اليومي فى هذه الدنيا، فإنه لا يكشف عن المركز الصحيح للإنسان.

قال آخر: وهي تشير إلى أن البشر يتعاملون من هذا المنطلق في كل شؤونهم فى هذه الدنيا، حيث أنهم يقيمون موازين حياتهم لا على لحظه عابرة، ولا على يوم يعيشون فيه، وإنما ينظرون إلى الغد، وما بعد الغد.

قال آخر: مع أن حياتهم الدنيوية هذه ـ لو عقلوا ـ لحظة من لحظات حياتهم الممتدة إلى ما وراء هذه الحياة، فهي ليست إلا يوما، أو بعض يوم.

قال آخر: وهي تشير إلى أن من الضلال المبين أن يقيم المرء حسابه كله على ميزان يوم أو بعض يوم، حتى إذا طلع عليه صح يوم جديد، ولم يكن قد عمل له حسابا، وجد

__________

(1) () زهرة التفاسير (6/ 2901)

(2) () التفسير القرآني للقرآن (12/ 1133)

القرآن والحجج البالغة (26)

نفسه ولا شئ معه.. وهنا يكون الندم، ويكون الخسران.

قال آخر: ولذلك، فإن الخاسرين حقا، هم أولئك الذين أقاموا ميزانهم على هذه الحياة الدنيا، ولم يجعلوا للآخرة حسابا.. فهم يجيئون إلى الحياة الآخرة، وقد صفرت أيديهم من كل خير يجدونه فى هذا اليوم، بل سيجدون ديونا كثيرة هم مطالبون بها، ولا يقدرون على أداء شئ منها، إلا الحبس فى جهنم، وفاء لهذه الديون.

قال المعلم: إن ما ذكرتموه يثير إشكالا مهما، وهو أنه إذا خسر المجرمون أنفسهم، وأوردوها موارد الهلاك يوم القيامة، فكيف تكون خسارتهم لأهليهم فى هذا اليوم، كما ذكرت الآية الكريمة؟

قال أحد التلاميذ (1): جواب ذلك هو أن أهل الضلال لا يلتقى بعضهم ببعض يوم القيامة إلا على عداوة وخصام، وإلا على قطيعة ونفور.. كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 25].

قال آخر: فأهل الضلال بعضهم فتنة لبعض، ومن هنا يقع بينهم يوم القيامة هذا الخصام، وتلك العداوة، ومن هنا يلتفت الضال، فلا يجد حوله فى جهنم إلا وجوها كالحة تلعنه، وترمى إليه بالعداوة، ممن كانوا هم أقرب الناس إليه فى الدنيا من أهل وصديق.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن خسارة الضال لأهله يوم القيامة، هو تفرقهم عنه، فلا يلتقى بهم إذا كانوا فى الجنة، أما إذا كانوا فى جهنم فإن لقاءه بهم حسرة وبكاء وعويل.

قال آخر: على خلاف لقاء المؤمنين، حيث يجمعهم الله بأهليهم، وبإخوانهم من أهل

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (12/ 1134)

القرآن والحجج البالغة (27)

الجنة، فيتضاعف لذلك سرورهم، نعيمهم، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور: 21]، وقال عن أهل الإيمان: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ [الزخرف: 70]

قال المعلم: أحسنتم، فما تقولون في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65]؟

قال أحد التلاميذ (1): هذه الآية الكريمة سبقت بقوله تعالى: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ [الزمر: 64]، وقد وردت في سياق المفاوضات بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش الذين كانوا يدعونه لعبادة أصنامهم، كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ [الزمر: 64]، وهي تبين أن مبدأ الوثنية هو الجهل بواقع الكون وأن الخالق هو المدبر.. ومن عجيب الأمر أن الجاهل يصر على العالم أن يتبع موقفه.

قال آخر: وهي تشير إلى أن من لوازم التوحيد في الخالقية والربوبية التوحيد في العبادة وأن لا يعبد إلا الله، ولذلك صار التوحيد في العبادة هو الأصل المشترك بين عامة الشرائع من غير فرق بين شريعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الشرائع.

قال آخر: فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالتوحيد في العبادة كما أمر به سائر الأنبياء، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [الزمر: 65]، فالموحى هو التوحيد في العبادة النابع عن التوحيد في الخالقية والربوبية.

قال آخر: ولم يقتصر الله تعالى بنفس الأمر بالتوحيد، بل ذكر نتائج الشرك، فقال: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾ [الزمر: 65]، أي يترتب على شركك أمران، أولهما ما عبر عنه بقوله:

__________

(1) () منية الطالبين: 24/ 150.

القرآن والحجج البالغة (28)

﴿لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65] وهي تعني عدم قبول الأعمال وعدم ترتب الثواب؛ وذلك لأن قلب المشرك كالأرض السبخة لا ينبت فيها شيء.

قال آخر: وثانيهما ما عبر عنه بقوله: ﴿وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65]، وأي خسران أعظم من صرف العمر في الدنيا دون أن يتجر به شيئا ينتفع به في الآخرة.

قال المعلم: فكيف وجه الخطاب فيها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهل يمكن أن يقع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء عليهم السلام في الشرك؟

قال أحد التلاميذ: لا.. ذلك مستحيل، وهذا النوع من الخطاب فيه تهديد للآخرين، فإذا كان هذا حال الأنبياء، إن أشركوا، فكيف حال غيرهم؟

قال آخر: وقد أشار إلى هذا الإمام الصادق، فقال: ﴿إن الله عز وجل بعث نبيه بإياك أعني واسمعي يا جارة، والدليل على ذلك قوله عز وجل في الآية اللاحقة: ﴿بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وقد علم الله أن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يعبده ويشكره، ولكن استعبد نبيه بالدعاء إليه تأديبا لأمته) (1)

قال آخر: ويمكن أن يقال: إن الآية من باب فرض المحال، ومن المعلوم أن فرض المحال ليس بمحال، إذا ترتب عليه شيء من المعارف، كقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22]، وعلى هذا فالمراد: لو أشرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ على سبيل فرض المحال ـ فإنه لا يخلو من العاقبتين: بطلان العمل، والخسران في الآخرة.

قال المعلم: أحسنتم.. فما تقولون في قوله تعالى: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [فصلت: 23]؟

__________

(1) () تفسير القمّي: 2/ 251.

القرآن والحجج البالغة (29)

قال أحد التلاميذ (1): في هذه الآية الكريمة خطاب للمنحرفين عن الحق، وهي تذكر لهم أن الظن الفاسد الذي قد كان منهم في الدنيا، وهو أن الله لا يعلم كثيرا من قبائح أعمالهم ومساويها، هو الذي أوقعهم في مواقع التلف والردى، فصاروا من الهالكين.

قال آخر: وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى، فإن قوما قد أرادهم سوء ظنهم بالله فقال الله: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [فصلت: 23]) (2)

قال المعلم: فهل كل ظن بالله تعالى قبيح؟

قال أحد التلاميذ: لا.. الظن المرتبط بالله تعالى قسمان.. حسن وهو أن يظن بالله عز وجل الرحمة والفضل والإحسان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكاية عن الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدى بي).. وقبيح، وهو أن يظن أن الله تعالى يعزب عن علمه بعض الأفعال.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى بعض النماذج السيئة عن هذا النوع من الظن، فقال: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: 22]

قال آخر: وقال: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ [الفتح: 12]

قال آخر: وقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي

__________

(1) () تفسير المراغي (24/ 122)

(2) () مسلم (2877) (81)، وأبو داود (3113)

القرآن والحجج البالغة (30)

الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]

قال آخر: وقال عن الجن في ذكر المنحرفين منهم: ﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا﴾ [الجن: 7]

بعد أن قرأ هذه الآيات الكريمة وغيرها، وسمع تفسيرها منهم، قال مخاطبا لهم: بناء على ما قرأناه من الآيات الكريمة اذكروا لي الخسائر التي خسرها هؤلاء الذين أعرضوا عن الله ودينه.

قال أحد تلاميذه: أول خسارة لهؤلاء أنهم خسروا أنفسهم وحقيقتهم التي كرمهم الله تعالى بها، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19]

قال آخر (1): وهي تتحدث عن المنحرفين الغافلين الذين خلت قلوبهم من تقوى الله، وخشيته، فلم ينظروا فيما يقدمون لغد، بل شغلوا بما هم فيه من متاع الحياة الدنيا، ونسوا الله، ولم يذكروا عقابه، ولم يستحضروا جلاله وعظمته، فكان هذا النسيان لله، ولجلاله، وعظمته، سببا فى نسيانهم لأنفسهم.

قال آخر: ولذلك غفلوا عن المصير الذي هم صائرون إليه، ولم يروا البلاء المحدق بهم من هذا الضلال الذي هم فيه.

قال آخر: ولو أنهم ذكروا الله، وذكروا حسابه وعقابه، لذكروا وجودهم هذا الذي يسبح فى بحار الضلال، ولعملوا جاهدين على إنقاذ أنفسهم مما هم فيه.

قال آخر: ولذلك كان نسيانهم لله، هو الداء الذي ران على قلوبهم، وأعمى

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (14/ 878)

القرآن والحجج البالغة (31)

أبصارهم، فلم يروا حقا، ولم تقبل قلوبهم ما هو حق.

قال آخر: وعلى هذا يكون فاعل الفعل أنساهم ضميرا عائدا على المصدر المفهوم من الفعل ﴿نَسُوا اللَّهَ﴾ [الحشر: 19]، أي: فأنساهم هذا النسيان أنفسهم.. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير لفظ الجلالة العائد على قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ﴾ [الحشر: 19].. بمعنى: نسوا الله فعاقبهم الله بأن أنساهم أنفسهم.

قال آخر: ومثل هذه الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 67]

قال آخر (1): والآية الكريمة تشير إلى أن المنافقين ينعزلون عن الجماعة المؤمنة، فهم في نفرة عنهم، ويكوّنون لأنفسهم جماعة موحدة يجمعها فكر عام موحد يناقض الجماعة العامة التي يعيشون فيها، فلا يرضيهم ما يرضي الجماعة بل يخالفونها، ويناقضونها فيما تفكر وفيما تعمل، فقد عزلوا أنفسهم عنها.

قال آخر: فإذا كانت الجماعة العامة متضافرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهم عكسوا، معروفهم منكر عند جماعة المؤمنين، ومنكرهم هو المعروف.

قال آخر: ولذا قال تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 67] أي أنهم كل متصل الأجزاء، ولايتهم واحدة وتناصرهم واحد، وفي هذا تكذيب ليمينهم الكاذب فيما نقله سبحانه عنهم ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ﴾ [التوبة: 56]، وهو تأكيد لما قاله سبحانه في نفي أنهم منكم.

__________

(1) () زهرة التفاسير (7/ 3362)

القرآن والحجج البالغة (32)

قال آخر: وقد أشار الله تعالى إلى أنهم متضافرون في أسرهم، فأسرهم في الجملة منافقة، ولذا ذكر المنافقات مع المنافقين، وقال: ﴿بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 67]، أي أنهم لحمة متصلة يتغذى بعضهم بلبان النفاق من بعض، فهم بيئة واحدة يغذيها لبن النفاق، أو بالأحرى سمه.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى من أحوالهم أنهم ينشرون الفساد في الفكر والعمل، فلهم رأى عام يخصهم يسوده الفساد في النفوس والأخلاق، يشجع الرذيلة ويتهكم على الفضيلة، وعبر الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ [التوبة: 67]

قال آخر: أي أنهم يشجعون كل ما هو شر، ويمنعون كل ما هو خير، معروفهم منكر، ومنكرهم هو المعروف.. فعدلهم ظلم وحريتهم اعتداء، وشوراهم استبداد.

قال آخر: وهم كذلك غير متعاونين في ذات أنفسهم، وفي جماعتهم فلا ينفقون في خير قط، والشح يستولي على نفوسهم، ولا يجعلون أنفسهم في وقاية منه.

قال آخر: وقد بين الله تعالى ذلك الوصف في قوله: ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ [التوبة: 67]، والقبض ضد البسط، وقبض اليد غلها عن الإنفاق، فعبر عن عدم الإنفاق في موضعه بقبض اليد، كما عبر عن الإنفاق في موضعه ببسط اليد، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: 64]

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، ذكر الله تعالى أنهم ينسون الخير نسيانا، فإذا ذُكر لهم الخير تهكموا بصاحبه، وقالوا مستهزئين متهكمين بمن يتكلم في الفضيلة.

قال آخر: وهذا ما عبر الله تعالى عنه بقوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: 67] أي نسوا الله تعالى فلا تذكره قلوبهم، ولا تطمئن به، والقلوب إذا نسيت الله لا تطيع أمره، ولا تجتنب

القرآن والحجج البالغة (33)

نواهيه، ونسيان الله تعالى ألا يوفقهم لخير، وأن يجعلهم منغمسين في الشر الذي اختاروه والضلال الذي أحيط بهم.

قال المعلم: أحسنتم بذكر هذا النموذج للغافلين الخاسرين الذين خسروا أنفسهم.. فهل هناك خسارة أخرى يخسرها الغافلون؟

قال أحد التلاميذ: نعم.. يخسرون نعيم الجنة، لأنه لا أحد إلا وله في الجنة أهل ومنزل، فإن أطاع الله وجده، وإن عصاه ورثه المؤمنون، كما قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: 10 ـ 11]،

قال آخر: وقد روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: 10]) (1)

قال آخر (2): وفي كلمة (يرثون) إشارة إلى نيل المؤمنين للجنة دون تعب مثلما يحصل الوارث الإرث دون تعب.. ذلك أن المؤمن مع كونه يبذل جهودا كبيرة، ويضحي بوقته ويسلب راحته في بناء ذاته والتقرب إلى الله، إلا أن هذا الجزاء الجميل أكثر بكثير من قدر هذه الأعمال البسيطة، وكأن المؤمن ينال الفردوس دون تعب ومشقة.

قال آخر: وقد أشار إلى هذا النوع من الفوز العظيم قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]

__________

(1) () رواه ابن ماجه في السنن برقم (4341)

(2) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 423)

القرآن والحجج البالغة (34)

قال آخر (1): ففي الآية الكريمة عزاء كريم للمؤمنين، بما تهون عليهم من أمر الدنيا، وما يلقونه فى تبليغ دينهم، من عناد وعنت، وما يعرض لهم من جهد وبلاء.. فهذا كله هين فى لقاء الجزاء الحسن، الذي أعده الله لرسوله وللمؤمنين، من رضى ونعيم.

قال آخر: ولهذا تذكر أن الموت حكم واقع على كل حى، ونازل بكل نفس.. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [العنكبوت: 57]، وإذا كان ذلك هو الشأن، فالحرص على الحياة، والفرار من مواقف الحق والخير، طلبا للأمن والسلامة، أمر لا يكتب الخلود لأحد، فضلا عن أنه لا يمد له لحظة واحدة فى أجله المقدور له.

قال آخر: وهي تشير إلى أن الذي ينبغى الحرص عليه، والبذل من أجله، هو الآخرة، التي هى دار البقاء والخلود.

قال آخر: وإذا كان هذا شأنها وذلك وزنها وقدرها، فإن العقل يقضى بطلب العمل لها، والسلامة فيها.. ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]

قال آخر: وقد أشار الله تعالى إلى هذا النوع من الفوز، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ـ 71]

قال آخر: ففي هذه الآية الكريمة يأمر الله تعالى المؤمنين بالاتصاف بالتقوى وسداد القول، وقد روي عن الإمام الصادق في هذا أنه قال لعباد بن كثير البصري الصوفي: (ويحك يا عباد! غرك أن عف بطنك وفرجك، إن الله عز وجل يقول في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (2/ 664)

القرآن والحجج البالغة (35)

اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ـ 71]، اعلم أنه لا يتقبل الله منك شيئا حتى تقول قولا عدلا) (1)

قال آخر (2): فهذه صفات المؤمنين حقا، وذلك هو منطقهم، وتلك هى سبيلهم.. إنهم على إيمان وثيق بالله، قد امتلأت قلوبهم بتقواه، وخشيته، فلا يقولون زورا، ولا ينطقون بهتانا، وإنما قولهم الحق، ومنطقهم الصدق.. وبهذا يصلح الله أعمالهم، ويتقبلها منهم، ويغفر لهم ذنونهم.

قال المعلم: أحسنتم.. فهل هناك خسارة أخرى غير التي ذكرتم يخسرها الغافلون؟

قال أحد التلاميذ: أجل.. وهي خسارتهم لحسناتهم التي عملوها، لأنهم أحبطوها بكفرهم، فلم يصل لهم منها خير ولا ثواب، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف: 103 ـ 106]

قال آخر (3): هذه الآيات الكريمة تذكرنا بما كانوا يفعلونه في القديم للتأكد من جنون شخص ما، حيث كانوا يحضرون له برميلا بلا قعر، ويطلبون منه أن يملأه ماء، فإن كان عاقلا امتنع عن ذلك، وإن كان مجنونا فإنه يشرع في العمل بجد.

قال آخر: والأخسرون أعمالا هم كهذا المجنون، يبذلون مساعيهم وجهودهم في الحياة، ثم لا يقبضون شيئا، كمن يصطاد الهواء بالشبك.. فهم لا يعلمون ما هو الشيء

__________

(1) () الكافي:8/ 107.

(2) () التفسير القرآني للقرآن (11/ 760)

(3) () من هدي القرآن (6/ 494)

القرآن والحجج البالغة (36)

الباقي، وما هو الشيء الزائل.

قال آخر: فمثلا يتعب الواحد منهم على أولاده، ويضع جهوده ودينه وقيمه عليهم حتى يكبروا، وما إن يبلغوا أشدهم ويعتمدوا على أنفسهم حتى يتركوه وحيدا في حسرته، وأقصى ما ينفعونه تشييعه إلى مثواه الأخير، أما في القبر والمحشر وعند الميزان فلا يغني أحد عن أحد شيئا.. وكذلك عندما يسعى الإنسان من أجل الأموال ليكرس الملايين فوق بعضها.

قال آخر: لقد مات (فورد) صاحب شركة السيارات المعروفة في خزائن أمواله، حيث كانت عنده خزانة حديدية ضخمة مؤلفة من عدة غرف متداخلة لكل منها باب، وكان يحتفظ بذهبه ومجوهراته وأشيائه الثمينة في الغرفة المركزية، وفي يوم دخل الى مكانه المحبب هذا ليتمتع ناظريه ويرفه قليلا عن نفسه، وكان كلما يدخل بابا يوصده من ورائه، حتى إذا دخل في غرفة السعادة أوصدها على نفسه، وقد نسي المفتاح في الخارج، وعندما شبع من النظر الى متاع الدنيا الرخيص أراد الخروج فلم يقدر، فظل يصرخ ويصرخ، ولكن صوته لم يكن ليخترق تلك الجدران الحديدية المتراكبة فوق بعضها، فمكث عدة أيام على هذا الحال الى أن مات.

قال آخر: إن هذا الإنسان الضال لم تنفعه أمواله، ولم تنقذه من الجوع والعطش في الدنيا حيث المال له قيمة، فما بالك في الآخرة حيث لا قيمة للمال إطلاقا!؟

قال آخر: وتذكر الآيات الكريمة أن السبب في وصول الإنسان الى هذا الدرك الأسفل هو إعراضه عن آيات الله، وعدم استعداده للقائه، وهذا هو الكفر بالمبدأ والمعاد.

قال آخر: نعم.. الإنسان يؤمن وجدانيا بالله، ويبحث بفطرته على المعاد، ولكن من الصعب عمليا أن يصل الى مستوى الايمان بالله واليوم الآخر، لذلك فهو يحتاج الى مزيد

القرآن والحجج البالغة (37)

من الإرادة والعزم ليصعد على هذه القمة فيحول إيمانه من إطار الفطرة والوجدان إلى إطار العمل والتطبيق.

قال آخر: إن نفوس الكفار أصغر، وعزائمهم أضعف، وهممهم أتفه من أن تصل إلى حقيقة الايمان، لذلك تجدهم ينكرون آيات الله ويكذبون بلقائه.

قال آخر: ولذلك قال تعالى في حقهم: ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ [الكهف: 105]، ذلك أن أعمال الإنسان لا تحفظ إلا في إطار الإيمان بالله واليوم الآخر، كما يحفظ الماء في البرميل السليم، أمّا وضع أعماله في أي ظرف آخر فسوف تكون كالماء الموضوع في برميل لا قعر له.

قال آخر: ولذلك قال تعالى في حقهم أيضا: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف: 105]، على الرغم من أنهم كانوا في الدنيا أثرياء وأصحاب سلطة وجاه، وكان لهم وزن عند كثير من الناس، إلا أنهم يوم القيامة يأتون وليس لهم أي وزن ولا كرامة من عند الله، وسوف يكونون أذل الناس وأحقرهم هناك.

المشهد الثاني

بعدما انتهى الشاهد الأول إلى هذا الحديث، قام الثاني، وقال: اعذرني، لأكمل ما بدأت، فقد كنت حاضرا لذلك المشهد.. لقد طلب منا المعلم حينها أن نسير معه إلى مدرسة كانت تهتم بالبحوث الفلسفية، فعندما رآه طلابها سارعوا إليه، يحيونه، ويفرحون بمقدمه، وحينها قال لهم: لم آتكم اليوم معلما، وإنما سائلا وممتحنا.. فأرجو أن تجيبوا هؤلاء الذين حضروا معي عن كل إشكالاتهم التي يطرحونها.

قال أحد التلاميذ: نحن تلاميذك معلمنا، وطوع أمرك، وكل ما سنذكره لهم هو نتاج تعليمك لنا.. ولذلك فأنت محدثهم بألسنتنا.

قال المعلم: لقد سمعنا في المجلس السابق لمجلسكم الكثير من الآيات الكريمة التي

القرآن والحجج البالغة (38)

تبين فضل الآخرة على الدنيا، وأن الخاسر هو من باع آخرته في سبيل دنياه، فهلا حدثتمونا عن سر ميل النفوس إلى الشهوات وبيعها تلك السعادة الدائمة العظيمة، بسعادة الدنيا القليلة المحدودة.

قال أحد التلاميذ: سر ذلك يعود إلى الكثير من المغالطات التي يوسوس بها الشيطان للنفس، فتنصرف عن الحقيقة إلى الأهواء.

قال آخر (1): ومنها هذا القياس الفاسد، وهو (النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة نسيئة، فهي إذا خير، فلا بد من إيثارها)

قال آخر: ومنها أن (اليقين خير من الشك، ولذات الدنيا يقين، ولذات الآخرة شك، فلا نترك اليقين بالشك)

قال آخر: وهذه أقيسة فاسدة، تشبه قياس إبليس حيث قال: ﴿أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾ وإلى هؤلاء الإشارة بقوله تعالى: ﴿أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون﴾

قال المعلم: فكيف يعالج الإنسان نفسه من هذه الأوهام الضارة؟

قال أحد التلاميذ: أول علاج لذلك هو تصديق الله تعالى في وعده ووعيده، وفي قوله: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96]، وقوله: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الشورى: 36] وقوله: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 17]، وقوله: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: 20]، وقوله: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [فاطر: 5]

قال آخر: وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك طوائف من الكفار، فقلدوه وصدقوه وآمنوا

__________

(1) () إحياء علوم الدين، 4/ 81.

القرآن والحجج البالغة (39)

به، ولم يطالبوه بالبرهان (1)، ومنهم من قال: نشدتك الله أبعثك الله رسولا؟.. فكان يقول نعم؛ فيصدق (2).

قال آخر: وينزل هذا منزلة تصديق الصبي والده في أن حضور المكتب خير من حضور الملعب، مع أنه لا يدرى وجه كونه خيرا.

قال المعلم: لكن الكثير من الناس سيسألكم عن البرهان، ولا يكتفي بتصديق الإيمان، فكيف تجيبونه؟

قال أحد التلاميذ: المعرفة بالبيان والبرهان تبدأ بمعرفة وجه فساد هذا القياس الذي نظمه في قلبه الشيطان، فإن كل مغرور فلغروره سبب، وذلك السبب هو دليل، وكل دليل فهو نوع قياس يقع في النفس، ويورث السكون إليه، وإن كان صاحبه لا يشعر به، ولا يقدر على نظمه بألفاظ العلماء.

قال آخر: فالقياس الذي نظمه الشيطان فيه أصلان، أحدهما: أن الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، وهذا صحيح، والآخر: قوله إن النقد خير من النسيئة، وهذا محل التلبيس، فليس الأمر كذلك.. بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود، فهو خير وإن كان أقل منها فالنسيئة خير.

قال آخر: ذلك أن التاجر يبذل في تجارته درهما ليأخذ عشرة نسيئة، ولا يقول النقد خير من النسيئة فلا أتركه.

قال آخر: وهكذا إذا حذر الطبيب المريض من الفواكه ولذائذ الأطعمة ترك ذلك في

__________

(1) () من الأمثلة على ذلك قصة اسلام الأنصار وبيعتهم، وقد قال جابر بن عبد الله: (حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون باسلام) الدلائل للبيهقي 2/ 454.

(2) () ابن ماجه (2468)، وأبو يعلى (1341)، والدارقطني 3/ 37 ـ 38.

القرآن والحجج البالغة (40)

الحال، خوفا من ألم المرض في المستقبل، وهو بذلك ترك النقد ورضى بالنسيئة.

قال آخر: والتجار كلهم يركبون البحار، ويتعبون في الأسفار نقدا، لأجل الراحة والربح نسيئة.

قال آخر: فإن كان عشرة في ثاني الحال، خيرا من واحد في الحال، فانسب لذة الدنيا من حيث مدتها إلى مدة الآخرة، فإن أقصى عمر الإنسان مائة سنة، وليس هو عشر عشير من جزء من ألف ألف جزء من الآخرة، فكأنه ترك واحدا ليأخذ ألف ألف، بل ليأخذ ما لا نهاية له ولا حد.

قال آخر: وهكذا، إن نظر العاقل إلى اللذات من حيث النوع، رأى لذات الدنيا مكدرة مشوبة بأنواع المنغصات، ولذات الآخرة صافية غير مكدرة.

قال المعلم: فما منشأ الغلط في الاستدلال بأن النقد خير من النسيئة؟

قال أحد التلاميذ: منشؤه قبول لفظ عام مشهور، أُطلق وأريد به خاص، فغفل به المغرور عن خصوص معناه.

قال آخر: ذلك أن من قال: (النقد خير من النسيئة)، أراد به خيرا من نسيئة هي مثله، وإن لم يصرح به.

قال المعلم: أحسنتم.. فكيف تردون على القياس الآخر، بأن (اليقين خير من الشك، والآخرة شك)

قال أحد التلاميذ: هذا القياس أكثر فسادا من الأول لأن كلا أصليه باطل، إذ اليقين خير من الشك إذا كان مثله، وإلا فالتاجر في تعبه على يقين، وفي ربحه على شك.. والمتفقه في اجتهاده على يقين، وفي إدراكه رتبة العلم على شك.. والصياد في تردده في المقتنص على يقين، وفي الظفر بالصيد على شك.

القرآن والحجج البالغة (41)

قال آخر: ولهذا، كان الحزم دأب العقلاء بالاتفاق، وكل ذلك ترك لليقين بالشك، لكن التاجر يقول، إن لم أتجر بقيت جائعا وعظم ضررى، وإن اتجرت كان تعبى قليلا وربحي كثيرا.

قال آخر: وكذلك المريض يشرب الدواء البشع الكريه، وهو من الشفاء على شك، ومن مرارة الدواء على يقين، ولكن يقول ضرر مرارة الدواء قليل بالإضافة إلى ما أخافه من المرض والموت.

قال آخر: فكذلك من شك في الآخرة، فواجب عليه بحكم الحزم أن يقول: أيام الصبر قلائل، وهو منتهى العمر، بالإضافة إلى ما يقال من أمر الآخرة، فإن كان ما قيل فيه كذبا، فما يفوتني إلا التنعم أيام حياتي، وقد كنت في العدم من الأزل إلى الآن لا أتنعم، فأحسب أنى بقيت في العدم، وإن كان ما قيل صدقا فأبقى في النار أبد الآباد، وهذا لا يطاق.

قال آخر: ولهذا قال الإمام على لبعض الملحدين: (إن كان ما قلته حقا فقد تخلصت وتخلصنا، وإن كان ما قلناه حقا فقد تخلصنا وهلكت)، وما قال هذا عن شك منه في الآخرة، ولكن كلم الملحد على قدر عقله، وبين له أنه وإن لم يكن متيقنا فهو مغرور.

قال المعلم: فكيف تردون على الأصل الثاني الذي يعتمد عليه ذلك القياس، وهو أن الآخرة شك (1).

قال أحد التلاميذ: أول الردود على ذلك هو تصديق الأنبياء والعلماء؛ ذلك أن المريض الذي لا يعرف دواء علته، إذا رأى اتفاق الأطباء أولهم وآخرهم على أن دواءه النبات الفلانى، فإنه تطمئن نفس المريض إلى تصديقهم، ولا يطالبهم بتصحيح ذلك

__________

(1) () سنرى الردود المفصلة على هذا في الفصل الخاص بالقرآن والدهريين.

القرآن والحجج البالغة (42)

بالبراهين الطبية، بل يثق بقولهم ويعمل به.

قال آخر: ولو بقي معتوه يكذبهم في ذلك وهو يعلم بالتواتر وقرائن الأحوال أنهم أكثر منه عددا، وأغزر منه فضلا، وأعلم منه بالطلب، بل لا علم له بالطب، فيعلم كذبهم بقولهم، ولا يعتقد كذبه بقوله، ولا يغتر في علمه بسببه، ولو اعتمد قوله، وترك قول الأطباء، كان معتوها مغرورا.

قال آخر: فكذلك من نظر إلى المقرين بالآخرة، والمخبرين عنها، والقائلين بأن التقوى هي الدواء النافع في الوصول إلى سعادتها، وجدهم خير خلق الله، وأعلاهم رتبة في البصيرة، والمعرفة، والعقل وهم الأنبياء، والأولياء، والحكماء، والعلماء، واتبعهم عليه الخلق على أصنافهم، وشذ منهم آحاد من البطالين، غلبت عليهم الشهوة، ومالت نفوسهم إلى التمتع، فعظم عليهم ترك الشهوات، وعظم عليهم الاعتراف بأنهم من أهل النار، فجحدوا الآخرة، وكذبوا الأنبياء.

قال آخر: فكما أن قول الصبي وقول المغفل الغبي لا يزيل طمأنينة القلب إلى ما اتفق عليه الأطباء، فكذلك قول هذا الذي استرقته الشهوات، لا يشكك في صحة أقوال الأنبياء والأولياء والعلماء.

قال المعلم: أحسنتم.. فما تقولون للغافلين الذين يتوهمون أنه سيكون مصيرهم في الآخرة جيدا، ما دام حالهم في الدنيا كذلك؟

قال أحد التلاميذ: لقد أخبر الله تعالى عن هذا الصنف من المغفلين في قصة الرجلين المتحاورين، إذ قال الغافل منهما: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ [الكهف: 36]

القرآن والحجج البالغة (43)

قال آخر (1): أي لست وحدك يا صاحبى الذي يذهب بحظه الذي يؤمله فى الحياة الآخرة.. فأنا كذلك سيكون لى فى الآخرة ـ إن كانت هناك آخرة ـ حظ خير من حظك، ومقام خير من مقامك.. فكما أنا وأنت فى هذه الدنيا على ما ترى، كذلك سنكون فى الآخرة على هذا الحال.. أنا صاحب جنات خير من هذه الجنات.. وأنت كما أنت! فالوضع هناك هو الوضع هنا.. تماما كما ننتقل أنا وأنت من بلد إلى بلد.. لن يغير هذا الانتقال من حال أى منا شيئا.

قال آخر: وهكذا يذهب الضلال بأهله إلى تلك المذاهب الممعنة فى السفه والجهالة، فيرون حقائق الأمور مقلوبة على وجوهها، وهم فى هذا الوضع المنكوس الذي أقاموا فيه رؤوسهم مقام أرجلهم.

قال آخر: وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: 8]، ويقول: ﴿لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤس قنوط ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى﴾

قال آخر: وكذلك نسب الله تعالى هذا النوع من التفكير لذلك المشرك الغافل عن نصيبه في الآخرة، فقال: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا﴾ [مريم: 77]، وقد رد الله تعالى عليه بقوله: ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ [مريم: 78 ـ 80]

قال آخر (2): ففي هذه الآيات الكريمة يذكر الله تعالى النموذج الواقعي للإنسان

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (8/ 619)

(2) () من وحي القرآن (15/ 74)

القرآن والحجج البالغة (44)

الذي أخذ بهذا المنطق الكافر، واستسلم له، واعتبر أن النتائج التي يترقبها في الدنيا ستحصل لديه عاجلا أو آجلا، ولهذا أكد حصوله على المال والولد فيما يستقبل من حياته.

قال آخر: وقد ورد في بعض التفاسير، أن هذا الرجل هو العاص بن وائل بن هشام القرشي ثم السهمي، وكان أحد المستهزئين، وكان لخباب بن الأرت عليه حق فأتاه يتقاضاه، فقال له العاص: أو لستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال خباب: بلى، قال: فأخرني حتى أقضيك في الجنة استهزاء، فو الله لئن كان ما تقول حقا، إني لأفضل فيها نصيبا منك (1).

قال آخر: وقد رد الله تعالى عليه بقوله: ﴿أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ [مريم: 78]، ذلك أن ضمان تطبيق شيء لا يكون إلا عن طريق أمرين: إما العلم بالمستقبل، وإما قدرة الله، ولكن الإنسان الذي ليس لديه ضمانة من الله، ولا علم له بالمستقبل كيف يعتمد على شيء غير موجود؟

قال آخر: ومثل ذلك حكى الله تعالى هذا النوع من الغفلة والغرور عن الإنسان الجاحد، فقال: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [فصلت: 48 ـ 50]

قال آخر (2): فهذه الآيات الكريمة تصور النفس الإنسانية وتشرّحها، وتكشف عن داء الطمع والشره، وحب الاستكثار من المال والمتاع، المتمكن منها، دون أن يقف بها الأمر

__________

(1) () الكشف والبيان عن تفسير القرآن (6/ 229)

(2) () التفسير القرآني للقرآن (13/ 6)

القرآن والحجج البالغة (45)

عند حد القناعة، أو الشبع.. بل إنها كلما كثر لديها ما تشتهى من مال ومتاع، ازدادت جوعا وطلبا.

قال آخر: وهي تذكر أن الإنسان لا يسأم من دعاء الخير، أي لا يمل من طلب الخير لنفسه، من مال ومتاع، وولد، وجاه وسلطان.. إلى غير ذلك مما يطلبه الناس، ويتنافسون فيه.. وسميت هذه المطالب خيرا، لأنها فى أصلها من نعم الله، وهي فى ذاتها خير، ولكنها حين تصبح غاية لا وسيلة، تكون فتنة وبلاء.

قال آخر: والمراد بدعاء الخير، هو طلبه واستدعاؤه، والسعى الجاد لتحصيله، لأن هذه الأشياء إنما يطلبها الإنسان، لأنها غائبة عنه، فهو يستدعيها إليه، ويهتف بها من أعماقه أن تجيبه، وتدنو منه.

قال آخر: لكنه إن ألم به الشر ـ مجرد إلمام، مع هذه النعم الكثيرة التي بين يديه ـ جأر بالشكوى، وعلا صياحه بالسخط والضيق، وكاد يؤدى به ذلك إلى إعلان الحرب على ربه! لأنه يائس من رحمة الله، سيئ الظن بفضل الله وإحسانه.

قال آخر: فهذا موقف من لا يؤمن بالله، ولا يحسن الظن به، ولا يعلق الأمل والرجاء فيه.. إنه يقيس الأمور ويقدرها، حسب مجرياتها بالنسبة له، وحسب الأسباب التي بين يديه منها، غير ناظر إلى قدرة الله، وإلى تعلق مصائر الأمور بمشيئته.

قال آخر: أما المؤمن الذي يعمر الإيمان بالله قلبه، فإنه إذ يسعى سعيه فى الحياة، يتقبل فى رضى واستسلام، كل ما يقع له من خير أو شر.. فهو مع الخير قانع، راض، شاكر، ومع الضر صابر، مترقب مواقع رحمة ربه من قريب، لا يبيت فى كل شدة إلا مع أمل، فى رحمة من ربه تكشف هذا الضر الذي نزل به.. ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]

القرآن والحجج البالغة (46)

قال آخر: ثم تذكر الآيات الكريمة أن هذا الإنسان الذي مسه الضر، فبات يائسا قانطا من رحمة الله، إذا أذاقه الله سبحانه رحمة منه، وكشف عنه الضر الذي مسه، لم يجعل هذا إلى الله سبحانه، ولم يضفه إلى فضله وإلى فضله وإحسانه، بل يزين له ضلاله وغروره، أن هذا الخير الذي أصابه بعد الضر هو من عمله، وحسن تدبيره، فيقول: هذا لي.. وهذا من كسبى، وحسن تدبيرى، فهو لى، وليس لله فيه شئ، فلا يكون منه حمد لله، ولا ذكر لفضله وإحسانه.

قال آخر: ثم يمضي فى غروره وضلاله، فيدخل على نفسه الشك فى أمر البعث والحساب والجزاء، كى يطلق العنان لشهواته ونزواته، غير عامل أي حساب ليوم الحساب: ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ [فصلت: 50]

قال آخر: ثم إذا به بعد أن ألقى بذور الشك فى يوم القيامة، وغرسها فى مشاعره، يعود فيروى هذه البذور بالآمال الكاذبة، والأمانى الباطلة، حتى يخيل إليه منها أنها قد استوت على سوقها، ثم أزهرت وأثمرت.. فيحدث نفسه بهذا الحديث الكاذب: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ [فصلت: 50]

قال آخر: وهكذا ينتقل به الضلال، من وهم إلى وهم، ومن خداع إلى خداع، حتى يرد موارد الهلاك!..

قال آخر: وقد أبطل الله سبحانه هذه الأمانى الباطلة، وردها على أهلها حسرة وندامة، فقال: ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [فصلت: 50].. فهذا ما يلقاه الكافرون فى هذا اليوم.. إنهم سيلقون أعمالهم السيئة حاضرة بين أيديهم، وسيحاسبون عليها، ثم يقضى عليهم بالعذاب الغليظ، الذي يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، خالدين فيه أبدا.

القرآن والحجج البالغة (47)

قال المعلم: فما سبب هذه الأوهام التي وقع فيها هؤلاء الذين قص الله تعالى علينا قصصهم؟

قال أحد التلاميذ (1): سببه قياس من أقيسة إبليس نعوذ بالله منه، وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا، فيقيسون عليها نعمة الآخرة، وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم، فيقيسون عليه عذاب الآخرة.

قال آخر: وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: 8]، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [المجادلة: 8]

قال آخر: وهكذا، فإنهم ينظرون إلى المؤمنين، وهم فقراء شعث غير، فيزدرون بهم ويحتقرونهم، فيقولون: ﴿أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [الأنعام: 53]، ويقولون: ﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: 11]

قال آخر: وترتيب القياس الذي نظمه إبليس في قلوبهم، أنهم يقولون قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا، وكل محسن فهو محب، وكل محب فإنه يحسن أيضا في المستقبل، كما قال الشاعر:

لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي

قال آخر: وخطؤهم في قياسهم المستقبل على الماضي بواسطة الكرامة والحب، إذ يقول: لو لا أني كريم عند الله ومحبوب، لما أحسن إلى.

قال آخر: والتلبيس ليس تحت ظنهم أن كل محسن محب، بل تحت ظنهم أن إنعامه عليهم في الدنيا إحسان، فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده، بدليل لا يدل على الكرامة، بل

__________

(1) () إحياء علوم الدين، 4/ 88.

القرآن والحجج البالغة (48)

قد يدل على الهوان.

قال آخر: ومثال ذلك أن يكون للرجل صغيران يبغض أحدهما ويحب الآخر، فالذي يحبه يمنعه من اللعب، ويلزمه المكتب، ويحبسه فيه ليعلمه الأدب، ويمنعه من الفواكه وملاذ الأطعمة التي تضره، ويسقيه الأدوية التي تنفعه.. والذي يبغضه يهمله ليعيش كيف يريد، فيلعب، ولا يدخل المكتب، ويأكل كل ما يشتهي، فيظن هذا المهمل أنه عنده محبوب كريم، لأنه مكنه من شهواته ولذاته وساعده على جميع أغراضه، فلم يمنعه ولم يحجر عليه، وذلك محض الغرور.

قال آخر: وهكذا نعيم الدنيا ولذاتها، فإنها مهلكات ومبعدات من الله، إن لم يتعامل معها المنعم عليه بطريقة صحيحة.

قال آخر: ولذلك، فإن المغرور هو من إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله، وإذا صرفت عنه ظن أنها هو ان، كما أخبر الله تعالى عنه إذ قال: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: 15 ـ 16] فأجاب الله عن ذلك: كلا أي ليس كما قال، إنما هو ابتلاء.

قال المعلم: فما هو علاج هذا النوع من الغفلة والغرور والتلبيس؟

قال أحد التلاميذ (1): هذا الغرور علاجه معرفة دلائل الكرامة والهوان، وذلك بأن يعرف وجه كون الالتفات إلى شهوات الدنيا مبعدا عن الله، ووجه كون التباعد عنها مقربا إلى الله.

قال آخر: وذلك بأن يؤمن بكتاب الله تعالى، ويصدق رسوله، وقد قال الله تعالى:

__________

(1) () إحياء علوم الدين، 4/ 89.

القرآن والحجج البالغة (49)

﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]

قال آخر (1): ففي الآية الكريمة تكدير لهؤلاء الكافرين، وقطع لتلك اللذات التي يجدونها فيما بين أيديهم من مال وبنين، وأن هذا الذي هم فيه إنما هو أشبه بما يُقدم للحيوان من طعام، كي يكبر، ويكثر لحمه، ثم يذبح، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد: 12]

قال آخر: فالله سبحانه إنما يملي لأعدائه من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، ويمدهم بنعمة وأفضاله، ليقيم الحجة عليهم، ولتُحسب عليهم هذه النعم، التي كان من حقها أن يشكروا للمنعم بها، فاتخذوها أدوات لحرب الله، وحرب أولياء الله، فكانت عليهم بلاءا ووبالا.

قال آخر: هذا، والعرض الذي يعرض فيه الكافرون، وتكشف فيه أحوالهم، إنما يراد به أولا وقبل كل شئ، العبرة والعظة للمؤمنين، وتنفيرهم من هذه الصورة المنكرة التي يرون الكافرين عليها.

قال آخر: وفي هذا ما يثبت إيمانهم، ويقوى صلتهم بالله، ويزيد فى حمدهم له، أن هداهم إلى الإيمان، وسلك بهم مسالك المؤمنين.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55 ـ 56]

قال آخر (2): ففي الآيتين الكريمتين إشارة إلى أن الله لا يعطي الناس من موقع

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (2/ 649)

(2) () من وحي القرآن (16/ 164)

القرآن والحجج البالغة (50)

كرامتهم عنده فقط، بل من موقع الامتحان والفتنة أحيانا، لإظهار كل ما تخفيه شخصيتهم من خير أو شر.

قال آخر: ولهذا، فإن عليهم أن يفكروا أن ذلك لا يمثل الخير فيما يقبلون عليه، لأن ذلك لن يدوم لهم، فسيفارقونه إن عاجلا أو آجلا، وسيواجهون عذاب الله، ﴿بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55 ـ 56]، لأنّ الغفلة التي بدأت في حياتهم من خلال استسلامهم لأسبابها، امتدّت معهم إلى نهاية الحياة.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القلم: 44]، أي نأخذهم درجة بعد درجة نازلين إلى الهاوية من حيث لا يشعرون؛ من مكان لا يشعرون فيه أنهم كلما أنعم عليهم بنعمة وكفروها يسيرون إلى الهاوية وهم لا يشعرون.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44]

قال آخر (2): أي أن الله يمهد للانتقام بفتح أبواب الرزق عليهم من كل صوب، ثم حين يصلون الى مرحلة الإشباع التام، ولا تبقى في قلوبهم ذرة من إيمان يأتيهم العذاب فجأة.

قال آخر: ولهذا، قال: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 44]، أي مما تصوروا أنه خير لهم، ولم يكن خيرا، بل هو شر عظيم، ففتح الله عليهم أبواب الطعام، والشهرة، لأنهم لم يتقيدوا بشيء اسمه دين أو ضمير أو نظام، بل أخذوا يتمتعون بما في الحياة من دون قيد أو شرط.. أسرفوا في كل ما هو لذيذ.. طيبا كان أو خبيثا.. مشروعا

__________

(1) () زهرة التفاسير (6/ 3017)

(2) () من هدي القرآن: (3/ 66)

القرآن والحجج البالغة (51)

كان أو شذوذا.. وأسرفوا في التظاهر بالصلاح أو الفساد.

قال آخر: ولكن الى متى تبقى موارد الطعام والشهرة، وكم هي قدرة البشر على استيعابها!؟.. بالطبع إن هناك حدودا تنفذ عندها موارد الطبيعة، وتنهك قدرة البشر على استيعابها، وهي التي نسميها مرحلة الإشباع، والتي تنعكس على النفس في حالة (الفرح) أي الشعور بالكمال والغنى والإشباع، وعندها يكون السقوط المفاجئ.

قال آخر: ولهذا قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44]، ويكون السقوط المفاجئ نتيجة تراكمات الإسراف الدائم، ولكن لحظة السقوط لا يشعر بها المغرور الفرح إلا بعدئذ، لذلك عبر القرآن عن حالتهم بأنهم كانوا آنئذ مبلسين، وكانوا في ظلام دامس.

قال آخر: إن مثل الأمة مثل الشاب الذي يسرف في الطعام والشراب والبطش والفساد، ويستمر لفترة من الوقت حتى يشعر بأن كل لذائذ الدنيا في متناول يده، وهو لا يدري أن أنواعا من المرض قد أحاطت بجسده، وأن سحبا داكنة من حقد المظلومين، وأنصار الحق تقترب منه، وفي لحظة سوداء، وربما وهو جالس على مائدة الشراب، ولذائذ الطعام، وهو في غمرة من الفرح والإشباع، فاذا بالشرطة تداهم بيته، وإذا به يشعر بأنواع الألم وهو في غياهب السجون، وإذا به في موقع لعنة الناس جميعا، وأخيرا يسلم الى حبل المشنقة غير مأسوف عليه.

قال آخر: كذلك الأمة التي تنفلت من قيود الدين والأخلاق، وتعمل بالظلم والبطش وتسرف في كل شيء، إنها تشعر بالغرور والكبرياء، ولكن في لحظة واحدة يهجم عليها عدوها فيهزمها شر هزيمة ويذيقها الأمرين.

القرآن والحجج البالغة (52)

قال المعلم (1): أحسنتم.. فما تقولون لعصاة المؤمنين الذين يبررون تفريطهم في حق الله، بأن الله كريم، وأنه عفو غفور، واتكالهم على ذلك، وإهمالهم الأعمال، وتحسين ذلك بتسمية تمنيهم واغترارهم رجاء، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين، وأن نعمة الله واسعة، ورحمته شاملة، وكرمه عميم.

قال أحد التلاميذ (2): الشيطان لا يغوى الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر، مردود الباطن، ولو لا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كشف عن ذلك فقال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله) (3)

قال آخر: وهذا هو التمني على الله تعالى، غير الشيطان اسمه فسماه رجاء، حتى خدع به الجهال، وقد شرح الله الرجاء فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 218]

قال آخر: وهو يعنى بذلك أن الرجاء بهم أليق، وهذا لأنه ذكر أن ثواب الآخرة أجر وجزاء على الأعمال، قال الله تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الواقعة: 24]، وقال: ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران: 185]

قال آخر: إن هذا يشبه من استؤجر على إصلاح أوان، وشُرط له أجرة عليها، وكان الشارط كريما يفي بالوعد مهما وعد، ولا يخلف بل يزيد، فجاء الأجير وكسر الأواني، وأفسد جميعها، ثم جلس ينتظر الأجر، ويزعم أن المستأجر كريم أ فتراه العقلاء في انتظاره متمنيا مغرورا، أو راجيا؟

__________

(1) () إحياء علوم الدين، 4/ 88.

(2) () إحياء علوم الدين، 4/ 88.

(3) () الترمذي رقم (2461)

القرآن والحجج البالغة (53)

قال آخر: وهذا للجهل بالفرق بين الرجاء والغرة، وقد قيل لبعضهم: قوم يقولون نرجو الله ويضيعون العمل، فقال: هيهات! هيهات! تلك أمانيهم يترجحون فيها، من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه.

2. الغفلة والوعي

بعدما انتهى الشاهد الثاني من حديثه، قال الأول: بعد أن سمعت تلك الكلمات من أولئك التلاميذ النجباء، نسيت تلك العقارات التي جئت لطلبها، ورحت أقول للمعلم من حيث لا أشعر: فكيف نستيقظ من هذا السبات الذي أوقعتنا فيه الغفلة.

حينها ابتسم، وقال: أظنك جئت للعقارات التي ذكرتها لك.

قلت: لقد أنستني العقارات التي أعدها الله لعباده الصالحين في الجنة كل عقارات الدنيا.. فما أتعس من يشتغل بجمع التراب عن جمع الحسنات.

طلب مني المعلم حينها، ومن كل من معنا لأن نسير معه إلى بعض تلاميذه في مدرسة قريبة، ليتولوا هم إجابتنا، وقد سمعت من إجابتهم، ومن القرآن الكريم ما تعلمت به كل السبل التي أحمي نفسي منها من الغفلة، وبأيسر السبل وأجداها.

المشهد الأول

قلت: فهلا أخبرتني بما ذكروه لك حتى تأثرت كل ذلك التأثر.

قال: بعد أن وصلنا إليهم، طلب مني المعلم أن أسألهم ما سألته عنه، قال أحدهم (1): ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء.. ودواء الغفلة أن تعلم علم اليقين خطر الغفلة على حياتك ومستقبلك وجميع مصالحك.. فلا ينفي الغفلة شيء مثل الخوف والألم.. ذلك أنهما

__________

(1) () مثالب النفس الأمارة، ص 17.

القرآن والحجج البالغة (54)

من المنبهات الشديدة التي تؤدي إلى اليقظة.

قال آخر: ألا ترى كيف يسير ـ حذرا ومتيقظا ـ من يعلم أن المطبات تملأ طريقه، والأشواك تعترض مسالكه.. فلذلك يحذر عند كل حركة يقوم بها خشية أن تؤدي إلى تلفه أو إعاقته أو إلحاق أي ضرر به؟

قال آخر: وهكذا الأمر بالنسبة لدينك الذي هو رأسمالك؛ فإذا علمت أن الغفلة عن حقائقه وقيمه لن تجني منها إلا الهلاك الأبدي، فسيجعلك ذلك حذرا خائفا، مثل ذلك الذي يسير في طريق الأشواك، أو في مفازة يخاف أن تلتهمه السباع.

قال آخر: ولذلك توالت التحذيرات القرآنية من الغفلة، وهي تشبه تحذير الطبيب مريضه من نسيان استعمال أدويته، وفي أوقاتها المحددة، ذلك أن المشكلة ليست في عدم توفر الدواء، وإنما في الغفلة عن استعماله.

قال آخر: ولهذا، فإن على من عرف خطر الغفلة، وآثارها على حياته جميعا، أن يتخيل نفسه كل حين، وكأنه في سوق كثر لصوصه، أو في مفازة كثر سباعها.. فهو حذر كل حين على حقيقته التي يمكن أن تسلب منه في أي لحظة.. فلصوص الروح أخطر من لصوص المال، والسباع التي تنهش حقيقة الإنسان أخطر من السباع التي تنهش جسده.

قال آخر: فلذلك احذر من أولئك الذين يملؤونك بالرجاء الكاذب، أو يطمئنونك وأنت في هذه الفيافي الممتلئة بالمخاطر.. إنهم لا يختلفون أبدا عن أولئك اللصوص الذين يخدعونك بالكلام المعسول، والأماني الكاذبة قبل أن يقوموا بسرقتك.

قال آخر: وهكذا يفعل الشيطان وأولياؤه عندما يشعرونك بالأمان، قبل أن تقوم بالتحصينات اللازمة لمملكتك التي تهددها شياطين الإنس والجن كل حين.

قال آخر: إن مثلهم مثل من يأمرك بالسير إلى بلاد مملوءة بأنواع الوباء والفيروسات

القرآن والحجج البالغة (55)

والجراثيم، ثم يدعوك إلى التوكل على الله، والاكتفاء بالثقة به، عن أن تحصن نفسك بأنواع التلقيحات.

قال آخر: وهكذا الأمر بالنسبة للغفلة، فإن أكبر أسبابها ذلك الوهن والكسل الناتج عن الثقة الزائدة، والأمل الكاذب.. لكن إن توفر ما يضادها من الخوف المقترن بالرجاء، فإن مفعول مخدر الغفلة سيزول لا محالة.

قال آخر: ولهذا دعا الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى استعمال أسلوب الإنذار لا التبشر مع من تعتريهم الغفلة، لتحول بينهم وبين اليقظة، والجد في السير، قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [مريم: 39]

المشهد الثاني

ما إن انتهى الشاهد الأول من حديثه إلى هذا الموضع، حتى اغرورقت الدموع في عينيه، ولم يستطع أن يكمل حديثه، فقال أحد التائبين من الغفلة: اعذروني، فسأكمل بدل عنه، فقد كنت من الحضور في ذلك المجلس.. وقد سأل أحدنا حينها أولئك التلاميذ الصادقين عن الطرق العملية التي نتخلص بها من الغفلة.

فقال مجيبا له (1): أول ما عليك فعله حتى تتجنب الغفلة وآثارها، أن تستعمل الأدوية والأسلحة التي تضادها، وتواجهها، وتبطل مفعولها، وأن تحرص عليها حتى لا يسلبها منك الشياطين أثناء غفلتك عنها، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ [النساء: 102]

قال آخر: فكما أن أول أهداف الأعداء الذين يريدون السيطرة على أي حصن من

__________

(1) () مثالب النفس الأمارة، ص 20.

القرآن والحجج البالغة (56)

الحصون، الوصول إلى مراكز أسلحته، وسرقتها، حتى لا يتمكن أصحاب الحصن من الدفاع عن أنفسهم، فهكذا يفعل أعداء النفس، فهم يستغلون تلك الغفلة التي تعتري الإنسان، لسلب أسلحته، والقضاء عليه بها.

قال آخر: وكما أن أول ما يفعله من يفطن للأعداء تلك الصيحة التي يحذر بها منهم، فيفرون مدبرين.. فكذلك الأمر في عالم الروح؛ فقد علمنا الله تعالى كيف نصيح بتلك الصيحة، حتى تستيقظ كل لطائفنا، وتنتبه إلى العدو الذي يتربص بها.

قال آخر: وتلك الصيحة هي ذكر الله تعالى، وحضور القلب معه، ولو تكلفا، فإن ذلك ـ مع الدوام عليه ـ سيعيد لكل لطائف الإنسان يقظتها، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِن الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 200، 201]

قال آخر: ثم ذكر مقابلهم أولئك الذين يسكنون ويفرحون للغفلة، ويلتذون بها، لأنها تجعلهم في مأمن من كل ما تدعوهم إليه اليقظة من التكاليف، فقال: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 202]

قال آخر: ولهذا اعتبر الله تعالى سبب استحواذ الشيطان على الإنسان، وتحويله عن إنسانيته الكريمة هو نسيانه لذكر الله، قال تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِن حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة: 19]

قال آخر: ولهذا ربط الذكر بالغفلة، واعتبره علاجا لها، فقال: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 205]

قال آخر: وبناء على هذا وردت الأحاديث الكثيرة الدالة على فرار الشيطان من

القرآن والحجج البالغة (57)

الذاكرين، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا نودي بالصّلاة أدبر الشّيطان، فإذا قضي أقبل، فإذا ثوّب بها أدبر، فإذا قضي أقبل، حتّى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول: اذكر كذا وكذا، حتّى لا يدري أثلاثا صلّى أم أربعا) (1)

قال آخر: وقد قال الله تعالى مقررا لذلك: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ [الإسراء: 46]، فالآية الكريمة تشير إلى أن ذلك النفور سببه الذكر.. ولهذا كان الذكر أكبر دواء مضاد للغفلة.

قال آخر: ليس ذلك فقط ما يمكنكم أن تقوموا به لمواجهة داء الغفلة؛ فقد تجدون من شياطين الإنس من يلقي إليكم بالوساوس التي تجعل من ذكركم مجرد لقلقة لسان، لا أثر لها في نفوسكم، ولا تأثير لها في حياتكم، ولذلك كان أول الطريق البعد عمن ينسيكم ذكر الله، والقرب ممن يذكركم به، كما قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]

قال آخر: فهذه الآية الكريمة تحذر من كل أولئك الشياطين الذين يملؤوننا بالغفلة، وينحرفون بحقيقتنا عن مسارها الصحيح.

قال آخر (2): والآية الكريمة تشير إلى أن الروح الإنسانية تخضع إما لله تعالى أو للأهواء، حيث لا يمكن الجمع بين الإثنين، فعبادة الأهواء أساس الغفلة عن الله وعبادة الله.. وعبادة الهوى هي سبب الابتعاد عن جميع الأصول الأخلاقية.. وعبادة الهوى تدخل الإنسان في ذاته، وتبعده عن جميع حقائق العالم.

__________

(1) () البخاري (3285)

(2) () الأمثل (9/ 262)

القرآن والحجج البالغة (58)

قال آخر: فالإنسان الذي يعبد هواه لا يفكر إلا في إشباع شهواته، ولا يوجد لديه معنى للفتوة والعفو والإيثار والتضحيه والشيم المعنوية الأخرى.

قال آخر: ولذلك طرحت الآية أولا (الغفلة) عن الله تعالى، ثم ذكرت بعدها (أتباع الهوى)، والطريف أن نتيجة هذا الأمر هو الإفراط وبالشكل المطلق الذي ذكرته الآية.

قال آخر: ولهذا نجد عابد الهوى مصابا بالإفراط دائما، وسبب ذلك أن الطبيعة الإنسانية تتجه في الملذات المادية نحو الزيادة دوما، فالذي كان يشعر بالنشوة بمقدار معين من المخدرات، لا يكفيه نفس المقدار في اليوم التالي لبلوغ نفس درجة النشوة، بل عليه زيادة الكمية بالتدريج، والشخص الذي كان يكفيه في السابق قصر واحد مجهز بجميع الإمكانات وبمساحه عدة آلاف بين الأمتار، يصبح اليوم إحساسه بهذا القصر عاديا، فينشد الزيادة.. وهكذا فى جميع مصاديق الهوى والشهوة حيث أنها دائما تنشد الزيادة حتى تهلك الإنسان نفسه.

المشهد الثالث

ما إن انتهى الشاهد من حديثه إلى هذا الموضع، حتى التفت إلى الشاهد الأول، وقال أرجو أن تكمل لهم باقي ما حصل لنا، فقد كنت أكثر صحبة للمعلم منا، وقد تلقينا أكثر تعاليمه على يديك.

قال الشاهد الأول: بورك فيكم، وفيما ذكرتموه.. أجل، لقد شرفني الله بذلك، وقد كانت صحبتي له من أعظم نعم الله علي، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]، فالكينونة مع الصادقين هي سر كل الخيرات، وسبب كل البركات.

قلت: فحدثنا ما حصل بعد ذلك.

القرآن والحجج البالغة (59)

قال: بعد أن سمعنا تلك الأحاديث في فضل الذكر ودوره في علاج الغفلة، اصطحبنا المعلم إلى من يعلمنا الأذكار المختلفة، ويدربنا على كيفيتها والمعاني التي نستشعرها أثناءها.. وقد كان لذلك تأثيره الكبير في نفوسنا.

وذات يوم طلب مني ومن بعض رفاقي أن نسير معه إلى بعض المحال، فسرنا معه، وهناك وجدنا بعض قومنا الذين كانوا ممتلئين مثلنا بالغفلة، لكنا وجدتهم في حال مختلفة تماما.

سألهم المعلم عن سر خروجهم من الغفلة، فقال أحدهم: لقد من الله علينا بقراءة القرآن الكريم والتأمل في آياته، كما طلبت منا؛ فوجدناها ـ كما ذكرت ـ تنقلنا إلى عوالم لم نكن نشعر بها تماما.

قال آخر: لقد كانت تلك الآيات الكريمة هي الموقظ لنا من سباتنا، بل كانت هي المجدد لحياتنا.

قال آخر: الحمد لله لقد سمعنا منكم في تفسيرها ما جعلنا أكثر وعيا بمقاصدها العظمى التي كانت غائبة عنا.

قال المعلم: فحدثوا رفاقكم هؤلاء عنها، وعن سر تأثيرها فيكم.

قال أحدهم: من الآيات الكريمة قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164]

القرآن والحجج البالغة (60)

قال آخر (1): ففي هذه الآية الكريمة تنبيه للحواس والمشاعر، وهي جديرة بأن تفتح العين والقلب على عجائب هذا الكون.. العجائب التي تفقدنا الألفة جدتها وغرابتها وإيحاءاتها للقلب والحس.

قال آخر: وهي دعوة للإنسان أن يرتاد هذا الكون كالذي يراه أول مرة مفتوح العين، متوفز الحس، حي القلب.

قال آخر: وكم في هذه المشاهد المكررة من عجيب، وكم فيها من غريب، وكم اختلجت العيون والقلوب وهي تطلع عليها أول مرة، ثم ألفتها ففقدت هزة المفاجأة، ودهشة المباغتة، وروعة النظرة الأولى إلى هذا المهرجان العجيب.

قال آخر: تلك السماوات والأرض.. هذه الأبعاد الهائلة والأجرام الضخمة والآفاق المسحورة، والعوالم المجهولة.. هذا التناسق في مواقعها وجريانها في ذلك الفضاء الهائل الذي يدير الرؤوس.. هذه السماوات والأرض حتى دون أن يعرف الإنسان شيئا عن حقيقة أبعادها وأحجامها وأسرارها التي يكشف الله للبشر عن بعضها حينما تنمو مداركهم وتسعفهم أبحاث العلوم.

قال آخر: ومثل ذلك اختلاف الليل والنهار.. وتعاقب النور والظلام.. وتوالي الإشراق والعتمة. وذلك الفجر وذلك الغروب.

قال آخر: كم اهتزت لكل ذلك المشاعر، وكم وجفت لها القلوب، وكم كانت أعجوبة الأعاجيب.. ثم فقد الإنسان وهلتها وروعتها مع التكرار. إلا القلب المؤمن الذي تتجدد في حسه هذه المشاهد ويظل أبدا يذكر يد الله فيها فيتلقاها في كل مرة بروعة الخلق

__________

(1) () في ظلال القرآن: (1/ 152)

القرآن والحجج البالغة (61)

الجديد.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: 17 ـ 20]

قال آخر (1): ففي هذه الآيات الكريمة إلفات للغافلين المكذبين بالقيامة أو المنشغلين عنها، إلى قدرة الله تعالى، تلك القدرة القادرة على أن تعيدهم إلى الحياة بعد الموت، وأن تردهم إلى الله سبحانه، للحساب والجزاء.

قال آخر: وفي إلفاتهم إلى الإبل، وإلى ضخامتها، وقوتها، وما أودع الخالق فيها من قوى قادرة على حمل الأثقال، والمشي فى الرمال، وإلى الصبر على الجوع والعطش، كل هذا يكشف عن صانع عظيم، عليم، حكيم، خلق فسوى، وقدر فهدى.

قال آخر: ولأن أول ما يلفت النظر إلى الإبل، هو قاماتها العالية، ورقابها المرفوعة، فقد ناسب ذلك أن يلفتوا إلى السماء، وإلى هذا العلو الشاهق الذي لا حدود له.. كذلك ناسب أيضا أن يلفتوا إلى الجبال، وقد مدت رقابها فوق الأرض كأنها رقاب الإبل، أو أسنمتها..

قال آخر: ثم إن الشأن ليس فى رفع الشيء وعلوه، فما رفع الشيء إلا لحكمة، كما أنه ما خفض شئ إلا لحكمة.. فهذه الأرض المبسوطة الممدودة، لو كانت كلها أسنمة كأسنمة الإبل، أو رقابا كرقابها، لما أمكن الانتفاع بها، والسير فيها.. فهى مع ارتفاع بعض أجزائها، قد انبسط بعض أجزائها الأخرى، لتكون مهادا للناس، وبساطا ممدودا.. وبهذا تذلل لهم وتستجيب لحركتهم عليها.. ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (16/ 1542)

القرآن والحجج البالغة (62)

مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك: 15]

المشهد الرابع

ثم ذكر الشاهد الأول وغيره من الشهود الكثير من الآيات الكريمة التي تتحدث عن دعوة القرآن الكريم للنظر في الكون، مما سنتحدث عنه في مشاهد أخرى.

وبعد أن انتهوا من كل ذلك قلت لهم: فما كان تأثير ذلك فيكم؟

قال أحدهم: لقد صارت تلك الآيات الكريمة نبراسا لنا نتعرف به على الله من خلال أكوانه، ولذلك لم يعد الكون ولا الأشياء حواجز وحجبا بيننا وبين ربنا، بل صارت مسبحة نذكر بها الله، ونشترك معها في التسبيح والحمد.

قال آخر: وبذلك عدنا إلى أموالنا وأهلينا وكل شؤوننا نمارسها، ولكن من دون غفلة، بل بحضور دائم مع الله تعالى.

قال آخر: ولم نكن لنصل لذلك، لولا تلك التعاليم الكثيرة التي كنا نسمعها من المعلم، أذكر جيدا من أقواله لنا، وهو يعظنا: إن أول ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل ما أمرت به أمته هو أن تعاد قراءة الكون باسم الله، كما قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، فالآية تحتمل من حيث الإشارة أن يكون اسم الموصول مفعولا به، ويصير المعنى حينئذ (اقرأ باسم ربك الأشياء التي خلقها)

قال آخر: صدقت، وصدق معلمنا، والقرآن الكريم مليئ بهذا المعنى.. فالله تعالى يأمرنا بقراء الرحمة الإلهية من خلال حياة الأرض بعد موتها، قال تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم: 50]

قال آخر: والله يأمرنا بالاستبشار تفاؤلا بفضل الله، وفرحا بالله، وتنسما لرحمة الله عند هبوب الرياح التي يرسلها الله، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ

القرآن والحجج البالغة (63)

رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 57]

قال آخر: والله يعلمنا أن نقرأ لطف الله وخبرته المحيطة بكل شي من خلال حروف الماء الساقطة على الأرض المخضرة، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [الحج: 63]

قال آخر: والله يعلمنا أن نقرأ علم الله وقدرته من خلال السطور المبثوثة في تقلب الزمان بأعمارنا، قال: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [النحل: 70]

قال آخر: والله يرينا قوة الله القاهرة، وقدرته الشاملة باستعراض تفاصيل دقيق المكونات وجليلها.. فالسموات التي ننبهر لضخامتها لا تعدو أن تكون شيئا حقيرا جدا أمام عظمة الله، قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67]

قال آخر: والقرآن الكريم يرشدنا من خلال هذه الآية الكريمة إلى أن سبب الجهل بقدر الله هو عدم قراءة الكون باسم الله، فهؤلاء نظروا إلى عظم السموات والأرض غافلين عن خالقهما.

قال آخر: وليس من الغريب لهذا أن تحوي سيدة آي القرآن الكريم الحديث عن خلق الله لتستدل به على الله، قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]

القرآن والحجج البالغة (64)

قال آخر: فالآية الكريمة تدلنا على طريق العبور من السموات والأرض إلى الحي القيوم، لأنه لا يكون هذا الإبداع العظيم في هذا الخلق العظيم إلا بحياة المبدع وقيوميته، فالتوازن والتكامل والبقاء في المخلوقات دليل قيام خالقها بها.

قال آخر: ومن هذه الأبواب التي فتحها لنا القرآن الكريم للتعرف على الله من خلال كتاب الكون ما ورد فيه من استدلالات على البعث، فهي ـ عند التأمل ـ أدلة على الله أكثر من دلالتها على البعث.

قال آخر: وهي تدل على الله قبل البعث، لأن الأساس الذي أوقع الدهريين والمنكرين للبعث هو اعتقادهم بالاستحالة العقلية لعودة العظم الرميم للحياة، كما قال تعالى ضاربا المثل ببعضهم: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس: 78]

قال آخر: والقرآن الكريم ـ لينفي هذه الشبهة، ويرفع هذا الالتباس ـ لا يتكلف كلاما عقليا جافا كالكلام الذي يتعمده الفلاسفة، بل يكتفي بأمرنا برفع أبصارنا وحواسنا للنظر إلى الأرض الخاشعة كيف تتحول بالماء الرباني إلى جنة من جنان الحياة، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت: 39]، وقال: ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ [الزخرف: 11]، وقال: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ [فاطر: 9]

قال آخر: أو يرشدهم إلى استعادة تذكر ما سبق من النشأة الأولى، قال تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 79] (يّس:79)

قال آخر: ويخاطب الذين قالوا ـ مغترين بما لديهم من المعارف ـ: ﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا

القرآن والحجج البالغة (65)

وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ [الإسراء: 98] بأمرهم بأن يتحولوا إلى أي شيء شاءوا مما يعتقدون قوته: ﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ [الإسراء: 50 ـ 51]، فإذا بقيت حيرتهم حينها ويقولون: ﴿مَنْ يُعِيدُنَا﴾ [الإسراء: 51]، فإن الجواب القرآني يكتفي بتذكيرهم بالنظر إلى مبدأ خلقهم، قال تعالى: ﴿قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: 51]

قال آخر: وهذه النظرة العرفانية لسطور المكونات تكسبها من الجمال ما لا يكسبها أي وصف بشري، فلا مقارنة بين من يرى ذات الزهرة التي سرعان ما تذبل، فيحزن لذبولها بقدر ما سره تفتحها، وبين من يرى في ابتسام الزهرة لطف الله ورحمته وجماله.

3. الغفلة والتقليد

بعد أن أورد هؤلاء التائبون من الغفلة من شهاداتهم، وكيف خرجوا من الغفلة وظلماتها إلى اليقظة وأنوارها، طلب مني صاحبي الذي اصطحبني إليهم بأن أسير معه إلى صنف آخر من الغافلين الذين أنقذهم المعلم من غفلتهم.

فسألته عنهم، فقال: هؤلاء كانوا من الغافلين بسبب تعظيمهم لآبائهم وأجدادهم، ولمذاهبهم وطوائفهم، وتوهمهم انحصار الحق فيها.. ولذلك فقد سار إليهم المعلم، وحدثهم بما ورد في القرآن الكريم من التحذير من التقليد الأعمى.. وقد كان لأحاديثه معهم تأثيرها الكبير فيهم، حيث استقام حالهم، وتركوا كل ما كانوا عليه من انحرافات بسبب اتباعهم لآبائهم.

قلت: ولكن لم اعتبر هؤلاء من الغافلين، وهم كانوا كما تذكر واعين مستيقظين؟

قال: لأنهم سلموا عقولهم لغيرهم.. وقد أمرنا الله تعالى بألا نسلم عقولنا لأي جهة؛

القرآن والحجج البالغة (66)

فالله ما خلق لكل منا عقله الخاص به إلا ليفكر به، لا ليسلمه لغيره، فيصبح مجنونا أو كالمجنون، ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يكن أحدكم إمعة، يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن لا تظلموا) (1)

عندما وصلنا إليهم، فرحوا بمقدمي، وأخبروني أنهم كانوا ينتظرونني ليدلوا بشهاداتهم، وقد كان أول ما سمعته منهم قول أحدهم: ليتك تعلم كيف أنقذنا المعلم من تلك السجون التي كنا قد سجنا عقولنا ونفوسنا فيها.. لقد كنا نرى أنفسنا على الحق المجرد، وغيرنا على الباطل المجرد، لا لحجة نملكها، بل فقط لكوننا كنا نعتقد أن آباءنا وأجدادنا الذين اتبعناهم هم أقوم عقولا من غيرهم.

قال آخر: وقد حال ذلك بيننا وبين رؤية الحق، أو الانفتاح للعقلاء، أو طلب الحكمة، فلذلك كنا من أجهل الناس، وأكثرهم تطرفا وتعصبا.

قال آخر: لقد أدانا ذلك التقليد إلى التعصب لمذاهبنا وطوائفنا واعتقاد عصمتها، ثم إلغاء غيرنا، وبكل الوسائل.

المشهد الأول

قلت: فكيف خرجتم من ذلك كله؟

قال أحدهم: لقد جاءنا معلمنا إلى المحال التي كنا فيها، وراح يقرأ علينا من القرآن الكريم، ويردد علينا من معانيه وتفسيره ما جعلنا نترك ذلك كله، ولا نتعصب إلا للحق، ولا ندور معه إلا حيثما دار.

__________

(1) () الترمذي رقم (2008)

القرآن والحجج البالغة (67)

قلت: فهلا حدثتموني عن بعض ذلك لأسجله.

قال أحدهم: أجل.. من ذلك أنه كان يدعونا إلى تدبر قوله تعالى عن الغافلين من قوم عاد: ﴿قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: 136 ـ 138]

قال آخر (1): أي أنهم قالوا: لن يغير ما تذكره لنا شيئا، فنحن ماضون في عقيدتنا وعبادتنا للأصنام وعاداتنا وتقاليدنا، فلا قيمة لكلامك، لأنه لن يهز أي شيء من الثوابت التي عمقناها في ذاتنا مما اعتقدناه واعتدناه وألفناه، فلا مجال للمناقشة والجدل في ذلك كله.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى سبب قولهم هذا، وهو التقليد الذي نشأوا عليه، فقال على لسانهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء: 137] أي أنهم وحدهم من نلتزم أخلاقهم من عادات وأفكار وقضايا وأوضاع، لأنهم القاعدة التي ننطلق منها ونرتكز عليها في أعمالنا ومعتقداتنا، فإذا كانوا قد عبدوا الأصنام، فلا بد من أن نعبدها.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة: 104]

قال آخر (2): ففي الآية الكريمة تسفيه لأحلام هؤلاء الضالين.. فقد أطبق عليهم الجهل، واشتمل عليهم السفه والضلال.. فليس مصيبة الإنسان فى أن يضل عن جهل، أو يتعثر من عشى أو عمى، ولكن المصيبة كلها فى أن يُنبه من ضلاله ثم لا ينتبه، ويقاد من يده فيأبى أن يتبع قائده.. إن ذلك هو الضلال المبين، والتيه الذي لا عودة منه، ولا أمل فى نجاة وراءه.

__________

(1) () من وحي القرآن (17/ 141)

(2) () التفسير القرآني للقرآن (4/ 59)

القرآن والحجج البالغة (68)

قال آخر: فهؤلاء الضالون إذا دعاهم داعى الحق إلى أن يردوا من شرودهم، وإلى أن يعودوا إلى كتاب الله، وما تحمل آياته البينات من هدى ونور، وإلى رسول الله، وما يحمل بين يديه وعلى شفتيه من أقباس الحق وأضوائه، لووا رؤوسهم، ولووا وجوههم، وقالوا ﴿حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [المائدة: 104]

قال آخر: أي أنهم يقولون بلسان حالهم: إن هذا الذي نحن فيه هو الخير لنا، والسلامة لأنفسنا ولأهلينا.. إننا نحيا حياة آبائنا، ونسعى سعيهم، ونقفو آثارهم.. إننا ـ والحال كذلك ـ نسير على طريق معلوم، مأنوس بخطو آبائنا وأجدادنا، فكيف ندعى إلى السير فى طريق لم يسلكه أحد قبلنا؟ وكيف نغامر هذه المغامرة بالدخول فى تلك التجربة الجديدة، التي لا ندرى ما وراءها؟.

قال آخر: وقد رد القرآن الكريم على هذا السفه، وهذا الجمود الغبي، بما يفحم ويخرس، قال تعالى: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [المائدة: 104].. أفهذا منطق يأخذون به أنفسهم؟

قال آخر: وهل تلك حجة يقيمونها بين يدى ضلالهم وغيهم؟.. إنه لو أخذت الحياة بهذا المنطق، وقبلت هذه الحجة، لكان على الناس أن يمسكوا بالزمن أن يتحرك، وبالأشياء أن تظل على حال واحدة، لا تتحول عنها أبدا.. ولكن أنى للناس أن يفعلوا هذا؟ وأنى للحياة أن تستجيب لهم لو أرادوا؟

قال آخر: إن الحياة وأشياءها فى تحول وتطور.. وفى كل لحظة تلبس الحياة ثوبا جديدا، وتبلى قديما.. وهكذا تبلى وتجدد.. وتخلع وتلبس.. وماذا يبقى للإنسان من عقله، بل ماذا يبقى له من وجوده، إذا لم يكن له حرية التحرك فى الحياة، والنظر فى كل جديد يطلع عليه منها، ثم الأخذ بما يقضى به العقل المتحرر من قيود التقاليد، مما يراه حقا وخيرا؟

القرآن والحجج البالغة (69)

قال آخر: وإنه لبالغ من ذلك ما فيه خيره وسعادته، إذ لا يغيب عن نظر العاقل وجه الخير، ولا تخفى عليه سمته.. فالحلال بين والحرام بين.. ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ [فاطر: 19 ـ 22] ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ [فاطر: 12]

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: 28 ـ 29]

قال آخر (1): ففي هاتين الآيتين الكريمتين يشير الله تعالى إلى واحدة من وساوس الشيطان المهمة، والتي تجري على ألسنة بعض الشياطين من الإنس أيضا، وهي أنه عندما يُسأل الشخص عند ارتكابه عملا قبيحا عن دليله يجيب قائلا: هذا ما وجدنا آباءنا يفعلونه.. ثم يضيفون إلى هذه الحجة حجة كاذبة أخرى قائلين: ﴿وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ [الأعراف: 28]

قال آخر: وهي تشير إلى خطورة التقليد الأعمى للآباء، بالإضافة إلى الافتراء على الله، وهما عذران مختلفان، وحجتان داحضتان يتشبث بهما العصاة المتشيطنون لتبرير أعمالهم القبيحة غالبا.

قال آخر: والملفت للنظر أن القرآن الكريم لم يعبأ بالدليل الأول، أي التقليد الأعمى للآباء والأسلاف، ولم يعتن به، وكأنه في غنى عن الرد عليه وإبطاله، لأن العقل السليم يدرك بطلانه، هذا مضافا إلى أنه قد رد عليه في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وإنما

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 13)

القرآن والحجج البالغة (70)

اكتفى بالرد على الحجة الثانية، أو بالأحرى التبرير الثاني، حيث قال: ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ [الأعراف: 28]

قال آخر: ذلك أن الأمر بالفحشاء حسب تصريح الآيات القرآنية عمل الشيطان لا عمل الله، فإنه تعالى لا يأمر إلا بالمعروف والخير.

قال آخر: ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله: ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يونس: 68]، ورغم أن الأنسب أن يقول: لماذا تنسبون ما هو كذب وليس له واقع إلى الله؟.. لكنه قال بدل ذلك: لماذا تقولون ما لا تعلمون على الله؟.. وهذا في الحقيقة استنادا الى الحد الأدنى من موضع قبول الطرف الآخر، فيقال: إذا كنتم لا تتيقنون كذب هذا الكلام، فعلى الأقل ليس لديكم دليل على إثباته، فلماذا تتهمون الله وتقولون على الله ما لا تعلمون!؟

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان: 21]

قال آخر (1): ففي الآية الكريمة إشارة إلى المنطق الذي يحكم تفكير هؤلاء، وهو اعتبار الطريقة التي جرى عليها الآباء من العبادة والعادات والتقاليد أساسا للاقتداء، وللاهتداء، من دون أن يقدموا أي أساس فكري على شرعية ذلك من الناحية الفكرية.

قال آخر: بل كل ما هناك أنهم يتعقدون من دعوة التغيير لأنها تخرجهم من دائرتهم التي عاشوا فيها واستغرقوا في خصوصياتها، ولذلك فإنهم لم يدخلوا مع الطرح القرآني في جدل فكري حول الموضوع في مضمون عقيدة الآباء مقارنا بمضمون الدعوة القرآنية.

قال آخر: بل أطلقوا كلمة الإصرار الجامد، والاستغراب القاسي للمحاولة الرسالية

__________

(1) () من وحي القرآن (3/ 176)

القرآن والحجج البالغة (71)

في إبعادهم عما وجدوا عليه آباءهم وعما يعبد آباؤهم، وأطلقوا كلمة الجمود التي تريد أن تختصر حركة الحياة في الماضي فلا مجال لأية حركة جديدة في الحاضر والمستقبل، لأن مسئوليتهما أن يعيشا في إرث التاريخ الذي تركه الآباء، فالزمن وقف عندهم، والتطور انتهى إليهم.

قال آخر: ولهذا هم يذكرون دائما: إننا لن نفكر في أي شيء خارج تلك الدائرة من أية جهة كانت، ومن أي شخص كان.. وهو منطق التعصب الأعمى الذي يواجه الأشياء بالنظرة العمياء.

قال آخر (1): فتلك هى حجتهم، وهذا هو مستندهم.. إنهم أوفياء لآبائهم، حريصون على الاحتفاظ بتراثهم، وليس شأنهم شأن من يتنكر لقومه، ويخرج على تقاليد الآباء والأجداد، فذلك فوق أنه عقوق ـ كما يعتقدون ـ هو عدوان على تلك الجامعة العصبية التي تجمع أبناء القبيلة تحت راية واحدة، سواء أكانت راية حق أو باطل، كما عبر شاعرهم عن ذلك بقوله:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم فى النائبات على ما قال برهانا

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (11/ 577)

القرآن والحجج البالغة (72)

الْمُكَذِّبِينَ﴾ [الزخرف: 20 ـ 25]

قال آخر (1): فقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف: 20] معطوف على جرائم المشركين التي عرضتها الآيات السابقة.. وجريمتهم هنا أنهم يذهبون مذهب السفسطة، والمماحكة، فيعترفون بأن الله سبحانه مشيئة عامة غالبة، وهذا حق، ولكنه حق أرادوا به باطلا، فجعلوا عبادتهم الملائكة مشيئة الله فيهم، وأن الله لو شاء لهم أن يعبدوا غيرها لعبدوه.. فهم ـ والحال كذلك ـ قائمون على أمر الله، غير خارجين على مشيئته.. وهذا مكر سيء منهم، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

قال آخر: نعم إن لله سبحانه وتعالى كل شيء، وإنهم لن يملكوا مع الله نفسا يتنفسونه إلا بأمره ومشيئته.. ولكن أين مشيئتهم هم؟.. أليست لهم مشيئة عاملة، يأخذون بها الأمور أو يدعونها؟

قال آخر: إنهم لو عطلوا مشيئتهم فى كل أمر لكان لهم أن يقولوا هذا القول.. ولكنهم إذا حضرهم الطعام مدوا أيديهم إليه، وأخذوا منه ما يسد جوعهم، فإذا شبعوا رفعوا أيديهم عنه.. فلم يمدون أيديهم إلى الطعام، ولا يقولون لو شاء الله أن نأكل لأكلنا؟

قال آخر: هذه أقرب صورة من صور مشيئتهم، إلى ما لا يحصى من السور التي تتحرك فيها تلك المشيئة، فى أقوالهم وأفعالهم.. فكيف يجعلون أفعالهم الضالة وأقوالهم المنكرة من مشيئة لله، ولا يجعلون لمشيئتهم وجودا هنا، مع أنها موجودة فى كل حال معهم؟ إن ذلك مكر بالله، وتبرير لكل جناية يجنونها على الناس أو على أنفسهم.

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (13/ 118)

القرآن والحجج البالغة (73)

قال آخر: ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الغواة الضالين لو جروا على منطقهم الذي يجعلون به لله سبحانه وتعالى مشيئة عامة شاملة، لكان مؤدى هذا أن يعبدوا الله وحده، وأن يتبرؤوا من كل شريك له، إذ كان سبحانه، صاحب السلطان المطلق، والمشيئة النافذة.

قال آخر: وإنه لضلال سفيه أن يعبد المرء من لا سلطان له ولا مشيئة، ويدع صاحب السلطان، ورب المشيئة.. ولكن هكذا يزين الضلال لأهله سوء أعمالهم، فيرونها حسنة.

قال آخر: وفي هذا يقول الله تعالى على لسان أهل الضلال: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 148] ويقول على لسانهم كذلك: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ [يس: 47]

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الزخرف: 20] إشارة إلى هذا القول الذي يقولونه باطلا وزورا، ويضيفون فيه عبادتهم الملائكة إلى مشيئة الله.. فهذا الذي يقولونه لا علم لهم به.. لأنهم لا يعلمون ما هى مشيئة الله، ولا يقدرونها قدرها، فهم إذا أساءوا، ووضعوا موضع المساءلة والحساب قالوا هذا من مشيئة الله فينا، وإذا كانوا فى عافية من أمرهم، لم يلتفتوا إلى هذه المشيئة، ولم يضيفوا إليها شيئا مما هم فيه، بل جعلوه من كسب أيديهم.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى قول قارون في ذلك: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78].. وذكره على لسان كل ضال، فقال: ﴿ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني﴾

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف: 20] توكيد لجهل القوم وضلالهم، وسفاهة منطقهم فيما يقولون عن مشيئة الله، فهو قول لا مستند له من علم، أو عقل، وإنما هو قائم على الوهم والتخمين.. أي ما هم إلا يخرصون، ويرجمون بالغيب.

القرآن والحجج البالغة (74)

قال آخر: ذلك أن من يبنى معتقده، ويقيم دينه على مثل هذه الأوهام والظنون، لا يصل إلى حق أبدا، والله تعالى يقول: ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾ [الذاريات: 10 ـ 11]

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ [الزخرف: 21] معطوف على قوله تعالى: ﴿مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الزخرف: 20] أي ليس عندهم بما يقولون علم ذاتى، اهتدوا إليه بعقولهم، ولا علم من كتاب آتاهم الله إياه، قبل هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم رسول رب العالمين.. فالمراد بالاستفهام هنا، النفي.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 22]، أي إنه ليس لهم علم من ذات أنفسهم، ولا من كتاب جاءهم قبل هذا الكتاب، وإنما كل ما عندهم، هو ضلال ورثوه عن آبائهم.

قال آخر: ولذلك قالوا لمن يسألهم عن دينهم الذي يدينون به، ويعبدون عليه الملائكة من دون الله، على اعتبار أنهم بنات الله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: 23] أي على دين.. فالأمة فى اللغة تجئ بمعنى الدين، حيث تجتمع الجماعة عليه، وتكون أمة تنتسب إليه، كما تنتسب بقوميتها.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 22] إشارة إلى ما بلغ بهم استسلامهم لموروثات آبائهم من ثقة، فيما ورثوه عنهم، فتلقوه فى اطمئنان، دون أن ينظروا فيه بعقولهم، وأن يكشفوا عما فيه من حق أو باطل.

قال آخر: وهذا لا يكون إلا من سفيه أحمق، يعطل عقله، ويزهد فيه، ويسترخصه، فلا يعيش إلا من هذا الغذاء الذي هو فضلة مما ترك الآكلون، وقد تعفن وفسد.. فهل هذا شأنهم مع ما ورثوا عن آبائهم من أموال ومتاع؟ ألم يقلبوا هذه الأموال والأمتعة بين

القرآن والحجج البالغة (75)

أيديهم؟ ألم يطرحوا منها ما هو غير صالح؟ ألم يأخذوا الصالح منها، ويعملوا على الإفادة منه؟ فما بالهم مع ما تلقوا عن آبائهم من عادات ومعتقدات هى مما يتصل بعقولهم، ـ ما بالهم قد قبلوه على علاته، وأخذوه دون نظر فيه.

قال آخر: ولهذا رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170]، وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23]، أي ليس هذا شأن هؤلاء المشركين وحدهم، بل هو شأن أهل الضلال جميعا فى الأمم السابقة، ما جاءهم من نذير إلا تلقوه بهذا القول الضال المضل: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: 23]

قال آخر: وهكذا يقيم الضلال له مجرى آسنا، يتوارد عليه من منبعه إلى مصبه أصحاب العقول السقيمة، والنفوس الخبيثة، كما يسقط خسيس الطير على الجيف.

قال آخر: واختصاص المترفين بالذكر هنا، لأنهم هم الذين يقومون دائما فى وجه كل دعوة تخرج بالناس عما هم فيه من حال إلى حال، فإن هذا التحول يؤذن أهل الترف والغنى بأن يخرجوا عما هم فيه.

قال آخر: ومن هنا كان أكثر الناس حربا وأشدهم عداوة لدعوات الإصلاح، هم أصحاب المال، والجاه والسلطان، حيث لا يريدون تحولا عن حالهم التي هم فيها.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الزخرف: 24]، أي أنه إذا جاء الرسول، يحاج هؤلاء المترفين، ويرد عليهم قولهم هذا الذي يقولونه عن موروثاتهم من آبائهم، فقال لهم: ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ﴾ [الزخرف: 24] أي أتظلون ممسكين بهذا الذي ورثتموه عن آبائكم،

القرآن والحجج البالغة (76)

ولو دعوتكم إلى ما هو خير منه طريقا، وأهدى سبيلا؟.. فلا يتلقى الرسول منهم إلا إصرارا على ما هم فيه، وإلا كفرا وتكذيبا بما يدعوهم إليه.

قال آخر: وفي مخاطبة الرسول لهم فردا، وردهم على الرسل جمعا، إشارة إلى أن هذا هو الجواب الذي تلقاه الرسل جميعا من المترفين من أقوامهم.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [الزخرف: 25]، وهو إنذار لهؤلاء المشركين، وتهديد لهم بأن يلقوا ما لقى المكذبون قبلهم من نقمة الله، ومن عذابه فى الدنيا والآخرة.

المشهد الثاني

بعد أن ذكر لي التائبون من التقليد والتعصب الآيات الكريمة التي تنهى عن التقليد واتباع الآباء والأجداد، قلت لهم: ولكن ألا ترون أن التقليد ضروري في الكثير من الأحيان، فليس في طاقة كل الناس تعلم كل شيء، أومعرفة دليله؟

قال أحدهم (1): صدقت.. وقد سألنا معلمنا عن ذلك، فذكر لنا أن تقليد الآخرين، سواء كان تقليدا لحي أو ميت، أو تقليدا لشخص أو فريق لا يخرج عن صور أربع.

قال آخر: وأولها تقليد الجاهل للعالم، أي تقليد الجاهل بشي ء لمن له تخصص أو خبرة بفن أو علم، مثل مراجعة المريض للطبيب الخبير بعلم الطب.

قال آخر: وثانيها تقليد العالم للعالم، أي مراجعة أهل العلم أحدهم للآخر واتباع كل منهم للآخر.

قال آخر: وثالثها تقليد العالم للجاهل، أي يترك الإنسان علمه وخبرته، ويتبع

__________

(1) () نفحات القرآن: 1/ 272.

القرآن والحجج البالغة (77)

الجاهل ويقلده عشوائيا.

قال آخر: ورابعها تقليد الجاهل للجاهل، بأن يتخذ قوم جهال عادات وتقاليد ومعتقدات ليست قائمة على دليل أو مستندة إلى شي ء، ويقوم قوم آخرون باتباع أولئك القوم وتقليدهم فيها، وهذا هو أكبر عامل لانتقال المعتقدات الفاسدة والتقاليد الخاطئة من قوم إلى آخر.. وهذا النوع من التقليد هو المقصود بأكثر الآيات التي ذمت التقليد.

قال آخر: ومن الواضح أن القسم الأول من التقليد هو القسم الوحيد المقبول؛ فقد اعتمدت حياة الناس على ذوي الاختصاصات وعلى هذا النوع من التقليد المنطقي، لأن الإنسان حتى لو كان نابغة زمانه لا يمكنه التخصص في جميع الاختصاصات والفروع العلمية.

قال آخر: وعلى هذا، فكل إنسان يمكنه أن يكون مجتهدا في فرع من فروع العلوم، أما في الفروع الأخرى التي لم يجتهد فيها، فلا طريق له إلا الرجوع إلى المتخصصين فيها.

قال آخر: فالمهندس المعماري يراجع الطبيب إذا مرض، والطبيب يراجع المعماري إذا أراد بناء عمارة.. أي أن كلا منهما (مجتهد) في تخصصه و(مقلد) في التخصص الآخر.

قال آخر: ولذلك، فإن رجوع الجاهل إلى العالم وغير المجتهد إلى المجتهد وغير المتخصص إلى المتخصص صحيح، وقد كان ولا يزال متعارفا ودارجا بين الناس، بل إن عجلة الحياة تسير على هذا النوع من التقليد.

قال آخر: أما الأقسام الثلاثة الباقية من التقليد فكلها باطلة ولا أساس منطقي لها، فتقليد (العالم للجاهل) و(الجاهل للجاهل) حالهما واضح، وأما تقليد (العالم للعالم) فإن كان من باب مراجعة أحدهما الآخر للتشاور وتكميل المعلومات، فلا يعد هذا تقليدا بل هو نوع من (التحقيق)

القرآن والحجج البالغة (78)

قلت: بما أنكم ذكرتم ما ورد في القرآن الكريم من النهي عن التقليد المذموم، فهل ورد فيه ما يشير إلى التقليد الممدوح؟

قال أحدهم: أجل.. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]

قال آخر (1): ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن الفكرة القائلة بأن سيرة الأنبياء والأولياء لا تعتبر أساسا للدعوة إلى القدوة لأنهم فوق مستوانا غير صحيحة، لأن الأنبياء في ممارساتهم الروحية والعملية لا يتحركون من مستوى فوق مستوى البشر، بل يعيشون في الحياة بالطاقات البشرية العادية التي تتكامل وتتصاعد بالوعي والمعاناة.

قال آخر: وهذا ما أكده القرآن في أكثر من آية، في حديثه عن بشرية الأنبياء، وخطأ العقيدة التي تفرض لهم شيئا فوق هذا في تكوينهم الذاتي، وفي هذا الاتجاه كانت الدعوة الإلهية إلى التأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر (2): وقد وردت الآية الكريمة في سياق الحديث عن المؤمنين الحقيقيين، ومعنوياتهم العالية ورجولتهم وثباتهم وسائر خصائصهم في الجهاد في غزوة الأحزاب.

قال آخر: وقد بدأت بالحديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان إمامهم وقدوتهم، وخير نموذج لهم، لا في هذا المجال وحسب، بل وفي كل مجالات الحياة.

قال آخر: ذلك أن كلا من معنوياته العالية، وصبره واستقامته وصموده، وذكاءه ودرايته، وإخلاصه وتوجهه إلى الله، وتسلطه وسيطرته على الحوادث، وعدم خضوعه وركوعه أمام الصعاب والمشاكل، نموذج يحتذي به كل المسلمين.

__________

(1) () من وحي القرآن (6/ 246)

(2) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (13/ 196)

القرآن والحجج البالغة (79)

قال آخر: إن هذا القائد العظيم لا يدع للضعف والعجلة إلى نفسه سبيلا عندما تحيط بسفينته أشد العواصف، وتعصف بها الأمواج المتلاطمة، فهو ربان السفينة، ومرساها المطمئن الثابت، وهو مصباح الهداية، ومبعث الراحة والهدوء والإطمئنان الروحي لركابها.

قال آخر: لقد كان يأخذ المعول بيده ليحفر الخندق مع بقية المؤمنين، فيجمع ترابه بمسحاة ويخرجه بوعاء معه، ويمزح مع أصحابه لحفظ معنوياتهم والتخفيف عنهم، ويرغبهم في إنشاد الشعر الحماسي لإلهاب مشاعرهم وتقوية قلوبهم، ويدفعهم دائما نحو ذكر الله تعالى ويبشرهم بالمستقبل الزاهر والفتوحات العظيمة.

قال آخر: ويحذرهم من مؤامرات المنافقين، ويمنحهم الوعي والإستعداد اللازم، ولا يغفل لحظة عن التجهيز والتسلح الحربي الصحيح، وانتخاب أفضل الأساليب العسكرية، ولا يتوانى في الوقت نفسه عن اكتشاف الطرق المختلفة التي تؤدي إلى بث التفرقة وإيجاد التصدع في صفوف الأعداء.

قال آخر: لقد كان أسمى قدوة، وأحسن أسوة للمؤمنين في هذا الميدان، وفي كل الميادين.

قال آخر: و(الأسوة) تعني في الأصل الحالة التي يتلبسها الإنسان لدى اتباعه لآخر، أو هي التأسي والاقتداء.. والقرآن الكريم يعتبر هذه الأسوة الحسنة مختصة بمن لهم ثلاث خصائص: الثقة بالله، والإيمان بالمعاد، وأنهم يذكرون الله كثيرا.

قال آخر: ذلك أن الإيمان بالمبدأ والمعاد هو سبب وباعث هذه الحركة في الحقيقة، وذكر الله يعمل على استمراره، إذ لا شك أن من لم يمتليء قلبه بهكذا إيمان لا يقدر أن يضع قدمه موضع قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا لم يدم ذكر الله ويعمر قلبه به أثناء استمراره في هذا الطريق، ويبعد الشياطين عنه، فسوف لا يكون قادرا على إدامة التأسي والاقتداء.

القرآن والحجج البالغة (80)

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [الممتحنة: 4]

قال آخر (1): ففي الآية الكريمة دعوة للمؤمنين للتأسي بإبراهيم عليه السلام، وبالمؤمنين معه، وهم الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين، الذين جاءوا بعد إبراهيم.

قال آخر: وقد سموا جميعا مع إبراهيم عليه السلام، لأنهم كانوا جميعا على دين الله الذي آمن به، كما كان معظم الأنبياء من ذريته.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، أخذهم الموقف الذي وقفه إبراهيم عليه السلام ومن معه من الأنبياء والمؤمنين من قومهم، إذ تبرؤوا من أقوامهم، ومما يعبدون من دون الله، وكفروا بهم وبمعبوداتهم وأظهروا لهم العداوة، وجاهروهم بها، وأنها عداوة دائمة حتى يؤمن هؤلاء الكافرون بالله وحده لا شريك له، فإن آمنوا انقطعت هذه العداوة، وقام مقامها الحب الذي بين المؤمنين والمؤمنين.

قال آخر: وفي هذا التأسى توجيه للمؤمنين إلى ما ينبغى أن يكون عليه إيمانهم.. فهذا هو الإيمان، الذي يخلى قلب المؤمن من كل مشاعر الود والمحبة لمن حاد الله وكفر به.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الممتحنة: 4] استثناء من التأسى بإبراهيم عليه السلام، فى هذا الموقف الذي وقفه من قريبه، والذي كان موضع عتاب من الله سبحانه وتعالى.. ومع هذا، فقد كان استغفار

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (14/ 897)

القرآن والحجج البالغة (81)

إبراهيم عليه السلام عن موعدة وعدها إياه، إذ قال له: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)﴾ [مريم: 47]

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الممتحنة: 6]، وفي ذلك توكيد للدعوة التي دعى إليها المؤمنون ليتأسوا بإبراهيم عليه السلام والذين معه، بعد أن تبين لهم موقف إبراهيم، ومن معه، من أقوامهم.

قال آخر: فقد دعي المؤمنون أولا إلى التأسى بإبراهيم عليه السلام ومن معه قبل أن يعرفوا الوجه الذي يتأسون به منهم، فلما تبين لهم هذا الوجه، وهو موقفهم المجانب لقومهم، المتبرئ منهم ومن كفرهم حسن أن يدعى المؤمنون بعد هذا دعوة مجددة إلى ما دعوا إليه أولا، حيث عرفوا موضع الأسوة فى إبراهيم ومن معه.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الممتحنة: 6] تعني أن من يعرض عن موالاة الله والمؤمنين، ويؤثر موالاة أهله، وعشيرته من المشركين، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ [الممتحنة: 6] الذي لا ينفعه ولاء من والاه، ولا يضره عداوة من عاداه.. فهو سبحانه الغنى غنى مطلقا عن كل ما فى هذا الوجود، لأنه موجود بكمالاته كلها قبل أن يوجد هذا الوجود.

قال آخر: وهو سبحانه (الحميد) الذي يحمد لعباده المؤمنين إقبالهم عليه، وموالاتهم له، وإن كان فى غنى عن هذا الإيمان، وهذا الولاء.. فذلك الحمد، هو فضل، وإحسان منه، إلى عباده المؤمنين المحسنين.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى بعد ذكر الأنبياء عليهم السلام: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]

القرآن والحجج البالغة (82)

قال آخر (1): فبعد أن ذكر الله تعالى الأنبياء من ذرية إبراهيم ومن قبله، وما اختص به بعضهم من الصبر وشكر النعمة، والعدالة في القوة، وبعضهم من الزهد، والروحانية، وبعضهم من الصدق في القول والوعد، بين الله تعالى أن أولئك الأنبياء نالوا هدى الله، وصبروا على أقوامهم، وأنه حق على محمد خاتم النبيين أن يقتدى بهم.

قال آخر: وفي قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [الأنعام: 90] إشارة إلى ما كان عليه الأنبياء عليهم السلام من صفات الصبر والشكر والزهد والصدق والتوحيد، ومجالدة المنكر، والصبر على أذى المعاندين؛ فالإشارة إلى أشخاصهم المتصفين بهذه الصفات العليا، وهي أساس هداية الله.

قال آخر: وقد أسند الله تعالى الهدى إليه تشريفا لمعناها، وبيان أنه اختارها، واختيار الله تعالى يوجب اتباعها، والسير في طريقها، ولذا قال تعالى: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]، والاقتداء هو الموافقة في سلوك الطريق الذي سلكوه، والهدى الذي اتبعوه، والمنهج الذي نهجوه.

قال آخر: وهذا الكلام السامي يفيد أن الأنبياء عليهم السلام الذين تختلف مراتبهم، وخواصهم، وصفاتهم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاقتداء بهم جميعا في صفاتهم كلها مجتمعة، فهو يكون بهذا الاقتداء جامعا لكل ما عندهم منهم؛ لأنه خاتم الأنبياء، ولأنه مخاطب للأجيال كلها، وأرسل للناس كافة بشيرا ونذيرا، فكان هو وشريعته صالحين لكل الأجيال؛ لأنه وشرعه جمعا كل ما عند الأنبياء السابقين من صفات فاضلة ومراتب من التكليفات عالية.

4. الغفلة والعقل

__________

(1) () زهرة التفاسير (5/ 2582)

القرآن والحجج البالغة (83)

بعد أن أورد هؤلاء التائبون من التقليد والتعصب شهاداتهم، وكيف خرجوا من التقليد وظلماته إلى استعمال العقل وأنواره، طلب مني صاحبي الذي اصطحبني إليهم بأن أسير معه إلى صنف آخر من الغافلين الذين أنقذهم المعلم من غفلتهم.

فسألته عنهم، فقال: هؤلاء كانوا من الغافلين بسبب أخطائهم في التعامل مع أحكام العقول؛ فهم كانوا يخلطون بين أحكام العقل وأحكام الهوى، وسبب ذلك هو إنكارهم للمنطق وتوهمهم أنه من علوم الفلاسفة التي لا يجوز الاستفادة منها.

عندما وصلت إليهم، فرحوا بي كثيرا، وقال لي أحدهم: مرحبا بتلميذ القرآن.. لقد كنا في انتظارك، فنحن نريد أن نحدثك عن معلمنا، وكيف أنقذنا من أوحال إلغائنا لعقولنا إلى روضات تفعيلنا لها، ومن خلال القرآن الكريم.

قلت: شكرا جزيلا.. ويشرفني أن أسجل شهاداتكم.

المشهد الأول

قال أحدهم، وكان أكبرهم سنا: دعوني أبدأ أنا.. فأنا أكبركم سنا، وأول من لقي المعلم، وأول من تشرف بالتنور بنور العقل بسببه، وبفضل القرآن الكريم.

أشار إليه الجمع بالموافقة، فقال: في بداية أمري كنت أقف موقفا سلبيا من العقل، ومن كل ما يرتبط به، لتوهمي أنه حجاب بيني وبين الحق.. ولذلك كنت أكتفي بما أطلق عليه نقلا.. كنت أكتفي بقراءة القرآن الكريم ومن غير تدبر ولا تمعن، لأني كنت أخشى أن يتدخل عقلي في التدبر، فيفسد علي كل ديني.

وقد سرت بهذا إلى الحي الذي يقيم فيه معلمنا، لأبشر به، لكني لم أعد إلى بيتي إلا وأنا أحمل أفكارا متناقضة تماما مع ما كنت أفكر فيه.

في ساحة الحي الذي يقيم فيه المعلم، سمعته مع تلاميذه يتحدثون عن العقل في

القرآن والحجج البالغة (84)

القرآن الكريم.

وكان أول ما سمعته سؤال المعلم لتلاميذه عن قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171]

قال أحد التلاميذ (1): في هذه الآية الكريمة تصوير كاشف لحال هؤلاء الذي لبسوا الكفر تقليدا ومتابعة وإرثا، فجمدوا على ما هم فيه، وأبوا أن يتحولوا عنه، ولو زلزلت الأرض بهم.

قال آخر: إنهم ـ وهذا شأنهم ـ لا يستمعون لداع، ولا يستجيبون لمناد، فلا تختلف حالهم كثيرا عن حال الحيوان الأعجم الهائم على وجهه، يهتف به: أن أقبل، أو اتجه يمينا أو يسارا، أو ما أشبه ذلك، فلا تترجم هذه المعاني فى سمعه إلا على أنها أصوات هائمة، لا معقول لها عنده، فتسقط الكلمات على أدنه كما تسقط الحجارة على الحجر! ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171] فلقد سدت عليهم منافذ العلم، وأغلقت دون عقولهم أبواب المعرفة.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿يَنْعِقُ﴾ [البقرة: 171] إشارة إلى أن الكلمات التي يهتف بها الهاتف إلى هذا الحيوان هى بالنسبة إليه نعيق، ولهذا عبر عنها بما هى صائرة إليه، لا بما كانت عليه عند منطلقها من فم قائلها.

قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال: 22]

قال أحد التلاميذ (2): في هذه الآية الكريمة يشبه الله تعالى المعطلين لعقولهم بالدواب

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (1/ 189)

(2) () من وحي القرآن (10/ 352)

القرآن والحجج البالغة (85)

التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تعقل، لأن قيمة السمع والنطق والعقل، هو في تحريكها بما ينفع حياة الإنسان، وينقذ مصيره من الهلاك، فإذا أهمل كل ذلك، وجمده عن السير في اتجاه المعرفة النافعة، كان كمن فقده بالأساس.

قال آخر: وذلك هو الفرق بين الدواب والناس، في سلبية الدواب أمام قضية المعرفة من أجل الحياة، وإيجابية الناس أمام ذلك كله.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال: 23] يدل على أن الله تعالى تركهم لأنفسهم، فاختاروا لها الضلال.. ولو علم الله أنهم يواجهون الكلمة الحقة من موقع المسؤولية، لأسمعهم بطريقة غير عادية، لكنه عرف فيهم الإصرار على الهروب من الحقيقة، ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: 23] لأنهم لا يريدون لأنفسهم الخير، فيما ينقذ حياتهم ومصيرهم من الهلاك.

قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]

قال أحد التلاميذ (1): أي ولقد خلقنا ﴿لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ [الأعراف: 179] الذين عطلوا الطاقات الفكرية والحسية التي وهبهم الله إياها من أجل أن يستفيدوا منها في خط المعرفة، فقد خلق الله لهم العقول ليفكروا بها فيهتدوا بذلك في معرفة الخط السليم للحياة، وخلق لهم الأعين ليبصروا بها خلق الله، والآذان ليسمعوا بها آيات الله، والكلمات التي تفتح قلوبهم على الحق، ولكنهم جمدوا ذلك كله، فعطلوا عقولهم عن

__________

(1) () من وحي القرآن (10/ 289)

القرآن والحجج البالغة (86)

التفكير، وأعينهم عن التحديق بالأشياء بوعي، وأسماعهم عن الاستماع إلى المواعظ بتركيز.

قال آخر: وقد قال تعالى يصف ذلك: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: 179] لأنهم لم يحركوها في اتجاه الفهم الواعي للأمور، ﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: 179] في التعرف على مظاهر عظمة الله، ﴿وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: 179] لأنهم لم يركزوا وعيهم في الاستماع إلى الآيات بوعي.

قال آخر: وقد شبه الله تعالى هؤلاء بالبهائم السائمة التي لا تعقل ولا تعي، فهي عندما تتحرك لا تتجاوز نداء غرائزها لأنها لا تملك مجالا لغير ذلك.. ولكن الإنسان الذي يملك القدرة على تحصيل مفردات المعرفة، كما يملك القوة العقلية التي يستطيع بواسطتها أن يحول مفردات المعرفة إلى منهج فكر وحياة يهديه للحق والإيمان، ثم يعطل ذلك، يكون بالنتيجة مساويا للأنعام.

قال آخر: لأن قيمة الطاقات هي في أن تتحرك لتحقق القوة، فإذا تجمدت كان وجودها وعدمها سواء.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان: 44] لأنهم يضلون من حيث يمكنهم السير في طريق الهدى.. ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179] الذين أوقعتهم شهواتهم وملذاتهم في غفلة مطبقة لا يملكون معها وعيا وانفتاحا وتفكيرا.

قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: 42 ـ 44]

القرآن والحجج البالغة (87)

قال أحد التلاميذ (1): هذه الآيات الكريمة تتحدث عن حال المشركين الذين عطلوا عقولهم، فصاروا يستمعون إلى القرآن الكريم، والنبي يتلوه على الناس.. لكنهم لا يفتحون لما يسمعون آذانا، ولا قلوبا، فلا يقع لهم مما يستمعون شيئا من الاستضاءة والهدى.

قال آخر: وقد ربط القرآن الكريم هنا بين الأذن والعقل.. للدلالة على أن ما تسمعه الأذن، مجرد سماع، دون أن يعيه الإنسان ويعقله، ليس إلا أصواتا لا مفهوم لها، وليست حاسة السمع حينئذ إلا أداة معطلة لا عمل لها.. إذ أن من عملها أن تصل الإنسان بهذا الوجود، بما يقع فيها من حكمة وموعظة حسنة.. فالأذن إذا لم يكن بينها وبين العقل والقلب اتصال وثيق لما يقع فيها من كلمات، لم يكن لما تسمعه من طيب الكلام، وحكيم القول، أثر فى مدركات الإنسان وفى سلوكه.. إذ لا يخرج هذا الكلام عن أن يكون مجرد أصوات لا مفهوم لها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [الحاقة: 12]

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يونس: 43]، وهو يشير بذلك إلى جماعة أخرى، لها موقف آخر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهي قد سمعت القرآن، ثم جعلت تنظر فيه بقلوب مريضة، وعقول سقيمة، فلم تهتد إلى خير، ولم تتعرف إلى حق.

قال آخر: ويلاحظ هنا أن القرآن لم يصل بين النظر والعقل، أو القلب، كما فعل ذلك مع السمع، بل جعل مجرد تعطيل أداة النظر عن أداء وظيفتها، حجزا عن عن الخير، وعزلا عن الهدى.

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (6/ 1019)

القرآن والحجج البالغة (88)

قال آخر: وذلك، لأن النظر جهاز يمد الإنسان بأكثر ما يقوم عليه بناء الملكات والمشاعر والوجدانات، فى كيانه، فهو باب المعرفة الذي يطل منه الإنسان على هذا الوجود، ويصيد بشباكه، ما يشاء من محسوسات ومعنويات.. ومن هنا كان فى ذكر النظر، ذكر واستحضار لملكات الإنسان ومشاعره، ووجداناته.. فإذا عمى النظر أو زاغ، عميت تلك الملكات وزاغت المشاعر، واضطربت الوجدانات.

قال آخر: ومن جهة أخرى، فقد اختلف النظم القرآنى فى الآيتين.. هكذا: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [يونس: 42]، و﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ﴾ [يونس: 43]، فجاء الاستماع مسندا إلى الجمع، على حين جاء النظر مسندا إلى المفرد.. وفى هذا إشارة إلى أن الذي يستخدم حاسة السمع لا بد أن يدانى الذي يتحدث إليه، وأن يقترب منه بحيث يسمع ما يقول، أما الذي يستخدم حاسة النظر، فقد ينظر من بعيد، بحيث لا يظهر لمن ينظر إليه.

قال آخر: وإذا كان النبي هو الذي يتلو القرآن على الناس، ليبلغهم ما أنزل إليه من ربه، فإن ذلك من شأنه عادة أن يكون بمحضر من أعداد كثيرة من المستمعين، ولهذا جاء النظم القرآنى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ [يونس: 42].. محدثا عن هذا العدد الكثير، أو القليل، الذي يستمع إلى النبى، وليس كذلك الحال فى مجال النظر إلى ما مع النبي من آيات ربه.. أو النظر إلى النبي ذاته، فى أحواله ومسلكه فى الحياة.

قال آخر: ذلك أن النظر فى آيات الله، هو نظر يستقل به المرء وحده، ويورد عقله وقلبه على ما سمعه أو قرأه منها.. حتى يرى لنفسه الطريق الذي يأخذه مع تلك الآيات.. مصدقا، ومستجيبا، أو مكذبا، ومنابذا.. وكذلك النظر فى أحوال النبى، ودراسة شخصيته.. ولهذا جاء النظم القرآنى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ﴾ [يونس: 43] مشيرا إلى ما كان من بعض المشركين من نظر وتفكير، فى آيات القرآن التي استمعوا إليها.. لكنه نظر بعيون

القرآن والحجج البالغة (89)

كليلة، وتفكير بقلوب مريضة، فلم تهتد إلى حق، ولم تمسك بخير.

قال آخر: وفي قوله تعالى مخاطبا النبي الكريم: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ [الزخرف: 40]، و﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ﴾ [يونس: 43] إشارة إلى أن المعتقد الدينى لا يقوم في النفس مقاما ثابتا، ولا يقع فى القلب موقعا مطمئنا، إلا إذا تناوله الإنسان بنفسه، ونظر فيه بعينه وقلبه، ووزنه بعقله وإدراكه.. وهنا يكون الإيمان ويكون اليقين، حيث اهتدى إليه الإنسان بمدركاته، وجاء إليه بمحض إرادته فى غير قهر أو قسر.. أما يد القهر والقسر، فإنها لن تثبت دينا ولن تقيم يقينا.

قال آخر: إن ذلك أشبه بيد تدفع إلى معدة الإنسان مباشرة طعاما من غير مضغ ولا بلع.. إنه طعام لا يفيد منه الجسم أبدا، ولو كان جائعا يطلبه ويشتهيه، بل ربما قتل صاحبه، أو أفسد نظام جسده، ورماه بأكثر من داء.

قال آخر: ولهذا، فقد كان الإسلام صريحا واضحا، بل صارما، فى هذا الموقف.. إنه يحرم القهر والقسر فى كل شئ، لأنه بغى وعدوان.. فإذا كان فى مجال العقيدة، فهو أكثر من بغى وعدوان إنه عدوان وبغى يصيبان الإنسان فى مقاتله.

قال آخر: وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، ويقول للنبى الكريم: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99]

قال آخر: وهذا هو بعينه ما جاء فى قوله تعالى: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ﴾ [يونس: 42].. ﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يونس: 43]

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: 44]، وهو يشير إلى ما يركب الناس من عناد وضلال، وما يسوقهم إليه هذا الضلال والعناد، من الكفر بالله، والشرود عن الحق الذي جاءهم به رسله.. فإذا

القرآن والحجج البالغة (90)

أخذهم الله بذنوبهم، فذلك عدل منه سبحانه وتعالى، فهو ـ سبحانه ـ إنما أذاقهم طعم ما غرسوا.. فإذا كان هذا الغرس الذي غرسوه مما لا تسوغه أفواههم فتلك جنايتهم على أنفسهم.. ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 117]، أي وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم، إذ حادوا بها عن طريق الهدى، وعدلوا بها عن شاطئ الأمن والسلام، فأوردوها تلك الموارد المهلكة.

قال المعلم: أحسنتم.. فما الذي تستنجونه من هذه الآيات الكريمة؟

قال أحد التلاميذ (1): إن هذه الآيات الكريمة تدل على أن الأحكام العقلية إذا تجردت من سلطة حكم الحس والوهم لا تكاد تخطئ، لأنها فطرة فطر الله الناس عليها.. كما قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]

قال آخر: فالله تعالى سمى العقل دينا، ولذلك فإن التناقض بين أحكام العقل وأحكام الشرع مستحيلة.. بل إن أساس الشرع العقل.. فالعقل كالأس والشرع كالبناء.. ولن يغني أ س ما لم يكن بناء.. ولن يثبت بناء ما لم يكن أ س.

قال آخر: والشرع ـ بسبب مراعاته الضرورية للأحكام العقلية ـ عقل.. فالشرع عقل من الخارج، والعقل شرع من الداخل.. وهما متعاضدان بل متحدان.

قال آخر: وبسبب هذا الاتحاد بين أحكام العقل وأحكام الشرع، فإن تمجيد العقل تمجيد للشرع، وإعماله أعمال للشرع، ونبذه نبذ للشرع.. لأن كليهما من وضع الله.

قال آخر: أما ذم من ذمه فسببه إلى أن الناس نقلوا اسم العقل إلى المجادلة والمناظرة

__________

(1) () معارج القدس في مدارج معرفة النفس، ص 57.

القرآن والحجج البالغة (91)

بالمناقضات والإلزامات، فاستخدموا العقل في غير ما خلق له، فلذلك كان الذم منصبا على الاستخدام السيئ لا على المحل فإن نور البصيرة التي بها يعرف الله تعالى، ويعرف صدق رسله، لا يتصور ذمه؟ وقد أثنى الله تعالى عليه؛ وإن ذم فما الذي بعده يحمد؟

المشهد الثاني

بعد أن وصل الشاهد الأول من حديثه إلى هذا الموضع، قام آخر، وقال: شكرا جزيلا.. دعوني أكمل أنا.

أذن له رفاقه في الحديث، فقال: بعد أن عاد إلينا رفيقنا بغير ما ذهب به، رحت إلى الحي الذي يقيم فيه المعلم، لأرى السبب الذي غير صاحبي، وهناك رأيت المعلم وتلاميذه يخاطبون جمهورا من الناس، وقد قال المعلم حينها: ليس هناك في الدنيا شيء اسمه (منطق أرسطو)

قال بعض الحضور: كيف تقول ذلك؟.. الكل يطلق عليه ذلك، وأنت تجادل فيه.

ابتسم المعلم، وقال: فهل ابتدع منطقه ابتداعا.. أم أنه اكتشفه اكتشافا.. أم أنه وصفه وصفا؟

قال الرجل: ربما أليق الألفاظ أن تعتبره واصفا أو ضابطا.

قال المعلم: فهل يمكن أن ننسب العربية للخليل أو لسيبويه.. فنقول (عربية الخليل) أو (عربية سيبويه)؟

قال الرجل: العربية أوسع من أن تنحصر في هذين الرجلين.

قال المعلم: فكذلك المنطق.. لقد جبل الله عليه العقول.. فلا يصح أن يوصف به فرد دون فرد.. ولا أمة دون أمة.

قال الرجل: فما الحاجة إلى تدريسه إذن؟

القرآن والحجج البالغة (92)

قال المعلم: لأن العقول قد تنحرف بها الأهواء عن الحقائق.. كما ينحرف اللحن بالألسن عن الإعراب.. فتحتاج إلى ما يقومها.. ولهذا نزه الله تعالى القرآن الكريم من التناقض، فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].. فهذه الآية لا تقول فقط إن القرآن الكريم لا تناقض فيه، بل تجعل عدم هذا التناقض دليلا على كونه من عند الله تعالى؛ لأنه لا يمكن لمخلوق أن يكتب كتابا في حجم القرآن الكريم وتعدد موضوعاته وخطورتها والمدة الطويلة التي نزل فيها، ثم لا يكون فيما قال تناقض.

قال أحد الحضور: ولكن ألا تعلم أن الذي كتب في المنطق فلاسفة.. ولا علاقة لهم بالإسلام والمسلمين.. فهل تريد أن تتلمذ عقولنا على الكفار؟

قال المعلم: ولكن ألم تعلم ـ يا ولدي ـ أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.

قال الرجل: لكنهم فلاسفة.. وليسوا حكماء؟

قال المعلم (1): إن مثل من ينكر على هؤلاء بسبب كونهم فلاسفة كمن يسمع من النصراني قوله: (لا إله إلا الله عيسى رسول الله)، فينكره، ويقول: هذا كلام نصراني، ولا يتوقف ريثما يتأمل أن النصراني كافر باعتبار هذا القول أو باعتبار إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

طلب الرجل من المعلم أمثلة على ذلك، فأشار المعلم إلى تلاميذه، فقال أحدهم: من الأمثلة على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من مجادلات اليهود لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها قولهم له: ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91]

__________

(1) () المنقذ من الضلال، ص 110.

القرآن والحجج البالغة (93)

قال آخر: وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم، فقال: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام: 91]

قال آخر: انظروا كيف استعمل القرآن الكريم المنطق هنا للرد عليهم.. فالذي يلزم من قولهم ذلك هو أن الله لم ينزل التوراة على موسى.. لكن اليهود يؤمنون بأن التوراة كلام الله؛ ولذلك سألهم القرآن الكريم سؤالا استنكاريا، فقال: ﴿مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ [الأنعام: 91]

قال المعلم: أحسنتم.. فحدثوهم عن ميزان التعادل، وما يدل عليه من القرآن الكريم.

قال أحد التلاميذ (1): لهذا الميزان ثلاثة أشكال (2).. أما أولهما، فالميزان الأكبر.. وومثاله قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 258]، وصياغة هذا الميزان هي: كل من يقدر على إطلاع الشمس فهو الإله، فهذا أصل؛ وإلهي هو القادر على الإطلاع، وهذا أصل آخر؛ فلزم من مجموعهما بالضرورة أن إلهي هو الإله.. ويمكن صياغته رمزيا هكذا: أ هي ب، وب هي ج، إذن: أ هي ج.

قال آخر: وأما الثاني، فالميزان الأوسط.. ومثاله قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ [الأنعام: 76]، وصياغة هذا الميزان هي: أن القمر آفل، والإله ليس بآفل؛ فالقمر ليس بإله، ويمكن صياغته رمزيا هكذا: أ هي ب، وج ليست ب، إذن: أ ليست ج.

__________

(1) () القسطاس المستقيم، ص 54.

(2) () هذه الموازين الثلاثة المشكلة لميزان التعادل تشبه ما يعبر عنه في المنطق بأشكال قياس أرسطو الاقتراني الثلاثة.

القرآن والحجج البالغة (94)

قال المعلم: فما الفرق بين هذا الميزان والميزان الأكبر؟

قال أحد التلاميذ: الفرق بينهما واضح.. فالصفة في الميزان الأكبر عامة تشمل جزئيات الموصوف كلها، بخلاف ما هي عليه في الميزان الأوسط حيث تنحصر في شيئين متباينين كل التباين بحيث ينفي عن أحدهما ما يثبت للآخر.

قال المعلم: فما الشكل الثالث من أشكل ميزان التعادل؟

قال أحد التلاميذ: الميزان الأصغر.. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾ [الأنعام: 91]

قال آخر: ووجه الوزن بهذا الميزان هو أن موسى عليه السلام بشر، وقد أنزل عليه الكتاب، إذن بعض البشر أنزل عليهم الكتاب.. وصياغته الرمزية هي: ب هي أ، وب هي ج، إذن بعض أهي ج.

قال آخر: والفرق بين هذا الميزان وما قبله أنه يستخدم في التخصيص والتمييز بين الصفات الذاتية التي تشترك فيها عموم جزئيات الجنس والصفات العرضية التي لا يشترك فيها إلا قسم من هذه الجزئيات.

قال المعلم: فما الميزان الثاني؟

قال أحد التلاميذ: ميزان التلازم (1).. وهو أن كل ما هو لازم للشيء تابع له في كل حال، فنفي اللازم يوجب بالضرورة نفي الملزوم، ووجود الملزوم يوجب بالضرورة وجود

__________

(1) () هذا الميزان هو المسمى في المنطق بالقياس الشرطي المتصل.

القرآن والحجج البالغة (95)

اللازم، أما نفي الملزوم ووجود اللازم فلا نتيجة لهما.

قال آخر: ومن الأمثلة عنه قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22]، وصياغة هذا الميزان هي أنه لو كان في السموات والأرض إلهان لفسدتا، فهذا أصل، ومعلوم أنهما لم تفسدا، وهذا أصل آخر؛ فيلزم منهما ضرورة نفي الإلهين، وإثبات الإله الواحد.

قال المعلم: فما الميزان الثالث؟

قال أحد التلاميذ: ميزان التعاند.. وهو أن كل ما انحصر في قسمين، فيلزم من ثبوت أحدهما نفي الآخر، ومن نفي أحدهما ثبوت الآخر بشرط أن تكون القسمة منحصرة، لا منتشرة.

قال آخر: ومن الأمثلة عنه من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: 24]

قال آخر: ووجه الاستدلال به هو: (إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ومعلوم أننا لسنا في ضلال، والنتيجة هي: أنتم ضالون)

القرآن والحجج البالغة (96)

ثانيا ـ القرآن.. والملاحدة

بعد تلك المشاهد التي رأيت فيها كيف استطاع القرآن الكريم أن ينقذ الغافلين من غفلتهم، أخذ بيدي شاب، وقال: هلم معي إلى بعض الأحياء القريبة، ففيها جمع من الناس، يريدون الالتقاء بك.

قلت: ولم؟

قال: يريدون أن يحدثوك عن معلمنا، وكيف أنقذهم من ظلمات الإلحاد إلى نور الإيمان.

قلت: وما علاقة ذلك بما جئت من أجله؟

قال: أليس القرآن الكريم حجة بالغة على الخلق جميعا؟

قلت: بلى.

قال: فالذي ينكر وجود الله، ويتعلق لذلك ببعض الشبهات والوساوس، ألا يحتاج إلى الحجج التي تحميه منها، لتقام عليه الحجة كاملة؟

قلت: بلى.

قال: فهلم معي إذن إليهم.. فقد صار هؤلاء بعد إلحادهم، وبفضل القرآن الكريم وتعاليم المعلم دعاة إلى الله، لا هم لهم إلا إقامة هذا النوع من الحجج.

قلت: فهؤلاء متكلمون إذن؟

قال: سمهم ما شئت.. لكنهم قبل أن يكونوا متكلمين أو فلاسفة أو مناطقة هم قرآنيون.. فكل علومهم قبسات من القرآن، كما علّمهم بذلك معلمنا.

سرت معه إلى أن وجدنا جمعا من الشباب والكهول، وكأنهم ينتظروننا، وقد قال

القرآن والحجج البالغة (97)

أحدهم، وهو يصافحني: مرحبا بتلميذ القرآن.. لقد كنا في انتظارك، فنحن نريد أن نحدثك عن معلمنا، وكيف أنقذنا من أوحال الإلحاد إلى روضات الإيمان.

قلت: أنا أستمع إليكم، وسأسجل كل ما تذكرونه.

1. برهان الفطرة

قال أحدهم، وكان أكبرهم سنا: دعوني أبدأ أنا.. فأنا أكبركم سنا، وأول من لقي المعلم، وأول من تشرف بالتنور بنور الإيمان بسببه، وبفضل القرآن الكريم.

المشهد الأول

أشار إليه الجمع بالموافقة، فقال: قبل أن ألتقي المعلم كنت أردد في كل المجالس كل ما ذكره دعاة الإلحاد في القديم والحديث من الكلمات، وكنت أفتخر بذلك، وأحسب أني على شيء.. إلى أن جاء ذلك اليوم الذي أقعدني فيه المرض، وأحسست بعجزي وضعفي، حينها شعرت بحاجتي إلى من ينقذني من ذلك الذي أنا فيه من ضعفي، وكدت أصيح (يا الله)، لكن كبريائي حال بيني وبين ذلك.. لكن الله قدر، وأنا في المستشفى، أن أستمع إلى المعلم وتلاميذه، أثناء زيارتهم لبعض المرضى، وقد رأيت المعلم يوجه حديثه إلي، ويبتسم من غير أن تكون بيني وبينه أي معرفة.

لقد قرأ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: 172 ـ 174]

القرآن والحجج البالغة (98)

ثم طلب من تلاميذه أن يذكروا معناها، فقال أحدهم (1): يذكر الله تعالى في هذه الآيات الكريمة إقامة حجته على الناس، فيما منحهم من وسائل الهداية ودلهم عليه من سبلها، فلا حجة لهم في كفر أو في معصية، بالرغم من محاولتهم التعلق ببعض الأوهام التي يعتبرونها أساسا لما يسيرون فيه من طرق الضلال، أو ينحرفون به من سبيل.

قال آخر: وهي تذكر أن الله تعالى أودع في أصلاب الرجال النطف التي يخلق منها الذرية بالوسائل الطبيعية، على أساس ما جعله من قوانين الخلق والإيجاد ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172]

قال المعلم: هل كان هذا الإشهاد جماعيا دفعة واحدة، أو كان تدريجيا على أساس السنة الطبيعية للخلق في إخراج الأبناء من أصلاب الآباء؟

قال أحد التلاميذ (2): لم يرد في الآية الكريمة تفاصيل مرتبطة بهذا، ولذلك هناك من ذهب إلى أنه حين خلق الله تعالى آدم ظهر أبناؤه على صورة الذر إلى آخر نسل له من البشر.. وكان لهذا الذر عقل وشعور كاف للاستماع والخطاب والجواب، فخاطب الله سبحانه الذر قائلا: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172]، فأجاب الذر جميعا: ﴿بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الأعراف: 172].. ثم عاد هذا الذر أو هذه الذرات جميعا إلى صلب آدم عليه السلام، أو إلى طينته.

قال آخر: ومن هنا فقد سمي هذا العالم بعالم الذر، وهذا العهد بعهد (ألست).. وبناء على ذلك، فإن هذا العهد المشار إليه عهد تشريعي، ويقوم على أساس (الوعي الذاتي) بين الله والناس.

قال آخر: وهناك من ذهب إلى أن المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد

__________

(1) () من وحي القرآن (10/ 281)

(2) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 288)

القرآن والحجج البالغة (99)

والكفاءات، وعهد الفطرة والتكوين والخلق.

قال آخر: فعند خروج أبناء آدم عليه السلام من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأمهات، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار، وهبهم الله الاستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية، وأودع ذلك السر الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي، كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها.

قال آخر: وبناء على هذا، فإن جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إياهم: ألست بربكم؟ كان بلسان التكوين والخلق، وما أجابوه كان باللسان ذاته.

قال المعلم: فما الاحتمال الذي تختارونه؟

قال أحد التلاميذ: لكل منا اختياره، ولا حرج في اختيار أي من القولين.

قال آخر (1): ولكني شخصيا، أرى أنه ليس في الآية ما يؤكد الاحتمال الأول، لأن مجرد الحديث عن الموضوع بطريقة الجمع لا يدل على ذلك؛ فالطريقة القرآنية جرت على الحديث عن القضايا الإنسانية التي تخضع لعنوان واحد أو موقف مشترك بأسلوب يوحي باعتبارها ظاهرة واحدة، في الوقت الذي لا تكون مثل هذه القضايا مجموعة في زمان واحد.

قال آخر: أجل، فالهدف في الآيات الكريمة هو الحديث عن الفكرة المشتركة التي تجمع الكل، بعيدا عن طبيعة الخصوصيات الفردية المتمثلة فيها على صعيد وجودها الخاص.

قال آخر: بل ربما نجد ما يؤكد الاحتمال الثاني، لأن الظاهر أن إخراج الذرية من

__________

(1) () من وحي القرآن (10/ 281)

القرآن والحجج البالغة (100)

الظهور وارد على سبيل الكناية عن عملية الخلق والإيجاد الفعلي، كما في الآيات التي تتحدث عن خلق الناس جميعا من دون تفصيل للطريقة التدريجية في ذلك.

قال آخر: وإذا كان الأمر كذلك، كانت المسألة ظاهرة في تدريجية الوجود، لأن الخلق الفعلي كان على هذا الأساس.

قال آخر: وعلى هذا، فإن المراد بالإشهاد، هو الإشهاد المنطلق من عملية الخلق، فيما أودعه الله في كل واحد من الدلائل والبراهين على وجوده وتوحيده، من خلال الفطرة التي أودعها في تكوين الإنسان، مما تعتبر شاهدا على قضية الإيمان فيما توحي به من أفكار، وما تثيره من مشاعر، إذا لم ينحرف بها الإنسان عن مسارها الطبيعي بسوء اختياره.

قال آخر: وبهذا يكون كل فرد من بني آدم شاهدا على نفسه بفطرته التي تنطق بذلك، بنفس حركة الوجود في كيانه من دون كلام، لأن الفطرة تحس بالحاجة إلى الله في كل شيء.

قال آخر: فالإنسان لا يملك أية إمكانية للوجود، أو إمكانية لاستمراره بعيدا عن الله، مما يجعل من وجوده وجودا مرتبطا بالله في كل شيء.

قال آخر: ففي كل نبضة من نبضاته هاتف يهتف بالوحدانية، ﴿قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الأعراف: 172] بأنك أنت الله ربنا لا إله إلا أنت، منك الحياة، وبإرادتك تستمر بنا.

قال المعلم: فما معنى قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]؟

قال أحد التلاميذ: أي لئلا تقولوا في حالة اختياركم للخط المنحرف في الإيمان والعمل، أو تحتجوا بالغفلة الفكرية والروحية عن مسألة الوحدانية، لأنكم لا تملكون الأساس الذي يبعث فيكم اليقظة الوجدانية التي توحي بالحقيقة.. ذلك أن الفطرة الإنسانية تعتبر أساسا لحركة الوعي الإيماني في كيان الإنسان.

القرآن والحجج البالغة (101)

قال المعلم: فما معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: 173 ـ 174]

قال أحد التلاميذ: أي أن تحتجوا بأن قضية الإشراك لم تكن حالة ذاتية اختيارية، بل كانت خاضعة للوضع الطبيعي العفوي الذي يخضع فيه الأبناء للسير على خط الآباء، فيما يعتقدون ويعملون، في عملية محاكاة وتقليد لا يملك الإنسان معها أية إرادة مضادة فاعلة، وبذلك يكون الآباء هم المسؤولون عن عملية الكفر والضلال، فلا مسئولية لنا في ذلك ﴿وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [الأعراف: 173]، فتأثرنا بهم بما تتأثر به كل ذرية بالجيل السابق.

قال آخر: ثم قال تعالى على لسانهم: ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف: 173] الذين اختاروا الباطل بملء وعيهم وإرادتهم، بينما كنا خاضعين في عملية الانتماء لأجواء عاطفية ضاغطة، لا نملك إلا السقوط أمامها في التجربة الصعبة، وكيف تهلك الذين انتموا للباطل بوحي العاطفة بسبب أفعال الذين عاشوا فيه بالإرادة والاختيار؟

قال آخر: ثم ختم الله تعالى الآيات الكريمة بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ [الأعراف: 174] للناس ليفهموا كيف يواجهون المسؤولية من موقع الوعي المنفتح على حركة الإيمان في الحياة، ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: 174] إلى الله، فيستقيموا في طريق الحق عندما يستبين لهم الجانب المشرق من الأفق الواسع.

بعدما انتهى التلاميذ من حديثهم، قرأ المعلم قوله تعالى: ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً

القرآن والحجج البالغة (102)

أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾ [الإسراء: 66 ـ 69]

ثم طلب من تلاميذه أن يذكروا ما فهموه منها، فقال أحدهم (1): هذه الآيات الكريمة ترد على الملاحدة وغيرهم من خلال طريقين مختلفين، هما: طريق الاستدلال والبرهان، وطريق الوجدان ومخاطبة الإنسان من الداخل.

قال آخر (2): وقد وردت بعد أن خاطب الله تعالى الإنسان بقوله: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ [الإسراء: 65]، حيث جاء الخطاب للناس جميعا، شارحا هذه الوكالة، وما يجئ منها إلى الإنسان من إمدادات الخير والإحسان من رب العالمين.

قال آخر: فالله سبحانه، هو الذي سخر للناس البحار والأنهار، تجرى فيها الفلك بأمره حاملة الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد، دون أن يطغى الماء على الفلك، أو يمسكها على ظهره بلا حراك، كما قال تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾ [الشورى: 33]

قال آخر: وهو سبحانه بهذه الوكالة القائمة على الناس قادر على أن يدفع عنهم ما يكيد به الشيطان لهم، إذا هم آمنوا بالله واتخذوه وكيلا.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه في الحال التي تتعرض فيها الفلك لريح عاصف، أو موج صاحب، لا يجد الناس من يكشف هذا البلاء، إلا الله.. ﴿ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 67] فليس لمعبوداتكم التي تعبدونها سبيل إليكم وأنتم فى هذا الكرب.. إنهم قابعون هناك حيث تركتموهم فى معابدكم، أحجارا جاثمة، أو جثثا هامدة.. ولكن سرعان ما

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (9/ 55)

(2) () التفسير القرآني للقرآن (8/ 522)

القرآن والحجج البالغة (103)

تنسون أيها الناس فضل الله عليكم، ورحمته بكم، ﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ﴾ [الإسراء: 67] عنه، وأعطيتم وجوهكم لآلهتكم.. وهذا فوق أنه سفه وضلال، هو كفران وجحود.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا﴾ [الإسراء: 68].. أي: ولكن أين تذهبون؟ إذا أنتم أمنتم جانب البحر؟ أو تخرجون من ملك الله؟ ثم أتدفعون بأس الله عنكم إذا جاءكم؟ فهل تأمنون، وأنتم فى البر أن يرسل الله عليكم ريحا عاصفة، محملة بالهلاك والدمار، فتغرقكم فى الأرض، وتدفنكم فى بطنها.. فإذا كنتم قد سلمتم من الغرق فى البحر، فهل تعجز قدرة الله من أن تنالكم بالبلاء وأنتم على ظهر اليابسة؟ وهل إذا وقع بكم هذا البلاء، هل هناك من يتولى دفعه عنكم؟.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿جَانِبَ الْبَرِّ﴾ [الإسراء: 68] إشارة إلى هذا الحمى وذلك الجناب الذي يجد فيه الإنسان طمأنينة وأمنا حين يضع قدمه على اليابسة، بعد أن يترك البحر ومخاطره.. فهذا الجانب لا يعصم من أمر الله، ولا يرد بأسه.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾ [الإسراء: 69].. أي هل أمنتم، بعد أن نجاكم الله من الغرق وأنتم على ظهر السفين، ثم كفرتم بالله، ولم تذكروا فضله عليكم ورحمته بكم.. هل أمنتم أن يعيدكم إلى البحر مرة أخرى، مسوقين إليه بسلطان قدره وقدرته، ثم يرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم.. إنه انتقام من كفركم بالله ومكركم بنعمه عليكم.. فهل إذا أغرقكم الله فى تلك المرة، هل يكون لكم على الله حجة؟ أليس هذا هو الجزاء العادل الذي أنتم أهل له بكفركم، وضلالكم؟.. لقد أراكم الله سبحانه فضله ورحمته، فأنكرتم الفضل والرحمة.. وهذا بلاؤه ونقمته.. فهل تنكرون البلاء

القرآن والحجج البالغة (104)

والنقمة؟ ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165]

قال آخر (1): وبناء على هذا كله، ففي هذه الآيات الكريمة إشارة إلى أنه في لحظات الضر ينقطع الإنسان عن جميع المعبودات التصورية والوهمية والخيالية التي سبق وأن أعطاها قوة بسبب أوهامه، وتمحى من ذهنه فاعليتها ووجودها وتتلاشى وتذوب تماما كما يذوب الجليد في شمس الصيف ولا يبقى حين ذاك سوى نور الأنوار... نور الله جل جلاله.

قال آخر: والآيات الكريمة تعبر عن قانون عام، عرفه كل من جرب ذلك، حيث تؤدي المشاكل والصعوبات الحادة التي يمر بها الإنسان ـ ويصل السكين العظم كما يقال ـ إلى الغاء كل الأسباب الظاهرية التي كان يتعلق بها الإنسان، وتنعدم فاعلية العلل المادية التي كان يتشبث بها، وتنقطع كل الأسباب، إلا السبب الذي يصل الإنسان بمصدر العلم والقدرة المطلقتين، والذي هو ـ لوحده سبحانه وتعالى ـ قادر على حال أعقد المشكلات.

قال آخر: وليس مهما هنا ما الذي نسمي فيه هذه الحالة، وإنما المهم أن نعلم أن قلب الإنسان في هذه الحالة ينفتح على الأمل بالخلاص، وتغمر القلب بنور خاص لطيف.

قال آخر: وهذه المنعطفات هي واحدة من أقرب الطرق إلى الله، إنها طريق ينبع من داخل الروح ومن سويداء القلب.

قال آخر: وفي الآيات الكريمة إشارة إلى أن الكثير من الناس لا يذكرون الله إلا عند بروز المشاكل، وينسونه في الرخاء.. ونسيان الله في حياة هؤلاء هو القاعدة والأصل، أي أنه صار طبيعة ثانية لهم، لذا فإن ذكر الله بالنسبة لهؤلاء والالتفات إلى وقائع الحياة الحقة

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (9/ 57)

القرآن والحجج البالغة (105)

تعتبر حالة استثنائية في وجودهم، تحتاج في حضورها إلى عوامل إضافية، فما دامت هذه العوامل الإضافية موجودة فهم يذكرون الله، أما إذا زالت فسوف يرجعون إلى طبيعتهم المنحرفة وينسون الله.

قال آخر: والخلاصة، أننا لا نجد من الناس بصورة عامة من لا يلجأ إلى الله ولا يخضع له عندما تضغطه المشاكل الحادة والصعبة، ولكن ينبغي أن نعرف أن الوعي وذكر الله تعالى في مثل هذه الظروف في مثل هذه والذي نستطيع أن نصفه بالوعي الإجباري، هو وعي عديم الفائدة.

قال آخر: ذلك أن المؤمنين والمسلمين الحقيقيين، يذكرون الله في الراحة والبلاء والسلامة والمرض والفقر والغنى، في السجن وعلى كرسى الحكم، وفي أي وضع كان.. فتغيير الأوضاع وتبدل الحالات لا يغير هؤلاء، ذلك أن أرواحهم كبيرة بحيث تستوعب كل هذه الأمور.

قال آخر: ولذلك، فإن الإيمان والارتباط بالله وعبادته والتوسل به والتوبة إليه والتسليم له سبحانه وتعالى، كل هذه الأمور تكون مهمة وثمينة وذات أثر عندما تكون دائمية وثابتة، أما الإيمان الموسمي والتوبة والعبادات الموسمية، والتي تفرضها حالات خاصة يمر بها الإنسان ويبغي من خلالها جلب بعض المنافع له، فليس لها أثر ولا قيمة، والآيات القرآنية توبخ أمثال هؤلاء الأشخاص دائما.

المشهد الثاني

بعد أن وصل الشاهد الأول من حديثه إلى هذا الموضع، قلت له: فهل كان تفسيرهم لهذه الآيات الكريمة سببا في اقتناعك بالإيمان بالله.

قال: لا.. لقد كان مقدمة لذلك الإيمان.. لقد فتح بعض أبواب عقلي التي كانت

القرآن والحجج البالغة (106)

مغلقة دونه.. ولذلك صرت أستمع للمؤمنين وبتواضع، ومن تواضع هداه الله، وقد كان أول من استمعت إليه المريض الذي كان معي، والذي زاره المعلم وتلاميذه، وقد سألته حينها قائلا: أراك تؤمن بالله.. فما أدلتك عليه؟

ابتسم، وقال: لست محتاجا إلى أي أدلة.

قلت (1): أتراك لا تؤمن بالله؟

قال: وكيف لا أؤمن به.. وأعماقي كلها تشعر به.. ووجداني كله يسبح بحمده.

قلت: فما دليلك عليه؟

قال: لقد ذكرت لك أن أعماقي ووجداني هي دليلي عليه.

قلت: لم أفهم.

قال: ألا ترى أن غرائز الإنسان ذاتية له لا يمكن فصلها عنه، ولا تحتاج إلى من يدله عليها، أو يعلمه علومها؟.. ألا ترى أن عواطف الإنسان وأحاسيسه جزء من خلقته وكيانه، فلا يحتاج إلى من يرشده إليها، أو ينبئه عنها؟

قلت: بلى.. ولكن تلك العواطف والغرائز.

قال: فقد أودع الله في فطرتي منذ نشأتي شعوري بالله، وأنا لا أحتاج دليلا خارجيا فوق هذا الشعور، لأنه أكثر بداهة عندي من الحس نفسه.. وهل يمكن لأحد من الناس أن يشك فيما يحس فيه، أو يشعر به؟

قلت: ولكن كيف توصل قناعاتك هذه للناس؟

قال: بإرشادهم إلى العودة إلى نفوسهم، والتخلي عن كبريائهم الحائل بينهم وبين

__________

(1) () نقلنا بعض الحوار هنا من كتابنا: الهاربون من جحيم الإلحاد، ص 80.

القرآن والحجج البالغة (107)

الشعور بما تدعو إليه فطرهم.

قلت: ما تعني؟

قال: إن المحجوبين عن الله لم يحجبوا عنه بقوة دليل، وإنما حجبوا عنه بكبريائهم، فالله أوضح من أن يحتاج إلى دليل يدل عليه.. إن مثل أولئك كمثل الجوعان الذي راح يقنع نفسه بأنه لا حاجة له إلى الطعام.. وبقي جوعان إلى أن انهارت قواه.

قلت: أراك تشبه الله بالطعام.

قال: ما دمنا نحتاج إلى الطعام، ولا يمكننا الاستغناء عنه.. ولا يمكن لأحد أن يقنعنا بعدم حاجتنا إليه، فيمكنني أن أشبهه بذلك.. بالنسبة لي أو للبشر جميعا.. وإن كان الأمر أعظم من ذلك، فنحن أحوج إلى الله من حاجتنا إلى الطعام والشراب، لأنهما جميعا خلق من خلقه، ويمكن أن يغنينا عنهما كما أغنى عنهما الملائكة، ولكننا لن نستطيع أبدا أن نستغني عن الله.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فاطر: 15 ـ 17]

قلت، وأنا أضحك: بحسب قولك هذا.. فإن البشرية جميعا جائعة في هذا العصر.. فكلها تميل إلى الإلحاد؟

قال: ولهذا ترى الصراع بينهم.. لأن عقولهم الجائعة إلى الحقيقة جعلتهم يصارعون كل القيم، ويحطمون أركان كل الفضائل.

قلت: ولكن.. لو كان التوجه إلى الله أمرا فطريا كما تزعم.. فلم عبد الناس في مختلف العصور آلهة شتى.. ولم تدينوا بأديان مختلفة متناقضة؟

قال: إن ذلك كمن استبد به الجوع، فإنه إذا لم يجد الطعام الطيب الذي يناسبه سيتناول كل ما يمكن أكله، ولو كان خبيثا ليسد به جوعته.. فالفطرة تدعو الإنسان إلى

القرآن والحجج البالغة (108)

الاتجاه إلى الخالق، لكن الإنسان قد تحيط به عوامل تنحرف به عن المسار الصحيح لها.. والانحراف عن الطريق، لا يلغي وجود الطريق.

قلت: ولكن.. ألا ترى أنه لو كان الدين صحيحا لاتفق عليه الناس.. ولو كان الإله موجودا لاتفق الخلق على صفاته.. ولو كان التوجه إلى الله أمرا فطريا ـ كما تدعي ـ لما عبد الناس آلهة شتى؟

قال: مثلما اختلف الخلق في تصور المطاعم والمشارب النافعة لهم.. كذلك اختلفوا في تصورهم لله.. لكن الاختلاف في أنواع الطعام لا يلغي ضرورة الطعام.. وهكذا الاختلاف في الله لا يلغي ضرورة الله.

قلت: ولكن كيف نصل إلى الإله الحقيقي؟

قال: كما نصل إلى الطعام الحقيقي..

قلت: كيف؟

قال: بالبحث والعلم.. والتدقيق والتحري.. فلا يصح أن نخلص طعامنا من السموم، ولا نخلص ديننا من السموم.. وبالدين تقوم حياة أرواحنا، كما بالطعام تقوم حياة أجسادنا.

لم أجده ما أقول له.. فقد كان يجيبني عن كل شبهة أطرحها عليه بدقة عالية.

المشهد الثالث

بعد أن وصل الشاهد الأول من حديثه إلى هذا الموضع، قلت له: فهل أقنعك هذا الحديث؟

قال: لم يقنعني تماما، ولكنه أزال الكثير من الحجارة والخراسانات المسلحة التي تجثم عن عقلي، ولذلك صرت أكثر استعدادا للإيمان.

القرآن والحجج البالغة (109)

قلت: فكيف زال ما بقي منها؟

قال: لقد شاء الله أن يزيلها في المدرسة التي كنت أعمل فيها، ومن خلال تلاميذي الذين كنت أستعمل معهم كل ما يمكن أن يخطر ببالك، وما لم يخطر من أساليب الإقناع.. حتى أني رضيت منهم أن يعتقدوا بأي اعتقاد مادي شيوعيا كان أو غير شيوعي.. فلم يقبلوا إلا بما ورثوه، والذي يذكرون لي أنه فطرتهم، وقناعتهم التي لا يمكن زحزحتها.

وذات يوم، أردت إقناعهم بعدم وجود الله بالدليل الحسي، فقلت لهم: أترونني؟.. فقالوا: نعم.. قلت: فإذن أنا موجود.. ثم قلت لهم: أترون اللوح؟ قالوا: نعم.. قلت: فاللوح إذن موجود.. ثم قلت لهم: أترون الله؟ قالوا: لا.. قلت: فالله إذن غير موجود! فوقف أحد التلاميذ، وقال: أترون عقل الأستاذ؟.. قالوا جميعا: لا.. قال: فعقل الأستاذ إذن غير موجود.

قلت: ولكن.. ألم تتعلم في المدارس الإلحادية كيفية الإجابة عن مثل هذه الأطروحات؟

قال: أجل.. وطرحتها عليهم جميعا، لكنهم كانوا يقابلونها بأصوات فطرتهم الهادئة، والتي لم تلطخ بما لطخت به فطرتي.

قلت: فهل أسرك سلوكهم.. أم أسرتك عقائدهم أيضا؟

قال: إن شئت الصدق.. فقد أسرني كلاهما.. فكلاهما يرتبط بعضه ببعض.. فهم على الفطرة الإنسانية النقية بعقائدهم أو بسلوكهم.. أما أنا وأصحابي من الملاحدة.. فقد شعرت بأننا حاولنا أن نتملص من إنسانيتنا، والنتيجة ما تراه في واقعنا من كل ألوان الانحلال والعقد والأمراض والصراع.

سكت قليلا، ثم قال: كما لا يمكن أن يحيا الإنسان من دون طعام.. فكذلك لا يمكن

القرآن والحجج البالغة (110)

أن يحيا من دون الله.. ألا ترى من العجب كيف أنه لا توجد حضارة من الحضارات.. ولا قبيلة من القبائل إلا وهي تعتقد في وجود قوة غيبية تتحكم في الكون؟

قلت: ولكنها جميعا مملوءة بالخرافات.

قال: أحيانا كثيرة تكون الحقيقة مختلطة بالخرافة.. وليس علينا أن نلغي الحقيقة لأجل خرافة ارتبطت بها.. كما أننا لا يمكن أن نستغني عن الطعام بسبب أن بعض الناس وضع السم في طعام من الأطعمة، وفي يوم من الأيام.

سكت قليلا، ثم قال: في ذلك الحين رحت إلى بعض أصحابي أحكي لهم ما حصل لي، فقال لي أحدهم: إن ما تذكره هو ما يؤكد الحقيقة التي شهد بها كل المؤرخين، وعلماء الاجتماع حتى الفلاسفة الذين راحوا يفلسفون ذلك بحسب ما تصوره أوهامهم، لا بحسب الواقع.

قال آخر: لقد قال ويليام جيمس ديورانت يذكر ذلك: (صحيح أن بعض الشعوب البدائية ليس لها ديانة على الظاهر فبعض قبائل الأقزام في إفريقية لم يكن لهم عقائد أو شعائر دينية على الإطلاق، إلا أن هذه الحالات نادرة الوقوع ولا يزال الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعم البشر جميعا اعتقادا سليما وهذه في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية) (1)

قال آخر: وعبر في موضع آخر ـ وهو المؤرخ الكبير للحضارات البشرية ـ عن مدى تجذر الدين في الفطرة، وأن استثمار رجال الدين لذلك يدل على مدى ترسخه فيها، فيقول: (إن الكاهن لم يخلق الدين خلقا لكن استخدمه لأغراضه كما يستخدم السياسي دوافع

__________

(1) () قصة الحضارة: 1/ 99.

القرآن والحجج البالغة (111)

الإنسان الفطرية وغرائزه، فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو الاعيب كهنوتية إنما نشأت عن فطرة الإنسان) (1)

قال آخر: وقال العالم الاجتماعي [صموئيل كونيك] عند حديثه عن جذور الدين في الأسلاف من البشر: (إن أسلاف البشر المعاصر ـ كما تشهد آثارهم التى حصل عليها في الحفريات ـ كانوا أصحاب دين، ومتدينين، بدليل أنهم كانوا يدفنون موتاهم ضمن طقوس ومراسيم خاصة وكانوا يدفنون معهم أدوات عملهم، وبهذا الطريق كانوا يثبتون اعتقادهم بوجود عالم آخر، وراء هذا العالم) (2)

قال آخر: وعبر عن ذلك آخر لا أذكره الآن، فقال: (لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، لكن لم توجد جماعة بغير ديانة.. فالشعور الفطري بوجود خالق مدبر للكون شعور مشترك بين جميع الناس، مغروس في النفوس، يقوم في نفس الطفل الصغير، والإنسان البدائي، والإنسان المتحضر، والجاهل والعالم والباحث والفيلسوف، كل هؤلاء يشعرون بشعور مشترك لا يستطيعون دفعه عن أنفسهم)

بعدها التقيت بعالم نفس من بلدتي، وقد رأيت أن أسأله عن سر تجذر الدين في النفوس، وقد كنت أتصور أنه سيحدثني بما درسه عن فرويد من الأنا الأدنى أو الأنا الأعلى.. أو يحدثني بما ذكره دوركايم أو إنجلز أو غيرهم من فلاسفتنا.. لكنه لم يفعل ذلك، وإنما قال لي: لقد أجاب عن سؤالك هذا الفيلسوف الانجليزي [توماس كارليل] بقوله: (إن الذين يريدون إثبات وجود الله بالبرهان والدليل ما هم إلا كالذي يريد الاستدلال على وجود الشمس الساطعة الوهاجة بالفانوس)

__________

(1) () قصة الحضارة: 1/ 99.

(2) () كتاب جامعه شناسي: 192.

القرآن والحجج البالغة (112)

قلت: ما يعني بقوله هذا؟.. وما تعني بنقلك لقوله؟

قال: إن هؤلاء الذين تراهم يقفون بعقولهم وقلوبهم بكل قوة في وجه الزحف المادي الذي اكتسح البشرية جميعا يعود إلى ما ذكره ذلك الفيلسوف الإنجليزي.. فهو قد صور حالهم بكل دقة.. فهم مثل من شاهد الشمس.. وهل يمكن لمن شاهد الشمس أن يقنعه أحد من الناس بعدم وجودها؟

2. برهان النظم

بعدما انتهى الشاهد الأول من حديثه، قام آخر، وقال: دعني أكمل أنا ما بدأته يا أستاذنا، فقد بدأت صحبتنا لك بعد كل تلك الجولة التي مررت بها على عالم الفطرة وعلاقته بالإيمان.. لقد جئتنا حينها تعتذر عن كل تلك التعاليم التي بثثتها لنا، وطلبت منا أن نعيد النظر فيها جميعا.

لقد قلت لنا: اعذروني، فقد كنت صادقا ومخلصا معكم، لكني لم أكن صادقا ولا مخلصا مع الحقيقة، لأني تسرعت في الحكم.

قال أحدنا حينها: فهل تريد منا أن نركب سفينة الإيمان التي كنت تحذرنا منها.

فقلت: لا.. ولكن.. علينا أن نعيد البحث من جديد.

وقد سرنا معك حينها إلى محال كثيرة، جعلتنا جميعا، نركب سفينة الإيمان، وعن طواعية وقناعة عقلية كاملة.. والحمد لله لقد يسر الله فتحولنا بفضل القرآن الكريم وتعليمات المعلم إلى قواد لتلك السفينة، لا هم لنا إلا دعوة الخلق إلى ركوبها.

المشهد الأول

قلت: فهلا حدثتنا عن بعض المشاهد التي جعلتك وأصحابك تركبون سفينة

القرآن والحجج البالغة (113)

الإيمان.

قال: أجل.. وسأحدثك أنا عن مشهد من المشاهد.. ويحدثك رفاقي عن غيرها.

سكت قليلا، ثم قال: بعد أن ذكر لنا ذلك، سرنا معه إلى مدرسة قريبة كان يديرها المعلم، وحينها استأذناه في أن نحضر مع التلاميذ، فأذن لنا، وهناك استمعنا إلى أحاديثهم عن أعظم برهان قرآني على وجود الله، وهو برهان النظم.

لقد قال لهم المعلم سائلا (1): أنتم تعلمون أن أوسع برهان اعتمد عليه القرآن الكريم في آياته وسوره في إثبات معرفة الله هو برهان النظم بشكل غطى على كافة البراهين التي وردت في القرآن الكريم.. ولا شك أن هذا يدل على أن أفضل وأوضح طريق لمعرفة الله وتنزيهه من كافة ألوان الشرك هو البحث في نظام الخلقة وأسرار الوجود وآيات الآفاق والأنفس.. فلم كان كذلك؟

قال أحد التلاميذ: سر ذلك يعود لما في هذا البرهان من القوة والحجة البالغة.. وأول ذلك أنه يقنع العلماء كما يقنع عامة الناس، أي أن كل فئة تستطيع الاستفادة والانتفاع منه حسب قابليتها، وذلك لأن الناس مختلفون في إدراك أسرار الخلقة.

قال آخر: وليس في برهان النظم الجفاف الموجود في الاستدلالات الفلسفية، بل على العكس فإن فيه لطفا خاصا يمنح الإنسان حب الاطلاع على ذلك المبدى ء الكبير، ويوجد فيه نوعا من الاندفاع والشوق نحوه، ويوفر لديه حالة من الخضوع الممزوج بالحب ومعرفة الله.. وبتعبير آخر فهو يروي عقل الإنسان كما يروي عواطفه وأخلاقه.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن برهان النظم وبسبب دراسته لأنواع النعم الإلهية

__________

(1) () نفحات القرآن: 2/ 39.

القرآن والحجج البالغة (114)

ضمن دراسة نظم هذا العالم يؤكد على مسألة شكر المنعم، وهذا بحد ذاته حافز آخر من حوافز التوحيد.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن برهان النظم في حال تطور ومتجدد، فهو لا متناه.. ذلك أن المقدمة الصغرى تمثل أعصانا متفرعة ومورقة وذات براعم نامية لهذا البرهان، لأن أي اكتشاف من الاكتشافات العلمية حول أسرار الخلقة إنما يشكل مصداقا وصغرى جديدة لهذا البرهان، فهو لهذا جديد دائما، وفي كل يوم يأخذ شكلا آخرا، وهو متطور ومتقدم إلى جانب تطور العلم والمعارف البشرية.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن برهان النظم يدعو الإنسان إلى سلوك الآفاق والأنفس، وهذا السلوك المملوء بالبركة يزيد من مستوى معرفة الإنسان في كل يوم، ويجعل تفكيره مزدهرا، خاصة وأن أسس برهان النظم مختلطة بحياة الإنسان وهو يواجهها في كل خطوة من خطواته.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن برهان النظم هو الوحيد الذي يستطيع إخضاع الفلاسفة التجريبيين الذين ينكرون الاستدلالات العقلية المحضة، ويستخدمون حربة العلم في إثبات المادية ضدهم، وهو بهذا اللحاظ ذو فاعلية عالية.

قال المعلم: فما الأسس التي يقوم عليها هذا البرهان؟

قال أحد التلاميذ: يرتكز هذا البرهان في شكله الأول على ركيزتين أساسيتين، بحسب ما هو مصطلح يشكل صغرى وكبرى.

قال آخر: أما أولاهما، وهي صغرى القياس، فهي أن هنالك نظاما دقيقا ومحسوبا يحكم عالم الوجود.

قال آخر: وأما الثانية، وهي كبرى القياس، فهي أنه أينما وجدنا نظاما دقيقا ومحسوبا،

القرآن والحجج البالغة (115)

فمن غير الممكن أن يكون وليد الحوادث التصادفية، بل لابد أن يصدر عن علم وقدرة عظيمين.

قال آخر: والنتيجة هي أن هناك مبدأ علم وقدرة عظيم وراء نظام عالم الخلقة، سواء أطلقنا عليه اسم الله أو وضعنا له إسما آخر، لأن التسمية لا تؤثر في هذا.

قال المعلم: فكيف تثبون المقدمة الثانية، والتي اعتبرتموها صغرى القياس؟

قال أحد التلاميذ: يمكن القول أن أي موجود يعمل وفق برنامج معين ويعطي نتائج معينة، هو موجود منظم، وعلى هذا الأساس فإن (الحساب) و(البرنامج) و(الهدف) تشكل العناصر الأصلية الثلاثة للنظام.

قال آخر: فمثلا الساعة نموذج لـ (الموجود المنظم)، ذلك أن أجزاءها مصنوعة وفق حساب دقيق، ثم هنالك برنامج لتركيبها، والهدف منها هو التشخيص الدقيق للوقت.

قال آخر: ولأجل التوصل إلى هذه العلاقة ـ علاقة النظام والعلم ـ يمكن الاستعانة بعدة أدلة.. منها الوجدان، ذلك أنه مع أننا لم نر أبدا الكثير من العلماء الكبار والمخترعين والفنانين المهرة، ولم يبق منهم سوى الآثار، إلاأننا حين ننظر إلى تلك الآثار والكتب والصناعات واللوحات النفيسة والأبنية البديعة، نعترف بدون الحاجة إلى دليل بعقلهم وذوقهم وعلمهم ومهارتهم الصناعية والفنية.

قال آخر: بالإضافة إلى الوجدان يمكن الاستعانة بالدليل المنطقي، فمن أجل إحداث بناية منظمة وإظهارها إلى الوجود يجب أن يكون هناك اختيار في سبع مراحل على الأقل.. أولها: نوعية المواد المستخدمة، وثانيها: مقدار وكمية المواد، وثالثها: جودة المواد، ورابعها: الأشكال والأحجام المختلفة، وخامسها: إيجاد الانسجام بين الأجزاء، وسادسها: إيجاد التناسب بينها، وسابعها: من حيث وضع كل من الأجزاء في مكانه المناسب.

القرآن والحجج البالغة (116)

قال آخر: وهذه الاختيارات السبعة يجب أن تتم كل واحدة منها وفقا للعلم والاطلاع والحساب، وأحيانا الحسابات الدقيقة جدا، ومن هنا عندما نرى مثل هذه البناية نتيقن أن صانعها بلا شك كان يملك العلم والمعرفة والاطلاع الواسع.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، يمكن إثبات هذه العلاقة ـ علاقة النظام والعلم ـ عن طريق آخر، وهو طريق البرهان الرياضي.

قال آخر: ذلك أن حساب الاحتمالات الذي أصبح اليوم فرعا علميا مستقلا في الجامعات ذو فاعلية جيدة جدا في مجال العلاقة بين النظام والعلم، وهو نفس الشي ء الذي ندركه بصورة إجمالية في حياتنا، لكن حساب الاحتمالات يعكسه في شكل رياضي واضح.

قال آخر: ذلك أننا لا نصدق أبدا أن إنسانا أميا يستطيع عن طريق الصدفة أن يؤلف كتابا في (الفلسفة) أو (الآداب والشعر) أو (الطب)، بسبب امتلاكه لآلة طابعة.

قال آخر: وليس من المستحيل كتابة كتاب علمي عن طريق الصدفة فحسب، بل لا يمكن كتابة حتى رسالة قصيرة أيضا.

قال آخر: لأنه لو افترضنا أن حروف الآلة الطابعة ثلاثون حرفا فقط ـ وهي بالطبع أكثر بكثير، لأن لبعض الحروف صور متعددة، فمثلا حرف الباء الأولية والباء الوسطية والباء النهائية والباء المفردة تشكل أربع صور مختلفة لحرف الباء ـ فإن حساب الاحتمالات هنا يذكر أن الظهور التصادفي لكلمة (من) المكونة من حرفين هو احتمال واحد من تسعمائة احتمال.

قال آخر: واحتمال ظهور كلمة مكونة من ثلاثة أحرف هو احتمال واحد من 27 ألف احتمال، وحين نصل إلى كلمة مكونة من خمسة أحرف سوف نجتاز حدود 21 مليون.

قال آخر: فإذا كانت الحروف الموجودة في رسالة قصيرة هي مائة حرف فإن مجموعة

القرآن والحجج البالغة (117)

احتمالات هذه الأحرف هي العدد 30 مرفوعا إلى الأس 100 بحيث أن رسالتنا المعينة تشكل احتمالا واحدا من هذا العدد الهائل من الاحتمالات، أي عددا كسريا بسطه واحد ومقامه العدد 3 إلى يمينه مائة صفر.

قال آخر: إن مقام هذا الكسر من الضخامة بحيث لا يمكن حسابه، ولا شي ء في هذا العالم يصل إلى ضخامة هذا العدد.

قال آخر: ولأجل إيضاح هذه الحقيقة يكفي أن نعلم أننا لو قطرنا جميع المحيطات على الكرة الأرضية قطرة قطرة وحسبنا عددها لكان عددها أقل من عدد على يمينه واحد وعشرون صفرا فقط.

قال آخر: وعلى هذا الحساب لو حسبنا كتابا مكونا من ألف صفحة فإن عدد الاحتمالات سيتضخم إلى درجة أن الاحتمال التصادفي لعدده الكسري (البسط) يتساوى مع الصفر.. أي أنه مستحيل.

قال آخر: وبهذا الدليل، إذا ادعى شخص مثلا: أن (ابن سينا) مؤلف كتاب (القانون) في الطب كان أميا تماما، وأن (المتنبي) لم يكن له ذوق شعري مطلقا، وأن (أنشتاين) لم يكن يفقه شيئا من الرياضيات وأن بنائي الأبنية التاريخية الشهيرة لم يكن لهم أدنى اطلاع في فن العمارة، وأن جميع الآثار التي تركوها ظهرت بمحض الصدفة والحركات غير المقصودة لأيديهم على الأوراق أو على المواد الإنشائية! فلا شك أن من يقول مثل هذا الكلام إن لم يكن يمزح فهو مجنون.

قال آخر: ولذلك، فإن علاقة النظام بالعلم واضحة إلى درجة أن الكثير من العلوم والمعارف البشرية قائمة على النظام، فمثلا جزء مهم من تاريخ الحضارة البشرية كتب من خلال مطالعة ودراسة الآثار الجذابة للسلف التي خلفوها بعد رحيلهم.

القرآن والحجج البالغة (118)

قال آخر: والعلماء ـ بمطالعة الآثار التي يعثرون عليها بواسطة الحفريات أو التي يكتشفونها في قبور ومعابد الأقوام الغابرة، يتوصلون إلى مستوى ثقافتهم وحضارتهم ونوعية عقائدهم.

قال آخر: ولهذا، فإننا إذا أنكرنا علاقة النظام والعلم إنهارت كل هذه الاستنباطات.

قال المعلم: لقد ذكرتم أن القرآن الكريم اعتنى بهذا النوع من البراهين، فهل ذكر ما أطلقتم عليه المقدمة الكبرى.

قال أحد التلاميذ (1): آيات القرآن الكريم لا تتحدث مطلقا عنها، فهي لا تذكر علاقة النظام والعلم، وذلك لأنها كانت واضحة ووجدانية إلى حد أنه لم تكن ثمة حاجة لبيانها.

قال آخر: ذلك أن الإنسان إذا أنكر هذه العلاقة يجب عليه إنكار الكثير من الحقائق الموجودة في حياته.

قال آخر: وما من شك في أن منكري هذه العلاقة يشبهون السفسطائيين الذين ينكرون الحقائق أثناء حديثهم، ولكنهم في حياتهم اليومية يقبلون جميع الحقائق مثل الآخرين.

قال آخر: ولهذا نراهم إذا مرضوا يراجعون الطبيب، ويستعملون الدواء، وينفذون إرشادات الطبيب حرفا بحرف، أي أنهم يعترفون رسميا بوجود (الطبيب) و(الدواء) و(علم الطب) و(الصيدلة) ومئات الأمور الأخرى الدائرة في هذا الفلك.

قال آخر: وكذلك، فإن منكري علاقة النظام والعلم أيضا بدورهم يستنتجون علميا

__________

(1) () نفحات القرآن: 2/ 44.

القرآن والحجج البالغة (119)

وعمليا من أي أثر علمي وصناعي وأدبي وفني، وجود مبدى ء واع وذي ذوق وفن، ولا يعتمدون أبدا على الاحتمالات المجنونة.

قال المعلم: بورك فيكم، والآن، حدثونا عن حديث القرآن الكريم عن المقدمة الصغرى من هذا البرهان.

قال أحد التلاميذ: القرآن الكريم مملوء بالحديث عن النماذج الكثيرة المؤكدة لهذا البرهان.. وهي تشمل مجالات ومعاني يصعب حصرها.. فالقرآن الكريم تحدث عن الإنسان والحيوان والسماء والأرض والمخلوقات الكثيرة صغيرها وكبيرها معتبرا لها جميعا من آيات الله الدالة عليه.

المشهد الثاني

بعدما انتهى الشاهد من حديثه إلى هذا الموضع، قام بعضهم، وقال: دعوني أكمل أنا، فقد كنت رفيقا لكم في تلك الرحلة الجميلة.

أذن له أصحابه، فقال: بعد أن أجاب التلاميذ على كل أسئلة معلمهم بشأن حقيقة برهان النظم وقوته، قال لهم: فحدثونا عما ذكره القرآن الكريم من الآيات المرتبطة بخلق الإنسان.

قال أحد التلاميذ (1): فى القرآن الكريم عشرات من الصور التي يذكر الله تعالى فيها كيف خرج الإنسان إلى هذا العالم.. وهذه الصور وإن اختلفت مظهرا، فإنها تلتقى جميعا في مضمونها ومحتواها.

قال آخر: فالعقل في أدنى مستوياته يلتقى مثلا مع قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (11/ 495)

القرآن والحجج البالغة (120)

خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]، وتلك حقيقة لا يستعلى عليها العقل في أعلى منازله، ولا يستغنى عن الأخذ بها.

قال آخر: فإذا ترقى العقل شيئا كان له لقاء آخر مع قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]

قال آخر: ثم ما يزال العقل يلتقى مع آيات الله، آية آية.. فيجد في كل آية منها لونا جديدا، تزداد به الصورة وضوحا، وعمقا.

قال آخر: ومن هذه الآيات: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المرسلات: 20 ـ 21]، ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ [نوح: 17]، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ [المؤمنون: 12]، و﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ [الرحمن: 14]، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: 26]، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ [النور: 45]

قال آخر: فهذه الآيات، وكثير غيرها مما جاء في خلق الإنسان، تضع العقل أمام قضايا، ومقررات، كلها تحدث عن خلق الإنسان، وبعضها واضح جلى يعرف بأدنى نظر، وبعضها دقيق خفى، لا ينال إلا بنظر دقيق، وإدراك سليم، مع قدر كبير من العلم والمعرفة.

قال آخر: ومع هذا، فإن التقاء هذه الآيات في أي عقل مؤمن لا يحدث صداما بينها، ولا يدعو إلى انفصال في وحدتها، وذلك بحمل الخفي عليه منها، على الجلى، والمتشابه ـ عنده ـ على المحكم.

قال آخر: ثم يبقى مع هذا للعقل ـ على امتداد الزمن ـ مكانه من الآيات الخفية، ينظر في وجهها، ويدور باحثا عن أسرارها.. وفي كل يوم يجد العقل من هذه الآيات جديدا من العلم، ومزيدا من المعرفة، وكثيرا من الأسرار.

القرآن والحجج البالغة (121)

قال المعلم: بورك فيكم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 12 ـ 14]

قال أحد التلاميذ (1): بعد أن ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أوصاف المؤمنين الحقيقيين، وما يمنحهم الله من جزاء عظيم يبعث في القلوب الشوق للالتحاق بصفوفهم، بينت هذه الآيات الكريمة وما بعدها السبيل لكسب الإيمان والمعرفة.

قال آخر: حيث دل الله تعالى فيها الإنسان إلى (عالم النفس) ليكشف له أسرار باطنه وهو (السير الأنفسي)، ثم أثارت الآيات التالية لها انتباه الإنسان إلى عالم الظاهر والمخلوقات المدهشة في عالم الوجود وسبر عالم الآفاق، وهو (السير الآفاقي)

قال آخر: وقد بدأت الآيات الكريمة بذكر الخطوة الأولى التي خلق الله فيها الإنسان بكل عظمته واستعداده وجدارته، والذي يعتبر أفضل مخلوقاته من تراب مهين لا قدر ولا قيمة له، وهكذا تجلت قدرته سبحانه وتعالى في هذا الخلق البديع.

قال آخر: ثم أشارت إلى بداية وجود جمع البشر من آدم وأبنائه، وأنهم خلقوا جميعا من التراب، إلا أن الآية التالية لها أشارت إلى استمرارية نسل الإنسان بواسطة تركيب نطفة الذكر ببويضة الانثى في الرحم، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: 7 ـ 8]

قال آخر: والتعبير عن الرحم بـ (قرار مكين)، أي القرار الآمن، إشارة إلى أهمية الرحم في الجسم، حيث يقع في مكان أمين محفوظ من جميع الجهات، يحفظه العمود الفقري

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 427)

القرآن والحجج البالغة (122)

من جهة، وعظم الحوض القوي من جهة أخرى، وأغشية البطن العديدة من جهة ثالثة، ودفاع اليدين يشكل حرزا رابعا له.. وكل ذلك شواهد على موضع الرحم الآمن.

قال آخر: ثم تشير الآية الثالثة إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرج النطفة في مراحلها المختلفة، واتخاذها شكلا معينا في كل منها في ذلك القرار المكين، حيث تذكر أن الله تعالى حول تلك النطفة إلى شكل قطعة دم متخثر (علقة)، ثم بدلها إلى شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة)، ثم جعل من هذه المضغة عظاما، وأخيرا ألبس هذه العظام لحما: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾ [المؤمنون: 14]

قال آخر: هذه المراحل الأربعة المختلفة مضافا إلى مرحلة النطفة تشكل خمس مراحل، كل منها عالم عجيب بذاته مليء بالعجائب بحثت بدقة في علم الأجنة، وألفت بصددها كتب وبحوث عميقة في عصرنا، إلا أن القرآن الكريم تكلم عنها وبين عجائبها يوم لم يولد هذا العلم ولم يكن له أثر.

قال آخر: وفي الختام أشارت الآيات الكريمة إلى آخر مرحلة والتي تعتبر ـ في الحقيقة ـ أهم مرحلة في خلق البشر، بعبارة عميقة وذات معنى كبير، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14]

قال آخر: وكل هذه الآيات الكريمة تشير إلى القدرة الفريدة، التي خلقت في ظلمات الرحم هذه الصورة البديعة، وصاغت من قطرة ماء كل هذه الامور المدهشة.

قال آخر: وجدير بالذكر أن كلمة (الخالق) مشتقة من (الخلق) وتعني بالأصل التقدير، حيث تطلق هذه الكلمة عندما يُراد تقطيع قطعة من الجلد فينبغي على الشخص أن يقيس أبعاد القطعة المطلوبة ثم يقطعها، فيستخدم لفظ (الخلق) بمعنى التقدير، لأهمية تقدير أبعاد الشيء، قبل قطعه.

القرآن والحجج البالغة (123)

قال المعلم: فما معنى قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14]، فهل يوجد خالق غير الله حتى تذكر الآية الكريمة هذا؟

قال أحد التلاميذ (1): لأن كلمة (الخلق) بمعنى التقدير والصنع، ويصح ذلك بالنسبة لغير الله، إلا أن هناك اختلافا جوهريا بين الخلقين.

قال آخر: فالله خلق المواد وصورها، بينما يصنع الإنسان أشياءه مما خلق الله، فهو يغير صورها، كمن يبني دارا حيث يستخدم موادا أولية كالجص والآجر، أو يصنع من الحديد سيارة أو ماكنة.

قال آخر: ومن جهة أخرى لا حدود لخلق الله، ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الزمر: 62] في الوقت الذي نجد فيه ما صنعه الإنسان محدودا جدا، وفي كثير من الأحيان يجد الإنسان فيما خلقه نقصا يجب سده فيما بعد، إلا أن الله يبدع الخلق دون أي نقص أو عيب.

قال آخر: ثم إن قدرة الإنسان على صنع الأشياء جاءت بإذن من الله، حيث كل شيء في العالم يتحرك بإذن الله، حتى الورق على الشجر، كما قال تعالى عن المسيح عليه السلام: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾ [المائدة: 110]

المشهد الثالث

بعدما انتهى الشاهد من حديثه إلى هذا الموضع، قام بعضهم، وقال: دعوني أكمل أنا، فقد كنت رفيقا لكم في تلك الرحلة الجميلة.

أذن له أصحابه، فقال: بعد أن أجاب التلاميذ على كل أسئلة معلمهم بشأن ما ذكره

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (10/ 430)

القرآن والحجج البالغة (124)

القرآن الكريم من الآيات المرتبطة بخلق الإنسان، وعلاقتها ببرهان النظم وقوته، قال لهم: بوركتم.. والآن حدثونا عما ورد في القرآن الكريم من الحديث عن الحياة المبثوثة في الكائنات، ودلالتها على الله.

قال أحد التلاميذ: إن ظاهرة الحياة هي أعقد ظواهر هذا العالم.. ولهذا ورد في القرآن الكريم الحديث الكثير عنها، باعتبارها من آيات الله العظمى الدالة عليه.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 28]

قال آخر (1): ففي هذه الآية الكريمة يلفت الله تعالى أنظار البشر إلى عظمة الخالق عن طريق ذكر بعض النعم الإِلهية وبعض المظاهر المدهشة للخلقة.. وبذلك يكمل الأدلة التي أوردها في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21 ـ 22] من هذه السورة حول معرفة الله.

قال آخر: والقرآن الكريم يبدأ أدلته من نقطة لا تقبل الإنكار، ويركز على مسألة (الحياة) بكل ما فيها من تعقيد وغموض، ويقول: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: 28].. وفي هذا تذكير للإِنسان بما كان عليه قبل الحياة.. فقد كان ميتا تماما مثل الأحجار والأخشاب ولم يكن فيه أي أثر للحياة، لكنه الآن يتمتع بنعمة الحياة، وبنعمة الشعور والإدراك.

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 146)

القرآن والحجج البالغة (125)

قال آخر: فمن الذي منح الإنسان نعمة الحياة؟.. وهل يمكن للكائن البشري أن يمنح نفسه الحياة!؟

قال آخر: كل إنسان منصف لا يتردد أن يجيب: إن هذه الحياة موهوبة للإنسان من لدن عالم قادر.. عالم برموز الحياة وقوانينها المعقدة.. وقادر على تنظيمها.. فكيف يكفر الإنسان بمن أحياه بعد موته!؟

قال آخر: ولهذا أجمع العلماء أن مسألة الحياة أعقد مسألة في عالمنا هذا، لأن لغز الحياة لم ينحل حتى اليوم على الرغم من كل ما حققه البشر من تقدم هائل في حقل العلم والمعرقة.

قال آخر: نعم.. قد يستطيع العلم في المستقبل أن يكتشف بعض أسرار الحياة.. لكن السؤال يبقى قائما بحاله: كيف يكفر الإنسان بالله وينسب هذه الحياة بتعقيداتها وغموضها وأسرارها إلى صنع الطبيعة العمياء الصماء الفاقدة لكل شعور وإدراك!؟

قال آخر: وبعد التذكير بهذه النعمة، تؤكد الآية الكريمة على دليل واضح آخر وهو ظاهرة الموت التي يراها الإنسان في حياته اليومية، من خلال وفاة من يعرفهم ومن لا يعرفهم.

قال آخر: وهذه الظاهرة تبعث أيضا على التفكير، من الذي قبض أرواحهم؟ ألا يدل سلب الحياة منهم على أن هناك من منحهم هذه الحياة؟

قال آخر: ومن الآيات التي تذكر آية الحياة ودلالتها على الله قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [الأنعام: 95]

قال آخر (1): أي ذلكم هو الله، وتلك هى بعض آثار قدرته.. فلينظروا فى هذا الذي

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (4/ 243)

القرآن والحجج البالغة (126)

أبدعته القدرة القادرة، التي قام سلطانها على كل شئ، ونفذ علمها إلى كل شئ.. فهذه الحبة الصغيرة، التي لا تكاد تمسك بها العين، يفلقها الخالق العظيم، فيخرج من كيانها الضعيف، وجرمها الصغير، شجرة عظيمة مورقة مزهرة مثمرة.

قال آخر: وهذه النواة اليابسة، التي لا يتجاوز جرمها جرم حصاة صغيرة، يفتقها الخلاق العليم، فيخرج من أطوائها نخلة باسقة، تطاول السماء، وتناطح السحاب.

قال آخر: وفلق الحب والنوى يعني شقه، حين يغرس فى مغارس الإنبات، فيفتق كما تفتق الأرحام عند الولادة لتخرج ما فيها من أجنة.. ومن بين هذا الحب والنوى.. الميت الهامد.. تخرج الحياة ممثلة فى شجيرة صغيرة، أو نخلة باسقة، أو دوحة عظيمة.

قال آخر: ثم عرض الله تعالى صورة أخرى من صور الإبداع فى الخلق.. وهو أنه سبحانه إذ يخرج الحى من الميت، فإنه سبحانه يخرج الميت من الحى، كهذا الحب وذلك النوى فإنهما من مواليد النبات الحى النامي.

قال آخر: وفي هذا العرض للإحياء والإماتة، والإماتة والإحياء، مثل ظاهر يرى فيه الإنسان العاقل صورة لحياته هو.. وأنه كان فى عالم الموات، ثم إذا هو كائن حى عاقل.. ثم إذا هو مردود إلى عالم الموات مرة أخرى.. فهل تعجز القدرة الإلهية عن رده مرة ثانية إلى الحياة؟

قال آخر: إن ذلك ـ فى تقدير الإنسانية ـ أمر أهون مما سبقه من إيجاد الحياة من العدم، ولذلك قال تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 28]

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾ [الأنعام: 95] إشارة إلى الله، سبحانه، وأنه هو الإله الحق الذي لا ينبغى لعاقل أن يتخذ إلها غيره.. فذلكم هو الله، وتلك هى بعض آثار

القرآن والحجج البالغة (127)

قدرته.

قال آخر: وقوله سبحانه: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [الأنعام: 95] إنكار على هؤلاء الضالين، أن يكون لهم متجه غير الله، ثم هو دعوة مجددة لهم أن يتركوا هذا الطريق الآثم الذي هم فيه، وإلا كانوا فى الهالكين.. والإفك، هو الباطل والبهتان، والميل عن طريق الحق إلى الضلال.

المشهد الرابع

بعدما انتهى الشاهد من حديثه إلى هذا الموضع، قام بعضهم، وقال: دعوني أكمل أنا، فقد كنت رفيقا لكم في تلك الرحلة الجميلة.

أذن له أصحابه، فقال: بعد أن أجاب التلاميذ على كل أسئلة معلمهم بشأن ما ورد في القرآن الكريم من ذكر الحياة المبثوثة في الكائنات، ودلالتها على الله، وعلاقتها ببرهان النظم، قال لهم: بوركتم.. والآن حدثونا عما ورد في القرآن الكريم من الحديث عن آيات الله تعالى في الهداية الفطرية والغريزية للإنسان والحيوان.

قال أحد التلاميذ: إن الهداية الفطرية والغريزية تعد من الآيات الدالة على وجود الله وعظمته، ولهذا وردت الإشارة إليها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كقوله تعالى على لسان موسى عليه السلام عند دعوته لفرعون لله: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]

قال آخر (1): أي ربنا الذي خلقنا والذي قام على شؤوننا، وسير أمورنا هو ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ [طه: 50]، أي صورته وحاله التي تناسب ما عهد به إليه فهو أعطى

__________

(1) () زهرة التفاسير (9/ 4734)

القرآن والحجج البالغة (128)

كل شيء وجوده وهيأه لما أنشأه لأجله.

قال آخر: أى أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد، والرجل واللسان كل واحد مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه، أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة.

قال آخر: والمعنى أن الله تعالى أعطى كل موجود الصورة التي اختارها له، وهيأ كل ما فيه من قوى لما أعده له، فكل قوى الإنسان والحيوان صوره الله سبحانه لكي يؤدي عمله الذي خلقه الله تعالى له، ثم بعد هذا الخلق تكون الهداية العامة في الحياة وفي الخير وفي الشر.

قال آخر: ولذلك قال: ﴿ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50] وكان العطف بـ[ثم] للدلالة على البعد بين أصل الخلق والتصوير، وأداء كل عضو مهمته في الحياة وإدراك معانيها.

قال آخر: و(هدى) أي هدى كل عضو صورة لأداء المنفعة التي خلق لها فهديت العين إلى معرفة الأشياء بالبصر، وهديت الأذن لمعرفة كل ما يعلم عن طريق السماع، وهدى العقل الإنساني إلى إدراك الخير والشر، كما قال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10]، وكما قال: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 7 ـ 8]

قال آخر (1): والآية الكريمة تشير إلى كل أنواع الهداية، ابتداء من الهداية التكوينية، والتي تعني أن الله تعالى خلق مجموعة من عوامل التقدم والتكامل في مختلف كائنات هذا العالم، يشمل ذلك الإنسان وجميع الكائنات الحية، بل حتى الجمادات، وهذه العوامل تدفع الموجودات نحو تكاملها.. فنمو الجنين في رحم أمه ورشده، ونمو البذرة في باطن الأرض

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 324)

القرآن والحجج البالغة (129)

ورشدها، وحركة السيارات والمنظومات الشمسية في مداراتها، وأمثال ذلك نماذج مختلفة من الهداية التكوينية.

قال آخر: وهي تشير كذلك إلى الهداية التشريعية، وهي هداية الناس عن طريق التعليم والتربية، والقوانين، والحكومات العادلة، والموعظة والنصيحة.. وهي التي يقوم بها الأنبياء والأئمة والصالحون والمربون المخلصون، وقد أشار الله تعالى إلى هذا النوع من الهداية بقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]

قال آخر: وهي تشير كذلك إلى الهداية التوفيقية، وهي الهداية إلى تهيئة الوسائل ووضعها في متناول الأفراد لكي يستفيدوا منها حسبما يشاءون في مضان التقدم، كبناء المدارس والمساجد ومعاهد التربية، وإعداد الكتب ووضع الخطط وتدريب المربين والمعلمين المؤهلين، وهذا النوع من الهداية يقع بين الهدايتين التكوينية والتشريعية، وقد أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]

قال آخر: وهي تشير كذلك إلى الهداية نحو النعمة والمثوبة، وهي تعني هداية الأفراد اللائقين للانتفاع بنتائج أعمالهم الصالحة في العالم الآخر، وهي هداية تختص بالمؤمنين الصالحين، كما قال تعالى: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ [محمد: 5]، وهذه الآية جاءت بعد ذكر تضحية الشهداء في سبيل الله، وواضح أن هذا النوع من الهداية يرتبط بتمتع هؤلاء بثمار أعمالهم في الآخرة.

قال آخر: وهذه الأنواع الأربعة من الهداية تشكل مراحل مختلفة متوالية لحقيقة واحدة.. ففي البداية تكون الهداية التكوينية التي يهدي بها الله مخلوقاته ومنها الإنسان الذي أودع فيه العقل والفكر والقوى الاخرى.

قال آخر: يلي تلك الهداية هداية الأنبياء والرسل عليهم السلام الذين يهدون الناس

القرآن والحجج البالغة (130)

إلى طريق الحق.. والهداية هنا بمعنى الإرشاد والتبليغ.

قال آخر: ثم تأتي مرحلة العمل فيشمل الله مخلوقاته بتوفيقه فتتمهد لهم سبل وطرائق تسير عليها نحو التكامل.. وهذه هي هداية التوفيق.

قال آخر: وفي العالم الآخر ينالون جزاء أعمالهم الصالحات، وتلك هي هداية النعمة والثواب.

قال آخر: وهداية الإرشاد والدعوة التي تشكل واحدا من أنواع الهداية الأربعة هي من واجبات الأنبياء وورثتهم، والباقي يختص بالله تعالى.. وعليه حيثما نجد في القرآن سلب الهداية، فذلك لا يخص النوعين الأولين.

المشهد الخامس

بعدما انتهى الشاهد من حديثه إلى هذا الموضع، قام بعضهم، وقال: دعوني أكمل أنا، فقد كنت رفيقا لكم في تلك الرحلة الجميلة.

أذن له أصحابه، فقال: بعد أن أجاب التلاميذ على كل أسئلة معلمهم بشأن آيات الله تعالى في الهداية الفطرية والغريزية للإنسان والحيوان، وعلاقتها ببرهان النظم وقوته، قال لهم: بوركتم، والآن اذكروا لي البراهين الدالة على وجود الله تعالى في قوله: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فيما لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ

القرآن والحجج البالغة (131)

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: 57 ـ 74]

قال أحد التلاميذ (1): إن الهدف الأصلي لهذه الآيات الكريمة هو الدعوة إلى الإيمان بالمعاد، وبعث الإنسان في يوم القيامة، وضرورة عبادة الله وحده، أما مسألة إثبات وجود الله، فلها جانب ضمني في هذه الآيات.

قال آخر: لكن على الرغم من ذلك يمكننا أن نجد في الآيات الكريمة إشارات واضحة إلى وجود الصانع حتى لأول نظرة.

قال آخر: وهذه الآيات الكريمة تشبه ـ من جهة طرح التساؤلات ـ ما ورد في سورة الطور من تساؤلات، وبالتأمل والإمعان في كليهما نرى أن القرآن الكريم جعل الإنسان أمام حزمة من التساؤلات، تماما على النمط السقراطي، لأجل إيقاظ وجدان البشر، ليتسنى له في ظل هذه اليقظة أن يميز الحق عن الباطل، وليخضع ـ بالتالي ـ لمنطق الحق ولا يكون له سبيل إلى غير ذلك.

قال المعلم: فما هي التساؤلات والمواضيع التي طرحتها هذه الآيات الكريمة؟

قال أحد التلاميذ: لقد طرحت الآيات الكريمة أربعة مواضيع.. أولها: تركيب الخلية البشرية وخلقتها العجيبة.. ثانيها: نمو النباتات وحفظها وصيانتها عن الآفات.. ثالثها: نزول الغيث وصيانته عن التلوث والتأسن والأجوج.. رابعها: استخراج ونشأة النار من الشجر.

قال آخر: وفي الحقيقة فإن موضوع البحث في هذه الآيات هو الإنسان والنعم الثلاث الكبرى، وهي: المواد الغذائية، والماء، والنار التي لا يمكن أن يحيا البشر بدونها.

__________

(1) () مفاهيم القرآن: 1/ 167.

القرآن والحجج البالغة (132)

قال المعلم: فما المنهج الذي اعتمدته الآيات الكريمة في الاستدلال؟

قال أحد التلاميذ: اعتمدت الآيات الكريمة الاستدلال بوجود المصنوع ـ وهو هنا النطفة البشرية، وتربية النباتات، ونزول المطر، وخلق الأشجار ـ على وجود الصانع.

قال آخر: صحيح أن للإنسان مشاركة جزئية في تكون ونشوء هذه الظواهر الطبيعية كاللقاح في تكون الإنسان، والبذر، إلا أن هذه المشاركة الجزئية والتأثير الجزئي لا يكفي في تكون وظهور هذه الظواهر والموجودات، وما لم تكن ثمة قدرة عليا مطلقة تساعد على تأثير هذه المقدمات لما أمكن لها أن تتواجد وتتكون وتأتي إلى منصة الظهور وساحة الوجود.

قال المعلم: فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فيما لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الواقعة: 58 ـ 62]

قال أحد التلاميذ (1): تذكر هذه الآيات الكريمة مبدأ وجود وتكون الإنسان وهو ما أسماه الله تعالى بالنطفة.. وقد اعترف القرآن بسهم الوالدين في نشوء الإنسان وتكونه، ولكنه اعتبر إسهامهما هذا في مستوى عملية النقل والانتقال فقط، وتلك العملية تتمثل في أن الأب ينقل جزءا منه، من موضع معين في جسمه إلى رحم الأم لا أكثر.. أما من خلق النطفة ومن أوجدها؟ فلا يمكن أن نعتبر الأب هو الخالق لها، لبداهة جهله بحقيقتها.

قال آخر: ولذلك، لا مناص من أن يكون لها خالق معين.. خالق أعطى ـ بقدرته وعلمه ـ للنطفة، القدرة على النمو في رحم الأم، ومكنها من الرشد في ذلك الجو، حتى يتكون الموجود البشري.

__________

(1) () مفاهيم القرآن: 1/ 169.

القرآن والحجج البالغة (133)

قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [الواقعة: 63 ـ 67]

قال أحد التلاميذ: نرى في الآيات الكريمة أن القرآن الكريم لم ينكر دور الفلاحين في ظهور النباتات وتواجدها، لكنه يعتبر إسهامهم محدودا لا يتعدى عملية بذر البذور وما يرتبط بها.. وهذا العمل وحده غير كاف في نشوء النباتات والثمار.

قال آخر: لأنه يسأل أولا: من الذي خلق البذرة؟ وعلى قدرة من اعتمدت هذه الحبة بحيث استطاعت أن تتسبب في ظهور مئات الحبات ونشوئها في شكل سنابل؟.. ولذلك لا مناص من أن يكون لهذه الحبة خالق غير البشر.

قال آخر: ثم يسأل ثانيا: هل يكفي لتربية النباتات وخروجها مجرد الحرث وبذر البذور، أم أن مئات العوامل والعلل الخارجية الأخرى، يجب أن تتفاعل وتتعاضد فيما بينها لتمنع من جفاف النبتة والسنبلة، وهذا شي ء خارج عن قدرة البشر.. ترى هل هذا كله من صنع الله أم من فعل العوامل المخلوقة لله؟

قال آخر: وإلى هذه الحقيقة أشار الله تعالى بقوله: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾ [الواقعة: 65 ـ 67]

قال آخر: وفي هذا الاستدلال استدل القرآن بوجود المصنوع ـ كالمزارع الخضراء وحفظها وصيانتها من الجفاف ـ على وجود الصانع.

قال آخر: وقد جاء عين هذا الاستدلال في القسم الثالث والرابع من الآيات الكريمة، فنزول المطر من السحاب ـ وهو أمر حادث ـ لا بد له من محدث.. وإذا ساعدت بعض العوامل على ذلك، كتبخر مياه البحار بسبب الشمس، فإنه لا محيص ـ في المآل ـ من

القرآن والحجج البالغة (134)

أن يعتمد الموضوع على إرادة قادر متعال، هو الذي أوجد تلك العوامل، وهو الذي نسقها، ونظمها، وساعدها على التأثير وصانها من أي تلوث.

قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: 68 ـ 74]

قال أحد التلاميذ: في هذه الآيات الكريمة استدل الله تعالى بظاهرة هطول المطر، وظاهرة السحاب وصيانتها عن الأجوج والتلوث، على وجود الصانع.. ومثل ذلك النار تلك الظاهرة العجيبة جدا.

قال آخر: فالإنسان لا يقوم بالنسبة للنار إلا بدور الناقل فحسب.. فهو لا يفعل إلا إيصال شعلة الكبريت إلى الحطب في المطبخ لا أكثر.

قال آخر: لهذا لا يكون للإنسان أي دور في نشأة هذه الظاهرة (النار) وتكونها، اللهم إلا عملية الإشعال والوري.

قال آخر: ولذلك نسب القرآن الكريم عملية (الوري) إلى البشر، إذ قال: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ﴾ [الواقعة: 71]

قال آخر: لكن الوري والإيقاد وحده لا يكفي في تكون هذه الظاهرة، بل لابد من قادر أوجد بقدرته هذه المواد الاحتراقية في الشجر يابسه ورطبه حتى يتأتى ـ ضمن شروط وفي ظروف خاصة معينة ـ أن تشتعل.

قال آخر: وبما أنه لا يمكن لأحد أن ينكر تأثير قدرة عليا في ظهور هذه الأشجار التي تختزن المواد الاحتراقية، قال تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾ [الواقعة:

القرآن والحجج البالغة (135)

72]

قال المعلم: أحسنتم كثيرا.. وننبه فقط إلى أن المقصود الأصلي لهذه لآيات الكريمة ليس إثبات أصل وجود الله، بل المقصود والهدف هو الاستدلال على إمكان وقوع المعاد وبعث الإنسان بعد موته، ونشور الكون بعد انعدامه، وإنما ذكرت البراهين الدالة على وجود الله وخالقيته كمقدمة لإثبات إمكان إعادة الخلق بعد الموت.. لأننا حيث نعلم أن الفاعل والمدبر لهذه الظواهر الكونية هو الله القادر فلماذا ننكر إمكانية المعاد الإنساني.

قال أحد التلاميذ: أجل.. وإلى هذا الإشارة فيها بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الواقعة: 62]، فالآية تقول: الآن وأنتم ترون آثار تلك القدرة الإلهية ظاهرة في عالم الخلق ساطعة في دنيا الطبيعة، فلم تستبعدون قدرته على إحياء الموتى وإعادة الكون والإنسان يوم القيامة ولماذا تنكرون المعاد؟

المشهد السادس

بعدما انتهى الشاهد من حديثه إلى هذا الموضع، قام بعضهم، وقال: دعوني أكمل أنا، فقد كنت رفيقا لكم في تلك الرحلة الجميلة.

أذن له أصحابه، فقال: بعد أن أجاب التلاميذ على كل أسئلة معلمهم بشأن الآيات الكريمة الواردة في سورة الواقعة، وعلاقتها ببرهان النظم وقوته، قال لهم المعلم: بوركتم، والآن اذكروا لي البراهين الدالة على وجود الله تعالى في قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164]

القرآن والحجج البالغة (136)

قال أحد التلاميذ (1):في هذه الآية الكريمة يلفت القرآن الكريم نظرنا إلى ظاهرة الحياة، وعشرات بل مئات وآلاف العوامل الخفية والبارزة التي ساعدت على وجودها، وكأنها تقول: هل يمكن اجتماع كل هذه العوامل والشرائط بمحض المصادفة، ودون وجود خالق أوجدها ورتبها ونظمها، فحدثت على الصورة الموجودة؟

قال آخر: وبهذا يمكن أن تكون هذه الآية دليلا على وجود الصانع الخالق من باب دلالة النظام على المنظم، ويمكن أن تكون دلالتها على ذلك من باب بطلان نظرية الصدفة وبرهان محاسبة الاحتمالات.

قال المعلم: فحدثونا عن الصدفة، ووجه استدلال الملاحدة بها.

قال أحد التلاميذ (2): من الملاحدة من يدعي أن الكون بهذا الانتظام قد وُجد صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات الطويلة، دون تنظيم أو تخطيط سابق.

قال آخر: وبالغ بعضهم فقال: لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير، فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء خلال بلايين السنين.

قال آخر: ومنهم من يدعي أن الحياة نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطور الكيميائي ما قبل الحيوي استمر لملايين السنين، ابتداء من الكيميائيات البسيطة، مرورا بالجزيئات المتعددة، والجزيئات المتعددة الناسخة ذاتيا داخلة بدورات تحفيزية، وصولا إلى كائنات ما قبل بكتيرية، وأخيرا وصولا إلى بكتريا بسيطة.

__________

(1) () مفاهيم القرآن: 1/ 174.

(2) () الملحد واستدلاله الخاطئ بالصدفة، ص 3.

القرآن والحجج البالغة (137)

قال آخر: ويقول البعض: إذا كان هناك احتمال ـ ولو ضئيل ـ في أن تنشأ الحياة من المادة صدفة بلا خالق عبر ملايين السنين، فمن الممكن أن تنشأ الحياة من المادة صدفة عبر ملايين السنين، وفي ظل وجود الكثير من الوقت المستحيل يصبح ممكنا، والممكن يصبح من المحتمل، والمحتمل قد يصبح مؤكدا، وما على المرء إلا الانتظار، والوقت نفسه ينفذ المعجزات.

قال آخر: ويقول البعض: مادة الكون كانت موجودة قبل نشأة الكون، ثم انفجرت وتباعدت أجزاؤها وتناثرت، وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات؛ حيث كونت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء كونت الذرات، وهي ذرات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذرات تألف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد، ثم تكونت النجوم والكواكب، وما زالت تتكون حتى وصل الكون إلى ما نراه عليه اليوم، وكل هذا صدفة دون تدخل قوى عاقلة مريدة.

قال آخر: ومن الملاحدة من يدعي أن الكون نشأ صدفة من لاشيء دون علة لوجود الفوضى في الكون.. ومنهم من يدعي أن الكون بهذا الانتظام قد تكون صدفة نتيجة سلسلة من العلل المادية غير العاقلة وغير المدركة، وتوافر الظروف والعلل المادية لنشأة الكون أدى لنشأة الكون دون الحاجة لقوة عاقلة.

قال المعلم: أحسنتم.. فكيف تدل ظاهرة الحياة التي أشارت إليها الآية الكريمة إلى بطلان ذلك؟

قال أحد التلاميذ: سواء اعتبرنا الحياة ظاهرة مادية وأثرا كيمياويا لتفاعلات المادة، أم اعتبرناها ظاهرة مجردة، فإنه لابد من الإذعان ـ حتما ـ بأن تحقق الحياة على الأرض أو غيرها يحتاج إلى عوامل وشرائط كثيرة، حتى يتسنى أن تتحقق الحياة بسببها.

القرآن والحجج البالغة (138)

قال آخر: ومن المعلوم أن اجتماع الشرائط والعوامل الكثيرة، بمحض الصدفة بعيد إلى درجة أنه لا يمكن عده في عداد الاحتمالات المعقولة، والعقلائية.

قال آخر: ذلك أنه عندما يلزم، لتحقق ظاهرة مادية من الظواهر، توفر عوامل متعددة فإن كل عامل من هذه العوامل سيكون جزءا من العلة، يستوجب وجوده وجود الظاهرة، وفقدانه فقدانها، قطعا.

قال آخر: وبالنسبة إلى ظاهرة الحياة فإن عدد العوامل والظروف الموجبة لتحققها على الأرض من الكثرة بحيث لا يمكن أن يحيط بها فكر البشر، ذلك أن احتمال اجتماعها عن طريق الصدفة ما هو إلا احتمال واحد من بين مليارات من الاحتمالات، ومن غير الممكن لعاقل أن يعتمد في تفسير وجود الظاهرة على مثل هذا الاحتمال من بين ذلك الركام الهائل من الاحتمالات والفروض.

قال آخر: ولهذا يقول العالم الكندي المتخصص في الطبيعة البيولوجية حول نظرية المصادفة: (إن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة) (1)

قال آخر: وقال كريسي موريسون: (إن جميع مقومات الحياة الحقيقية ما كان يمكن أن يوجد على كوكب واحد في وقت واحد بمحض المصادفة) (2)

قال آخر: وقال: (إن للحياة فوق أرضنا هذه شروطا جوهرية عديدة بحيث يصبح من المحال حسابيا أن تتوافر كلها بالروابط الواجبة بمجرد الصدفة على أي أرض في

__________

(1) () الله يتجلى في عصر العلم، ص 5.

(2) () العلم يدعو للإيمان: 195.

القرآن والحجج البالغة (139)

أي وقت) (1)

قال آخر: وقد ضرب الأمثلة الكثيرة على ذلك، ومنها الغازات التي نستنشقها ونتنفسها، فقال: (إن الاوكسجين والهيدروجين وثاني أوكسيد الكاربون والكاربون سواء أكانت منعزلة أم على علاقاتها المختلفة ـ بعضها مع بعض ـ هي العناصر البيولوجية الرئيسية وهي عين الأساس الذي تقوم عليه الحياة، غير أنه لا توجد مصادفة من بين عدة ملايين، تقضي بأن تكون كلها في وقت واحد وفي كوكب سيار واحد، بتلك النسب الصحيحة اللازمة للحياة! وليس لدى العلم إيضاح لهذه الحقائق.. أما القول بأن ذلك نتيجة الصدفة فهو قول يتحدى العلوم الرياضية) (2)

قال المعلم (3): بورك فيكم.. فكيف تجيبون الملاحدة الذين يذكرون أن مادة الكون كانت موجودة، ثم انفجرت وتباعدت أجزاؤها وتناثرت، وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات، حيث كونت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء كونت الذرات، وهي ذرات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذرات تألف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد، ثم تكونت النجوم والكواكب، وما زالت تتكون حتى وصل الكون إلى ما نراه عليه اليوم، وكل هذا صدفة دون تدخل قوى عاقلة مريدة؟

قال أحد التلاميذ: الأجوبة على ذلك كثيرة، وكلها مما يقول به العلماء المحققون في كل العلوم الحديثة.. وأولها قانون نيوتن الأول الذي ينص على أن الجسم الساكن يبقى

__________

(1) () العلم يدعو للإيمان: 24.

(2) () العلم يدعو للإيمان: 73.

(3) () الملحد واستدلاله الخاطئ بالصدفة، ص 11.

القرآن والحجج البالغة (140)

ساكنا ما لم تؤثر عليه قوة خارجية فتحركه، والجسم المتحرك بسرعة ثابتة في خط مستقيم يبقى على هذه الحالة ما لم تؤثر عليه قوة خارجية فتغير الحالة الحركية له.. ومادة الكون الأولى كانت ساكنة ثم انفجرت، فلا بد من وجود قوة خارجية أدت إلى ذلك؛ فكل حدث لا بد له من محدث.

قال آخر: ومن المعلوم أن أي انفجار يتبعه تناثر لأشلاء عديدة وجسيمات صغيرة، فكيف يتبع الانفجار تجمع للجزئيات والجسيمات، وتكوين أرض وجبال وكواكب ونجوم ومجرات وغير ذلك دون وجود قوة خارجية حكيمة عالمة أدت لذلك!؟

قال آخر: أحسنت في قولك (قوة عالمة حكيمة)؛ لأن تناسق الكون وانتظامه يشهد بذلك، وكل شيء في الكون يوجد في المكان المناسب له، وجمال الطبيعة دليل على حكمة وعلم وإبداع خالقها، والعشوائية لا تنتج نظاما، ولو سلمنا جدلا وتنزلا أنها أنتجت نظاما، فسرعان ما يزول هذا النظام.

قال آخر: ذلك أنه من المعلوم أن أي انفجار يتبعه دمار، فكيف يتبع الانفجار الكوني العظيم عمار وتكوين أرض وجبال وبحار ومحيطات وأنهار وكواكب وأقمار ونجوم ومجرات دون وجود قوة عالمة حكيمة!؟

قال آخر: ومن المعلوم كذلك أن أي انفجار يتبعه هدم، فكيف يتبع الانفجار الكوني بناء أرض وجبال وكواكب وأقمار ونجوم ومجرات دون وجود قوة عالمة حكيمة!؟

قال آخر: وعلى التسليم الجدلي أن الانفجار الكوني أدى إلى تكوين الكون ونشأته صدفة، فكيف يبقى ويستمر دون وجود قوة خارجية تحافظ على بقائه واستمراره!؟

قال آخر: وإذا كان الكون قد تطور من المادة الأولى له، فمن الذي طور هذه المادة؛ إذ أي تطور لا بد له من مطور؟

القرآن والحجج البالغة (141)

قال آخر (1): وإن قيل: المادة هي التي طورت نفسها عبر ملايين السنين، فالجواب: هذا الكلام يستلزم أن الأدنى يتطور بنفسه إلى الأعلى، والتطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، أمر مستحيل عقلا؛ إذ الناقص لا ينتج الكامل، ويلزم من هذا الكلام قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض.

قال آخر: وإذا كان وجود هذا الكون عن طريقة الصدفة، أليس من الممكن، والحال هكذا، أن توجد صدفة أخرى تقضي على هذا الكون كله، وتتعطل كل هذه المصالح من شمس وقمر ونجوم وغير ذلك، مما في هذا الكون المترابط المنتظم بصورة تضمن استمرار الحياة سليمة عن الخراب والتداخل؟

قال آخر: وعلى التسليم الجدلي أن تكوين كوكب من الكواكب كان صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين الكواكب الأخرى؟.. ولو كان تكوين أحد الأقمار صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين الأقمار الأخرى؟.. ولو كان تكوين أحد النجوم صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين النجوم الأخرى؟.. فإذا سلمنا جدلا أن الصدفة أحدثت كوكبا، فلا يمكنها أن تكرر إحداث كوكب آخر كل مرة.

قال آخر: وإذا سلمنا جدلا أن الصدفة أحدثت قمرا، فلا يمكنها أن تكرر إحداث قمر آخر كل مرة، وإذا سلمنا جدلا أن الصدفة أحدثت نجما، فلا يمكنها أن تكرر إحداث نجم آخر كل مرة، وإذا سلمنا جدلا أن الصدفة أحدثت مجرة، فلا يمكنها أن تكرر إحداث مجرة أخرى كل مرة.

__________

(1) () كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 331.

القرآن والحجج البالغة (142)

قال آخر: ذلك أننا أمام كم هائل من الأحداث المتكررة، التي يحيل العقل حدوثها دون وجود قوة عالمة حكيمة أدت لذلك، ونحن أمام سلسلة من الصدف المنظمة، وليس صدفة واحدة.

قال آخر: وما دام الكون لم يكن إلا مادة راكدة ركودا رهيبا، ولم يكن هناك شيء غير المادة الراكدة، فمن أين أتت هذه الصدفة التي حركت الكون كله، مع أن هذا الحادث الذي وقع لم تكن له أية أسباب موجودة، لا داخل المادة ولا خارجها!؟

قال آخر: وأطرف تناقض هنا: أن هذا التفسير يقرر وجوب واقعة قبل حدوث واقعة أخرى، حتى يمكن إرجاع نسبة هذه الواقعة الأخيرة إلى التي سبقتها.

قال آخر: ولكن بالرغم من هذا يبدأ هذا التفسير نفسه من واقعة لا سابقة لها؛ فهذا هو الافتراض القائم بدون أي أساس، وهو الافتراض الذي أقيم عليه البناء الكامل لنظرية الخلق الصدفي (الاعتباطي) للكون.

قال آخر: وشيء آخر: أن هذا الكون، إذا كان مرهونا بوقوع بعض المصادفات، فكيف نفسر اضطرار كل الوقائع والحوادث على نهج طرق معينة ثابتة نهجنا بالفعل، لولا هذا النهج لما كنا اليوم موجودين لنفكر في هذه القضايا، ألم يكن من الممكن أن يحدث شيء آخر نقيض تماما لما حدث؟

قال آخر: ألم يكن من الممكن أن ترتطم النجوم ببعضها البعض وتتحطم؟ وبعد حدوث الحركة في المادة، أما كان من الممكن أن تبقى حركة مجردة دون أن تصبح حركة ارتقائية، تجري في سلسلة مدهشة من العمل التطوري لإيجاد الكون الخالي؟

قال آخر: ثم ما هو ذلك المنطق الذي جعل النجوم والسيارات تتحرك بهذا النظام العجيب في الكون اللامتناهي؟.. وما هو ذلك المنطق الذي أوجد النظام الشمسي في ركن

القرآن والحجج البالغة (143)

بعيد من أركان الكون؟.. وما هو ذلك المنطق الذي أمكن بواسطته إجراء تغيرات مدهشة أتاحت الفرصة لنشأة الحياة الإنسانية على كرة الأرض؟

قال آخر: وهذه التغيرات التي قد حدثت بالفعل على كرتنا لا نعرف حتى الآن ما إذا كانت موجودة على ظهر سيار أو نجم آخر من ملايين المجرات المنتشرة في أركان الكون، فما هو المنطق الذي تسبب في إيجاد مخلوق حي من مادة بدون حياة؟

قال آخر: هل لأحد يعتقد بالصدفة أن يقدم لنا تفسيرا معقولا لتوضيح كيفية وجود الحياة على سطح الأرض؟ ولماذا؟ وتحت أي قانون تستأنف الحياة وجودها المدهش بهذا التسلسل!؟

قال آخر: ثم ما هو ذلك المنطق الذي أوجد في حيز مكاني صغير كل تلك الأشياء اللازمة لحياتنا ومدنيتنا؟.. ثم ما هو ذلك المنطق الذي يعمل على إبقاء هذه الأحوال دائما في صالحنا كما هي؟.. أي صدفة واتفاق يتيحان حدوث هذه الإمكانات بهذا التسلسل والترتيب الجميل، ثم استمرارها لملايين السنين بحيث لا يطرأ عليها أدنى تغير يخالف مصالح الإنسان؟

قال آخر: ثم يقال لهم: من أين حصل لهذا العالم هذا النظام العجيب، والترتيب الحكيم، الذي حارت فيه العقول؟.. كيف ينسب ذلك إلى الاتفاق والمصادفة ومجرد البخت؟.. وكيف اجتمعت تلك الأجزاء على اختلاف أشكالها، وتباين مواردها وقواعدها؟ وكيف حفظت وبقيت على تآلفها؟ وكيف تجددت المرة بعد المرة!؟

قال آخر: إن الصدفة في مجال الكون مستحيلة في ذاتها، فضلا عن أن ينبثق عنها هذا الإحكام والنظام، ولو سلمنا جدلا بصدفة واحدة في البداية، فهل يقبل عقلنا بسلسلة طويلة متتابعة من المصادفات؟

القرآن والحجج البالغة (144)

قال آخر: إن العلامة المميزة للمصادفة هي عدم الاطراد وعدم النظام، بينما النظام السائد في هذا الكون ثابت كل الثبات، مطرد بلا تخلف، على تعقده، تحكمه قوانين نتوقع معلولاتها توقعا يقينيا: فكيف يدعى أن مثل هذا النظام المطرد ناتج مصادفة؛ أي: من عدم النظام وعدم الاطراد؟

قال المعلم (1): بورك فيكم.. فكيف تجيبون الملاحدة الذين يذكرون أن نشأة الحياة ليست دليلا على وجود خالق؛ لأنها نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطور الكيميائي ما قبل الحيوي استمر لملايين السنين، ابتداء من الكيميائيات البسيطة، مرورا بالجزيئات المتعددة، والجزيئات المتعددة الناسخة ذاتيا داخلة بدورات تحفيزية، وصولا إلى كائنات ما قبل بكتيرية، وأخيرا وصولا إلى بكتريا بسيطة.

قال أحد التلاميذ: هم يقصدون أن كل هذه العمليات كانت صدفة.. أي أن جزئيات غير عضوية كونت أحماضا أمينية بالصدفة.. وهذه الأحماض الأمينية كونت بروتينات بالصدفة.. والبروتينات كونت المادة الوراثية وباقي مكونات الخلية الأولى.. أي أننا أمام سلسلة من الصدف المنظمة، وليس صدفة واحدة، وهذا غير ممكن أبدا.

قال آخر: وعلى فرض إيجاد الصدفة لمركب معقد يكون خلية، فهل الصدفة تبث فيه الحياة وتجعله ينمو ويتحرك ويتغذى ويتكاثر ويخرج الفضلات!؟

قال آخر: وعلى فرض أن الصدفة أوجدت الخلية الأولى بكل مكوناتها، فإنها لا يمكنها أن توجد العديد من هذه الخلايا كل مرة.

قال آخر: وعلى فرض أن الصدفة أوجدت ذكرا بكامل أعضائه وأجهزته، فهل

__________

(1) () الملحد واستدلاله الخاطئ بالصدفة، ص 14.

القرآن والحجج البالغة (145)

يمكن للصدفة أن توجد أنثى مماثلة للذكر تماما ومخالفة له في الجهاز التناسلي، بهدف التناسل واستمرار الحياة على الأرض!؟

قال آخر: وعلى فرض أن الصدفة أوجدت كائنا حيا، فكيف توجد الغذاء الذي يناسبه صدفة!؟

قال آخر: وعلى فرض أن الصدفة أوجدت كائنا حيا، فكيف تحافظ عليه وتضمن له الحياة حتى يتكاثر وينتج كائنا مثله!؟

قال آخر: إن لسان هؤلاء الملاحدة يذكر أن جمع أجزاء ومكونات الخلية الأولى كفيل بأن تتجمع هذه المكونات، وكفيل بنشأة الحياة، وهذا كلام في غاية السخف والسقوط؛ إذ الحياة شيء منفصل عن هذه المكونات والأجزاء.

قال آخر: ذلك أن الحياة شيء من غير جنس هذه المكونات والأجزاء.. إنها شيء متجاوز لهذه المكونات والأجزاء، وتجمع أجزاء ومكونات الكائن الحي لا يكفي لأن ينشئ كائنا حيا.

قال آخر:، وهذا المنطق شبيه بمن يقول تجمع أجزاء ومكونات السيارة كفيل بأن تتكون السيارة دون مجمع ومركب لهذه المكونات والأجزاء، وهل وجدنا أجزاء سيارة تتجمع وتتركب بالصدفة دون مجمع ومركب!؟

قال آخر: ولو سلمنا جدلا وتنزلا مع الملاحدة أن أجزاء ومكونات الخلية الأولى تجمعت بذاتها، فهل تجمع أجزاء ومكونات الخلية كاف لبث الحياة فيها؟

قال آخر: ثم بث الحياة وحده ليس كافيا لحياة الخلية، فالخلية تحتاج طاقة وغذاء، فكيف ستوفر لنفسها الطاقة والغذاء؟

قال آخر: ومن الذي يلهمها بأن هذا الغذاء يناسبها دون غيره من الأغذية؟

القرآن والحجج البالغة (146)

قال آخر: وكيف تستفيد من هذا الغذاء لتنمو وتتكاثر دون أن تكون مهيأة للنمو والتكاثر!؟

قال آخر: والحياة والطاقة للخلية كالوقود للسيارة، فلن تعمل الخلية الأولى إذا لم تكن حية وبها طاقة، كما أن السيارة لن تعمل دون وقود.

قال المعلم: بورك فيكم.. والآن هلا قربتم ما ذكرتموه بأمثلة تيسر فهمها.

قال أحد التلاميذ (1): من الأمثلة على ذلك أن يقال للقائلين بالصدفة: لو أن هزة أرضية قلبت صناديق الحروف في مطبعة، بها نصف مليون حرف، فخلطتها ببعضها، فأخبرنا صاحب المطبعة أنه تكون من اختلاط الحروف صدفة عشر كلمات متفرقة؛ فالمسألة تحتمل التصديق وتحتمل النفي، لكنه لو أخبرنا بأن الكلمات العشر كونت جملة مفيدة، لازدادت درجة النفي والاستبعاد، لكننا قد لا نجزم بالاستحالة، ولو أخبرنا بأن الحروف المبعثرة كونت كتابا من مائة صفحة، وبه قصيدة كاملة منسجمة بألفاظها، وأوزانها، فالاستحالة في هذه الحالة بحكم البديهية.

قال آخر: والمسألة في الكون وأجزائه، وما فيها من إتقان وإحكام وعناية أعقد بكثير من مثال حروف المطبعة؛ لأن الحروف هنا جاهزة معبأة في صناديقها.

قال آخر: والصدفة في مجال الكون مستحيلة في ذاتها، فضلا عن أن ينبثق عنها هذا الإحكام والنظام، ولو سلمنا جدلا بصدفة واحدة في البداية، فهل يقبل عقلنا بسلسلة طويلة متتابعة من المصادفات؟

قال آخر (2): ومن الأمثلة على ذلك ما لو قال شخص: وجدت قصرا شديد الجمال،

__________

(1) () عقيدة التوحيد، محمد ملكاوي ص 149 ـ 150.

(2) () الملحد واستدلاله الخاطئ بالصدفة، ص 16.

القرآن والحجج البالغة (147)

مكونا من خمسة طوابق، فيه ثلاثون غرفة، كل غرفة مفروشة بأجمل أنواع الفرش، ومزخرفة بأجمل أنواع الزخارف، وهذا القصر ليس له بان، ولا مصمم، وإنما تكون صدفة عبر عشرات السنين، أترى أحدا يصدق هذا الكلام!؟

قال آخر: وإذا لم يصدق أحد أن هذا القصر تكون صدفة، وهو جماد لا حياة فيه، ولا وعي ولا إدراك ولا مشاعر ولا أحاسيس، فكيف يصدق أحد أن هذا الكون تكون صدفة دون قوة عالمة حكيمة رغم ما في الكون من جمال وإبداع، وتجد حيوانات مختلفة الأنواع، وطيورا مختلفة الأنواع، وأسماكا مختلفة الأنواع، وحشرات مختلفة الأنواع، ونباتات مختلفة الأنواع، وأشجارا مختلفة الأنواع!؟

قال آخر: ويقال لكل قائل بالصدفة: ما تقول فيمن يقول: وجدت كتابا محكما في علم من العلوم، يتكون من مجلدين، والمجلد يتكون من جزأين، وكل جزء مكون من ثلاثمائة صفحة، وكل صفحة بها عشرون سطرا، وكل سطر به عشرون كلمة، وهذا الكتاب ليس له مؤلف، ولا كاتب، وإنما تألف وكتب صدفة عبر عشرات السنين، أترى أحدا يصدق هذا الكلام!؟

قال آخر: وإذا لم يصدق أحد أن هذا الكتاب كتب وألف صدفة، وهو جماد لا حياة فيه، ولا وعي ولا إدراك ولا مشاعر ولا أحاسيس، فكيف يصدق أحد أن هذا الكون تكون صدفة بما فيه من آلاف الحيوانات، وآلاف الطيور، وآلاف الزواحف، وآلاف النباتات، ويمكن أن تكتب عشرات المجلدات في إحكام ونظام كل نوع من هذه الكائنات!؟

قال آخر: إن لحظة تأمل في خلية من خلايا الإنسان تجعل القول بالصدفة في غاية السخف والسقوط؛ فخلية الإنسان تشبه المصنع، وأي مصنع به مدير ومشرف على المصنع، وأرضية للمصنع، وقسم للتسوق والاستقبال، وعمال لهم دور في تصنيع منتجات المصنع،

القرآن والحجج البالغة (148)

وقسم لتعبئة المنتجات وتهيئتها، وحراس أمن، ومولد للطاقة.

قال آخر: وخلية الإنسان كالمصنع؛ ففيها النواة، وهي كالمدير للخلية، تتحكم في جميع أنشطة الخلية، وصفات البروتين الذي سوف يصنع، وفي الخلية السيتوبلازم، وهو كالأرضية للخلية، تسبح فيه عضيات الخلية، وفي الخلية غشاء خلوي، وهو يشبه قسم التسوق والاستقبال؛ حيث إن أي جسم يحاول دخول الخلية عليه أن يبرز هويته، وينظم مرور المواد عبر الخلية، وما الذي يدخل، وما الذي يخرج، وفي الخلية الريبوسومات، وهي تشبه العمال، حيث لها الدور في تصنيع البروتينات.

قال آخر: وفي الخلية الشبكة الإندوبلازمية، وهي مكان عمل الريبوسومات (منطقة عمل)، وفي الخلية جهاز جولجي، وهو يشبه قسم التعبئة والتهيئة والتغليف؛ فهو يقوم بإعداد وتهيئة البروتين للاستعمال أو التصدير.

قال آخر: وفي الخلية الأجسام الحالة، وهي تشبه رجال الأمن؛ حيث تهاجم كل جسم يحاول الإضرار بالخلية، وفي الخلية الميتوكوندريا، وهي كمولدات الطاقة.

قال آخر: وأي خلية من خلايا الإنسان مصنع متكامل، وكل شيء فيها يجري بنظام ودقة، فهل سمعتم أن عاقلا يفكر في وجود مصنع صدفة دون قوة عالمة مريدة حكيمة؟

قال آخر: وهذا يدعونا إلى سؤال أي شخص يفكر في وجود جهاز دقيق الحجم معقد التركيب محكم الوظائف وجد بلا موجد، ما حكمه عند العقلاء؟.. وأيهما أعظم في الحكم، هذا الجهاز الدقيق أم هذه الخلية الحية، الدقيقة الحجم، المعقدة التركيب، المحكمة الوظائف.

قال آخر: أضف إلى ذلك أنها تنمو وتتكاثر وتتنفس وتتغذى وتقوم بعمليات حيوية تعجز عن محاكاتها أكبر المصانع في العالم.

القرآن والحجج البالغة (149)

قال آخر: والأعجب من هذا أن المواد الميتة خارج الخلية ـ كالكربوهيدرات والبروتينات ـ عندما تعبر غشاء الخلية ويسمح لها بالاندماج مع مكونات الخلية وعضياتها تتحول هذه المواد من مواد ميتة لا حياة فيها إلى عضيات حية تتغذى وتتنفس!؟

3. برهان الإمكان

بعدما انتهى الشاهد من حديثه، قام آخر، وقال: ائذنوا لي أن أتحدث أنا، لأذكر لتلميذ القرآن الكريم رحلتنا للإيمان.

المشهد الأول

أذنوا له في ذلك، فقال: بعد أن سمعنا تلك الأحاديث من تلاميذ المعلم، رحنا للقرآن الكريم نبحث فيه عما ذكر من الآيات الكثيرة التي بثها الله تعالى في كونه، والتي لا يمكن أن تدل إلا عليه، وعلى وجوده وعظمته، وقد استفدنا من ذلك كثيرا، ووصلنا إلى قناعات كثيرة جعلتنا أقرب إلى الإيمان من كل وقت مضى.

لكني وبعض أصدقائي، لم نكتف بتلك الأدلة مع وضوحها وقوتها، فرحنا للمعلم نقرأ له قصة إبراهيم عليه السلام، التي قصتها الله تعالى علينا في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260]

فابتسم المعلم، وطلب منا أن نسير معه إلى بعض الأحياء الفقيرة، وطلب منا أن نحمل معه بعض الهبات والصدقات التي يريد أن يقدمها إليهم، فقبلنا ذلك، وقد توهمنا في البداية أنه يريد أن يشغلنا عن سؤالنا بما شغلنا به، لكنا لم نكن نعلم أننا سائرون إلى من

القرآن والحجج البالغة (150)

يضيف إلى ما سمعنا من البراهين براهين جديدة.

عندما وصلنا إلى ذلك الحي، وجدنا الكثير من الناس في انتظار المعلم، وقد توهمنا في البداية أنهم كانوا ينتظرون الهبات والصدقات، لكن ظننا أخطأ كثيرا، فقد كانوا ينتظرون حضوره ليشرف على المسابقة التي عقدوها لشبابهم وأطفالهم.. ولذلك لم يُبدو أدنى اهتمام لتلك الصدقات والهبات، بل كان كل واحد منهم يسلمها لأخيه معتذرا عن قبولها.

طلب منا المعلم الجلوس مع الحضور، ثم قال مخاطبا الفريق الأول من المتسابقين: هل تعرفون البرهان الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فاطر: 15 ـ 17]

قال أحد المتسابقين (1): أجل.. إنه برهان الفقر والإمكان.. فقد وصف القرآن الكريم الله تعالى في الآية الأولى من الآيات الثلاث بأنه الغني الحميد، وقد جاء في الآيتين التاليتين دليل ذلك.

قال آخر: أما أن الله غني، فلأنه يمكنه أن يعدمنا لنعلم أنه لا يحتاج إلينا، وأنه لو شاء لأتى بخلق جديد، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [فاطر: 16]

قال آخر: وأما أنه تعالى حميد، فلأنه قادر على ذلك وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فاطر: 17]

قال المعلم: فكيف يمكن الاستدلال بهذا البرهان على وجود الله تعالى؟

قال أحد المتسابقين (2): لا ريب أن فقر الشي ء دليل قاطع على احتياجه إلى غني قوي

__________

(1) () مفاهيم القرآن: 1/ 129.

(2) () مفاهيم القرآن: 1/ 130.

القرآن والحجج البالغة (151)

يزيل حاجته، ويمسح عن وجهه غبار الاحتياج والافتقار، فما لم تمتد يد من الخارج إلى ذلك الشي ء لم يرتفع فقره، ولم يندحر احتياجه.

قال آخر: وتلك حقيقة لا يمكن أن يجادل أو يشك في أمرها أحد.. ولهذا لا بد أن يكون لهذا الكون ـ بأسره ـ من أفاض عليه الوجود.

قال آخر: فالظواهر الكونية من الذرة إلى المجرة مقرونة بالفقر الذاتي.. فجميعها مسبوقة بالعدم، ولهذا فهي تحتاج في تحققها ووجودها إلى غني يطرد عنها غبار العدم، ويلبسها حلة الوجود.

قال آخر: افترض ـ مثلا ـ أية ظاهرة شئت تجد أنها قبل أن ترتدي حلة الوجود كانت تختفي خلف حجاب العدم وتنغمس في ظلماته، ثم استطاعت ـ في ظل قدرة فعالة ـ أن تمزق حجب العدم، وتشق طريقها إلى عالم الوجود.

قال آخر: ومن المعلوم أنه لو لم يكن ثمت غني باسم العلة لما قدر لهذه الظاهرة المعدومة ـ أصلا ـ أن تدخل إلى ساحة الوجود، ذلك لأن نسبة أي شي ء ممكن يتصوره الذهن، إلى الوجود والعدم سواء، بمعنى أنه كما لا يترجح وجوده ذاتيا كذلك لا يترجح عدمه ذاتيا أيضا.. ويسمى هذا التساوي في منطق العلماء بالإمكان.

قال آخر: ولكي ندرك بنحو أحسن معنى هذا التساوي، ومعنى الإمكان المذكور لابد أن نشير إلى مثال يذكره الفلاسفة في هذا المقام، حيث يقولون: لنفترض دائرة، ولنضع ما نتصوره في ذهننا من الأشياء في وسط هذه الدائرة تماما.. ولنجعل على طرف من الدائرة: الوجود، ونجعل في مقابله العدم.

قال آخر: ثم يقولون: إن الشي ء الممكن هو كهذا الشي ء المتصور الموضوع في وسط الدائرة لا يقتضي بذاته أي واحد من الحالتين لا الوجود ولا العدم. بل هو بالنسبة إليهما

القرآن والحجج البالغة (152)

سواء.. بمعنى أن الوجود أو العدم لا ينبع من ذات ذلك الشي ء.. وإلا لكان ذلك الشي ء ممتنع الوجود إن اقتضى العدم ذاتيا، أو واجب الوجود إن اقتضى الوجود ذاتيا.

قال آخر: ولأجل ذلك فإن كل الظواهر التي كانت معدومة ـ ذات يوم ـ ثم لبست حلة الوجود في يوم آخر ما هي ـ في الحقيقة ـ إلا سلسلة من المفاهيم المجردة عن الوجود أو العدم كالنقطة الموجودة في وسط الدائرة بين كفتي الوجود والعدم التي نسبتها إلى كل من الحالتين سواء.

قال آخر: ولو حدث أن خرجت هذه المفاهيم المجردة عن وسط الدائرة ومالت إلى إحدى الحالتين الوجود أو العدم فإن ذلك الخروج لم يتحقق بالضرورة إلا بسبب علة ساقت تلكم الظاهرة إلى الحالة التي تلبست بها.

قال آخر: إن العلة الموجدة هي التي جرت الظاهرة المذكورة إلى ناحية الوجود، كما أن علة العدم هي التي جرتها إلى ناحية العدم.

قال آخر: بناء على هذا فإن الوجود أو العدم لم يكن ولن يكون عينا ولا جزءا أصيلا في ذات الشي ء المجرد عن علة الوجود أو العدم، بل جاذبية العامل الخارجي هي التي ساقت ذلكم الشي ء إلى إحدى الناحيتين، فإن كان هناك موجد غني، جر الظاهرة قهرا إلى ناحية الوجود.. وأما لو واجهت الظاهرة فقدان علة الوجود انجذبت قهرا إلى جانب العدم.

قال آخر: على أن هناك فرقا بين مسألة وجود الظاهرة وعدم وجودها.. فلظهور ظاهرة ما ووجودها لابد من حضور علة موجدة ضمن ظروف وشروط خاصة لتعطي الوجود لتلك الظاهرة، بينما لا يحتاج فقدان الظاهرة إلى أي نوع من الفعل والانفعال، بل يكفي لفقدان أية ظاهرة فقدان علتها فقط.

القرآن والحجج البالغة (153)

قال آخر: والظواهر الحاضرة فعلا، والتي كانت قبل هذا معدومة، ومختبئة خلف حجب العدم قرونا متمادية، لم يكن فقدانها ـ في تلك الأزمنة ـ لأجل أنها كانت ترفض الوجود ذاتيا.. إذ لو كان كذلك لامتنع وجودها بالمرة وإلى الأبد، بل إن فقدانها في تلك الأوقات إنما هو لفقدان مقتضي وجودها، ومجرد فقدان هذا المقتضي كان كافيا لأن تنجذب الظواهر الكونية المذكورة بسببه إلى ناحية العدم وأن لا تتجلى على مسرح الوجود.

قال المعلم: فهل الظواهر التي تنجذب إلى ناحية الوجود على أثر وجود عللها بسبب العلة تتخلص نهائيا من صفة الفقر الذاتي ومن خصلة الإمكان الذاتي فتنقلب إلى موجودات غنية، لا تحتاج إلى علة؟

قال أحد المتسابقين: لا.. يستحيل ذلك، لأنه لا يمكن أن ينقلب ما هو فقير بالذات إلى غني بالذات، إنما المقصود هو أن الظاهرة تلبس حلة الوجود مع كونها متصفة بالفقر والإمكان الذاتيين دون أن تفقد هذه الصفة حتى بعد ارتدائها حلة الوجود.

قال آخر: ولأجل هذا الإمكان والفقر الذاتيين يكون الاحتياج إلى العلة احتياجا أبديا وحالة دائمية لا تفارق طبيعة الأشياء، بحيث لو انقطع الارتباط بين العلة والمعلول لحظة واحدة لم يبق للظاهرة أي وجود.. بل عادت خبرا بعد أثر كما يقول المثل السائر.

قال المعلم: فهلا قربتم هذا بأمثلة توضحه.

قال أحد المتسابقين: لنتصور قصرا فخما غارقا في أضواء المصابيح المتعددة المتنوعة.. فعند ما يرى سطحي التفكير هذا المشهد يظن أن هذا النور نابع من القصر نفسه.. أي أن طبيعة المصابيح مضيئة بنفسها، بينما لو تفحص جيدا لرأى أن هذا النور وهذه الأضواء تتعلق بمولد الكهرباء، بحيث لو انقطع الارتباط بين المصابيح والمولد الكهربائي لحظة واحدة لغرق القصر بأسره في الظلام، ولهذا فلابد أن يستمر المولد الكهربائي في إمداد

القرآن والحجج البالغة (154)

القصر بالطاقة والتيار الكهربائي حتى يبقى ذلك القصر مضاء سابحا في الأنوار.

قال آخر: ومثل ذلك لنتصور أرضا مملحة تحت أشعة الشمس، ونحن نريد أن تبقى رطبة.. ففي هذه الصورة لابد أن تتوالى قطرات الماء عليها فتسقط القطرة ثم تليها القطرة الثانية قبل أن تجف الأولى.. وهكذا حتى نحافظ على رطوبتها ونحول دون جفافها.. إذ في غير هذه الصورة تجف الأرض تحت أشعة الشمس.

قال آخر: هذان المثالان يوضحان لنا أن الفقير ذاتيا لابد من ارتباطه بعلة وجوده على الدوام وبصورة مستمرة ليحافظ على وجوده.. وذلك لأنه ليس من طبيعته: الوجود، وما ليس الوجود من طبيعته افتقر إلى علة موجدة واستمر افتقاره هذا ما دام الفقر الذاتي إلى الوجود ملازما له، وحاكما فيه.

قال المعلم: أحسنتم.. فهلا لخصتم لي نتائج ما ذكرتم، والتي باجتماعها يتم الدليل.

قال أحد المتسابقين: أول النتائج هي أن احتياج الظواهر إلى العلة هو مقتضى ذاتي لتلك الظواهر، وأمر ملازم لها، بحيث لا ينفك هذا الاحتياج عنها لا في حال تلبسها بالعدم، ولا في حال اتصافها بالوجود.

قال آخر: وثانيها أن حالة الشي ء المحتاج الممكن لن تتغير ولن تتبدل ما لم يساعده الغني في ذلك.

قال آخر: وثالثها أن جميع البشر، وجميع الظواهر الكونية فقيرة ومحتاجة ـ بطبيعتها ـ وأنها كانت تبقى محكومة بالعدم ما لم يتوفر علتها.. ولو كان الوجود عينا أو جزءا من ذاتها وطبيعتها لما عدمت ولا لحظة واحدة، ولو أن غنيا بذاته غير مفتقر في وجوده إلى غيره، لم يمد إليها يد العون ولم يفض عليها الوجود لبقيت خلف حجب العدم إلى الأبد.

قال آخر: وحيث إن الفقر والاحتياج من لوازم ذوات تلك الأشياء ـ لأجل ذلك ـ

القرآن والحجج البالغة (155)

يجب أن تبقى محكومة بالفقر في كل الحالات، حتى بعد وجودها.

قال آخر: بناء على ذلك، ومن ملاحظة حالة الموجودات الكونية، وملاحظة فقرها واحتياجها الذاتي وكونها غير قادرة على تغيير حالتها ووضعها وانتقالها من عالم العدم إلى صفحة الوجود دون الاعتماد على ركن أصيل غني، يمكن الاستدلال على وجود خالق غني أصيل هو الذي منح الوجود لهذه الأشياء.

قال آخر: وهو بالتالي واهب الكون والمكان والوجود والزمان لجميع الممكنات.

قال آخر: كما يمكن ـ بهذا الدليل ـ إثبات احتياج الممكنات ـ بجملتها ـ إليه في كل الأزمنة واللحظات وفي جميع الأحوال والأوقات، ابتداء من أول عمرها إلى آخره، احتياجا لازما لا ينقطع، وافتقارا دائما لا يزول ولا يرتفع.

المشهد الثاني

بعدما انتهى الشاهد من حديثه إلى هذا الموضع، قام بعضهم، وقال: دعوني أكمل أنا، فقد كنت رفيقا لكم في تلك الرحلة الجميلة.

أذن له أصحابه، فقال: بعد أن أجاب الفريق الأول عن كل الأسئلة التي سألها المعلم، توجه المعلم إلى الفريق الثاني، وقال: لقد سمعتم إلى ما ذكر رفاقكم عن دليل الإمكان، فكيف تطبقونه مع قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]

قال أحد المتسابقين من الفريق الثاني: ذلك واضح، فالآية الكريمة ركزت على الفقر الذاتي في الإنسان واحتياجه إلى العلة الموجدة، أي الله تعالى، إذ قال تعالى: ﴿أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر: 15] وصرح الله تعالى بأن الموجود الوحيد الذي يمكنه رفع هذا الاحتياج والفقر الإنساني هو الله تعالى شأنه، فهو الوحيد الذي يقدر على مساعدة البشر، وليس سواه بقادر

القرآن والحجج البالغة (156)

على ذلك لاتصاف ما سواه بصفة الإمكان.

قال آخر: على أن القرآن الكريم لا يعتبر الإنسان محتاجا وفقيرا إلى الله قبل الخلق فحسب، بل هو محكوم لهذا الفقر والحاجة حتى بعد أن يرتدي حلة الوجود.. وهذا هو ما تفيده جملة: ﴿أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر: 15]

قال آخر: فهي كما نلاحظ لم يؤخذ فيها قيد الزمان الماضي، فلم يقل مثلا: كنتم الفقراء إلى الله، بل بإطلاقها وعدم تقيدها بالزمان تشمل الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا يعني بكل وضوح أن الإنسان محتاج إلى الله سبحانه، وجودا وبقاء.

قال المعلم: ألم يرد في القرآن الكريم غير تلك الآية الكريمة للاستدلال بهذا الدليل؟

قال أحد المتسابقين: لقد ركز القرآن الكريم في مواضع متعددة على صفة الغنى في الذات الإلهية بحيث يمكن اعتبار ذلك إشارة ضمنية أو صريحة إلى هذا برهان الفقر والإمكان.

قال آخر (1): ومن ذلك الآيات التي وُصف الله تعالى فيها بالغنى، كقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ [النجم: 48]، فالإغناء يكون عن عطاء، والإقناء يكون عن منع.. والإقناء، ليس من القنية، كما يذكر الذين جعلوا الإقناء مرادفا للإغناء.. أي أنه سبحانه أعطى ما يغنى الأغنياء، ويمكنهم من اقتناء الضياع، والقصور، والمتاع.. أي أغنى، وأعطى ما فوق الغنى.. ذلك أن هذا المعنى لا يتفق مع نسق النظم الذي جاءت عليه الآيات الكريمة من مقابلة بين الشيء وضده: الضحك والبكاء، والموت والحياة، والذكر والأنثى.

قال آخر: ولذلك يرى فريقنا أن تفسيره بذلك ـ وإن كان محتملا من جهة اللغة ـ إلا

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (14/ 620)

القرآن والحجج البالغة (157)

أنه لخروج على هذا النسق أن يكون الغنى، مقابلا للاقتناء الذي هو بمعنى الغنى أيضا، وذلك من غير داعية تدعو للخروج على هذا النسق.

قال آخر: ولذلك نرى أن الإقناء من الله سبحانه وتعالى بمعنى المنع، أي أنه سبحانه أغنى أناسا، ومنع المال عن أناس، ولم يغنهم.

قال المعلم: فكيف يكون (أقنى) بمعنى صان وحفظ، ثم يكون الحفظ والصون فى مقابل الغنى، أي ضده، مع أن الحفظ والصون يوازن الغنى قدرا، ويرجحه؟

قال أحد المتسابقين (1): الجواب على هذا ـ والله أعلم ـ أن (أقنى) بمعنى صان وحفظ، يدل بظاهره على الفقر، الذي هو ضد الغنى، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حين أغنى كثيرا من أهل الضلال والكفر، قد أخلاهم لأنفسهم، فأطغاهم هذا المال، وزادهم ضلالا وكفرا، على حين (أقنى) سبحانه أولياءه والصالحين من عباده، وصانهم من فتنة المال وطغيانه، فلم يسلط عليهم الدنيا، ولم يبلهم بحبها.. ثم هم مع ذلك أغنياء بقلوبهم المأنوسة بنور الإيمان بالله، والطمع فى رحمته.

قال المعلم: فهل هناك آيات أخرى تشير إلى هذا.

قال أحد المتسابقين: أجل، ومنها ما قصه علينا من قصة موسى عليه السلام الذي اعتبر نفسه محتاجا إلى ما وهبه له ربه وما أنزل وينزل عليه ـ ومن ذلك وجوده ـ إذ يقول: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]

قال آخر (2): ذلك أنه لما رأى موسى عليه السلام الوضع المحرج للمرأتين أحس، وهو الطريد الشريد المبتلى بغربتين: الغربة عن الوطن، وغربة الفقر، أحس من أعماق

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (14/ 621)

(2) () منية الطالبين: 20/ 375.

القرآن والحجج البالغة (158)

ضميره بوجوب مساعدتهما فقام فسقى لهما، ثم انصرف إلى ظل شجرة واستراح إليها من شدة الحر، وأدركه جوع شديد فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]

قال آخر: وبما أن الفقر ضمن فيه معنى الحاجة فيكون معناه: إني محتاج لما أنزلت إلي من خير في السابق، فكما أوليتني من نعم في السابق فالآن أنا بحاجة إليها، ومن المعلوم أن حاجته في هذا الوقت هو المطعم والمسكن والزوجة التي يسكن إليها.. فصار دعاؤه بمنزلة الشكر، وفي الوقت نفسه دعاء لما يحتاج إليه.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد وصف الله ذاته في تسعة عشر موضعا آخر بأنه الغني، إذ يقول: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ [محمد: 38]

قال آخر: وهذه الآية الكريمة يمكن أن تكون ناظرة إلى برهان الإمكان، لأن التركيز في هذه الآية واقع ـ كما نرى ـ على الفقر والاحتياج الكائنين في أبناء البشر والملازمين للكيان الإنساني حتى بعد وجوده، ملازمة الظل للشاخص.

قال آخر: إن الفقر والاحتياج عين الإمكان أو ملازم له، لأن الممكن يفقد ـ بطبيعته ـ الوجود، والعدم، إذا قيس بواجب الوجود وممتنع الوجود، ولذا فالممكن في حد ذاته مفتقر في اتصافه بإحدى الحالتين ـ أعني: الوجود والعدم ـ إلى العلة التي توجده، أو تعدمه.

قال آخر: فعندما نقول: الإنسان ممكن الوجود فكأننا نقول: الإنسان فاقد ـ في مقام التصور ـ للوجود ومحتاج للتلبس بالوجود والاتصاف به إلى غني يأتي به ويهب له الوجود.

قال آخر: لهذا يمكن القول بأن أساس الاستدلال في هذه الآية هو برهان الإمكان.

4. برهان الحاجة

بعدما انتهى الشاهد من حديثه، قام آخر، وقال: ائذنوا لي أن أتحدث أنا، لأذكر

القرآن والحجج البالغة (159)

لتلميذ القرآن الكريم رحلتنا الإيمان.

أذنوا له في ذلك، فقال: بعد أن سمعنا ما جرى في تلك المسابقة من الأحاديث التي ذكرها رفاقي، وبعد أسئلة أخرى سألها المعلم لكلا الفريقين، لم نشأ أن نذكرها لك لعدم صلتها بما جئتنا من أجله، التفت إلينا المعلم، وقال: حتى لو كانت هذه الحجج في غاية القوة والمتانة إلا أنكم مع ذلك في حل من طلب المزيد، فلله تعالى من الحجج والطرائق ما يجاوز أعداد كل الخلائق.

طلبنا منه المزيد، فطلب منا أن نسير معه إلى بعض البساتين، حيث كان الفلاحون يسقون أراضيهم، وهناك رأينا الأرض جدباء تمتص كل قطرة ماء تتنزل علينا، فطلب منا المعلم أن نعينهم في السقي.

وبعد أن انتهينا، اجتمعنا في مجلس بين تلك البساتين مع الفلاحين، والذين كنا نتوهم أنهم أميون بسطاء، لا يعلمون من الدنيا غير سقي أراضيهم وفلاحتها، لكنا وجدنا عندهم من العلم والعقل ما لم يكن يخطر على بالنا.

قال لهم المعلم سائلا أو ممتحنا: حدثوني عن الأسرار التي تحويها إليها الأسئلة الواردة في قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الطور: 35 ـ 36]

قال أحد الفلاحين (1): تذكر الآيتان الكريمتان أن هؤلاء الذين يقفون موقف التحدي لله ورسوله، وهم المخلوقون الذين كانوا عدما، كيف وجدوا؟.. هل كان وجودهم مجرد صدفة أنتجتها حركة الوجود؟.. وكيف يمكن لموجود لا يملك في ذاته ما

__________

(1) () من وحي القرآن (21/ 244)

القرآن والحجج البالغة (160)

يحتم وجوده، أن يوجد بذاته؟.. فكيف خلقوا من غير شيء؟.. أم هم الخالقون الذين خلقوا أنفسهم، وكيف يخلق الإنسان نفسه من العدم؟

قال آخر: أم أنهم هم الذين خلقوا السماوات والأرض حتى يقفوا هذا الموقف المتحدي الذي يوحي باستعراض القوة أمام الله، وكيف تعقل مثل هذه الفرضية التي يعرفون عدم صدقها في واقعهم الحياتي؟

قال آخر: وقد ختم الله هذه الأسئلة بقوله: ﴿بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الطور: 36] أي أن هؤلاء الجاحدين لا يأخذون بأسباب اليقين لما يعيشونه من أجواء اللامبالاة التي تمنعهم من تركيز أفكارهم في دائرة التوحيد، وتدفعهم إلى اتخاذ مواقف غوغائية وإطلاق كلمات لا معنى لها، كما أنهم لا يملكون قدرات أخرى تمكنهم من تأدية الدور الذي يريدون أن يلعبوه في حياة الناس، وليؤكدوا قوتهم من خلاله.

قال المعلم: أحسنتم.. لكن ليتكم وضحتم أكثر.

قال آخر (1): في الآيتين الكريمتين ذكر للاحتمالات المرتبطة بكيفية وجود الكائنات وسببها.. وأولها أن تكون الكائنات البشرية قد وجدت بلا علة ـ سواء كانت علة مادية كالأب والأم والخلية التناسلية، أو علة مجردة عن المادة كالله تعالى ـ بمعنى أن تكون قد وجدت مصادفة، ومن تلقاء نفسها.. وقد طرح هذا السؤال في قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ [الطور: 35]

قال آخر: وثانيها أن تكون هي الخالقة لنفسها وهي الصانعة لذاتها والموجدة لها، وإلى هذا الاحتمال أشار قوله تعالى: ﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35]

__________

(1) () مفاهيم القرآن: 1/ 159.

القرآن والحجج البالغة (161)

قال آخر: وعلى فرض أنها هي الموجدة لنفسها فإنه يبقى سؤال آخر في هذا المجال وهو: من خلق السماوات والأرض؟.. وهل يمكن القول بأن هؤلاء الأفراد هم الذين خلقوا السماوات والأرض؟.. وإلى هذا السؤال أشار قوله تعالى: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الطور: 36]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى احتمالا آخر يورده المشركون، وهو أن يكون لهم إله غير الله، قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾ [الطور: 43]

قال آخر: هذه هي الاحتمالات التي طرحها القرآن الكريم ليفكر الناس فيها، ثم يهتدوا إلى الله الواحد، وهي كلها باطلة وغير صحيحة في منطق الوجدان الحي، والضمائر اليقظة.

قال المعلم: فكيف تثبتون بطلان هذه الاحتمالات؟

قال أحد الفلاحين (1): أما بطلان الاحتمال الأول ففطري، لبداهة أن لكل ظاهرة وحادث موجدا ومحدثا لدلالة الفطرة السليمة، والضمير اليقظ والتجربة المتكررة، والبرهان العقلي عليه، بحيث لو ادعى أحد إمكان وقوع معلول دون علة لسخر منه العقلاء أجمعون.. وبرهان الإمكان يؤيد هذه الآية.

قال آخر: وأما بطلان الاحتمال الثاني فهو كذلك بديهي كالأول لبداهة أن كل ظاهرة إذا كانت موجدة لنفسها كان معنى ذلك رجوع الاحتمال الثاني إلى الأول، وهو (تواجد المعلول بلا علة موجدة له خارجة عن ذاته) وقد عرفنا فساده.

قال آخر: وخلاصة القول: إن الشي ء إذا كان غير موجود بالذات ـ أي لم يكن وجوده

__________

(1) () مفاهيم القرآن: 1/ 160.

القرآن والحجج البالغة (162)

نابعا من ذاته ـ فهو إذن حادث، وهو إذن يحتاج ـ بحكم ما قلناه في الاحتمال الأول ـ إلى محدث.

قال آخر: وأما لو كان وجود الشي ء نابعا من ذاته فهو ليس إذن بحادث، بل هو أزلي أبدي في حين أن الملحدين مذعنون بأن هذه الأشياء ليست سوى أمور حادثة مسبوقة بالعدم.

قال آخر: ذلك أن خلق الشي ء لنفسه يستلزم الدور الواضح بطلانه.. لأن معنى خلق الشي ء لنفسه هو أن يكون الشي ء موجودا قبل ذلك ليتسنى له خلق نفسه.. ومعنى هذا: توقف الشي ء وتقدمه على نفسه، وهو معنى الدور البديهي البطلان.

قال آخر: وأما الاحتمال الثالث فهو كسابقيه في التهافت والبطلان، إذ ليس هنا من يدعي أن السماوات والأرض مخلوقة لأولئك البشر وأن البشر هم خالقوها وموجدوها فيتعين أن يكون لها خالق وهو الذي يسمى بالله.

قال آخر: ويمكن أن نستنتج من بطلان الاحتمالات الثلاثة أن الإنسان حيث لا يمكن أن يوجد بدون علة تعطيه الوجود، كما لا يمكن أن يكون علة لوجود نفسه، ولا يمكن أن يكون هو خالق السماوات والأرض، لذلك لابد أن يكون للبشر والسماوات والأرض من خالق.

قال المعلم: فما هي البراهين التي اعتمدتها الآيتان الكريمتان؟

قال أحد الفلاحين (1): أما قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ [الطور: 35]، فهو يشير إلى (برهان الإمكان)، أي هل خلق منكرو وجود الله من تلقاء أنفسهم، وعلى نحو

__________

(1) () مفاهيم القرآن: 1/ 162.

القرآن والحجج البالغة (163)

المصادفة.. دون علة؟.. والجواب هو النفي طبعا، لأن تلك الموجودات أشياء ممكنة الوجود، وكل ممكن مرتبط في وجوده بعلة ومحتاج إليها فيه.

قال آخر: أما قوله تعالى: ﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35]) والذي جرى الحديث فيه عن خلق الشي ء لنفسه، فإن برهان (بطلان الدور) هو أساسه، لأن منكري الله ـ بحكم أنهم علة لوجود أنفسهم ـ يجب أن يكونوا موجودين متحققين قبل أنفسهم، وهذا هو تقدم الشي ء على نفسه، وهو محال، لأنه دور.

قال آخر: وأما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الطور: 36]، فقد اُستدل فيها على وجود الله بـ (برهان النظم) أو ببرهان آخر يقرب منه كـ (دلالة المصنوع على صانعه)، و(الأثر على مؤثره)

قال آخر: فإذا كان أساس البرهان هو نظام السماوات والأرض فالآية حينئذ تكون ناظرة إلى (برهان النظم)، وإذا كان أساسه هو (دلالة الآثر على المؤثر)، فالآية حينئذ ناظرة إلى برهان آخر.. ولعلها ناظرة إلى (برهان الإمكان) أو (برهان الحدوث)

قال المعلم: إن إبطال هذه الاحتمالات الثلاثة لا يفيد أكثر من إثبات احتياج البشر والسماوات والأرض إلى موجد وخالق.. وأما أن موجد الجميع هو الله الواحد، فلا يستفاد من إبطال هذه الاحتمالات أبدا، ولا يثبت من خلال ذلك.. بل وربما يمكن التصور بأن خالق البشر غير خالق السماوات والأرض، أو يمكن أن يكون خالق العالم والبشر غير مدبر أمورهما فما هو وجه دلالة إبطال الاحتمالات المذكورة على وحدانية الخالق والمدبر؟

قال أحد الفلاحين (1): لقد رد الله تعالى لإبطال هذا التصور وهذا الاحتمال عقب

__________

(1) () مفاهيم القرآن: 1/ 163.

القرآن والحجج البالغة (164)

تينك الآيتين الكريمتين، فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الطور: 43]

قال آخر: وهي تشير إلى التوحيد في الخلق والتدبير، وقد أبطل هذا التصور وهذا الاحتمال ـ احتمال تعدد خالق البشر والكون ومدبرهما ـ أن الخالق والمدبر ـ بحكم التوحيد في الخلق والتدبير ـ ليسا أكثر من واحد.

قال آخر: ومن هذا البيان يتضح أن المقصود من الإله في الآية الكريمة ليس هو مطلق المعبود المتخذ بعنوان الشفيع والمقرب.. بل المراد به أمر أعلى من ذلك، وهو من يقدر على الخلق والإيجاد والتدبير.

قال آخر: وبذلك يكون معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾ [الطور: 43] أي هل لهم خالق ومدبر غير الله؟.. وبهذا لم يبق القرآن مجالا لتصور تعدد خالق البشر والكون ومدبرهما.

قال المعلم: فكيف تجيبون من يذكر لكم أن المخاطبين في هذه الآيات الكريمة هم مشركو مكة.. وهم لم يكونوا معتقدين بوجود الله فقط، وإنما كانوا ـ فوق ذلك ـ يعتبرونه الخالق الوحيد للكون والإنسان جميعا.. وفي هذه الصورة ما هو الداعي لطرح هذه الاحتمالات ثم إبطالها والقوم مؤمنون بالله أساسا، وجودا، ووحدانية في الخالقية والمدبرية؟.. وهل ذنب هؤلاء ليس سوى إعراضهم عن عبادة الله وحده، وعبادة الأصنام التي ظنوا أنها شفعاء لا أكثر؟

قال أحد الفلاحين: يمكن الإجابة على هذا الإشكال بأن القرآن الكريم يحاول بطرح هذه التساؤلات أخذ الاعتراف من ضمائرهم وتحريك ما هو كامن في فطرتهم لأجل إيقاظها وتنبيهها، كمقدمة لأخذ نتيجة أخرى.

قال آخر: إن القرآن الكريم يسعى من خلال الاستفادة من المقدمة المسلم بها التي

القرآن والحجج البالغة (165)

تنطوي عليها ضمائر القوم ـ وهي اعترافهم بوجود الله الواحد ـ أن يمهد لدعوتهم إلى عبادة الله الواحد، وهدايتهم إلى توحيد العبادة.

قال آخر: ذلك أنه بأخذ هذا الاعتراف منهم يوجه القرآن الكريم ضربة قاضية إلى مسلكهم المنحرف في العبادة، لأنه إذا كان الخالق والمدبر واحدا لا أكثر.. وإذا كان هذا الخالق والمدبر هو الوحيد الذي استمدت منه كل الموجودات من إنسان وغيره وجودها وتدبيرها، فإذن لابد من عبادته وحده، والكف عن عبادة غيره من الموجودات الحقيرة الذليلة المحتاجة هي إلى ذلك الخالق المدبر العظيم.

قال آخر: وبهذا يكون القرآن الكريم قد هدم بنيان الشرك العبادي ونسف قواعده وأركانه مع الاستفادة من قضية وجدانية مفيدة عندهم.

قال آخر: وفي الحقيقة، فإن القرآن الكريم يكون ـ في الوقت الذي عرف العالم فيه على منطق التوحيد ـ قد أثبت ضرورة التوحيد العبادي، الذي كان مشكلة مخاطبي القرآن في ذلك العصر أيضا.

قال آخر: ومع ملاحظة هذا النوع من الاستدلال الموضوعي الرصين نكتشف مدى تمشي القرآن مع جميع العصور وجميع الأجيال رغم أنه نزل ليعالج مشاكل موجودة في عصر نزوله ضمنا.

5. برهان الصديقين

بعدما انتهى الشاهد من حديثه، قام آخر، وقال: ائذنوا لي أن أتحدث أنا، لأذكر لتلميذ القرآن الكريم رحلتنا الإيمان.

أذنوا له في ذلك، فقال: بعد أن سمعت مع رفاقي كل تلك البراهين، آمن جميع

القرآن والحجج البالغة (166)

رفاقي، لكني من بينهم ترددت في ذلك، وقلت مخاطبا المعلم (1): أنا لا أؤمن بما تذكره العلوم الحديثة عن نشأة الكون، فأنا من مدرسة فلسفية ترى الكون ثابتا مستقرا منذ الأزل.. وترى أنه لا بداية له ولا نهاية.. ولذلك لا أرى حاجة لوجود إله.. لأن دوره هو إخراج الوجود من العدم.. وما دام الوجود خارجا بنفسه، بل لم يسبق له عدم، فإن الحاجة للإله منتفية.

ابتسم المعلم، وقال: فلنفرض أن ما تقوله صحيح.. ولنفرض أن الكون قديم.. وأزلي.. ولا بداية له.. فهل يعني ذلك عدم وجود إله؟

قلت: أجل.. فإن كان الكون قديما وأزليا.. فما الضرورة لوجود إله؟

قال: حتى لو كان الكون قديما وأزليا، فنحن لا نحتاج في إثبات الإله إلى أي وسائط.. فالله يدل بنفسه على نفسه؟

قلت: ألا ترى أن ذلك دور.. فكيف يدل بنفسه على نفسه؟

قال: ليس في ذلك أي دور.. سأشرح لك المسألة بطرق مختلفة.. وسأخاطبك باعتبارك فيلسوفا.. فلدينا نحن أيضا الكثير من الفلاسفة.. وسأبدأ لك بفيلسوف كبير عندنا نطلق عليه ابن سينا.

قلت: أعرفه جيدا.. إنه من كبار الفلاسفة الذين استفاد منهم قومي.

قال: لقد وضع هذا الفيلسوف الكبير برهانا حول هذا سماه [برهان الصديقين].. سماه بذلك لأنه لا يحتاج إلى أي وسائط.. ولذلك اعتبره أشرف البراهين.. لأنّ الأشياء والمخلوقات لم تأتِ فيه واسطة في الإثبات.

__________

(1) () لخصت هنا بتصرف بعض ما ذكرته في كتاب: الهاربون من جحيم الإلحاد، ص 91.

القرآن والحجج البالغة (167)

قلت: فكيف قرر هذا البرهان؟

قال: لقد انطلق فيه من ظاهرة متفق عليها بين البشر جميعا، وهي ظاهرة الإمكان.. فمن تعقّل معنى الإمكان، ونظر إلى هذا العالَم فسوف يراه موجودًا ممكنًا.. فكل ما فيه يدل على ذلك.. كل ما فيه يدل على أن الوجود ليس من ذاتيّاته.. وأنّه لذلك يحتاج إلى علة خارجية توفر له هذا الوجود.. وهكذا ننتقل إلى صفة أساسية من صفات موجِد هذا العالم، وهي صفة وجوب الوجود التي تعني ذاتية وجوده، وعدم إمكان تعقّله دون وجود.

قلت: هلا وضحت لي أكثر..

قال: لتفهم هذا البرهان تحتاج إلى التوغل قليلا وراء الظواهر الطبيعية والحيثيات المحسوسة للأشياء.. فهذا ـ ورغم بداهته ـ لكن أذهاننا لم تعتد عليه.. فغالبا ما نتعرف إلى الأشياء بواسطة حيثياتها وخصائصها المحسوسة، ثم ننتقل إلى التعميم من خلال عملية انتزاع فكري نزيل فيها الحيثيات المفرقة بين الأشياء، ونركز على الحيثيات المشتركة.

قلت: ما تقوله صحيح.. ولذلك، فإننا في بدء الأمر نتعرف على الشخص بما له من حيثيات خاصة، كطوله وعرضه واسمه وعنوانه ونسبه وما شاكل ذلك.. لكننا لن نطلق عليه صفة الإنسانية إلا إذا قارناه بغيره من الأفراد الكثيرين، ولاحظنا جهة الاشتراك بينهم، وهي الناطقية والفكر والنمو والحركة، فنصل بعدها إلى معنى الإنسانية المشهور بين الفلاسفة وهو [الحيوان الناطق]

قال المعلم: أحسنت.. لكنا ـ في هذا البرهان ـ نتجاوز مثل هذه الحركة الفكرية التحليلية، لندخل مباشرة إلى أصل وجود الأشياء.. وهذا يتطلب المزيد من التعميم.. أي يتطلب الاستمرار في الحركة الفكرية السابقة لننظر إلى ما هو مشترك عام بين جميع الكائنات.

القرآن والحجج البالغة (168)

قلت: لم أفهم.

قال: عند النظر في ذلك المشترك نجد أنه الوجود.. أو هو ذوات الماهيات بمعزل عن ماهياتها.. وعند التأمل في هذا المشترك الذي يجمع بينها، وهو الوجود نجد أنه ـ بحسب الواقع والتصور ـ غير واجب لها، بل هو ممكن..

قلت: كيف ذلك؟

قال: عند تعقلنا للإنسان أو لماهية الشجر مثلا، لا يخطر ببالنا ضرورة أن يكون مصداق الإنسانية أو الشجرية موجودا، بل نستطيع أن نتعقله دون أن نلتزم وجوده.. وهذا معنى الإمكان الذي هو من لوازم الماهيات..

قلت: أتعني أن الإمكان يعني تساوي نسبة الوجود والعدم في عملية التعقل.. وأن الممكن هو الشيء الذي إذا تصورناه لا يوصلنا تصوره إلى ضرورة أن يكون موجودا، ولا أن يكون معدوما.

قال: أجل.. ذلك صحيح.. ونحن أمام هذه الظاهرة التي نتعقلها في كل العالم ومكوناته، ونتفق عليها، يتبين لنا أن إمكان العالم وإمكان أي موجود هو دليل واضح على وجوب وجود خالقه وعلته.. أو بعبارة أخرى: إن هذه الظاهرة الكونية هي أكبر دليل على ضرورة كون وجود العلة الخالقة أمرا حتميا وواجبا، ولهذا يوصف الخالق الأول بأنه واجب الوجود.

التفت إلي، وقال: أرى أنك ـ باعتبارك فيلسوفا ـ لن تحتاج إلى جهد كبير لفهم هذا التقرير المبسط.. ذلك أنه لا يعتمد إلا على التعقل.. وكل من تمكن ذهنه من هذا التجريد، سيجد سهولة للوصول إلى النتيجة من غير أي مقدمات.

قلت: في هذه الحالة لن نحتاج إلى إثبات حدوث العالم.

القرآن والحجج البالغة (169)

قال: أجل.. لن نحتاج إلى أي شيء آخر.. فيكفي أن يكون العالم بكل تفاصيله ممكنا لنثبت افتقاره إلى صاحب الوجود الحقيقي.. إن مثل ذلك مثل الظل.. فيكفي أن يكون ظلا حتى نثبت أن هناك ذاتا تسببت في وجوده.. فيستحيل أن يكون الشيء ظلا من غير وجود ذات تسببت في ذلك.

بعد أن سمعت هذا، واقتنعت به، وشكرت المعلم عليه، طلب مني المعلم أن أسير معه إلى بعض أهل ذلك الحي، وقال لي: سنذهب إلى شخص يشبهك تماما، هو أيضا كان مهتما بالفلسفة، وقد أدته إلى الإلحاد كما أدته، لكنه ـ وبعد سماعه الأدلة الكثير ـ لم يعجبه منها إلا برهان الصديقين.

سرت معه إليه، فرحب بنا كثيرا.. ثم قال لي مخاطبا، وكأن لي بها معرفة سابقة: إن الفيلسوف لا يكتفي بالتقرير والتقريرين.. فهو لا يخاطب العقل والعقلين.. ولذلك اسمع من الجميع، فعسى أن تجد من التعابير ما يرفع عنك الحجب.. هذا ما حصل لي بالضبط إلى أن من الله علي بنعمة الهداية إليه.

قلت: علمت أنك اهتديت إلى الله من خلال برهان الصديقين؛ فلم اهتديت به دون غيره من البراهين؟

قال: لأني أحب أن أكون من الصديقين.. ولأني لا أحب أن أضع بين عقلي وبين الله أي واسطة.. ولذلك وجدت هذا البرهان أشرف الطرق لمعرفة الله تعالى، لأنه يعتمد منذ خطواته الأولى على حقيقة واجب الوجود، في حين تبدأ البراهين الأخرى من المخلوقات وتجعلها واسطة لإثبات وجود الله، والمخلوقات مشوبة بالعدم والنقص.. بالإضافة إلى ذلك وجدته أبسط البراهين وأسهلها.. بالإضافة إلى ذلك وجدت أنه البرهان الوحيد الذي يكفي لإثبات ذات الحق، وتوحيد الذات، ومعرفة صفات الحق، وتوحيد الصفات،

القرآن والحجج البالغة (170)

ومعرفة أفعال الحق، وتوحيد الأفعال، خلافاً لكل لبراهين الأخرى.. بالإضافة إلى ذلك كله وجدت في بعض التقريرات أنني لا حاجة لي عند تقريره لإبطال الدور والتسلسل.

قلت: هل يمكن هذا.. هل يمكن أن تثبت وجود الله من غير حاجة لإبطال الدور والتسلسل؟

قال: أجل.. سأشرح لك ذلك بكل ما أستطيع من تفاصيل.. أنت تعلم أن البراهين التي تثبت وجود الله إما أن تجعل المخلوقات واسطة في الاستدلال، لتستعين بها في إثبات وجوده، وهي التي يطلق عليها البراهين الإنية.. وهي التي تسلك الطريق من المعلول إلى العلة.. وإما ألا تحتاج إلى ذلك.. وهي التي يطلق عليها البراهين اللميّة (1).. وهي التي تصل إلى العلة بواسطة العلة ذاتها.. فلا تجعل من المخلوقات واسطة لإثبات وجود الله.. وإنما تصل إلى الله عن طريق حقيقة الوجود ومفهوم الوجود.. أو بعبارة أخرى تستدل بذات الحق على ذات الحق.

قلت: فهمت هذا.. ولكني أنتظر منك أن تشرح لي ما ذكرت من أن الاستيعاب الجيد لهذا البرهان، يجعلنا لا نحتاج لإبطال الدور والتسلسل.

__________

(1) () البرهان اللمِيُّ هو: ما يكون الحد الأوسط فيه علةً لثبوت النتيجة في الذهن والخارج. والبرهان الإنِّيُّ هو: ما يكون الحد الأوسط فيه علةً لثبوت النتيجة فقط. ومن الأمثلة على البرهان اللمِيُّ قولنا: هذه الحديدة ارتفعت حرارتها. وكل حديدة ارتفعت حرارتها فهي متمددة. فهذه الحديدة إذن متمددة. فالحد الأوسط في هذا البرهان هو ارتفاع الحرارة، وهو سبب وعلة إثبات النتيجة. فهذا برهان لمي مأخوذ من كلمة [لم] الدالة على السببية، لأن الحد الأوسط هو علة لإثبات النتيجة في الذهن، وهو بنفس الوقت علة حقيقية لثبوت التمدد في الخارج. ومن الأمثلة على البرهان الإنِّيُّ قولنا: هذه الحديدة متمددة. وكل حديدة متمددة مرتفعةُ الحرارة. فهذه الحديدة مرتفعة الحرارة. فإن الحد الأوسط هنا وهو التمدد علة لإثبات النتيجة، ولكنه ليس علة ارتفاع الحرارة بل بالعكس هو معلول وعلته هي ارتفاع الحرارة. فهذا برهان إنِّي منسوب لكلمة إنّ التي تدل في اللغة على التحقيق والثبوت.

القرآن والحجج البالغة (171)

قال: أجل.. أنت تدفعني الآن لأذكر لك تقريرا لهذا البرهان أورده بعض حكمائنا الكبار.. إنه من يطلق عليه [الملا صدرا] أو صدر المتألهين.. وهو صاحب [الحكمة المتعالية].. وقد أقام تقريره على أساس الأصول والقواعد التي تقوم عليها.. ولتفهم ما أورده سأذكر لك أربع قواعد يقوم عليها تقريره لهذا البرهان.

قلت: فما القاعدة الأولى؟

قال: القاعدة الأولى هي قوله بأصالة الوجود، واعتبارية الماهية.

قلت: ما يعني بذلك؟

قال: من خلال تأملنا في كل موجود في العالم الخارجي نجد أنه لا يملك أكثر من واقعية واحدة.. أي أن الذهن هو الذي ينتزع مفهومي الوجود والماهية من الموجود.

قلت: هلا وضحت لي ذلك.

قال: أنت ترى ـ مثلا ـ إنسانا معينا، أو شجرة معينة ليس لهما مسميان خارجيان.. اسم أحدهما الوجود.. واسم الآخر الماهية.. ولكننا وبالتحليل الذهني نرى أن ماهية أي شيء وخصوصيته تختلف عن أصل وجوده.

قلت: أجل.. فماهية الشخص أو الشجرة تأتي إلى الذهن كما هي عليه في الخارج، لكن وجوده مختلف ما بين الخارج والذهن، فهو في الخارج غيره في الذهن.

قال: أحسنت.. وإذ لم يكن هناك وجود، فلا يمكن أن تتحقق أي ماهية للمخلوقات.. فالوجود هو الذي يخرج ماهية الشجرة أو الإنسان من مرحلة العدم إلى ساحة الوجود، وإلا فإن ماهية الأشياء ليس لها أي نوع تعلق في أن تكون أو لا تكون.. لأنها ـ أي الماهية ـ من حيث هي ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة.. وكون الشيء لا يتحقق إلا بالوجود، وبانتزاع الوجود منه يصير إلى العدم والفناء، يدل عن كون الماهية

القرآن والحجج البالغة (172)

ليست أصيلة.. بل الأصيل هو الوجود.

قلت: وعيت هذا.. فما القاعدة الثانية؟

قال: القاعدة الثانية هي أن [الوجود مفهوم مشكك]

قلت: ما تعني بذلك؟

قال: عند التأمل في الوجود نفسه نجد أنه حقيقة واحدة.. ولكن مع ذلك لها مراتب في الشدة والضعف.. فجميع الموجودات ابتداء من واجب الوجود وحتى المادة الأولى التي تشكل منها الكون تتمتع بهذه الحقيقة بحسب مرتبتها.. أي أن الجميع يشترك في سنخ الوجود، ولكن التمايز يكون بالمرتبة.

قلت: وعيت هذا فما القاعدة الثالثة؟

قال: القاعدة الثالثة هي [بساطة الوجود]

قلت: فما تعني؟

قال: عند التأمل في الوجود نفسه نجد أنه حقيقة بسيطة، فليس له جزء، ولا هو جزء لشيء آخر.. لأنه لا يوجد شيء غير الوجود.

قلت: هذا صحيح.. وهي حقيقة بديهية.. فما القاعدة الرابعة؟

قال: القاعدة الرابعة هي [المعلول هو عين الربط والحاجة للعلة]

قلت: فما تعني؟

قال: عند التأمل في علاقة المعلول بالعلة نجد أنها علاقة الفقر.. وبما أن المعلول يأخذ كامل وجوده وهويته من العلة، فإن وجوده وجود ربطي، وليس له أي وجود بدون العلة.. وبذلك يكون ارتباطه بالعلة ارتباطا مطلقا، ولا يمكن أن ننتظر من ذات المعلول إلا المحدودية والاحتياج والفقر.

القرآن والحجج البالغة (173)

قلت: وعيت هذا.. فكيف قرر الملا صدرا هذا البرهان بناء على هذه القواعد؟

قال: لقد ذكر أنه ما دام الوجود حقيقة عينية واحدة بسيطة لا اختلاف بين أفرادها لذاتها إلا بالكمال والنقص، والشدة والضعف، ونحو ذلك.. فإن الوجود إذن إما أن يكون مستغنيا عن غيره، وإما مفتقرا لذاته إلى غيره.

قلت: هذا تقسيم صحيح.

قال: أما الأول، وهو المستغني عن غيره، فهو واجب الوجود.. وهو صرف الوجود الذي لا أتم منه، ولا يشوبه عدم ولا نقص.. وأما الثاني، فهو ما سواه من أفعاله وآثاره، ولا قوام لما سواه إلا بواجب الوجود.

شكرته على هذا التقرير الجديد الذي أكد لي التقرير السابق، لكنه قال لي: لم أنت مستعجل.. سأقرر لك هذا البرهان على منهج [التقدم والتأخر بين العلة والمعلول].. وهو منهج استعمله أبو نصر الفارابي، وقد أقامه ليثبت امتناع تسلسل العلل.. وهو يدل أيضا على إثبات واجب الوجود.

قلت: فكيف برهن على ذلك؟

قال: من المتفق عليه بين العقلاء أن العلة ذات تقدم وجودي على المعلول.. لا تقدما زمانيا.. فالمعلول رغم اقترانه مع العلة، ليس له تقدم وتأخر من هذه الناحية في البين، لكنه لاحق للعلة في المرتبة والمرحلة.. وهو ـ بالإضافة إلى ذلك ـ مشروط بوجود العلة، خلافا للعلة فإنها ليست مشروطة بوجود المعلول.. ولذلك يصح أن نقول: (ما لم تتوفر العلة على الوجود فهو لا يتوفر على الوجود).. ولكن لا يصح أن نقول بشأن العلة (ما لم يتوفر المعلول على الوجود فهي لا تتوفر على الوجوب)

قلت: فهلا وضحت لي هذا.

القرآن والحجج البالغة (174)

قال: سأضرب لك مثالا على ذلك يقربه لك.. أرأيت لو أن مجموعة من الجنود تريد القيام بعمل، كالهجوم على العدو مثلا، لكن أيا من أفراد هذه الجماعة غير مستعد لأن يكون هو المتقدم في عملية الهجوم، بل غير مستعد لأن يكون في خط واحد مع الآخرين.. فإذا ذهبنا إلى الفرد الثاني يقول ما قاله الأول بالنسبة إلى الثالث.. والثالث يقول ذلك بالنسبة إلى الرابع وهكذا.. فلا نجد فردا واحدا يوافق على الهجوم بلا شرط، فهل يمكن في مثل هذه الحال أن يحصل الهجوم؟

قلت: لاشك أنه لن يحصل.. لأن كل الهجومات مشروطة بهجوم واحد، وليس لدينا هجوم غير مشروط.. والهجومات المشروطة التي تشكل سلسلة لا تتوفر على الوجود من دون تحقق الشرط، مما يعني عدم وقوع أي هجوم.

قال: فهكذا إذا فرضنا سلسلة غير متناهية من العلل والمعلولات، فبحكم كونها بكل آحادها ممكنة الوجود، فسوف يكون وجود كل واحد من هذه السلسلة مشروطا بوجود الآخر، وهذا الآخر بدوره مشروط بفرد آخر، وجميع آحاد هذه السلسلة كأنها تقول: (ما لم يتوفر فرد آخر على الوجود فسوف لا أتوفر على الوجود).. وحيث إن لسان الحال هذا هو لسان حال الجميع بلا استثناء، إذا فجميع هذه الأفراد مشروطة بشرط لا وجود له، إذا فسوف لا يتوفر أي منها على الوجود.. لكن بما أن هناك موجودات قائمة في عالم الوجود.. إذا فمن المحتم وجود واجب بالذات، وعلة غير معلولة، وشرط غير مشروط في نظام الوجود، حيث كان هو الذي أوجد سائر الموجودات الأخرى.

شكرته على هذا التقرير الجديد الذي أكد لي التقارير السابقة، لكنه قال لي: لم أنت مستعجل.. سأقرر لك هذا البرهان على منهج العلامة الطباطبائي.

قلت: يسرني ذلك.. فكل تقرير جديدا يزيح حجبا جديدة.

القرآن والحجج البالغة (175)

قال: أنت تعلم أنه لا يوجد لدينا أدنى شك في واقعية الوجود، ولا في ثبوته.. فهي واقعية لا تقبل النفي ولا الفناء عند العقلاء ما عدا السفسطائية..

قلت: الحمد لله.. أنا لست سفسطائيا، وأنا مقر بواقعية الوجود، وأنها واقعية دون قيد أو شرط.

قال: بما أنك صرحت بذلك.. فإن عليك أيضا أن تصرح أن هذا العالم وأجزاءه ليس كذلك، فهو يقبل النفي.

قلت: أصرح بذلك أيضا.. فهو ليس لازم الوجود.

قال: إن هذا يدعوك لأن تصرح أيضا بأن هذا العالم ـ ما دام موجودا ـ فهو يستند إلى واقعية لا تقبل النفي، وبوجودها تكون له واقعية، ولو لم تكن هذه الواقعية موجودة لما وجد هذا العالم وأجزاؤه.

سكت، فقال: لا يصح أن تفهمني خطأ.. فتعتبر أن هذه الواقعية متحدة مع الأشياء أو أنها تحل فيها، أو أن أجزاء من هذه الواقعية قد انفصلت واتصلت بالأشياء.. إنها فقط مثل النور الذي تصبح به الأجسام المظلمة أجساما مضيئة، ومن دونه تبقى مظلمة.

قلت: وعيت هذا.. أنت تريد أن تصل بي إلى أن أصل الواقعية الواجب الأزلي، وبذلك تكون الواقعيات القابلة للزوال والموجودات المحدودة مرتبطة بهذه الواقعية غير القابلة للزوال ومعتمدة عليها.

قال: ذلك صحيح.. فتأمل فيه.. ودع عنك تلك الوسائط الممتلئة بالشبهات، والتي حجبتك عن الوصول للحقيقة.. فـ (شتان بين من يستدل به، أو يستدل عليه، المستدل به عرف الحق لأهله، فأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه)

القرآن والحجج البالغة (176)

بعد أن سمعت كل هذه التقريرات من ذلك الفيلسوف المؤمن، شعرت بقلبي عامرا بالإيمان إلى الدرجة التي استغربت فيها أن أكون ملحدا مع وضوح كل الحجج التي تدل على الله.

وقد سألت حينها المعلم قائلا: لقد تعودنا منك أنا وأصحابي ألا نسمع دليلا إلا ومعه ما يدل عليه من القرآن الكريم.. فهل ترك القرآن الكريم الإشارة إليه؟

قال: معاذ الله.. كيف يترك الإشارة إلى دليل الصديقين، وهو كتاب الصديقين.

قلت: فهلا ذكرت لي من القرآن الكريم ما يدل عليه.

قال: من أبلغ ما يدل عليه وأوضحه قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]

قلت: فهلا فسرت لي معناها ودلالاتها على هذا النوع من البراهين.

قال (1): هذه الآية الكريمة جمعت كل أنواع البراهين.. وأولها آيات الآفاق، والتي تشمل خلق الشمس والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها، وخلق أنواع الأحياء والنباتات والجبال والبحار وما فيها من عجائب وأسرار لا تعد ولا تحصى، وما في عالم الأحياء من عجائب لا تنتهي.. كما تشير إلى الآيات النفسية، مثل خلق أجهزة جسم الإنسان، والنظام المحير الذي يتحكم بالمخ وحركات القلب المنتظمة والشرايين والعظام والخلايا، ثم أسرار الروح العجيبة.. ثم ذكرت دلالة الله على نفسه وشهادته عليها.. وهل هناك شهادة أفضل وأعظم من هذه التي كتبت بخط القدرة التكوينية على ناصية جميع الكائنات، على أوراق الشجر، في الأوراد والزهور، وبين طبقات المخ العجيبة، وعلى

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (15/ 444)

القرآن والحجج البالغة (177)

الأغشية الرقيقة للعين، وفي آفاق السماء وبواطن الأرض، وفي كل شيء من الوجود تجد أثرا يدل على الخالق، وشهادة تكوينية على وحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه.

قلت: وعيت هذا.. فهل هناك غيرها؟

قال: أجل.. قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور: 35]

قلت: فهلا وضحت لي وجه دلالتها.

قال (1): أنت تعلم أن من الطرق الهامة في تفهيم الحقائق المعقدة استعمال التشبيهات البليغة بغية تقريب الحقائق العلمية إلى الذهن بضرب الأمثلة الحسية.

قلت: أجل.. ذلك صحيح.

قال: وهنا وفي هذه الآية الكريمة استفيد من هذه الطريقة، وإن كانت الأمثلة بشأن الله تعالى ناقصة لعدم وجود مثيل لذاته.

قلت: أجل.. هذا صحيح، ولا يمكن لأحد أن يجادل فيه.. لكن ما وجه المثال، مع اعتقادنا بالتنزيه طبعا.

قال: لإدراك حقيقة هذا المثال لابد من التدبر في معنى النور وصفاته وخصائصه وبركاته.

قلت: لا ريب أن النور من أجمل الموجودات المادية وألطفها وأكثرها بركة، وتنتشر

__________

(1) () نفحات القرآن (3/ 58)

القرآن والحجج البالغة (178)

منه البركات والجمال في عالم المادة.. فنور الشمس منبع الحياة والسر في بقاء الموجودات الحية والعنصر الفاعل في نمو النبات والزهور وجميع الأحياء، والنور هو المصدر الأساس للطاقات، نظير حركة الرياح، وهطول الأمطار، والعنصر الأساس في وجود المحروقات ـ البترول والفحم الحجري ـ ولو تبدل نور الشمس إلى ظلام فسوف تتوقف كل حركة في العالم.. والنور واسطة لمشاهدة الموجودات المختلفة والمظهر لها.. ونور الشمس أفضل عامل على تلطيف البيئة والقضاء على مختلف أنواع الجراثيم الضارة وإزالة الموانع عن طريق الحياة البشرية.

قال: أحسنت كثيرا.. وبملاحظة هذه الخصائص التي يتصف بها النور المحسوس يتضح عمق تشبيه ذات الله المقدسة بالنور.

قلت: كيف ذلك؟

قال: إن وجوده تعالى هو النور الذي يظهر الوجودات ويحفظها، ومنه تنبع الحياة المعنوية والمادية، يصدر كلّ جمال في العالم، وكلّ حركة نحو الكمال تنبع من وجوده المقدّس، وكلّ هداية تتحقّق برعايته، فهو الذي يرفع الموانع عن طريق عباده، وهو القائد للإنسان في طريق الكمال والقرب لذاته.. وبكلمة واحدة كلّ ما في العالم قائم بذاته المقدّسة.

قلت: وعيت هذا.. ولكن ما وجه الاستدلال بذلك على وجود الله؟

قال: إن ما ذكرناه يطرح هذا السؤال: هل النور الذي يظهر الأشياء يحتاج إلى مظهر؟ وهل الموجودات التي يظهرها النور تكون أكثر ظهورا من النور نفسه لتكون معرفة له؟.. وبعبارة أخرى: ما هي الوسيلة التي يمكن مشاهدة النور بها غير النور نفسه؟

قلت: صحيح.. وهذا هو الأساس في برهان الصديقين.

قال: وأضيف لك إلى ذلك قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو

القرآن والحجج البالغة (179)

الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]

قلت (1): أجل.. الآية الكريمة واضحة جدا في الدلالة على هذا البرهان، فقد شهد الله لنفسه: أنه لا إله إلا هو.. وهي عند المؤمنين شهادة صدق مطلق، لا تعلق بها شائبة أو تشوبها شبهة.

قال: أحسنت.. فشهادة الله لنفسه قد نطق بها هذا الوجود الذي هو صنعة يديه، والذي يشهد كل موجود فيه، بقدرته، وعلمه، وحكمته ووحدانيته، وإن لم تشهد بها الموجودات لسانا، فقد شهدت بها عيانا واعتبارا، لمن نظر واعتبر..

قلت: أجل.. أحسنت.

قال: وقد أشارت الآية الكريمة أيضا إلى أن من لم يكن له نظر واعتبار، يمكنه أن يأخذ بشهادة أهل النظر والاعتبار.. ليأخذ بشهادة الملائكة، وهم بعض هذا الخلق الذي خلق الله، وهم الذين لا يفترون عن عبادته، ولا ينقطعون عن ذكره.

قلت: أحسنت.. فإن لم يجد لشهادة الملائكة أذنا تسمع، فليستمع إلى شهادة بشر مثله، خلقوا من طينته، ونطقوا بلسانه، وهم أولو العلم، الذين نظروا فى هذا الوجود، فعرفوا الله، وعاينوا آثار قدرته، وعلمه، وحكمته، ووحدانيته. وهذه شهادة لا يردها عاقل، مهما كان حظه من العقل.. فإن الأعمى الذي لا يسلم يده للمبصر الذي يقيمه على الطريق، هو لا محالة ملق بنفسه إلى التهلكة.. والمقعد الذي لا يستسلم لمن يحمله، لا يزال هكذا ملتصقا بالأرض إلى أن يهلك، غير مأسوف عليه.

بعد أن قلت هذا، واهتديت إلى الإيمان، دلني المعلم على الكثير من أدعية الصالحين

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (2/ 418)

القرآن والحجج البالغة (180)

التي تشير إلى هذه المعاني، وقد حفظتها وصرت أرددها كل حين، ومنها دعاء الإمام السجاد: (بك عرفتك وأنت دللتني عليك)

ومنها الدعاء المنسوب للإمام الحسين: (كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك!؟)

وقوله في نفس الدعاء: (متى غبت ـ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت ـ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبا)

القرآن والحجج البالغة (181)

ثانيا ـ القرآن.. والمشركون

بعد تلك المشاهد التي رأيت فيها كيف استطاع القرآن الكريم أن ينقذ الملاحدة من إلحادهم، أخذ بيدي شاب، وقال: هلم معي إلى بعض الأحياء القريبة، ففيها جمع من الناس، يريدون الالتقاء بك.

قلت: ولم؟

قال: يريدون أن يحدثوك عن معلمنا، وكيف أنقذهم من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد.. فلا يمكن أن تتم الحجة البالغة من دون إثبات التوحيد؛ فهو أساس الدين.

قلت: صحيح ذلك.. فمن لا توحيد له لا دين له.

قال: فهلم معي إذن إليهم.. فقد صار هؤلاء بعد شركهم، وبفضل القرآن الكريم وتعاليم المعلم دعاة إلى توحيد الله، وفي كل الشؤون؛ فلا هم لهم إلا إقامة هذا النوع من الحجج.

1. حقيقة التوحيد

سرت معه إلى أن وجدنا جمعا من الشباب والكهول، وكأنهم ينتظروننا، وقد قال أحدهم، وهو يصافحني: مرحبا بتلميذ القرآن.. لقد كنا في انتظارك، فنحن نريد أن نحدثك عن معلمنا، وكيف أنقذنا من أوحال الشرك إلى روضات التوحيد.

قلت: أنا أستمع إليكم، وسأسجل كل ما تذكرونه.

توحيد الذات

بدأ الحديث أكبرهم سنا، وقال: مع أني ـ قبل لقاء المعلم، لم أكن أدين بدين معين،

القرآن والحجج البالغة (182)

إلا أني كنت أعتقد أن هذا الكون يدار من طرف آلهة متعددة، وكنت أبشر تلاميذي بذلك، وأستدل لهم بما دل عليه الواقع والتاريخ من الأديان المحرفة.

وقد بدأت قصة هدايتي، وهداية تلاميذي على يدي المعلم وتلاميذه، بعد أن قمنا بجولة تبشيرية في الأحياء التي يقيمون فيها.

المشهد الأول

سكت الشاهد الأول قليلا، ثم قال: في بعض الساحات التي اجتمع فيها الموحدون، رحت أطلب من تلاميذي أن يخبروهم عن الواقع، وأنه أحسن دليل ينصر تعدد الآلهة.

وقد بدأ أحدهم، وهو أنجبهم بقوله: كيف تعتقدون بالتوحيد، وكل الحضارات كانت تقول بالتعدد.. نعم قد تختلف في أسماء آلهتها، لكنها تتفق جميعا في أنه لا يمكن أن يخلق هذا الكون أو يديره إله واحد.

قال آخر (1): وكلما تعمقنا في دراسة تاريخ الديانات تتجلى أمامنا هذه الحقيقة أكثر فأكثر.. فشيوع الشرك وتعدد الآلهة بين المجتمعات البشرية المختلفة ظهر منذ أقدم العصور، وبشكل واسع.

قال آخر: ولو قمنا بجمع أسماء الآلهة وعقائد المجتمعات البشرية المختلفة لحصلنا على كتاب مفصل ملي ء بالعقائد الدالة على ذلك.. ومن الأمثلة على ذلك أن آلهة الروم كانت كثيرة جدا، مما جعل كل إله يحظى باتجاه معين، وله دور في قضية معينة.

قال آخر: فلم يكن لأبواب البيوت إله فحسب، بل والعتبة منها وقواعدها كانت لها أرباب، كما أن هناك آلهة مستقلة تتولى أمر المحافظة على كل فرد من أفراد البشر، فوجود

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 256.

القرآن والحجج البالغة (183)

رب النوع الخاص الذي يعلم الطفل أول صرخة، وآخر يعلمه شرب الماء، وآخر يعلمه الخروج من البيت، وآخر يعلمه.. وهناك إله خاص لحراثة الأرض، وإله آخر خاص بالزراعة، وآخر لبذر البذور.. ولذلك لا عجب أن يكون للروم ألف إله، حتى أن أحد شخصياتهم مازح آخر بقوله: (إن آلهة بلادنا في الشوارع والمجتمعات هي أكثر من أفراد شعبنا)

قال آخر: ومثل ذلك اليونان، بلد الحضارة العظيمة.. فقد اعتقد المجتمع اليوناني ـ كالكثير من الأمم ـ بألوهية الظواهر الطبيعية كلها نظير الشمس والرعد والمحيطات والأعاصير والأنهار والعيون والرياح والأمطار، وقام بعبادتها واعتقد أن هذه الآثار تنشأ من وجود خفي، واعتقد أنها منشأ الخير والشر، ولهذا قام بعبادتها كي يحصل على كرمها أو يدفع الشر بها.

قال آخر: ولا شك أنكم تعرفون إله اليونان المعروف وهو (زيوس) ابن (كرونوس) وهو المتصور لديهم على شكل إنسان، وهم يعتبرون أن له الهيمنة التامة والجبروت وذو جبهة عريضة وشعر كثيف ولحية كثة طويلة على شكل حلقات.. وكان رب الأرباب، وإله البشر في اليونان، ويحيطه عدد كبير من الآلهة وأرباب الأنواع.. وكانت زوجته (هيرا) تعيش في السماء.. ويعتقدون أن لزيوس أبناء ثلاثة هم: (هرمس) و(آرتميس) و(آپولون) وهم على التوالي مظاهر المطر ورب النوع للقمر والشمس.. كما اعتقدوا بآلهة عديدة أخرى نظير آلهة البحر وآلهة الأرض وآلهة جوف الأرض وآلهة العمل.

قال آخر: وهكذا إذا بحثنا في تاريخ مصر التي ازدهرت فيها الحضارة، حيث نجد أغلب المصريين القدماء اعتقدوا بتعدد الآلهة، واعتقدوا أن إلها واحدا هو أعلى من الآخرين عرف ب (إله الآلهة)

القرآن والحجج البالغة (184)

قال آخر: وفي مصر القديمة كان للناس في كل منطقة آلهة ومعبد خاص تجاوزت الألفي معبود.. تسعة منهم يحظون بذكر أكبر، أحدهم إله الشمس، ثم إله الهواء، وإله الفضاء والفرا غ، وإله الأرض.. وهكذا نجد إله الصحراء والأراضي الخصبة والموات.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، اعتقد المصريون بأن كواكب السماء ليست أجساما فحسب بل إنها تعكس الصورة الخارجية لأرواح الآلهة الكبيرة مثل آلهة السماء والحيوان والنبات، وقد بلغت حدا أصبحت فيه المعابد المصرية معارض للحيوانات المختلفة.

قال آخر: وهكذا اعتقد الإيرانيون قديما بالثنوية، ثم بتعدد الآلهة، وشاع بينهم بصورة تدريجية عبادة (امشاسبندان) أو الآلهة الستة، آلهة الحيوانات الأليفة والبيضاء، وإله النار، وإله المعادن، وإله الأرض، وإله المياه والحيوانات، وإله الثوابت والسيارات السماوية.

قال آخر: وهكذا اعتقد الصينيون القدماء أيضا بأن العالم يحكمه أصلان أحدهما (المذكر) أو (الموجب) أو (النور) والآخر (الأنثى) أو (السالب) أو (الظلام) وتبعه التفكير بالثنوية (شانكتي) وهو فحل مظهر لأصل الذكورة وكان يدعى إله الأفلاك، واعتقدوا أنه هو الذي يجازي الإنسان على أعماله الصالحة والسيئة في هذه الدنيا وينزل البلاء الشديد عند العصيان العام.

قال آخر: وكانت (هاتن) إلها مؤنثا ويثنى عليه، ثم ظهرت آلهة اخرى تدريجا وتبدلت الثنوية إلى تعدد الآلهة: إله الخصوبة، إله المطر، إله الرياح، إله الثلج، إله النار، إله الجبل.

قال آخر: وهكذا يتفق المؤرخون على أن العرب كانوا يعتقدون بالآلهة المتعددة، وكان طائفة من العرب تعبد النجوم، وتعتقد أن كواكب خاصة حين الغروب والشروق تقوم بإنزال المطر وقد عبروا عنها بـ (الأنواء)، وقد اعتقدوا بارتباط الحركة والسكون

القرآن والحجج البالغة (185)

والسفر والإقامة بهذه النجوم، واعتقدوا بتأثيرها على مصائرهم، وقد شيدوا معابد كبيرة للشمس والقمر والزهرة وسائر الكواكب.

قال آخر: وفي اليمن كان من بين القبائل العربية من يعبد الكواكب السماوية، فكانت طائفة منها تعبد الشمس، وأخرى تعبد القمر، وأخرى تعبد نجمة الشعراء، كما عبدت قبائل أخرى نجوما أخرى.

قال آخر: وهكذا كان الحال في بلدان أخرى مثل الهند واليابان وغيرها، حيث ساد الاعتقاد بأرباب الأنواع والآلهة المتعددة.. كما اعتقد الصابئة عباد النجوم، وبأن السيارات السبع هي التي تحرس الأقاليم السبعة وتحافظ عليها، حيث قسموا الأرض قديما إلى سبعة أقسام أطلق على كل قسم منها إقليم، واعتقدوا أنها مبدأ الخيرات ودافعة للأضرار عن أهل الأرض.

قال آخر: وكان الاعتقاد بالطواطم الذي ساد في مناطق شاسعة من العالم مشابها للاعتقاد برب الأنواع أيضا، حيث كان لكل قبيلة (طوطم) بمثابة الأب وروح القبيلة واعتقد بأنه على صورة الحيوانات أو ما شاكله.

قال آخر: بل إن التعدد وصل إلى الفلاسفة الكبار، فقد افترض أفلاطون لكل نوع من أنواع عالم الطبيعة فردا مجردا عقليا، واعتقد أنه قائم بالذات، وبما أن هذه الأفراد المجردة اعتبرت أمثالا ومظاهر لأسماء وصفات الله وشبيهة للأنواع الطبيعية فقد أطلق عليها عنوان (مثال) وجمعه مثل على وزن رسل.

قال آخر: واعتقد أفلاطون أن ما له الحقيقة هو المثال وهو المطلق الذي لا يتغير ومجرد من الزمان والمكان وأبدي وكلي، أما هذه الأجسام الجسمانية والمادية التي نشاهدها متعددة وذات زمان ومكان وفانية فإنها إنعكاس لتلك، وعليه تكون نسبة الإنسان الجسماني

القرآن والحجج البالغة (186)

لمثاله هو نسبة الظل إلى ذي الظل.

قال آخر: ولأفراد الإنسان قسط من الحقيقة ما يناسب قربها من المثال، ومن هنا اعتبر افلاطون العالم المحسوس مجازا وعالم المعقولات حقيقة.

قال آخر: والإعتقاد بالمثل اليونانية وإن تغاير مع الإعتقاد بأرباب الأنواع لكنه لا يخلو من تشابه من عدة جهات ويعتبر شكلا فلسفيا من أرباب الأنواع اليوناني.. كما أن الاعتقاد بالعقول الفلكية المجردة له تشابه مع أرباب الأنواع من جهة.

قال آخر: ذلك أن جماعة من الفلاسفة اعتقدوا بأن الله ـ بسبب بساطته من كل جهة ـ له مخلوق واحد لا أكثر، وهو مخلوق مجرد أطلقوا عليه (العقل الأول) ثم اعتقدوا بأن العقل الأول لتركبه من وجود وماهية فهو الخالق للعقل الثاني والفلك الأول، وبهذا الترتيب اعتقدوا بخلق عشرة عقول وتسعة أفلاك.

قال آخر: وقد اعتقد البعض منهم أن عدد العقول لا حصر لها، كما اعتقدوا بالعقول العرضية إلى جانب العقول الطولية ـ وهي العقول العشرة التي يكون أحدها مخلوقا للآخر ـ واعتبروها وسائط لفيض الصور النوعية والمرتبة العليا للموجودات الجسمية، مثل أرباب الأنواع والمثل الافلاطونية.

المشهد الثاني

بعدما انتهى الشاهد الأول من حديثه، قام ثان، وقال: دعني أكمل أستاذنا، فقد كنت معك في ذلك المحل، وكنت أحد تلاميذك الذين ينتصرون لما تنتصر له.

أذن له الشاهد الأول في الحديث، فقال: بعد أن ذكرنا ذلك وغيره، وطلبنا من الحضور أن يذكروا إشكالاتهم لنجيبهم عليها، قام المعلم، وقال: لقد سمعنا لما ذكرتم، فاسمعوا لنا، فمن كرم الضيافة أن نكرمكم بحديثنا كما أكرمتمونا بحديثكم.

القرآن والحجج البالغة (187)

حينها قال أستاذنا: أجل.. يسرنا ذلك.. فنحن ما جئنا لنتكلم فقط، بل جئنا لنسمع أيضا.

حينها قال المعلم، وهو ينظر إلى تلاميذه: بما أن سعادة الأستاذ كلف تلاميذه بأن يذكروا له موقف الأديان المختلفة من التعدد، فاسمح لتلاميذي بأن يذكروا موقف ديننا منه.

لم يجد أستاذنا إلا أن يوافق على ذلك، فقام أحد تلاميذ المعلم، وقال: لقد أشار القرآن الكريم إلى كل ما ذكرتم من الشرك الذي تسرب إلى البشرية بسبب إهمالها لعقولها، واتباعها لوساوس الشياطين.

قال آخر (1): وقد أبطل القرآن الكريم كل تلك الآلهة الوهمية، وعرف الله عزوجل بأنه رب للعالمين جميعا، واعتبر كل شي ء مخلوقا له، وتحت تربيته وتدبيره.

قال آخر: مع العلم أنه قد تنزل في أجواء لا يتحكم فيها سوى الجهل، وكان الشرك يفرض قوته على عقول الناس، ولم يكن العالم الخارج عن حدود الجزيرة العربية متخلفا عنها، كما أشرتم إلى ذلك في أحاديثكم.

قال آخر: ولذلك لا نجد كتابا يدعو إلى توحيد الله كالقرآن الكريم، ذلك أنه دعا إلى التوحيد بجميع معانيه.

قال آخر: حيث دعا إلى توحيد الذات.. فذات الله واحدة لا مثيل لها.

قال آخر: ودعا إلى توحيد الصفات.. فصفات الله عزوجل ترجع كلها إلى حقيقة واحدة هي ذاته.

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 202.

القرآن والحجج البالغة (188)

قال آخر: ودعا إلى توحيد العبادة، فالعبادة لا تليق إلا بذاته المقدسة فقط.

قال آخر: ودعا إلى توحيد الأفعال.. فالله هو المبدى ء لكل خلق ونظام وحركة وفعل في هذا العالم.. ولا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه.. ولا يتنافى هذا مع اختيار الإنسان أبدا.

قال آخر: ويتفرع عن توحيد الأفعال توحيد الخالقية، فالله هو الخالق وحده.. وتوحيد الربوبية، فتدبير الكون إليه فقط.. وتوحيد المالكية والحاكمية التكوينية.. وتوحيد الحاكمية التشريعية والتقنينية.. وتوحيد الطاعة، حيث تجب طاعة أوامره فقط أو أوامر الذين أمر بطاعتهم.

قال المعلم (1): بوركتم.. فهلا حدثتم الحضور عن التوحيد الأول، والذي أطلقتم عليه توحيد الذات والصفات، وكيف تحدث عنه القرآن الكريم.

قال أحد التلاميذ: المراد من توحيد الذات هو أن ذات الله المقدسة لا شبيه ولا نظير لها، وهي واحدة لا مثيل لها من أي جهة.

قال آخر: والقرآن الكريم كله دعوة لهذا التوحيد، ومن الآيات الكريمة التي تصرح بالدعوة إليه قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وقوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 73]، وقوله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1 ـ 4]

قال المعلم: فحدثونا عن الآية الأولى، وهي قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 203.

القرآن والحجج البالغة (189)

قال أحد التلاميذ (1): في الآية الكريمة مبالغة فى نفى المثلية عن الله سبحانه وتعالى، وذلك ينفى المثلية عن مثله.. فتعالى الله سبحانه أن يكون له مثل.

قال آخر: فإذا انتفت المثلية عن المثل، وهذا المثل ـ أيا كان ـ لا يساوى من يماثله؛ فإن انتفاءها عن الأصل الذي يقاس عليه المثل أولى بمعنى أنه ليس كمثل مثل الله شئ فى هذا الوجود، فما بالك بمن يطلب ليكون مثل الله ذاته؟ ذلك مستحيل بعد مستحيل.

قال آخر (2): وبذلك، فالآية الكريمة تفسر توحيد الذات في جملة واحدة تفسيرا بليغا ورصينا حيث تنفي عن الله أن يكون له مثيل، ومن جميع الأشياء والوجوه.

قال آخر: ومثل هذا الشي ء ـ بالتأكيد ـ يكون أعلى من الخيال والقياس والظن والوهم، وليس بمقدورنا تصور ذاته، لأن الأشياء الممكن تصورها هي التي لاحظنا أمثالها أو تحصلت بعد التركب والتجزئة، أما الشي ء الذي ليس له أي مثيل فلا يتناوله الوهم والعقل أبدا.

قال آخر: ولذلك، فإن معرفتنا به قاصرة على أنه موجود نرى أفعاله وآثاره في عالم الوجود الواسع، ومن هذه الأوصاف ندرك صفاته إجماليا، ولكن ليس بمقدور أحد حتى الأنبياء المرسلين والملائكة المقربين أن يدركوا حقيقة ذاته.

قال آخر: والإقرار بهذه الحقيقة هو آخر مرحلة في سلم معرفة الإنسان لله عزوجل.. والدليل على ذلك واضح، لأن الله تعالى وجود لا متناه، ولا نهاية له من كل جهة، وكل ما سواه محدود ومتناه من كل جهة، ولذا لا يمكن قياسه إلى غيره، وبما أن وجودنا وعقولنا وأفكارنا محدودة، فإنا لا نصل إلى كنه تلك الحقيقة اللامحدودة أبدا.

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (13/ 25)

(2) () نفحات القرآن: 3/ 204.

القرآن والحجج البالغة (190)

قال المعلم: فحدثونا عن الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 73]، وما بعدها من الآيات الكريمة المتعلقة بها.

قال أحد التلاميذ (1): أي لقد كفر الذين قالوا إن الله خالق السموات والأرض وما بينهما ثالث أقانيم ثلاثة، أب والد غير مولود، وابن مولود غير والد، وزوج متتبعة بينهما.

قال آخر: ذلك أن من الفرق النصرانية من يذكر أن إلههم ثالث ثلاثة.. ومنهم من يرى أن الله هو المسيح ابن مريم.. ومنهم من يرى أن المسيح هو ابن الله، وليس هو الله.

قال آخر: والمتأخرون من النصارى يقولون بالأقانيم الثلاثة، وأن كل واحد منهما عين الآخر، فالآب عين الابن وعين روح القدس، ولما كان المسيح هو الابن كان عين الآب وروح القدس أيضا.

قال آخر: ثم رد الله عليهم ما قالوه بلا روية ولا بصيرة، فقال: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [المائدة: 73] أي ولا يوجد إله إلا من اتصف بالوحدانية، وهو الإله الذي لا تركيب فى ذاته ولا فى صفاته، فليس ثم تعدد ذوات وأعيان، ولا تعدد أجناس وأنواع، ولا تعدد جزئيات وأجزاء.

قال آخر: ثم توعدهم على هذه المقالة فقال: ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: 73] أي وإن لم ينتهوا عن قولهم بالتثليث ويتركوه، ويعتصموا بعروة التوحيد ويعتقدوه، فسيصيبهم عذاب شديد يوم القيامة جزاء كفرهم.

قال آخر: وفي الآية إيماء إلى أن هذا العذاب لا يمس إلا الذين كفروا منهم خاصة

__________

(1) () تفسير المراغي (6/ 166)

القرآن والحجج البالغة (191)

دون من تاب وأناب إلى الله تعالى ورجع عن عقيدة التثليث وغيرها.

قال آخر: ثم تعجب من حالهم بإصرارهم على التثليث بعد أن ظهرت لهم البينات، وقامت عليهم الحجج المبطلة له، والنذر بالعذاب المرتب عليه، فقال: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 74]، أي أيسمعون ما ذكر من التفنيد لآرائهم والوعيد عليها، ثم لا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى التوحيد واستغفار الله عما فرط منهم.. فربهم واسع الرحمة عظيم المغفرة يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم ما فرط من الزلات إذا هم آمنوا وأحسنوا واتقوا وعملوا الصالحات.

قال آخر: ثم ذكر أن المسيح عليه السلام رسول كغيره من الرسل وأقام الدليل على ذلك فقال: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة: 75]، أي ليس المسيح إلا رسول من الرسل الذين بعثهم الله لهداية عباده، قد مضت من قبله رسل اختصهم مثله بالرسالة وأيدهم بالآيات، وأمه صديقة فلها فى الفضل مرتبة تلى مرتبة الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ [التحريم: 12]

قال آخر: ولذلك، فإن حقيقة المسيح وأمه عليهما السلام النوعية والجنسية مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما، فهما يأكلان الطعام ليقيما بنيتهما ويمدا حياتهما لئلا ينحل بدنهما ويهلكا؛ فلا يمكن أن يكون كل منهما إلها خالقا ولا ربا معبودا، ومن السفه أن يحتقر الإنسان نفسه ويحتقر جنسه ويرفع بعض المخلوقات المساوية له فى الماهية والمشخصات والممتازة بميزات عرضية فيجعل نفسه عبدا لها ويسميها آلهة أو أربابا.

قال آخر: وبعد أن بين حالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة من الريب، تعجب من حال من يدعى لهما الربوبية ولا يرعوى عن غيه وضلاله ولا يتأمل فيما هو عليه من أفن الرأى

القرآن والحجج البالغة (192)

والخطأ، فقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المائدة: 75]، والآيات هى الدلائل القاطعة ببطلان ما يدعون، ويؤفكون أي يصرفون عن التأمل فيها لسوء استعدادهم وخبث نفوسهم.

قال آخر: أي انظر أيها السامع نظرة عقل وفكر، كيف نبين لهؤلاء النصارى الآيات والبراهين البالغة أقصى الغايات فى الوضوح على بطلان ما يدعون فى أمر المسيح عليه السلام، ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها، وكيف لا ينتقلون من مقدماتها إلى نتائجها، ومن مباديها إلى غاياتها، فكأنهم فقدوا عقولهم وصارت أفئدتهم هواء.

قال المعلم: فحدثونا عن قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1 ـ 4]

قال أحد التلاميذ (1):هذه السورة تختصر كل الحديث القرآني عن الله وعن علاقة الخلق به؛ فقد تنوع الحديث القرآني عن توحيد الله، وعن أحديته، من خلال الحقائق الكونية التي تدل على وحدانيته ونفي الشركاء عنه، ومن خلال الحقائق العقلية التي تفرض استحالة الشريك.

قال آخر: وقد انطلق الحديث القرآني ليؤكد على حاجة الخلق إليه واستغنائه عنهم، وعن أزليته التي تنفي كونه مولودا، كما تنفي كونه موضعا للتغير والتحول لينبثق الولد منه، وليركز الفكرة الأحدية التي ترفض وجود المماثل له في طبيعة الوجود، وفي القدرة والفاعلية وفي الصفات كلها.. وذلك هو معنى السورة في آياتها القصيرة.

قال آخر: ونلاحظ في هذه السورة القصيرة بساطة العقيدة الإسلامية في تصورها

__________

(1) () من وحي القرآن (24/ 481)

القرآن والحجج البالغة (193)

لله، فليست هناك تعقيدات فلسفية، وتحليلات فكرية معقدة تتحرك في متاهات الاحتمالات والتأملات، بل هي ـ في بساطتها الصافية ـ لا تبتعد عن العمق، ولا تقترب من السذاجة، لأنها تنطلق من خلال الوجدان الذي يمكن أن يحتويها بفطرته، كما يمكن له أن ينطلق في رحابها بامتداده، ويعيش إيحاءاتها بعمقه.

قال آخر: ولهذا أمكن للإنسان البسيط أن يفهمها من دون الدخول في التفاصيل المعقدة، كما أمكن للمفكر أن يؤمن بها من دون أن يبتعد عن تفكيره العميق.. وهذا هو السر في انفتاح الناس كلهم على الإسلام من خلال الفطرة الصافية التي تؤكد أنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

قال آخر: وتبدأ السورة بقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، أي قل لكل هؤلاء الذين قد يريدون التفلسف في السؤال عن الله من هو، لأنهم يريدون أن يتصوروه بصورة مادية تتحدث عن ملامحه في شكله تبعا لما هو المألوف عندهم من صفات المخلوقات في تفاصيل الجسد ونحوه.. قل لهم: هو الله، المتفرد في كل صفاته، الأحد في ذاته، العالي عن كل ما يتصل بالمادة من صلة، فلا تدركه الأبصار، ولا تحيط به العقول، ولا تقترب منه عناصر التركيب والتجزئة.

قال آخر: والمراد بالأحد ما لا يقبل الكثرة لا خارجا ولا ذهنا، ولذلك لا يقبل العد ولا يدخل في العدد، بخلاف الواحد، فإن كل واحد له ثان وثالث إما خارجا وإما ذهنا، بتوهم أو بفرض العقل، فيصير بانضمامه كثيرا، وأما الأحد، فكلما فرض له ثان كان هو هو لم يزد عليه شيء.

القرآن والحجج البالغة (194)

قال آخر (1): و﴿أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4] صفة لله سبحانه، بمعنى الأحد معرفا بأل، لأنه فى مقابل: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: 2] فأحد، وإن كان نكرة لفظا، هو معرفة دلالة ومعنى، لأنه إذ قيل ﴿أَحَدٌ﴾ لم ينصرف الذهن إلى غيره، فإذا قيل ﴿أَحَدٌ﴾ كان معناه الأحد، الذي ليس وراءه ثان أو ثالث، أو رابع.. فاستغنى بهذا عن التعريف، لأن التعريف إنما يراد به الدلالة على المعرف دون أفراد جنسه المشاركة له، فإذا انحصر الجنس كله فى فرد واحد، لم يكن ثمة داعية إلى تعريفه، إذ كان أعرف من أن يعرف.

قال آخر: فالله، هو الأحد، الذي لا يشاركه فى هذا الوصف موصوف.. فالأحدية هى الصفة التي لا يشارك الله سبحانه فيها أحد، كما أن (الله) هو اسم الذات الذي لا يسمى به أحد سواه.

قال آخر: والأحدية هى الصفة التي تناسب الألوهة، وهي الصفة التي تناسب كل صفة من صفات الله سبحانه.. فالله واحد فى ذاته، واحد فى صفاته.

قال آخر: فالكريم، هو الله وحده، والرحيم هو الله وحده، والرحمن هو الله وحده، والغفور هو الله وحده، والشكور هو الله وحده، والعليم هو الله وحده.. وهكذا، كل صفة من صفات الكمال، قد تفرد بها الله وحده، لا ينازعه فيها أحد.

قال آخر: وفي وصف الله سبحانه وتعالى بأحد، دون واحد، تحقيق لمعنى التفرد، لأن الأحد لا يتعدد، على حين أن الواحد يتعدد، باثنين، وثلاثة، وأربعة، إلى ما لا نهاية من الأعداد.

قال آخر (2): وعلى ضوء ذلك، فإن الله يريد من الخلق أن يعرفوه بأحديته التي تجمع

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (16/ 1712)

(2) () من وحي القرآن (24/ 484)

القرآن والحجج البالغة (195)

كل صفاته المطلقة التي لا حد لها، فلا يبلغ شأوها أو يحيط بامتدادها أحد، بعيدا عن كل تعمق في الذات، لأن الإنسان كلما تعمق أكثر كلما غرق في بحار الظنون، لأن الفكر لا يصل إليه في سره الغامض الخفي.

قال آخر: ومعنى ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: 2] السيد المقصود في كل الحوائج، والذي يحتاج الخلق كلهم إليه في كل أمورهم، فيقصدونه بها، ولا يقصدون غيره فيها إلا من حيث إنه أداة من أدواته، ووسيلة من وسائله، لأنه الخالق لهم ولما يحتاجون إليه، والمدبر لهم ولما يتطلبونه منه، ولأنه المهيمن على الأمر كله وعلى الوجود كله، فكل وجود هو ظل لوجوده، ومظهر لقدرته، الأمر الذي يجعل قلوب الناس متوجهة إليه، وحياتهم خاضعة له، فإذا طافت بهم الأوهام التي استغرقوا فيها، فيما قد تخدعهم به مظاهر المادة، فقصدوا غيره، فإنهم يصطدمون بالعجز الكبير في قدرته، لأن قدرته مستمدة من قدرة الله فيما أقدره عليه، بينما يجد القاصدون إلى الله كل شيء مما يرغبونه أو يتطلعون إليه.

قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: 3] رد على المؤمنين بالتثليث وغيره، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [التوبة: 30]، ومثل ذلك مشركو العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، كما قال تعالى: ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 100]

قال آخر: ومعنى الولادة في الآية الكريمة يشمل كل أنواع خروج الأشياء المادية واللطيفة منه، أو خروج ذاته المقدسة من أشياء مادية أو لطيفة.

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (20/ 553)

القرآن والحجج البالغة (196)

قال آخر: ومما يروى في ذلك عن الإمام الحسين أنه كتب إلى أهل البصرة يجيبهم عن تساؤلهم بشأن معناها، فقال: (لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف كالنفس، ولا يتشعب منه البداوات ـ الحالات المختلفة ـ كالسنة والنوم، والخطرة والهم، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء، والرغبة والسأمة، والجوع والشبع، تعالى أن يخرج منه شيء، وأن يتولد منه شيء كثيف أو لطيف، ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: 3]، أي لم يتولد من شيء، ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشيء من الشيء والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الاذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، وكالنار من الحجر) (1)

قال آخر: ثم ختم الله تعالى السورة الكريمة بقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4] أي ليس له شبيه ومثل اطلاقا.. فالكفو: هوالكفء في المقام والمنزلة والقدر، ثم اطلقت الكلمة على كل شبيه ومثيل.

قال آخر: واستنادا إلى هذه الآية الكريمة، فإن الله سبحانه منزه عن عوارض المخلوقين وصفات الموجودات وكل نقص ومحدودية.. وهذا هو التوحيد الذاتي والصفاتي، مقابل التوحيد العددي والنوعي الذي جاء في بداية تفسير هذه السورة.

قال آخر: ومن هنا فهو تبارك وتعالى لا شبيه له في ذاته، ولانظير له في صفاته، ولا مثيل له في أفعاله، وهو متفرد لا نظير له من كل الجهات.

__________

(1) () بحار الأنوار: 3/ 224.

القرآن والحجج البالغة (197)

توحيد الصفات

بعدما انتهى الشاهد الثاني من حديثه، قام ثان، وقال: دعوني أكمل أنا؛ فقد كنت معكم في ذلك المحل، وقد سمعت كل ما جرى بدقة، وتأثرت به كثيرا.

أذن له أستاذه الشاهد الأول في الحديث، فقال: بعدما انتهى تلاميذ المعلم من حديثهم عن توحيد الذات الإلهية في القرآن الكريم طلب منهم المعلم أن يتحدثوا عن توحيد الصفات، فقال أحدهم (1): توحيد الصفات هو فرع من فروع التوحيد، وهو يعني أنه كما أن ذات الله عزوجل أزلية وأبدية فإن صفاته كالعلم والقدرة وأمثالها أزلية وأبدية أيضا.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فهذه الصفات ليست زائدة على ذاته فلا يوجد فيها عارض ومعروض بل هي عين ذاته.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، لا تفصل الصفات عن بعضها، أي أن علمه وقدرته شي ء واحد والاثنان عين ذاته.

قال المعلم: فهلا فسرتم هذا.

قال أحد التلاميذ: عندما نراجع أنفسنا نرى أننا كنا نفقد الكثير من الصفات، فلم نملك حين الولادة علما ولا قدرة، لكن هذه الصفات نمت فينا تدريجيا، ولذا نقول: إن هذه أمور زائدة على ذواتنا، ولذا يمكن أن يمر بنا اليوم الذي نفقد فيه القوة العضلية والعلوم والأفكار التي نملكها، ونرى بوضوح أيضا أن علمنا وقدرتنا منفصلتان، فالقدرة الجسمية في عضلاتنا، لكن العلم موجود في أرواحنا.

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 210.

القرآن والحجج البالغة (198)

قال آخر: ولذلك، لا يتصور في الله أي معنى من هذه المعاني؛ فذاته كلها علم وقدرة وكل شي ء في ذاته واحد.

قال آخر: ونسلم طبعا بأن تصور هذه المعاني ـ بالنسبة لنا نظرا لفقداننا لهذه الصفة ـ معقد وغير مألوف، ولا سبيل إليه إلاقوة المنطق والاستدلال الدقيق واللطيف.

قال المعلم (1): فكيف تثبون ذلك عقلا؟

قال أحد التلاميذ: لقد عرفنا سابقا أن التوحيد الذاتي يفسر بمعنيين.. أولهما أنه واحد لا مثل له.. والثاني أنه أحد لا جزء له.. ويعبر عن الأول بالتوحيد الواحدي، وعن الثاني بالتوحيد الأحدي.

قال آخر: وتوحيد الصفات مرتبط بالتوحيد الأحدي، وهو يعني نفي التركيب عن الله تعالى (2)، وهو يتصور على قسمين.. أولهما التركيب الخارجي، كتركيب الشيء من أجزاء خارجية، ومن عناصر مختلفة كالعناصر المعدنية والمركبات الكيميائية.. وهذا القسم من التركيب مستحيل عليه سبحانه، لأن الشيء المركب من مجموعة أجزاء، محتاج في وجوده إليها، والمحتاج إلى غيره معلول له، ولا يوصف بوجوب الوجود والألوهية.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه لو فرضنا جدلا تشكل الذات الإلهية من أجزاء، فهي إما أن تكون واجبة الوجود، وذلك ما يؤدي إلى تعدد الآلهة، وتكثر واجب الوجود، وهو مستحيل.

قال آخر: وإما أن تكون ممكنة الوجود، وفي هذه الصورة تكون نفس تلك الأجزاء محتاجة إلى غيرها، ويكون معنى هذا أن ما فرضناه إلها واجب الوجود معلول لأمور ممكنة

__________

(1) () الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 2/ 31.

(2) () ذكرنا الأدلة الكثيرة لهذا في كتاب القرآن وتأويل الجاهلين (2/ 114)

القرآن والحجج البالغة (199)

هي في حد نفسها معلولة لموجود أعلى، وهذا أمر محال.

قال المعلم: هذا واضح.. فما التركيب الثاني؟

قال أحد التلاميذ: التركيب العقلي، والمراد منه كون الشيء بسيطا خارجا، لكنه ينحل عند العقل إلى شيئين، وهذا كالجنس والفصل وما يقوم مقامهما، فإن وزان الجنس عند العقل غير وزان الفصل، فواقع الإنسانية وإن كان شيئا واحدا في الخارج، لكنه ينحل في العقل إلى ما به الاشتراك وهو الحيوانية، وما به الامتياز وهو الناطقية.

قال آخر: وهناك قسم آخر من التركيب العقلي أدق من تركب الشيء من جنسه وفصله، وهو كون كل ممكن مركبا من وجود وماهية حتى اشتهر قولهم: (كل ممكن زوج تركيبي له ماهية ووجود)

قال آخر: وهذه الكلمة لا تعني أن هناك شيئا يقابل الوجود، وشيئا آخر يقابل الماهية، بل ليس في الخارج إلا شيء واحد وهو الوجود، لكن الماهية تبين مرتبته الوجودية كالجماد والنبات والحيوان وغيرها، كما أن الوجود يحكي عن عينيته الخارجية التي تطرد العدم.

قال آخر: والتركيب في هذا القسم أدق من التركيب في القسم السابق، أي تركب الشيء من جنسه وفصله.

قال آخر: ومع ذلك كله فهذا النوع من التركيب محال عليه سبحانه، إذ لو كان له ماهية، وشأن الماهية في حد ذاتها أن تكون عارية عن الوجود والعدم، قابلة لعروضهما، فعندئذ يطرح السؤال نفسه: ما هي العلة التي أفاضت عليها الوجود؟

قال آخر: ذلك أن المحتاج إلى شيء آخر يفيض الوجود على ماهيته يكون ممكنا لا واجبا.

القرآن والحجج البالغة (200)

قال آخر: لأجل ذلك ذهب الحكماء من الإلهيين إلى بساطة ذاته تعالى وتنزيهه عن أي تركيب خارجي أو عقلي وبالتالي كونه منزها عن الماهية.

قال المعلم: فما الدليل القرآني على ما تذكرون؟

قال أحد التلاميذ: كل ما ذكرناه سابقا في وحدة الذات دليل على وحدة الصفات، ذلك أن ذات الله المقدسة لا يمكن أن تتصف بأية إثنينية.

قال آخر: فما جاء في صدر سورة التوحيد يمكن أن يكون دالا على هذا النوع من التوحيد، فقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] يرد على التثليث التركيبي الذي تتبناه النصارى أو ما يماثل ذلك التركيب.

قال آخر: والدليل على ذلك هو أنه لو كان المقصود من توصيفه بـ ﴿أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4] غير البساطة للزم التكرار بلا جهة لتعقيبه ذلك بقوله في ذيل السورة: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4]

قال آخر: فصدر السورة ناظر إلى التوحيد بمعنى البساطة، كما أن ذيلها ناظر إلى التوحيد بمعنى نفي الشيء والنظير له، ويتضح ذلك إذا وقفنا على أن السورة برمتها نزلت في رد عقائد المسيحيين وأشباههم، وإن لم يرد ذكرهم بالاسم.

قال المعلم: لقد ذكرتم أن البراهين دالة على بساطة الذات الإلهية، وخلوها عن أي نوع من أنواع التركيب العقلي الخارجي.. فكيف يجتمع تعدد الأسماء والصفات مع بساطة الذات؟.. أليس يستلزم تعدد الصفات تركب الذات الإلهية من صفات متعددة؟

قال أحد التلاميذ: السؤال إنما يتوجه إذا كان كل واحد من هذه الصفات يشكل جزءا خاصا، ويحتل موضعا معينا من ذاته سبحانه، وحينئذ يمكن القول بأنه يستلزم التركيب في ذاته سبحانه، ولكن إذ قلنا بأن كل واحد من هذه الصفات يشكل تمام الذات

القرآن والحجج البالغة (201)

برمتها وأسرها، فحينئذ لا يبقى مجال لتصور التركيب في شأنه تعالى، إذ لا يمتنع كون الشيء على درجة من الكمال يكون فيها كله علما، وكله قدرة، وكله حياة دون أن تظهر أية كثرة في ذاته.

قال آخر: نعم، لو كانت هناك كثرة، فإنما هي في عالم المفهوم دون الواقع الخارجي، إذ عندئذ تكون ذاته سبحانه مصداق العلم ومطابقه ـ وفي الوقت نفسه ـ مصداق القدرة ومطابقها، بلا مغايرة ولا تعدد.

قال آخر: ولتقريب هذا المعنى نشير إلى مثال في عالم الممكنات وهو أن الإنسان الخارجي بتمام وجوده مخلوق لله سبحانه وفي الوقت نفسه معلوم له سبحانه؛ فمجموع الوجود الخارجي، كما هو مصداق لقولنا: (إنه مخلوق لله) ومطابق له، مصداق ومطابق لقولنا: (إنه معلوم لله)، من دون أن يخص جزء بكونه معلوما وجزء بكونه مخلوقا، بل كله معلوم لله في عين كونه مخلوقا له، وليست جهة المعلومية في الخارج غير جهة المخلوقية.

قال آخر: ذلك أنه يصح انتزاع المفاهيم الكثيرة من الواحد البسيط البحت، وهذا على التقريب كالنور، فإن الإضاءة والحرارة من خواص النور، وليست الأولى مختصة بناحية من وجوده والثانية بناحية أخرى منه، بل النور بتمامه مضيء كما أنه بتمامه حار. فالشيء الخارجي ـ أعني: النور ـ مصداق لمفهومين؛ المضيء والحار.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، ف إن وجوده سبحانه هو الكمال المطلق والوجود الأتم، وأما انتزاع المفاهيم الكثيرة مثل العالم والقادر، فإنما هو بالنظر إلى تجلياته المختلفة في العالم الإمكاني.

قال آخر: ذلك أن إتقان الفعل وظرافته دليل كونه قادرا، كما أن الصنع على سنن معقدة آية كونه عالما بهذه السنن والنظم، وهكذا.. فتجليه سبحانه على العالم بالشؤون

القرآن والحجج البالغة (202)

المختلفة صار سببا لانتزاع مفاهيم كثيرة منه، هذا.

توحيد الأفعال

بعدما انتهى الشاهد الثالث من حديثه، قام رابع، وقال: دعوني أكمل أنا؛ فقد كنت معكم في ذلك المحل، وقد سمعت كل ما جرى بدقة، وتأثرت به كثيرا.

أذن له أستاذه في الحديث، فقال: بعدما انتهى تلاميذ المعلم من حديثهم عن توحيد الصفات الإلهية والبراهين عليها، طلب منهم المعلم أن يتحدثوا عن توحيد الأفعال، فقال أحدهم (1): إن مفهوم توحيد الأفعال يعني أن الكون بأسره هو فعل الله، وكل الأفعال، والحركات، والتأثيرات، تنتهي إلى ذاته المقدسة، فلا مؤثر في الوجود إلاالله، فالسيف حينما يقطع والنار حينما تحرق والماء حينما يروي الناس والنباتات كل ذلك بإرادته وأمره، وباختصار فإن أثر كل موجود يكون مصدره الله سبحانه.

قال آخر: ذلك أن الموجودات كما أنها تابعة في أصل وجودها إلى ذاته تعالى؛ فإنها كذلك في تأثيرها وفعلها.

قال آخر: لكن هذا المعنى لا ينفي عالم الأسباب وحاكمية قانون العلية.. كما أن الاعتقاد بتوحيد الأفعال لا يستوجب الاعتقاد بأصل الجبر وسلب الحرية من إرادة الإنسان.

قال آخر: ولذلك، فإن القرآن الكريم يعرف الله بأنه المبدى ء لكل خلق ونظام وحركة وفعل في هذا العالم.. ولا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه.

قال آخر: ويتفرع عن توحيد الأفعال ما لا يحصى من أنواع التوحيد، ومنها توحيد

__________

(1) () الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 2/ 64.

القرآن والحجج البالغة (203)

الخالقية، فالله هو الخالق وحده.. ومنها توحيد الربوبية، فتدبير الكون إليه فقط.. ومنها توحيد المالكية والحاكمية التكوينية.. ومنها توحيد الحاكمية التشريعية والتقنينية.. ومنها توحيد العبودية.. وغيرها من أنواع التوحيد.

توحيد الخالقية

قال المعلم: فهلا حدثتمونا عن توحيد الخالقية المتفرع عن توحيد الأفعال.

قال أحد التلاميذ (1): لقد دلت البراهين العقلية الكثيرة على أنه ليس في الكون خالق أصيل إلا الله سبحانه، وأن الموجودات الإمكانية وما يتبعها من الأفعال والآثار، حتى الإنسان وما يصدر منه، مخلوقات لله سبحانه بلا مجاز ولا شائبة عناية، غاية الأمر أن ما في الكون مخلوق له إما بالمباشرة أو بالتسبيب.

قال آخر: وذلك لأنه سبحانه هو الواجب الغني، وغيره ممكن بالذات ولا يعقل أن يكون الممكن غنيا في فعله وذاته عن الواجب، فكما أن ذاته قائمة بالله سبحانه، فهكذا فعله.. فالحاجة في الذات إلى الواجب آية الحاجة في الفعل أيضا.

قال آخر: ومن عرف الممكن حق المعرفة وأنه الفقير الفاقد لكل شيء، والواجد ـ في ظل خالقه ـ فعله وأثره، لا يشك في استناد الأفعال والآثار إلى الله سبحانه، وهذا ما يُعبر عنه بالتوحيد في الخالقية، وأن هنا خالقا واحدا أصيلا وهو الله سبحانه، وأما غيره فإما أن يكون غير خالق، أو أن يكون خالقا بإذنه ومشيئته وإقداره سبحانه.

قال المعلم: أحسنتم.. والآن اذكروا لنا بعض ما ورد في القرآن الكريم مما يؤكد هذه المعاني.

__________

(1) () الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 2/ 43.

القرآن والحجج البالغة (204)

قال أحد التلاميذ: القرآن الكريم مليء بذكر هذه المعاني، ليعمق التوحيد في قلوب المؤمنين، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الرعد: 16]

قال آخر (1): فبعد أن عرضت الآيات السابقة بعض مظاهر قدرة الله، وقوة سلطانه، وسعة علمه، ثم ختمت بالحكم الذي ألزم الوجود كله، الانقياد لله، والولاء له، طوعا أو كرها، جاءت هذه الآية الكريمة وما بعدها تخاطب العقل، وتدعوه إلى الله، وتضرب له الأمثال الحسية، ليقيم من منطقها طريقه الذي يستقيم عليه، فى التهدى إلى الحق، والإيمان بالله، وإفراده بالألوهية، ونبذ الشركاء والأنداد، التي إذا قايسها العقل بالله، كانت ضلالا وكانت هباء.

قال آخر: وقد بدأت الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الرعد: 16]، وهذا سؤال ينبغى للعاقل أن يسأله، وأن يجيب عليه.. ذلك أن هذا الوجود فى سماواته وأرضه، لا بد له من خالق قد خلقه، وأجرى نظامه على هذا الترتيب المحكم البديع.

قال آخر: فإذا لم يسأل المرء نفسه هذا السؤال، ولم تثر فى نفسه داعية له، فها هو ذا السؤال يملأ سمعه.. فماذا يكون الجواب؟ ومن ضاع منه الجواب بين سحب الجهل والضلال المنعقد على عقله وقلبه.. فهذا هو الجواب حاضر عتيد.. ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ [الجاثية: 26]..

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (7/ 90)

القرآن والحجج البالغة (205)

وهذا الجواب هو من بديهية العقل، كما أن السؤال من بديهية العقل أيضا.. وعلى هذا، فإنه حكم لازم، وقضاء قاطع لا مرد له.

قال آخر: وإذن فليكن الحساب والجزاء على هذا الحكم الذي لم يلتزمه المشركون، ولم يأخذوا أنفسهم به.. ﴿قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾ [الرعد: 16]؟.. والاستفهام هنا إنكارى، يضع المشركين فى قفص الاتهام، والإدانة.

قال آخر: إذ كيف لا يعطون ولاءهم لله، ولا يخلصون له عبادتهم، وهو خالق السموات والأرض، على حين يجعلون ولاءهم وعباداتهم لتلك المخلوقات التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، والتي هى خلق من خلق الله، تدين له بالولاء، كما دان له كل مخلوق؟

قال آخر: إنهم يسوون فى هذا بين المتناقضات، ويقولون إن الأعمى والبصير سواء، وإن الظلمات والنور متعادلان، وإن الباطل والحق متشابهان.. وإن المخلوق والخالق سيان.. وهذا منطق أحمق سفيه، لا يقبله إلا من عميت بصيرته، وختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ [الرعد: 16]، وهذا استفهام إنكارى أيضا، يسأل الله تعالى فيه المشركين عن تلك الآلهة التي عبدوها من دون الله أو جعلوها شركاء لله.. أهذه الآلهة تخلق كما يخلق الله؟.. وهل لها فى هذا الوجود شئ خلقته، حتى يكون لهؤلاء المشركين وجه من العذر حين ينظرون ـ إن كان لهم نظر ـ فيرون أن لهذه الآلهة خلقا خلقته، وعندئذ يتشابه الخلق عليهم فلا يفرقون بين ما خلق الله، وما خلق غير الله، أذلك ما يقع عليه نظرنا إلى هذا الوجود؟

قال آخر: وهل يستطيع مشرك أن يمسك بنظره مخلوقا واحدا لهذه الآلهة المعبودة لهم؟.. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا

القرآن والحجج البالغة (206)

وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: 73]، فكيف يستوى من يخلق ومن لا يخلق؟ ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23]؟

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الرعد: 16].. ذلك أنه لم يبق إلا الصيرورة إلى هذا الحكم، الذي لا حكم غيره، وهو أن الله هو الخالق لكل شئ.. وأنه ﴿الْوَاحِدِ﴾ [الرعد: 16] المتفرد بالخلق ﴿الْقَهَّارِ﴾ [الرعد: 16] الذي له كل مخلوق، ويخضع لسلطانه كل موجود.. عظيم أو صغير.. فى السماء، أو فى الأرض.. ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 78]

قال آخر: ومثل ذلك الآيات الكريمة التي تذكر أن الله خالق لكل شيء، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الزمر: 62]، وقوله: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [غافر: 62]، وقوله: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ﴾ [الأنعام: 102]، وقوله: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 101]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر: 3]

قال آخر (1): ففي هذه الآيات الكريمة يعالج الله تعالى قضية التوحيد بطريقة جذرية حاسمة، في مقابل فكرة الشرك التي ترتكز على تعدد الآلهة انطلاقا من القدرات التي تتخيلها لهم، سواء في ذلك الآلهة الذين يتحركون في الحياة بصورة بشر، أو الذين يتمثلون في بعض الظواهر الكونية العظيمة كالشمس والقمر والكواكب، أو الأصنام الجامدة التي يصنعها الناس من الحجر وغيره.. وبذلك، كانت فكرة الشرك خاضعة لهذا التصور

__________

(1) () من وحي القرآن (1/ 132)

القرآن والحجج البالغة (207)

المنحرف الخيالي.

قال آخر: ولذلك أراد القرآن الكريم أن يعزل كل موجود في الكون عن أية قدرة من القدرات التي تتمثل في حركة الكون نفسها أو في حركة الإنسان في الكون، ليجعل القدرة بيد الله وحده، باعتبار أنه خالق كل شيء ومسبب كل سبب، وليوحي لنا، بأن هذه القوى التي نشاهدها، لا تمثل إلا حركة موجهة في إطار القوة الأساسية التي تحكم هذه القوى بوسائلها وقوانينها المودعة فيها.

قال آخر: وبذلك، كانت نسبة الأفعال إلى الله للإيحاء الدائم بوجوده خلف كل شيء، ومع كل شيء، ولكن لا على أساس مباشر يلغي عملية الاختيار للإنسان أو يسلبه حرية الإرادة.

قال آخر: إنها النسبة التي تحتفظ لله بالإطار العام للقوة في كل ما في الكون من مظاهر الوجود، لكنها لا تسلب الإنسان القدرة الذاتية التي تتحرك داخل الإطار العام.

قال آخر: وبهذا نفهم كيف ينطلق القرآن لينسب الضلال والهدى والخير والشر والرزق والحياة والمرض والصحة وغيرها إلى الله مع أنها تتحرك من خلال الأسباب الطبيعية في وجودها العملي بطريقة مباشرة.

قال آخر (1): ولذلك، فإنه لا يصح الاستدلال بهذه الآيات الكريمة على الجبر، لأن خالقية الله حتى بالنسبة لأفعالنا لا تتعارض مع حريتنا في الإختيار، إذ أن أفعالنا يمكن أن تُنسب إلينا وإلى الله، فنسبتها إلى الله قائمة على كونه قد وضح جميع مقدمات ذلك تحت تصرفنا، فهو الذي وهبنا القوة والقدرة والإراده والاختيار، فما دامت جميع المقدمات من

__________

(1) () الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (4/ 414)

القرآن والحجج البالغة (208)

خلقه، فيمكن أن تُنسب أفعالنا إليه بإعتباره خالقها، ولكن من حيث اتخاذ القرار النهائي فإننا بالإستفادة مما وهبه الله لنا من القدرة على الإرادة والاختيار نتخذ القرار بأداء الفعل أو تركه، فمن هنا تنسب هذه الأفعال إلينا ونكون مسؤولين عنها.

قال آخر: وبتعبير الفلاسفة: لايوجد في هذا المقام علتان أو خالقان للفعل في عرض واحد.. بل هما ممتدتان طولا، لأن وجود علتين تامتين في عرض واحد لا معنى له، لكنهما إذا كانا طوليين فلا مانع من ذلك، ولما كانت أفعالنا تستلزم المقدمات التي وهبها الله لنا، فيمكن أن ننسب هذه المتستلزمات إليه أيضا، إضافة إلى نسبتها إلى فاعلها.

قال آخر: وهذا الكلام أشبه بالذي يريد أن يختبر عماله فيترك لهم الحرية في عملهم واختياراتهم، ويهيء لهم جميع ما تطلبه عملهم من مقدمات ووسائل، فطبيعي أن تعتبر أفعالهم منسوبة إلى رب العمل، ولكن ذلك لا يسلبهم حرية العمل والاختيار، بل يكونون مسؤولين عن أعمالهم.

قال المعلم (1): فما تقولون فيمن يرى أن التوحيد في الخالقية وحصر الخلق والإيجاد على الإطلاق بالله سبحانه يستلزم إنكار العلية والمعلولية، والتأثير والتأثر بين الموجودات الإمكانية، وذلك باعتبار أن آثار الظواهر الطبيعية كلها مفاضة منه سبحانه، من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها.

قال أحد التلاميذ: ألا تقصد بهذا أولئك الذين يفسرون كون (النار حارة) بأنه جرت سنة الله على إيجاد الحرارة عند وجود النار مباشرة من دون أن تكون هناك رابطة بين النار وحرارتها.. بل الله سبحانه جرت عادته على إيجاد الضوء والنور مباشرة عقيب وجود

__________

(1) () الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 2/ 45.

القرآن والحجج البالغة (209)

الشمس والقمر من دون أن يكون هناك نظام وقانون تكويني باسم العلية والمعلولية؟

قال المعلم: أجل.. أقصد أولئك الذين يذكرون أنه ليس في صفحة الوجود إلا علة واحدة، ومؤثر واحد، يؤثر بقدرته وسلطانه في كل الأشياء، من دون أن يجري قدرته ويظهر سلطانه عن طريق إيجاد الأسباب والمؤثرات، بل هو بنفسه قائم مقام جميع ما يتصور من العلل والأسباب التي كشف عنها العلم.

قال أحد التلاميذ: مع كون هذا القول هو قول الكثير من المسلمين ـ وهو لا يقدح في التوحيد ـ إلا أنا نرى أن تفسير التوحيد في الخالقية بهذا المعنى لا يستند إلى دليل عقلي، بل يستند إلى ظواهر بعض الآيات الكريمة المتشابهة، والتي تفسر معناها آيات أخرى كثيرة محكمة.

قال آخر: فالقرآن الكريم يعترف بوضوح بقانون العلية والمعلولية بين الظواهر الطبيعية، ويعترف باستناد الآثار إلى موضوعاتها، واستنادها في نفس الوقت إلى الله سبحانه، حتى لا يغتر القارئ بأن آثار الموضوعات متحققة من تلقاء نفسها.

قال المعلم: فهلا ذكرتم لي بعض الآيات الكريمة التي تذكر ذلك.

قال أحد التلاميذ: من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ [إبراهيم: 32]، فقد نسب الله تعالى إخراج الثمار إلى الماء.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ [السجدة: 27]، فالقرآن الكريم يصرح في هاتين الآيتين بجلاء بتأثير الماء في الزرع إذ إن الباء في (به) في الموردين بمعنى السببية.

قال آخر: وأوضح منهما قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي

القرآن والحجج البالغة (210)

الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: 4]، فإن جملة ﴿يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ﴾ كاشفة عن دور الماء وأثره في إنبات النباتات وإنماء الأشجار، ومع ذلك يتفضل بعض الثمار على بعضها.

قال آخر: ومن أمعن النظر في القرآن الكريم يقف على كيفية بيانه للمقدمات الطبيعية لنزول الثلج والمطر من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث ويطلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية، واكتشاف عللها ومقدماتها.

قال آخر: ويتضح ذلك من خلال التدبر في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الروم: 48]، فقوله: ﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ [الروم: 48] صريح في أن الرياح تحرك السحاب وتسوقها من جانب إلى جانب.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ [النور: 43]، فالآية الكريمة السابقة تسند حركة السحاب إلى الرياح وتقول: ﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ [الروم: 48] وهذه الآية تسندها إلى الله سبحانه وتقول: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ [النور: 43]

قال آخر: وكلا الإسنادين صحيح، حيث إن الرياح جند من جنوده سبحانه وسبب من أسبابه التي تعلقت مشيئته على نزول الفيض من طريقها ولأجل ذلك يعد فعلها فعله، والكل قائم به قيام الممكن بالواجب.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5]، فالآية تصرح بتأثير الماء في اهتزاز

القرآن والحجج البالغة (211)

الأرض وربوتها، ثم تصرح بإنبات الأرض من كل زوج بهيج.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261]، فالآية تسند إنبات السبع سنابل إلى الحبة.

قال آخر: وبناء على ذلك كله نرى أن الله تعالى يسند الإنبات في هذه الآيات إلى الأرض والحب ولكنه يسند ـ في الوقت نفسه ـ ذلك الفعل إلى ذاته ويقول: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: 60]، ويقول: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لقمان: 10]

قال آخر: ولا اختلاف بين الآيات في جميع هذه المجالات إذ الفعل فعل الله سبحانه بما أنه منشئ الكون وموجده، ومسبب الأسباب ومكونها، كما هو فعل السبب، لصلة بينه وبين آثاره.. والأسباب والعلل على مراتبها مخلوقات لله مؤثرات بإذنه، وليس الإسنادان في درجة واحدة وعرض واحد، بل أحدهما في طول الآخر.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لقمان: 10]، أي جعل على ظهر الأرض الجبال الثوابت لئلا تضطرب بكم.

قال آخر: فقد نسب صيانة الإنسان عن الاضطراب والميدان إلى نفسه حيث قال ﴿وَأَلْقَى﴾ [لقمان: 10]. وإلى سببه حيث قال ﴿رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [لقمان: 10]، أي لغاية أن تصونكم الرواسي عن ميدان الأرض بكم كرواسي السفن الصائنة لها عن الميدان والاضطراب.

القرآن والحجج البالغة (212)

قال آخر: والكل يهدف إلى أمر واحد وهو الذي ورد في قوله تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [لقمان: 11]، أي هذا الذي تشاهدونه في السماء والأرض وما بينهما من الأسباب والمسببات كله مخلوق لله، والأسباب جنوده والآثار آثار للسبب وللمسبِب.

توحيد الربوبية

قال المعلم: أحسنتم.. فهلا حدثتمونا عن توحيد الربوبية المتفرع عن توحيد الأفعال.

قال أحد التلاميذ (1): توحيد الربوبية يعني أن تدبير الكون منحصر في الله تعالى فقط، فكما أنه هو وحده الخالق، فهو وحده المدبر لكل شؤونه.

قال آخر: وهو يعني الاعتقاد بأن الخير والشر وتدبير الحياة والكون كلها بيد الله سبحانه، وأن الإنسان، بل كل ما في الكون لا يملك لنفسه شيئا من التدبير.

قال آخر: ويعني كذلك أن مصير الإنسان في حياته كلها إليه سبحانه، ولو كان في عالم الكون أسباب ومدبرات له، فكلها جنود له سبحانه يعملون بأمره ويفعلون بمشيئته.

قال آخر: ويقابله الشرك في الربوبية وهو تصور أن هناك مخلوقات لله سبحانه لكن فوض إليها أمر تدبير الكون ومصير الإنسان في حياته تكوينا أو تشريعا، وأنه سبحانه اعتزل هذه الأمور بعد خلقهم وتفويض الأمر إليهم.

قال آخر: ولأهمية هذا النوع من التوحيد، فقد وردت كلمة (رب) التي هي من صفات الله عزوجل في القرآن الكريم أكثر من غيرها حتى بلغت 900 مرة بألفاظ: (رب،

__________

(1) () الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 2/ 59.

القرآن والحجج البالغة (213)

ربك، ربكم، ربنا، ربي وأمثالها)

قال آخر: والعديد من الآيات الكريمة تعرف الله بـ (رب العالمين)، ويدلل ذلك على أن القرآن الكريم يولي اهتماما خاصا بتوحيد الربوبية، حيث كان أغلب المشركين يجعلون مع الله تعالى موجودات أخرى تشاركه في تدبير العالم، وأغلبهم آمنوا بتوحيد الخالقية لكنهم تورطوا بالشرك في الربوبية، ولذا يقوم القرآن بدفع هذا الانحراف العقائدي الكبير لدى أقوام مختلفة مكررا وباستمرار.

قال المعلم: فهلا ذكرتم نموذجا لذلك من الآيات الكريمة، مع بيان معناها.

قال أحد التلاميذ: من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: 31 ـ 32]

قال آخر (1): ففي هاتين الآيتين الكريمتين إثارة لعلامات الاستفهام أمام المشركين الذين لا ينكرون وجود الله، لكنهم يشركون بعبادته غيره، ويستغرقون في هذا الاتجاه حتى يسيطر على مشاعرهم وأفكارهم، فينسون الله في غمرة ذلك كله، فإذا هم والملحدون سواء.

قال آخر: ولهذا، فهي تنبش أعماقهم، لتستخرج منها الأفكار الكامنة في داخلها، فيما يعتقدونه من أسرار عظمة الله وقدرته، لتوجههم ـ من خلال ذلك ـ إلى حقيقة التوحيد في اعتقاداتهم وأعمالهم وأحاسيسهم وأفكارهم.

قال آخر (2): وهي تدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن يقول للمشركين المعاندين: من يرزقكم

__________

(1) () من وحي القرآن (11/ 304)

(2) () تفسير المراغي (11/ 99)

القرآن والحجج البالغة (214)

من السماء بما ينزله عليكم من الأمطار، ومن الأرض بما ينبته من شتى النباتات تأكلون منه وتأكل أنعامكم؟

قال آخر: وتدعوه لأن يقول لهم: من يملك ما تتمتعون به من حاستى السمع والبصر؟.. وأنتم بدونهما لا تدرون شيئا من أمور العالم، وتكون الأنعام والهوام بل الشجر خيرا منكم باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها.

قال آخر (1): وخص هاتين الحاستين بالذكر لأن السمع والبصر هما أظهر حاستين عاملتين فى الإنسان، لا يكون الإنسان إنسانا إلا بهما، فإذا فقدهما، كان كومة متحركة من لحم، لا تعقل ولا تعى شيئا.

قال آخر: فعن طريق السمع والبصر، جاءت المعرفة إلى الإنسان، وتكونت مداركه، وأخيلته، وتصوراته.. وعن طريق السمع والبصر، تتحول هذه المعرفة إلى قوى دافعة، تحرك الإنسان، وتوجهه إلى غاياته فى الحياة.

قال آخر: وقد عبر عن ذلك بملكية السمع والأبصار، لا بخلقهما، لأن الملكية تطلق يد المالك فى التصرف فيما ملك.. ولا ينفى هذا أن يكون المالك هو الخالق، فهو يخلق ويملك ما يخلق.. وقد يخلق ويهب ما يخلق، أو يملك ما يخلق، فيكون للمالك وحده ـ حينئذ ـ التصرف فيما ملكه.

قال آخر: فالتعبير بملكية السمع والأبصار، يعنى أن الله سبحانه وتعالى ـ وإن فضل بهما على الإنسان، فهما لم يخرجا عن سلطانه، وأنهما ـ وهما يعملان فى الإنسان ـ يعملان بقدرة الخالق، وبتصريفه لهما.. وأنه ـ سبحانه ـ هو الذي يمدهما بالقوى التي يعملان بها، ولولا

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (6/ 1000)

القرآن والحجج البالغة (215)

هذا لبطل عملهما.

قال آخر: فهو ـ سبحانه ـ الذي أعطى السمع والأبصار، ما لهما من قوى عاملة، وهو القادر على أن يأخذ هذه القوى، ويبطل عمل السمع والبصر، كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: 46]

قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ [يونس: 31] صورة من صور إخراج الحى من الميت، وإخراج الميت من الحى، فى مسيرة الإنسان على طريق الحياة، من مولده إلى مماته.. أي من طفولته إلى أرذل عمره وتنكيسه فى الخلق؛ فهو فى بدء طفولته.. ميت حى.. وهو فى أرذل عمره حى ميت.

قال آخر (2): ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ [يونس: 31] أي ومن يلى تدبير أمر الخليقة جميعا بما أودعه فى كل منها من السنن وقدره من النظام.. ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ [يونس: 31] أي فسيجيبون عن هذه الأسئلة الخمسة بلا تلعثم ولا تلكؤ بأن فاعل هذا كله هو الله رب العالم كله ومليكه ـ إذ لا جواب غيره وهم لا يجحدون ذلك ولا ينكرونه.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: 31] أي فقل لهم أيها الرسول الكريم: أفلا تتقون سخطه وعقابه لكم بشرككم وعبادتكم لغيره ممن لا يملك لكم ضرا ولا نفعا.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ [يونس: 32] أي فذلكم المتصف بكل تلك الصفات السالفة هو الله المربى لكم بنعمه والمدبر لأموركم، وهو الحق الثابت بذاته الحي المحيي لغيره المستحق للعبادة دون سواه.

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (9/ 983)

(2) () تفسير المراغي (11/ 101)

القرآن والحجج البالغة (216)

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: 32] أي فماذا بعد الرب الحق الثابتة ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل، فالذى يفعل تلك الأمور هو الرب الحق، وعبادته وحده هى الهدى، وما سواها من عبادة الشركاء والوسطاء ضلال، وكل من يعبد غيره معه فهو مشرك مبطل ضال.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: 32] أي فكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل وعن الهدى إلى الضلال؟ مع علمكم بما كان به الله هو الرب الحق، فما بالكم تقرون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية فتتخذون مع الله آلهة أخرى؟

قال المعلم: أحسنتم.. فهلا ذكرتم نموذجا آخر على ذلك من القرآن الكريم.

قال أحد التلاميذ (1): من ذلك الآية الأولى التي نرددها صباحا ومساء، وهي قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: 65] قد تكررت في سور قرآنية عديدة من قبل العباد أو من قبل الله تعالى، وتكون تارة مرتبطة بالدنيا، وأخرى بيوم القيامة.

قال آخر: هذه الآية تتضمن في الحقيقة استدلالا لطيفا على أن الله عز وجل أهل لكل حمد وثناء، لأنه المربي الحقيقي للعالمين أجمعين، فهو الخالق، وهو الرازق، وهو المالك، وهو المربي، وهو المدير والمدبر، وهو المرشد والمعلم والهادي.

قال آخر: والملاحظ أن (الحمد) استعمل كجنس يشمل كل أنواع الثناء، و(العالمين) كذلك، فإنه جاء على هيئة الجمع المحلى بالألف واللام ليشمل موجودات العالم كلها من عقلاء وغير عقلاء مادية وغير مادية، لهذا حينما وصف موسى عليه السلام الله تعالى أمام فرعون وصفه بأنه (رب العالمين)، وحينها سأله فرعون: ومن رب العالمين؟ فأجاب

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 249.

القرآن والحجج البالغة (217)

موسى: رب السماوات والأرض وما بينهما.

قال آخر: ولذلك، فإن ما يقوم به الآخرون من تعليم وتربية وإنعام في أي زاوية من العالم، فإن ذلك قبس من فيضه سبحانه، ومن كان مالكا فإن ذلك شعاع من مالكيته المطلقة، ولذا علينا قبل أن نشكر عباده ونحمدهم ونثني عليهم يجب أن نحمد الله ونشكر ذاته المقدسة.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى مخاطبا النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 164]، أي كيف تريدون الاستقلال لأنفسكم عن النظام العام لعالم الخلق؟.. فالله رب الموجودات كلها فكيف لا نعتقد بأنه (ربنا)؟ فهل من الممكن أن نجعل شيئا تحت ربوبية الله شريكا له ونعتبر المربوب ربا والمخلوق شريكا للخالق، والعبد في عرض المولى؟ فأي حكم هذا!؟

قال آخر: وبملاحظة سعة مفهوم (شي ء) الذي يشمل كل ما سوى الله سبحانه فإن توحيد الربوبية في هذه الآية ظاهر بصورة كاملة، فالله سبحانه يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضمن آيتين سابقتين بأن يخاطب المشركين بصراحة: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162 ـ 163]، أي لماذا أعبد غيره؟ ولماذا أسجد لغيره؟ وكيف أبقى حيا بذكر غيره؟ أو أموت فداء لغيره؟ في حين أنه وحده هو الخالق والمالك والمربي لي.. ونرى هنا التلاحم والتآلف بين (توحيد العبادة) و(توحيد الربوبية)

قال المعلم: لقد ذكرتم أن الله تعالى اعتبر الكثير من المشركين مشركين وضالين بسبب عدم إيمانهم بهذا النوع من التوحيد، فهلا ذكرتم ما يدل على ذلك من الآيات الكريمة، مع بيان معناها.

القرآن والحجج البالغة (218)

قال أحد التلاميذ: أجل.. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [لقمان: 25]

قال آخر (1): أي أن هؤلاء المشركين، لو سئلوا عمن خلق السموات والأرض، لما وجدوا جوابا إلا جوابا واحدا، ولقالوا ـ اضطرار أو اختيارا ـ: خلقهن الله.

قال آخر: ذلك أنهم لن يستطيعوا أن يضيفوا خلق السموات والأرض إلى غير الله.. فهذه حقيقة أكبر من أن يتسع لها مراء الممترين، وافتراء المفترين.

قال آخر: وهذا يدل على أن هؤلاء المشركين يعلمون أن لهذا الوجود خالقا، ولكن علمهم هذا قد تلبس بأوهام وظنون، واختلط بجهالات وضلالات، فلم يكشف لهم هذا العلم الطريق إلى الله، ولم يطلعهم على بعض ما لله سبحانه من كمال وجلال.. ولهذا كان الطريق بينهم وبين الله ضيقا، مظلما، معوجا، تقوم عليه، وعلى جانبه المزالق والمعاثر.

قال آخر: وقد عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [لقمان: 25] وهو دعوة للنبي، ولكل مؤمن، بالتعقيب على هذا الجواب بحمد الله، الذي خلق السموات والأرض، فهذا الخلق ـ ومنه خلق الإنسان ـ نعمة تستوجب الحمد والشكر للخالق.. كما قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: 1]، وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر: 1]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [الزمر: 38]

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (11/ 581)

القرآن والحجج البالغة (219)

قال آخر (1): أي أن هؤلاء المشركين الذين يتهددون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويخوفونه بآلهتهم، وما يمكن أن يريدوه به من سوء، إذا هو أصر على إعراضه عنها، أو التعرض لها؛ إذا سئلوا عمن خلق السموات والأرض، ما كان لهم جواب إلا أن يقولوا: خلقهن الله.. إذ كانت هذه الحقيقة من الجلاء والظهور، بحيث لا يستطيع مكابر أو معاند أن ينكرها، فهى من الأمور المسلمة التي لا اختلاف عليها.

قال آخر: وقد كان مقتضى هذا التسليم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض أن يقيم للمشركين منطقا سليما مع اعتقادهم فى الله، فلا يجعلوا لغيره شركة معه فى تصريف هذا الوجود، وفيما يجرى فيه.. ولكنهم ـ مع تسليمهم بهذا السلطان المطلق لله ـ يجعلون لآلهتهم شركة معه فى تدبير هذا الملك، وسلطانا مع سلطانه فى تصريفه.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ [الزمر: 38]، وهذا هو السؤال المطلوب من المشركين أن يعطوا له جوابا.. هل هذه الآلهة التي يتهددون بها النبي تملك ضرا أو نفعا؟.. وهل لها إرادة مع إرادة الله، وسلطان مع سلطانه؟.. وهل إذا أراد الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرا هل يمكن أن ترده عنه؟.. وهل إذا أراد الله بالنبي خيرا ورحمة، هل تستطيع أن تمسك هذا الخير وتلك الرحمة عنه؟

قال آخر: إن يكن ذلك مما يقولون، فكيف يتفق هذا مع تسليمهم بأن الله خالق السموات والأرض؟.. وهل من يخلق السموات والأرض يكون مقهورا من تلك الدمى التي يعبدونها؟.. أيتفق هذا مع ذاك؟

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (12/ 1156)

القرآن والحجج البالغة (220)

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ [الزمر: 38]، وهو أمر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بما يلقى به ضلال هؤلاء الضالين، وما يتهددون به من أوهام وأباطيل بأن يذكر بأن الله هو حسبه وكافيه من كل ضر يراد به، وهو حسبه وكافيه، من كل خير يرجوه.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [الزمر: 38] أي أن الله وحده، هو الذي يتوكل عليه المتوكلون، الذين يؤمنون به، ويضيفون وجودهم إليه، فيجدون فى ظله الأمن، والسلامة، والخير.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: 61]

قال آخر (1): أي من أودع في السموات والأرض حكمته وقوته ومواطن الرزق في تدبيره، ومن أبدع الظواهر الكونية والسنن الإنسانية في حركتهما حتى استطاع الإنسان أن يطمئن للحياة فيهما بكل طمأنينة وراحة.

قال آخر: وهي تسأل هؤلاء المشركين عمن سخر الشمس والقمر ليعطيا الحياة الإشراق والدفء، ويمنحاها عناصر الامتداد فيما يتحركان فيه من نظام دقيق يعطي الإنسان توازنه من خلالهما.

قال آخر: وقد أخبر الله تعالى عن جواب المشركين واعترافهم بأنه الله، لأنه الخالق والمدبر والمسخر.. وتلك هي الحقيقة الفطرية العميقة التي تفرض نفسها على قناعاتهم، لأنهم لا يرون أية قوة أخرى ممن حولهم جديرة بأن تكون هي التي تفعل ذلك كله.

قال آخر: ذلك أن كل القوى حادثة مفتقرة إلى من يعطيها سر الوجود وسر الحركة

__________

(1) () من وحي القرآن (18/ 81)

القرآن والحجج البالغة (221)

والامتداد فيه، كما أنهم لا يرون أن الحياة يمكن أن تنطلق بعيدا عن الخالق، لأنها لا يمكن أن تخلق من لا شيء أو تخلق نفسها.

قال آخر: ولهذا فإن حضور الله في الكون، هو الحضور القوي الذي يفرض نفسه على الفكر والوجدان والحياة.

قال آخر: ولهذا يعاتبهم الله تعالى بأنه إذا كان هذا هو الجواب فكيف يتصرفون هذا التصرف المضاد للحقيقة، ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: 87] أي يصرفون عن الحق، ويبتعدون عن الالتزام بنهجه في إطاعة أمر الله ونهيه، وفي الاعتراف بأن الله هو وحده مصدر كل شيء في الوجود، فلا شيء إلا وهو مخلوق له ومستمد منه.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [لقمان: 25]، وقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف: 9]، وقوله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: 87]، وغيرها.

قال آخر (1): وهذه الآيات الكريمة تعرفنا موقف الوثنيين في مسألة التوحيد في الخالقية، وأن تلك العقيدة كانت عامة للمشركين أو لأكثرهم في الجزيرة العربية وغيرها.

قال آخر: نعم، كان الاعتقاد بوجود مبدأين وخالقين لهذا العالم، أحدهما (يزدان) والآخر (أهريمن) أمرا مشهورا بين (الزرادشتيين) ولكن عقيدتهم تحيط بها هالة من الإبهام والغموض، كعقيدة البراهمة والبوذيين والهندوكيين في هذا المجال.

قال آخر: أما مسألة التوحيد في التدبير فلم تكن أمرا مسلما عندهم، بل الشرك في

__________

(1) () الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 2/ 60.

القرآن والحجج البالغة (222)

التدبير كان شائعا بين الوثنيين، حيث كانوا يقولون بأنه ليس للكون سوى خالق واحد وهو موجد السماوات والأرض وخالقهما، ولكنه بعد أن خلق الكون فوض تدبير بعض أموره إلى واحد أو أكثر من خيار خلقه، واعتزل هو أمر التدبير.

قال آخر: وهذه المخلوقات المفوض إليها أمر التدبير كانت في نظر هؤلاء عبارة عن (الملائكة) و(الجن) و(الكواكب) و(الأرواح المقدسة)، وغيرها، والتي تكفلت كل واحدة منها تدبير جانب من جوانب الكون على حد زعمهم.

قال آخر: فعبدة الكواكب والنجوم في عصر إبراهيم عليه السلام كانوا من المشركين في أمر التدبير، حيث كانوا يعتقدون بأن الأجرام العلوية هي المتصرفة في النظام السفلي من العالم، وأن أمر تدبير الكون ومنه الإنسان، فوض إليها فهي أرباب لهذا العالم ومدبرات له لا خالقات له.

قال آخر: ولأجل ذلك نجد أن إبراهيم عليه السلام يرد عليهم بإبطال ربوبيتها عن طريق الإشارة إلى أفولها وغروبها ويقول: إذا كانت هذه الأجرام حسب زعمكم هي المدبرات للموجودات الأرضية ومنها الإنسان، فيجب أن يكون لها إشراف دائم على المدبرات، واتصال دائم بالعالم السفلي الذي يقع تحت تدبيرها، ولكنه لا يجتمع مع الأفول والغروب، لأنهما يستلزمان غيبة المدبر عن مدبَّره وجهله بحاله، فيكون دليلا قاطعا على عدم كونها مدبرة للموجودات الأرضية.

قال آخر: ولأجل أن شرك عبدة الأجرام كان شركا في الربوبية والتدبير نرى أن إبراهيم عليه السلام يستعمل في طرح عقيدتهم وردها لفظ (الرب)، كما قال تعالى حاكيا عنه: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: 76]، وقال: ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: 77] فاستعمل لفظة (الرب) فيهما وفي غيرهما من الآيات الواردة

القرآن والحجج البالغة (223)

في احتجاجه مع المشركين، ولم يستعمل كلمة (الخالق)، للفرق الواضح بين التوحيدين وعدم إنكارهم التوحيد الأول وإصرارهم على الشرك في الثاني.

قال آخر: ذلك أن معنى كلمة (الرب) هوالمتصرف والمدبر والمتحمل أمر تربية الشيء، وكأنه بمعنى الصاحب.

قال آخر: ذلك أن التدبير والتصرف من لوازم كون الشخص صاحبا ومالكا، فرب الضيعة يقوم بأمرها، ورب البيت والغنم بالتصرف اللازم فيهما.

قال المعلم: فهل الشرك المرتبط بالربوبية منحصر في الاعتقاد بربوبية غير الله سبحانه في التدبير، أم أنه يشمل عالم الأمر والتشريع أيضا؟

قال أحد التلاميذ: بل هو يشمل عالم التشريع أيضا؛ فمن أعطى زمام التشريع والتقنين أو الحلال والحرام إلى الإنسان فقد اتخذه ربا لنفسه وصاحبا لها.

قال آخر: ولأجل ذلك نرى القرآن الكريم يصرح بأن اليهود والنصارى اتخذوا الأحبار والرهبان أربابا لأنفسهم ولم يكن الاعتقاد بربوبيتهم بصورة الاعتقاد بتصرفهم في العالم السفلي وإنما كان يتجلى في اتخاذهم أربابا وأصحابا لأنفسهم في إطار التقنين فاستحلوا ما أحلوه، وحرموا ما حرموه، كما قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31]

قال آخر (1): ففي الآية الكريمة اتهام جديد لأهل الكتاب، وكشف عن وجه من وجوه الضلال الذي ركبوه، وهو أنهم انقادوا لأحبارهم ورهبانهم، وجعلوا لهم الكلمة فيهم، والعقل المدبر لهم، فكلمة الأحبار والرهبان لهم، هى الكلمة التي لا معقب عليها

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (5/ 743)

القرآن والحجج البالغة (224)

عندهم، حتى لكأنها كلمات الله عند المؤمنين بالله.

قال آخر: وقد تأول الأحبار والرهبان كلمات الله، وأخرجوها عن مفهومها الذي لها، إلى المفهوم الذي يرونه.. ومن هنا كان للأحبار والرهبان هذا السلطان المبسوط على أتباعهم، بحيث جعلوا إلى أيديهم أمر هؤلاء الأتباع، فيما هو من صميم العقيدة.. فيغفرون لمن شاءوا من المذنبين، ويحرمون من شاءوا من هذا الغفران.. وقد أدى ذلك إلى أن أصبح الأحبار والرهبان آلهة يطلب رضاها، ويتقرب إليها بالقربات، حتى تنال منهم المغفرة والرضوان.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى في دعوته لأهل الأديان إلى توحيد الله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]

قال آخر (1): أي قل: يا أهل الكتاب هلموا وانظروا في مقالة عادلة اتفقت عليها الرسل والكتب التي أنزلت إليهم، فقد أمرت بها التوراة والإنجيل والقرآن.

قال آخر: ثم بين هذه الكلمة فقال: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 64]، أي ألا نخضع إلا لإله له السلطة المطلقة في التشريع، وله التحليل والتحريم، ولا نشرك به شيئا سواه، ولا يتخذ بعضا بعضا أربابا من دون الله.

قال آخر: وقد حوت هذه الآية الكريمة وحدانية الألوهية في قوله: ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ﴾ [آل عمران: 64]، ووحدانية الربوبية في قوله: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ

__________

(1) () تفسير المراغي (3/ 178)

القرآن والحجج البالغة (225)

اللَّهِ﴾ [آل عمران: 64]

قال آخر: وهذا القدر متفق عليه في جميع الأديان، فقد جاء إبراهيم عليه السلام بالتوحيد، وجاء به موسى عليه السلام، فقد ورد في التوراة قول الله له: (إن الرب إلهك، لا يكن لك آلهة أخرى أمامى، لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، ومما فى الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن)

قال آخر: وكذلك جاء عيسى عليه السلام بمثل هذا، ففى إنجيل يوحنا: (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته)

قال آخر: وجاء خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذا: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255]

قال آخر: وخلاصة معنى الآية: أنا وأنتم نعتقد أن العالم من صنع إله واحد هو خالقه والمدبر له، وهو الذي يرسل إلينا أنبياءه ليبلغونا عنه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه، فهلم بنا نتفق على إقامة هذه الأصول، ونرفض الشبهات التي تعرض لها، فإذا جاءكم عن المسيح شئ فيه (ابن لله) أولناه على وجه لا يخالف الأصل الذي اتفق عليه الأنبياء، لأننا لا نجد المسيح فسر هذا القول بأنه إله يعبد، ولا دعا إلى عبادته وعبادة أمه، بل كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له.

قال آخر: وقد كان اليهود موحدين، ولكن كان منبع شقوتهم اتباعهم لرؤساء الدين فيما يقررون من الأحكام، وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من عند الله، وسار النصارى على هذا المنوال، وزادوا مسألة غفران الخطايا، وهي مسألة كان لها أثر خطير فى المجتمع المسيحي حتى بلغ من أمرها أن ابتلعت الكنائس أكثر أموال الناس، فقامت طائفة جديدة تطلب الإصلاح وهي فرقة (البر وتستانت) وقالت دعونا من هؤلاء الأرباب وخذوا

القرآن والحجج البالغة (226)

الدين من الكتاب ولا تشركوا معه شيئا سواه من قول فلان وفلان.

قال آخر: وقد ورد في الحديث عن عدى بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقى صليب من ذهب، فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31]، فقلت له: يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم، فقال: أما كانوا يحللون لكم ويحرمون، فتأخذون بأقوالهم؟ قال: نعم، فقال: (هو ذاك) (1)

قال آخر: ثم عقب الله تعالى على تلك الدعوة بقوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]، أي فإن أعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله، واتخذوا الشركاء والوسطاء والأرباب الذين يحللون ويحرمون، فقولوا لهم إنا منقادون لله مخلصون له لا نعبد أحدا سواه، ولا نتوجه إلى غيره نطلب منه النفع أو دفع الضر، ولا نحل إلا ما أحله الله، ولا نحرم إلا ما حرمه الله.

قال آخر: وهذه الآية الكريمة هى الأساس والأصل الذي دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل الكتاب إلى العمل به حين دعاهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في كتبه إلى هرقل والمقوقس وغيرهما.

قال المعلم: أحسنتم.. فهلا حدثتمونا عن موقف القرآن الكريم من الذين يؤمنون بتوحيد الربوبية، لكنهم في نفس الوقت يتخذون الوسائط، أو يعتقدون أن لها بعض التأثير.

قال أحد التلاميذ (2): من خلال مطالعة دقيقة للآيات القرآنية نستنتج أن القرآن الكريم يصر مؤكدا بأن لا يضيع الناس بين الوسائط، وعليهم أن يتوجهوا إلى ذات الله المقدسة مباشرة، ويتحدثوا معه لتتعلق قلوبهم به وحده ولا يعبدوا غيره.

__________

(1) () الترمذي (3095)

(2) () نفحات القرآن: 3/ 255.

القرآن والحجج البالغة (227)

قال آخر: والتعبير بـ ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29] في سورة الحمد والسور القرآنية الأخرى إشارة إلى هذه الحقيقة، وتكرار ذكر الركوع والسجود (سبحان ربي العظيم) و(سبحان ربي الأعلى) كله لبيان هذه الحقيقة، وهي: ليس خلقنا بيده فحسب، بل وبقاؤنا وتربيتنا وتكاملنا وتدبير أمورنا.

قال آخر: وقد أوضح القرآن الكريم ذلك بدقة، وهو أن (الخالق) و(الرب) لا يمكن أن ينفصلا، ولو دققنا جيدا في الإنسان لوجدنا له خلقا جديدا في كل لحظة، وكل ذلك منه سبحانه.

قال آخر: وتاريخ الديانات يشير إلى أن البشرية بسبب التيه في الوسائط والخرافات التي ابتليت بها، وقعت في عبادة الموجودات المنحطة التي جعلتها آلهة تتحكم بمصائرها، وقد جلب هذا التعدد لها كل ما نراه من الاختلافات والشقاء.

قال آخر: لكن عندما نهجر هذه الوسائط، ونعتبر أن الله هو الرب المطلق كما تقول الدلائل والبراهين العقلية، نعرف أن كل شي ء محتاج إليه فإنا سنصل إلى مبدأ النور والعظمة والوحدة والوحدانية.

قال المعلم: فما تقولون فيما ورد في القرآن الكريم من القسم بـ ﴿الْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ [النازعات: 5]، والمشهور بين المفسرين أن الملائكة هي التي تدبر أمور العالم، فهل هذا يتنافى مع توحيد الربوبية؟

قال أحد التلاميذ (1): لا.. فلو كانت الملائكة لها الاستقلال في التأثير لم يكن ذلك منسجما مع توحيد الربوبية، لكنا نعلم أنها منفذة للأمر الإلهي، وقد أوكلت إليها الأمور

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 262.

القرآن والحجج البالغة (228)

بإرادة الله تعالى ومشيئته نظير الأسباب في عالم الطبيعة التي لها تأثيراتها بأمر الله.

قال آخر: ولذلك لا يوجد تناقض بين القول بأن الله (رب العالمين) و(رب كل شي ء) وبين تأثيرات عالم الأسباب أو تدبير الملائكة بإذن الله، فكما ينص القرآن الكريم على أن الرازق لجميع الموجودات هو الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وما من دابة فى الارض إلا على الله رزقها﴾ يقول في موضع آخر: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 233]

قال آخر: ومن المسلم به أن إطلاق الرازق على والد المولود لا يتنافى مع إطلاقه على الله سبحانه، فهذا مستقل بالذات وذلك بالعرض والتبع.. فعندما نقول: إن في العسل شفاء، كما قال تعالى: ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل: 69]، فإن ذلك لا يتنافى مع أن الشافي هو الله فقط، كما قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80]

قال آخر: فهذه كلها تبين سلسلة العلة والمعلول، أي تبدأ بالعلة غير المستقلة حتى تصل إلى علة العلل ومسبب الأسباب، أي الله تبارك وتعالى، حيث يكون كل سبب مدينا له في تأثيره.

توحيد المالكية

قال المعلم: أحسنتم.. فهلا حدثتمونا عن توحيد المالكية المتفرع عن توحيد الأفعال.

قال أحد التلاميذ (1): توحيد المالكية، ويعني أن المالك الحقيقي تكوينا وتشريعا هو الله تعالى، وأن كل المالكيات الأخرى مجازية وغير مستقلة.

قال آخر: ذلك أن المالكية على قسمين: مالكية حقيقية (تكوينية) ومالكية حقوقية (تشريعية).. والمالك الحقيقي هو من له السلطة التكوينية والخارجية على الأشياء، وأما

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 266.

القرآن والحجج البالغة (229)

المالكية الحقوقية والتشريعية فإنها العقود التي تمضي عليها السلطة القانونية نظير مالكية الإنسان لأمواله.

قال آخر: والقسمان من المالكية لله تعالى في الدرجة الأولى من منظار الموحد لعالم الوجود، فهو تعالى المالك للسلطة الوجودية على جميع الأشياء في الكون، لأن الموجودات كلها منه، وتستمد منه فيض الوجود آنا بعد آن، والجميع تبع له، وبهذا تثبت مالكيته الحقيقية على كل شي ء من كل جهة.

قال آخر: وأما المالكية القانونية، فإن كل شي ء له، لأنه الخالق والموجد لجميع الأشياء، بل حتى ما نصنعه فإنه هو الذي أعطانا وسائل الإنتاج كلها، وعليه فإن المالك الأول في الحقيقة هو الله، وأما مالكيتنا، فما هي إلاوديعة لأيام معدودة.

قال المعلم: بورك فيكم.. والآن اذكروا لنا ما ورد في القرآن الكريم مما يدل على هذا.

قال أحد التلاميذ: القرآن الكريم مليء بالتصريح والإشارة إلى هذا المعنى، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 26]

قال آخر (1): أي أنت ربنا سبحانك لك السلطان الأعلى والتصرف التام في تدبير الأمور وإقامة ميزان النظام العام فى الكائنات، فأنت تؤتي الملك من تشاء من عبادك، إما تبعا للنبوة كما وقع لآل إبراهيم عليه السلام، وإما بالاستقلال بحسب السنن الحكيمة الموصلة إلى ذلك واتباع الأسباب الاجتماعية بتكوين القبائل والشعوب، وتنزع الملك ممن تشاء بانحراف الناس عن الطريق السوى الحافظ للملك من العدل وحسن السياسة

__________

(1) () تفسير المراغي (3/ 131)

القرآن والحجج البالغة (230)

وإعداد القوة بقدر المستطاع، كما نزعه من بنى إسرائيل وغيرهم بظلمهم وفسادهم.

قال آخر (1): وهي تقرر حقيقة كونية إلهية تدخل في صلب النظام الكوني للأشياء، للإيحاء للعاملين من أجل تغيير الواقع الفاسد بأن إرادة التغيير عندما تتحرك في اتجاه الواقع العملي، فإنها ستلتقي بالنتائج الحاسمة في نهاية المطاف إن عاجلا أو آجلا.

قال آخر: لأن الله قد خلق الحياة في مظاهرها الكونية سواء في ذلك الظواهر الكونية، كما في الليل والنهار، أو الحياة والموت، أو الظواهر الإنسانية الاجتماعية، كالملك والعز والذل، أو الظواهر الحياتية في حركة الحياة، كالرزق، وجعلها خاضعة لسنة التغيير من خلال الأسباب الطبيعية التي زود بها الكون، فجعل بعضها خاضعا لإرادة الإنسان في نطاق الظروف الموضوعية المحيطة به وبالأشياء، بينما ظل بعضها خاضعا للأسباب الطبيعية المودعة في الكون الواسع.

قال آخر: وإذا كانت القضية سائرة في هذا الاتجاه، فلا بد من التطلع إلى المستقبل من قاعدة خضوعه لهذه السنة التي تجعله قابلا للتغيير والتبديل، كما تدفع الإنسان إلى تحريك هذه السنة بتحريك إرادته نحو ذلك.

قال آخر: وهذا ما نستوحيه من هذه الآية الكريمة في خطواتنا العملية نحو تغيير الحياة على أساس شريعة الله، وهذا ما استوحاه المفسرون في نزول هذه الآية في أجواء المعارك الإسلامية التي كانت تستشرف المستقبل الذي تنطلق فيه الدعوة الإسلامية قوية فاتحة حاكمة للأرض فيما يصل إليه الفاتحون الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في نطاق القوة الرحيمة الحكيمة العادلة الواعية.

__________

(1) () من وحي القرآن (5/ 295)

القرآن والحجج البالغة (231)

قال آخر: والآية الكريمة تصرح بأن الله تعالى يملك الملك في كل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني القدرة والسلطان والقوة، فهو الذي يملك ذلك كله، ولا يملكه غيره، وهو الذي يملك العطاء والمنع، وهو الذي يمنح العزة للإنسان بمنحه أسبابها، وهو الذي يسلبها عن إنسان آخر، بإبعاد ظروفها عنه.

قال آخر: لكن ذلك لا يعني أن يتم ذلك بشكل مباشر، فيكون الملك منحة للحاكم الظالم، ويكون العز عطية للإنسان الكافر، بينما يعيش المؤمن الحرمان من هذا وذاك.. ولا يعني أن الظالمين والطغاة هم القضاء الذي لا يملك الإنسان معه أن يختار أو يتجه نحو التغيير.

قال آخر: ذلك أن نسبة القرآن الكريم لأي فعل من أفعال الإنسان إلى الله لا يمنع من نسبته إلى الإنسان، تماما كما أن نسبة الظواهر الطبيعية من الحر والبرد واختلاف الليل والنهار إلى الله لا يمنع من نسبتها إلى أسبابها الطبيعية الخاضعة للقوانين المودعة في الكون.

قال آخر: ففي كلا الموردين، لا يقتضي ذلك المباشرة للفعل، بل كل ما هناك هو تعلق إرادة الله بوجوده من خلال سببه الذي قد يكون اختياريا كما في إرادة الإنسان التي هي إحدى الأسباب المباشرة لفعله، وقد يكون غير اختياري، كما في الظواهر الكونية أو الأحداث التي تعرض للإنسان من خلال أوضاع غير إرادية.

قال آخر: وفي هذا الإطار، تحدث الله عن الرزق والخلق والصحة والمرض وتغيير الواقع، فنسبه إلى نفسه كما نسبه إلى الإنسان، كما تحدث عن الأشياء الأخرى.

قال آخر: وعلى ضوء ذلك، نفهم أن الله قد جعل للواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي قوانين تحكمه في مسيرته، وجعل لإرادة الإنسان الدور الكبير في حركة الواقع، وذلك فيما قاله الله سبحانه في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا

القرآن والحجج البالغة (232)

مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، فإذا كان هناك حكم عادل، فإنه يكون منطلقا من الظروف الموضوعية المتحركة في حياة الناس وإراداتهم، وإذا كان هناك حكم ظالم، فإنه يكون راجعا إلى الأسلوب والاتجاه نفسيهما.

قال آخر: وهكذا الحال في تغير الأمور في الجوانب العامة والخاصة في قضايا الفرد والمجتمع.. وقد وردت الإشارة إلى ذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليسلطن الله شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم) (1)، وقوله: (من عذر ظالما بظلمه سلط الله عليه من يظلمه، وإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله على ظلامته) (2)

قال آخر: بل إن الله تعالى ذكر ذلك في مواضع مختلفة، فقال: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112]، وقال: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]

قال آخر: والأحاديث المتقدمة لا تعني أن الله يولي على الناس أمثالهم، أو يسلط عليهم شرارهم، أو يسلط على الإنسان من يظلمه بالمعنى المباشر للكلمة التي توحي بأن ذلك يمثل جانب الجزاء أو العقوبة، بل تعني أن كثيرا من النتائج تأتي تلقائيا عند حصول مقدماتها.

قال آخر: فإذا كان المجتمع شريرا، فإنه ينتج الحاكم الشرير، لأن الحاكم نتاج مجتمعة في الغالب، كما أن ترك المنكر دون ردع سينتهي بالنتيجة إلى امتداد المنكر وقوة فاعليه

__________

(1) () الترمذي (2169)، والبغوي (4154)

(2) () الكافي: 2/ 334.

القرآن والحجج البالغة (233)

الأشرار وضعف الخيرين الذين يستريحون في حياتهم للدعة والطمأنينة وحب الراحة، من دون أن يعملوا على صنع القوة الخيرة وإضعاف القوة الشريرة. وبذلك يكون تسلط الأشرار نتيجة حتمية لذلك.

قال آخر: أما هؤلاء الذين يعذرون الظالم بظلمه، فإنهم يسمحون للظلم بالامتداد من خلال إيجاد المبررات له.. وهكذا يتحول الظلم إلى قوة ترتد على المشجعين لها، وهذا ما نستوحيه من الآيات الكريمة التي تتحدث عن الأوضاع القلقة للحياة في واقع الناس الفاسد من الخوف والجوع والفساد، كنتيجة طبيعية لأعمال الناس.

قال آخر: ولهذا يمكننا أن نقول إن الأشياء كلها ترجع إلى الله، لأنه الذي خلق السبب وربط بينه وبين المسبب، لكنه ترك للإنسان فرصة المباشرة بإيجاد السبب، فلولا أنه خلق الإنسان وخلق معه الإرادة، لما كانت هناك معصية ولا طاعة، ولولا أنه خلق العلاقة بين الإرادة المحاطة بظروفها العادية وبين الفعل المراد، لما تحقق الفعل.

قال آخر: لكن ذلك كله لا يمنع من نسبة الفعل إلى الإنسان الذي يملك أن يريد أو لا يريد، فيصنع المأساة، أو يصنع الفرح، وبهذا الأسلوب يؤتي الله الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، من خلال الظروف السلبية والإيجابية الاختيارية وغير الاختيارية من دون أن يعني ذلك موافقة على نتائج هذا أو ذاك فيما إذا كانت النتائج بعيدة عن خط الخير.

قال آخر: وهكذا إذا تحدثنا عن العز والذل، فإن الله يذل من يذل نفسه ويعز من يعز نفسه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.. ويظل الإنسان هو الذي يصنع مصيره من خلال حسن اختياره للأسباب وسوء اختياره لها، سواء في ذلك الإنسان ـ الفرد ـ في القضايا المتصلة بالمصير الفردي، أو الإنسان ـ المجتمع ـ في القضايا المرتبطة بالمصير الجماعي.

قال آخر: وبعد ذلك، لا معنى للسؤال كيف يؤتي الله الظالم الملك، وكيف ينزع الملك

القرآن والحجج البالغة (234)

من العادل، فإن القضية واقعة في نطاق إرادة الله من خلال طبيعة الربط بين النتائج والمقدمات، ولكنها تنطلق في خط إرادة الإنسان من خلال ممارسته للمقدمات التي توصل إلى تلك النتائج.

قال المعلم: أحسنتم.. فهلا ذكرتم نماذج أخرى على هذا النوع من التوحيد في القرآن الكريم.

قال أحد التلاميذ: أجل.. من ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة: 40]

قال آخر: لقد وردت هذه الآية الكريمة بعد قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 38 ـ 39]

قال آخر (1): وهي تقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألم تعلم أيها الرسول أن الله له ملك السموات والأرض، يدبر الأمر فيها بحكمته وعدله ورحمته وفضله، ومن حكمته أنه وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا، كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين فى الأرض، وأنه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء ويرحمهم إذا صدقوا فى التوبة وأصلحوا عملهم، وأنه يعذب من يشاء تعذيبه من العصاة تربية له وتأمينا لعباده من أذاه وشره، كما أنه يرحم من يشاء من التائبين برحمته وفضله، ترغيبا لهم فى تزكية أنفسهم، وهو القادر على كل شئ من التعذيب والرحمة لا يعجزه شئ فى تدبير ملكه.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ

__________

(1) () تفسير المراغي (6/ 115)

القرآن والحجج البالغة (235)

مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: 13 ـ 14]، وقد عقبها بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فاطر: 15 ـ 17]

قال آخر (1): أي ذلك الذي أقام الوجود على هذا النظام، واستولى بسلطانه على كل شئ فيه هو الرب، الخالق الذي لا رب سواه ولا خالق غيره.. فمن ابتغى ربا غيره فقد ضل، ومن عبد معبودا سواه فقد هلك.. ذلك هو رب العالمين له الملك، وله الخلق والأمر.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ [فاطر: 13]، والقطمير: هو القشرة الرقيقة التي تكون غلافا للنواة فى داخل الثمرة.. وهي تعني أن الذين يعبدهم المشركون من أرباب، لا يملكون مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض.. ما يملكون جميعا قشرة من نواة.. فما أضل من يلتمس العزة، ويرجو الخير ممن لا يملك شيئا.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: 14]، أي أن هؤلاء المعبودين الذين اتخذهم المشركون أربابا لهم من دون الله، إن يدعهم عابدوهم إلى أي أمر، ولأية حاجة لا يسمعوا دعاءهم.. لأنهم أحجار صماء، ودمى خرساء.. ﴿وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾ [فاطر: 14] أي لو قدر لهم أن يسمعوا ـ فرضا ـ أو كان فيهم من يسمع ـ فعلا ـ كالملائكة والجن، وغيرهم ممن يعبدهم المشركون ـ ما استجابوا لهم، وما أسعفوهم بما

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (11/ 864)

القرآن والحجج البالغة (236)

يطلبون منهم.. إنهم يطلبون شيئا ممن لا يملك شيئا.. وفاقد الشيء لا يعطيه.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ [فاطر: 14]، أي: وأكثر من هذا فإن هؤلاء المعبودين يلقون عابديهم يوم القيامة على عداوة لهم، وكفر بعبادتهم إياهم، وبراءة من تلك التهمة التي أرادوا أن يلصقوها بهم.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: 14]، وفيها إشارة إلى أن ما تحدث به الآية من تلك الحقائق، هو الحق المطلق الذي لا شك فيه، لأنه من عند الله، العليم الخبير.. وهذا ما يقضى بالتصديق بهذه الأخبار، والعمل بها، وأخذ العبرة منها، لأنها ممن يعلم الغيب فى السموات والأرض، وكل علم يخالف هذا العلم، باطل، وضلال.

قال آخر: وبعد أن كشفت هذه الآيات الكريمة عن وجه الأرباب التي يتعبد لها المشركون، وأنها لا تسمع دعاء، ولو سمعت ما استجابت لداعيها، لأنها لا تملك شيئا، دعا الله تعالى الناس أن يتجهوا بحاجاتهم إلى من يملك كل شئ، ومن بيده الخير كله.

قال آخر: والناس جميعا فى حاجة دائمة إلى من يعينهم، ويقضى حوائجهم، وهم يتوسلون إلى هذا بكثير من الوسائل، ومنها عبادة الأصنام، والملائكة والجن، والملوك وأصحاب الجاه والسلطان، يبغون بذلك الخير منهم.. وكلهم إنما يتناولون ما بين أيديهم من جاء، أو سلطان، أو مال من عطاء الله.. إنهم فقراء إلى الله، إن حبس عنهم العطاء، كانوا أفقر الفقراء، وأضعف الضعفاء.

قال آخر: ولهذا، فالناس جميعا ـ غنيهم وفقيرهم ـ فقير إلى الله.. ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: 20]

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15] وفي ذلك حث للناس على الطلب من الله، والرغب إليه فيما عنده.. فإنه سبحانه غنى، لا تنفذ خزائنه، ولا تنقص

القرآن والحجج البالغة (237)

بالعطاء أبدا.. وهو سبحانه يستجيب لمن سأله، ويعطيه ما شاء من فضله.. وهو سبحانه يحمد لعباده ما يلقون به عطاءه، من حمد وشكر، أيا كان هذا العطاء، قليلا أو كثيرا.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فاطر: 16 ـ 17] أي إن من فقركم إلى الله، أيها الناس، هو احتياجكم إليه فى حفظ حياتكم فهو سبحانه الذي أوجدكم، وهو سبحانه الذي يحفظ عليكم وجودكم، كما يحفظ وجود الموجودات كلها: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر: 41]

قال المعلم: أحسنتم.. والآن حدثونا عن الآثار التربوية لهذا النوع من التوحيد.

قال أحد التلاميذ (1): بالبحث عن أسباب الطغيان والغرور والتمرد والبخل والحسد وغيرها نجد أنها حالات نفسية تنشأ غالبا من عقيدة الإنسان بأنه المالك الحقيقي لما بحوزته، حيث يرى نفسه حرا فيما إذا استلم زمام الحكم في نطاق واسع أو ضيق، وهذه حالة مشوبة بالشرك وهي منشأ لألوان المعاصي والفساد الاجتماعي.

قال آخر: لكن إذا ما نظر الإنسان إلى هذا العالم بمنظار توحيدي، واعتقد بما في القرآن الكريم من أن العالم ملك مطلق لله واعتبر نفسه ـ كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]ـ أمينا بين يدي الله، واستوعب هذا المعنى بوجوده كله، فكيف يمكن أن يقصر في أداء ما يريده صاحب الأمانة الأصلي أو يبخل أو يحسد؟

قال آخر: وكيف تكون هذه الأموال سببا لغروره وطغيانه، إن كان يعلم أن ما يملك من مال وثروة ليس له.. فهل يغتر الموظف في أحد المصارف بالملايين التي تكون تحت

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 271.

القرآن والحجج البالغة (238)

تصرفه كل يوم؟

قال آخر: إن هذه الرؤية التوحيدية للعالم تعطي للإنسانية صبغة أخرى، صبغة إلهية، صبغة السلام والصفاء والأمن ولون الإنفاق والإيثار.

قال المعلم: لقد ذكرتم الآيات الكريمة الدالة على توحيد المالكية؛ فما الدليل العقلي على ذلك؟

قال أحد التلاميذ: انحصار واجب الوجود في ذاته المقدسة واحتياج الموجودات كلها إلى الله سبحانه وتعالى يكفي لإثبات هذا المفهوم.

قال المعلم: فما تقولون لمن يجعل (ملكية الله) سببا وذريعة لنفي (الملكية الخاصة)؟

قال أحد التلاميذ: (ملكية الله) لا تنفي المالكية الحقوقية والقانونية للإنسان في الإطار الذي يسمح به الله.. وما يتشبث به البعض من ذلك، فهو ليس سوى استغلال لا علاقة له بالشريعة.

قال آخر: ذلك أن القرآن الكريم الذي أكد على مالكية الله لعالم الوجود الواسع بأسره فيه آيات تتعلق بالإرث والخمس والزكاة والتجارة وغيرها.

قال آخر: وهو يضفي الشرعية على الأموال المشروعة التي يتصرف بها القطاع الخاص، فقد جاء التعبير بـ ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾ [التغابن: 15] في 14 آية قرآنية، والتعبير بـ ﴿أَمْوَالِهِمْ﴾ [المعارج: 24] في 31 آية.

قال آخر: وقد وردت الكثير من التعاليم الالهية في العديد من الآيات الكريمة تعلمنا كيفية التصرف في الأموال.

قال آخر: فلو كان مفهوم الملكية الإلهية ينفي ملكية الإنسان، فما هو إذن مفهوم الآيات التي وردت في هذه الـ 45 آية إضافة إلى آيات كثيرة أخرى تتعلق بهذا الموضوع؟

القرآن والحجج البالغة (239)

قال آخر: فالله تعالى يقول: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2]، ويقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 10]

قال آخر: ويقول: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261]، ويقول: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 262]

قال آخر: ويخاطب المرابين، فيقول: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 279]

قال آخر: ويقول عن اليتامى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: 6]

توحيد الحاكمية

قال المعلم: أحسنتم.. فهلا حدثتمونا عن توحيد الحاكمية المتفرع عن توحيد الأفعال.

قال أحد التلاميذ (1): من المعلوم أنه ومن أجل تنظيم شؤون المجتمعات البشرية نحتاج إلى ثلاث سلطات: (السلطة التشريعية) التي تتكفل سن القوانين الكفيلة بحفظ

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 275.

القرآن والحجج البالغة (240)

النظام في المجتمع والحيلولة دون ضياع الحقوق، و(السلطة التنفيذية) التي تنفذ ما صادقت عليه السلطة التشريعية وتتولاها عادة الحكومات المؤلفة من الوزراء والدوائر الحكومية، و(السلطة القضائية) المسؤولة عن معاقبة المتخلفين عن القانون والمجرمين والمعتدين.

قال آخر: وبحسب القرآن الكريم فإن هذه السلطات الثلاث تستمد من الله تعالى، فهو الذي يشرع القوانين، وهو الذي يجيز تشكيل الحكومات وتنفيذ القوانين، وهو الذي يمنح الشرعية لعمل القضاة.

قال آخر: وعليه فإن هذه السلطات الثلاث لابد أن تستمد شرعيتها من الله تعالى طبق الشرائط والأوامر.

قال المعلم: ألا ترون أن هذا مما تستغربه العقول؟

قال أحد التلاميذ: لا.. فكل عارف بالله مقر بتوحيده، يذعن بنفاذ أمره في عالم الوجود.. وعندما يتقبل حاكميته على عالم الوجود فإنه سوف لا يتردد في ولايته وحكومته التشريعية، لأنه حينما يكون هو الخالق والمالك والمدير والمدبر فغيره لا يكون أهلا للتشريع، ولا يتمكن من وضع قوانين تنسجم مع نظام التكوين والخلق.

قال المعلم: فهل دعا القرآن الكريم إلى هذا النوع من التوحيد، أم أنه مجرد استدلال عقلي؟

قال أحد التلاميذ: بل القرآن الكريم مليء بالدعوة للحاكمية الإلهية، وفي جميع المجالات، ومن الآيات الكريمة الدالة على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، وقال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، وقال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]

القرآن والحجج البالغة (241)

قال آخر (1): أي كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله وأخفاه وحكم بغيره، فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه، وغطوه وأظهروا لهم غيره وقضوا به.

قال آخر (2): وهي تشير إلى المعنى العملي للكفر في إيحاءاته والتزاماته ونتائجه، فإن للكفر درجات ومراتب تبعا لما في الإيمان من درجات تبدأ من الإيمان القلبي لتمتد إلى الإعلان عنه باللسان لتصل ـ في الدرجة العليا ـ إلى الإيمان العملي الذي يعمل على تغيير واقع الإنسان من الضلال إلى الهدى، ومن الانحراف إلى الاستقامة.

قال آخر: وهذا كله إذا كان عدم الحكم بما أنزل الله ناشئا من حالة الخوف أو من حالة الطمع، أما إذا كان ذلك ناشئا من إنكار شرعيته وواقعيته أو الاستهانة به من جهة عدم الإيمان بكتاب الله ورسوله، فإنه يكون كفرا التزاميا يشمل العقل واللسان والحركة.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]

قال آخر (3): في الآيات السابقة ذكر سبحانه الأحكام في الكتب الإلهية وأن اتباعها واجب لمن أرسلت إليهم، وقد أشار إلى أحكام خالدة، ومنها شريعة القصاص، لأنها شريعة العدل والمساواة، إذ فيها أن العقوبة كفاء الجريمة وأن العقوبة من جنس الجريمة، فمن أجرم فإن فعله يطوي في ثناياه استحقاقه للعقوبة على ما ارتكب، وله المثلاث فيما ارتكب.

__________

(1) () تفسير المراغي (6/ 125)

(2) () من وحي القرآن (8/ 188)

(3) () زهرة التفاسير (4/ 2230)

القرآن والحجج البالغة (242)

قال آخر: ثم ذكر سبحانه أن التوراة لأهل التوراة، وأن الإنجيل لأهل الإنجيل، ولكل شرعة ومنهاج، أما القرآن فهو المهيمن على الجميع، ويجب أن يسود حكمه الجميع بلا استثناء ولو كان لكل شريعة ومنهاج، وقد أمر بالحكم به بين اليهود، وبين جميع الناس، لا فرق بين يهود وغيره، ولا بين أبيض وأسود.

قال آخر (1): ثم قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: 49]، وهو نداء تأكيدي لتقرير المبدأ وتعميق المسؤولية في كل الموارد التي يختلفون فيها، ويتحاكمون إليك في حلها، وإعطاء الحكم الحاسم فيها.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: 49]، أي لأنك تمثل الحق في الرسالة التي أنزلها الله لتحرك الإنسان في مسيرة الحق بامتداده في الزمن كله والإنسان كله، لأن الله هو الحق الذي خلق السموات والأرض بالحق، ويريد للإنسان أن ينسجم مع الوجود كله في قيامه ـ في الأرض ـ في حياته الفردية والجماعية على أساس الحق، فلا مجال للخضوع للحالات العاطفية التي تستجيب لرغبة هذا لمصلحة هناك، أو تبتعد عن ذاك لمشكلة هناك، أو لإغراء يندفع في أحلام وتمنيات ووعود ببعض المكاسب الصغيرة والكبيرة، فقد أرسلك الله لتركز للناس أهواءهم على أساس رضى الله لا على أساس السقوط أمام تأثيراتها العاطفية في وجدانك الشخصي، فإنك لا تملك نفسك، ولكن رسالتك هي التي تؤكد حركتك مع الناس كلهم.

قال آخر (2): ثم قال تعالى: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]، وهذا أمر موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو موجه إلى الأمة الإسلامية، ولعل توجيه الخطاب

__________

(1) () من وحي القرآن (8/ 202)

(2) () زهرة التفاسير (4/ 2232)

القرآن والحجج البالغة (243)

للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المعصوم الذي يوحى إليه، ليكون تحذيرا لغيره؛ إذ غيره أولى أن يغره الغرور، وتفتنه الفتن، من شهوات مسيطرة، وأهواء متحكمة.

قال آخر: وبذلك يكون الخطاب لجميع المخاطبين بالقرآن الكريم في كل العصور، ومختلف الدهور؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن يحذر من أن يفتن فلا ينفذ أحكام الإسلام في الحكم بين الناس، فغيره الحذر عليه أوجب، وأشد إلزاما.

قال آخر: ومعنى الفتنة هنا وقوع البلاء والشدة بعدم الحكم بما أنزل الله.. وهي النتيجة المترتبة عن ترك الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنه ليسبق تلك النتيجة إغراء من جانب الذين يتبعون أهواءهم، ويحاولون أن يكون الحق تبعا لما يهوون، لا أن يكون هواهم تبعا للحق، وكان إغراؤهم من الفتنة لأنه يؤدي إلى وقوع الشدائد، ولأن الإغراء، كيفما كانت صورته فيه اختبار للنفوس، فالهداية البالغة أقصى الحكمة ترد الإغراء كيفما كانت صورته، وضعفاء النفوس أو العقول يفترون، فيقعون في البلية والشدة.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أولئك الذين يذكرون أن التشدد في الأخذ بأحكام القرآن ينفر الناس من الإسلام، ويبعدهم منه.. ومنهم من ينفر من تحريم الإسلام للربا، لأنه في تصورهم ضد الاقتصاد.. ومنهم من يمنع إقامة حدود الله، ويقولون: إن ذلك يتنافى مع الحضارة، وينفر الناس من الإسلام.

قال آخر: وقد حذر الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبالأولى المؤمنين من أن يفتنوا عن بعض ما أنزل الله تعالى، وتشديد التحذير من الفتنة في البعض، يتضمن التحذير من الفتنة في كل ما أنزل الله تعالى، إذ الفتنة في الكل أشد إيجابا للتحذير من الفتنة في البعض.

قال آخر: ذلك أن الفتنة في بعض ما أنزل الله تعالى تؤدي إلى الفتنة في كل ما أنزل الله سبحانه، لأن ما أنزل الله سبحانه وتعالى يجب الأخذ به، وهو مرتبط الأجزاء متماسك، فإذا

القرآن والحجج البالغة (244)

حلت عروة منه انحل سائره، كالبنيان المرصوص، وإذا تهدم جزء منه تداعت لبناته وانهار البنيان، وصار أجزاء منثورة لا تربطها رابطة.

توحيد العبودية

قال المعلم: أحسنتم.. فهلا حدثتمونا عن توحيد العبودية المتفرع عن توحيد الأفعال.

قال أحد التلاميذ (1): التوحيد في العبادة والعبودية يعني ألا نعبد غير الله تعالى، وهو يلازم (توحيد الذات والصفات)، ذلك أن كل ما سوى واجب الوجود ممكن ومحتاج إليه، فلا سبيل إلاأن تكون العبادة مختصة به، ذلك أنه الكمال المطلق، ولا يوجد كمال مطلق سواه، والعبادة تعتبر طريقا للوصول إليه، فلابد أن تكون مختصة به.

قال آخر: ولذلك كان هذا النوع من التوحيد هو عنوان دعوة الأنبياء عليهم السلام والقاعدة الاولى لشرائعهم، وغالبا ما كانت مواجهاتهم مع المشركين تنشأ منه.

قال المعلم: فما المراد من العبادة والعبودية؟

قال أحد التلاميذ (2): هي تعني غاية الخضوع بين يدي من له غاية الإنعام والإكرام وهو الله عزوجل.

قال آخر: ذلك أن الإحترام والتواضع والخضوع والثناء صفات لها مراتب ودرجات آخرها وذروتها العبادة والعبودية.

قال آخر: ومن البديهي أن يخضع الإنسان لأوامر من يحترمه إلى هذه الدرجة وينقاد له بكل وجوده انقيادا تاما ويهوي إلى الأرض ويسجد له.

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 213.

(2) () نفحات القرآن: 3/ 215.

القرآن والحجج البالغة (245)

قال آخر: ولهذا، فإن الإنسان إذا استوعب روح العبادة الخالصة، فإنه يكون قد خطا خطوة كبيرة في طريق الطاعة لأمر الله والعمل بالصالحات والابتعاد عن السيئات، ومثل هذه العبادة ـ خاصة إذا كانت دائمة ومستمرة ـ تكون رمزا لتربية الإنسان وتكامله.

قال آخر: ولهذا حازت العبادة الخالصة على هذه الدرجة من الأهمية إلى الحد الذي يقول الله تعالى فيها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]

قال المعلم: لكن القرآن الكريم يحوي ما يدل على السجود للخلق، كما ذكر الله تعالى ذلك عن آدم ويوسف عليهما السلام.

قال أحد التلاميذ (1): حقيقة العبادة هي الخضوع المطلق، وغاية التواضع والتذلل أمام المعبود لكونه إلها ومعبودا.. وهذا لا يمنع من الخضوع والتواضع لغيره من باب الاحترام ونحوه، كما قال تعالى عن الوالدين: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24]

قال آخر: ومثل ذلك نهى الله تعالى المسلمين عن رفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2]

قال آخر: ولذلك، فإن الخضوع المطلق وغاية التذلل إن لم يقترن بالاعتقاد بالربوبية والمملوكية يكون عبادة ومختصا بالله.

قال آخر: وقد قال الإمام الرضا في ذلك: (أما سجود يعقوب وولده فإنه لم يكن ليوسف إنما كان ذلك منهم طاعة لله وتحية ليوسف، كما كان السجود من الملائكة لآدم، ولم

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 227.

القرآن والحجج البالغة (246)

يكن لآدم إنما كان ذلك منهم طاعة لله وتحية لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكرا لله لاجتماع شملهم ألا ترى إنه يقول في شكره في ذلك الوقت: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ [يوسف: 101] (1)

قال آخر: وقال الإمام العسكري: (لم يكن له سجود الملائكة لآدم، إنما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه لله عزوجل، وكان بذلك معظما مبجلا له، ولا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله يخضع له كخضوعه لله ويعظمه بالسجود له كتعظيمه لله) (2)

قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن حديث القرآن الكريم عن هذا النوع من التوحيد.

قال أحد التلاميذ: القرآن الكريم مليئ بالدعوة إلى التوحيد في العبادة، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36]

قال آخر (3): ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن ملاك دعوة الرسل الإيمان بالله، وترك عبادة الأوثان؛ فلا يكون فى المؤمنين أبدا من لم يجتنب عبادة الأوثان، ولهذا كانت دعوة إبراهيم عليه السلام لربه قوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35]

قال آخر: ذلك أن تجنب الشيء واجتنابه هو الابتعاد عنه، اتقاء للخطر المتوقع منه، إذا داناه الإنسان، فكيف إذا اختلط به، وسكن إليه، فالأمر باجتناب الخمر، وما أمرنا

__________

(1) () وسائل الشيعة: 6/ 386.

(2) () بحار الأنوار: 11/ 138.

(3) () التفسير القرآني للقرآن (4/ 31)

القرآن والحجج البالغة (247)

باجتنابه من منكرات، هو أمر ملزم مؤبد لافكاك منه أبدا.

قال آخر (1): والآية الكريمة تذكر المنهج الذي أراد الله أن يحكم حياة الناس، فهو يرسل إليهم الرسول، ليبلغهم رسالاته، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، فيما أعده لهم من عقل قادر على التخطيط والوصول إلى النتائج الكبيرة، وما منحهم من إرادة وقدرة على الاختيار.

قال آخر: ولا تختلف الرسالات، ولا الرسل، في الخط العام الذي يحكم دعوتهم، فهناك خط إيجابي يتعلق بالموقف من الله، وهو أن يعبدوا الله وحده، بكل ما تعنيه العبادة من التزام بإرادة الله وأوامره ونواهيه، في كل شيء، مهما كان صغيرا.

قال آخر: وهناك خط سلبي يتعلق بالموقف من الناس، وهو أن يجتنبوا الطاغوت، بكل ما توحي به الكلمة من نهج الطغيان في الحكم والشريعة والمنهج والموقف والشخص، الذي لا يلتقي بالله من قريب أو من بعيد. وبهذا يكون كل ما عدا الله طاغوتا، بينما يكون الالتزام بالنهج الذي حدده الوحي، عبادة لله وخضوعا له.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى مواقف البشر من ذلك، فقال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ﴾ [النحل: 36] بما هيأه من وسائل الهداية التي تؤمن الوصول إلى سواء السبيل ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾ [النحل: 36] وثبتت في حياتهم، لأخذهم بأسباب الضلالة، التي جعلت من خلالهم نتيجة حتمية تفرضها علاقة المسببات بالأسباب.

قال آخر: وهذه سنة الله في عالم الهداية والضلال، والتي تدل عليها ساحة الحياة وتاريخ السابقين، ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36] فيما

__________

(1) () من وحي القرآن (13/ 220)

القرآن والحجج البالغة (248)

أنزله الله عليهم من عذاب.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى في الدعوة إلى توحيد العبودية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]

قال آخر (1): ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن الدعوة لعبادة الله وحده هى ملاك دعوة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، وهم بشر مثل هؤلاء البشر.. ودعوتهم جميعا هى أنه لا إله إلا الله، وأنه وحده المستحق لأن يفرد بالألوهية والعبادة.. فكانت دعوة كل رسول إلى قومه مفتتحة بهذا النداء: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون: 23]

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: 45]

قال آخر (2): ففي الآية الكريمة إلفات لهؤلاء المشركين الذين يعبدون ما يعبدون من دون الله، من أوثان، وكواكب، وملائكة، إلى أن ما هم عليه من هذا المعتقدات ليس من دين الله فى شئ.

قال آخر: ذلك أن دين الله هو إفراده سبحانه وتعالى بالعبودية المبرأة عن الشريك، والصاحبة والولد؛ فمن أى رسول من رسل الله تلقى المشركون هذا الدين الذي يدينون به؟.. أكان من رسل الله من دعا إلى عبادة غير الله؟.. وحاش لله أن يحمل رسول من رسل الله دعوة إلى عبادة غير الله، إذ كيف يكون رسولا لله من يدعو لغير الله؟

قال آخر: والسؤال من النبي لرسل الله هنا، ليس سؤالا مباشرا، بحيث يسأل الرسل ويتلقى الجواب منهم.. وإنما هو سؤال بالنظر فيما قص الله سبحانه وتعالى على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (9/ 864)

(2) () التفسير القرآني للقرآن (13/ 138)

القرآن والحجج البالغة (249)

من قصص الرسل عليهم السلام، ومحامل رسالاتهم إلى أقوامهم.

قال آخر: فقد كانت دعوة كل رسول إلى قومه: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون: 32]

قال آخر: فهذا نوح عليه السلام يقول لقومه: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ [هود: 26]

قال آخر: وهذا هود عليه السلام يقول لقومه: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون: 23]

قال آخر: وهذا صالح عليه السلام يقول لقومه: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون: 23]

قال آخر: وهذا إبراهيم عليه السلام يقول لأبيه وقومه: ﴿مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ [الصافات: 85 ـ 86]

قال آخر: وهذا شعيب عليه السلام يهتف بقومه: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [المؤمنون: 23]

قال آخر: وهكذا كانت دعوة الرسل إلى أقوامهم، تدور كلها حول تصحيح معتقدهم فى الله، وإقامة وجوههم إلى الله وحده لا شريك له.

قال آخر: وفي نظر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أخبار الرسل مع أقوامهم يجد أن دعوتهم قائمة على توحيد الله، وتحرير العقول من ضلالات الشرك به، وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا، قد سأل الرسل، وتلقى الجواب منهم.

قال آخر: وليس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فى حاجة إلى أن يسأل عن أمر هو عالم به، ولكن هذا السؤال منه، هو دعوة إلى هؤلاء المشركين أن يشاركوا فى هذا السؤال، وأن يتلقوا الجواب

القرآن والحجج البالغة (250)

عليه، حتى يكون لهم من ذلك علم يصححون به معتقداتهم الفاسدة، التي جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلاج ما بها من أدواء، كما جاء رسل الله جميعا بدواء تلك الأدواء.

2. براهين التوحيد

بعدما انتهى الشهود من حديثهم عن حقيقة التوحيد وأقسامه، قلت لهم: فهل اكتفيتم بذلك؟

قال أستاذهم الشاهد الأول: أما أنا، فقد اكتفيت بذلك.. فبمجرد أن سمعت تلك الآيات الكريمة التي يذكر الله تعالى فيها وحدانيته، شعرت أنها وحدها حجة بالغة، وكافية، وقاطعة، بالإضافة إلى أن كل الدلائل تدل عليها.. لكن من تلاميذي من كان مثلي، واكتفى بذلك، ومنهم من طالب المعلم بالحجج والبراهين.. وسيحدثك كل واحد منهم على الحجة التي اهتدى بها إلى التوحيد الخالص.

برهان الفطرة

قام أحد التلاميذ، وقال: شكرا لأستاذنا على تقديمه لنا.. فقد كنت أحد الذين طلبوا من المعلم أن يدلوه على براهين التوحيد، وحينها سألني بعض الأسئلة عني، وقد عرف من خلالها نوع الدليل الذي أحتاجه، فسار بي إلى بعض تلاميذه، وطلب منهم أن يحدثوني عن دليل الفطرة، فقال أحدهم: برهان الفطرة من أحسن البراهين وأقواها لأصحاب الفطر السليمة، وهو ليس نافعا ومرشدا في البحث عن صفات الله فقط، بل هو يدخل في كل العقائد بما فيها النبوة والمعاد وغيرهما.

قال آخر: وهكذا، فإن هذا البرهان من براهين وحدانية ذات الله وصفاته، ذلك أننا عندما تبلغ المشكلات والابتلاءات ذروتها، وحينما توصد أبواب عالم الأسباب أمامنا يقرع

القرآن والحجج البالغة (251)

أسماعنا صوت التوحيد في أعماق وجودنا ويدعونا إلى الواحد ذي القدرة التي تفوق المشكلات وتتجاوز عالم الأسباب كله.

قال آخر: وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل أثناء إقامته الحجج على المشركين، ومنها قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: 65]

قال آخر (1): فالآية الكريمة تشير إلى أن مشكلة الكافرين الذين يعلنون الكفر وينصرفون عن عبادة الله إلى عبادة غيره، هي أنهم يناقضون أنفسهم في بعض الحالات التي يشتد عليهم فيها الضغط في دائرة الخطر على الحياة، فيلجؤون إلى الله، لأنهم لا يرون أمامهم سبيلا للنجاة إلا اللجوء إليه.

قال آخر: ولهذا يذكر الله تعالى أن هؤلاء إن ركبوا في الفلك، وثارت بهم الرياح من كل الاتجاهات، وأحاط بهم الموج من كل مكان، ورأوا الموت بأعينهم، واهتزت بهم الفلك حتى كادت أن تنقلب بهم لتغرقهم في أعماق البحر دعوا الله مخلصين له الدين أن ينقذهم من ذلك، ويسير بهم إلى الشاطئ الآمن، ليرجعوا إليه ويعبدوه بإخلاص ويتجهوا بكل حياتهم إلى دينه، ويتركوا كل ما سواه.

قال آخر: لكنها مجرد حالة طارئة، وانفعال سريع في حالة الخطر، ذلك أنه لما نجاهم إلى البر، واستراحوا إلى السلامة، وعاشوا الأمل الكبير في امتداد الحياة بهم، تركوا كل عهودهم ومواثيقهم واستعدادهم، فيما التزموا به على أنفسهم أمام الله، ونسوا ذلك كله، وإذا هم يشركون بالله، فيما تفرضه عليهم أطماعهم، فيرجعون إلى أوثانهم وأصنامهم وإلى

__________

(1) () من وحي القرآن (18/ 86)

القرآن والحجج البالغة (252)

آلهتهم التي يعبدونها من دون الله.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه لا مفر لهؤلاء من العذاب، فقال: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 66]، أي: فكيف يكفر هؤلاء؟ وما ذا ينتظرون؟ وهل يفكرون بالامتداد الخالد للحياة في أجسادهم؟ وهل ينتظرون أن تبقى لهم هذه الشهوات في أوضاعهم؟

قال آخر: ولذلك، فليكفروا كما شاءوا، وليمتدوا في عبادة غير الله، وليتمتعوا بكل أطايب الحياة وشهواتها ولذاتها، فسوف يعلمون عندما يشاهدون عذاب الله في نار جهنم، عندما تنتهي الحياة، ويواجهون المسؤولية أمام الله.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: 33]

قال آخر (1): فالآية الكريمة تشير إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي هى حظ مقسوم في الناس جميعا، يولدون بها كما يولدون على هذه الصورة الإنسانية، وما فيها من جوارح، وما في كيانها من قوى عقلية، ونفسية، وروحية، ثم تمضى بهم الحياة، فيختلفون أشكالا، ويتعددون صورا وأنماطا، فى ألسنتهم، ومدركاتهم، ومشاعرهم.

قال آخر: وهناك حال واحدة، تأخذ فيها الفطرة مكانها في الناس جميعا، حتى أولئك الذين أفسدوا فطرتهم بكفرهم وضلالهم، وتلك الحال هى ما يلبس الناس من ضر، وما ينزل بهم من بلاء وكرب.. ففى تلك الحال، يعود الإنسان إلى فطرته، أو تعود إليه فطرته، وإذا هو ـ من غير حساب أو تقدير، وعلى غير وعى أو إدراك ـ قد فزع إلى الله، ولاذبه من

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (11/ 518)

القرآن والحجج البالغة (253)

وجه هذا البلاء المطل عليه.

قال آخر: وفي هذه التجربة التي يمر بها كل إنسان مرات كثيرة في حياته، شاهد يقوم في كيان الإنسان، يشهد بأن الله في ضمير كل إنسان، وفي وجدان كل كافر، ومشرك، وإن كان هو ينكر ذلك، ولا يعترف به.. لكن إذا مسه الضر، وكربه الكرب، أخذته صحوة كصحوة الموت، وإذا نفسه قد أشرقت بنور الحق، فعرف الله ومد يده إليه.. ولكن سرعان ما يخبو هذا النور، ويطغى عليه ظلام كثيف، حين تزال عنه هذه الغاشية، وتزايله تلك الصحوة، وإذا هو على ما عهد عليه نفسه من كفر وضلال.

قال آخر: ولذلك، فإن تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ [الروم: 33] تقرير لهذه الحقيقة؛ فالناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم على سواء في اللجأ إلى الله، والضراعة إليه، حين ينزل بهم الضر، ويحتويهم البلاء.. ثم تختلف بهم الحال بعد هذا، كما كانت حالهم مختلفة من قبل.. فالمؤمنون على اتصال بالله في السراء والضراء، وعلى إيمان به وولاء له، فى اليسر والعسر، أما غير المؤمنين فإنهم لا يعرفون الله، ولا يؤمنون به، إلا حين تضطرب بهم سفينة الحياة، ويغشاهم الموج من كل مكان.. هنالك يدعون الله مخلصين له الدين، كما دعا فرعون ربه، وآمن به حين أدركه الغرق.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: 33] تصوير لحال هؤلاء الكافرين بالله، حين يرفع عنهم البلاء، وتتداركهم رحمة الله.. فإنهم لا يكادون يخرجون من يد الهلاك، حتى ينسوا ربهم الذي دعوه من قبل، وكأنهم لم يكن بينهم وبينه شئ! وفي العطف بـ (ثم) بين الفزع إلى الله، وبين الغوث، واستجابة الدعاء، إشارة إلى أنه ليس في كل غوث يغاث المستغيثون.. فذلك مرهون بتقدير الله وحكمته، وفيما قضى به في عباده.

القرآن والحجج البالغة (254)

قال آخر: ثم إن الاستجابة، إذا وقعت لا تقع على حسب تقدير الإنسان لحدود زمانها، ولا للصورة التي تقع عليه، فذلك أيضا، مرهون بتقدير الله، وعلمه، وحكمته.. وهذا مما يبتلى به العباد.. فالمؤمنون يدعون الله تضرعا وخفية، ولا ييأسون من روح الله ورحمته أبدا.. حتى أنه إذا لم يستجب لهم، ووقع ما يكرهون، أصبح هذا المكروه عندهم محبوبا مستساغا، لأنه من عند الله، وبتقدير الله، وبإرادته فيهم.. أما الذين لا يؤمنون بالله، فلا يزيدهم ذلك إلا كفرا بالله، وبعدا عنه.

قال آخر: و(إذا) في قوله تعالى: ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: 33] فجائية، وهي ذات دلالتين.. أولاهما: مبادرة المشركين والضالين، وإسراعهم إلى ما كانوا عليه من شرك وضلال.. وثانيتهما: أن ذلك خروج على غير المنتظر، من قوم كانوا إلى لحظات قليلة يتجهون إلى الله، ثم إذا هم يحولون وجوههم عنه، لا لسبب، إلا ما ساق إليهم الله من خير، وما مسهم به من رحمة، وهذا أمر يثير العجب، والدهش والاستغراب.. أفهكذا يقابل الإحسان، ويستقبل الفضل؟ ولكن متى كان للعمى أن يبصروا، وللصم أن يسمعوا؟

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ﴾ أي من الناس، والمراد بالفريق، المشركون الضالون.. وفي إضافة المشركين إلى ﴿رَبَّهُمْ﴾ إشارة إلى فداحة هذا الظلم، الذي ركبه هؤلاء المشركون، فجحدوا نعمة ربهم، الذي استجاب لهم، ودفع البلاء عنهم.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 40 ـ 41]

القرآن والحجج البالغة (255)

قال آخر (1): ففي هذه الآية الكريمة دعوة قرآنية للتفكير في الاتجاه السليم الذي يقود الناس إلى الإيمان، وخلاصتها أن مشكلة الكافرين والمشركين، هي أنهم يواجهون قضية العقيدة مواجهة اللامبالاة، فلا يجدون ضرورة للتأمل، فيمتدون في حالة الاسترخاء الفكري طلبا للراحة من عناء التغيير الفكري، ويمعنون في الضلال فيما يسول لهم الشيطان من الإخلاص لعقيدة الآباء والأجداد، فيعبدون الأصنام ويقدسونها ما شاءت لهم الأهواء ذلك.

قال آخر: وفجأة يتغير كل شيء من حولهم، عندما يحيط بهم عذاب الله فيما ينزله من بلاء، وفي ما يهددهم من أسباب الهلاك.. وعند ما تقترب منهم ساعة الموت، ما ذا يحدث؟ هل يلجأون إلى الأصنام التي يعبدونها لتدفع ذلك عنهم!؟

قال آخر: القرآن ينفي ذلك، لأن هذا التقديس لا يعيش في الأغوار العميقة للإنسان، بل يطفو على الطبقة السطحية من تفكيره، فإذا اهتزت تلك الطبقة اهتزت معها كل القناعات الطارئة، وبدأ التفكير العميق يتحرك في مستوى الحقيقة الصارخة... فهذه الأصنام لا تملك الحياة لنفسها فكيف تملكها للآخرين، ولا تدفع الضر عن وجودها، فكيف تدفعه عن الآخرين!؟

قال آخر: وحينها يتساءل الإنسان بفطرته التي تنزع إلى الالتجاء نحو القوة المطلقة التي هي الملجأ والملاذ في مطلق الأحوال، ولكل شيء: إلى أين؟ وينفتح في قلبه النور الإلهي في إشراقة الإيمان العميق.. فهذا هو الله خالق كل شيء، ومرجع كل شيء.

قال آخر: وحينها تنطلق الدعوات في جو اليقظة، ابتهالا وخشوعا وخضوعا إليه،

__________

(1) () من وحي القرآن (9/ 98)

القرآن والحجج البالغة (256)

وتغيب الأصنام الحجرية والخشبية والبشرية في ضباب النسيان.

قال آخر: وهنا يأتي الدور الإلهي من خلال ما تقتضيه حكمته العالمة بأسرار الأشياء والأشخاص، فيكشف البلاء، ويستجيب الدعاء إن شاء أو يهمل كل ذلك؛ لأن الموقف الإشراكي والعصياني قد وصل إلى الحد الذي لا مجال معه للرحمة الإلهية.

قال آخر: وفي إثارة القرآن الكريم لهذا، إيحاء للمشركين والكافرين بإعادة النظر بقناعاتهم، وذلك بدراسة الأسس الأولية التي استندوا إليها في حركتهم الفكرية والعملية قبل أن يواجهوا الحقيقة الصعبة في موقف لا يملكون معه أية فرصة للتراجع والتخلص.

قال آخر: والبأساء والضراء التي يأخذ الله بها عباده، ليست بعيدة عن أسبابها الطبيعية الكامنة في حركة الكون والحياة، بل هي منطلقة منها، ذلك أن الله أجرى الأمور على السنن الحتمية في الوجود لكنه أراد لها أن تخلق ـ بحسب طبيعتها ـ حالة وجدانية في داخل الإنسان، فتذكره بالحاجة إلى الارتباط به، على أساس أنه مصدر القوة، ومرجع كل شيء.

قال آخر: وذلك لأن الله جعل منابع الوعي الإنساني لقضايا الإيمان خاضعة في وجودها ونموها واستمرارها لما أبدعه في الكون من دلائل عظمته، ومن أسرار خلقه ومواقع رحمته وحكمته؛ فإذا أخذ الإنسان بإيحاءاتها أمكنه أن يلتقي بالله من أوسع الأبواب، أما إذا أغفلها وتناساها وابتعد عن خطها الأصيل، فإنه سيلتقي بالعذاب والهلاك في الدنيا والآخرة.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ [النحل: 53 ـ 54]

القرآن والحجج البالغة (257)

قال آخر (1): فالآية الكريمة تتحدث عما لله سبحانه وتعالى فى عباده من فضل وإحسان؛ فكل ما هم فيه من نعم، هو من عند الله.. حياتهم التي يحيونها.. وحواسهم، وجوارحهم، ونومهم ويقظتهم، وطعامهم وشرابهم، وما بين أيديهم من مال وبنين.. كل هذا، وأضعاف هذا مما يتقلبون فيه، ويقيمون وجودهم عليه، هو من عطاء الله، ومن فضل الله، ومن رحمة الله.

قال آخر: وتذكر الآية الكريمة أن ما يبتلى به الإنسان من ضر هو من عند الله، وهو سبحانه الذي يدعى لكشف الضر، ويرجى لدفع الشدة، كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 40 ـ 41]

قال آخر: قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 54 ـ 55] بيان لجحود الإنسان وكفرانه بفضل الله عليه، ومكره بنعمه.. فهو إذا أصابته نعمة، بطر، وكفر، وأعرض عن الله، وإذا مسه ضر جأر إلى الله، ورفع صوته شاكيا متوجعا، وعاهد الله لئن كشف الضر عنه، ليؤمنن بالله، وليستقيمن على صراطه المستقيم، فإذا كشف الله الضر عنه، نسى ما كان يدعو إليه من قبل، ولم يزده هذا الإحسان إلا ضلالا وكفرانا.. وقليل هم أولئك الذين يذكرون فى هذا الموقف ربهم، ويشكرون له ما آتاهم من فضله، وفى هذا يقول الله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]

قال المعلم: فما الذي تستنجونه من هذه الآيات الكريمة؟

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (7/ 308)

القرآن والحجج البالغة (258)

قال أحد التلاميذ (1): هذه الآيات الكريمة تشير إلى أن القرآن الكريم لا يعد المعرفة الإلهية في الإنسان أمرا فطريا وحسب بل يعتبر الإيمان بوحدانيته من الأمور الفطرية أيضا.

قال آخر: وبما أن الفطرة الأصيلة في الإنسان تتعرض في الغالب إلى حجاب الرسوم والعادات والأفكار المنحرفة والتعاليم المغلوطة فينبغي انتظار تلك الساعة التي تزول فيها هذه الحجب، من هنا فإن القرآن يشير إلى لحظات حساسة في حياة الإنسان، وذلك عندما تزول الحجب بواسطة عواصف الأحداث ويبقى الإنسان وفطرته وصريح وجدانه فيدعو حينئذ ربه لوحده ويزول عنه ما سواه.

قال آخر: ويدل هذا جيدا على أن عبادة الواحد والتوحيد مستودعة في أعماق روح الإنسان.

برهان التناسق

بعدما انتهى التلميذ الأول من حديثه، قام آخر، وقال: لقد جاء الآن دوري لأحدثكم عن البرهان الذي ساقني إلى التوحيد.. إنه برهان التناسق.. وقد استفدته من صحبتي للمعلم، وسماعي لما ذكره تلاميذه، والذين كانوا لسانه الناطق.

لقد قال أحدهم مجيبا له، عندما طلب منهم الحديث عن هذا البرهان (2): لقد ذكره ربي، فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: 3 ـ 4]

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 132.

(2) () نفحات القرآن: 3/ 138.

القرآن والحجج البالغة (259)

قال آخر (1): إن هذا العالم الواسع بكل ما يتضمنه من عظمة فهو متناسق ومنسجم ومترابط ومتحد ومنظم، وإن وجود الاختلاف في اللون والشكل والوزن وسائر الكيفيات الظاهرية والباطنية أو الكمية أمر طبيعي جدا، ولكن الشي ء الذي لا وجود له هو عدم التناسق واللانظم والاختلال.

قال آخر (2): وقوله تعالى: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ [الملك: 3] دعوة للإنسان أن ينظر بعقله ليرى مصداق قوله تعالى: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: 3].. أي أن من شك في هذه الحقيقة، أو من لم يقع له بعد علم بها، فليلق بصره على هذا الوجود، وليقف بين يديه وقفة المتأمل الدارس، ثم ليسأل نفسه: هل يرى من فطور؟ أي هل يرى خللا، أو اضطرابا، أو تفاوتا؟.. والفطور: هو التشقق، والتصدع، الذي من شأنه أن يصيب الشيء الذي أصيب به.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: 4]، أي إذا انكشف لنظرتك التي ألقيتها على هذا الوجود، أنه ليس فى خلق الله من تفاوت، أو من فطور، فلا تقف عند حدود هذه النظرة، التي أعطتك علما يقينيا بأن ليس فى خلق الله الرحمن من تفاوت أو فطور؛ فهذا الذي وقع لك من علم، هو خير كثير، فاحرص عليه، واجعل منه زادا تتزود به فى طريقك إلى الإيمان بالله، ثم اطلب مزيدا من هذا العلم، وذلك بمعاودة النظر بعد النظر، فى ملكوت الله، الذي لا حدود له.. فإنك إن فعلت سلك بك ذلك طريقا لا نهاية له، من العلم اليقيني، بقدرة الله، وعظمته، وجلاله.

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أن البصر يعود بعد هذه الرحلة الطويلة السابحة فى

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 136.

(2) () التفسير القرآني للقرآن (15/ 1051)

القرآن والحجج البالغة (260)

ملكوت الله، ﴿خَاسِئًا﴾ [الملك: 4] أي منزجرا، مرتدا فى استخزاء، أمام هذا الجلال الذي ببهر الأبصار، ويخلب العقول، بعد أن يبلغ به التعب والإعياء غايته، وبعد أن يرى الإنسان الذي حصل ما حصل من علم الدارسين المتفحصين، أنه ما زال على شاطئ بحر لا نهاية له.

قال آخر: والحسير، هو المتعب الكليل، الذي أعيا من طول النظر.. ويجوز أن يكون المعنى على صورة أخرى، وهي أنه مهما عاود الناظر النظر والبحث وراء الوقوع على تفاوت فى خلق الرحمن، فإنه لن يجد شيئا من هذا، ولو أجهده السير، وطال به المطاف، حتى يسقط إعياء.

قال آخر: وهذا يعنى أن العلم وحده لا يقيم الإنسان على إيمان يقينى، إلا إذا التقى هذا العلم بقلب سليم، تنقدح فيه شرارة العلم، فيضئ بنور الحق والهدى.

قال آخر: وفي هذا ما يشير إلى أن العقل، وإن كان من المطلوب منه أن ينظر فى ملكوت الله، وأن يقرأ فى صحف الوجود ما شاء من آيات الله؛ فإن عليه أن يعلم أنه على ساحل محيط لا نهاية له، وأنه إذا أراد أن يحتوى كل ما فى هذا الوجود، فإن ذلك لن يقع له، ولن يجد آخر المطاف إلا العجز والإعياء.. فليرض إذن بما يقع له من علم، وليتخذ من هذا العلم، الشاهد الذي يقيم فى قلبه إيمانا وثيقا بالله، وبماله من قدرة، وعلم، وحكمة، وجلال.. فذلك حسبه من العلم الذي يبلغ به شاطئ الأمان.

قال المعلم: فهلا ذكرتم لنا بعض ما ذكره العلم في هذا الجانب، كأدلة للتناسق الدال على الوحدة.

القرآن والحجج البالغة (261)

قال أحد التلاميذ (1): ذلك مما لا يمكن حصره.. ومنه ما ذكره عن الإلكترون، وأنه يدور على عكس عقارب الساعة، والأرض تدور على عكس عقارب الساعة، والشمس تدور على عكس عقارب الساعة، والكواكب السيارة تدور على عكس عقارب الساعة، والقمر وكل الأقمار تدور على عكس عقارب الساعة، والنجوم كلها تدور عل عكس عقارب الساعة، ومجرتنا التي تضم بين أجزائها مجموعتنا الشمسية تدور على عكس عقارب الساعة.

قال آخر: وأخبر أن الإلكترون يدور على مدار بيضوي إهليجي، والأرض تدور حول الشمس على مدار بيضاوي إهليجي، وكذلك الزهرة ونبتون والمشتري والكواكب السيارة.

قال آخر: وأخبر أن محور الأرض مائل، ومحور القمر مائل ومحور المريخ مائل، ومحور الشمس مائل.

قال آخر: وأخبر أن النسبة بين النواة وإلكتروناتها كالنسبة بين الشمس وكواكبها السيارة.

قال آخر: وأخبر أن ذرات الوجود كلها تقوم على الزوجية كهرباء سالبة وكهرباء موجبة فإذا ارتقينا إلى النبات وجدنا عنصر الزوجية، فإلى الحيوان كذلك فإلى الإنسان كذلك.. وحتى في الأحياء المخنثة توجد أعضاء ذكرية وأخرى أنثوية.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: 36]

__________

(1) () لخصنا هنا بعض ما ذكرناه في كتاب: الباحثون عن الله (ص 168).

القرآن والحجج البالغة (262)

قال آخر: وأخبر أن في الأرض نفس العناصر التي تؤلف الشمس ونفس العناصر التي تؤلف كل الكواكب.

قال آخر: وأخبر أن الكون بكل عناصره مؤلف من بروتونات وإلكترونات كعناصر أساسية هناك نيترونات كشحنات كهربائية معتدلة تكون في نواة معظم العناصر.

قال آخر: وأخبر أن المادة كلها من نور إذ أن عناصر المادة كلها تؤول إلى ذرات وكهارب وأن هذه الذرات والكهارب تنشق فتؤول إلى شعاع.

قال آخر: وأخبر أن أجنة الحيوان والإنسان في الشهور الأولى من الحمل متشابهة تشابها تاما، فإذا بهذا التشابه يخرج منه ذلك الخلق المختلف.

قال آخر: وأخبر أن في هذا الكون قوة ومنابع قدرة وتحكمه قوانين.. وكلها تصيح بأدق معاني التناسق والوحدة بين القوى والقوانين.. فمن منابع القوة والقدرة في هذا الكون: الضوء والحرارة والأشعة السينية والأشعة اللاسلكية والأشعة البنفسجية وتحت الحمراء.. وهذه القوى كلها ترجع إلى شيء واحد هو تلك القوة الكهربائية المغناطيسية، ولها جميعا سرعة واحدة، وإنما اختلافها اختلاف موجة.

قال آخر (1): وأخبر أن الأجسام المختلفة والمتباينة تماما تتركب ـ كما يبدو بالتحليل النهائي لها ـ من عدد من العناصر المعينة، وهي تلك ـ الموجودات البسيطة التي اكتشف منها أكثر من 100 عنصر لحد الآن، وهذه العناصر رغم اختلافها الشديد في الظاهر نراها عند تحليلها إلى أجزاء صغيرة ـ أي الذرة ـ أنها متشابهة والفارق فيها هو عدد الألكترونات والبروتونات.

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 139.

القرآن والحجج البالغة (263)

قال آخر: ومن العجيب أن يكون النظام الحاكم على هذه الذرة هو الحاكم على العالم الواسع أي المجموعات والمجرات أيضا حيث تجمع قوة الجذب والطرد هذه السيارات في مجموعة واحدة أو الالكترونات في ذرة واحدة وفي مدارات خاصة تدور حول النواة الأصلية دون أن تنفصل عن بعضها أو تتجاذب فيما بينها.

قال آخر: وأخبر أن الكائنات في الأرض وإن بدت لنا متنوعة، كما في الألوان التي نشاهدها شديدة الاختلاف فيما بينها إلاأننا وبالتحليل النهائي نصل إلى أن كل الألوان ترجع إلى أمواج تختلف في شدة ذبذبتها وطول أمواجها وقصرها.

قال آخر: وأخبر أن الأصواتا المختلفة، الجميلة منها والقبيحة، الخفيفة والصاخبة ترجع إلى مبدأ واحد، وهو عبارة عن أمواج خاصة تنشأ من اختلاف الذبذبة فيها.

قال آخر: وأخبر أن للأحياء أنواع كثيرة جدا، فالحشرات وحدها لها مئات الآلاف من الأنواع، والنباتات لها أنواع تفوق ذلك، غير أن علماء النبات والحيوان يقولون: إنها مركبة من مادة واحدة، ومؤلفة من الخلايا التي يحكمها نظام واحد، ولذا تجرب الأدوية التي يراد معرفة درجة تأثيرها في الإنسان على الحيوانات أولا في الغالب.

قال آخر: وقد توصل العلماء من خلال تحليل النور المنبعث من الكواكب البعيدة والقريبة إلى أن العناصر التي تتركب منها الكواكب السماوية تشابه الأجزاء التي تتركب منها كرتنا الأرضية، وهذا يعني وجود تناسق عجيب حاكم على مجموعة الأجرام والنجوم في الكون.

برهان التمانع

بعدما انتهى التلميذ الثاني من حديثه، قام ثالث، وقال: لقد جاء الآن دوري لأحدثكم عن البرهان الذي ساقني إلى التوحيد.. إنه برهان التمانع.. وقد استفدته من

القرآن والحجج البالغة (264)

صحبتي للمعلم، وسماعي لما ذكره تلاميذه، والذين كانوا لسانه الناطق.

لقد قال أحدهم مجيبا له، عندما طلب منهم الحديث عن هذا البرهان: لقد ذكره ربي، فقال: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 21 ـ 22]

قال آخر (1): ففي قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ [الأنبياء: 21] تسفيه لعقول المشركين الذين يعبدون مما على الأرض، من ناطق أو صامت، مثل أولئك الذين اتخذوا من البشر آلهة، أو من الأحجار أصناما ينحتونها ويعبدونها.. فهؤلاء أحمق عقولا، وأغلظ جهلا من أولئك الذين عبدوا الملائكة، وإن كان هؤلاء وأولئك جميعا فى ضلال مبين.. فلا الملائكة المقربون، ولا الجن، ولا البشر، ولا الأحجار، ولا أي شئ مما خلق الله، مما يصح فى عقل عاقل أن يجعل له إلى الله نسبا، فضلا عن أن يجعله إلها مع الله، يشاركه التصريف والتدبير.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ [الأنبياء: 21] إشارة إلى مدى الانحطاط العقلي، الذي وصل إليه أولئك الذين يعبدون ما على هذه الأرض من مخلوقات.. فهى من معدن هذا التراب الذي تدوسه الأقدام، فكيف يكون هذا التراب المشكل فى أي صورة من الصور، إلها يعبد من دون الله، ويرجى منه ما يرجو المؤمنون بالله، من الله رب العالمين؟

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ [الأنبياء: 21] يمكن أن يكون استفهاما.. تقديره أهم ينشرون؟ أي أهؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم من الأرض ينشرون الأموات ويبعثونهم من قبورهم، كما يفعل الله؟ والاستفهام هنا إنكارى.. ويمكن أن يكون جملة

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (9/ 859)

القرآن والحجج البالغة (265)

خبرية، هى صفة للآلهة، وتكون الآية كلها مبنية على الاستفهام الإنكارى، ويدخل فيها إنكار الجملة الخبرية، كذلك.

قال آخر: ثم قرر الله تعالى هذا البرهان، فقال: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 22].

قال آخر: وفي هذا تعقيب على ما وجه به المشركون الذين يتخذون من عباد الله، فى السماء أو فى الأرض آلهة؛ فإن ذلك سفه وجهل، وسوء تقدير لما ينبغى أن يكون للإله المعبود، من صفات الكمال والجلال المطلقين.

قال آخر: ذلك أنه إذا كان الإله الذي يستحق العبادة موصوفا بصفات الكمال المطلق، فإن هذه الصفات ـ فى إطلاقها ـ لا تكون إلا لإله واحد، لا يشاركه أحد فيها، إذ لو شاركه غيره فيها، أو كان له مثلها، لما كان له الكمال المطلق، ولما كان له التفرد بالألوهية.. إذ الكمال المطلق صفة واحدة، ولا يتصف بها إلا موصوف واحد، هو الله سبحانه.

قال آخر: ومن جهة أخرى.. فإن هذا الوجود، فى علوه وسفله، وفى سمائه وأرضه ـ لو قام عليه أكثر من ذى سلطان واحد مطلق، لما استقام أمره، ولما استقر نظامه، ولكان لكل ذى سلطان أن يتصرف فيما له سلطان عليه، ولذهب كل منهم مذهبا، فمضى ذا مشرقا، ومضى ذاك مغربا.. وأخذ هذا يمينا، وأخذ ذاك يسارا.. فيتصادم هذا الوجود، وتتضارب الوجودات، وينفرط عقدها، وتتناثر أشلاؤها.

قال آخر: فالإنسان مثلا، وهو العالم الأصغر، الذي يناظر العالم الأكبر.. يقوم على ملكة التفكير فيه، عقل واحد.. ويقوم على تغذيته بالدم ـ الذي هو ملاك حياته ـ قلب واحد.

قال آخر: فلو كان للإنسان عقلان.. ماذا يكون حاله؟ وكيف يكون مقامه فى عالم

القرآن والحجج البالغة (266)

البشر؟.. إن لكل عقل مدركات، وتصورات وتقديرات.. فبأى عقل يسير؟ وبأى عقل يحكم على الأشياء ويتعامل معها؟.. إنه بهذين العقلين إنسانان لا إنسان واحد.. إنه ذو شخصية مزدوجة، تتصارع فيها العواطف والنوازع، وتقتتل فيها الآمال والرغبات، ثم لا يسكن هذا الصراع، ولا ينتهى هذا القتال، حتى يتحطم هذا الكائن العجيب.

قال آخر: ومثل هذا يقال فى القلبين، اللذين يفسد أحدهما عمل الآخر، وينقض أحدهما ما بناه صاحبه، ولذلك قال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب: 4]

قال آخر: ومثل هذا يقال فى الجماعات البشرية؛ فكل جماعة يجب أن يكون على رأسها رأس واحد.. وإلا فالتنازع والتصادم، والفساد.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 22] تنزيه لله سبحانه عما يصفه به الواصفون، من صفات لا تخصه بالكمال المطلق، بل تجعل له شريكا فيها، ويكون له بمقتضى ذلك سلطان مع سلطان الله، وعرش كعرش الله.. فالله سبحانه منزه عن أن يكون على تلك الصفة.. إنه سبحانه الإله المتفرد بالخلق والأمر.

قال آخر: ومثل ذلك قرر الله تعالى هذا البرهان في قوله: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: 91]

قال آخر (1): فالآية الكريمة تذكر أنه ليس لهؤلاء الذين ينسبون لله الولد أي دليل، سوى ما قد يتخيلونه لبعض المخلوقات من الجن أو الملائكة أو الإنس، من قدرات غير عادية لا تتناسب مع طبيعة المخلوق العادي، مما يؤدي بهم إلى الاعتقاد بأن في شخصية هذه

__________

(1) () من وحي القرآن (16/ 188)

القرآن والحجج البالغة (267)

المخلوقات سرا من الألوهية، التي تتمتع بالقدرات الخارقة في علم الغيب، أو في التحرك غير الطبيعي الذي يقطع المسافات، ويطير في الفضاء، ويتحرك في السماء، أو في الأعمال المعجزة التي يقومون بها من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وما إلى ذلك من أمور لا تحصل إلا لمن يملك في ذاته بعضا من الألوهية، ولن تكون الألوهية شيئا يأتي من الخارج، بل لا بد من أن تتأتى عن الارتباط العضوي بالإله الواحد المهيمن، كالبنوة التي توحي بوجود شيء منه داخل ولده، نظرا لطبيعة إرث الأبناء لخصائص الآباء.

قال آخر: لكن هذا التفكير لا يخلو من السذاجة، فإن البنوة تمثل نوعا من أنواع المحدودية والحاجة التي يستحيل وجودها في واجب الوجود، وهو الغني عن عباده في كل شيء، وليس هناك أي فراغ في ذاته لتسده مثل هذه الأمور.

قال آخر: أما هذه القدرات الخارقة والأعمال المعجزة، فمن السهل أن يمنح الله عباده بعضها، تماما كما يمنح بعض ظواهره الكونية الخصائص العظيمة، فيما يركزه في داخلها من قوانين طبيعية، لأنه على كل شيء قدير، وليس من الضروري أن تكون هذه الأمور خاضعة لعناصر ذاتية بالمعنى الإلهي للمسألة، لأنه لا دليل على ذلك، ولا مقتضى له.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ [المؤمنون: 91]، أي ليس لدى من يدعون ذلك أية حجة وبرهان عليه سوى تخيلاتهم المرضية المعقدة التي توحي لهم ببعض الأخيلة الفكرية التي تنسجها نقاط الضعف الشعورية الناتجة عن رواسب تاريخية وبدائية، أو عن بعض الأفكار المتخلفة التي تضخم ما لا يملك أية ضخامة فعلية، وتمنح بعض الأشخاص أو التماثيل صفات وهمية لا واقع لها.

قال آخر: وليست المسألة مجرد نفي للدليل، بل هناك دليل عقلي قاطع على وحدانية

القرآن والحجج البالغة (268)

الله ونفي الشرك، توفره حسابات العقل من جهة، ومعطيات الواقع في النظام الكوني من جهة أخرى.

قال آخر: وقد نص على ذلك قوله تعالى: ﴿إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ﴾ [المؤمنون: 91]، لأن من خصائص التعدد وجود اختلاف في طبيعة الذات، يجعل لكل إله نظاما يختلف عن الآخر، مما يوحي بأن ألوهية أحدهما وربوبيته تختلف عن صاحبه، فيستقل كل واحد بمنطقة من العالم يمارس فيها قدرته المطلقة ويخطط فيها النظام الذي يرتئيه.

قال آخر: وبذلك تنفصل طبيعة النظام الذي يحكم الكون إلى أقسام، ويصبح لكل منطقة نظام مستقل لا يرتبط بالنظام الذي يحكم المنطقة الأخرى.

قال آخر: فقد يكون للإنسان ـ على هذا الأساس ـ تدبير معين يختلف عما هو جار في تدبير الحيوان والنبات، وهكذا عندما نواجه المخلوقات الأخرى والظواهر الطبيعية.

قال آخر: لكن هذا يوجب التفكيك في النظام الكوني، ومن ثم التدافع والتجاذب الذي قد يؤدي إلى الفساد، في الوقت الذي نشاهد فيه وحدة هذا النظام وتناسق أجزائه وتوافق جوانب التدبير فيه.

قال آخر: ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون: 91]، أي قد يكون سبب ذلك هو أن تعدد السلطات يستلزم التنافس عند محاولة سيطرة كل إله على الآخر وما تفرضه طبيعة الصراع، حيث يحاول كل منهما الاستعلاء على الآخر فيما يملكه من القدرة المطلقة.

قال آخر: لكن ذلك يعني اضطراب النظام الكوني وفساده، في الوقت الذي لا نجد فيه أي أثر لهذا الفساد في الواقع.

قال آخر: وبذلك يكون الاعتقاد بتعدد الآلهة جاريا على طبيعة الاعتقاد العام الذي

القرآن والحجج البالغة (269)

ينظر إلى مسألة التعدد في الآلهة على طريقة التعدد في الناس، فلا تكون الملازمة خاضعة للمعادلات العقلية، بل تكون منسجمة مع الاستلزام العادي الناشئ من طبيعة الأشياء في حركة السطح، لا في حركة العمق.

قال المعلم: أحسنتم.. فهلا قررتم هذا البرهان على مناهج المتكلمين والفلاسفة.

قال أحد التلاميذ (1): أجل.. برهان التمانع الذي قد يعبر عنه بـ (برهان الممانعة) أو (برهان الوحدة والتناسق) يتألف من مقدمتين.. أولاهما ما نراه من الانسجام والوحدة والتناسق في عالم الخلق.. وثانيهما أنه لو كانت القوى الحاكمة على هذا الكون قوتين أو أكثر فإن ذلك سيؤدي إلى حدوث الاختلاف والاختلال.

قال آخر (2): وبما أننا لا نلاحظ أي اختلال أو عدم تعادل في هذا الكون والقوانين الحاكمة فيه، ندرك أنها تنشأ من مبدى ء واحد وأنها مخلوقة ومدبرة ومنظمة من خالق واحد.

قال آخر: ويمكن تقريره بأن القول المفضي إلى المحال لابد أن يكون محالا.. وهكذا، فإن القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال.. فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالا.

قال آخر: ذلك أنا لو فرضنا وجود إلهين فلا بد أن يكون كل واحد منهما قادرا على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادرا على تحريك شيء ما وتسكينه.

قال آخر: فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه والآخر تسكينه.. فإما أن يقع المرادان، وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين.

قال آخر: وإما أن لا يقع واحد منهما، وهو محال، لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك، وبالعكس.. فلو امتنعا معا

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 145.

(2) () مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (22/ 127)

القرآن والحجج البالغة (270)

لوجدا معا، وذلك محال.

قال آخر: ويستحيل أن يقع مراد أحدهما دون الثاني لوجهين: أولهما أنه لو كان كل واحد منهما قادرا على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر، بل لا بد وأن يستويا في القدرة.. وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني، وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح.

قال آخر: أما الثاني، فإنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر، فالذي وقع مراده يكون قادرا، والذي لم يقع مراده يكون عاجزا، والعجز نقص، وهو على الله محال.

قال آخر: حتى لو فرضنا اتفاقهما في الإرادة.. فإننا نعتبر ذلك من نوع الممكن.. فإذا كان الفساد مبنيا على الاختلاف في الإرادة، وهذا الاختلاف ممكن.. والمبني على الممكن ممكن.. فكان الفساد ممكنا.

قال المعلم: فكيف جزم القرآن الكريم بوقوع الفساد؟

قال أحد التلاميذ: لو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادرا على جميع المقدورات، فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد، وهو محال.

قال آخر: ذلك لأن استناد الفعل إلى الفاعل لإمكانه، فإذا كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد، فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع، فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلا منهما جميعا، فيلزم استغناؤه عنهما معا واحتياجه إليهما معا وذلك محال.

برهان الصديقين

بعدما انتهى التلميذ الثالث من حديثه، قام رابع، وقال: لقد جاء الآن دوري لأحدثكم عن البرهان الذي ساقني إلى التوحيد.. إنه برهان الصديقين.. وقد استفدته من صحبتي للمعلم، وسماعي لما ذكره تلاميذه، والذين كانوا لسانه الناطق.

القرآن والحجج البالغة (271)

لقد قال أحدهم مجيبا له، عندما طلب منهم الحديث عن هذا البرهان (1): إن الله سبحانه وتعالى يمثل وجودا لا نهاية له من كل جهة (2)، ومن المؤكد أن مثل هذا الوجود لا سبيل للاثنينية إليه، فمن غير الممكن وجود موجودين لا نهائيين.

قال آخر: ذلك أنه يقتضي أن نصل إلى حد ينتهي فيه الوجود الأول، ويبدأ وجود الثاني، وبذلك يكون الوجود الأول محدودا، وهكذا الوجود الثاني، لأن كل واحد يكون ذا بداية ونهاية.

قال آخر: وكمثال على ذلك شخصان يملك كل واحد منهما بستانا، فمن الطبيعي والحتمي أن لكل بستان حدودا معينة، ولو فرضنا أن مساحة البستان الأول تشمل كل الأرض، فأين تكون مساحة البستان الثاني؟.. وبذلك سيكون أمامنا بستان واحد في الأرض.

قال آخر: ولذلك، فإن الحديث عن اللامحدود يعني الحديث عن الوحدة.

قال آخر: ولهذا يطلق على هذا البرهان أيضا (برهان صرف الوجود)، أي أن الله سبحانه وجود مطلق ومجرد عن القيد والشرط وغير محدود، ولا يفترض الثاني له أبدا.

قال آخر: وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الدليل في مواضع مختلفة، منها قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]

قال آخر (3): فمضمون هذه الآية الكريمة هو أن الله عزوجل يشهد على وحدانيته

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 145.

(2) () ذكرنا الأدلة المفصلة على ذلك في: القرآن وتأويل الجاهلين (2/ 35)

(3) () نفحات القرآن: 3/ 146.

القرآن والحجج البالغة (272)

وكذلك الملائكة والعلماء.. ومن علامات وحدانية ذاته المقدسة هي حاكمية النظم والعدل على الكون، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18]

قال آخر: ومن البديهي أن لو كانت ثمة آلهة تحكم الكون، فإن منطقة كل إله لا تكون في اختيار الثاني، وبتعبير آخر يكون كل واحد فاقدا لقدرة الثاني، وهذا لا ينسجم اتصافه بـ (العزيز) الذي نصت عليه الآية الكريمة.

قال آخر: كما أن حكمته التي تحكم العالم آية اخرى على وحدانيته، فلو تعددت الأكوان كانت نهايتها الفساد والدمار، ولهذا وصفت الآية الكريمة الله تعالى بكونه حكيما.

قال آخر (1): والقرآن الكريم يواجه المشركين بالله من خلال هذه الآية الكريمة بالإعلان بأنها الحقيقة الحاضرة التي تعبر عن نفسها من دون حاجة إلى دليل، تماما كما هي الأمور الحسية التي تثبت بالحس، فالآية الكريمة تبدأ بشهادة الله أنه الواحد الذي لا إله إلا هو في حضور الحقيقة في ذاته، وشهادة الملائكة في إدراكهم لعظمة الله من خلال منازل القرب إلى مواطن عظمته، وأولي العلم فيما يقودهم إليه العلم من الإحساس اليقيني بهذه الحقيقة.

قال آخر: وفي ذلك إيحاء بأن المنكرين الذين لا يشهدون بهذه الحقيقة لا ينطلقون من علم، بل يتحركون في متاهات الجهل.

قال آخر: والقيام بالقسط، وهو العدل، هو من لوازم الوحدانية التي توحي بالقوة المطلقة والغنى المطلق الذي يملك كل شيء، ولا يحتاج شيئا، فكيف يمكن أن يظلم، والظلم هو عقدة الضعيف، كما ورد في دعاء عن الإمام الباقر عقيب صلاة الليل: (وقد

__________

(1) () من وحي القرآن (5/ 270)

القرآن والحجج البالغة (273)

علمت يا إلهي أنه ليس في نقمتك عجلة، ولا في حكمك ظلم، وإنما يعجل من يخاف الموت وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوا كبيرا) (1)

قال آخر: وعلى هذا، فإن الشهادة بالوحدانية تستتبع الشهادة بأن الله هو القائم بالقسط.. وقد كررت الآية كلمة التوحيد لتقرير العقيدة الواضحة من خلال هذه الشهادة العظيمة.

قال آخر: والآية الكريمة تذكر أن الله تعالى هو العزيز الحكيم، فلا مجال للانتقاص من عزته من قبل أي أحد من خلقه في كل ما يفعله وما يقوله، ولا مجال للتشكيك في حكمته فيما خلق ودبر وفي ما نظم للحياة من قوانين كونية في ظواهر الكون ومن قوانين شرعية في تشريع الحياة للإنسان.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: 18] يعني أنه الشاهد الأعظم الذي خلق الوجود المتحرك في كل حقائقه وتنوعاته، وهو الذي أعطاه مضمونه ومعناه، وهو الخالق للكون كله، والمطلع عليه في علمه بالنفي المطلق للشرك، ولا يملك النفي المطلق غيره.

قال آخر: ذلك أن المحدود لا يمكن أن يدرك إلا الواقع المحدود، فلا يجد سبيلا إلى الحقيقة في دائرة النفي إلا من خلال العقل، لأنه لا يملك الحس الذي يشمل الوجود كله، ليعرف ـ من خلاله ـ أين يكون النفي حقيقة، وأين يقع الإثبات في موقعه التوحيدي، وهو الذي تنطلق شهادته في دائرة غناه الذاتي، فلا يحتاج إلى أن يعرفه أحد من خلقه، لتكون الشهادة وسيلة من وسائله الحية في الوصول، ذلك؛ لأن معرفة خلقه له حاجة حيوية

__________

(1) () بحار الأنوار: 84/ 372.

القرآن والحجج البالغة (274)

للاحساس بمعنى وجودهم، والانفتاح على مصدر القوة الذي هو مصدر الوجود في حياتهم.

قال آخر: وتلك هي الشهادة التي تمنح الحقيقة لكل مخلوق حي، فيحس بها في ذاتياته، حتى لتتحول في داخله إلى ما يشبه إحساس الذات بالذات في معنى الفطرة.

قال آخر: وقد تحدث البعض عن النزاع في أن الشهادة هي بالقول أو بالفعل، ونحن لا نرى في هذا الحديث فائدة يتحرك النفي أو الإثبات نحوها، لأن الله أعطى الكلمة في الشهادة بتوحيده من خلال وحيه، كما أعطى الواقع الشهادة الحسية المتجسدة في الكون كله الناطقة في مضمون وجودها بأنه الله الذي لا إله إلا هو في معنى الفطرة الوجودية للكون كله.

قال آخر: ولن تحتاج الكلمة إلى دليل في صدورها عنه، لأن معناها في داخل ذاتها، من حيث إن التوحيد هو حقيقة الوجود، فهو الذي يشهد للكلمة على صدقها، وليست هي التي تؤكد صدقه في معنى الحقيقة في ذاته.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 2 ـ 3]

قال آخر (1): ففي الآيتين الكريمتين حشد من خصائص الألوهية الفاعلة المؤثرة المبدعة لكل شيء، المحيطة بكل شيء، المهيمنة على كل شيء، العليمة بكل شيء، وما تعرضه من إبداع اليد القادرة وهي تجول في محيط السماوات والأرض، وتتلطف إلى خبايا الصدور وطوايا القلوب، وتشرف من عل على الوجود وما فيه ومن فيه.

__________

(1) () في ظلال القرآن: (6/ 3477)

القرآن والحجج البالغة (275)

قال آخر: وهي تتناول القلوب، فتهزها هزا، وتأخذها أخذا، وتجول بها في الوجود كله فلا تجد إلا الله، ولا ترى إلا الله، ولا تحس بغير الله، ولا تعلم لها مهربا من قدرته ولا مخبأ من علمه، ولا مرجعا إلا إليه، ولا متوجها إلا لوجهه الكريم.

قال آخر: وما يكاد القلب يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض، حتى تطالعه حقيقة أخرى، لعلها أضخم وأقوى، حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة؛ فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه ومن ثم فهي محيطة بكل شيء، عليمة بكل شيء: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 3]

قال آخر: أي أنه الأول فليس قبله شيء.. والآخر فليس بعده شيء.. والظاهر فليس فوقه شيء.. والباطن فليس دونه شيء.

قال آخر: والأول والآخر يستغرق كل حقيقة الزمان، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان.. وهما مطلقتان.

قال آخر: ولذلك يتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله.. فهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه، حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله.

قال آخر: ولذلك، فإن الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده.. وهو الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته، وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود.

قال آخر: فإذا استقرت هذه الحقيقة الكبرى في قلب، فما احتفاله بشيء في هذا الكون غير الله سبحانه؟ وكل شيء لا حقيقة له ولا وجود ـ حتى ذلك القلب ذاته ـ إلا ما يستمده

القرآن والحجج البالغة (276)

من تلك الحقيقة الكبرى؟.. وكل شيء وهم ذاهب، حيث لا يكون ولا يبقى إلا الله، المتفرد بكل مقومات الكينونة والبقاء؟

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام عندما فسر للسجينين مناميهما بعد أن طلبا التفسير منه: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف: 39]

قال آخر (1): والملاحظ في الآية الكريمة أن صفة (قهار) والتي تكررت في القرآن الكريم ست مرات قد وردت في كل مورد بعد الصفة (واحد) مما يدل على وجود علاقة بينهما وأن قاهريته دليل على وحدانيته.

قال آخر: وقد قام يوسف عليه السلام بطرح المسألة أولا على وجدانيهما، وبما أن حقيقة التوحيد كامنة في أعماق الفطرة الإنسانية فقد أقام المحكمة بين يدي الوجدان وسأل: أأرباب متفرقون، إله البحر، إله الصحراء، إله الأرض، إله السماء، إله الماء، إله النار، وهكذا الملائكة والجن والفراعنة والأصنام الحجرية والخشبية والمعدنية التي تعبدونها خير أم الله الواحد المهيمن على كل شي ء؟

قال آخر: وكلمة (قهار) صيغة مبالغة من (القهر) وتعني (القادر الذي لا يمتنع عليه شي ء)، من هنا تتضح العلاقة بين صفة الوحدة والقاهرية، فحينما نذعن بقدرته الغالبة على كل شي ء أي أنها غير محدودة فإننا لا نتصور له ثانيا، لأن كل ما سواه مغلوب له ومقهور، ولذلك لا يمكن أن يكون ما سواه واجب الوجود وغير محدود.

قال المعلم: أحسنتم.. فهلا أعطيتم توضيحات أكثر لهذا البرهان، والأسس التي

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 149.

القرآن والحجج البالغة (277)

يقوم عليها.

قال أحد التلاميذ (1): من أهم الأسس التي يقوم عليها التوحيد وصفات الله الأخرى كالعلم والقدرة وأمثالها كون ذات الله تعالى المقدسة لا متناهية، فإن ثبتت هذه القضية وفهمت جيدا تيسر الطريق إلى جميع الصفات الجمالية والجلالية.

قال آخر: ولإثبات هذا الأمر وهو أنه تعالى وجود لا نهاية له، لابد من ملاحظة أن محدودية الوجود تعني التقارب مع العدم؛ فعندما نقول: إن عمر فلان محدود، فإنه يعني أن عمره سينتهي إلى العدم ومقرون بالعدم، وهكذا بالنسبة لمحدودية القدرة أو العلم وأمثالها.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الوجود ضد العدم، ولو كان الشي ء مقتضيا للوجود ذاتا فإنه لا يقتضي العدم أبدا.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فقد ثبت في برهان العلة والمعلول أن سلسلة العلة والمعلول يجب أن تنتهي إلى نقطة ثابتة وأزلية نسميها واجب الوجود، أي وجوده ناشي ء من أعماق ذاته لا خارجها، وعليه تكون العلة الأولى للكون تقتضي الوجود ذاتا.

قال آخر: وبناء على هذه المقدمات الثلاث يتضح أن واجب الوجود إذا تحدد فإنه يجب أن يكون من الخارج، لأن المحدودية طبق هذه المقدمات تعني الاقتران بالعدم، والشي ء المقتضي للوجود ذاته لا يقتضي العدم أبدا، ولو اتصف بالمحدودية فإنه راجع إلى عامل خارجي، ويستلزم هذا القول أنه ليس واجب الوجود لأنه مخلوق لغيره من حيث حده الوجودي ومعلول لغيره.

قال آخر: وبعبارة اخرى: لدينا واجب الوجود دون شك ـ لأن البحث في التوحيد

__________

(1) () نفحات القرآن: 3/ 149.

القرآن والحجج البالغة (278)

والوحدانية يأتي بعد إثبات واجب الوجود ـ فإن كان واجب الوجود غير محدود فمدعانا ثابت، وإن كان محدودا فإن هذه المحدودية ليست مقتضى ذاته أبدا، لاقتضاء ذاته الوجود دون اقتران بالعدم، فلابد من فرضه عليه من الخارج، ومفهوم هذا الكلام هو وجود علة خارج ذاته وهو معلول تلك العلة، وبهذا الحال لا يكون واجب الوجود، والنتيجة هي أنه وجود غير محدود من كل جهة.

قال آخر: وبناء على هذه النتيجة، وهي كون وجود الله عز وجل غير محدود وغير متناه؛ فإن هذه الحقيقة تأبى الاثنينية ولا تكون إلاواحدة، لأنه لا يمكن تصور شيئين غير محدودين أبدا، حيث تقترن الاثنينية بالمحدودية دائما.

قال آخر: وهذا أمر واضح لأن تصور الوجودين ممكن حينما يكون كل وجود منفصلا عن الآخر، فكل واحد ينتهي عند الوصول إلى الثاني ويبدأ الآخر.

قال آخر: واختبار هذا الأمر يسير، فلنتصور ـ مثلا ـ مصدرا للضوء غير مقيد أو مشروط بزمان أو مكان أو سعة، أو مصدرا وغير محدود من أية جهة، فهل يمكن أن نتصور مصدرا ثانيا مثيلا له!؟.. بالتأكيد سيكون الجواب: كلا، لأن كل ما تتصوره هو الأول إلاأن تضيف إليه شرطا أو قيدا وتقول: الضوء هنا أو هناك من هذا المصدر أو ذاك.

قال آخر: وبعبارة أخرى عندما نقول: يوجد ضوءان في الخارج فإنه إما بملاحظة زمانيهما أو مكانيهما أو مصدريهما أو شدة نوريهما، ولو تجردا من كل قيد أو شرط فإنهما سيكونان واحدا قطعا.

قال آخر: ولعل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117] يشير إلى هذا المعنى حيث لا يمكن الاستدلال على وجود ند لله سبحانه أبدا، فكيف يمكن الاستدلال على أمر لا يمكن تصوره؟

القرآن والحجج البالغة (279)

قال آخر: وقد أشار أئمة الهدى إلى هذه المعاني، حيث قال الإمام السجاد: (إن الله لا يوصف بمحدودية، عظم ربنا عن الصفة وكيف يوصف بمحدودية من لا يحد؟) (1)

قال آخر: وقال الإمام الرضا في وصف الله تعالى: (هو أجل من أن تدركه الأبصار أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل) فسأل سائل: فما حده؟ فقال: (إنه لا يحد)، قال: لم؟ قال: (لأن كل محدود متناه إلى حد، فإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا متزايد ولا متجزى ء ولا متوهم) (2)

برهان الهداية

بعدما انتهى التلميذ الرابع من حديثه، قام خامس، وقال: لقد جاء الآن دوري لأحدثكم عن البرهان الذي ساقني إلى التوحيد.. إنه برهان الهداية والفيض.. وقد استفدته من صحبتي للمعلم، وسماعي لما ذكره تلاميذه، والذين كانوا لسانه الناطق.

لقد قال أحدهم مجيبا له، عندما طلب منهم الحديث عن هذا البرهان (3): إن الله سبحانه وجود كامل، ومثل هذا الوجود يكون مصدرا للفيض على الموجودات وكمالها، فهل يعقل أن مصدر الكمال يحرم الموجودات الأخرى من فيضه ولا يعرفهم ـ على الأقل ـ نفسه؟ مع أن هذه المعرفة سبب لرقيهم وكمالهم يدفعهم نحو ذلك الوجود الكامل والفياض.

قال آخر: وعلى ضوء هذا البيان يتضح أنه لو كان هناك عدة آلهة لوجب أن يكون لكل إله منهم رسل، وأن يعرف نفسه إلى مخلوقاته، وأن يشملهم بفيضه التكويني

__________

(1) () اصول الكافي: 1، ص 100.

(2) () بحار الأنوار: 3، ص 15.

(3) () نفحات القرآن: 3/ 153.

القرآن والحجج البالغة (280)

والتشريعي.

قال آخر: والنتيجة هي أننا لو وجدنا أن الرسل عليهم السلام بأجمعهم يخبرون عن إله واحد، لاتضح أن غيره لا وجود له.

قال آخر: وقد أشار إلى هذا البرهان الإمام علي في وصيته لأحد أبنائه حيث قال: (واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه) (1)

قال آخر: وقد نص القرآن الكريم على هذا البرهان في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 24 ـ 25]

قال آخر (2): أي أنه مع هذه البديهيات التي تقع فى متناول كل عقل، والتي تقضى بما لا يدع مجالا للشك، بأنه لا يمكن أن يكون لهذا الوجود إلا إله واحد، يقوم عليه، ويدبر أمره، مع هذا، فإن هؤلاء الضالين المشركين قد عموا عن هذه البديهيات، وقصرت أفهامهم عن إدراكها، وساغ لهم أن يعبدوا أكثر من إله، وأن يوزعوا عقولهم وقلوبهم بين أرباب وأشباه أرباب، ولم يحاولوا أبدا أن يجيبوا على هذا السؤال: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف: 39].. كما لم يحاولوا أن يقيموا دليلا يقبله العقل، ويرتضيه المنطق لعبادة هذه الآلهة المتعددة.

قال آخر: وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ [النمل: 64] دعوة لهؤلاء المشركين أن

__________

(1) () نهج البلاغة، الرسالة 31.

(2) () التفسير القرآني للقرآن (9/ 862)

القرآن والحجج البالغة (281)

يرجعوا إلى عقولهم، وأن يأتوا منها بالدليل والحجة على ما يعبدون من دون الله، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117]

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي﴾ [الأنبياء: 24] إشارة إلى القرآن الكريم، الذي بين يدى الرسول، وهو برهانه على الإله الذي يعبده، ويدعو الناس إلى عبادته.

قال آخر: وهذا القرآن كما هو حجة وبرهان للرسول الكريم، هو حجة وبرهان لهؤلاء المشركين الذين يدعوهم الرسول إلى الإيمان بالله، كما أنه حجة وبرهان على أهل الكتاب، كما قال تعالى: ﴿هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي﴾ [الأنبياء: 24].. فمن مع الرسول هم هؤلاء المشركون.. والذين من قبله هم أهل الكتاب.. والقرآن الكريم حجة على هؤلاء وأولئك جميعا.

قال آخر: وقوله تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 24] اعتذار لكثير من هؤلاء المشركين، الذين عموا عن طريق الحق، فركبوا رؤوسهم، وأبوا أن يستمعوا لداعى الحق، وأن يستجيبوا له.. ومن ثم، فإن الرسول قائم فيهم، لا يتخلى عن مكانه بينهم، ولا يمسك عن دعوتهم، وكشف معالم الطريق لهم، حتى يبصروا من عمى، ويهتدوا من ضلال.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر: 40]

القرآن والحجج البالغة (282)

قال آخر (1): فالآية الكريمة تطرح مجموعة أسئلة، وتطلب من المشركين أن يوردوها على عقولهم ـ إن كانت لهم عقول ـ ثم ليجيبوا عليها، إن كانوا يجدون لها جوابا.

قال آخر: وهي تقول لهم: أنظرتم فى وجه هؤلاء الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله؟ وهل عرفتم ما هم عليه؟.. ﴿مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [الأحقاف: 4] أي أخلقوا شيئا مما ترون على هذه الأرض من مخلوقات؟.. هل خلقوا ذبابة مثلا؟.. ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [الأحقاف: 4] وإذا لم يكونوا قد خلقوا شيئا مما هو على الأرض، فهل لهم شئ مما فى السموات؟.. وذلك بعيد.. فإن من عجز عن أن يخلق أدنى المخلوقات فى الأرض، لهو أعجز من أن يكون له أي شئ فى السموات.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ﴾ [فاطر: 40]، وهو سؤال للمشركين عن ذات أنفسهم هم.. وهو أنهم إذا لم يجدوا لهذا الذي سئلوا عنه فى شأن آلهتهم، جوابا يقبله العقل، بأن لهم شيئا فى هذا الوجود فى أرضه وسماواته ـ إذا لم يجدوا فى أنفسهم ما يحدث عن آلهتهم تلك بأن لها شيئا أو شأنا فى الملك ـ فهل أخذوا هذا الذي أضافوه إلى آلهتهم عن كتاب من عند الله، فهم لهذا على بينة وعلم فى شأن آلهتهم، مما علموه من هذا الكتاب؟ وذلك ما لم يكن!

قال آخر: فإذا كان العقل يأبى أن يضيف إلى آلهتهم شيئا، أو يجعل لهم شأنا فى هذا الوجود، وإذا لم يكن بأيدى هؤلاء المشركين كتاب من عند الله، أقامهم على هذا الرأى السقيم الباطل الذي رأوه فى آلهتهم، فلم يبق إذن شئ يصل بين هؤلاء المشركين وآلهتهم، إلا ما تلقوه من ضلالات الضالين وأهواء ذوى الأهواء منهم.. ﴿بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ

__________

(1) () التفسير القرآني للقرآن (11/ 897)

القرآن والحجج البالغة (283)

بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا﴾ [فاطر: 40]

قال آخر: وهو يدل على أن هذا الذي هم فيه من ضلال مع هذه المعبودات التي يعبدونها، هو من وحي بعضهم إلى بعض بالباطل، ومن تزيين بعضهم لبعض بالخداع والغرور.

قال آخر: وفي الحديث عنهم بضمير الغائب، إعراض عنهم وإنزالهم منزلة الغائب، إذ لم يكونوا أهلا لأن يخاطبوا. وقد استرخصوا عقولهم، واستخفوا بها.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأحقاف: 4]

قال آخر (1): أي أرأيتم ما تدعون من دون الله من هذه الأصنام التي تعبدونها، أو غيرها من الأشخاص الذين تطيعونهم في معصية الله، وتعبدونهم من دونه؛ هل يملكون شيئا من قدرة الخلق، أو حركة الوجود، ليكون لهم بعض خصائص الألوهية والربوبية، في أي مستوى من المستويات، إذ إن هذا الموقع يفرض ذلك؟

قال آخر: ثم حاجهم الله تعالى بقوله: ﴿أروني ما ذا خلقوا من الأرض﴾ إذا كانوا قد شاركوا الله في خلق بعض الأرض، فأين ما خلقوه؟.. ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [الأحقاف: 4] فيما قد يخيل إليكم من شراكتهم في خلقها، أو فيما تفرضه الصفة من ذلك.

قال آخر: ثم قال تعالى يحاجهم: ﴿ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ [الأحقاف: 4] أي من الكتب التي أنزلت كالتوراة والإنجيل يقول بشراكتهم الله في الخلق، إن كنتم تؤمنون به،

__________

(1) () من وحي القرآن (21/ 11)

القرآن والحجج البالغة (284)

وتعتبرونه وثيقة صحيحة من وثائق الحقيقة في العقيدة، ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: 4] أي شيئا منقولا من علوم الأولين، أو سببا علميا يثبت ذلك، ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأحقاف: 4] لأن إثبات الصدق في القضايا التي لا تخضع للحس، خاضع لتقديم البرهان اليقيني الذي يثبت الموضوع الذي يدور الحديث عنه.

القرآن والحجج البالغة (285)

رابعا ـ القرآن.. والربوبيون

بعد تلك المشاهد التي رأيت فيها كيف استطاع القرآن الكريم أن ينقذ المشركين من شركهم، أخذ بيدي شاب، وقال: هلم معي إلى بعض الأحياء القريبة، ففيها جمع من الناس، يريدون الالتقاء بك.

قلت: ولم؟

قال: يريدون أن يحدثوك عن معلمنا، وكيف أنقذهم من الجهل بالنبوة وإنكارها إلى نور الإيمان بها والتسليم لها.

قلت: أجل.. لا يمكن أن تتم الحجة البالغة من دون إثبات النبوة؛ فهي ركن أساسي من أركان الدين التي لا يتم إلا بها.

قال: فهلم معي إذن إليهم.. فقد صار هؤلاء بعد إنكارهم لها، وبفضل القرآن الكريم وتعاليم المعلم من أكبر الدعاة لها، ولا هم لهم إلا إقامة هذا النوع من الحجج على كل من ينكرها في بلدتنا هذه وغيرها.

سرت معه إلى أن وجدنا جمعا من الشباب والكهول، وكأنهم ينتظروننا، وقد قال أحدهم، وهو يصافحني: مرحبا بتلميذ القرآن.. لقد كنا في انتظارك، فنحن نريد أن نحدثك عن معلمنا، وكيف أنقذنا من أوحال أهوائنا وكبرنا إلى روضات التسليم لأنبياء الله ورسله واعتقاد فضلهم ومكانتهم، والاهتداء بهديهم ونورهم.

قلت: أنا أستمع إليكم، وسأسجل كل ما تذكرونه.

1. النبوة والعقل

القرآن والحجج البالغة (286)

قام أولهم، وقال: سأبدأ أنا حديثي، لأنه يرتبط بالمقدمة الأساسية التي لا يمكن فهم سائر الأحاديث إلا بها.. ذلك أنه يتعلق بالعقل.. ولا يمكن فهم شيء من الدين من دون العقل.

سكت قليلا، ثم قال: لقد كنت في بداية حياتي من أولئك الذين يلقبون أنفسهم بلقب الربوبيين، لتصورهم أنهم لا يحتاجون للنبوة، وأن الله تعالى الذي وهب عقولهم القدرة على التفكير للوصول إليه أغناهم عن غيرها، ولذلك لا حاجة لأي نبي أو رسول، لكن الله تعالى قيض لي، وبفضل صحبتي للمعلم، أربعة مشاهد تخليت فيها عن هذا الاعتقاد، وعرفت أنه يستحيل أن يتعارض العقل مع النبوة، بل إن العقل نفسه أكبر دليل على النبوة.

المشهد الأول

قلت: فحدثنا عن المشهد الأول منها.

قال: لقد بدأ هذا المشهد من زيارة قام بها المعلم إلى حينا، صحبة بعض تلاميذه، ليبشر بالنبوة ويدعو إلى التسليم لها.. وقد كان ذلك فرصة لطرح إشكالاتي حولها، وكنت أظن أنهم لن يستطيعوا الإجابة عنها، لكنهم أجابوا عنها جميعا، وبما يتوافق مع كل العقول السليمة.

لقد كان أول اعتراض لي عليهم، قولي (1): ألا ترون أن الرسول ـ الذي تذكرون الحاجة إليه ـ إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها.. فإن جاء بما يوافق العقول، لم يكن إليه حاجة، ولا فائدة فيه.. وإن جاء بما يخالف العقول، وجب رد قوله.

__________

(1) () عالم دون أنبياء، ص 129، فما بعدها، وقريب منها ما في كتاب: لإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 3/ 23.

القرآن والحجج البالغة (287)

لم يغضب المعلم لهذا السؤال، بل راح يعيد تقريره، فقال: أنت تريد أن تقول بأن الذي يأتي به الرسول لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون معقولا، وإما أن لا يكون معقولا.. فإن كان معقولا، فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرسول.. وإن لم يكن معقولا، فلا يكون مقبولا، إذ قبول ماليس بمعقول، خروج عن حد الإنسانية ودخول في حريم البهيمية.

أشرت بالإيجاب، فأشار المعلم إلى بعض تلاميذه، فقال: إن هذا الإشكال ينطلق من افتراض مسبق مفاده أن العقل يدرك كل ما يصلح الإنسان ويفسده، وأن له حكما في كل الأفعال، وبالتالي، فإن كان ما جاء به الرسل موافقا لحكم العقل فلا ضرورة لما جاءت به الرسل، وإن كان مضادا لحكم العقل، فلا يكون ما جاءوا به مقبولا.

قال آخر: وفي هذا مصادرة مرفوضة، وهي افتراض أن العقل يدرك كل شيء مما ينفع الإنسان أو يضره وما يصلحه أو يفسده، وهذا غير صحيح؛ فنحن نسلم بأن العقل يدرك الكثير من الأمور، وهي كليات الأمور ومبادئها العامة، لكن بعض الأمور ولا سيما القضايا التفصيلية والجزئيات ليس للعقل فيها حكم أو موقف واضح لا سلبا ولا إيجابا، وقد تختلف فيها أنظار ذوي العقول، وعليه فما المانع من أن يصدر عن الشرع حكم في هذه الحالات؟

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإنه إن أريد بعدم انسجام ما جاء به الوحي عما حكم به العقل المعارضة والمضادة التامة، فالمعارضة بهذا النحو ليست متصورة أساسا، ونحن لا نؤمن بحكم شرعي ينافي صريح أحكام العقول، ولا نجد حكما من هذا القبيل، ونتحدى ـ بكل محبة ـ أن يدلنا أحد على حكم ينافي صريح حكم العقل.

قال آخر: وإن أريد بعدم الانسجام أن ما يحكم به الوحي ـ كلا أو بعضا ـ ليس مما

القرآن والحجج البالغة (288)

يقتضيه حكم العقل، فتعليقنا عليه، أن هذا لا يضر بشيء، ولا يشكل عيبا في حكم الشرع وما جاء به الوحي؛ إذ ليس من شرط قبول حكم الشرع أن يكون مما يقتضيه أو يدركه العقل، وإنما الشرط هو أن لا يكون منافيا ومضادا لحكم العقل.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه حتى لو كان ما جاء به الأنبياء عليهم السلام مما يدركه العقل، مع ذلك فإن في إرسال الرسل العديد من الفوائد الجليلة.

قال آخر: منها أن الإنسان المؤمن عندما يعلم أن ما يدركه بعقله هو موضع عناية الله تعالى واهتمامه، فسوف يشكل ذلك دافعا وحافزا قويا له لامتثاله تقربا إلى الله تعالى أو رغبة في ثوابه ورضوانه.. وهو سيعلم في هذه الحالة أنه عندما يخالف هذا الأمر فإنه لا يخالف حكم العقل فحسب، بل إنه يخالف حكم الله تعالى أيضا، وهذا ما يجعله يستحضر رقابة الله تعالى في كل أفعاله وأقواله.

قال آخر: ومنها أن العقل البشري ـ حتى لو سلمنا أن له قابلية عالية لإدراك كل الأمور ـ إلا أنه قد يقع أسير الغريزة والمطامع، فـ (كم من عقل أسير تحت هوى أمير)، أو رهين الشبهات الفكرية المختلفة، فيتعرض بفعل ذلك للتشويش والاضطراب، وربما الانحراف عن دوره في تقويم الإنسان وتسديد خطاه، وهنا يأتي الوحي الرباني ليرفع التشويش عن حكم العقل، ويعيده إلى إشراقته، فيتميز حكم العقول عن الميول الغرائزية.. وهذه إحدى وظائف الأنبياء عليهم السلام ومهامهم الجليلة.

قلت: لا بأس.. ولكن ألا ترون من المستقبح في نظر العقل اتباع مدعي النبوة، ذلك أنه إنسان مثلنا من ناحية الإمكانات والطاقات والمؤهلات، ولا يمتاز علينا في الصورة والنفس والعقل، فهو يأكل مما نأكل ويشرب مما نشرب، ولدينا عقل كعقله وقلب كقلبه، فكيف ننقاد إليه انقيادا أعمى نصدقه فيما يقول، وننفذ ما يطلب، ونمتثل كل ما يأمر به أو

القرآن والحجج البالغة (289)

ينهى عنه إلى درجة أن نكون بالنسبة إليه كالعبيد أمام سيدهم، فأي تميز له علينا لنتبعه ونجمد عقولنا؟

قال أحد التلاميذ: هذه الحجة أضعف من سابقتها، ذلك لأن البشر وإن كانوا متساوين في الإنسانية، لكنهم ـ بكل تأكيد ـ ليسوا متساوين في الكثير من لوازمها، فهنا تختلف الهمم وتتفاوت الاستعدادات، فهم متساوون بالقوة والقابلية، ومتفاوتون بالفعل، والواقع خير دليل على ما نقول.

قال آخر: ذلك أنا نرى أن في الناس العالم والجاهل، وفيهم الكامل المهذب والفاسد المنحرف، وفيهم القوي والضعيف، وهذا التفاوت والاختلاف هو آية عظيمة ونعمة كبرى، فهو يفرض عليهم التعاون والتعاضد، وذلك برجوع الجاهل إلى العالم، واستعانة الضعيف بالقوي، واقتداء غير الكامل بالكامل، كاتباعنا للأنبياء عليهم السلام وانقيادنا لهم.

قال آخر: وهذا الاتباع أو الاقتداء هو مما يحكم به العقل وتقره سيرة العقلاء، وليس فيه انتقاص من إنسانية الإنسان، وليس هو انقيادا أعمى، وإنما هو اتباع للحجة والبرهان، وانقياد للحق والقيم.

قال آخر: ولهذا يرفض القرآن الكريم الإيمان غير القائم على البرهان، ويدين التقليد والانقياد الأعمى حتى لمدعي النبوة إلا إذا أقاموا على دعواهم بينة ودليلا، فإذا أقاموا على دعواهم البينة، فإن اتباعهم حينئذ سيكون اتباعا للبرهان والبينة.

قال آخر: ذلك أنه بعد أن يصدق الإنسان بهذا النبي أو ذاك لقيام الحجة المقنعة على نبوته، يكون من الطبيعي أن يسلم له فيما يأتي به من منظومة عبادية أو تشريعية ترمي إلى تنظيم حياة العباد، أو فيما يخبر به عن غيب السماء، وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا

القرآن والحجج البالغة (290)

فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء – 65]

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فلنفرض أن البشر متساوون في الإمكانات والمؤهلات، لكن هذا لا يمنع من أن يختار الله واحدا منهم لإيصال رسالته إلى العباد، كما يختار وزير الخارجية ـ مثلا ـ في زماننا واحدا من موظفي الوزارة الأكفاء للقيام بمنصب السفارة في دولة أخرى، حيث لا مفر من القيام بهذه المهمة.

قال آخر: وما ينبغي للوزير أن يفعله في هذه الحالة هو أن ينظر في الموظفين فإن وجد أن أحدهم أكفأ من الآخرين في خبرة أو شهادة فعليه أن يختاره دون سواه لهذا المنصب، وإذا فرض تساويهم في الكفاءة والأهلية فإن الأمر عندئذ يترك إلى حدس الوزير نفسه أو إلى حسه الدبلوماسي لاختيار السفير الذي يراه مناسبا.

قال آخر: والأمر بالنسبة لله تعالى هو من هذا القبيل، ولكن على النحو الأمثل، فالله تعالى لا يحدس ولا يظن، وإنما يختار من موقع علمه الذي لا يخطأ.

قلت: لا بأس.. لكن أنتم تعلمون أن العقل يدل على أن للعالم صانعا حكيما، والحكيم لا يتعبد الخلق بما يقبح في عقولهم.. وقد ورد في شرائع الأنبياء ما تستقبحه العقول، كالتوجه إلى بيت مخصوص في العبادة، والطواف حوله، والسعي، ورمي الجمار، والإحرام، والتلبية، وتقبيل الحجر الأصم.. وكذلك ذبح الحيوان، وتحريم ما يكون غذاء للإنسان، وتحليل ما ينقص من بنيته.

قال أحد التلاميذ: هذا الإشكال مندفع، لأن الأمور المذكورة سواء ما يتصل منها بالعبادات أو غيرها هي أعمال ترمز إلى بعض المعاني اللطيفة، ولا يصح للإنسان العاقل أن يتسرع في تسخيفها وتسفيهها.

قال آخر: وإنما يجدر به أن يتأمل فيها أو يسأل عن حكمتها ومغزاها، وسوف يجد

القرآن والحجج البالغة (291)

جوابا على أسئلته؛ فإن أقنعه ذلك الجواب وأزال استغرابه فهو المطلوب، وإلا فإن مجرد الاستغراب أو عدم فهم الإنسان لمغزى عبادة أو طقس معين لا يبرر له أن يعد ذلك الشيء مخالفا لحكم العقل ويستهزئ به، ولا سيما أن هذه الأمور العبادية والطقوس هي مما جاءت به الرسل والأنبياء المعروفون بحكمتهم وكمال عقولهم.

قال آخر: ونحن لا ننكر أن ثمة آراء وفتاوى مستغربة أو مستقبحة طرحها بعض علماء الدين استنادا إلى اجتهاداتهم الخاصة في النصوص الدينية، لكن هذه الاجتهادات ليست مقدسة، ويمكن مناقشتهم فيها، وردها إن كانت ـ فعلا ـ منافية لحكم العقل.

قال آخر: بل يمكن مناقشة الأحاديث المنسوبة إلى الأنبياء عليهم السلام وورثتهم من الهداة إذا رأينا مخالفتها لحكم العقل، ونحكم بخطأ الناقلين أو اشتباههم، لعلمنا أن النبي معصوم، ولا يتكلم بما لا تقبله العقول، لأنه يصدر عن نبع صافية ومصدر مأمون عن العبث الشيطاني أو نحوه.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإنه لا يمكن الجزم بأن كل ما تنكره بعض العقول تنكره العقول جميعا.. ومن الأمثلة على ذلك أن بعضهم يستنكر ذبح الحيوان مع أنه ليس الأمر واضحا فيما ادعي من أن لدى العقل حكما ناجزا وبديهيا بقبح ذبح الحيوان والإفادة من لحمه وشحمه وجلده، وآية ذلك أننا وجدنا عامة العقلاء ـ إلا القليل منهم ـ لا تدرك عقولهم قبح هذا الأمر، ما دام أن الذبح هو لغرض الانتفاع بالحيوان.

قال آخر: نعم، قد يشعر الإنسان بشفقة تجاه الحيوان، وهذا الإحساس طيب وجميل ويستحكم كثيرا فينا بلحاظ الحيوانات الأليفة التي عملنا على تربيتها بأيدينا، لكن من المعلوم أن الشفقة لا تستدعي تحريما، ولا سيما إذا أصبح لحم الحيوان ضرورة غذائية للإنسان، ودخل في نظامنا الصحي كمكون أساسي لا غنى عنه.

القرآن والحجج البالغة (292)

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن لدى أهل الأديان رؤية تقول: إن هذه الحيوانات قد سخرها الخالق لفائدة الإنسان ونفعه، وأذن له بالإفادة منها ضمن ضوابط وشروط، والعقل الذي قادنا إلى الإيمان بالخالق، قد عرف حكمته تعالى، وأنه لا يأمر بما فيه عبث أو ظلم أو قبح، وحيث قد خفي الأمر على ذوي العقول في مسألة ذبح الحيوان ولم يستطيعوا البت فيه، فعليهم التسليم لما جاء عن الخالق الحكيم.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن إيلام الحيوان وتعذيبه وإيذاءه لغير الحاجات الإنسانية منهي عنه، فما يحصل في بعض الدول أو لدى بعض الأفراد من جعل الحيوان غرضا للسهام، أو اتخاذه وسيلة للمصارعة، كما في مصارعة الديكة أو الثيران، أو تعذيبه أو تركه دون طعام حتى الموت هو عمل محرم، وقد نهت عنه النصوص الدينية الواردة عن الأنبياء عليهم السلام، ما دام الحيوان لا يشكل خطرا على الإنسان.

قال آخر: بل إن القرآن الكريم قد اعتبر الحيوانات أمة من الأمم، مثلها مثل الإنسان، كما قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38] في الوقت الذي كانت فيه القوانين الغربية إلى ما قبل قصيرة تعرف الحيوانات على أنها (أشياء سائبة لا حرمة لها)

قلت: لا بأس.. لكن أنتم تعلمون أن واقع المجتمعات المعاصرة يؤكد عدم حاجتنا إلى النبوة والوحي؛ فالمجتمعات التي أبعدت الدين عن حياتها استطاعت أن تجد لنفسها نظاما يكفل للإنسان مستوى مقبولا من الاستقرار، وأما المجتمعات الدينية، فهي مجتمعات تعيش التوتر والصراعات المذهبية والتخلف العلمي، كما تعيش الفقر والجهل والتخبط على أكثر من صعيد، ما يعني أن الدين هو سبب معاناتها وتخلفها؟

قال أحد التلاميذ: مع إقرارنا بما ذكرت من الواقع إلا أن الإنصاف يدفعنا إلى القول

القرآن والحجج البالغة (293)

بأن هذا التطور الحضاري الذي وصلت إليه البشرية كان للأنبياء ولرسالاتهم إسهام كبير فيه، فالفعل الحضاري هو حصيلة تراكم، ولو أخذنا العرب مثالا، فإنهم مدينون في نهضتهم للإسلام، فلولاه لم يكونوا شيئا مذكورا.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أنقذهم من الجاهلية وصنع منهم أمة ذات شأن بعد أن كانوا قبائل متناحرة ومتخلفة.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن تقدم الحياة المدنية وتطورها لا يلغي حاجة الإنسان إلى الارتباط المعنوي بالله تعالى، ولا ينفي الحاجة إلى العطاء الروحي الذي جاءت به رسالاتهم، ولا يلغي دور الدين في رفد الحياة الإنسانية بالقيم الأخلاقية، وكل ما يساعد على الانتظام الاجتماعي، وهذا بعض من عطاء الأنبياء عليهم السلام.

قال آخر: أما الصراعات باسم الدين فالأنبياء عليهم السلام ليسوا مسؤولين عنها، بل المسؤول هو الذين لم يعوا حقيقة الدين.. ولذلك، فإن المتدينين بحاجة إلى فهم الدين فهما صحيحا، لا إعادة النظر في حاجتنا للدين نفسه.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الصراعات التي يذكرونها ليست كلها ذات منشأ ديني، فهناك عوامل عديدة تدخل في الوسط.. ومن أهمها المصالح والأهواء والألاعيب السياسية والسلطوية والتي تلبس لبوس الدين وتوظفه في لعبتها القذرة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: 19]، وقال: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الجاثية: 17].. فلماذا نحمل الدين وزر أولئك الناس الذين يستغلونه ويوظفونه في لعبة الدم والسلطة والسياسة والمال وشتى المصالح!؟

قلت: ولكن مع ذلك؛ فإن الدين قد فشل في بسط العدالة الاجتماعية، وتحقيق

القرآن والحجج البالغة (294)

السعادة للإنسان، في الحين الذي نرى فيه الدول الغربية استطاعت أن تنشر العدل في ربوعها وتحقق الأمن والاستقرار لشعوبها بعد أن تخلت عن الدين، مما يعني أن الدين هو سبب المشكلة؟

قال أحد التلاميذ: أول الأجوبة على ذلك هو أن بسط العدل ونشر الأمن في المجتمعات، وظيفة الإنسان، وليست وظيفة الدين.. لأن وظيفة الدين أن يساعد في هذا المجال بوضع أسس الهداية وقواعد العدالة وتحديد الضوابط التي تنهض بالإنسان وتعمل على أنسنته وتهذيبه بما يؤهله للقيام بالمهمة المذكورة؛ ولذا، فإننا إذا وجدنا مجتمعا تفتك به العصبيات والأحقاد؛ فهو ليس من الدين في شيء، ولو كان أهله مصلين صائمين، حاجين ومعتمرين.

قال آخر: أما الغرب الذي تذكره، فهو لم يترك الدين، وإنما ترك أو تخلى عن نسخة مشوهة منه، وهي النسخة التي فهمت الدين باعتباره سيفا مسلطا على الرؤوس، وسوطا يجلد الظهور، وسلطة جائرة تكم الأفواه، وتخرس الأصوات، وتقمع الحريات.. وهكذا، فإن على المسلمين أيضا التخلي عن النسخة المشوهة من الإسلام التي تتحكم بعقول الكثيرين وتعيق الإنسان.

قال آخر: ولذلك، فإنه لا يصح ما يذكرونه من أن عالما دون أنبياء سيكون أفضل حالا، وأكثر أملا وتفاؤلا.. ذلك أن مثل هذا العالم ستغيب عنه التجربة المعنوية الغنية التي تمنح الإنسان كل هذا السمو الروحي.

قال آخر: وهو عالم تغيب عنه الحكمة والغاية وراء الخلق، هو عالم تتراجع فيه المبادئ الأخلاقية، هو عالم يفقد فيه الإنسان أهم سند وداعم للمستضعفين وحامل لقضيتهم على مر التاريخ، هو عالم لا تشعر فيه بوجود الله تعالى يملأ قلبك وعقلك وحركتك، وإذا غاب

القرآن والحجج البالغة (295)

الله عن حياتنا اقترب منها الخوف والقلق.

المشهد الثاني

قلت: حدثتنا عن المشهد الأول.. فحدثنا عن الثاني.

قال: بعد أن زال عن عقلي بعض الشبهات التي كانت تحول بينه وبين النبوة، سرت إلى الحي الذي يقيم فيه المعلم، وفي مجلس من المجالس التي كان يعقدها مع عامة الناس، رحت أسأله وأسأل تلاميذه قائلا: ما دمتم تذكرون أن الله تعالى عدل بين عباده، فلماذا فضل بعضهم، واعتبرهم وسطاء وسفراء، واحتقر آخرين، وهم أكثر الخلق، فلم يعطهم هذه الأدوار؟

قال المعلم: إن كان الأمر كذلك.. فقد احتقر الله تعالى الخلق أيضا حين جعل بعضهم فقط، وهم قليلون جدا، أطباء، وغيرهم لم يتح لهم هذه الفرصة.

قلت: فرق كبير بين الأمرين.. فالطبيب بذل جهدا كبيرا ليصل إلى ذلك.. بينما النبي أتيح له ذلك من غير أي جهد.

قال المعلم: أجل.. ولكن الله تعالى لم يختر النبي ليتولى تلك المسؤولية العظيمة إلا بعد أن أثبت قدرته على ذلك من خلال حكمته وأدبه وأخلاقه.

قال آخر (1): ذلك أن النبوة مقام سام وجليل، لأنها تمثل السفارة والوساطة بين الخالق والمخلوق.. ومهمة كهذه لا ينوء بها إلا أولئك الذين بلغوا ذروة الكمال الروحي والسمو الإنساني، وتحلوا بالخلق الرفيع والشجاعة والزهد والتواضع والنبل والحزم والعزم وغيرها من مكارم الأخلاق ومحامد الصفات.

__________

(1) () عالم دون أنبياء، ص 87، فما بعدها، والإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 3/ 22.

القرآن والحجج البالغة (296)

قال آخر: وهؤلاء أشخاص ذوو قابليات وملكات خاصة، ولديهم استعداد عال لتلقي وحي الله تعالى، كما قال تعالى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5]، ولجلالة هذه المهمة وأهمية هذا الموقع وحساسيته كان من الطبيعي أن يكون اختيار الرسل بيد الله تعالى، وليس بيد الناس أنفسهم؛ فالنبي لا ينتخبه الناس كما ينتخبون رئيسهم وزعيمهم مثلا.

قال آخر: وسبب ذلك أنه من الطبيعي أن تتم إدارة الناس لشؤونهم بأيديهم، ليختبروا إرادتهم، ويجهدوا في تقديم تجربتهم، ومن الممكن أن يجعل أمر اختيار القائد السياسي والمدير التنفيذي بأيدي الناس أنفسهم، ضمن ضوابط وشروط محددة، لكن موقع السفارة عن الله تعالى هو موقع مغاير لذلك تماما.

قال آخر: لأن الدور المناط بهؤلاء السفراء دور مصيري في حياة الإنسانية جمعاء، والمهمة الملقاة على عاتقهم مهمة استثنائية، ولذلك تحتاج لشخصية استثنائية تتحلى بمواصفات خاصة.

قال آخر: ومن أهمها صفة العصمة، التي من شأنها أن تحمي النبي من الوقوع في شباك الغرائز أو تحت ضغط الأهواء، وأن تحصنه من الأخطاء المقصودة وغير المقصودة، حتى يصل وحي الله إلى الناس كاملا غير منقوص.

قال آخر: ومعلوم أن توفر شخص ما على هذه القابليات والمواصفات أمر لا يعرف على وجهه الأتم إلا من قبل الله تعالى، فإنه الأعلم بعباده بحكم أنه الخالق لهم، كما قال تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]

قال آخر: وقال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا

القرآن والحجج البالغة (297)

كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾ [الأنعام: 124]

قال آخر (1): ففي هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى بعض أساليب الجاحدين للنبوة في المكر، فهم لا يرتبطون إلا بالجانب الحسي في حياتهم، أما العقل والفكر وما يتطلبانه من تأمل وحوار، فليس لهما مكان في حياتهم.

قال آخر: ولذلك فهم لا يطلبون الإيمان من خلال حركة الفكر، بل من خلال حركة الحس، وإذا طلبوه من خلال الحس، فإنهم يطلبون الشيء الذي اعتادوه أو سمعوا عنه، فلا يقبلون نموذجا آخر، مما لم يمر عليهم، ولم يحدثهم الآخرون عنه.

قال آخر: ولهذا؛ فإنهم إذا جاءتهم آية أو معجزة ترتكز على الجانب العقلي، أو تتفق مع طبيعة الظروف والأوضاع المحيطة بهم، ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ [الأنعام: 124]، فقد سمعوا أن موسى عليه السلام جاء بالعصا، وأن عيسى عليه السلام جاء بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأرادوا آيات كهذه.

قال آخر: لكنهم لم يفكروا، لحظة واحدة، في أن قصة المعجزات ليست موضوعا خاضعا للتمنيات والافتراضات، وليست عملية منفصلة عن طبيعة التحدي التي تواجهها الرسالات، فقد أرسل الله موسى عليه السلام بالعصا ردا على التحدي الكبير لفرعون الذي استعمل وسائل السحر، كما أن الله أرسل عيسى عليه السلام بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ردا على التحدي الذي كان يشكل فيه الطب في زمنه نوعا من أنواع التحدي. وليست المعجزات سبيل هدى، فللهدى وسائله التي تنفذ إلى العقل، ولكنها سبيل قوة في مواجهة القوة المضادة، ولهذا فلا معنى لما طلبوه، بل عليهم أن يفكروا فيما

__________

(1) () من وحي القرآن (9/ 315).

القرآن والحجج البالغة (298)

قدمه إليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مما يبعثهم على التفكير، ويدعوهم إلى المناقشة والحوار.

قال آخر: ثم قال تعالى ردا عليهم: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، أي ليست الرسالة امتيازا ذاتيا يمنحه الله لأي شخص كان، بل هي قضية اصطفاء واختيار وكفاءة، فيما يعلمه الله من قابليات عباده وقدرتهم، فمنهم الذي تميز بسعة الفكر، وصفاء الروح، وطيبة القلب وقوة الإرادة، وعناصر القيادة.

قال آخر: ومنهم الذي تميز بضيق الأفق، وقلق الروح، وخبث النية، وضعف الإرادة، فاختار من النموذج الأول أنبياءه ورسله، وترك الآخرين في موقع القاعدة وأرادهم أن يهتدوا بهدى الأنبياء، وأن يجاهدوا في سبيل الوصول إلى ذلك، وسهل لهم سبيل الإيمان، بما يتفق مع قابلياتهم وإمكاناتهم، فليس لهم أن يطلبوا لأنفسهم ما لا يملكون عناصره.

قال آخر: ذلك أن الرسالة ليست مجرد كلمات يتلقفها الإنسان ويحفظها ثم يبلغها للآخرين، بل هي قضية قيادة الحياة في جانبها الفكري والروحي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، وغيرها من الجوانب.

قال آخر: وتغيير الإنسان على أساس هدى الله، بالكلمة وبالأسلوب وبالقدوة الحسنة، بحيث تعيش الرسالة في شخصية الرسول جسدا يتحرك بكل أخلاقياتها ومعانيها، وروحا تصفو وتهفو وتحنو وترق وترعى، فيحس الناس معها بالرحمة التي تحيط بهم من كل جوانب حياتهم، ويعيشون معها برد السلام وهدوء الطمأنينة.

قال آخر: ولذلك؛ فإن حركة الرسالة في شخصية الرسول تعني أن يعيش هذا الإنسان في فكره وروحه وكيانه كله مع الله، ليستطيع ـ من خلال ذلك ـ أن يحتوي كل آفاق الرسالة ومعانيها في كل مراحل حياته في الدعوة وفي الحكم وفي الجهاد، وبذلك كان

القرآن والحجج البالغة (299)

الرسول يأخذ من الرسالة وحيا تنفتح منه نفسه على الله، ويعطيها من طاقاته الروحية والفكرية، ومن قوة إرادته عنصر قوة يدفعها إلى الأمام.

قال آخر: ولذلك لم تكن الرسالة خاضعة لاختيار الناس وتمنياتهم، بل هي خاضعة لإرادة الله واختياره، فهو ﴿أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، فيما يعلمه من الطاقات الروحية والفكرية والعملية والقيادية الكامنة في ذواتهم مما لا يعلمه الناس من أنفسهم، ولا يعلمه غيرهم منهم.

قال آخر: ولذلك؛ فإن المنكرين لذلك مصابون بعقدة الكبرياء التي تكبر في صدورهم عندما يتطلعون إلى الأنبياء فيجدونهم في الطبقة السفلى من الهرم الاجتماعي، فيدفعهم ذلك إلى احتقارهم، واحتقار دورهم، وتكذيبهم ومحاولة تحديهم بأية طريقة، حتى بالأمور التي لا تثبت أمام النقد.

قال آخر: ولذلك يذكر الله تعالى بأنه سيجزيهم عن هذه المشاعر وهذه الادعاءات وذلك الكبرياء، صغارا وذلا واحتقارا وعذابا، ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأنعام: 124] فيما يظهرهم به أمام الخلائق يوم القيامة من حالة الذل والانسحاق ﴿وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾ [الأنعام: 124]

قال آخر: لأن مكرهم وانحرافهم لم ينطلق من حالة فكرية، قد تبرر لهم ذلك، بل من حالة شيطانية، يفهمون كل خطواتها ومنطلقاتها ودوافعها، مما يجعل من تصرفاتهم، حالة إجرامية معقدة تستوجب العقوبة الشديدة والعذاب الأليم.

قال آخر: ولهذا كله عبر القرآن الكريم عن النبوة بأنها اصطفاء إلهي، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج: 75]، وقال: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص: 68]، وقال لموسى عليه السلام:

القرآن والحجج البالغة (300)

﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ [طه: 13]

المشهد الثالث

قلت: حدثتنا عن المشهد الثاني.. فحدثنا عن الثالث.

قال: بعد أن زالت عني الإشكالات السابقة التي ذكرتها لكم.. حضرت مجلسا آخر مع بعض تلاميذ المعلم، وقد سألتهم هذا السؤال: كيف يتسنى لنا أن نفرق بين النبي الحقيقي والكاذب المدعي؟.. ألا ترون أن ذلك وحده كاف في اعتبار الإيمان بالله وحده مغنيا عن تكلف البحث فيما لا طاقة للبحث فيه؟

قال أحد التلاميذ (1): إن إيمانك بالله تعالى، والذي نلتقي معك فيه هو أمر يحملك ـ كما يحملنا ـ مسؤولية البحث عن هذا الإله وصفاته والتأمل في مخلوقاته، والتعرف على مشروعه وهدفه من خلق الإنسان، ويحملك أيضا مسؤولية التأمل في دعاوى الأشخاص الذين يدعون أنهم رسل الله إلى العباد، إذ ربما كانوا صادقين في دعواهم.

قال آخر: وهذه المسؤولية هي مما يحكم بها العقل، فهو الذي يفرض على الإنسان دفعا للضرر المحتمل والخسارة المتوقعة أن يدرس وينظر في دعاوى الأنبياء عليهم السلام، فلعلهم صادقون فيما يدعون، وليس ثمة مبرر عقلي للحكم المسبق بتكذيبهم أو تخطئتهم.

قال آخر: ألا ترون أنه عندما يأتينا شخص معروف بحكمته وصدقه، ويدعي أنه يحمل رسالة من قبل شخصية ذات أهمية كالملك ـ مثلا ـ وهي رسالة تخص أصحاب المملكة جميعا، وتفرض عليهم التزامات معينة وتضع لهم برنامجا خاصا، وتحذرهم من مغبة عدم اتباعه، فإن العاقل في هذه الحالة لا يستخف بهذه الدعوى، ولا يكون غير مبال اتجاهها،

__________

(1) () عالم دون أنبياء، ص 101.

القرآن والحجج البالغة (301)

بل يجد نفسه ملزما بالتحري عن صدقها وصدق صاحبها.

قال آخر: ولو فرض أنه تعامل معها بشيء من اللامبالاة أو الاستخفاف، وكانت النتيجة أنه لحقه بسبب ذلك ضرر أو ضيم، فإنه يكون قد أساء إلى نفسه ولا يجد العقلاء له عذرا.. والأمر عينه يمكن قوله إزاء دعوات الأنبياء عليهم السلام.

قال آخر: ولذلك، فإنا نسأل كل من يشكك في النبوات جميعا قائلين: إن أمامنا ظاهرة ملفتة عرفها كل هذا التاريخ البشري العريق، وهي ظاهرة الاعتقاد بالنبوات والانتماء إلى دين من الأديان، كما يؤكد ذلك تاريخ أسلافنا من بني الإنسان، ولا مجال للتشكيك في الأمر.. فهل من المعقول أن لا يثير ذلك فينا فضول المعرفة، ويدفعنا للتساؤل عن سر هذا الاعتقاد، وذلك الالتزام؟.. وهل يمكن لأحد أن يدعي أنه يفهم الإن