الكتاب: ربوبيون.. وربانيون ج3
الوصف: رواية في الجواب على إشكالات منكري النبوة ومستلزماتها
السلسلة: الإلحاد والدجل
المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1444 هـ
عدد الصفحات: 643
ISBN: 978-620-4-72146-0
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
يحاول هذا الكتاب ـ بأجزائه الثلاثة ـ أن يجيب على كل الإشكالات التي يطرحها من يطلقون على أنفسهم لقب [الربوبيين]، وهم الذين يرون إمكانية استبدال النبوة بالعقل، ويرون أن هداية الله لهم يمكن أن تتحقق من دون حاجة لأي دين أو نبوة، وقد استثمروا في ذلك ما وقع في تاريخ الأديان من انحرافات عما تقتضيه العقول السليمة، وتتطلبه القيم النبيلة.
ولذلك فإنه ـ وبصيغته الروائية الحوارية ـ يحاول ـ وبهدوء ـ أن يحاور هؤلاء، من خلال منطلقاتهم العقلية والفكرية أولا، ثم من خلال مستلزمات تلك المنطلقات، وهي الأدلة التفصيلية التي يسوقونها لبيان الانحرافات التي وقعت فيها الأديان.
وهذا السبب هو الذي دعانا إلى مناقشة كل الانحرافات التي وقعت فيها الأديان، وبمختلف أنواعها، وبيان الاتفاق عليها مع الربوبيين، ثم بيان وجه الحق في التعامل معها.
ولهذا يجد القارئ الرواية مملوءة بذكر الكثير من مواقف الأديان والمذاهب الفكرية في كل قضية تُطرح ابتداء من القضايا المرتبطة بالله والنبوة والكتب المقدسة، وانتهاء بكل القيم الإنسانية كالسلام والعدالة والرحمة وغيرها.
وبما أن مشكلة الربوبيين هي في ذلك التعميم الخاطئ لمواقفهم، فقد بينا في الرواية خطأ ذلك التعميم، وأن كل المعاني السليمة التي يسوقونها أو يدعون إليها موجودة في الإسلام، باعتباره الدين المهيمن والصحيح الباقي على وجه الأرض، مع التنبيه إلى الأخطاء التي وقع فيها المسلمون، والتي لا علاقة لها بالدين الإلهي.
ربوبيون وربانيون (3/8)
يتناول هذا الجزء من الكتاب الفصلين السادس والسابع:
أما الفصل السادس، فيتناول كل ما يتعلق بعلاقة الدين بالرحمة، وفيه ردود مفصلة على الشبهات المرتبطة برمي الإسلام بالقسوة ونحوها، وقد قسمناه بحسب المحال المرتبطة بالرحمة إلى عشرة أقسام، هي تشمل الرحمة بالنساء والأطفال والعجزة والمتألمين والمحبطين والفقراء والمستضعفين والعبيد والخطائين والكائنات.
وقد لخصنا معظمه مما ذكرناه من الحوارات والردود في كتاب [رحمة للعالمين]، من سلسلة حقائق ورقائق، مع استبعاد الكثير من التفاصيل التي ذكرناها في ذلك الكتاب، وخصوصا تلك التي تتعلق بالحوار الإسلامي المسيحي، لأنه كان الغرض الأصلي للسلسلة، بالإضافة إلى إعادة صياغة الأحداث بما يتناسب مع هذه الرواية.
أما الفصل السابع، فيتناول كل ما يتعلق بعلاقة الدين بالعدالة، وفيه ردود مفصلة على الشبهات المرتبطة برمي الإسلام بالظلم والجور ونحوهما، وقد قسمناه بحسب المحال المرتبطة بالعدالة إلى عشرة أقسام، هي تشمل الرحمة المرتبطة بالشريعة والنظام والرفق والحزم والحرية والمسؤولية والمساواة والتنوع والتكافل والتوازن.
وقد لخصنا معظمه مما ذكرناه من الحوارات والردود في كتاب [عدالة للعالمين]، من سلسلة حقائق ورقائق، مع استبعاد الكثير من التفاصيل التي ذكرناها في ذلك الكتاب، وخصوصا تلك التي تتعلق بالحوار الإسلامي المسيحي.
ربوبيون وربانيون (3/9)
بعد أن انتهى المتحدث الخامس، قام السادس، وقال: لقد جاء الآن دوري.. واسمحوا لي أن أذكر لكم بأني مررت مثل أصحابي بالكثير من المواقف والمشاهد التي جعلتني أوقن برحمة الله بإرسال الأنبياء، وإنزال الكتب.. فالرحمة تقتضي ذلك، بل لا تكمل الرحمة إلا بذلك.
وقد شاء الله أن يكون سبب هدايتي هو شعوري بأن الرحمة هي أرقى القيم، ولذلك كنت أعتقد أنه لا يمكن أن يكون المبدع العظيم لهذا الكون خاليا منها.. كيف وكل شيء يدل على اتصافه بها، وأولها اتصافي بها.. فما كان الله ليملأ قلبي بالرحمة، ثم يكون خاليا عنها.
وأحب أن أخبركم بأنه ـ كما كانت الرحمة باب هدايتي إلى النبوة ـ فقد كانت ـ وبفعل الواقع والشبهات الكثيرة ـ من أقوى الحجب التي حجبتني عنها.
وبحمد الله، فقد قيض الله لعقلي وقلبي من الحكماء من أزال كل تلك الشبهات، ليحل بدلها اليقين والإيمان والطمأنينة.. وسأقص عليكم بعض ما حضرته من مشاهد، وما وقفته من المواقف، لعلكم تشاركونني فيما وصلت إليه.
وحتى يكون كلامنا منظما، فقد رأيت أنه يمكن تقسيم المشاهد التي حضرتها، والمتعلقة بالرحمة إلى عشرة مشاهد، أولها يتعلق بالرحمة بالنساء.. وثانيها الرحمة بالأطفال.. وثالثها الرحمة بالعجزة.. ورابعها الرحمة بالمتألمين.. وخامسها الرحمة بالمحبطين.. وسادسها الرحمة بالفقراء.. وسابعها الرحمة بالمستضعفين.. وثامنها الرحمة بالعبيد.. وتاسعها الرحمة بالخطائين.... وعاشرها الرحمة بالكائنات.
ربوبيون وربانيون (3/10)
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن المشهد الذي عرفت به الرحمة المرتبطة بالنساء، وعلاقتها بالدين.
قال: قبل أن أذكر لكم المشهد المرتبط بذلك، أحب أن أخبركم بأن رحمتي بالمرأة هي التي جعلتني أترك المسيحية، ثم أقف بسببها موقفا سلبيا من كل الأديان.
قلنا: كيف ذلك؟
قال: لقد بدأت حياتي في أسرة مسيحية متدينة.. بل مغالية في تدينها.. وقد عرفت من خلال تأمل طويل أنه يستحيل أن يحمل دين الله أي عصبية ضد أي جهات من الجهات.. وضد أي جنس من الأجناس.. وقد دعاني هذا البحث إلى أن أبحث عن موقف المسيحية من المرأة لأعرف من خلال ذلك مدى مصداقيتها.. وقد أوصلني ذلك البحث إلى الخروج من المسيحية والارتماء بعدها في أحضان اللاشيء.. فلم يكن لدي من القدرة ما أواصل به مشوار البحث عن الحقيقة.
لقد صدمت من أول نظرة للكتاب المقدس.. لقد قرأت في رسالة بولس إلى أهل كورونثوس الأولى [11/ 3 ـ 9]: (ولكن أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح، وأما رأس المرأة فهو الرجل ورأس المسيح هو الله.. كل رجل يصلي أو يتنبأ وله على رأسه شيء يشين رأسه، وأما كل امرأة تصلي أو تتنبأ ورأسها غير مغطى فتشين رأسها لأنها والمحلوقة شيء واحد بعينه، إذ المرأة إن كانت لا تتغطى فليقص شعرها، وإن كان قبيحا بالمرأة أن تقص أو تحلق فلتتغط، فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده، وأما المرأة فهي مجد الرجل، لأن الرجل ليس من المرأة بل المرأة من الرجل، ولأن
ربوبيون وربانيون (3/11)
الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل)
وقرأت في رسالته إلى أهل رومية ما يؤكد أن المرأة لا قيمة لها بدون الرجل، وأن ناموسها هو زوجها، وقد سماه بولس بالناموس الحي وقال: (إن مات زوجها فقد تحررت من الناموس الحي) [رومية 7/ 2 ـ 3]
وفي [رومية 7/ 2]: (فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحي، ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من ناموس الرجل، فإذا ما دام الرجل حيا تدعى زانية ان صارت لرجل آخر، ولكن إن مات الرجل فهي حرة من الناموس حتى أنها ليست زانية إن صارت لرجل آخر)
ورأيته في (أفسس) يأمر النساء أن يكن خاضعات للرجال كما يخضعن للرب، ويزيد في الأمر أن الرجل هو رأس المرأة مشبها ذلك بعبادة الرب، وأنه عقيدة فهي أقل من الرجل.. اسمعوا ما ورد في [أفسس: 5/ 22 ـ 24]: (أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضا رأس الكنيسة، وهو مخلص الجسد، ولكن كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك النساء لرجالهن في كل شيء)
ومثل ذلك قرأت في [كورنثوس 1: 11/ 3]: (ولكن أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح.. وأما رأس المرأة فهو الرجل.. ورأس المسيح هو الله)
وقرأت في [كورنثوس 1: 14/ 34]: (لتصمت نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذونا لهن أن يتكلمن بل يخضعن كما يقول الناموس أيضا، ولكن إن كن يردن أن يتعلمن شيئا فليسألن رجالهن في البيت لأنه قبيح بالنساء أن تتكلم في كنيسة)
وقرأت في [تيموثاوس 1: 2/ 11 ـ 13]: (لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع، ولكن لست آذن للمرأة أن تعلم ولا تتسلط على الرجل بل تكون في سكوت، لان آدم جبل
ربوبيون وربانيون (3/12)
أولا ثم حواء)
وقرأت في [قضاة 19/ 22 ـ 29] أن المرأة مجرد هدية قد يدفعها سيدها للزنا.. ففيه: (وفيما هم يطيبون قلوبهم اذا برجال المدينة رجال بليعال أحاطوا بالبيت قارعين الباب، وكلموا الرجل صاحب البيت الشيخ قائلين: أخرج الرجل الذي دخل بيتك فنعرفه، فخرج إليهم الرجل صاحب البيت وقال لهم: لا يا إخوتي لا تفعلوا شرا، بعد ما دخل هذا الرجل بيتي لا تفعلوا هذه القباحة، هو ذا ابنتي العذراء وسريته دعوني أخرجهما فأذلوهما وافعلوا بهما ما يحسن في أعينكم وأما هذا الرجل فلا تعملوا به هذا الأمر القبيح، فلم يرد الرجال أن يسمعوا له، فأمسك الرجل سريته وأخرجها اليهم خارجا فعرفوها وتعللوا بها الليل كله إلى الصباح وعند طلوع الفجر أطلقوها، فجاءت المرأة عند إقبال الصباح وسقطت عند باب بيت الرجل حيث سيدها هناك إلى الضوء، فقام سيدها في الصباح وفتح أبواب البيت وخرج للذهاب في طريقه واذا بالمرأة سريته ساقطة على باب البيت ويداها على العتبة)
وقرأت في [قضاة: 19: 29]: (ودخل بيته وأخذ السكين وأمسك سريته وقطعها مع عظامها الى اثنتي عشرة قطعة وأرسلها الى جميع تخوم إسرائيل)
وقرأت في [تيماثوس الأولى 2/ 11 ـ 15]: (لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع، ولكن لست آذن للمرأة أن تعلم ولا تتسلط على الرجل بل تكون في سكوت، لأن آدم جبل أولا ثم حواء، وآدم لم يغو لكن المرأة أغويت فحصلت في التعدي، ولكنها ستخلص بولادة الأولاد إن ثبتن في الايمان والمحبة والقداسة مع التعقل)
وقرأت في [التكوين: 36/ 8 ـ 10] أن المرأة إذا ورثت تكون هي نفسها مجرد ميراث حتى لا يخرج الميراث خارج عائلتها.. ففيه: (وكل بنت ورثت نصيبا من أسباط بني
ربوبيون وربانيون (3/13)
إسرائيل تكون امرأة لواحد من عشيرة سبط أبيها لكي يرث بنو إسرائيل كل واحد نصيب آبائه، فلا يتحول نصيب من سبط إلى سبط آخر بل يلازم اسباط بني اسرائيل كل واحد نصيبه كما أمر الرب موسى كذلك فعلت بنات صلفحاد)
وفوق ذلك كله قرأت في الكتاب المقدس عقوبات خاصة بالنساء دون الرجال.. ولم أدر سر تخصيصهن بذلك.. منها ما ورد في [تثنية: 25/ 11 ـ 12]: (إذا تخاصم رجلان بعضهما بعضا رجل وأخوه وتقدمت امرأة أحدهما لكي تخلص رجلها من يد ضاربه ومدت يدها وأمسكت بعورته (فاقطع يدها ولا تشفق عينك).. وفي الولادة البنت تنجس أمها أسبوعين بينما الولد ينجسها أسبوع [لاويين 12/ 6]
سكت قليلا، ثم قال (1): لقد أثرت تلك النصوص في رجال الكنيسة أجيالا طويلة اعتبروا خلالها المرأة مسؤولة عن كل خطيئة وقعت في العالم، فلولا المرأة ماخرج آدم من الجنة.. ولهذا قرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه.. وأن الأعزب أكرم عند الله من المتزوج.. وأن السمو فى علاقة الإنسان بربه لا يتحقق إلا بالبعد عن الزواج.. وأن الحمل والولادة، والشهوة، واشتياق الرجل لامرأته، واشتياق المرأة لزوجها من الآثام، التى جلبت على المرأة الويل والعار على مدى التاريخ كله، وهى عقوبة الرب لحواء على خطيئتها الأزلية.. وفوق ذلك كله أعلنوا أنها باب الشيطان.
وقد قرأت حينها ما قال القديسون وآباء الكنيسة والمجامع المقدسة، ما زادني هربا من المسيحية، بل من الأديان جميعا.. لقد كتب جيروم يدعو المرأة أن تتخلص من أنوثتها ليتم خلاصها فى الآخرة.. يقول في ذلك: (بما أن المرأة خلقت للولادة والأطفال، فهى
__________
(1) استفدنا الكثير من النصوص الواردة هنا من كتاب (حفظ الإسلام حقوق المرأة) للأستاذ علاء أبو بكر.
ربوبيون وربانيون (3/14)
تختلف عن الرجل، كما يختلف الجسد عن الروح، ولكن عندما ترغب المرأة فى خدمة المسيح أكثر من العالم، فعندئذ سوف تكف عن أن تكون امرأة، وستسمى رجلا) (1)
وقال ممتهنا المرأة وحقوقها: (إذا امتنعنا عن الاتصال الجنسى فإننا نكرم زوجاتنا، أما إذا لم نمتنع: حسنا فما هو نقيض التكريم سوى الإهانة)
وقال القديس أوغسطين: (إذا كان ما احتاجه آدم هو العشرة الطيبة، فلقد كان من الأفضل كثيرا أن يتم تدبير ذلك برجلين يعيشان معا كصديقين، بدلا من رجل وامرأة)
وقد كان توما الأكوينى متحيرا تماما مثل سلفه أوغسطين فى سبب خلق الله للمرأة، فكتب يقول: (فبما يختص بطبيعة الفرد، فإن المرأة مخلوق معيب وجدير بالإزدراء، ذلك أن القوة الفعالة فى منى الذكر تنزع إلى انتاج مماثلة كاملة فى الجنس الذكرى، بينما تتولد المرأة عن معيب تلك القوة الفعالة، أو حدوث توعك جسدى، أو حتى نتيجة لمؤثر خارجى)
وقال تروتوليان ـ أحد أقطاب المسيحية الأولى وأئمتها ـ يبين نظرة المسيحية إلى المرأة: (إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، وإنها دافعة الى الشجرة الممنوعة ناقضة لقانون الله ومشوهة لصورة الله – أي الرجل ـ) مستندا في ذلك إلى ما ورد في (تيموثاوس الأولى 2/ 14 ـ 15): (وآدم لم يغو لكن المرأة أغويت فحصلت في التعدي، ولكنها ستخلص بولادة الأولاد، إن ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل)
وقال لوثر: (المرأة كمسمار يدق فى الحائط)، وقال: (إذا تعبت النساء، أو حتى ماتت، فكل ذلك لا يهم، دعهن يمتن فى عملية الولادة، فلقد خلقن من أجل ذلك)، وقال: (كم هو شاء مرعب وأحمق تلك الخطيئة! إن الشهوة هى الشاء الوحيد الذى لا يمكن شفاؤه
__________
(1) انظر: تعليق جيروم على رسالة بولس إلى أهل أفسس.
ربوبيون وربانيون (3/15)
بأى دواء، ولو كان حتى الزواج الذى رسم لنا خصيصا من أجل هذه النقيصة التى تكمن فى طبيعتنا)
وقالت الراهبة كارين أرمسترونج: (إن المسيحية خلقت أتعس جو جنسى فى أوروبا وأمريكا بدرجة قد تصيب بالدهشة كلا من يسوع والقديس بولس، ومن الواضح كيف كان لهذا تأثيره على النساء، فبالنسبة لأوغسطين الذى كان يناضل من أجل البتولية، كانت النساء تعنى مجرد إغراء يريد أن يوقعه فى شرك، بعيدا عن الأمان والإماتة المقدسة لشهوته الجنسية، أما كون العصاب الجنسى للمسيحية قد أثر بعمق فى وضع النساء، فهذا ما يرى بوضوح من حقيقة أن النساء اللاتى التحقن بالجماعات الهرطيقية المعادية للجنس، وصرن بتولات، قد تمتعن بمكانة واحترام كان من المستحيل أن يحظين بهما فى ظل المسيحية التقليدية)
وقالت: (لقد كانت المسيحية مشغولة طيلة مئات السنين بجعل النساء يخجلن من أمورهن الجنسية، ولقد عرفت النساء جيدا كما قال أوغسطين ولوثر قبل عدة قرون، أن تشريع الزواج كان مجرد دواء ضعيف المفعول لمعالجة شرور الجنس)
وقالت: (لقد كان ينظر إلى جسد المرأة باشمئزاز على نحو خاص، كما كان مصدر إرباك لآباء الكنيسة أن يسوع ولد من امرأة، فكم ضغطوا بشدة فى موعظة تلو موعظة، وفى رسالة تلو رسالة على أن مريم بقيت عذراء، ليس فقط قبل ميلاد المسيح بل وبعده أيضا)
و كتب أودو الكانى فى القرن الثانى عشر يقول: (إن معانقة امرأة تعنى معانقة كيس من الزبالة)
وكتب أسقف فرنسى عاش فى القرن الثانى عشر يقول: (إن كل النساء بلا استثناء مومسات، وهن مثل حواء سبب كل الشرور فى العالم)
ربوبيون وربانيون (3/16)
وقال الراهب البنديكتى برنار دى موريكس دون مواربة فى أشعاره: (إنه لا توجد امرأة طيبة على وجه الأرض)
وقال الراهب الانجليزى اسكندر نكهام: (إنه نظرا لأن المرأة لا تشبع جنسيا، فإنها غالبا ما تصطاد بائسا حقيرا لينام معها فى فراشها ليشبع نهمها إذا كان زوجها غير موجود فى لحظة شبقها، ونتيجة لذلك كان على الأزواج أن يربوا أطفالا ليسوا أولادهم)
وقال القديس ترتوليان: (إن المرأة مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، مشوهة للرجل)
وكتب ترتليان فى القرن الثالث رسالة تعالج زى المرأة، قال فيها: (لقد كان حريا بالمرأة أن تخرج فى زى حقير، وتسير مثل حواء، ترثى لحالها، نادمة على ما كان، حتى يكون زيها الذى يتسم بالحزن، مكفرا عما ورثته من حواء: العار، وأقصد بذلك الخطيئة الأولى، ثم الخزى من الهلاك الأبدى للانسانية، فلقد قال الرب للمرأة: (تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك) _تكوين 3: 16) ألستن تعلمن أن كل واحدة منكن هى حواء؟)
وقال القديس برنارد ـ الذى فعل كل ما استطاع لنشر عبادة العذراء فى الكنيسة ـ عن أخته بعد زيارتها إياه فى الدير الذى يقيم فيه مرتدية زيا جديدا: (مومس قذرة، وكتلة من الروث)
ولم يقتصر الأمر على أشخاص ممتلئين حقدا على المرأة.. وإنما شمل الأمر المجامع المقدسة أيضا.. ففي القرن الخامس الميلادى اجتمع مجمع باكون وكانوا يتباحثون: (هل المرأة جثمان بحت، أم هى جسد ذو روح يناط به الخلاص والهلاك؟)، وقد قرر هذا المجمع أن المرأة خالية من الروح الناجية، التى تنجيها من جهنم، وليس هناك استثناء بين جميع
ربوبيون وربانيون (3/17)
بنات حواء من هذه الوصمة إلا مريم.. كما قرر مجمع آخر، أن المرأة حيوان نجس، يجب الابتعاد عنه، وأنه لاروح لها ولا خلود، ولاتلقن مبادئ الدين لأنها لاتقبل عبادتها، ولاتدخل الجنة، ولا الملكوت، ولكن يجب عليها الخدمة والعبادة، وأن يكمم فمها كالبعير، أو كالكلب العقور، لمنعها من الضحك ومن الكلام لأنها أحبولة الشيطان.
لقد جرت هذه الأفكار المشوهة إلى سلوكات أكثر تشويها.. لقد جعلت تلك الأفكار الكثير يفكر في السبل التي يتخلص بها من المرأة.. لأنها الجسد الشرير.. ولأنها مصدر متاعب الحياة.. ولأنها مصدر غضب الرب.
لقد كان من ثمار تلك الأفكار أن تشكل مجلس اجتماعى فى بريطانيا فى عام 1500 لتعذيب النساء، وابتدع وسائل جديدة لتعذيبهن، وقد أحرق الألاف منهن أحياء، وكانوا يصبون الزيت المغلى على أجسامهن لمجرد التسلية.. وكان من ثمارها أن ظلت النساء طبقا للقانون الإنجليزى العام ـ حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبا ـ غير معدودات من (الأشخاص) أو (المواطنين)، الذين اصطلح القانون على تسميتهم بهذا الاسم، لذلك لم يكن لهن حقوق شخصية، ولا حق فى الأموال التى يكتسبنها، ولا حق فى ملكية شاء حتى الملابس التى كن يلبسنها.
وكان من ثمارها أنه كان شائعا فى بريطانيا حتى نهاية القرن العاشر قانون يعطى الزوج حق بيع زوجته وإعارتها بل وفى قتلها إذا أصيبت بمرض عضال.. بل إن القانون الإنجليزى لعام 1801 م وحتى عام 1805 حدد ثمن الزوجة بستة بنسات بشرط أن يتم البيع بموافقة الزوجة.. وقد حدث أن باع إنجليزى زوجته عام 1931 م بخمسمائة جنيه، وقال محاميه فى الدفاع عنه: (إن القانون الإنجليزى عام 1801 م يحدد ثمن الزوجة بستة بنسات بشرط أن يتم البيع بموافقة الزوجة)، فأجابت المحكمة بأن هذا القانون قد ألغى
ربوبيون وربانيون (3/18)
عام 1805 م بقانون يمنع بيع الزوجات أو التنازل عنهن، وبعد المداولة حكمت المحكمة على بائع زوجته بالسجن عشرة سنوات)
وكان من ثمارها أن أصدر البرلمان الإنجليزى قرارا فى عصر هنرى الثامن ملك إنجلترا يحرم على المرأة أن تقرأ (العهد الجديد)، لأنها تعتبر نجسة.
سكت قليلا، ثم قال: كما كان اطلاعي على هذه النصوص والوقائع حافزا لي لترك المسيحية، فقد كان حافزا أيضا للبحث في سبب ذلك، ووجدته في تأثرها، وتأثر اليهودية، وغيرها بما كانت عليه الشعوب المختلفة من تعاملهم مع المرأة ونظرهم لها.. فقد كانت المرأة عند الهنود القدماء مخلوقا نجسا.
ولم يكن للمرأة فى شريعة مانو حق فى الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، فإذا مات هؤلاء جميعا وجب أن تنتمى إلى رجل من أقارب زوجها، وهى بذلك قاصرة طيلة حياتها، ولم يكن لها حق فى الحياة بعد وفاة زوجها، وكانت إذا مات عنها زوجها تحرق مع جثته بالنار المقدسة، بل إن بعض القبائل الهندية القديمة كانت لا تراها أهلا لتحرق مع جثة زوجها باعتبارها المخلوق النجس، ولذلك كانوا يرون دفنها حية أو حرقها بعد موت زوجها.. فإذا كان للرجل أكثر من زوجة دفن جميعا أو حرقن جميعا.
وفى شرائع الهندوس أنه: (ليس الصبر المقدر، والريح، والموت، والجحيم، والسم، والأفاعى، والنار، أسوأ من المرأة)
ويذكر جوستاف لوبون أن المرأة فى الهند (تعد بعلها ممثلا للآلهة فى الأرض، وتعد المرأة العزب، والمرأة الأيم، على الخصوص من المنبوذين من المجتمع الهندوسى، والمنبوذ عندهم فى رتبة الحيوان، والمرأة الهندوسية إذا فقدت زوجها ظلت فى الحداد بقية حياتها، وعادت لا تعامل كإنسان، وعد نظرها مصدرا لكل شؤم على ما تنظر إليه، وعدت مدنسة
ربوبيون وربانيون (3/19)
لكل شاء تلمسه، وأفضل شاء لها أن تقذف نفسها فى النار التى يحرق بها جثمان زوجها، وإلا لقيت الهوان الذى يفوق عذاب النار)
أما في الصين، فقد كانت المرأة لا تقل مهانة أو مأساة عن بقية المجتمعات، فكانت النظرة إليها واحدة، ويظهر مدى امتهان المرأة فى المثل الصينى الذى يقول: (إن المرأة كالكرة، كلما ركلتها برجلك ارتفعت إلى أعلى)
وشبهت المرأة عندهم بالمياه المؤلمة التى تغسل السعادة والمال، وللصينى الحق فى أن يبيع زوجته كالجارية، وإذا ترملت المرأة الصينية أصبح لأهل الزوج الحق فيها كإرث، وللصينى الحق فى أن يدفن زوجته حية.
أما المرأة الكلدانية، فقد كانت خاضعة خضوعا تاما لرب الأسرة، وكان للوالد الحق فى أن يبذل زوجته أو ابنته لسداد دينه، وكانت المرأة تحتمل وحدها الأعباء المنزلية، فتذهب كل يوم لجلب الماء من النهر أو البئر، وتقوم وحدها بطحن الحبوب بالرحى وإعداد الخبز، كما تقوم بغزل ونسج وحياكة الملابس، وهذا كان حالها فى الطبقات الفقيرة.
أما عند اليونان.. فقد كانت المرأة محتقرة مهانة، مثل أى سلعة تباع وتشترى، مسلوبة الحقوق، محرومة من حق الميراث وحق التصرف فى المال، بل أكثر من ذلك، فقد سموها رجسا، ولم يسمحوا لها إلا بتدبير شئون البيت وتربية الأطفال، وكان الرجل فى أثينا يسمح له أن يتزوج أى عدد يريده من النساء، بلا قيد ولا شرط.
كما كان لزوجها الحق فى بيعها وأن تظل عند المشترى فترة تحت التجربة، كما كان لزوجها الحق فى قتلها إذا اتهمت، ولو بمجرد النظر إلى شخص غريب ولا مسؤولية عليه فى ذلك، ومع هذا فإن له الحق فى أن يزنى فى منزل الزوجية، وليس لزوجته حق الاعتراض، كما أن حق الطلاق مكفول له متى شاء وكيف شاء، ومع ذلك فإنها تظل بعد طلاقها منه
ربوبيون وربانيون (3/20)
مقيدة برأيه فى زواجها لمن يريده، ويوصى عند موته بزواجها ممن يرتضيه هو وليس لها أو لأحد من أهلها حق الاعتراض.
وتذكر الأساطير اليونانية أن المرأة هى سبب الأوجاع والآلام للعالم كله، وذلك لأن الناس فى اعتقادهم كانوا يعيشون فى أفراح ولا يعرفون معنى الألم ولا الحزن، ولكن حدث أن الآلهة أودعت أحد الناس صندوقا وأمرته ألا يفتحه، وكان له زوجة تسمى (باندورا) مازالت تغريه بفتحه حتى فتحه فانطلقت منه الحشرات، ومنذ تلك اللحظة أصيب الناس بالآلام والأحزان، فلهذا كانت المرأة سببا فى الكوارث التى حلت بالبشرية كلها نتيجة لفضول المرأة وإغراء زوجها بالعصيان.
سكت قليلا، ثم قال: لعلكم تلاحظون شبها فى هذه الرواية بما تحدث عنه سفر التكوين من إغواء حواء لآدم بالأكل من الشجرة المحرمة بعد أن أغوتها الحية: (فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل.. فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت) [تكوين 3: 6 ـ 12]
أما المرأة العربية فى الجاهلية، فقد كانت تعد جزءا من ثروة أبيها أو زوجها، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، وكان ابن الرجل يرث أرملة أبيه بعد وفاتها.. وكانوا يرثون النساء كرها، بأن يأتى الوارث ويلقى ثوبه على زوجة أبيه، ثم يقول: ورثتها كما ورثت مال أبى، إلا إذا سبقت ابنها أو ابن زوجها بالهرب إلى بيت أبيها، فليس له أن يرثها، فإذا أراد أن يتزوجها تزوجها بدون مهر، أو زوجها لأحد عنده وتسلم
ربوبيون وربانيون (3/21)
مهرها ممن تزوجها، أو حرم عليها أن تتزوج كى يرثها بعد موتها (1).
وكان العرب فى الجاهلية يمنعون النساء من الزواج، فالابن الوارث كان يمنع زوجة أبيه من التزوج، كى تعطيه ما أخذته من ميراث أبيه، والأب يمنع ابنته من التزوج حتى تترك له ما تملكه، والرجل الذى يطلق زوجته يمنع مطلقته من الزواج حتى يأخذ منها ما يشاء، والزوج المبغض لزوجته يساء عشرتها ولا يطلقها حتى ترد إليه مهرها (2)،
وكان الرجل إذا تزوج بأخرى، رمى زوجته الأولى فى عرضها، وأنفق ما أخذه منها على زوجته الثانية، أو المرأة الأخرى التى يريد أن يتزوجها، (3) وكانت المرأة تعد متاعا من الأمتعة، يتصرف فيها الزوج كما يشاء، فيتنازل الزوج عن زوجته لغيره إذا أراد، بمقابل أو بغير مقابل، سواء أقبلت أم لم تقبل، كما كانوا يتشاءمون من ولادة الأنثى، وكانوا يدفنونهن عند ولادتهن أحياء، خوفا من العار أو الفقر.
سكت قليلا، ثم قال: ليس الأمر قاصرا على تلك الشعوب البدائية المتخلفة.. إن هذه الحضارة المتعفنة تمارس من أساليب الإذلال للمرأة ما مارسته جميع الشعوب البدائية.. ولكنها تحتال لذلك بأنواع من الزخارف والطلاء لتموه به على الحقائق.
التفت إلينا، وقال: كل ذلك جلب لي الكثير من الأحزان إلى أن شاء الله أن أجد في ذلك اليوم من يخرجني منها.
قلنا: كيف ذلك؟
__________
(1) وقد نص على تحريم هذا في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ [النساء: 19]، فهذه الآية نهت عن عادة الجاهلية من إرث الرجل نساء أقربائه.
(2) وقد حرم الإسلام هذه الأمور جميعا بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ﴾ [النساء: 19]
(3) وقد حرم القرآن ذلك فى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ [النساء: 20]
ربوبيون وربانيون (3/22)
قال: لقد شاء الله أن يكون هذا المشهد في زيارتي لبعض الجمعيات المتعلقة بحقوق المرأة، والتي أقامت مؤتمرا تصور فيه الإساءات التي تتعرض لها المرأة، ومن طرف المسلمين، وهناك رأيت مجموعة من النساء المسلمات الحكيمات، واللاتي أجدن في الدفاع عن دينهن، وقد تأكدت من كل ما ذكرن، فلم أجدهن خالفن الحق في كلمة واحدة.
بعد أن انتهت الجلسة الأولى، والتي تكلم فيها المحاضرون والمحاضرات بما تسمعونه من الشبهات حول وضع المرأة في الإسلام، وأكد ذلك بشهادات بعض النسوة اللاتي زعمن إساءة أزواجهن المسلمين لهن.
وعندما سُمح للحضور بالتعقيب، استأذنت امرأة عجوز، وقالت (1): لقد تحدثتم جميعا.. وكلكم صببتم ما تملكونه من غيظ وحقد على محمد ودين محمد.. وأنا الآن أقف بينكم لا كمحامية على هذا الدين، ولا على تلك الشمس التي أنارت برحمتها العالمين، فالشمس أرفع من أن تحتاج من يدافع عنها.. ولكني أقف كشاهدة على واقع عشته في ظل رجال استناروا بأشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. نعم لقد تحدثت بعض النسوة عن المآسي التي يعشنها بسبب أهليهن المسلمين.. وهؤلاء لا أكذبهن، ولكن ما حصل لهن من عناء ثمرة للبعد عن محمد ودين محمد، وفي إمكانكم أن تسألوهن عن هؤلاء الرجال الذين أهانوهن.. وسترون أنهم لا علاقة لهم بمحمد ولا دين محمد.
ساد القاعة صمت رهيب شجع المرأة على مواصلة حديثها، فقالت: أنتم تتحدثون عن المرأة، وقد مررت بجميع مراحل المرأة التي تمر بها، كنت بنتا، ثم زوجة، ثم أما، ثم ها أنا الآن بينكم امرأة كبيرة طاعنة في السن.. فلذلك سأكون ممثلة لجميع النساء.. فاسمحوا
__________
(1) لخصنا هنا ما ذكرناه في كتاب: رحمة للعالمين، ص 54، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (3/23)
لي ـ أنا التي مررت بجميع هذه المراحل ـ أن أذكر لكم كيف كان يعاملني الرجال الذين استناروا بأشعة محمد، واهتدوا بهديه.
سكتت قليلا، ثم قالت: أقول لكم هذا لنخرج من التعميم الخاطئ الذي تقعون فيه.. فأنتم تتحدثون عن المرأة، وكأنها كائن من المريخ، مع أنها بينكم، وهي لا تخرج عن المراحل التي ذكرتها، فإن كنتم أردتم استماع الحقيقة من منابعها، فاسمعوا لي.. وإن أبيتم إلا أن تنتقوا في سماعكم فأذنوا لي في الجلوس.
لم تجد رئيسة الجلسة بدا من الإذن لها، فقالت: ليكون كلامي علميا دقيقا.. فسأذكر لكم أربع قيم نشرها الإسلام في المسلمين.. يمكن من خلالها أن تفسر كل المعاملات التي عامل بها الإسلام المرأة.. كل هذه القيم رحمة ولطف وشفقة وعدالة.. أما الأولى.. فهي المساواة.. وأما الثانية.. فهي الكرامة.. وأما الثالثة.. فهي الصيانة.. وأما الرابعة.. فهي الرعاية.
قال الجمع: فحدثينا عن الأولى.. حدثينا عن المساواة.
قالت: اسمحوا لي أن أحدثكم عن تجربتي معها.. أنا رابعة أخواتي.. ولم يرزق والدي غيرنا.. فلم يكن له إلا البنات.. ولذلك، فقد سماني (رابعة)
قالت لها إحدى الحاضرات: إذن كنت شؤما في البيت.
قالت: لا.. لقد استنار والدي بأشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكسفت جميع الظلمات التي نشرتها الجاهلية.. لقد حدثتني أمي عن الفرحة العظيمة التي كانت تبدو على ملامح أبي حينما ولدت.. وقد ذكرت لي ما قال لها حينما ولدت، لقد قال لها: إن الله وهب لنا هذه البنت لتكون جوازا لنا إلى الجنة، فقد بشرنا صلى الله عليه وآله وسلم بالجزاء العظيم الذي نناله من تربية البنات، فقال:
ربوبيون وربانيون (3/24)
(من كانت له بنت، فأدبها فأحسن أدبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه كانت له سترا أو حجابا من النار) (1)، ففي هذا الحديث إخبار بأول جزاء يناله من رزق إناثا، فأحسن إليهن، وبرهن، وهو أن هؤلاء البنات يقفن حجابا بينه وبين النار.
سكتت قليلا، ثم قالت: بل ورد ما هو أكثر من ذلك.. ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فيتقي الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنة) (2).. وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان له ثلاث بنات، فصبر على لأوائهن وضرائهن وسرائهن، أدخله الله الجنة برحمته إياهن)، فقال رجل: واثنتان يا رسول الله؟ قال: (واثنتان)، قال رجل: يا رسول الله، وواحدة؟ قال: (وواحدة) (3).. بل ورد ما هو أعظم من ذلك كله، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو) (4)، وضم أصابعه.. وهذا أعظم جزاء تهفو إليه قلوب المؤمنين.
قالت إحدى الحاضرات: ولكن.. ورد في بعض الأحاديث التي سقتها التعبير عن هبة الإناث بأنها من البلاء.. أليس ذلك احتقارا للأنثى؟
قالت: لا.. معاذ الله.. كل ما في الدنيا بلاء سواء كانت منحا أو محنا.. والبلاء لا يعني إلا الاختبار، والله يختبر بالنعمة، ويختبر بالنقمة.. ألم تسمعي قوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: 35]؟.. فالبلاء قد يكون خيرا، وقد يكون شرا.. بل عبر الله تعالى عن نعمة الأموال والأولاد بأنها من الفتنة والبلاء، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا
__________
(1) رواه أبو نعيم.
(2) رواه أبو داود.
(3) رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق.
(4) رواه مسلم.
ربوبيون وربانيون (3/25)
أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 28]، وقال معبرا بصيغة الحصر: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [التغابن: 15]
قالت إحدى الحاضرات: فلماذا لا يكون هذا من الابتلاء بالنقمة.
قالت العجوز: لأن الله عبر عنها بالهبة، فقال: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: 49 ـ 50]، فقد عبر القرآن الكريم عن عن إعطائه الإناث بصيغة الهبة، مسويا لهم في ذلك مع الذكور، بل إن الله تعالى قدم الإناث في الذكر على الذكور، ليبين أن رحمته بإعطاء الأنثى قد تكون أعظم من رحمته بإعطائه الذكور، لمن عرف كيف يتعامل مع هبة الله.. وفي التعبير بالهبة دلالة أخرى لها أهميتها الواقعية، وهي أن الكثير من العامة يتصورون أن جنس المولود سببه الأم، فلذلك قد يطلق الرجل امرأته إن ولدت له إناثا، فرد الله تعالى بأن جنس المولود هبة منه لا علاقة له بأحدهما.. وفي التعبير دلالة أخرى أعمق من ذلك كله لتعلقها بالجنس البشري جميعا، وهو أن الأمر لو ترك للأهواء لانقرض الجنس البشري من زمن بعيد، لأن الأهواء قد تميل إلى جنس معين مما ينشأ عنه اختلال التوازن الذي يحفظ النوع، فلذلك كان هذا هبة من الله لا اختيارا من البشر.
قالت إحدى الحاضرات: ولكن ألم تسمعي ما ورد في القرآن من الحديث عن ولادة مريم، فقد جاء فيها: ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: 36]، حيث اعتبر الذكورة خيرا من الأنوثة؟
قالت العجوز: يا ابنتي هذا فهم خاطئ لكتاب الله.. فأنت تحملين الآية ما لا تحتمل.. هل قالت الآية: (الذكر خير من الأنثى) أم قالت: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: 36]
ربوبيون وربانيون (3/26)
قالت المرأة: بل قالت: ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾ [آل عمران: 36]
قالت العجوز: فالآية تعبر عن حقيقة.. فالذكر مختلف في نواح كثيرة عن الأنثى.. والعدالة والرحمة تقتضي أن يعامل كل جنس بما تقتضيه طبيعته.. وفي قول أم مريم دلالة على هذا، فقد نذرت هذه المرأة الصالحة مولودها لخدمة المسجد، فلما رأته أنثى لا تصلح لهذه الخدمة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها.
سكتت قليلا، ثم قالت: ثم كيف يُفهم من كلام الله هذا، وهو الذي اعتبر تسخط البنات من الجاهلية، فقال: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [النحل: 58 ـ 59]، فالآيات الكريمة تصف رجلا قد ترسخت فيه قيم الجاهلية وتصوراتها حتى ملأت صدره ظلمة، انبعث منها سواد كالح غمر وجهه، وبما أن عقله قد حجب في تلك اللحظة عن النظر للحقيقة التي يرشد إليها القرآن الكريم، ويمتلئ بجمالها قلب المؤمن، بل تركه لتصورات المجتمع تنقش فيه ما تشاء، فإن تلك التصورات جعلته إنسانا سلبيا منكمشا على نفسه كظيما يكره أن يراه الناس، وكأنه قد أجرم جرما عظيما يخاف عقابه.
قالت إحدى الحاضرات: إنك تصفين واقعنا لا واقع الجاهلية.
قالت العجوز: هذا واقع جاهلي.. والجاهلية قد تدخل المجتمع المسلم لتشوه صورة الإسلام فيه.
قالت إحدى الحاضرات: فكيف نفرق بين سلوك الجاهلية والسلوك الذي حض عليه الإسلام؟
قالت العجوز: بالرجوع إلى هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والاستنارة بأشعته.
قالت إحدى الحاضرات: فكيف كان هدي محمد مع البنات؟
ربوبيون وربانيون (3/27)
قالت العجوز: لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم محبا لابنته فاطمة ـ سيدة نساء العالمين ـ عظيم الرحمة بها، لقد كان يقول عنها: (فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني) (1)، وكان يقول فيها: (فاطمة بضعة مني، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري).. وكانت إذا دخلت على أبيها رحب بها وقام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه.
التفتت إلى الحضور، وقالت: أتدرون أيها السادة في أي مجتمع كانت هذه التعاليم؟.. لقد كانت في مجتمع ينظر إلى البنات نظرة احتقار وازدراء ومهانة.. لقد كان العرب كما كان غيرهم يتشاتمون بميلاد البنات، ويضيقون بهن، حتى قال أحد الآباء ـ وقد بشر بأن زوجه ولدت أنثى ـ: (والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرها سرقة).. يريد أنها لا تستطيع أن تنصر أباها وأهلها إلا بالصراخ والبكاء لا بالقتال، ولا أن تبرهم إلا بأن تأخذ من مال زوجها لأهلها.. وكانت التقاليد المتوارثة عندهم تبيح للأب أن يئد ابنته.. يدفنها حية.. خشية من فقر قد يقع، أو من عار قد تجلبه حين تكبر على قومها.. وقد أنكر القرآن الكريم هذا إنكارا شديدا، فقال مقرعا لهم: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [التكوير: 8 ـ 9].. وكانت بعض الشرائع القديمة تعطي الأب الحق في بيع ابنته إذا شاء.. وكان بعضها الآخر، كشريعة حمورابي، تجيز له أن يسلمها إلى رجل آخر ليقتلها، أو يملكها إذا قتل الأب ابنه الرجل الآخر.
سكتت قليلا، ثم قالت: ولهذا كان القرآن الكريم وكان هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو النور الوحيد الذي وقف مع البنات يدافع عنهن ويحميهن، فقال في القتلة الذين لا يتورعون عن
__________
(1) رواه الترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/28)
قتل أولادهم إناثا كانوا أو ذكورا: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 140]، وقال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 31]
سكتت قليلا، ثم قالت: ولم يكتف بذلك، بل وضع منهجا متكاملا لتربية البنات والإحسان إليهن، وضرب نموذجا للتربية الصالحة وثمراتها بمريم العذراء عليها السلام التي تلقت تربية صالحة جعلتها من سيدات نساء العالمين، بل أخبر الله تعالى أنه اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساء العالمين، وقد كانت أمها عندما حملت بها تتمنى أن تكون ذكرا يخدم الهيكل، ويكون من الصالحين، كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [آل عمران: 35]، لكن الله تعالى وهب لتلك الأم بتلك الفتاة الطاهرة أعظم مما تمنت، لأن أمنيتها كانت مجرد خادم يخدم الهيكل، فإذا بها ترزق بالصديقة أم المسيح، قال تعالى: ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [المائدة: 75]
صاحت امرأة من الحاضرات: فهمنا ما قلت أيتها العجوز.. ولكن ألم يقل القرآن: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، فأي عدل هذا الذي يعطي الذكر ضعف الأنثى؟
قالت العجوز: هذا عدل الله.. فالله يعطي لكل شخص ما يتناسب مع حاجته.. هل الرضيع يأكل ما يأكله الكبير؟
قالت المرأة: لا.. وما علاقة هذا بما نحن فيه.
قالت العجوز: لأن معدة الرضيع وجهازه الهضمي لا يطيق ما يطيق الجهاز الهضمي للكبير.. بالإضافة إلى أن حاجة الرضيع من الطعام تجعله في غنى عن كثير مما يأكله الكبير.
قالت المرأة: هذا صحيح.. فهل تعتبرين المرأة رضيعا.. والرجل هو الكبير؟
ربوبيون وربانيون (3/29)
قالت العجوز: نعم.. من استناروا بأشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعتبرون المرأة في هذه الناحية كالرضيع.. فهم لا يكلفونها بالسعي على رزقها، ولا بالعمل للوفاء بمتطلبات حياتها.. فهي تعيش في كنف والديها، أو قوامة زوجها، فإذا لم يبق لها واحد من هؤلاء كلفت جماعة المسلمين بالإنفاق عليها.. فما حاجتها بعد ذلك للمال الذي يفوق حاجتها؟.. وهل ترون الرضيع ينتفع بالمال إذا ما أعطي له؟.. ثم إن الشريعة التي فضلت الابن في العطاء هي الشريعة التي كلفته بالإنفاق على أخته، وهي التي كلفته بدفع المهر لمن يريد الزواج منها.. فهل تكلفه بكل هذا، ثم لا تجعل له من الحقوق ما يفي بما تتطلبه هذه الواجبات.
سكتت قليلا، ثم قالت: فلنترك كل هذا، ونسأل الواقع.. هل يتساوى الناس في أجورهم؟
قالت المرأة: لا.. بل يختلفون.
قالت العجوز: بأي درجة يختلفون؟
قالت المرأة: قد يصل الاختلاف إلى الأضعاف المضاعفة.
قالت العجوز: فواقعكم الذين تدعوننا للالتزام به يقع فيما تحذروننا منه.
قالت المرأة: نعم.. ولكن الوظائف مختلفة في يسرها ومشقتها.
قالت العجوز: إني أرى أن أكثر الوظائف يسرا أكثرها أجرا.. أليس كذلك؟
قالت المرأة: صحيح هذا.
قالت العجوز: فتعلموا العدل أولا.. ثم استدركوا على الله ما تريدون أن تستدركوا عليه.
نهض بعض الشباب الحاضرين، وقال: اسمحوا لي أن أتحدث.. فما تذكرونه الآن يتعلق بي لقد مات أبي، وتركني مع أخت لي، وقد ترك لنا ثروة مقدراها مائة وخمسين ألف
ربوبيون وربانيون (3/30)
دينار.. نعم هي ثروة ضخمة.. أخذت منها ضعف أختي أي أني أخذت مائة، بينما لم تأخذ أختي إلا خمسين.. بعد استلامنا الإرث تقدمت أنا للزواج.. وخطبت أختي.. أما أنا فقد كنت ملزما بأن أدفع مهرا وهدايا لخطيبتي.. وقد كان مقدارها خمسة وعشرين ألفا.. فلم يبق من تركتي إلا خمسة وسبعين ألفا، أما أختي، فقد جاءها مهر وهدايا بنفس ما مهرت وأهديت أنا لخطيبتي.. فصارت تركتها مثلي تماما.. ثم إن أختي لن تصرف من مالها شيئا إلا ما تريده لزينتها.. أما أنا فإني مكلف بالإنفاق على زوجتي.. وها هي أختي حاضرة، وهي تشهد على ما أقول.
نهضت الأخت، وقالت: صدق أخي.. وأنا لا أنظر إلى هذا من الزاوية التي تنظرون إليها.. لقد جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قوم لا يعترفون بالمرأة ولا يورثونها، بل يرونها تورث كما يورث المتاع، فأكرمها، وأعطاه كل الفضل.. فكيف تهينون الشريعة التي حققت كل هذه العدالة؟
صاحت امرأة من الحاضرات: فهمنا هذا ووعيناه.. ولكن ألا ترين أن من الجور أن تعتبر دية المرأة نصف دية الرجل.. أليس ذلك احتقارا لها وإهانة.. أليس ذلك تشجيعا على ممارسة العدوان عليها؟
ابتسمت العجوز، وقالت: سأجيبك عن هذا من جهتين: الجهة الأولى جهة الموقف الحقيقي للشريعة من المسألة.. والجهة الثانية هي ما يمكن تمسيته بالإجابة الجدلية.. والتي تنطلق من صحة ما ذكرته من شبهة.
قالت المرأة: فحدثينا عن الجهة الأولى.
ربوبيون وربانيون (3/31)
قال العجوز (1): أما الجهة الأولى.. فالآية التي أثبتت مشروعية الدية في القرآن الكريم، شملت بإجماع الفقهاء والمفسرين الرجل والمرأة على حد سواء، ولم تفرق بينهما بشيء.. فالله تعالى قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ [النساء: 92].. ومثل ذلك ما ورد في السنة المطهرة حديث واحد صحيح صريح، يدل على تنصيف دية المرأة.. أما ما احتجوا به من الحديث الذي يقول: (دية المرأة على النصف من دية الرجل)، فقد حكم العلماء بضعفه (2).. أما أما دعوى انعقاد إجماع العلماء على تنصيف دية المرأة، فليس ذلك صحيحا.. فابن حزم ومن من معه يقولون بمساواة دية المرأة بدية الرجل في النفس والأعضاء.. لأن الأحاديث الصحيحة التي وردت في الدية، إنما جاءت شاملة للرجال والنساء دون تمييز، وكذلك الأحاديث الواردة في الجراحات: (وفي النفس المؤمنة مئة من الإبل، وفي العين خمسون وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون)، فإذا كان الرجل يقتل بالمرأة، ويقاد بها عينا بعين، وأذنا بأذن، وسنا بسن، ويقتص لها منه في كل الجراحات فما الذي يمنع من أن تكون ديتها كديته؟
قالت المرأة: فحدثينا عن الجهة الثانية.
__________
(1) استفدنا المعلومات الواردة هنا من بحث للباحث مصطفى عيد الصياصنة بعنوان (دية المرأة، في ضوء الكتاب والسنة: تمام دية المرأة وتهافت دعوى التنصيف) وقد قال هذا الباحث: (من دراستنا الموسعة والمستفيضة، لمسألة دية المرأة في الكتاب والسنة والآثار الواردة عن بعض أفراد الصحابة والتابعين، إضافة إلى معالجتنا لطبيعة دعوى الإجماع والقياس، بخصوص هذه المسألة، فإننا نستطيع القول ـ وبكل الاطمئنان والثقة ـ: إن دية المرأة على مثل دية الرجل سواء بسواء وذلك لتضافر الأدلة والمرجحات، التي تؤكد هذه الحقيقة) (دية المرأة، في ضوء الكتاب والسنة:145) وقد لخصنا باختصار وتصرف بعض ما ذكره من أدلة هنا.
(2) قال في نصب الراية في تخريجه: (روي هذا اللفظ موقوفا على علي ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ قلت: أما الموقوف، فأخرجه البيهقي عن إبراهيم عن علي بن أبي طالب، قال: (عقل المرأة على النصف من عقل الرجل في النفس وفيما دونها). وقيل: إنه منقطع، فإن إبراهيم لم يحدث عن أحد من الصحابة، مع أنه أدرك جماعة منهم؛ وأما المرفوع، فأخرج البيهقي أيضا عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دية المرأة على النصف من دية الرجل. قال: وروي من وجه آخر عن عبادة بن نسي)
ربوبيون وربانيون (3/32)
قالت العجوز: الجهة الأولى هي الجهة الأساسية المعتبرة.. أما الجهة الثانية (1).. فأبدؤها من أن ما يتخوف منه من الاستهانة بدم المرأة لا مبرر له، لأن عقوبة القتل تنفذ في قتل الرجل والمرأة على السواء.. فتقتل المرأة بالرجل، ويقتل الرجل بالمرأة مع أنها امرأة وهو رجل، وذلك لأن المسلمين ـ ذكورا وإناثا ـ سواء في الإنسانية، ولهذا تتكافأ دماؤهم، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم على يد من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم) (2)
سكتت قليلا، ثم قالت: بالإضافة إلى هذا، ينبغي أن تعلموا أن الشريعة حرصت على دماء المرأة أكثر من حرصها على دماء الرجل.. فقد منع الإسلام قتل المرأة ـ مسلمة كانت أو غير مسلمة ـ وأمر بعدم التعرض لها، إذ جاء النهي عن قتلها عند الغزو، فقد روي أنه وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهى عن قتل النساء والصبيان، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا ولا امرأة) (3)
سكتت قليلا، ثم قالت: بالإضافة إلى هذا، ينبغي أن تعلموا أن المرأة في الشريعة لا تكلف ـ مقابل تنصيف ديتها إن فرضنا ذلك ـ بالمساهمة في أداء الدية إلى أهل القتيل، بل تكلف بها العاقلة من الرجال، والغريب أن هذا الحكم يسري حتى لو كانت هي القاتلة بخلاف الرجل، فإن القاتل كأحدهم.. وينبغي أن تعلموا أن المرأة التي أعفيت من أداء الدية تتشارك مع العاقلة في الإرث! فترث من دية قريبها المقتول.. وينبغي أن تعلموا أن الدية ليست تقديرا لقيمة المقتول الإنسانية إنما هي تعويض مادي لا معنوي لأهل القتيل جزاء ما لحق بهم من ضرر مادي، ونظرا لأن الرجل هو المعيل والمنفق على الأسرة فإن ديته
__________
(1) استفدنا هذه المجادلة من مقال لعابدة فضيل المؤيد، المصدر: موقع مؤسسة البلاغ.
(2) أبو داود (2035) والنسائي 8/ 24.
(3) رواه أبو داود.
ربوبيون وربانيون (3/33)
تتضاعف على دية المرأة.
قالت إحدى الحاضرات: يمكنك أن تقولي هذا وغيره.. لكنا لا نقصد الجوانب النفسية وحدها بل نقصد الحياة.. ألم يجعل محمد مستقبل البنت وحياتها بيد أبيها.. فهو وليها أمرها الذي يفترض عليها طاعته في المنشط والمكره؟
قالت العجوز: سامحك الله يا ابنتي.. لقد أسأت إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم إساءة.. وأنا أعذرك في ذلك، فالجاهلية التي قد تتسمى بالإسلام، والبدعة التي قد تتلبس لباس السنة هي التي تشوه نور محمد وجمال هديه، أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهديه فهو خلاف ذلك تماما.. فهو لا يعطي للأب الذي هو أولى الأولياء بولاية ابنته أي سلطة على بناته سوى سلطة التأديب والرعاية والتهذيب الديني والخلقي، مثل إخوانها الذكور، فيأمرها بالصلاة إذا بلغت سبع سنين، ويضربها عليها إذا بلغت عشرا، ويلزمها أدب الإسلام في اللباس والزينة والخروج والكلام، وينفق عليها حتى تتزوج.
قالت المرأة: نحن لا نناقش في هذا.. ولكنا نناقش في ولاية الزواج.
قالت العجوز: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبطل زواج من أجبرها أبوها بمن لا ترضاه، وقد روي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه، وأنا لذلك كارهة، فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: (أجيزي ما صنع أبوك)، فقالت: (ما لي رغبة فيما صنع أبي)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اذهبي فلا نكاح لك.. انكحي من شئت)، فقالت: (أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن يعلم النساء أن ليس للآباء من أمور بناتهم شيء) (1)، ولم ينكر عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالتها.
__________
(1) رواه أحمد والنسائي.
ربوبيون وربانيون (3/34)
قالت المرأة: لقد خصص الفقهاء ذلك بالثيب (1).
قالت العجوز: لقد حملوا النصوص ما لا تحتمل.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسأل هذه المرأة.. أهي بكر أم ثيب.. بل ورد في حديث آخر عن ابن عباس أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت له أن أباها زوجها كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن القيم: (وهذه غير خنساء، فهما قضيتان قضى في إحداهما بتخيير الثيب، وقضى في الأخرى بتخيير البكر) (2)
قالت امرأة من الحاضرات: ولكن ألم تسمعي بالولاية الجبرية؟
قالت العجوز: ليست الولاية كما تفهمين يا ابنتي.. وليست كما يمارسها بعض الجهلة.. إنها مثل توكيل أي شخص المحامين الذي يحفظون له حقوقه.. فلو ترك الأمر للمرأة وحدها لأهينت، وربما احتال عليها من شاء من الناس.. فلذلك وكل الأمر لوليها، لا ليجبرها على الزواج بمن لا ترضى، ولا ليعضلها عمن ترضى، ولكن ليقف حائلا بينها وبين من يريد العبث بها، والولاية بهذا لا تختلف عن توكيل المحامين الذين يحفظون الحقوق، وليس للمحامي أن يستبد، فيأخذ الحق من أهله.
قالت المرأة: أنت تخالفين الفقهاء بهذا.
قالت العجوز: لا... كل من استنار بأشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا.
قالت المرأة: والأعراف التي نعيش في ظلها، والتي ألجأتنا إلى التبرئ من محمد ودين محمد؟
قالت العجوز: تبرأن من أعراف الجاهلية لا من محمد ودين محمد.. ثم أخبرنني يا من تحررتن عن حماية الآباء ماذا أعطت لكن هذه الحرية.. لقد كانت المرأة في بيتها ملكة
__________
(1) تناولنا جميع هذه المسائل بتفصيل في كتاب (الضوابط الشرعية لحماية الزواج) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)
(2) زاد المعاد:5/ 95.
ربوبيون وربانيون (3/35)
يتهافت الخطاب عليها.. وهي مصونة في سترها ممتلئة كرامة.. ولكنها الآن تعرض نفسها على الرجال.. فيعبثون بها كما شاءوا، ثم يرمونها إلى المزابل.
قال رجل من الحاضرين: صدقت يا أماه.. كنت في بريطانيا التي تمثل قمة من قمم هذه الحضارة.. فاسمحي لي أن أعرض لك بعض مشاهداتي فيها (1).. لقد كنت أستغرب عند بداية إقامتي فيها أن المرأة هي التي تنفق على الرجل، وكنت أشاهد هذه الظاهرة عندما أركب القطار أو أدخل المطعم، إذ ليس في قاموس الغربيين شيء اسمه (كرم).. وبعد حين زال هذا الاستغراب، وأخبرني المرضى عن أسباب هذه الظاهرة، وفهمت منهم بأن الرجل لا يحب الارتباط بعقد زواج، ويفضل ما أسموه [صديقة]، والمرأة تسميه [صديقا]، وليس هو أو هي من الصدق في شيء.. والصديق عندهم يعيش مع امرأة شهورا أو سنين، ولا ينفق عليها، بل هي تنفق عليه في معظم الحالات، وقد يغادر البيت متى شاء، أو قد يطلب منها مغادرة بيته، إن كانت تعيش معه في بيته، ولهذا فالمرأة عندهم تعيش في قلق وخوف شديدين، وتخشى أن يرتبط صديقها بامرأة ثانية ويطردها، ثم لا تجد صديقا آخر.
سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لكم مثلا على ذلك ببعض مريضاتي التي كانت تزورني في عيادتي النفسية.. لقد كانت امرأة في العشرينات من عمرها، وكانت حالتها النفسية منهارة، وبعد حين من الزمن شعرت بشيء من التحسن، وأصبحت تتحدث عن وعي، فسألتها عن حياتها، فأجابت والدموع تنهمر من عينيها، قالت: (مشكلتي الوحيدة أنني أعيش بقلق واضطراب، ولا أدري متى سينفصل عني صديقي، ولا أستطيع مطالبته بالزواج منى، لأنني أخشى من موقف يتخذه، ونصحت بالعمل على إنجاب طفل منه،
__________
(1) د. عبد الله مبارك الخاطر، من مقال يحمل عنوان (مشاهداتي في بريطانيا ـ المرأة الغربية والزواج)، مجلة البيان، عدد: 6، شوال: 1407، ص: 59.
ربوبيون وربانيون (3/36)
لعل هذا الطفل يرغبه في الزواج، وها أنت ترى الطفل، كما أنك تراني ولا ينقصني جمال، ومع هذا وذاك فأبذل كل السبل من تقديم خدمات وإنفاق مال، ولم أنجح في إقناعه بالزواج، وهذا سر مرضي، وسبب قهري أنني أشعر بأنني وحدي في هذا المجتمع، فليس لي زوج يساعدني على أعباء الحياة، ولي أهل ولكن وجودهم وعدمه سواء، وليتني بقيت بدون طفل؛ لأنني لا أريد أن يتعذب ويشقى في هذه الحياة كما تعذبت وشقيت)
التفت لبعض الحاضرات، فوجدت الدموع تسيل بغزارة من عيونهن، واصل الرجل حديثه قائلا: لا تظنوا أيها السادة أن هذه المرأة المريضة من شواذ المجتمع الغربي.. إن الشواذ هناك هم الذين يعيشون حياة هادئة.. قد تسألون عن سر ذلك.. والجواب ـ كما عشته ـ واضح: إن هذا أثر من آثار فكرة الحرية الفردية وعلو شأنها حوالي منتصف القرن الماضي ـ بما تحمله تلك الكلمة من حق وباطل ـ فإن الوحدة الرئيسية للمجتمع لم تعد العائلة، بل صارت (الفرد) رجلا كان أم امرأة.. ومن ثم.. وبعد أن تبدلت القيم والمفاهيم، وشاعت الحرية ـ صارت المرأة لا تعني الزوجة أو الأم للرجل، بل زميلة العمل أو الصديقة والخليلة، ولم يعد الرجل بحاجة إلى الزواج وإقامة العائلة كوحدة اجتماعية ـ في غالب الأحيان ـ فحاجاته الطبيعية ملباة دون مسؤوليات تلقى على عاتقه، وهو حر في التنقل بين امرأة وامرأة، كما أن المرأة حرة في التنقل بين رجل ورجل، كما تقتضيه دفعة الجسد العمياء.
سكت قليلا، ثم قال: وهذا كله جر عواقب وخيمة على المجتمع الغربي الذي يراد نسخ كل مجتمعات العالم على نمطه.. من أول العواقب كثرة العوانس بين الفتيات والعزاب من الشباب.. وذلك لتيسر إرواء غليل الشهوات من الطرق المحرمة بغير تحمل تبعة الزواج وبناء الأسرة، متمتعين في نفس الوقت بلذة التنويع، دون التقيد بالحياة المتشابهة المتكررة كما يزعمون، وكان من نتيجة ذلك وجود كثرة هائلة من الفتيات، تقضى شبابها محرومة من
ربوبيون وربانيون (3/37)
زوج تسكن إليه ويسكن إليها، إلا العابثين الذين يتخذونها أداة للمتعة الحرام، ويقابل هؤلاء الفتيات كثرة من الشباب العزاب المحرومين من الحياة الزوجية.
بعد أن شهد الرجل شهادته، ساد صمت رهيب القاعة، قطعته امرأة سافرة، نهضت، وقالت: لقد كان أبي أحسن الناس خلقا، وأعظمهم تدينا.. ولكنه مع ذلك اضطرني إلى الفرار من بيتي اضطرارا.. لقد كان يفرض علي الحجاب.. فأي دين هذا الذي يلزم المرأة بأن تلبس ما يستر محاسنها؟.. وأي نبي هذا الذي يتدخل في الشؤون الخاصة للناس؟
التفتت إليها العجوز، وقالت: ما تقولين في ابنتي في الطبيب الذي يحذر من طعام معين مبينا خطره على الصحة.. هل هو مصيب في ذلك.. أم أنك ترينه يتدخل في حياة الناس الشخصية ليمنعهم مما تشتهيه نفوسهم من الشهوات؟
قالت المرأة: إن أثبت الدراسات والتجارب صحة ما يقوله فله الحق في ذلك.
قالت العجوز: فالأمر في اللباس لا يختلف عنه في الطعام.. فكلاهما من الشؤون الشخصية.. ولكن من الشؤون الشخصية ما يكون صالحا نافعا، ومنها ما يكون ضارا.
قالت المرأة: لا أزال لا أفهم ما تقصدين.
قال العجوز: لتفهمي هذا يا ابنتي ينبغي أن تعلمي أن الحجاب الذي دعا إليه الإسلام ليس إلا مفردة من مفردات نظام العفة الذي جاء به.. لاشك أنك ككل إنسان فاضل تدركين قيمة العفة، وأنها خلق من أخلاق الإنسان الرفيعة.. وأن المجتمع الفاضل هو المجتمع الذي تسوده العفة.. إن هذا فطرة في كل نفس إنسانية فاضلة.. فإن كنت لا توقنين بهذا، أو تشكين فيه.. فلاشك أنك لا تقبلين من زوجك أن يخونك.. ولا تقبلين من
ربوبيون وربانيون (3/38)
ابنتك أن تصبح لعبة بين أيدي المنحرفين.. ولا ترضين لنفسك قبل ذلك وبعده أن تدنس سمعتك أو يتكلم أحد في عرضك، أو يتخذك أحد من الناس مطية لشهواته، ثم يرميك دون اهتمام أو مبالاة.
سكتت قليلا، ثم قالت: ما دمت لا تقبلين هذا.. فإن هذا لا يعني إلا شيئا واحدا هو أنك تؤمنين في قرارة نفسك بضرورة وجود نظام يحفظ للعفة وجودها الواقعي.. ويحفظ لها كذلك استمرارها ودوامها.. ونظام العفة كأي نظام يلجم الرغبات الجامحة للنفوس يحتاج بعض القيود.. هو نفسه النظام الذي يجعلنا ننتقي ما نأكله حتى لا تصبح شهوات نفوسنا مصايد لنا.
قالت المرأة: فحدثينا عن نظام العفة الذي جاء به الإسلام وعلاقته بالحجاب.
قالت العجوز: لا يمكنني في هذا المجلس أن أحدثك عن كل التفاصيل المرتبطة بهذا.. لكني سأقرأ عليك آيات من القرآن الكريم تبين السياق الذي ورد فيه الأمر بالحجاب.. وستدركين من خلالها لم جعلت الشريعة الحجاب جزءا من منظومة العفاف التي يقوم عليها المجتمع المسلم.
قرأت العجوز بصوت خاشع قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ
ربوبيون وربانيون (3/39)
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 26 ـ 33]
ثم قالت: هذه الآيات الكريمة تتحدث عن المجامع التي يقوم عليها نظام الإسلام للعفة (1).. ومقصد التشريعات الإسلامية يبدو من خلالها واضحا جليا.. فهي لا تعتمد على العقوبة في إنشاء المجتمع النظيف، إنما تعتمد قبل كل شيء على الوقاية.. وهي لا تحارب الدوافع الفطرية، ولكن تنظمها وتضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة،
سكتت قليلا، ثم قالت: والفكرة السائدة في منهج التربية الإسلامية في هذه الناحية، هي تضييق فرص الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة؛ وأخذ الطريق على أسباب التهييج والإثارة، مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة.. ومن هنا اعتبرت الآيات الكريمة للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها؛ فلا يفاجأ الناس في بيوتهم
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: ظلال القرآن وتفسير (الأمثل)
ربوبيون وربانيون (3/40)
بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول، خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت، وعلى عورات أهلها وهم غافلون.. ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء، وعدم التبرج بالزينة لإثارة الشهوات.. ومن هنا كذلك ييسر الزواج للفقراء من الرجال والنساء، فالإحصان هو الضمان الحقيقي للاكتفاء.. وينهى عن تعريض الرقيق للبغاء كي لا تكون الفعلة سهلة ميسرة، فتغري بيسرها وسهولتها بالفحشاء.
قالت المرأة: أنا مقتنعة بكل ما ذكرته الآيات عن التشريعات المرتبطة بالاستئذان وغيره، فهي تشريعات حضارية لا تنكرها الفطر السليمة.. ولكن الذي تنكره هو الحجاب.
قال العجوز: لا بأس.. سألتمس لإقناعك أسلوبا آخر.. أنا أعلم أن الحديث عن الحجاب في عصرنا الذي سموه عصر السفور والحرية، ليس حديثا سارا حيث يتصوه الكثير أسطورة تعود لعصور خلت.. إلا أن الفساد الذي لا حد له، والمشاكل المتزايدة والناتجة عن هذه الحريات التي لا قيد لها ولاحدود، أدى بالتدريج إلى ايجاد الأذن الصاغية لهذا الحديث.. أولا.. لا شك أنك تعلمين أن سفور النساء وما يرافقه من تجميل وتدلل ـ وما شاكل ذلك ـ يحرك الرجال ويحطم أعصابهم، وتراهم قد غلب عليهم الهياج العصبي، وأحيانا يكون ذلك مصدرا للأمراض النفسية، فأعصاب الإنسان محدودة التحمل، ولا تتمكن من الإستمرار في حالة الهيجان؟.. ألم يقل أطباء علم النفس بأن هذه الحالة من الهيجان المستمر سبب للأمراض النفسية، خاصة إذا لاحظنا أن الغريزة الجنسية، أقوى الغرائز في الإنسان وأكثرها عمقا، وكانت عبر التاريخ السبب في أحداث دامية وإجرامية مرعبة، حتى قيل: إن وراء كل حادثة مهمة امرأة!.. أليس إثارة الغرائز الجنسية لعبا بالنار؟.. وهل هذا العمل عقلاني؟.. ولذلك، فإن الإسلام يريد للرجال والنساء المسلمين
ربوبيون وربانيون (3/41)
نفسا مطمئنة وأعصابا سليمة ونظرا وسماعا طاهرين، ولهذا دعا إلى الحجاب وألزم به، فلا يمكن أن يتحقق الاستقرار من دونه.
سكتت قليلا، ثم قالت: ثانيا.. تبين الإحصاءات الكثيرة الموثقة ارتفاع نسب الطلاق وتفكك الأسرة في العالم، بسبب زيادة السفور، لأن الناس أتباع الهوى غالبا، وهكذا يتحول حب الرجل من امرأة إلى أخرى، كل يوم، بل كل ساعة، أما في البيئة التي يسودها الحجاب والتعاليم الإسلامية الأخرى، فالعلاقة وثيقة بين الزوج وزوجته، ومشاعرهما وحبهما مشترك.. وأما في سوق السفور والحرية الوهمية، حيث المرأة سلعة تباع وتشترى، أو في أقل تقدير موضع نظر وسمع الرجال، عندها يفقد عقد الزواج حرمته، وتنهار أسس الأسر بسرعة كانهيار بيت العنكبوت، ويتحمل هذه المصيبة الأبناء.
سكتت قليلا، ثم قالت: ثالثا.. لا شك أنك تعلمين أن انتشار الفحشاء وازدياد الأبناء غير الشرعين يعتبران من أنكى نتائج إلغاء الحجاب، ولا حاجة إلى إحصائية بهذا الصدد، فشواهدها ظاهرة في المجتمع الغربي، واضحة بدرجة لا تحتاج إلى بيان، فكلما انتشر الفساد الجنسي في المجتمعات البشرية اتسع التهديد لهذه المجتمعات وتعاظم الخطر عليها، وقد برهنت دراسات العلماء في التربية على ظهور الأعمال المنافية للعفة، وتفشي الإهمال في العمل والتأخر، وعدم الشعور بالمسؤولية، في المدارس المختلطة والمنشئات التي يعمل فيها الرجال والنساء بشكل مختلط.
سكتت قليلا، ثم قالت: بعد هذا كله، فإن ابتذال المرأة وسقوط شخصيتها يفقدها كل قيمتها الإنسانية، إذ يصبح شبابها وجمالها وكأنه المصدر الوحيد لفخرها وشرفها، حتى لا يبقى لها من إنسانيتها سوى أنها أداة لإشباع شهوات الآخرين، الوحوش الكاسرة في صور البشر.. كيف يمكن للمرأة في هذا المجتمع أن تبرز علميا وتسمو أخلاقيا!؟.. إنه من
ربوبيون وربانيون (3/42)
المؤسف أن تلعب المرأة باسم الفن، وتشتهر وتكسب المال الوفير، وتنحط إلى حد الإبتذال في المجتمع، ليرحب بها مسيرو هذا المجتمع المنحط خلقيا، في المهرجانات والحفلات الساهرة!؟
قالت المرأة: إن كل ما ذكرته صحيح.. ولكن ألا ترين أن الحجاب يجعل النساء ـ اللاتي يشكلن نصف المجتمع ـ في معزل عن المجتمع، ويكون ذلك سببا في تأخرهن الثقافي، وانعدام الإستفادة من طاقاتهن العظيمة في ازدهار الإقتصاد.. وإذا شغر مكانهن في المنشئات الثقافية والإجتماعية أصبحن مواد استهلاكية ليست بذات جدوى للمجتمع؟
قالت العجوز: لا.. يا ابنتي.. إن ما تقولينه غير صحيح.. فالشرع الذي حرم على المرأة أن تلبس من اللباس ما قد يؤدي إلى أي ضرر نفسي أو اجتماعي هو نفسه الشرع الذي دعا المرأة إلى أن تكون إيجابية في المجتمع.. وأدنى درجات الإيجابية أن تقوم المرأة بإدارة المنزل وتربية الأبناء الأصحاء رجال المستقبل الذين يديرون عجلة الحياة في المجتمع.. إن الذين لا يعدون هذه المسؤولية للمرأة أمرا ايجابيا جاهلون بحقيقة دور المرأة في الأسرة وفي التربية، وفي بناء مجتمع سليم فعال، بل لا يعترفون إلا بمغادرة الرجال والنساء المنازل صباحا ليلتحقوا بالدوائر والمصانع، ويجعلون أبناءهم تحت رعاية الآخرين، في دور الحضانة، أو يغلقوا عليهم المنازل ليعيشوا في معتقل دون رعاية، حتى يعود الوالدان من العمل وقد أرهقهما التعب!.. هؤلاء غافلون عن أن افتقاد الأطفال للرعاية والعطف، يؤدي إلى تحطم شخصيتهم ويعرض المجتمع إلى الخطر.
قالت المرأة: ولكن لم كان الإسلام هو الدين الوحيد الذي يفرض الحجاب من دون سائر الأديان؟
قالت العجوز: ومن قال لك ذلك.. إن الحجاب الذي يعني اللباس الملتزم مكتوب
ربوبيون وربانيون (3/43)
في كل فطرة نبيلة، وفي كل شريعة صحيحة.. ولا تجدين دينا إلا وله أثارة لا تزال توجد فيه.. سأضرب لك مثالا على ذلك من الكتاب المقدس.. لقد ورد في رسالة بطرس الأولى [3: 1 ـ 5]: (كذلك، أيتها النساء، اخضعن لأزواجكن، حتى وإن كان الزوج غير مؤمن بالكلمة، تجذبه زوجته إلى الإيمان، بتصرفها اللائق دون كلام، وذلك حين يلاحظ سلوكها الطاهر ووقارها، وعلى المرأة ألا تعتمد الزينة الخارجية لإظهار جمالها، بضفر الشعر والتحلي بالذهب ولبس الثياب الفاخرة، وإنما لتعتمد الزينة الداخلية، ليكون قلبها متزينا بروح الوداعة والهدوء، هذه هي الزينة التي لا تفنى، وهي غالية الثمن في نظر الله! وبها كانت تتزين النساء التقيات قديما، فكانت الواحدة منهن تتكل على الله وتخضع لزوجها).. وفي الرسالة الأولى إلى تيموثاوس [2: 9 ـ 10]: (كما أريد أيضا، أن تظهر النساء بمظهر لائق محشوم اللباس، متزينات بالحياء والرزانة، غير متحليات بالجدائل والذهب واللاليء والحلل الغالية الثمن، بل بما يليق بنساء يعترفن علنا بأنهن يعشن في تقوى الله، بالأعمال الصالحة!).. وفي سفر الأمثال [31: 30]: (الحسن غش والجمال باطل، أما المرأة المتقية الرب فهي التي تمدح، أعطوها من ثمر يديها، ولتكن أعمالها مصدر الثناء عليها)
جلست المرأة، فقامت أخرى، وقالت: لقد حدثتنا عن الثلاث، وقد اقتنعت بما ذكرت.. فحدثينا عن الرابعة.
قال العجوز: الرابعة هي الرعاية.. فالشريعة التي أكرمت المرأة وصانتها هي نفسها التي جاءت لترعى لها كل حاجاتها الدينية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية باعتبارها
ربوبيون وربانيون (3/44)
كالرجل تماما (1).
سكتت قليلا، ثم قالت: لقد وردت النصوص الكثيرة ومعها التشريعات المختلفة تؤكد ذلك وتؤسس له.. فمن ذلك رعاية حاجتها للتعليم.. فقد حث الإسلام على العلم ورغب فيه الرجال والنساء على السواء، وليس هناك نص واحد صحيح يحرم على المرأة أن تتعلم.. بل إن التاريخ الإسلامي مليء بمئات العاملات والأديبات، والمحدثات ممن اشتهرن بذلك ودونت سيرتهن في كتب التراجم.. ومن ذلك حقها في العمل والوظيفة.. فلا يوجد في الإسلام ما يمنع من تولي المرأة الوظائف لكمال أهليتها، ولكن يجب أن يتم ذلك وفق مبادئ الإسلام وأخلاقه، فلا يصح أن تكون الوظيفة معطلة لعمل الأم في بيتها وإشرافها على شؤون عائلتها.. وذلك ليس هو النظام الشرعي الاجتماعي فقط بل هو النظام الطبيعي، ولهذا فإن عمل المرأة لا يكون من الناحية الإجتماعية أصلا، بل يكون استثنائيا.
سكتت قليلا، ثم قالت: ومن وجوه الاستثناء في هذا أن تكون المرأة ذات نبوغ خاص يندر في الرجال والنساء معا، والمصلحة الاجتماعية توجب في هذه الحالة أن تعمل ليعود ذلك النبوغ على المجتمع بنفع عام، وفي هذا تترك جزء من أمومتها في سبيل المصلحة العامة.. ومن وجوهه أن تتولى المرأة عملا هو أليق بالنساء كتربية الأطفال وتعليمهم فيكون الطفل في حضانة أمه داخل البيت، وفي عطف المرأة ورعايتها في المدرسة، ومثل تعليم الأطفال تطبيب النساء، وقد قرر الفقهاء أن بعض هذه الأعمال فرض كفاية كالقابلات فإن عملهن من فروض الكفاية.
__________
(1) ذكرنا الأدلة المفصلة على ذلك في كتاب (الحقوق المعنوية للزوجة) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية) ولذلك سنقتصر هنا على بعض الأمثلة الدالة على مجامع ذلك وقد رجعنا فيها إلى كتاب (حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون. نصاً ومقارنة وتطبيقاً) للمحامي محمد عنجريني وغيره.
ربوبيون وربانيون (3/45)
سكتت قليلا، ثم قالت: ومن وجوهه أن تعين زوجها في ذات عمله، وهذا كثير في الريف، فالمرأة الريفية إذا كان زوجها عاملا زراعيا، أو مالكا غيرا، أو مستأجرا لمساحة ضئيلة تعاونه امرأته في عمله.. ومن وجوهه أن تكون في حاجة إلى العمل لقوتها، وقوت عيالها إذا فقدت العائل هي وهم، فكان لا بد أن تعمل هذه الضرورة أو تلك الحاجة الملحة.
قامت امرأة، وقالت: فما تقول الشريعة في الحقوق السياسية للمرأة؟
قال العجوز: ما دامت المرأة إنسانا كالرجل.. ومسؤولة مثله عن الشؤون الاجتماعية.. فإن لها الحق مثله في جميع الحقوق السياسية.. وأولها حقها في انتخاب أولياء الأمور.. ولها حق النيابة بفروعها جميعا.. فلها الحق في تشريع القوانين والأنظمة.. فليس في الإسلام ما يمنع أن تكون المرأة مشرعة، لأن التشريع يحتاج قبل كل شيء إلى العلم مع معرفة حاجات المجتمع وضروراته التي لا بد منها، والإسلام يعطي حق العلم للرجل والمرأة على السواء.. ولها الحق في مراقبة السلطة التنفيذية.. بل هو واجب عليها كوجوبه على الرجل.. ذلك أن هذه الرقابة ليست سوى أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.. والرجل والمرأة في ذلك سواء في نظر الإسلام قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71]
قامت أخرى، وقالت: ولكن الإسلام مع كل هذا لم يتح للمرأة أن تتولى المناصب المحترمة في الدولة؟
قالت العجوز: إن أكثر الفقهاء يرون أن المناصب الحكومية ليست ممنوعة على المرأة سوى منصب واحد ـ وهو ممنوع على أكثر الرجال ـ وهو منصب (رئاسة الدولة العليا)، والسر في هذا المنع ليس عائدا إلى موقف الإسلام من إنسانية المرأة، وكرامتها، وأهليتها،
ربوبيون وربانيون (3/46)
وإنما هو وثيق الصلة بمصلحة الأمة وبحالة المرأة النفسية ورسالتها الاجتماعية.. فرئيس الدولة في الإسلام ليس صورة رمزية للزينة والتوقيع، وإنما هو قائد المجتمع، ورأسه المفكر، ووجه البارز، فهو الذي يعلن الحرب على الأعداء، ويقود جيش الأمة في ميادين الكفاح، ويقرر السلم والمهادنة إن كانت المصلحة فيها، أو الحرب والاستمرار فيها إن كانت المصلحة تقتضيها، وطبيعي أن يكون ذلك كله بعد استشارة أهل الحل والعقد في الأمة.. ومما لا ينكر أن هذه الوظائف الخطيرة لا تتفق مع تكوين المرأة النفسي، والعاطفي، وبخاصة ما يتعلق بالحروب وقيادة الجيوش، فإن ذلك يقتضي من قوة الأعصاب، وتغليب العقل على العاطفة والشجاعة في خوض المعارك،
قامت أخرى، وقالت: دعينا من السياسة.. فلا ناقة لنا فيها ولا جمل.. وعودي بنا إلى الأسرة.. وأجيبينا على هذا السؤال المحير.. لم جعل الطلاق بيد الرجل، ولم يجعل بيد المرأة؟
قالت العجوز: إن فصم رابطة الزوجية أمر خطير، يترتب عليه آثار بعيدة المدى في حياة الأسرة والفرد والمجتمع، فمن الحكمة والعدل ألا تعطى صلاحية البت في ذلك، وإنهاء الرابطة تلك، إلا لمن يدرك خطورته، ويقدر العواقب التي تترب عليه حق قدرها، ويزن الأمور بميزان العقل، قبل أن يقدم على الإنفاذ، بعيدا عن النزوات الطائشة، والعواطف المندفعة، والرغبة الطارئة.. والثابت الذي لا شك فيه أن الرجل في الأغلب أكثر إدراكا وتقديرا لعواقب هذا الأمر، وأقدر على ضبط أعصابه، وكبح جماح عاطفته حال الغضب والثورة، وذلك لأن المرأة خلقت بطباع وغرائز تجعلها أشد تأثرا، وأسرع انقيادا لحكم العاطفة من الرجل، لأن وظيفتها التي أعدت لها تتطلب ذلك، فهي إذا أحبت أو كرهت، وإذا رغبت أو غضبت اندفعت وراء العاطفة، لا تبالي بما ينجم عن هذا الاندفاع
ربوبيون وربانيون (3/47)
من نتائج ولا تتدبر عاقبة ما تفعل، فلو جعل الطلاق بيدها، لأقدمت على فصم عرى الزوجية لأتفه الأسباب، وأقل المنازعات التي لا تخلو منها الحياة الزوجية، وتصبح الأسرة مهددة بالانهيار بين لحظة وأخرى.
سكتت قليلا، ثم قالت: وهذا لا يعني أن كل النساء كذلك، بل إن من النساء من هن ذوات عقل وأناة، وقدرة على ضبط النفس حين الغضب من بعض الرجال، كما أن من الرجال من هو أشد تأثرا وأسرع انفعالا من بعض النساء، ولكن الأعم الأغلب والأصل أن المرأة كما ذكرنا، والتشريع إنما يبني على الغالب وما هو الشأن في الرجال والنساء، ولا يعتبر النوادر والشواذ، وهناك سبب آخر لتفرد الرجل بحق فصم عرى الزوجية.
سكتت قليلا، ثم قالت: بالإضافة إلى ذلك، فإن إيقاع الطلاق يترتب عليه تبعات مالية، يلزم بها الأزواج: فيه يحل المؤجل من الصداق إن وجد، وتجب النفقة للمطلقة مدة العدة، وتجب المتعة لمن تجب لها من المطلقات، كما يضيع على الزوج ما دفعه من المهر، وما أنفقه من مال في سبيل إتمام الزواج، وهو يحتاج إلى مال جديد لإنشاء زوجية جديدة، ولا شك أن هذه التكاليف المالية التي تترتب على الطلاق، من شأنها أن تحمل الأزواج على التروي، وضبط النفس، وتدبر الأمر قبل الإقدام على إيقاع الطلاق، فلا يقدم عليه إلا إذا رأى أنه أمر لا بد منه ولا مندوحة عنه، أما الزوجة فإنه لا يصيبها من مغارم الطلاق المالية شيء، حتى يحملها على التروي والتدبر قبل إيقاعه ـ إن استطاعت ـ بل هي تربح من ورائه مهرا جديدا، وبيتا جديدا، وعريسا جديدا، ولذلك فمن الخير للحياة الزوجية، وللزوجة نفسها أن يكون البت في مصير الحياة الزوجية في يد من هو أحرص عليها وأضن بها.
قالت المرأة: ولكن المرأة بالرغم من كل ما ذكرت، ستظل مرغمة على العيش مع رجل لا تطيقه.
ربوبيون وربانيون (3/48)
قالت العجوز: لا.. الشريعة لم تهمل جانب المرأة في إيقاع الطلاق، فقد منحتها الحق في الطلاق، إذا كانت قد اشترطت في عقد الزواج شرطا صحيحا، ولم يف الزوج به، وأباحت لها الشريعة الطلاق بالاتفاق بينها وبين زوجها، ويتم ذلك في الغالب بأن تتنازل للزوج عن مهرها، أو تعطيه شيئا من المال، يتراضيان عليه، ويسمى هذا بالخلع أو الطلاق على مال، ويحدث هذا عندما ترى الزوجة تعذر الحياة معه، وتخشى إن بقيت معه أن تخل في حقوقه، وهذا ما بينه الله تعالى في قوله: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 229]، ولها طلب التفريق بينها وبينه، إذا أعسر ولم يقدر على الإنفاق عليها، وكذا لو وجدت بالزوج عيبا، يفوت معه أغراض الزوجية، ولا يمكن المقام معه مع وجوده، إلا بضرر يلحق الزوجة، ولا يمكن البرء منه، أو يمكن بعد زمن طويل، وكذلك إذا أساء الزوج عشرتها، وآذاها بما لا يليق بأمثالها، أو إذا غاب عنها غيبة طويلة.. كل تلك الأمور وغيرها، تعطي الزوجة الحق في أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها، صيانة لها أن تقع في المحظور، وضنا بالحياة الزوجية من أن تتعطل مقاصدها، وحماية للمرأة من أن تكون عرضة للضيم والتعسف.
ما انتهت العجوز من حديثها إلى هذا الموضع حتى طلبت إحدى الشاهدات التدخل، فأذنت لها رئيسة الجلسة طمعا في أن تنقذ المؤتمر من الموقف الحرج الذي وضعته فيه العجوز.
قالت الشاهدة: لقد أدليت بشهادتي، وكنت صادقة في ذلك.. لكني كاذبة لأني لم أعط شهادتي حقها من التفصيل والتعليل.. نعم لقد أهنت وسلبت حقوقي.. ولكن الذين
ربوبيون وربانيون (3/49)
أهانوني وسلبوا حقوقي لم يتعرضوا في يوم واحد من حياتهم لأشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد كانت حياتهم مبنية على أعراف تعارفوها، وأفكار سرت إليهم من مجتمعات مختلفة.. لقد كان أبي شيخا جاهلا باعني كما باع بقرته.. ولو أنه استنار بهديه صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلم من معاملته لابنته فاطمة لما فعل هذا بي.. وكان زوجي رجلا شحيحا حريصا يبيع دينه بأي شيء، فلذلك لم يكن ينظر إلي إلا كما ينظر إلى مواشيه وسلعه.. وسأفصح لكم عن سر لو أني لم أفصحه الآن لوقفت خجلة من محمد صلى الله عليه وآله وسلم طول حياتي.
قالوا: وما هذا السر؟
قال: لقد سببت زوجي وأهنته، ومع ذلك سأذهب إلى بيته هذا المساء.. وسيكرمني أعظم إكرام مع ما قلت في حقه.. أتدرون سر ذلك؟
صمت الجميع محتارين، فقالت: لقد قبض زوجي مبلغا مقابل شهادتي.. لقد تآمر مع بعض المحضرين لهذا المؤتمر لأدلي بهذه الشهادة.. فهو من الناس الذين يرددون: (أعطني المال، وسمني بأي اسم شئت).. ولن أفضح زوجي أكثر من هذا.. ولكني أقول لكم: إن هذا الزوج الذي أردتم أن ترموا به محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد تخلى عن دينه إن كان له دين.. وقد التحق بركب المرتدين.. لقد ذهب إلى المسيح.. لا حبا في المسيح.. ولكن حبا في المال الذي يدر عليه من خدمة المسيح أو خونة المسيح.
جلست الشاهدة التي زادت طين المؤتمر بلة، فرفعت الشاهدة الثانية يدها، والثالثة والرابعة.. خشيت رئيسة الجلسة أن تزداد الفضائح، فرفعت الجلسة.
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن المشهد الذي عرفت به الرحمة المرتبطة بالأطفال،
ربوبيون وربانيون (3/50)
وعلاقتها بالدين.
قال: لقد شاء الله أن يكون هذا المشهد في إحدى المدارس الخاصة التي تديرها منظمة اليونسيف، وهي المنظمة المكلفة برعاية الطفولة، والتابعة للأمم المتحدة، وقد حضرت حينها بعض حفلاتها التي تقيمها بمناسبة وبغير مناسبة.
فبعد أن اجتمع العامة والوجهاء في قاعة الحفل.. وذلك بعد مرورهم على كل أجنحة المدرسة، وامتلائهم إعجابا بها، وبالأنشطة التي يقوم بها التلاميذ فيها.. راح بعض الحاضرين، وأمام التلاميذ والزوار يلقي بمحاضرة مطولة، لم تكن تهدف في الحقيقة إلا إلى شيء واحد، وهو أن الإسلام ظلم الطفولة، وهضمها حقوقها، وأنه تعامل بقسوة بالغة مع براءة الطفولة.
وكان من ضمن ما قال (1): اسمعوا لأمر محمد بضرب الأطفال.. إنه يقول بكل قسوة: (اضربوهم إذا بلغوا عشرا) (2).. بل يأمر قبل ذلك.. وفي اليوم السابع من ميلادهم بإجراء عملية يسمونها الختان لا هدف لها إلا إذيتهم من غير قيام أي داع لذلك.. هي عملية جبرية قسرية تنم عن قسوة الإسلام، وعدم احترامه لبراءة الطفولة.
بعد أن أملى على الحضور في لحظة نشوته تلك الرسالة.. أراد أن يبرهن عليها، فأحضر أشرطة تصور حال بعض أطفال المدرسة قبل قدومهم إليها، وكيف كانوا يعانون جميع أنواع المشاق، وكيف كانوا يعاملون بكل أنواع القسوة.. ثم أردف ذلك بإخراج أولئك التلاميذ أنفسهم ليراهم الحضور، وكيف تغير حالهم.
__________
(1) لخصنا هنا ما ذكرناه في كتاب: رحمة للعالمين، ص 87، فما بعدها.
(2) طبعا الحديث لم يرد بهذه الصيغة، لكن المستشرقين والمبشرين وغيرهم ـ وكما هو معلوم ـ يحرفون الكلم عن مواضعه، فيقتصون من النصوص ما يتناسب مع أغراضهم.
ربوبيون وربانيون (3/51)
بل إنه إمعانا في بيان الدور العظيم الذي قام به.. طلب من التلاميذ أن يتحدثوا.. فتحدثوا شاكرين له، ولمجهوده الكبير الذي قدمه.
وكان للحفل أن ينجح، ويؤدي دوره الذي أريد منه لو أن المحاضر اكتفى بذلك.. لكنه في لحظة نشوته راح من غير شعور يخير التلاميذ بين تلك الحياة الجميلة التي يحيونها في مدرسته وبين الإسلام قائلا لهم، وبسمة الغرور تملأ فاه: ما رأيكم ـ الآن ـ أحبائي الصغار في هذه الحياة التي منت بها عليكم هذه الحضارة، وبين الحياة التي أراد محمد أن تعيشوها.
وهنا تغيرت وجوه التلاميذ تغيرا تاما.. بل إن أحدهم لم يطق الاكتفاء بتغير الوجه، فراح يقول لصاحب المدرسة بكل قوة: أي محمد تقصد؟
قال المحاضر: ليس هناك إلا محمد واحد.. ذلك البدوي القاسي الذي صاغ دينا بدويا، وطلب من البشر جميعا أن يتحولوا إلى بدو قساة.
قال التلميذ: تقصد محمدا الذي أرسله الله رحمة للعالمين؟
قهقه المحاضر بصوت عال، وقال: أجل.
ثم التفت إلى الجموع، وراح يصيح: انظروا الغرور العظيم الذي كان عليه ذلك الرجل.. إنه لم يكتف بأن يزعم لنفسه الرحمة لقومه حتى راح يزعم أنه رحمة للعالمين.. وكيف يكون رحيما ذلك الذي يدعو إلى ضرب الصبية.. وإعناتهم.. وملأ حياتهم بالتكاليف الشاقة!؟
قاطعه التلميذ، وقال: لقد سمعنا موقفك ـ حضرة الأستاذ الفاضل ـ فهل تأذن لنا في الجواب؟
قال الرجل بكل غرور: أجل.. لقد خيرتكم بين هذه الحياة الكريمة التي وفرتها هذه الحضارة الرحيمة، وبين الحياة القاسية التي دعاكم محمد إلى تحملها.
ربوبيون وربانيون (3/52)
قال التلميذ: قبل أن أجيبك عن هذا السؤال، أخبرك ـ أولا ـ أن القسوة التي كنت أعيش فيها مع رفاقي جميعا لم تكن قسوة مرتبطة بتشريعات الإسلام، ولا بتعاليم محمد.. وإنما كانت قسوة ناشئة عن الحالة المادية التي اضطرتنا الحياة إليها اضطرارا.. ومع ذلك.. ومع تلك القسوة الظاهرية.. كنا ننعم برحمة باطنية كبيرة تملأ حياتنا بالجمال الذي لا يراه الناس.
قال تلميذ آخر: نعم لم يكن للبيوت التي تكننا مثل هذا الجمال الذي تمتلئ به هذه المدرسة.. ولم يكن فيها من المرافق ما فيها.. ولكنا مع ذلك كنا نشعر أن آباءنا لم يكونوا يقصدون شيئا من القسوة حولنا.. ولكن ذات يدهم جعلتهم لا ينيلوننا من الحياة إلا ما رأيتموه.. وليس لذلك كله صلة بالإسلام.
تغير وجه المحاضر لإجابة هذا التلميذ، وقال، وهو يحاول أن يستر موقفه: لا بأس.. دعنا من حياتكم.. وأخبرني عن التعاليم التي جاء بها محمد.. ألا ترى أن فيها وحدها ما يكفي للبرهنة على موقف الإسلام القاسي من الطفولة؟
ابتسم التلميذ، وقال: إن أذنت لي، وأذن لي هذا الجمع المبارك، فسأحدثكم مع رفاقي التلاميذ عن التعاليم العظيمة التي جاء بها الإسلام حول الطفولة.. وسترون فيها البرهان الكافي على رحمة الإسلام بالطفولة.. وهي نفس رحمته التي شملت الحياة جميعا.
تغير وجه المحاضر، لكنه ستر تغيره بابتسامة عريضة قال بعدها: لقد خططتم لهذا اليوم إذن؟
قال التلميذ: لا.. لم نخطط.. ولكن الله أتاح لنا أن نقرأ تعاليم الإسلام من مصادرها الأصلية.. وقد أعطانا ذلك قناعة كبرى بما نقول.. فهل تراك تأذن لنا في الحديث؟
قال المحاضر: أجل.. أجل.. يسرني ذلك.. تحدثوا.. فما أجمل أن يسمع الكبار
ربوبيون وربانيون (3/53)
للصغار.
قال التلميذ: لقد رأينا من خلال استقراء النصوص المقدسة أن الإسلام أعطى للأطفال أربعة حقوق كبرى تنتظم فيها جميع الحقوق.. أما أولها، فحقهم في الوجود.. وأما الثاني، فحقهم في الحياة.. وأما الثالث، فحقهم في المعاملة النفسية الرقيقة.. وأما الرابع، فحقهم في التربية الصحيحة الصالحة.
التفت إلى رفاقه التلاميذ، وقال: سيحدثكم أصدقائي عن هذه الحقوق، ولكم أن تسألوهم ما شئتم.
تقدم تلميذ آخر، وقال: حق الوجود هو أول حق من حقوق الطفل.. ولا يمكن أن تقوم سائر الحقوق إلا عليه.
ضحك المحاضر بصوت عال، وقال: حق الوجود!؟.. لم نسمع بهذا.. إن هذا أقرب إلى الهزل منه إلى الجد.. من ناقش في حق الوجود حتى يتحدث عنه؟ أوحتى يطالب أحد به؟
ابتسم التلميذ، وقال: لقد ناقش هذا الحق اثنان.. أما أحدهما فحمل سلاح الدين ليحارب به هذا الحق.. وأما الثاني، فحمل سلاح الحضارة.
قال المحاضر: فمن حمل السلاح الأول؟
قال التلميذ: أما السلاح الأول، فحمله رجال من رجال الدين أرادوا أن يحاربوا فطرة الله في عباده، فاعتبروا الكمال في العزوبة، والانقطاع عن الناس، وحياة الرهبانية.
قال المحاضر: ومن حمل السلاح الثاني؟
قال التلميذ: لقد حملته هذه الحضارة.. عندما نادى بعض قادتها بضرورة تحديد
ربوبيون وربانيون (3/54)
النسل.. لاشك أنك تعرفه.. إنه مالتوس.. لقد صاح بملء فيه يقول: (السكان يتزايدون بمعدلات حسابية.. إنه إذا الاختلال، فالمجاعة..)
قال المحاضر: ذاك رجل كلاسيكي.. فدعنا منه.
قال التلميذ: لم يكن مالتوس وحده هو الذي نادى بذلك.. لقد صاح بعده ـ وفي سنة 1968 ـ العالم البيولوجي (بول أيرلخ) في كتابه الشهير (القنبلة السكانية) يقول: (لقد انتهت معركة توفير الغذاء للجميع بالفشل التام، وسيعاني العالم في السبعينات من هذا القرن (العشرين) من المجاعات وموت ملايين من البشر جوعا، وذلك على الرغم من أن أي برنامج قد نبدؤه اليوم لتفادي ذلك)
قال آخر: وقد استمر هذا العالم يطلق صيحاته التحذيرية هذه.. حتى أنه في عام 1970 ذكر أن هناك احتمال موت 65 مليون من البشر ـ أمريكيين بالتحديد ـ من الجوع، وأربعة بلايين من بقية سكان العالم، بين سنتي 1980/ 1989.. إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث.. ومع أن سكان العالم قد تضاعفوا منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، إلا إنتاج الغذاء قد تضاعف ثلاث مرات في الفترة نفسها.
قال آخر: إن صيحات التحذير لم تكف بعد.. ففي هذه الأيام ظهرت صيحات جديدة مدعومة بالإحصاءات والدراسات، فتقارير منظمة الفاو (منظمة الأغذية والزراعية) تؤكد أن نحو 25 ألف مليون طن من التربة الخصبة تتعرض للزوال سنويا، بفعل عوامل التعرية.. وأن تصيب الفرد من الأرض الصالحة للزراعة سينكمش بحلول عام 2010، من 0، 85 إلى نحو 0، 4 هكتار، ويقول (كيث كولينز) ـ وهو كبير اقتصادي وزارة الزراعية الأمريكية ـ: (ينبغي معالجة الوضع عن كثب)، ويذكر تقرير المعهد الدولي لأبحاث السياسية الغذائية (أنه ستصبح العلاقة بين إنتاج المواد الغذائية على مستوى العالم
ربوبيون وربانيون (3/55)
والأسعار علاقة مضطربة، الأمر الذي سيترجم على مخاطر أكبر بالنسبة للأمن الغذائي في دول العالم النامي) (1)
قال المحاضر: نعرف هذا.. ونحن نريد أن تحدثنا عن موقف الإسلام لا عن موقف قومنا.. فنحن أعرف به منكم.
قال التلميذ: الإسلام ينطلق في هذه المعاني من قناعات إيمانية بأن الله الذي خلق هذا الكون جميعا، لن يعجزه أن يرزق الخلائق جميعا قلوا أو كثروا.
قال آخر: لقد كان هذا هو الأسلوب الذي استعمله القرآن الكريم مع من كانوا يقتلون أولادهم مخافة على أنفسهم وعليهم من الفقر.. لقد قال الله تعالى ينهى عن ذلك: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 31]، وقال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ [الأنعام: 151]
قال آخر: ولهذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شجع على الأكثار من الأولاد، مع مراعاة تنشئتهم نشأة صالحة.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم) (2).. ولهذا، حُرم الإجهاض، وكل ما يؤدي إلى حرمان الأولاد من حق الوجود.
قال المحاضر: ولكن ألا يمكن أن يكون ما ادعاه مالتوس ورفاقه صحيحا.. وأن الزمان الذي يحصل فيه ما ادعوه لم يحل فقط؟
قال: بالنسبة لنا ـ نحن المسلمين ـ فإن إيماننا بالله يحول بيننا وبين هذه الدعاوى.. نحن نؤمن بأن وعد الله لابد أن يتحقق لا محالة.. لقد قال تعالى يعدد نعمه على عباده: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ
__________
(1) انظر: أصول الأمن الغذائي في القرآن والسنة، للأستاذ: السيد علي أحمد الصوري.
(2) رواه أبو داود والنسائي.
ربوبيون وربانيون (3/56)
فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: 9 ـ 10]، فأقوات العباد مقدرة، وهي مبثوثة في كل الأرض، وقد اختص الخالق عز وجل كل جزء منها بثروة تكفي ساكنيها وتسد احتياجاتهم.
قال المحاضر: ولكن.. ألا ترى أن هذا الوعد قد تخلف مرات كثيرة.. فكم ضربت المجاعات البشر.. وهي لا تزال تضربهم؟
قال التلميذ: ذلك يعود للبشر.. لا لرب البشر.. فرب البشر أرحم بعباده من أن يقتلهم بالجوع، وهو يملك خزائن كل شيء.
قال المحاضر: فما تقول في المجاعات؟
قال التلميذ: سل عنها الإنسان.. ذلك الذي راح بجشعه يرمي القمح في البحار في الوقت الذي يموت فيه إخوانه من البشر جوعا.. لعلك تعلم ذلك.
قال آخر: ولعلك تعلم ما يقوله الخبراء من أن تهديد العالم الثالث بنضوب الثروات أكذوبة كبرى، فالخطر الحقيقي كامن في سوء استخدام الثروات والكنوز التي تفيض بها الأراضي البكر.. وسوء التخطيط لتطوير إنتاجي أفضل.. وبينما تنقل هذه الخامات إلى بلاد الغرب وتنهب، ثم تعيد تصديرهما للأمم المترفة الاستعمارية لا يحصل أصحاب هذه الثروات إلا على الفتات.
قال آخر: ولعلك تعلم كذلك أن الأبحاث الحديثة تتحدث عن ظاهرة الانحسار السكاني في الغرب، وتصفها بأنها ظاهرة مخيفة وخطيرة تقلق الخبراء الاجتماعيين والسياسيين ورجال الأعمال، فأمريكا تتجه نحو حالة الصفر في النمو السكاني، فهي تقف الآن في النقطة التي يكون فيها عدد المواليد مساويا لعدد الوفيات.. وتتحدث الأبحاث عن هذا الخطر الهائل الذي يتهدد الولايات المتحدة والدول الغربية على بعد بضعة أجيال، مما
ربوبيون وربانيون (3/57)
يؤدي إلى انخفاض القوة العاملة وما يؤدي إلى ركود الإنتاج، في حين أن الدول الفقيرة تنموا نموا متزايدا.
قال آخر: وتقول الأبحاث أن عدد سكان أمريكا (1) (212 مليون نسمة) وأن النمو السكاني في أمريكا يصل إلى درجة الصفر عندما يبلغ السكان 260 مليون نسمة.. ويشارك الولايات المتحدة في هذه الظاهرة السويد وألمانيا الغربية، اليابان، هنغاريا، رومانيا.. وأن نسبة المواليد في هذه الدول في هبوط مستمر منذ الحرب العالمية الأخيرة، وأن الهبوط كان هائلا في السنوات الأربع الماضية، في السويد وفنلندا والنمسا وبلجيكا وألمانيا.. أما هنغاريا وبريطانيا فقد بلغت درجة الصفر.. والقلق ناجم من أن القوة العاملة سوف تتضاءل في المستقبل بما يؤدي إلى ركود الإنتاج، ومن أجل ذلك شددت بعض دول أوروبا في قضايا الإجهاض وفرضت عقوبات على من يفعله، ومنع السوقيات تداول الحبوب المانعة للحمل، وأعطوا إجازات أطول للزوجة الحامل.
قال آخر: ويتوقع الخبراء أن تصل أكثر دول أوروبا إلى درجة الصفر في النمو السكاني في بداية القرن الواحد والعشرين، كما يرى بعض الخبراء أن الانحسار السكاني إلى درجة الصفر سيؤدي إلى ركود اقتصادي واجتماعي خطير.
قال المحاضر: أجل.. أعلم كل هذا.. ولكن.. كيف تقول هذا، ونحن نرى في المسلمين من يدعو إلى تحديد النسل؟
قال: أولئك هم أعداء المسلمين الذين عز عليهم أن يكثر الله سواد المسلمين، فراحوا بكل صنوف الوساوس يدعون إلى هذه الخدعة ليحموا بها أهواءهم.
__________
(1) الإحصائيات كما ذكرنا مرات كثيرة تخضع للزمن الذي كتبت فيه. ونحن لا تهمنا هنا الأعداد بقدر ما تهمنا الحقائق التي تتضمنها.
ربوبيون وربانيون (3/58)
بعد أن ذكر التلاميذ ما يكفي من الأدلة على احترام الإسلام لحق الوجود، سألهم بعض الحضور عن حق الحياة، وقال: ألا ترى أن الوجود والحياة شيء واحد؟
قال التلميذ: لا.. حق الوجود مرتبط بالحي قبل وجوده.. وأما حق الحياة، فمرتبط به بعد وجوده.
قال المحاضر: لا بأس.. فما شرع الإسلام في هذا؟
قال التلميذ: لقد شرع الإسلام في هذا كل ما يحفظ الحياة الكريمة للولد من أول أيام حياته إلى الوقت الذي يستطيع أن يقوم فيه بنفسه بعيدا عن حضانة والدية.
قال آخر: وأول ذلك أنه أوجب على الأم إرضاع ابنها رضاعة طبيعية.. قال تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة: 233]، إن هذه الآية الكريمة تبين حرص الشريعة على إرضاع التلميذ مهما كان حال الأسرة التي ينتمي إليها.
قال آخر: وهي تدل في نفس الوقت على أن الرضاع واجب لا يكفي فيه أي بديل إلا إذا حكم الطبيب المختص بعدم صلاحية لبن الأم للرضاعة أو عدم استعداد الرضيع لرضاعتها.
ابتسم المحاضر، وقال: لقد قالت شريعتكم بذلك قبل أن تنتج حضارتنا الراقية هذه الأنواع الكثيرة من الألبان التي تملأ حياة الرضع بالصحة والعافية.. وتغنيهم عن السموم التي تسقيهم بها أمهاتهم.
ابتسم التلميذ، وقال: إن قولك هذا ـ حضرة الأستاذ الفاضل ـ يستدعي مقارنة علمية مفصلة بين الرضاع الطبيعي والإرضاع الصناعي.. وإن أذنت لنا.. فسنذكر لك من
ربوبيون وربانيون (3/59)
المعاني ما ترى من خلاله نصح الشريعة وغش هذه الحضارة التي لا تبتغي من وراء كثير مما تنتجه إلا الربح المادي.
قال المحاضر: لا حاجة لذلك.. وأنا أسلم لك بأهمية الرضاع.. ولكن ما تقول في الختان.. تلك العلمية الإجبارية التي فرضها الإسلام عقوبة على الأطفال من غير ذنب اقترفوه؟
قال التلميذ: لم يفرض الإسلام الختان عقوبة ـ حضرة الأستاذ ـ وإنما فرضه رحمة.. وقد أثبتت الأيام أن التشريعات التي جاء بها الإسلام في هذا الباب كلها تشريعات رحمة ونصح ولطف من الله بعباده.. وإن أذنت لي، فسأذكر لك من أدلة ذلك ما تقر به عينك، وتعلم به الرحمة العظيمة التي يحملها هذا التكليف (1).
ابتسم المحاضر، وقال: لا بأس.. لقد سلمت لك بكل ما ذكرت.. فهل هذا كل ما جاء به الإسلام لحفظ صحة الصغار؟
قال التلميذ: لا.. معاذ الله.. فالإسلام الذي هو رحمة الله لعباده يستحيل أن يقتصر على الجزئيات والطقوس.
قال المحاضر: فما جاء به غير هذا؟
قال التلميذ: لقد جاء الإسلام بمنظومة صحية كاملة لا يمكننا في هذا المجلس أن نذكرها.. ولكنا نعلم ـ على حسب ما ربانا آباؤنا ـ أن الإسلام أمر الوالدين وكل من يتولى شؤون الصغار أن يحرصوا على كل ما يحفظ للأبناء صحتهم.. فلا يمكن الإنسان أن يؤدي الأدوار العظيمة التي أمر بها الإسلام إلا بصحة وقوة وعافية.
__________
(1) من المراجع التي رجعنا إليها في هذا: قبسات من الطب النبوي باختصار، الأربعون العلمية، عبد الحميد محمود طهماز. د. محمد علي البار، الختان، دار المنار. د. حسان شمسي باشا: أسرار الختان تتجلى في الطب والشريعة ابن النفيس دمشق.
ربوبيون وربانيون (3/60)
قام بعض الحاضرين، وقال: فحدثونا عن طريقة معاملة الأطفال التي أمر بها الإسلام.
قال أحد التلاميذ: سنحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولطفه في التعامل مع الأطفال، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الممثل الحقيقي الأكمل للإسلام.. لقد روى المحدثون كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم يعامل حفيديه الحسن والحسين.. ففي الحديث: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوضعه، ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا التلميذ على ظهر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي؛ فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة، قال الناس: (يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك)، فقال: (كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته) (1)
قال آخر: وفي حديث آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر فحملهما، ووضعهما بين يديه، ثم قال: (صدق الله: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: 15] (التغابن)، فنظرت إلى هذين التلميذين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما) (2)
قال آخر: وفي حديث آخر: قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس، فقال الأقرع: (إن لي عشرة من الولد، ماقبلت منهم أحدا)، فنظر
__________
(1) رواه أحمد والنسائي والحاكم وغيرهم.
(2) رواه أحمد وابن حبان والحاكم.
ربوبيون وربانيون (3/61)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه ثم قال: (من لا يرحم لا يرحم) (1)
قال آخر: وكان من رحمته صلى الله عليه وآله وسلم بالأطفال أنه كان يخفف الصلاة إن سمع بكاءهم.. حرصا عليهم.. ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم يحدث عن نفسه: (إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء التلميذ فأتجاوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكاءه) (2)
قال آخر: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعهد الأطفال بالهدايا.. ففي الحديث: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أخذه قال: (اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا)، ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر (3).
قال آخر: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصطحب الصغار للصلاة ويمسح على خدودهم رحمة وتشجيعا لهم.. فعن جابر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الأولى ـ أي الظهر ـ ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه، فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا، قال: وأما أنا فمسح خدي، فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها صلى الله عليه وآله وسلم من جونة عطار (4).
قال آخر: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن الكذب الأطفال، أو إخلافهم الوعد.. فعن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أردت أن تعطيه؟)، قالت: أعطيه تمرا، فقال لها: (أما أنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة) (5)
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه ابن ماجه.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه أبو داود وغيره.
ربوبيون وربانيون (3/62)
قال آخر: ولم تقتصر رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أطفال المسلمين فحسب، بل امتدت لتشمل جميع الأطفال حتى لو كانوا أبناء غير المسلمين.. فقد كان من وصاياه صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب: (ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا) (1)
قال آخر: وعن الأسود بن سريع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزوت معه فأصبت ظفرا، فقتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ما بال أقوام جاوز بهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟)، فقال رجل: يا رسول الله إنما هم أبناء المشركين، فقال: (ألا إن خياركم أبناء المشركين)، ثم قال: (ألا لا تقتلوا ذرية.. كل مولود يولد على الفطرة، فما يزال عليها حتى يعرب عنها لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) (2)
قام بعض الحاضرين، وقال: فحدثونا عن طريقة تربية الأطفال التي أمر بها الإسلام، وهل هي قاسية كما ذكر المحاضر؟
قال أحد التلاميذ: معاذ الله أن تكون قاسية.. ديننا كله رحمة ولطف.. لقد حكى ابن عباس موقفا من مواقف تربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له، وهو صبي صغير، فقال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) (3)
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أحمد.
(3) الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ربوبيون وربانيون (3/63)
قال آخر: انظروا ـ حضرات المستمعين ـ لهذه المعاني العظيمة التي يحملها الحديث.. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخاطب فيه شيخا كبيرا.. ولا كهلا.. ولا شابا.. بل كان يخاطب بها طفلا صغيرا.. ليعمق فيه من معاني الإيمان ما يحمي به حياته جميعا.. فلا يمكن للحياة أن تستقيم من دون إيمان.
ضحك المحاضر بصوت عال، وقال: فكيف استقامت حياتنا من دون إيمان؟
قال أحد التلاميذ: إن أردت بالحياة أنكم تأكلون وتشربون وتنامون.. فيمكنك أن تقول ذلك.. ويمكنك أن تفخر به.. ولكنك في ذلك الحين تكون قد غفلت عن أهم معنى من معاني الحياة.
قال المحاضر: وما هو هذا المعنى؟
قال أحد التلاميذ: تكون غافلا عن ربك الذي خلقك.. وعن حقيقتك التي جعلها الله فيك.. وعن وظيفتك التي ندبت إليها في هذا الوجود.
قال المحاضر: أنا أصارحك.. أنا لا يهمني إلا أن يعيش أولادي الحياة المادية التي أراها.. أما ما عداها فلا يهمني منها شيء.. أنا إنسان لا تهمني إلا منفعة أولادي التي أراها بعيني.
قال أحد التلاميذ: حتى لو كنت كما تقول، فإنك بالإيمان تستطيع أن تجعل من أولادك أفرادا صالحين.. فلا يمكن للحياة أن تستقيم من غير صلاح صاحبها.. ولا يمكن لشخص أن يصير صالحا من غير أن يكون له من زاد الإيمان ما يهيئه لذلك.
قال آخر: لسنا نحن فقط من يقول هذا الكلام.. ولا ديننا فقط هو الذي يقوله.. بل إن من قومك من وصل إلى هذه القناعة.. لقد قرأت للدكتور (هنري لنك) ـ وهو طبيب نفسي أمريكي ـ كلاما مهما يرد به على خصوم التربية الدينية.. ذكره في كتابه (العودة إلى
ربوبيون وربانيون (3/64)
الإيمان)، ومما قال فيه: (إن تربية الأطفال لمن أشق الواجبات وأخطرها وأدقها، ومشاكلها شديدة التعقيد والعسر، وهي بعد ذلك ذات أوجه متناقضة عند حلها يكون معها الآباء في مسيس الحاجة إلى أية معونة خارجية، مهما بلغت درجة تواضعها وبساطتها.. وقد كان طبيعيا: بعد أن استغنى الآباء المستنيرون عن المعتقدات الدينية، وضربوا بها عرض الحائط، أن يولوا وجوههم شطر مصدر جديد من مصادر المعونة، فلم يجدوا أمامهم سوى علم النفس الخاص بالأطفال، ولكن علم نفس الأطفال لم يكن بعد، على استعداد لتقديم المعونة لهم، لأن الثقة بهذا العلم لم تكن قد تعدت الثقة النظرية حتى ذلك الوقت، وكان البرهان العلمي حينذاك في مهده صغيرا برغم تعدد نظرياته)
قال آخر: وقال: (ومن هنا بدأ الآباء يعتنقون هذه النظريات التي كان أبرزها أن العقوبة البدنية ضارة من الوجهة النفسية، وأنه من الأفضل إقناع الطفل بعمل شيء ما، لا إرغامه بالقوة والعنف عليه، وأنه لا يجوز كبت الطفل بل على العكس يجب منحه الفرصة كي يعبر عن ذاته.. وأنه يجب منح الأطفال علاوة منتظمة حتى يمكنهم إدراك قيمة المال، وأن بعض الأطفال يولدون بطبيعتهم عصبيين أو ذوى حساسية مرهفة، وعليه فلا يجوز إرغامهم على أن يفعلوا، ويعملوا ما يفعله ويعمله غيرهم.. وللأسف، لم يظهر أي برهان علمي أو نفسي يؤيد هذه النظريات، بل بالعكس ثبت أن كل هذه النظريات خاطئة) (1)
قال آخر: وهو إذ يهدم هذه الأفكار التي راجت باسم العلم يوما ما، يرى ضرورة العودة إلى الدين، واتباع منهجه في تربية الأطفال وتهذيب سلوكهم، وتقويم أخلاقهم، فليس أصلح للطفل من أن تقول له: هذا حسن، لأن الله أمر به، وأنه يحبه ويرضاه ويثيب
__________
(1) العودة إلى الإيمان: 113.
ربوبيون وربانيون (3/65)
عليه بالجنة، وبأن هذا قبيح، لأن الله نهى عنه وأنه يبغضه ويسخطه، ويعاقب عليه بالنار.
قال آخر: ولهذا ينكر على الآباء الذين يتخلون عن هذه الطريقة المقنعة المقبولة إلى طرائق لم يثبت صحتها ولا نفعها فيقول: (فقد سمعنا الكثيرين من الآباء يرددون: انهم لا يبعثون بأولادهم إلى الدروس الدينية أو إلى محلات العبادة، حتى يصلوا إلى السن التي يدركون عندها ما يجري، غير أن ما يضايقهم، ويقض مضجعهم هو هذا السؤال: ترى هل يكتسب هؤلاء الأولاد ذلك الشعور القوي الذي يمكنهم به أن يميزوا بين الخطأ والصواب؟ هل يؤمنون بتلك المثل الخلقية الواضحة التي آمنا بها منذ طفولتنا؟.. لقد قلنا فيما مضى أن بعض الأعمال خطأ والبعض الآخر صواب، لأن الله سبحانه وتعالى قد بين ذلك، أو لأن كتابه قد أورد ذلك بمعنى آخر، وقد تكون هذه الطريقة فطرية بدائية، غير أنه مما لا شك فيه أن تأثيرها كان طيبا فقد عرفنا على الأقل الكثير عن طيب الأفعال وخبيثها، أما الآن فإننا لا نقول لأولادنا إلا أن هذا التصرف خطأ، وأن ذاك صواب، لأننا نرى ذلك، أو لأن المجتمع قد اتفق على ذلك، فهل لهذا الود من القوة والبيان ما لسابقه؟ وهل له مثل أثره وهل يكتسب أطفالنا القيم الخلقية الأساسية للحياة دون الحاجة إلى ضغط العقائد الدينية، تلك القيم التي نتقبلها ونسلم بها حتى بعد أن أصبحنا لا نسلم بمصدرها الإلهي؟) (1)
قال آخر: ويؤكد الدكتور (لنك) أن الدروس الدينية، والتردد على بيوت العبادة لها في نفس التلميذ أعمق الأثر، وأطيب الثمرات، كما أثبتت ذلك التجارب والمقارنة بين الأطفال بعضهم وبعض.. وفي ذلك يقول: (ومهما بلغت المساوئ، التي نلمسها في أماكن
__________
(1) العودة إلى الإيمان: 110.
ربوبيون وربانيون (3/66)
العبادة، والاستماع إلى العظات الدينية، فإن هذه البيوت تساعدنا على غرس الأسس السليمة للخطأ والصواب، والأعمال الأنانية وغير الأنانية في نفوس الأطفال، كما أنها تساعد على غرس الإيمان بالله والاعتقاد في ناموسه الخلقي الإلهي كمصدر لتلك الأسس، ولذا فهي ذات فائدة عظمى للآباء والمجتمع، كي يبثوا الأسس الضرورية لتكوين الخلق القويم والشخصية الناجحة، وبناء على ذلك، ليس من المستغرب أن يدلنا الاختبار السابق الذكر على أن الطفل الذي يستمع إلى الدروس الدينية يتمتع بصفات شخصية أفضل ممن لا يحضرها، وأن الطفل الذي يذهب والداه إلى المعبد ذو شخصية أحسن من الطفل الذي لا يذهب والداه إليه.. وقد اتضح لي بعد دراسة كاملة لعشرة آلاف شخص، أن أولئك الذين يواظبون على الذهاب إلى دور العبادة، كانوا ذوى صفات شخصية أفضل ممن لا يذهبون) (1)
قال آخر: ولا يقتصر على ذلك، بل يلح على التبكير بإعطاء هذه الدروس للأطفال وأعوادهم غضة، ولو لم يفهموا كل ما يقال لهم، ويرى من الخطأ والخطر تأخير هذه الدروس الدينية إلى السن التي يفهمون فيها، يقول: (إن الوقت الأمثل لتعليم الطفل كيف يخضع دوافعه لقيم عليا، هو السن التي يستطيع فيها أن يتقبل ما يقال له دون أن يفهمه.. فإذا استقر رأي الآباء على عدم إرسال أولادهم إلى الدروس الدينية، حتى يبلغوا السن التي يفهمون عندها ما يستمعون إليه، فهم في الحقيقة يتبعون مبدأ هاما، لأن الوقت يكون قد فات لإصلاح ما فسد إذا بلغ الطفل السن التي يفهم بها كل ما حوله، فانه حينئذ يكون قد أضاع من عمره سنين ثمينة) (2)
__________
(1) العودة إلى الإيمان: 123.
(2) العودة إلى الإيمان: 130.
ربوبيون وربانيون (3/67)
قال آخر: ويختتم حديثه عن التربية والتعليم بقوله: (إن ميدان التعليم لفي مسيس الحاجة إلى جمع القيم والحقائق الأساسية التي تبحث في الطبيعة البشرية وتصنيفها، حتى يمكن المحافظة على تلك التقاليد النبيلة التي اكتسبها الجنس البشرى، ووضعها في المكان اللائق بها، وحتى يمكن إخضاع الغطرسة الفكرية لنظام الحياة غير الأنانية، ولن تجد ما يجمع بين تلك القيم الماضية القديمة والمثل الحاضرة الحديثة غير الدين) (1)
بعد أن ألقى علينا التلاميذ هذه الكلمات توجه أحدهم إلى المحاضر، وقال: هذه شهادة من بعض قومك على جدوى ما جاء به نبينا نوجهها إليك، وإلى من يفكر بالأسلوب الذي تفكر فيه.
قال آخر: أما نحن.. فقد حفظنا بفضل استظلالنا بأشعة شمسه صلى الله عليه وآله وسلم من الانحراف إلى أي قبلة غير القبلة التي وجهنا إليها ربنا، وأمرنا بالتوجه إليها.. وقام آباؤنا رغم فاقتهم وحاجتهم بها خير قيام.
قال آخر: لقد امتثلوا فينا أوامر الله التي يأمر فيها عباده بأن يحموا أنفسهم وأهليهم من أن تلتهمهم نيران الجاهليات، وبعدها نيران العذاب.. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]
قال آخر: وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مسؤولية الإنسان عن أهله وولده، فقال: (كلكم راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته) (2)
قال آخر: وقد ترك صلى الله عليه وآله وسلم لآبائنا من الهدي ما جعلهم يمتلئون رحمة لنا في هذا الباب،
__________
(1) العودة إلى الإيمان: 181.
(2) رواه البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/68)
كما امتلأوا رحمة في غيره (1)، ومن ذلك أمره صلى الله عليه وآله وسلم بتربية الأبناء على الصلاة.. وعلى الحرص عليها.. تطبيقا لقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 132]، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الآباء للتشدد مع الأبناء في شأن الصلاة: (علموا التلميذ الصلاة لسبع سنين واضربوه عليها ابن عشر سنين) (2)
هنا قام المحاضر، وكأنه قد ظفر بضالته، وقال: ها.. ها.. ها هو يذكر دعوة محمد لضرب الأطفال.
ابتسم أحد التلاميذ، وقال: أرأيت ـ حضرة البروفيسور الكبير ـ لو أن ولدك أصابه مرض استدعى أن يشرب دواء مرا.. أو يرتمي بين يدي جراح ليعمل سكينه في جسده الضعيف.. أترى ذلك قسوة؟
قال المحاضر: لا.. ولكن ما علاقة هذا بهذا؟
قال أحد التلاميذ: لقد أمر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الآباء أن يستعملوا كل الأساليب الهادئة المسالمة مع أبنائهم.. أمرهم بالحوار معهم لإقناعهم.. وأمرهم بموعظتهم.. وأمرهم بأن يكونوا قدوة صالحة لهم.. فإذا استنفذ الآباء كل هذه الوسائل وغيرها أباح لهم استعمال الشدة المضبوطة بالضوابط الشرعية.
قال آخر: انظر ـ حضرة البروفيسور ـ المسافة الزمنية بين الأمر بالصلاة، وبين الضرب على تركها.. لقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم الآباء أن يأمروهم لسبع.. ويدربوهم عليها من ذلك السن.. فإذا وصلوا إلى العشر، ولم يقتنعوا بالصلاة أو لم يحرصوا عليها أبيح لوالديهم حينذاك أن يستعملوا العنف المضبوط بالضوابط الشرعية.
__________
(1) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في كتاب خاص من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية) بعنوان (الأبعاد الشرعية لتربية الأولاد)
(2) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.
ربوبيون وربانيون (3/69)
قال المحاضر: وما علاقة هذا بالعملية الجراحية؟
قال أحد التلاميذ: أليس غرض العملية الجراحية أو الدواء المر هو استئصال مادة الشر من المريض؟
قال المحاضر: تستطيع أن تقول ذلك.
قال أحد التلاميذ: وهذا هو نفسه دور ذلك التنبيه الذي أباح الشرع للوالد أن يستعمله إذا ما اضطر إليه.
قال المحاضر: دعنا من هذا.. وأنا لا يهمني هذا كثيرا.. ولكن ألا ترى اقتصار الإسلام على الحث على الصلاة فقط قصورا تربويا.
قال أحد التلاميذ: لا.. الصلاة جزء من أجزاء الإسلام.. وركن من أركانها.. ولذلك فإن التربية التي جاء بها الإسلام وحث عليها الآباء وغيرهم أعظم من أن تنحصر في ذلك.. إنها تربية تشمل الحياة جميعا بجميع مناحيها.
قال المحاضر: فحدثونا عنها.
أخذ التلاميذ يحدثون المحاضر والحضور عن المعاني التربوية الكثيرة التي جاء بها الإسلام، والتي شملت مناحي الحياة المختلفة (1) إلى أن قال المحاضر من غير أن يشعر: إن ما تقوله عظيم.. لقد زرت كثيرا من البلاد، واطلعت على الكثير من الثقافات، واختلطت بكثير من الأديان.. لكني لم أر دينا ولا فكرا ولا ثقافة تحدثت عن هذا بهذا التفصيل الجميل.
ثم قام، وقال: اسمحوا لي ـ أيها الجمع ـ أن أقول لكم بكل صراحة: لقد جئت لإلقاء هذه المحاضرة، وليس لي إلا همة واحدة هي اقتلاع الإسلام من قلوب هؤلاء الأبرياء..
__________
(1) لم نشأ أن نتحدث عن ذلك هنا باعتبار أن لنا كتابا خاصا في هذا الموضوع وهو (الأبعاد الشرعية لتربية الأولاد)
ربوبيون وربانيون (3/70)
لكني أرى أنه لا يقاوم هذ الدين شيء.. وذلك لا يدل إلا على أنه دين الله.. وأنا أشهدهم من هذا المحل استسلامي لهذا الإله العظيم الذي كنت أحاربه من حيث لا أشعر.
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن المشهد التي عرفت بها الرحمة المرتبطة بالعجزة، وعلاقتها بالدين.
قال: كما شاء الله أن يكون المشهد السابق في مدرسة تديرها اليونسيف، فقد شاء أن يكون هذا المشهد في دار للعجزة، أسسها بعض من يناوئون الإسلام، ويحاولون استثماره في التنفير منه.. لكنه أخطأ خطأ كبيرا حين أسسها في منطقة محافظة، فلذلك لم تجد داره أي استجابة، ولم يدخلها أي أحد من المسنين، بل وجدت بدلهم بعض الشباب الممتلئين بالقوة والنشاط، والذين قدموا إليها بمحض رغبتهم واختيارهم.
قلنا: كيف ذلك؟
قال (1): لقد كانت الدار مع ما فيها من المرافق خالية من أي مسن، فلم يكن فيها إلا العمال والخدم والممرضون.. والذين اختاروا بمحض رغبتهم العمل في هذا المجال.
قلنا: والشيوخ؟
قال: هذا هو الحديث الذي أريد أن أحدثكم عنه.. في ذلك اليوم.. وفي تلك الدار رأيت صاحب الدار ومديرها جالسا على كرسي من كراسي الحديقة، وقد أحاط به الهم والحزن.. فكسا وجهه سربالا من اليأس والقنوط.
اقتربت منه، وقلت: ما بال خادم المسنين حزينا يائسا؟
__________
(1) لخصنا هنا ما ذكرناه في كتاب: رحمة للعالمين، ص 109، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (3/71)
قال: وكيف لا أيأس.. وأنا مع كل تلك المكاسب التي كسبتها قد لجأت إلى هذه الديار المملوءة بالقسوة والألم.. لقد كنت في أمريكا ملكا حقيقيا يرى في الشيوخ عوضا عن أبنائهم.. بل كانوا إذا ما خيروا بين صحبتي وصحبة أبنائهم اختاروا صحبتي.. وها أنت تراني الآن في هذه الدار قد قلاني الشيوخ، وودعوني.. مع أني وفرت لهم كل ما يحتاجونه من ألوان الرعاية مما لم أوفر مثله لزبائني في ذلك العالم المتحضر.
قلت: فما ترى سر ذلك؟
قال: لست أدري.. إلى الآن لا أزال لا أدري السبب.. ولكن الذي أدريه أني في تلك الديار كنت أرى من عجائب التعامل مع المسنين ما لم أر مثله في هذه الديار.. ففي تلك الديار (1) يعيش العجزة في حالة بائسة، فلا يسأل الولد عن أمه ولا أبيه، ولا ينفق عليهما، ولو كانت حاجتهما شديدة.. فكم من رجل مسن وامرأة مسنة يموتان في أوربا وأمريكا في كل عام من البرد والجوع.. بل قد تبقى الجثة في الشقة أياما دون أن يحس بها أحد، إذ يعيش معظم هؤلاء الشيوخ بمفردهم، فلا يزورهم أحد إلا نادرا، وقد لا يرون إلا مندوب الضمان الاجتماعي في كل شهر مرة (2).
سكت قليلا، ثم قال: وقد ورد في تقرير أعدته لجنة في مجلس النواب الأمريكي، بعد دراسة استمرت ست سنوات جاء فيها: (إن أكثر من مليون مسن ومسنة، تجاوزت أعمارهم (65 عاما) يتعرضون لإساءات خطيرة، فيضربون ويعذبون عذابا جسديا ونفسيا، وتسرق أموالهم من قبل ذويهم.. كما أن هذه الإساءات، ليست مقتصرة على طبقة اجتماعية معينة، بل إنها تحدث في كل طبقات المجتمع على حد سواء، في المدن والقرى والأرياف).. ومن
__________
(1) استفدنا المعلومات الواردة هنا من كتاب (رعاية المسنين في الإسلام) لعبد الله بن ناصر بن عبد الله السدحان.
(2) عمل المرأة في الميزان، د. محمد علي البار، ص (37)
ربوبيون وربانيون (3/72)
أبشع ما ورد في هذا التقرير: (أن امرأة قامت بتقييد أبيها البالغ من العمر (81 عاما) بسلسلة وربطته أمام الحمام، وأخذت تعذبه لعدة أيام!! وقد أكد التقرير أن الإساءة للمسنين، تأخذ عدة أشكال، منها الضرب والإهمال والحرمان من الطعام والشراب وقد يصل الأمر إلى القتل أحيانا)
سكت قليلا، ثم قال: وقد علق النائب (كلودبير) على هذا قائلا: (لا أحد يدرك حتى الآن أبعاد هذه المشكلة المرعبة، ولا يرى أحد أن يعترف بما يجري، لقد تجاهلنا المشكلة لأنها مخيفة، لدرجة تمنعنا من الاعتراف بوجودها، ولا نريد أن نصدق أن مثل هذه الأشياء، يمكن أن تحدث في دولة متحضرة).. وقد حدثتني الدكتورة (سوزان ستايتمتر) أستاذة الدراسات العائلية في جامعة (ملاوير) قائلة: (لقد تعودنا طوال تاريخنا على الإساءة للمسنين، إننا نميل إلى العنف البدني، وقد أصبح هذا جزءا ثابتا من طبيعة عائلات كثيرة تسيء للمسنين، بالعنف والاضطهاد، وأصبح إهمالهم وعدم الرفق بهم، أو حتى نجدتهم من الأمور الشائعة في المجتمعات الأوربية) (1)
وحدثني صديق لي كان يعمل مناوبا في أحد المستشفيات هناك، وكان قد توفي رجل مسن في تلك الليلة عنده، فأحب أن يعزي أسرة المتوفى، واتصل بولده في الساعة الثانية عشرة ليلا، وعزاه بوفاة والده على وجل.. فما كان من الابن إلا أن امتعض من هذا الاتصال وقال: أتتصل بي في هذه الساعة المتأخرة من الليل، لتخبرني بوفاة والدي!؟ وماذا تنتظر مني أن أفعل!؟.. أنا مسافر صباحا لمدة ثلاثة أيام، ضعوه في الثلاجة، وسأراجعكم حين عودتي، من أجل استلام الجثة) (2)
__________
(1) مجلة الأسرة، العدد (105) بعنوان: (المسنون في ديننا وحضارتهم)، من مقال لخالد ابن ناجم الشريف.
(2) المرأة بين الجاهلية والإسلام ص: 328.
ربوبيون وربانيون (3/73)
وحدثني آخر.. كان هو الآخر طبيبا في بعض الدور التي أسستها.. قال لي: (كنت أعجب من أحد الشيوخ المرضى، الذين كنت أقوم بعلاجهم في أحد المستشفيات التي كنت أعمل فيها، في إحدى ضواحي مدينة لندن، فقد كان الرجل لا يمل من الكلام عن ابنه البار الذي ليس له نظير في عالم اليوم.
ولم أر ابنه يزوره أبدا، فسألته عن ولده، أمسافر هو!؟ فأجاب لا، إنه موجود، ولكنه لا يأتي لزيارتي إلا يوم الأحد، فقد عودني ذلك منذ سنين عديدة.. تصور يا دكتور! كان يأتيني كل يوم أحد حاملا معه باقة من الورود، ونذهب سويا لنضعها على قبر أمه.
ولما سألته: هل ينفق عليه!؟ قال: لا أحد ينفق على أحد في هذه البلاد.. إنني أستلم كذا من الجنيهات، من الضمان الاجتماعي، وهي لا تكاد تكفيني للقوت والتدفئة، ولكن هل هناك أحد في الدنيا مثل ولدي، الذي يزورني كل يوم أحد منذ سنوات!؟)
وقرأت في بعض لصحف قصة الشاب الذي رضي أن يؤوي أمه العجوز في بيته، مقابل أن تقوم بخدمته وخدمة زوجته وأولاده، وتنظف بيته، وقد اعتبرت الصحيفة هذا كرما من هذا الولد البار بأمه.
وقرأت أن الشرطة في بعض بلادنا، اعتقلت شابا، قتل والده بمساعدة الطبيب الذي كان يتولى علاجه.. وبينت التحقيقات أن الشاب (يوسف زوهر) طمع في أموال والده، ومن ثم فقد وعد الطبيب المشرف على علاج والده بحصة معتبرة إن ساعده على قتل والده.. فقام طبيب الموت بفصل جهاز التنفس عن المريض، ووقف يرقب المغدور، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، دون تقديم أية مساعدة له.. وقد وجهت الشرطة للابن تهمة القتل
ربوبيون وربانيون (3/74)
مع سبق الإصرار والترصد (1).
قال ذلك، ثم سار قليلا في أرجاء داره الخاوية من المسنين، ثم رجع إلي، وقال: لا بأس.. لن تطول الأيام حتى يبدأ الشيوخ في الوفود إلى هذه الدار.. لقد أرسلت من يسعى لي في هذا السبيل.
لم يطل الزمن على قوله هذا حتى دخل بعض الشيوخ الدار، فرأيت البشر قد كسا وجه صاحب الدار، فبدد ما كان فيه من ظلمات اليأس والحزن.
التفت إلي، وقال: ألم أقل لك؟.. ها هو أول الفأل.
رأيت العمال جميعا يسرعون إلى الشيخ يحيونه، ويرحبون به، وكل واحد منهم يحاول أن يقدم له أي خدمة.
اقترب صاحب الدار نحو الشيخ، وسأله قائلا: أهلا ومرحبا بك في بيتك بين أبنائك وخدمك وأطبائك.
رد الشيخ التحية، ثم قال: أهذه الدار للمسنين.
قال صاحب الدار: أجل.. هذه هي الدار التي أسستها لخدمتكم، وتوفير كل أصناف الرعاية لكم.. وعندنا ستنسى كل ألم، وستحضى بكل عناية.
قال الشيخ: شكرا جزيلا.. أرى أن هذه الدار محل صالح ليقضي المرء فيها ما بقي له من عمر.
ما قال ذلك حتى سمعنا ضجة خارج (دار المسنين)، فأسرعت مع (صاحب الدار بيرجمان) وجميع العمال نبحث عن سرها.. فوجدنا جمعا كبيرا من الناس قد اختلطت
__________
(1) مجلة الجندي المسلم، العدد (111) سنة 1424 هـ.
ربوبيون وربانيون (3/75)
أصواتهم، فلم نفهم منها شيئا إلا أنهم جميعا كانوا يرددون اسم الشيخ الوافد.
بعد برهة توقفت الأصوات، فسألهم صاحب الدار عن سرهم، وسر حضورهم، فقال أحدهم: لقد سمعنا أن رجلا قد قدم إليكم.. وقد تهنا في البحث عنه، فلم نجد له أثرا.
قال صاحب الدار: ما شأنه؟.. وما تريدون منه؟
قال الرجل: هو والدي.. وهؤلاء جميعا إما أولاده أو أحفاده أو أقاربه.. وهم جميعا قدموا يبحثون عنه.. لقد بحثنا في محال كثيرة إلى أن دلنا بعض الناس عليكم.. فإن كان هذا الرجل عندكم، فنرجو أن تسمحوا لنا بلقائه.. ونرجو أن تسمحوا لنا بإعادته إلى داره.. فقد صارت مظلمة منذ افتقدناه.
قال صاحب الدار، وقد خاف أن يكون الشيخ الذي يبحثون عنه هو ذلك الذي قدم قبل حين: نحن لا نعرف من تبحثون عنه.. فاذهبوا إلى محل آخر.
ما قال ذلك حتى خرج الشيخ، فراح الجميع يسرعون إليه يحتضنونه، ويقبلون يديه ورجليه في منظر عجيب لم أر مثله في حياتي.
سألهم صاحب الدار: ما تريدون من الشيخ.. لقد قدم بمحض إرادته، فاتركوه ليعيش الحياة التي يريدها.
قال أحدهم: كيف نتركه؟.. أتريد منا أن نغضب ربنا؟.. هذا والدنا.. هذا الذي أوصانا ربه ببره والإحسان إليه.
قال آخر: هذا الذي قرن ربنا طاعته بطاعته، والتقرب إليه بالتقرب إليه.. فقال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36]، وقال: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الأنعام: 151]
ربوبيون وربانيون (3/76)
قال آخر: وقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23 ـ 24]
قال آخر: وقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: 8]
قال آخر: وقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لقمان: 14 ـ 15]
قال آخر: وقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ [الأحقاف: 15 ـ 16]
قال آخر: هذا الذي وردت النصوص المقدسة الكثيرة تحث على بره.. وتقرن رضا الله برضاه.. ففي الحديث أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، من أبر؟ قال: (أمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذلك، حقا واجبا، ورحما موصولة) (1)
قال آخر: وأتاه رجل، فقال: يا رسول الله إن لي مالا وولدا، وإن أبي يجتاح مالي،
__________
(1) رواه أبو داود.
ربوبيون وربانيون (3/77)
فقال: (أنت ومالك لأبيك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم) (1)
قال آخر: وجاءه رجل، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، قال: (فهل من والديك أحد حي؟) قال: نعم، بل كلاهما حي، قال: (فتبتغي الأجر من الله؟) قال: نعم! قال: (فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) (2)
قال آخر: وجاءه رجل فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، قال: (فارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما) (3)
قال آخر: وروي أن رجلا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: (هل لك أحد باليمن؟) قال: أبواي، قال: (أذنا لك؟) قال: لا، قال: (فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما) (4)
قال آخر: وجاءه رجل، فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: (هل لك من أم؟) قال: نعم! قال: (فالزمها، فإن الجنة عند رجلها) (5)
قال آخر: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه) قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر: أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة) (6)
قال آخر: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجزي ولد والده: إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه) (7)
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه أبو داود والنسائي.
(4) رواه أبو داود.
(5) رواه النسائي.
(6) رواه مسلم.
(7) رواه مسلم والترمذي وأبو داود.
ربوبيون وربانيون (3/78)
قال آخر: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد) (1)
قال آخر: ليس ذلك فقط.. بل ورد في النصوص المقدسة أن حق الوالدين لن يضيع مطلقا ما دام هناك أي أثر لهما.. ففي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه) (2)
قال آخر: وروي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت ذنبا عظيما، فهل لي من توبة؟ فقال: (هل لك من أم؟) قال: لا، قال: (فهل لك من خالة؟) قال: نعم، قال: (فبرها) (3)
قال آخر: وعن مالك بن ربيعة قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله: (هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما؟) فقال: (نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما) (4)
بقي الأبناء والأحفاد مدة، وهم يذكرون ما ورد في النصوص المقدسة الواردة في مصادر المسلمين من الحديث عن حرمة الوالدين، ووجوب برهما، إلى أن ضاق صاحب الدار منهم، وقال: ما تريدون من الرجل.. لقد نفر منكم ومن طريقة تفكيركم، فلو أنه وجد عندكم ما يبحث عنه ما جاء عندنا؟
قال ذلك، ثم التفت للشيخ، وقال: أخبرهم بعدم رغبتك فيهم.. فلا أظن أنهم
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه أبو داود.
(3) رواه الترمذي.
(4) رواه أبو داود.
ربوبيون وربانيون (3/79)
سينصرفون عنك لو لم تواجههم بذلك.
أراد الشيخ أن يتحدث، فراح أحد أبنائه يقاطعه، والدموع تجري من عينيه، وهو يقول: لا بأس.. يا والدي.. لا تسمع لما يقول هذا الرجل الذي يريد أن يبعدك عنا.. لقد جئت أعتذر إليك.. لقد كنت أتصور أن ذلك تصرف لا يؤذيك.. وأنا الآن رهن إشارتك يا والدي.. فافعل بي ما بدا لك.
سقطت دموع من الشيخ، قال بعدها: بل أنا الذي أعتذر إليك يا ولدي.. فلم يكن يحق لي أن أمنعك مما أحبته نفسك ورغبت فيه مما أباحه الله لك.. لقد كنت ـ بجهلي ـ لا أفرق بين ما ورد في النصوص المقدسة من البر بالوالدين والإحسان لهما، وبين وجوب طاعة الأبناء لآبائهم.. لقد كنت ـ بجهلي ـ أتصور أن حياة الابن ملك للأب.. وأنه وحده الذي يحق له أن يرسم له منهج حياته.. ولقد كنت ـ بجهلي ـ لا أقرأ إلا النصوص التي تحث الأبناء على رعاية آبائهم.. دون أن أهتم أو ألقي بالا إلى النصوص التي تحث الآباء على رعاية أبنائهم وبرهم والإحسان إليهم.
لكني.. وفي فترة غيابي عنكم قيض الله لي رجلا صالحا.. لقد كان من ورثة النبوة.. وكان مما حدثني به قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله والدا أعان ولده على بره) (1)
وحدثني أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله من أبر؟ فقال: (بر والديك)، فقال: ليس لي والدان، فقال: (بر ولدك كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق) (2)
بعدما سمعت منه ذلك وغيره امتلأت حياء منك ومن إخوانك.. وقد جئت إلى
__________
(1) رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب.
(2) رواه أبو عمر النوقاتي في كتاب معاشرة الأهلين.
ربوبيون وربانيون (3/80)
هذه الدار لأكفر عن سيئاتي، ولأدعكم وما تشاءون من الحياة التي تختارونها.
لقد شعرت أني كنت ثقيلا عليكم.. فلم يكن يرضيني إلا أن تسير حياتكم على المنهج الذي سارت عليه حياتي مع أن الحياة تستلزم التطور والتغير.. فليس للآباء الحق في أن يضعوا أبناءهم في قوالبهم فلكل زمان حياته.
تقدم الابن من أبيه، وقال: لا يا والدي.. أنت حكيمنا.. ومن الخطأ الكبير أن نهملك أو نهمل حكمتك وخبرتك في الحياة وتجاربك فيها.
قال الأب: أنا لن أبخل عليكم بشيء من خبرتي.. ولكني مع ذلك أشعر أن الموقف الذي وقفته معك خصوصا كان موقفا خاطئنا.. فلا يمكنني أن أمنعك مما رغبت فيه نفسك ما دام قد أباحه لك الشرع.. ولذلك سر على بركة الله.. فقد أذنت لك فيه.. كما أذنت لك في غيره مما أباحه لك ربك.. فلا يحق لمسلم ـ مهما كانت مرتبته ـ أن يحرم ما أحل الله.. نعم.. نحن الآباء.. ونتيجة لما رأيناه من تعظيم ربنا لحقوقنا رحنا نتصور أن لنا الحرية المطلقة في كل شيء.. وهذا خطأ كبير وغرور عظيم.. فالرب رب الجميع.. والشرع شرع الجميع.. ونحن كلنا عباد الله.. ولا يحق لأي عبد كان أن يذل غيره، أو يتعامل معه من موقع غير موقع العبودية الذي وضعه الله فيه وشرفه به.
قال الابن: حاضر يا أبي.. أنا طوع أمرك.. ولكني لن أتحرك من هنا.. ولن يتحرك هؤلاء جميعا إلا إذا سرت معنا إلى ذلك العرش الذي وضعك الله فيه.. فلا يمكن لبيوتنا أن تستقر، ولا لبالنا أن يستريح وأنت بعيد عنا.
التفت الشيخ إلى صاحب الدار، وقال: آسف سيدي.. ها أنت ترى حرص أولادي على الذهاب معهم.. فاعذرني.. فأولادي قد نصبوا لي عرشا في بيوتهم وفي قلوبهم، ولا يمكنني أن أتخلى عن عرشي.. ولذلك سأدعك لعرشك.. واسمح لي أن أذهب لعرشي.
ربوبيون وربانيون (3/81)
بعد هذا الموقف الذي رأيته بعيني ازداد إحباط صاحب الدار، فراح يتحرك حركات عشوائية.. قال بعدها، وكأنه يهدد شخصا لا أراه: أنت هو السبب.. أعلم أنك أنت السبب.. ولذلك انتظر.. سأستعمل كل وسائلي لأصرف الناس عنك.. فلا يمكن لهذه الدار أن تمتلئ.. وصورتك في عيون الناس، وحبك في قلوبهم، وذكرك في أفواههم.. أنت الآن أعلنت الحرب علي.. وأنا قبلت الحرب.
قال ذلك، ثم نادى على عماله جميعا، وقال: منذ اليوم ستتحول هذه الدار إلى مركز ترفيه.. سنحول جناحها الأول إلى سينما، وجناحها الثاني إلى مرقص.. وهكذا كل أجنحتها.. فمن شاء منكم أن يستمر للعمل معي، فليستمر.. ومن لم يشأ فالطريق أمامه.
قال بعض العمال: أتريد أن تتخلى عن دارك بهذه السهولة.
قال صاحب الدار: أحيانا يحتاج الملوك إلى الركوب على الخيل، وخوض غمار المعارك.. وما هذه إلا معركة من المعارك التي أحفظ بها وجودي، وأحافظ بها على عرشي.
بعد أن سمعت هذا الحديث من صاحب الدار خرجت.. وقد رأيت جميع العمال يخرجون معي.. ويتركون صاحب الدار يصيح وحده بهستيرية وجنون.
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن المشهد الذي عرفت به الرحمة المرتبطة بالمتألمين، وعلاقته بالدين.
قال: كما شاء الله أن أرى الرحمة المرتبطين بالعجزة في دار العجزة، فقد شاء أن أرى الرحمة المرتبطة بالمتألمين في مستشفى أقامته بعض الإرساليات التبشيرية في بعض بلاد المسلمين الفقيرة، للجمع بين العمل الإنساني والتبشير الديني.
ربوبيون وربانيون (3/82)
وقد كان أول ما أثار سخطي في هذا المستشفى أنه لم يكن يقدم خدماته إلا بعد أن يسأل المريض عن ديانته، ثم يستمع لمحاضرة حول المسيح والمسيحية.. وحول ضرورة البحث عن الخلاص في رحاب المسيح، ثم يعطى كمية من الكتب والنشرات، ويطلب منه دراستها والحضور إلى عنوان معين بعد أيام (1).
لكني ـ ورغم عدم رضاي عن ذلك التصرف ـ إلا أني قررت أن أستمع للمحاضرة، فلعل فيها ما ينفع المرضى في حياتهم، ويوجههم لمراعاة الصحة.. فذهبت إليها، وبعد أن حضرت جموع كثيرة من المرضى.. بدأت المحاضرة.. وقد فوجئت عندما رأيت المحاضر.. لقد كان رجلا أعرفه تمام المعرفة.. وقد كان ذلك ما ملأني ألما.
لقد كان ذلك الرجل كالشيطان.. أو هو الشيطان نفسه.. كان اسمه (الدكتور منجل).. وقد كان في فترة الحكم النازي يقوم بتجاربه على التوائم.. وكانت له طرق مميزة في تجاربه.. فقد كان من تجاربه أنه يفصل التوأمين ويضعهما في غرفتين منفصلتين، ثم يعذب أحدهما أحيانا ليدرس أثر عملية التعذيب على الآخر، بل كان يقتل أحدهما لدراسة أثر هذه العملية على الآخر.. حتى أن بريمو ليفي قال: (إن ألمانيا النازية هي المكان الوحيد الذي كان بوسع العلماء أن يدرسوا فيه جثتى توأمين قتلا في نفس اللحظة)
وقد علمت بعد ذلك أن دراسات منجل على التوائم لا تزال أهم الدراسات في هذا المجال، ولا تزال الجامعات الألمانية والأمريكية تستفيد من النتائج التي توصل إليها الباحثون العلميون الألمان في ظروف فريدة لم تتح لعلماء غيرهم من قبل ومن بعد.. وقد أثيرت مؤخرا قضية مدى أخلاقية الاستفادة من معلومات تم الحصول عليها في مثل هذه
__________
(1) هل المنصّرون أولى؟، خالد بن عبد الرحمن الشايع.
ربوبيون وربانيون (3/83)
الظروف التجريبية الجهنمية، وبهذه الطريقة الموضوعية الشيطانية (1).
ولم يكن الدكتور منجل فريدا في هذا الباب.. بل كان معه نفر كثير.. منهم من رأيته.. ومنهم من لم أره، ولكني سمعت به، وسمعت بالكثير من آثارهم المؤلمة القاسية.. كان منهم من يقوم بعمليات استئصال لمرضاه دون تخدير ليدرس أثرها.. وكان منهم من يطلق الرصاص عليهم لاختبار فعاليتهم في الحرب.. وكان منهم من يعرض مرضاه لغازات سامة في عمليات اختبارية.. وكان منهم من يضعهم في غرفة مفرغة من الهواء لمعرفة المدة التي يستطيع الإنسان خلالها أن يظل حيا وهو على ارتفاعات عالية أو بدون أوكسجين.. وكان الأوكسجين يقلل تدريجيا ويخفض الضغط، فتزداد آلام خنازير التجارب البشرية شيئا فشيئا حتى تصبح آلاما لا يمكن احتمالها حتى تنفجر رئاتهم.. كما كان الضغط الداخلي على أغشية طبلات الآذان يسبب لهم عذابا يوصلهم إلى حد الجنون.
وكان منهم من أجرى تجارب على أمخاخ الضحايا، وقد اختار د. برجر، التابع لإدارة الإس. إس، عددا من العينات البشرية (79 يهوديا ـ بولنديان ـ 4 آسيويين ـ 30 يهودية) تم إرسالهم لمعسكر أوشفيتس ثم قتلهم بناء على طلب عالم التشريح الأستاذ الدكتور هيرت الذي أبدى رغبة علمية حقيقية في تكوين مجموعة كاملة وممثلة من الهياكل العظمية اليهودية (كما كان مهتما بدراسة أثر الغازات الخانقة على الإنسان)
أما الدكتور برجر نفسه فكان مهتما بالآسيويين وجماجمهم، وكان يحاول أن يكون مجموعته الخاصة.
ويبدو أن عملية جمع الجماجم هذه وتصنيفها لم تكن نتيجة تخطيط محكم، وإنما نتيجة
__________
(1) انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري.
ربوبيون وربانيون (3/84)
عفوية للرؤية النفعية المادية.. إذ ورد إلى علم البروفسور هاليروفوردن أنباء عن إبادة بعض العناصر البشرية (التي لا تستحق الحياة)، فقال للموظف المسؤول بشكل تلقائي: (إن كنتم ستقتلون كل هؤلاء، فلماذا لا تعطوننا أمخاخهم حتى يمكن استخدامها؟)، فسأله: كم تريد؟ فأجاب: عدد لا يحصى، كلما زاد العدد كان أفضل.. ويقول البروفسور المذكور إنه أعطاهم بعد ذلك الأحماض اللازمة والقوارير الخاصة بحفظ الأمخاخ.. وكم كانت فرحة البروفسور حينما وجد أمخاخ معوقين عقليين (في غاية الجمال، على حد قوله)، و(أمخاخ أطفال مصابة بأمراض الطفولة أو تشوهات خلقية).. وقد لاحظ أحد العاملين في مركز من مراكز البحوث أن عدد أمخاخ الأطفال المتوفرة لإجراء التجارب أخذت تتزايد بشكل ملحوظ، ونتيجة لهذا تم الحصول على مواد مهمة تلقي الضوء على أمراض المخ.
بعد أن طاف خيالي بتلك الذكريات الأليمة التي حكيت لكم بعضها.. انتبهت إليه، فرأيت الدموع تفيض من عينيه.. فحسبت أن قلبه قد لان بعد شدة.. وأن تلك الدموع كانت تغسل تلك القسوة التي كان قلبه مشحونا بها.. لكني ما إن سمعت السموم التي تفوه بها لسانه حتى يئست منه.
لقد سمعته يقول للمرضى المتألمين أمامه: اسمعوني جيدا.. لا يمكن للعافية أن تزور أجسادكم.. ولا للراحة أن تحل بأرواحكم إلا بعد أن تحلوا في المسيح.. المسيح هو الوحيد في العالم الذي لديه الشفاء الذي عجز جميع صيادلة الدنيا أن يجدوه.. لقد شفي المسيح جميع المرضي الذين قدموا إليه من جميع الأمراض مهما كانت أنواع أمراضهم ومهما كان عددهم.
وبعد أن ذكر الكثير من النماذج عما ورد في الكتاب المقدس من علاج المسيح عليه السلام للأمراض المختلفة، قال مخاطبا المرضى: من منكم يريد أن تشفيه يد المسيح الممتلئة بالبركة..؟
ربوبيون وربانيون (3/85)
قبل أن ينتظر أي جواب، قال: لا.. ليس بالسهولة التي تتصورونها.. لا يمكنكم أن تنعموا بشفاء المسيح إلا بعد أن تتخلصوا من ذلك الكابوس الثقيل الذي يجثم على أرواحكم.. ذلك الذي تدعونه (محمدا).. فلا يمكنكم أن تظفروا بالمسيح، وأنتم مقيدون بأغلال محمد.
هنا رأيت وجوه المرضى تتغير تغيرا شديدا.. بل رأيت المقعدين قاموا، والذابلين قد دبت في وجوههم مياه الحياة.. وإذا بالدكتور منجل ينتفض لما رآه، متصورا أن ذلك كان من وحي كلماته.. لذلك راح يقول بغرور لم يستطع أن يخفيه: ألم أقل لكم.. لا يقيم المقعدين إلا المسيح.. ولا ينشر الحياة في الفانين الذابلين غير ذكرى المسيح؟
قام بعض المرضى، وقال، والغضب باد على وجهه: إن كان دواؤكم الذي تريدون أن تصفوه لنا ـ حضرة الطبيب ـ مرتبطا بالابتعاد عن محمد.. فنحن لا نحتاج دواءكم.. بل نحن نرضى أن نعيش مرضى.. ونموت مرضى.. بل نرضى أن نذوق كل الآلام.. ولا نرضى أن يغيب عنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحظة واحدة.
قال آخر: إننا لا ننعم في هذه الدنيا إلا بذكراه.. وبذكر لقائنا به في ذلك اليوم العظيم الذي نتشرف بالشرب من يده الشريفة.
قال آخر: إن ذكرى محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي أعظم دواء لنا.
قال آخر: إن وجهه السمح الجميل الممتلئ بأنوار الإيمان هو العافية التي تنعم بها أرواحنا.. والتي تنسينا كل ألم يحتضن أجسادنا.
قال آخر: فلذلك خذ دواءك الملطخ بسموم الحجب عن محمد ودين محمد.. وسر عنا.. فنحن الذين فنينا في حب محمد لا نرضى لأرواحنا وأجسادنا أن تتلطخ بأي سم يبعدنا عنه.
ربوبيون وربانيون (3/86)
رأيت وجه الدكتور منجل تغير تغيرا شديد، لكنه أراد أن يخفي تغيره بقوله: لا بأس.. هذه الحالة أعرفها جيدا.. سبق لي أن رأيت مثلها كثيرا.. هذه الحالة مرض من الأمراض النفسية.. وهي منتشرة للأسف في الأجناس الدانية.. تلك الأجناس التي تذوب في زعمائها وقادتها الروحيين منشغلة عن حياتها ومصيرها بحياة غيرها ومصيرها.
قام رجل من الجمع، وقال بنوع من السخرية لم يلتفت لها الدكتور منجل: فما العلاج لهذا المرض.. فإنا كلنا مصابون به.. فنحن من الأجناس التي تحدثت عنها؟
قال الدكتور منجل: لقد ذكرت لكم العلاج.. العلاج بسيط.. فقط يحتاج منكم إلى إرادة.. إرادة تجعلكم تقطعون تلك الحبال التي تصلكم بالوهم.. وتسقيكم بالسراب.
قال أحد المرضى: لقد أتيتنا بدعوى، وتريد منا تصديقها.. والدعاوى تحتاج إلى البراهين الدالة عليها.. فما براهينك على دعواك؟
قال آخر: لقد ذكرت في دعواك أن الإسلام ونبي الإسلام يمتلئ قسوة على المبتلين والمرضى والمتألمين.. وهذا يستدعي أن تأتي من نصوص الإسلام المقدسة ما يبرهن على ذلك.
قال الدكتور: ألا يكفي لإثبات ذلك ما ورد في هذه النصوص التي تزعم لها القداسة من تمجيد المرض؟.. ألم تقرؤوا ما ورد في الحديث عن نبيكم قوله: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض) (1).. وقوله في حديث آخر: (إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه) (2).. وغيرها من النصوص؟.. ألا ترون أن هذه النصوص
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه البخاري والترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/87)
تمجد البلاء والمرض.. وكأنها تدعو الناس لأن يمارسوا من الأسباب ما يوقعهم في المرض؟.. ألا ترون أن ذلك هو قمة القسوة والظلم والتضليل؟
قال أحد المرضى: لا بأس.. لقد عرفنا سر ما وقعت فيه من الشبهة.. فاترك لنا الفرصة لنعرفك بحقيقة المقاصد التي دلت عليها هذه النصوص، فمن الخطأ أن نقطع النصوص عن مواردها التي قيلت فيها.
قال الدكتور: تكلموا.. فكلي آذان صاغية.
قال أحد المرضى: أنتم تعرفون أن الطريق الأمثل للتعامل مع النصوص المقدسة والاستفادة منها هو الإلمام بها جميعا، لا ضرب بعضها ببعض، أو تقديم بعضها على بعض.. فكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم يكمل بعضه بعضا، ويدل بعضه على بعض.
قال آخر: ولذلك ذم الله تعالى من يأخذون ببعض الكتاب ويدعون بعضه، فقال مخبرا عن بني إسرائيل مبكتا لهم: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 85]
قال آخر: وأخبر أن في كلام الله ما يمكن أن يجد فيه أصحاب القلوب الزائغة ما يملؤهم بالفتنة إذا هم لم يجمعوا بين محكمه ومتشابهه، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]
ربوبيون وربانيون (3/88)
قال آخر: ولهذا، فإن الله تعالى يدعونا في جميع أمورنا إلى أن نأخذ بالإسلام كله، وهو يعني أن نجمع بين مقتضيات جميع النصوص، فلا يُفهم مراد الله من عباده إلا بها جميعا.. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 208 ـ 209]
قال آخر: إنك ـ حضرة الدكتور ـ أُتيت من هذا الباب.. ذلك أنك أخذت بعض النصوص، فتصورت أنها تمجد المرض والبلاء، وأنها تدعو ـ بذلك ـ المريض إلى السكون إلى مرضه، وعدم مواجهته.. وهذا خطأ كبير.. فالنصوص التي ذكرت قيمة البلاء وفضله هي نفسها النصوص التي دعت إلى مواجهته بأنواع الوقاية والأدوية.
ضحك الدكتور منجل بصوت عال، وقال: ألا ترى أن النصوص المقدسة بذلك تتحول إلى نصوص متناقضة يعارض بعضها بعضا.. فهي تدعو إلى البلاء في نفس الوقت الذي تنهى عنه؟
قال أحد المرضى: التعارض يكون عندما تتوجه النصوص لجهة واحدة من الجهات بأوامر متناقضة.. لكن عندما تتغير محال الخطاب لا يكون هناك أي تعارض.
قال الدكتور: ولكن الخطاب في جميعها متوجه لجهة واحدة هي الإنسان.
قال أحد المرضى: والإنسان متعدد النواحي.. ففيه النفس وفيه الجسد.. وخطاب النفس مختلف عن خطاب الجسد.. ألا ترى أن الطب ينقسم إلى طب نفسي، وطب جسدي؟
قال الدكتور: بلى.
قال أحد المرضى: ولذلك، فإن الشريعة بنصوصها المقدسة خاطبت كلا الجهتين..
ربوبيون وربانيون (3/89)
كلا بما يناسبها.
قال الدكتور: فاذكر لنا ما خاطبت به الشريعة النفس في هذا الباب.
قال أحد المرضى: النفس في حال مرض صاحبها وعجزه تطلب أربعة أمور.. لا تتحقق رحمتها إلا بها.. ولم تكتمل هذه الأربعة في دين كما اكتملت في الإسلام.. ففيه وحده جميع المعاني التي تجعل المريض يعيش حياة طبيعية لا تختلف عن حياة أي سليم.
قال آخر: أما أولاها، فالنفس تطلب سندا قويا عظيما تحتمي إليه من ضعفها.. فتشعر بالراحة في احتمائها، وبالقوة في التجائها.
قال آخر: وأما الثانية، فهي تطلب أملا تطمح إليه ينسيها الآلام التي تسكن جسدها.
قال آخر: وأما الثالثة، فهي تطلب عملا متناسبا معها، يجعلها إيجابية فاعلة حية.. فلا يؤذي النفس الصالحة مثل سلبيتها وسكونها.. فسكونها لا يعني سوى موتها.
قال آخر: وأما الرابعة، فهي تنفر من عزلة المجتمع عنها، نفرة منها.
قال الدكتور: ما أسهل أن تدعوا الدعاوى.
قال أحد المرضى: وما أسهل أن نثبتها.. واسمح لنا ـ حضرة الدكتور ـ قبل أن نذكر لكم ما جاء به الإسلام في هذه الناحية ـ أن نخبركم عما قاله العلم الحديث في علاقة الإيمان بالله، والالتجاء إليه في توفير الصحة والعافية للنفس والبدن (1).
قال آخر: لعلكم تعلمون أنه قبل الثورة الحالية في مجال العلوم التجريبية لم يكن ممكنا
__________
(1) رجعنا في هذا لمقال مهم بعنوان (الاستشفاء بالقرآن الكريم دراسة علمية ميدانية)، د. محمد دودح.
ربوبيون وربانيون (3/90)
لبشر معرفة آلية الوظائف العقلية العليا التي تميز الإنسان عن الحيوان وتحديد مواقعها بالمخ.. وشيئا فشيئا اكتشفت المناطق المتعلقة بالحواس والكلام والحركة، وبدأت تتضح معالم المنظومة العاطفية، ومنظومة الأنشطة اللاإرادية، والأساس الكيميائي للنشاط العصبي.. بل أصبح بالإمكان تسجيل كهربية المخ من الخارج باستخدام جهاز رسم المخ، وتمييز مختلف الأنشطة الذهنية، والتصوير الإشعاعي لكشف تراكيبه.. ونتيجة لذلك عرفت بعض الفوارق التشريحية والوظيفية مع الحيوان، وأمكن تصور آلية بعض الوظائف العليا كالتذكر والتعلم.
قال آخر: على ضوء هذه التطورات فاجأتنا تلك الأبحاث العلمية باكتشاف يجعل الإيمان بالله تعالى وعبادته نزوعا فطريا وملكة مغروسة بالمخ لها آلياتها ومراكزها، وإذا لم يحسن الإنسان توظيفها فقد أهم ما يميزه عن الحيوان، وتعرض لفقدان التوازن النفسي والبدني (1).
قال آخر: وخلاصة الأبحاث العلمية التي نشرت للمرة الأولى عام 2001 وأجريت على المخ بتقنية جديدة للأشعة السينية، قام بها فريق علمي على رأسه د، أندرو نيوبيرج أستاذ علم الأشعة بكلية الطب بجامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية هي أن: (الإيمان بالله تصميم داخلي داخل المخ)، وبهذا لا يمكن لأحد التخلص منه إلا تعاميا عن الفطرة السوية التي جعلت الإنسان ينزع للتدين على طول التاريخ وتعطيلا لقدرات هائلة وإمكانات بالغة التعقيد والتطور تمكنه من إدراك قدرة الله تعالى بالتفكر والاستقراء للخلق والتحليل والاستنتاج.
__________
(1) نشرت عدة كتب علمية تبين كيف أن الإيمان بالله فطرة مغروسة في النفس البشرية وتوظيف آلياتها بالعبادة طريق إلى الصحة والسعادة، منها كتاب (الإيمان بالله مغروس بقوة داخل جيناتنا) لديان همر وكتاب (الإيمان والصحة) لجيف ليفن ولاري دوسي وكتاب (الإيمان صحة وفلاح) لأندرو بريمان.
ربوبيون وربانيون (3/91)
قال آخر: ويمكن وصف الإنسان وفق عبارات د، نيوبيرج نفسه بأنه: (موجه بقوة نحو التدين)، وأن (التجربة العملية لا يمكنها أن تخبرنا بطريقة مباشرة عن ذات الله، ولكنها تخبرنا كيف خلق الإنسان لكي يعرفه ويعبده)، وهي تخبرنا أن: (عبادة الله وظيفة والإيمان به مطلب طبيعي يماثل الطعام والشراب)، وأن (المخ البشري ليس معدا تشريحيا ووظيفيا فحسب للإيمان بالله وعبادته، وإنما هو أيضا مهيأ عند قيامه بوظيفة العبادة لحفظ سلامة النفس والبدن بتوجيه العمليات الحيوية خلال منظومة عصبية وهرمونية متشابكة)
قال آخر: وبهذا نزداد يقينا في وجود الله تعالى وقدرته، وإلا فلا فائدة من الملكات الهائلة الممنوحة للإنسان، والتي ميزته عن كافة الأحياء الأخرى في الأرض، وهكذا لم يعد الإيمان بالله تعالى في الدراسات العملية الحديثة ضربا من الفلسفة والخيال الشعبي كما كان يردد الملاحدة بلا مستند في أوائل القرن العشرين، فقد خاب ظنهم أن الإنسان قد صنع ديانته بعدما تأكد أن: (الله قد خلقه متدينا بطبيعته ومؤهلا بقدرات كي يعرفه ويعبده)
قال آخر: وكما يصبح الإنسان نظيفا إذا مارس الوضوء حتى ولو لم يكن مسلما كذلك يناله الخير إذا مارس سلوكيات العبادة كالتفكر والخشوع والتأمل، لأنها توظف مراكز أشبه ما تكون بمراكز الإيمان داخل المخ تعمل على الارتخاء والتخلص من المشاعر السلبية مثل الخوف والقلق والاكتئاب، وينتقل الإنسان من حالة الاستنفار والتوتر إلى حالة الراحة والسكينة حتى ولو لم يكن لصاحبها نصيب في ثواب الآخرة.
قال آخر: وباستخدام تقنية خاصة في التصوير بالأشعة السينية تجعل في الإمكان معاينة التغير في نشاط مختلف المناطق الوظيفية بالمخ أمكن تحديد مناطق تختص بالتركيز الفكري بالفص الجبهي (الناصية) يزداد نشاطها أثناء تلك الخبرة التأملية، ولكن تغير النشاط في منطقة الفص الصدغي التي تجعل الإنسان يدرك وجهته بالفراغ كان ملفتا
ربوبيون وربانيون (3/92)
للنظر، ويفترض نيوبيرج أن تغير نشاط تلك المنطقة يفسر إحساس الزهاد الذين بلغوا في صلواتهم درجة استغراق عميقة بانتقالهم بعيدا عن العالم الفيزيائي حولهم إلى حالة روحية لا يدركها غيرهم إلا بمعايشة نفس التجربة، وهم خلال تلك الحالة من التحليق الروحي والتسامي الإيماني يشعرون خلال أداء الأذكار والصلوات بعدم الاهتمام بالعالم الفيزيائي المحيط وأنهم في حضرة جلال أسمى ومعية ذات عليا قاهرة تأسر الفؤاد وتملك الوجدان يتضاءل معها كل شيء ويفقد أهميته،
قال آخر: وهكذا تأكد العلماء أن الاستغراق في العبادة يفتح آفاقا من الشعور بالتسامي، ويقدم عونا على التخلص من آلام ومعاناة النفس والشفاء من الاضطراب كالقلق والتوتر والكآبة وتأثيراتهم البدنية، وتكرر الممارسة بانتظام يجدد القدرات بالانتقال إلى عالم تسترخي فيه النفس وتستريح من الضغوط، وفي تلك الحالة يفقد الاهتمام بالعالم الخارجي رغم تزايد التنبه والوعي والجلاء أو تزايد الشعور به، بل ربما عند درجة ما تزداد القدرة على احتمال الألم العضوي، قال د، لورنس ميكيني عميد المؤسسة الأمريكية لعلاج الاضطرابات الذهنية: (إن ممارسة التأمل العميق باعتباره صوره من الخشوع قد يساعد في حد ذاته على التغلب على الشعور بالألم النفسي والإحباط ويعيد التوازن في توزيع النشاط في مراكز المخ ويفرغ شحنات الشعور بالتعاسة وفقدان الأمل حتى عند غير المؤمنين)
قال آخر: ووفق ما قاله د، ميكيني، فقد بدأت (الدراسات النفسية الدينية) في الستينيات من القرن الماضي عندما ذهبت مجموعة من الباحثين الأمريكيين إلى الهند لدراسة الموجات الكهربية للدماغ EEG لممارسي اليوجا، وفي عام 1980 أطلق ميكيني ومساعدوه مصطلح (الدراسات النفسية الدينية Neurotheology)، وأخرج عام 1994 كتابه بنفس الاسم، ويقدم هذا العلم الجديد تأييده التام للحقيقة الجوهرية في الدين وهي الإيمان بالله،
ربوبيون وربانيون (3/93)
قال ميكيني: (ويكفي أننا قد أوجدنا طرقا عملية لقياس الأنشطة الفكرية ولم يعد الإيمان بالله والمشاعر خلال الممارسات الدينية نشاطا فكريا غير قابل للتجربة والإثبات، ومن تلك التقنيات الجديدة طريقة التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي، وقد أكدت نتائج نيوبيرج بالفعل)
قال آخر: وبالمثل أكدت مجموعات طبية أخرى تلك النتائج منها فريق في بوسطن قام بفحص عدة متطوعين باستخدام تقنية الرنين المغناطيسي، فأكد وجود النشاط غير العادي خلال فترات الاستغراق التعبدي والخشوع لمناطق التركيز الفكري، واكتشف تغيرات في نشاط مناطق أخرى بالمخ تتعلق بالإثارة، ووجد فريق آخر بقيادة د، دوسيك عميد المعهد الطبي للأبحاث الذهنية تغييرا ملحوظا كذلك في نشاط مراكز بالمخ تتعلق بالذاكرة،
قال آخر: ويقول د، بليتريني من جامعة بيزا في إيطاليا: (إن كل شئ نفعله أو نستشعره من نشاط بسيط كحركة إصبع إلى أعمق الانفعالات العاطفية الخبيئة بالنفس أو البادية مثل الغضب والحب يرسم خريطة مميزة المعالم للمراكز المتأثرة بالمخ، ويصاحب كل شعور نموذج محدد يمكن تسجيله وتحليله كالتحاليل الطبية العضوية تماما، وهذا المجال الجديد لاستطلاع دخيلة الإنسان من عواطف ومشاعر وأفكار ومدى تأثره بالاعتقاد الديني ساحر حقا، ويدخل فيه الباحثون اليوم بحذر حريصين على المنهج العلمي في البحث والتحليل كبقية مجالات العلوم التجريبية)
قال آخر: ويقول د، مايكل ماكلوف من جامعة دالاس بالولايات المتحدة الأمريكية: (يتأثر الوجدان النفسي الروحي بالعالم الخارجي ويؤثر في الجسد ويمثل الإيمان والعبادة صمام أمان لتلك التأثيرات الطبيعية، وقد أفضت دراسته إلى أن الطبيعة البشرية
ربوبيون وربانيون (3/94)
مصممة بحيث تحفظها العبادة في توازن تام وتقيها الاضطراب)
قال الدكتور: لا داعي لذكر كل هذا، فنحن أعلم بما قال الباحثون والأطباء منكم.. ولهذا أقمنا هذا المستشفى الذي يجمع بين العلم والإسلام.. لكنا نسألكم ما الذي جاء به الإسلام؟
قال أحد المرضى: لقد استطاع العلم أن يصف الداء.. واستطاع مع ذلك أن يضع الخصائص التي يمكن للدواء أن يفعل بها مفعوله في مقاومة الداء.. ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يضع الدواء.. لأن مثل ذلك الدواء لا يمكن إلا أن يكون من لدن الله نفسه.. لقد ذكر الله ذلك، فقال في كتابه الكريم عن كتابه الكريم: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: 82]، وقال: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: 44]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]
قال آخر: وإن أردتم أن تعرفوا السر في كون القرآن الكريم شفاء، فانظروا إلى المريض كيف يستريح ويطمئن إن خاطبه طبيبه أو تحدث إليه.. وهكذا المريض مع الله الذي هو الطبيب الأعظم.
قال آخر: ولذلك، فإن الأمل عند الله وحده.. والقدرة عند الله وحده.. والفضل عند الله وحده.. ولذلك يجد المؤمن في ترديد كلام ربه، وتأمل معانيه من الأنس الروحي ما يجعله مطمئنا مستريحا.. بل ممتلئا سعادة وسرورا.
قال آخر: لقد ذكر الله ذلك عن كتابه، فقال: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
ربوبيون وربانيون (3/95)
أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 124 ـ 125]
قال الدكتور: ولكن القرآن ذكر أنه يزيد المرضى مرضا؟
قال أحد المرضى: المريض الذي لا يعرف كيف يستعمل الدواء لا شك أنه يتضرر به.. لقد ذكر الله ذلك، فقال: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: 21]
قال آخر: ولذلك، فإن على المريض الذي يريد أن يستشفي بالقرآن أن يعرف قيمة وعظمة وسمو الدواء الذي يستعمله، فهو ليس دواء كيميائيا قد ينفع عضوا، ويضر أعضاء، وقد ينفع الجسد ويغفل عن الروح، وقد ينفع اليوم ويصر غدا.. وهو ليس دجل مشعوذ، يعطي من الوهم بقدر ما يعطى من النقود.. بل هو كلام رب العالمين، كلام رب السموات والأض، كلام الذي ليس كمثله شيء، وكما لا يصح أن تقارن به أي شيء، فلا يصح أن تقارن بدوائه أي دواء.
قال آخر: ولذلك، فإن الذي يتعامل مع العلاج القرآني بمقاييسه البشرية المحدود، أو يتصور أن الأدواء والعلل من القوة بحيث لا يطيق القرآن إزاحتها، فهو لم يصل بعد إلى درجة الانتفاع بالقرآن الكريم، فـ (كيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال، لصدعها، أو على الأرض، لقطعها، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على داوئه وسببه، والحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه)
قال آخر: وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: 51]
ربوبيون وربانيون (3/96)
قال آخر: ولهذا، فإن المريض إذا قرأ القرآن الكريم بتلك الصفة امتلأ قلبه تعظيما لله.. ونال بعد ذلك من المعارف ما يجعله مطمئنا إلى أن الحالة التي يمر بها ليست سوى عارض بسيط يتخلل حياته الأبدية الجميلة التي قدرها الله له.
قال آخر: لاحظوا الفرق بين من يعتقد بأن المرض غول يريد أن يلتهم سعادته الوحيدة التي جعلت له في لحظات الدنيا، وبين من يرى أن المرض محطة من المحطات.. وأن لحظات السعادة التي كتبها الله لعباده إن هم عرفوه وعبدوه لا نهاية لها.
قال آخر: تصوروا الفرق بين من يعتقد بوجود سند قوي قادر على كل شيء يمكنه أن يخلصه من كل ضر وألم، وبين من لا يرى هذا السند إلا في طبيبه العاجز اليائس الذي قد يقف في حالات كثيرة لا يدر ماذا يفعل.
قال آخر: إن هذا يجعل المؤمن يلتجئ إلى الله، ويتضرع إليه.. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف نلتجئ إلى الله، وكيف نمتلئ طمأنينة أثناء التجائنا.
قال آخر: ومن ذلك ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما أصاب أحدا قط هم، ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي إلا أذهب الله همه، وحزنه، وأبدله مكانه فرجا)، فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: (بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها) (1)
قال آخر: فهذا الدعاء يتضمن اعتراف العبد أنه مملوك لله، وأنه لا غنى له عنه، وليس
__________
(1) رواه أحمد.
ربوبيون وربانيون (3/97)
له سيد سواه، والتزام بعبوديته، وإعلان الخضوع والامتثال لأمره ونهيه، وأن الله يصرفه، ويتحكم فيه كيف يشاء، وإذعان لحكم الله، ورضى بقضائه، وتوسل إلى الله بجميع أسمائه قاطبة، ثم سؤال المطلوب، ونشدان المرغوب.. وكل هذه المعاني لها تأثيرها النفسي الكبير في نفس المريض والمبتلى.
قال آخر: ومن ذلك ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم) (1)
قال آخر: ومن ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا كربه أمر قال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث) (2)
قال الدكتور: حدثتمونا عن الأولى.. فحدثونا عن الثانية؟
قال أحد المرضى: الثانية هي ما ورد في النصوص المقدسة من البشارات بما يلقاه المريض من فضل الله إن هو أحسن تعامله مع مرضه، فلم يجره إلى السخط أو الجزع أو الشكوى.
قال آخر: وأول ذلك التبشير بأن ما أصابهم من البلاء يرفع عنهم ثقل الحساب، فلا يحاسبون كما يحاسب غيرهم، وقد روي في ذلك أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها لمم فقالت: (يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني) قال: (إن شئت دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك)، قالت: (بل أصبر ولا حساب علي) (3)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد.
(2) رواه الترمذي وحسنه.
(3) أحمد وابن حبان والحاكم.
ربوبيون وربانيون (3/98)
قال آخر: وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤتى بالشهيد يوم القيامة، فينصب للحساب، ويؤتى بالمتصدق، فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا، حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض، من حسن ثواب الله لهم) (1)
قال آخر: وقد روي في تعليل سر رفع الحساب عن المبتلين هو أن ما وقعوا فيه من الذنوب يطهرون منه بالبلاء.. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل إلى زيد بن أرقم وهو يشتكي عينيه فقال له: (يا زيد، لو كان بصرك لما به كيف كنت تصنع؟)، قال: (إذا أصبر وأحتسب)، قال: (إن كان بصرك لما به ثم صبرت واحتسبت لتلقين الله عز وجل وليس لك ذنب) (2)
قال آخر: وهذه نعمة عظيمة.. فإن أعظم ما يخافه كل مؤمن هو الحساب.. أن تنشر صحفه، فيعاين جرائمه.. أو يفضح بين الخلائق.. إنه موقف صعب جدا.. فأحدنا لا يطيق الوقوف في محكمة الدنيا ليحاسب، فكيف يطيق الوقوف في محكمة الآخرة؟
قال آخر: ليس ذلك فقط.. فقد ورد في النصوص تبشيرهم بالجنة.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه) (3)
قال آخر: وعن عطاء قال، قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي، قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك)، فقالت:
__________
(1) الطبراني في الكبير.
(2) أبو يعلى وابن عساكر.
(3) رواه البخاري والترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/99)
أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها) (1)
قال آخر: وعن أبي سنان قال: دفنت ابنا لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولاني) فأخرجني وقال لي: ألا أبشرك؟ قلت: بلى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد) (2)
قال آخر: وهذا ثواب عظيم.. فالجنة هي الدار التي تهفو لها القلوب.. وحسب المبتلى أن يبشر بها حتى ينسى كل بلاء ينزل به.
قال آخر: وليس ذلك فقط.. بل ورد في النصوص أن المبتلى يرفع إلى الدرجات العليا بحسب صبره ورضاه عن ربه.. ففي الحديث الشريف قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى) (3)، وقال: (ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيصبر إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة) (4)، وقال: (أشد الناس بلاء الانبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة) (5)
قال آخر: وحدث بعضهم، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
__________
(1) البخاري ومسلم.
(2) أحمد والترمذي.
(3) رواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط.
(4) ابن جرير.
(5) أحمد والبخاري وابن ماجة والترمذي وابن حبان والحاكم.
ربوبيون وربانيون (3/100)
(من أحب أن يصح ولا يسقم؟)، قلنا: نحن يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مه!؟)، وعرفناها في وجهه، فقال: (أتحبون أن تكونوا كالحمير الصيالة؟)، قال، قالوا: يا رسول الله لا، قال: (ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات؟)، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فوالله إن الله ليبتلي المؤمن وما يبتليه إلا لكرامته عليه، وإن له عنده منزلة ما يبلغها بشيء من عمله دون أن ينزل به من البلاء ما يبلغ به تلك المنزلة) (1)
قال آخر: وليس ذلك فقط.. بل ورد في النصوص ما هو أعظم من ذلك كله.. وهو صلاة الله على عبده الصابر الراضي عنه.. لقد قال تعالى يقرر ذلك: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155 ـ 157]
قال آخر: وهي جزاء فوق الأجزية.. بل لا تعدلها أي جائزة أخرى.. ذلك أن صلاة الله على عبد تعني تقريبه له.. والقرب لا يساويه جزاء ولا يطاوله ثواب، فهو إخراج من الظلمات إلى النور، ومن الحجاب إلى المشاهدة.. لقد ذكر الله ذلك، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43]؟
قال الدكتور: حدثتمونا عن الثانية.. فحدثنا عن الثالثة؟
قال أحد المرضى: الثالثة هو ما ورد في الشريعة من التشجيع على العمل الصالح في جميع الأحوال، من غير أن يقعد المؤمن عنه بأي سبب من الأسباب.
قال آخر: بل ورد فيها اعتبار الأعمال الصالحة سببا مهما من أسباب الشفاء.. فمن ذلك ما نص عليه قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾
__________
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان والطبراني في المعجم الكبير وابن سعد في الطبقات.
ربوبيون وربانيون (3/101)
[البقرة: 45]، ففي هذه الآية يأمرنا الله تعالى بالاستعانة بالصلاة على جميع ما يصيبنا من أنواع البلاء.
قال آخر: وقد كان من سنته صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا حزن من أمر فزع إلى الصلاة.. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصفها لأصحابه، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثل الصلاة كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فهل يبقى من درنه شيء؟) (1)
قال آخر: ومثل ذلك الصوم.. ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به، ورغب فيه.. ففي الحديث عن أبي أمامة، قال: قلت: يا رسول مرني بعمل ينفعني الله به، قال: (عليك بالصوم فإنه لا مثل له) (2)
قال آخر: وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (صوموا تصحوا) (3)، وقد أثبتت الدراسات العلمية والأبحاث الدقيقة على جسم الإنسان ووظائفه الفسيولوجية أن الصيام ظاهرة طبيعية يجب للجسم أن يمارسها حتى يتمكن من أداء وظائفه الحيوية بكفاءة، وأنه ضروري جدا لصحة الإنسان تماما كالأكل والتنفس والحركة والنوم، فكما يعاني الإنسان بل يمرض إذا حرم من النوم أو الطعام لفترات طويلة، فإنه كذلك لا بد أن يصاب بسوء في جسمه لو امتنع عن الصيام.
قال آخر: وفوق ذلك.. فقد أثبتت الوقائع الكثيرة دور الصوم في الصحة النفسية، وتوقد الذهن.. لقد قال (توم برنز)، وهو من مدرسة كولومبيا للصحافة: (إنني أعتبر الصوم تجربة روحية عميقة أكثر منها جسدية، فعلى الرغم من أنني بدأت الصوم بهدف
__________
(1) رواه أحمد.
(2) رواه النسائي.
(3) رواه الطبراني.
ربوبيون وربانيون (3/102)
تخليص جسدي من الوزن الزائد إلا أنني أدركت أن الصوم نافع جدا لتوقد الذهن، فهو يساعد على الرؤية بوضوح أكبر، وكذلك على استنباط الأفكار الجديدة وتركيز المشاعر، فلم تكد تمضي عدة أيام من صيامي في منتجع (بولنج) الصحي حتى شعرت أني أمر بتجربة سمو روحي هائلة.. لقد صمت إلى الآن مرات عديدة، لفترات تتراوح بين يوم واحد وستة أيام، وكان الدافع في البداية هو الرغبة في تطهير جسدي من آثار الطعام، غير أنني أصوم الآن رغبة في تطهير نفسي من كل ما علق بها خلال حياتي، وخاصة بعد أن طفت حول العالم لعدة شهور، ورأيت الظلم الرهيب الذي يحيا فيه كثيرون من البشر، إنني أشعر أنني مسؤول بشكل أو بآخر عما يحدث لهؤلاء ولذا فأنا أصوم تكفيرا عن هذا.. إنني عندما أصوم يختفي شوقي تماما إلى الطعام، ويشعر جسمي براحة كبيرة، وأشعر بانصراف ذاتي عن النزوات والعواطف السلبية كالحسد والغيرة وحب التسلط، كما تنصرف نفسي عن أمور علقت بها مثل الخوف والارتباك والشعور بالملل.. كل هذا لا أجد له أثرا مع الصيام، إنني أشعر بتجاوب رائع مع سائر الناس أثناء الصيام، ولعل كل ما قلته هو السبب الذي جعل المسلمين وكما رأيتهم في تركيا وسوريا والقدس يحتفلون بصيامهم لمدة شهر في السنة احتفالا جذابا روحانيا لم أجد له مثيلا في أي مكان آخر في العالم)
قال آخر: ومثل ذلك الصدقة.. ففي الحديث: (حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع) (1)
قال آخر: وهكذا كل عمل صالح.. فإن له تأثيره النفسي الكبير على المريض، بالإضافة إلى تأثيره الغيبي الذي جعله الله مؤثرا في حصول الشفاء.
__________
(1) رواه أبو داود والطبراني والبيهقي.
ربوبيون وربانيون (3/103)
قال آخر: بالإضافة إلى هذا كله.. فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الله الشكور الحليم لا يضيع عمل عبده إن قعد به الداء عنه، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد إذا مرض أوحى الله تعالى إلى ملائكته: أنا قيدت عبدي بقيد من قيودي، فإن أقبضه اغفر له، وإن أعافه فحينئذ يقعد لا ذنب له) (1)
قال آخر: وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم يصاب في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة من الخير ما كان يعمل، ما دام محبوسا في وثاقي) (2)
قال آخر: وفي الأثر الإلهي: (قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني وصبر على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر وهو صحيح) (3)
قال آخر: بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن مجرد الاسترجاع عند تذكر المصيبة له ثوابه عند الله، فقال: (ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها، وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب) (4)
قال الدكتور: حدثتمونا عن الثالثة.. فحدثنا عن الرابعة؟
قال: الرابعة هي ما ورد في الشريعة من دعوة المجتمع إلى الاهتمام بالمريض، وعدم الانعزال عنه إلا إذا اقتضت الضروروة ذلك.. فقد ورد في النصوص المقدسة الدعوة إلى
__________
(1) الحاكم.
(2) الحاكم.
(3) أحمد والطبراني في الكبير وأبو نعيم.
(4) أحمد وابن ماجة.
ربوبيون وربانيون (3/104)
عيادة المريض بأساليب مختلفة.
قال آخر: ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (حق المسلم على المسلم خمس ـ فذكر منها: ـ وعيادة المريض) (1)
قال آخر: وقال: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده) (2)
قال آخر: وقال: (عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكركم بالآخرة) (3)
قال آخر: وقال: (خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريض وشهد جنازة وصام يوما وراح إلى الجمعة وأعتق رقبة) (4)
قال آخر: وقال: (من عاد مريضا ناداه مناد من السماء طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا) (5)
قال آخر: بالإضافة إلى كل ذلك.. فقد مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسلوكه العملي هذه الأوامر خير تمثيل.. ففي الحديث عن بعض الصحابة قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريض في أناس من الأنصار يعودوني (6).
قال آخر: وعن آخر أنه كان يخطب، فقال: (أما والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أحمد والبزار وابن حبان.
(4) رواه ابن حبان.
(5) رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان.
(6) رواه أحمد.
ربوبيون وربانيون (3/105)
الحضر والسفر، فكان يعود مرضانا، ويشيع جنائزنا، ويغدو معنا ويواسينا بالقليل والكثير) (1)
قال الدكتور: ما أجمل ما دعاكم إليه نبيكم.. ولكن ألا ترى أن في تجميع الناس على المريض مما يزيده مرضا؟.. فالمريض يحتاج من الراحة ما لا يحتاج إليه السليم.
قال أحد المرضى: لقد نبهنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا.. ودعانا إلى مراعاة الأدب عند عيادة المرضى.
قال آخر: ومن ذلك ما ورد في النصوص المقدسة من الدعوة إلى التنفيس عن المريض، وملئه بالأمل في الله، وفي شفاء الله، وفي فضل الله عليه بالبلاء المطهر.
قال آخر: ففي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال: (لا بأس طهور إن شاء الله)، قال: قلت: طهور! كلا، بل هي حمى تفور ـ أو تثور ـ على شيخ كبير تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فنعم إذا) (2)
قال آخر: وعن أم العلاء قالت: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مريضة، فقال: (أبشري يا أم العلاء، فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة) (3)
قال آخر: وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أم السائب، فقال: (مالك يا أم السائب تزفزفين (أي: ترعدين) قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: (لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد) (4)
قال آخر: ومن ذلك أن على من عاد المريض أن يتخير الوقت المناسب لعيادته؛ لأن
__________
(1) رواه أبو ليلى.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه أبو داود.
(4) رواه مسلم.
ربوبيون وربانيون (3/106)
مقصود العيادة إراحة المريض وتطييب قلبه، لا إدخال المشقة عليه.
قال آخر: ومن ذلك أن لا يطيل المكث والجلوس عنده، إلا إن أحب المريض ذلك، وكان في الجلوس فائدة ومصلحة.
قال آخر: ومن ذلك أن يدعو للمريض، ففي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عاد المريض جلس عند رأسه، ثم قال سبع مرار: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، فإن كان في أجله تأخير عوفي من وجعه) (1)
قال آخر: وعليه أن ينصح للمريض بالدعاء، وأن لا يقول عنده إلا خيرا، ففي الحديث عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيرا، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) (2)
قال آخر: ومن ذلك نصح المريض وتوجيهه.. ففي الحديث عن جابر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أم السائب، وهي ترفرف، فقال: ما لك؟ فقالت: الحمى ـ أخزاها الله تعالى ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا تسبيها، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد) (3)
قال آخر: وروي أن غلاما من اليهود كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمرض فأتاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: (أسلم)، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) (4)
__________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري في الأدب.
(4) رواه أحمد والبخاري وأبو داود.
ربوبيون وربانيون (3/107)
قال الدكتور: عرفنا علاج الإسلام للنفس في حال مرضها.. فما جاء به لعلاج الجسد؟
قال أحد المرضى: أربعة أمور.. لا تتحقق رحمة الجسد إلا بها.. ولم تكتمل هذه الأربعة في دين كما اكتملت في الإسلام.. ففيه وحده جميع المعاني التي تجعل المريض يعيش حياة طبيعية لا تختلف عن حياة أي سليم.
قال آخر: أما أولاها.. فهو ما جاء في الشريعة من الدعوة لحفظ الأجساد باعتبارها أمانة من الله لعباده يتوجب عليهم حفظها.. ولم يكتف الإسلام بذلك، بل شرع التشريعات المختلفة.. والتي تجمع كل ما جاء الطب الوقائي لتقريره.
قال آخر: وأما الثانية.. فهو ما جاء في الشريعة من الدعوة إلى التداوي.. ووضع القوانين الكثيرة التي تحفظ التداوي من السقوط في الخرافة والدجل.
قال آخر: وأما الثالثة.. فهو ما جاء من تشريعات التخفيف على المريض، مراعاة لمرضه.. فلا يتعارض التدين مع المرض.
قال آخر: وأما الرابعة.. فهو ما حفلت به النصوص المقدسة من الأدوية التي لم يتأكد من جدواها العالم إلا بعد أن توفر له من الأجهزة والوسائل ما أتاح له ذلك.
قال الدكتور: فحدثونا عن الأولى.
قال: لقد نصت الشريعة في نصوصها القطعية على وجوب المحافظة على الصحة ـ بمفهومها الواسع ـ باعتبارها نعمة من نعم الله على عباده، والنعم يجب حفظها.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) (1)
__________
(1) رواه البخاري.
ربوبيون وربانيون (3/108)
قال آخر: بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرن العافية والصحة، باليقين، فيقول: (سلوا الله المعافاة، فما أوتي أحد بعد اليقين خيرا من المعافاة) (1)، ويقول: (سلوا الله العفو والعافية، فما أوتي أحد بعد يقين خيرا من معافاة) (2)، ويقول: (ما سئل الله شيئا أحب من العافية) (3)
قال آخر: وروي أن رجلا قال: اللهم إني أسألك الصبر، فقل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (سألت الله البلاء فاسأله العافية) (4)
قال آخر: ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر حفظ الجسد من الحقوق الواجبة، فيقول: (إن لجسدك عليك حقا) (5)
قال آخر: وبسبب ذلك يعتبر: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) (6)
قال آخر: إن هذه النصوص التي تمجد الصحة، وتعتبرها نعمة لا تقل عن نعمة الإيمان.. لم تكن نصوصا مجردة عن التشريعات التي تضمن وقوعها.. فالإسلام لا يكتفي بالنظريات المجردة، والمثل التي قد لا تجد ما يوفر لها الوجود الواقعي.
قال آخر: ولذلك، فإن تأمل ما جاء به الإسلام في هذا الباب يضعنا أمام منظومة صحية متكاملة لم يأت بمثلها دين من الأديان، ولا مذهب من المذاهب.
قال الدكتور: كيف تقول ذلك.. ونحن لا نرى في مجامع كتب المسلمين الفقهية أبوابا
__________
(1) رواه ابن ماجة.
(2) رواه النسائي.
(3) رواه الترمذي.
(4) رواه الترمذي.
(5) رواه البخاري.
(6) رواه مسلم.
ربوبيون وربانيون (3/109)
خاصة بالطب.. وإن وجدناه في الحديث وجدنا مجموعة من الأدعية والرقى لا علاقة لها بالصحة إلا ما تنشره في قائلها من إيحاءات وهمية؟
قال أحد المرضى: من الخطأ الكبير ـ حضرة الدكتور ـ أن نبحث عن المنظومة الصحية الإسلامية في فصل من الفصول، أو باب من الأبواب.
قال الدكتور: فأين نبحث عنها إذن؟
قال أحد المرضى: في الشريعة جميعا.. في كل فصل من فصولها، وباب من أبوابها.. فمراعاة حفظ الصحة نجده في كل أمر من الأوامر ونهي من النواهي (1).
قال آخر: أليس في طهارة الثوب والبدن والمكان المطلوبة قبل أداء الصلاة.. وفي الوضوء خمس مرات يوميا.. والغسل من الجنابة، والأغسال المسنونة نظافة رائعة لها دورها في وقاية البدن من كثير من الأمراض؟
قال آخر: ونحن ـ المسلمين ـ مع كوننا نصلي تعبدا وخضوعا وامتثالا لأمر الخالق العظيم إلا أنه لا ينكر أحد أن أداء الصلاة بإتقان ركوعها وسجودها أمر يدرب عضلات الجسم ويمتع تيبس مفاصله.. وهي آفات قلما تحصل عند المسلمين كما يؤكد ذلك كبار الأطباء،
قال آخر: ومثل ذلك الصوم، فمع أننا نؤديه تقربا إلى الله طاعة وزلفى، ولكن ألم يثبت للعلماء من غير المسلمين أن الصوم الإسلامي ينقي البدن من فضلاته وسمومه، ويصقل الأجهزة ويعيد إليها (جدتها) وعملها الفيزيولوجي السوي؟
قال آخر: ثم أليس في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) (2) سبق صحي
__________
(1) رجعنا في هذا لكتابات الدكتور محمد نزار الدقر، وخاصة كتاب (روائع الطب الإسلامي)
(2) رواه النسائي وابن خزيمة.
ربوبيون وربانيون (3/110)
ليس له مثال.. أليس عود الأراك مفخرة لأمتنا بين الأمم يوم لم يكن هناك فرشاة ولا معجون لتنظيف الأسنان، وهو بما فيه من مواد لكيماوية طبيعية صالح لأن يجمع خواص كل من المعجون والفرشاة على السواء؟
قال آخر: وهكذا فإن آداب الطعام والشراب في شريعتنا تلحظ صحة البدن والمحافظة عليه، ولها السبق في ذلك على كل ما قرره الطب الوقائي الحديث.
قال آخر: أليس في قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث لنفسه) (1) وقاية للبدن من أمراض البدن التخمة وويلاتها؟
قال آخر: أليس في قواعد الشرب وآدابه التي وصفها محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشاربين، من النهي عن الشرب واقفا، والشرب على ثلاث، وغيرها كثير من الأمور التي أثبت الطب الحديث إعجازها، خاصة وقد أمر بها النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لم يصل الطب في زمانه إلى كل هذه المعطيات؟
قال آخر: حتى النوم الذي لا يلتفت الكثير إليه، ولا يهتم به، وضع له الإسلام من القواعد والضوابط والنظم ما أثبت العلم الحديث مدى دقته ومدى خدمته لصحة الإنسان.
قال آخر: لقد وضع الإسلام قواعد صحية رائعة لتنظيم ساعات العمل والنوم ما تزال هي الأمثل بين كل التشريعات الوضعية.. قال تعالى يقرر بعض هذا القواعد:
__________
(1) رواه أحمد والترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/111)
﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ: 10 ـ 11]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) (1).. وغيرها كثير.
قال آخر: وهي كلها مما تؤكد الدراسات العلمية أهميته.. فإحصاءات منظمة الصحة العالمية تذكر كثرة انتشار الأمراض بين فئة العاملين نهارا.. كما أكدت أن الإنتاج العضلي والفكري للإنسان في ساعات الصباح الباكر تفوق إنتاجه بقية ساعات النهار أو الليل نوعا وكما.
قال آخر: وقد أثبت الطب أن النوم على البطن يؤدي إلى تشوهات عضوية وآثار مرضية سيئة على البدن.. وذلك متوافق تماما مع تلك التشريعات الغالية التي شرعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين نهي عن النوم على البطن، بل عده (ضجعة يبغضها الله ورسوله) (2)
قال آخر: وعندما أثبت الطب اليوم أن أفضل ضجعة للنوم هي النوم على الجانب الأيمن لم يخرج في ذلك عما دعا إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. مع العلم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يدرس التشريح.. بل لم يكن علم التشريح في عهده صلى الله عليه وآله وسلم ليعرف تفصيلات كثيرة في الجسد لم تعرف إلا حديثا، ومع ذلك فإن دعوته صلى الله عليه وآله وسلم تنسجم تماما مع كل معطيات العلم الحديث،
قال آخر: وهكذا نجد في الشريعة الإسلامية منظومة كاملة تنظم غريزة الجنس، وتضعها في إطار يفجر طاقاتها لمصلحة الجسد لا لتدميره.. لقد دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الزواج المبكر حين قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) (3)، ودعا إلى اختيار الزوجة الصحيحة السليمة، فقال: (تخيروا
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
(3) رواه البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/112)
لنطفكم فإن العرق دساس) (1)
قال آخر: ونظم أمور المعاشرة الزوجية، بحيث ضمن سلامة الزوجين من الإصابة بعدد من الأمراض الجنسية، ووضع أسس صحة المرأة وعافيتها، فنهى عن المواقعة قبل المداعبة، ونهى عن إتيان الزوجة في المحيض، وعن الإتيان في غير موضع الحرث مما أثبت الطب الحديث مضاره ومفاسده وما يلحق به من أذى لكل من الزوجين،
قال آخر: وهل ينكر عاقل أو منصف من أطباء ما للانحرافات الجنسية من أثر مفجع في انتشار الأمراض كالزهري والسيلان وغيرها، وهي أمراض يحتمي منها المؤمن المطبق لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 32]؟
قال آخر: وهل يجد المسؤولون اليوم وسيلة لمكافحة الإيدز (طاعون العصر) أفضل من إدخال التعاليم الدينية في روع الناس وتحذيرهم مغبة الإصابة بهذا الطاعون الجديد؟
قال آخر: أليس في تحريم الخمر والمخدررات في تشريعنا رحمة كبرى لمجتمعنا المسلم عندما نقارنه بما تعانيه المجتمعات الغربية من مشاكل صحية خطيرة أمام قضية الإدمان؟
قال آخر: ألم تؤكد دراسات منظمة الصحة العالمية علاقة التدخين ـ الذي تقول الشريعة بتحريمه ـ بانتشار السرطانات علاوة على اشتمال أضراره لكل أجهزة البدن وفي مقدمتها الجهاز العصبي؟
قال آخر: أليس في تطبيق قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ [المائدة: 3] وقاية للبدن من الإصابة بعدد من الأمراض، منها داء عضال خبيث ينتقل إلى الإنسان بتناول لحم الخنزير، أما الميتة وما تحمل من لحم متفسخ بتأثير الجراثيم فقد يكون
__________
(1) رواه ابن ماجه.
ربوبيون وربانيون (3/113)
فيها المهلكة لآكلها؟
قال آخر: أليس في منع قضاء الحاجة في الطرق ـ الذي نص عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل) (1) ـ تشريع صحي هام لمنع انتشار البلهارسيا والأنكلستوما والزحار وغيرها من الأمراض الطفيلية المهلكة لعضوية بني آدم؟
قال آخر: بالإضافة إلى هذا كله نطق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بأول قانون للحجر الصحي لمنع انتشار الأمراض السارية وللوقاية من العدوى فيها، والتي تعتمد أصلا على عزل المريض عن الصحيح.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يورد ممرض على صحيح) (2).. وقال: (إذا سمعتم بالطاعون فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها) (3).. انظروا لقد نطق النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا قبل أن تكتشف (الجراثيم) و(الطفليات) العوامل الممرضة للأوبئة بأكثر من ألف عام،
قال آخر: هذه نماذج فقط على ما جاء به الإسلام من تشريعات تحفظ الصحة.. وتحمي الإنسان من الوقوع في شباك الأمراض مهما كان نوعها.. وتستطيع حضرة الدكتور أن تقرأ الشريعة من أولها إلى آخرها، وأنا أتحداك أن تجد فيها حكما شرعيا واحدا يتنافى مع ما تقرره القواعد الصحية (4).
قال الدكتور: حدثتمونا عن الأولى.. فحدثونا عن الثانية؟
قال أحد المرضى: الثانية هي ما جاء في الشريعة من الدعوة إلى التداوي.. ووضع
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري.
(4) هناك بعض الشبهات المرتبطة بهذا الباب لم نشأ ذكرها هنا مراعاة للاختصار، وقد ذكرناها بتفصيل في كتاب: حصون العافية من سلسلة [رسائل السلام]
ربوبيون وربانيون (3/114)
القوانين الكثيرة التي تحفظ التداوي من السقوط في الخرافة والدجل.
قال آخر: أنتم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث في بيئة أمية جاهلة اعتمدت في معالجة مرضاها على الرقى والتمائم، وبالغت في استعمال الكي وتعليق الودع والخرز.
قال آخر: وقد واجه صلى الله عليه وآله وسلم هذا الواقع المنحرف، ووضع القواعد الصحيحة للتداوي، ومنع أو نهى عن التعلق بالأوهام والخرافات.
قال آخر: وأول ذلك إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بحصول الشفاء بإذن الله إذا ما وافق الدواء الداء، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء) (1)
قال آخر: وقال: (تداووا يا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا، الهرم) (2)
قال آخر: وقال: (ما خلق الله من داء إلا وجعل له شفاء علمه وجهله من جهله إلا السام، والسام الموت) (3)
قال آخر: ففي هذه الأحاديث إثبات للمداواة، وحث عليها، وتعريف بأنها سبب للشفاء.. وأن الأدوية ليست سوى أسباب خلقها الله وسائل للشفاء، والأخذ بسنة الله في كونه.
قال آخر: وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (علمه من علمه، وجهله من جهله) حث للأطباء المسلمين على البحث والاستقصاء لاكتشاف أدوية للأمراض التي لم يعرف لها بعد دواء ناجع، واستخراج أدوية أفضل من سابقتها،
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه أحمد والترمذي.
(3) رواه ابن ماجة.
ربوبيون وربانيون (3/115)
قال آخر: وفي تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لكل داء دواء تقوية لنفس المريض عندما يستشعر بنفسه وجود دواء لدائه يقوى به رجاؤه وترتفع معنوياته ويذهب توهمه الذي هو عدو آخر بعد المرض،
قال آخر: وقد علق النبي صلى الله عليه وآله وسلم البرء بموافقة الدواء للداء، فللأدوية مقادير معينة تفعل بها يجب ألا تزيد عنها ولا تنقص.. وفي هذا حث للأطباء على زيادة معرفتهم ومهارتهم في الطب وعلومه ليتسنى لهذه المعرفة أن تصيب الداء بالمقدار المناسب من الدواء.
قال آخر: وفوق ذلك، فقد نصت الشريعة على جميع ما يرتبط بالأخلاق الطبية والقوانين التي تحميها.. ومن ذلك أنها أوجبت الضمان على من استغل حاجة الناس للتداوي، فراح يصف له من الأدوية من غير أن يكون له علم بذلك، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك، فهو ضامن) (1)
قال آخر: فالحديث يدل على أنه لا يحل لأحد أن يتعاطى صناعة من الصناعات وهو لا يحسنها، سواء كان طبا أو غيره، وأن من تجرأ على ذلك، فهو آثم.. وما ترتب على عمله من تلف نفس أو عضو أو نحوهما، فهو ضامن له، وما أخذه من المال في مقابلة تلك الصناعة التي لا يحسنها، فهو مردود على باذله؛ لأنه لم يبذله إلا بتغريره وإيهامه أنه يحسن، فيدخل في الغش.
قال الدكتور: حدثتمونا عن عن الثانية.. فحدثونا عن الثالثة؟
قال أحد المرضى: الثالثة هو ما جاء من تشريعات التخفيف على المريض، مراعاة لمرضه.. فلا يتعارض التدين مع المرض، وقد نص على هذا الأصل المهم في الإسلام قوله
__________
(1) رواه أبو داود والنسائى وابن ماجه.
ربوبيون وربانيون (3/116)
تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 7]، وقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28]
قال آخر: ونص عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد ا لدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا) (1)، وقوله: (إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا) (2)، وقوله: (إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره) (3)، وعندما قيل له: يا رسول الله.. أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: (الحنيفية السمحة) (4).
قال آخر: بناء على ذلك نص الفقهاء على أن المريض الذي يعجز عن بعض واجبات الصلاة تسقط عنه.. وإذا كان يعجز عن بعضها فإنه يسقط عنه القدر الذي يعجز عنه.
قال آخر: ونصوا على جواز الصلاة قاعدا إذا شق عليه الوقوف، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب)
قال آخر: ونصوا على جواز التيمم للمريض الذي يشق عليه التطهر بالماء.
قال آخر: ونصوا على أن المريض الذي يشق عليه الصيام فإنه يجوز له الفطر.
قال آخر: ونصوا على أن من أصيب بمرض لا يرجى برؤه فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا.
قال آخر: ونصوا على أن الحج بالنفس يسقط عن المريض الذي لا يستطيع الركوب، وله أن يقيم بدله بماله من يحج عنه ويعتمر.
قال آخر: ونصوا على أن المريض الذي لا يستطيع الطواف ماشيا فله أن يطوف راكبا
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أحمد.
(4) رواه البخاري.
ربوبيون وربانيون (3/117)
أو محمولا.
قال آخر: ونصوا على أن المريض الذي لا يستطيع تطهير ثيابه يجوز له أن يصلي بها ولو كان عليها شيء من النجاسات.
قال آخر: ونصوا على أن الجهاد لا يجب على الأعمى ولا على الأعرج ولا على المريض لأنهم يعجزون عنه ويشق عليهم.
قال آخر: ونصوا على أنه يجوز للحاج الذي به أذى من رأسه أن يغطيه، ولكن عليه الفدية.
قال آخر: ونصوا على جواز إجراء الجراحة الطبية ولو بلا إذن المريض إذا حصل الضيق والحرج وحلت الضرورة؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع.
قال آخر: ونصوا على سقوط وجوب حضور الجمع والجماعات عن المريض الذي يشق عليه ذلك.
قال آخر: ونصوا على جواز الصلاة لغير القبلة إذا كان في توجيهه إليها حرج وعسر ومشقة وضيق.
قال آخر: ونصوا على أن المغمى عليه لا إثم عليه في إخراج الصلاة عن وقتها، ولكن يجب عليه إذا أفاق أن يصلي ما فاته من الفروض، هذا إذا كانت مدة الإغماء قليلة عرفا وهي بمقدرة ثلاثة أيام.
قال آخر: وغيرها من الفروع الكثير التي تتيح للمريض أن يمارس حياته التعبدية من غير أي حرج قد يصيبه، أو يصيب مرضه.
قال الدكتور: حدثتمونا عن عن الثالثة.. فحدثونا عن الرابعة.
قال: الرابعة هو ما حفلت به النصوص المقدسة من الأدوية التي لم يتأكد من جدواها
ربوبيون وربانيون (3/118)
العالم إلا بعد أن توفر له من الأجهزة والوسائل ما أتاح له ذلك (1).
قال آخر: ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشفاء في ثلاث: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكي) (2)
قال آخر: ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السام) (3)
قال آخر: ومنه قوله: (إن أمثل ما تداويتم به الحجامة، والقسط البحري) (4)
قال آخر: ومنه قوله: (الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء) (5)
قال آخر: وعن أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألها: بم تستمشين (6)؟ قالت: بالشبرم (7)، قال: (حار حار) قالت: ثم استمشيت بالسنا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن شيئا كان فيه الشفاء من الموت؛ لكان في السنا) (8)
التفت أحد المرضى إلى الدكتور منجل، وقال: في وسعك ـ حضرة الدكتور ـ أن تتأكد من كل ما ورد في هذه النصوص من أنواع الأدوية.. وأنا متأكد تماما أنك لن تجد فيها إلا البراهين القوية القاطعة على أن محمدا رسول الله، وأنه رحمة الله للعالمين.
بعد أن تحدث المرضى كل تلك الأحاديث لم أشعر إلا بالدكتور منجل يسرع خارجا من المستشفى من غير أن ينبس ببنت شفة.. ومن ذلك اليوم لم أره.
__________
(1) ذكرنا تفاصيل البراهين العلمية على جدوى ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأدوية في (أدوية من السماء)
(2) رواه البخاري.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه البخاري ومسلم.
(6) أي بأي شيء تطلبين الاسهال.
(7) نبت يسهل البطن.
(8) رواه الترمذي وابن ماجه.
ربوبيون وربانيون (3/119)
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن المشهد الذي عرفت به الرحمة المرتبطة بالمحبطين، وعلاقتها بالدين.
قال: كما شاء الله أن أرى الرحمة المرتبطين بالمتألمين في مستشفى، فقد شاء أن أرى الرحمة المرتبطة في مستشفى أيضا، وكان مختصا بالأمراض النفسية، وقد أقامته ـ مثل المستشفى السابق ـ بعض الإرساليات التبشيرية في بعض بلاد المسلمين الفقيرة، للجمع بين العمل الإنساني والتبشير الديني.
عندما دخلت قاعة المستشفى الممتلئة بالحزن والأسى واليأس.. رأيت رجالا كثيرين يضعون أكفهم على خدودهم، وقد امتلأت أسارير وجوههم بالأسى والألم والحزن.
وكان من بينهم صاحب المستشفى نفسه (إيرنست جونز) والذي كان صديقا لي.. فقد أصيب هو الآخر بعدوى الألم والحزن واليأس.
اقتربت منه، وقلت: ما بالك حضرة البروفيسور.. أرى اليأس على وجهك؟
قال (1): وكيف لا أيأس.. وأنا قد استعملت كل المراهم، وخضت غمار كل الأساليب التي ابتدعها أصحابنا في العلاج النفسي.. لكني لم أظفر مع هؤلاء بشيء.. لكأن اليأس قد غرس جذوره في قلوبهم، فلا يكادون ينفكون عنه، ولا يكاد ينفك عنهم.
قلت: فما ترى سببا لذلك؟
قال: الدين.. لا شك أنه الدين.. إنه أخطر فيروس يمكنه أن يفتك بالنفس الإنسانية.. إن الدين هو أيدز النفس وسرطانها.. ولذلك لا سبيل للنجاة لمن ابتلي به.. لقد
__________
(1) لخصنا هنا ما ذكرناه في كتاب: رحمة للعالمين، ص 168، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (3/120)
كتب صديقي الفيلسوف (أجوست سياته) في كتابه (فلسفة الأديان) يقول: (لماذا أنا متدين؟ إني لم أحرك شفتي بهذا السؤال مرة، إلا وأراني مسوقا للإجابة عليه بهذا الجواب، وهو: أنا متدين، لأني لا أستطيع خلاف ذلك، لأن التدين لازم معنوي من لوازم ذاتي، يقولون لي: ذلك أثر من آثار الوراثة أو التربية أو المزاج، فأقول لهم: قد اعترضت على نفسي كثيرا بهذا الاعتراض نفسه، ولكني وجدته يقهقر المسألة ولا يحلها).. وقبله كتب المؤرخ الإغريقي (بلوتارك) يتحدث عن تغلغل هذا السرطان في جميع المجتمعات الإنسانية، قال: (قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد)
سكت قليلا، ثم قال: ولذلك.. لا أرى لهذه النفوس المدنسة بدنس الدين أي فرصة للشفاء.
قلت: إن ما تقوله يا بروفيسور يخالف ما ذهب إليه الكثير من العقلاء.. فالمؤرخ الفيلسوف (آرنولد توينبى) يقول: (الدين إحدى الملكات الضرورية الطبيعية البشرية، وحسبنا القول بأن افتقار المرء للدين يدفعه إلى حالة من اليأس الروحي، تضطره إلى التماس العزاء الديني على موائد لا تملك منه شيئا)
وثمله قال الدكتور (كارل بانج) في كتابه (الإنسان العصري يبحث عن نفسه): (إن كل المرضى الذين استشاروني خلال الثلاثين سنة الماضية، من كل أنحاء العالم، كان سبب مرضهم هو نقص إيمانهم، وتزعزع عقائدهم ولم ينالوا الشفاء إلا بعد أن استعادوا إيمانهم)
وقال (وليم جيمس) فيلسوف المنفعة والذرائع: (إن أعظم علاج للقلق ـ ولا شك ـ هو الإيمان)
وقال الدكتور (بريال): (إن المرء المتدين حقا لا يعاني قط مرضا نفسيا)
ربوبيون وربانيون (3/121)
وقال (ديل كارنيجي) في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة): (إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين، كفيلان بأن يقهرا القلق، والتوتر العصبي، وأن يشفيا من هذه الأمراض)
أما الدكتور (هنري لنك)، فقد ذكر في كتابه (العودة إلى الإيمان) البراهين الكثيرة الدالة على الدور الإيجابي للدين من خلال ما لمسه وجربه من وقائع وفيرة، خلال عمله في العلاج النفسي.
أما (ديل كارنيجي)، فقد تحدث عن الأثر المبارك للصلاة في النفس البشرية، فقال: (ولا يقعد بك عن الصلاة والضراعة والابتهال أنك لست متدينا بطبعك، أو بحكم نشأتك، وثق أن الصلاة سوف تسدي إليك عونا أكبر مما تقدر، لأنها شيء عملي فعال، تسألني: ماذا أعني بشيء عملي فعال، أعني بذلك أن الصلاة يسعها أن تحقق لك أمورا ثلاثة لا يستغني عنها إنسان سرواء أكان مؤمنا أو ملحدا: فالصلاة تعينك على التعبير بأمانة ودقة عما يشغل نفسك، ويثقل عليها، وقد بينا فيما سلف أن من المحال مواجهة مشكلة مادامت غامضة غير واضحة المعالم، والصلاة أشبه بالكتابة التي يعبر بها الأديب عن همومه، فإذا كنا نريد حلا لمشكلاتنا وجب أن نجريها على ألسنتنا واضحة المعالم، وهذا ما نفعله حيث نبث شكوانا إلى الله.. والصلاة تشعرك بأنك لست منفردا بحل مشكلاتك وهمومك، فما أقل من يسعهم احتمال أثقل الأحمال وأعسر المشكلات منفردين، وكثيرا ما تكون مشكلاتنا ماسة أشد المساس بذواتنا فنأبى أن نذكرها لأقرب الناس إلينا، ولكننا يسعنا أن نذكرها للخالق عز وجل في الصلاة.. والأطباء النفسيون يجمعون على أن علاج التوتر العصبي، والتأزم الروحي يتوقف ـ إلى حد كبير ـ على الإفضاء بمبعث التوتر ومنشأ الأزمة إلى صديق قريب، أو ولي حميم، فإذا لم نجد من نفضي إليه كفانا بالله وليا.. والصلاة بعد هذا تحفزنا إلى
ربوبيون وربانيون (3/122)
العمل والإقدام، بل الصلاة هي الخطوة الأولى نحو العمل، وأشك في أن يوالي امرؤ الصلاة يوما بعد يوم، دون أن يلمس فائدة أو جدوى، أو بمعنى آخر، دون أن يتخذ خطوات مثمرة نحو تحسين حالته، وتفريج أزمته، وقد قال (الكسيس كاريل﴾ (مؤلف كتاب (الإنسان.. ذلك المجهول) ـ والحائز على جائزة نوبل ـ: (الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت حتى الآن، فلماذا لا ننتفع بها؟) (1)
قال: وما كانت أديان هؤلاء الذين ذكرتهم؟
قلت: لقد كانوا مسيحيين.. لاشك أنك تعلم ذلك.
قال: الدين المسيحي مختلف عن سائر الأديان.. ولذلك يمكن للمريض النفسي أن يجد عزاءه فيه.. بل يمكن للمريض أن يجد عزاءه النفسي في جميع الأديان ما عدا الإسلام.. الإسلام مختلف تماما.. إنه فيروس قاتل.. إنه يحطم النفس تحطيما لا تستطيع بعده الحلم بأي خلاص.. ألا ترى كيف يتحدث المسلمون عن العبودية لله.. ويجعلونها قمة قمم طموحهم.. مع كونها من وجهة النظر النفسية الهاوية التي إذا انحدرت إليها النفس، فلا مطمع لها بعد في نجاة ولا راحة ولا سعادة؟
قال ذلك، ثم نظر إلى من حوله من المرضى، وقال: وللأسف، فإن هؤلاء مسلمون.. لقد حاولت بكل الأساليب أن أخلصهم من إسلامهم.. فلم أستطع.. لقد ضرب الإسلام جذوره في أعماق قلوبهم، ولذلك لا مطمع لهم في النجاة منه.
نظرت إليهم، فلم يبدو لي على وجوههم أي سيما من سيما المتدينين، فقلت: كيف عرفت يا حضرة البروفيسور بأن الدين هو سبب ما هم فيه؟
__________
(1) دع القلق وابدأ الحياة: ص 301.
ربوبيون وربانيون (3/123)
قال: لقد ذكرت لك أنهم مسلمون.. ويكفي ذلك لتشخيص حالتهم.
قلت: هل رأيتهم يرفعون أيديهم إلى السماء يدعون ربهم؟
قال: لا.
قلت: هل رأيتهم يذكرون ربهم كثيرا؟
قال: لا.
قلت: فهل رأيتهم يصلون؟
قال: لا.. هم مقصرون في جميع هذه النواحي.. ولكن ما غرضك من كل هذه الأسئلة؟
قلت: أردت أن أعرف علاقة الدين بمرضهم.
قال: فما رأيت؟
قلت: أرى أن تشخيصك لحالتهم بكون الدين سببها خطأ.. فهؤلاء لا علاقة لهم بالدين.
قال: ولكنهم يذكرون عن أنفسهم أنهم مسلمون.
قلت: أجل.. هم مسلمون ورثوا إسلامهم ولم يعيشوه، وفرق كبير بين أن ترث شيئا، وبين أن تستخدمه.
ما قلت هذا حتى رأيت بعضا من الرجال يدخلون، كانوا يشبهون كثيرا الحكماء الذين تحدث عنهم زملائي.
سألت صديقي صاحب المستشفى عنهم، فقال: لا أدري.. لعلهم من الزوار الذين تعود المستشفى أن يسمح لهم بالدخول في هذه الأوقات.. لكن ما سؤالك عنهم؟
قلت: لست أدري.. ولكن أشعر أنه يمكن أن يمثل هؤلاء الإسلام تمثيلا صالحا.
ربوبيون وربانيون (3/124)
قال: كيف عرفت ذلك.. إنهم يبدون كسائر الناس؟
قلت: لست أدري.. لكني أشعر في قرارة نفسي أن هؤلاء يحملون الإكسير الذي يحطم أصنام جميع الأوهام التي يحملها هؤلاء المرضى.
ابتسم، وقال: أصدقك القول.. لقد جاءني هؤلاء مرات كثيرة يطلبون مني أن يجتمعوا بالمرضى، ويحدثوهم.. لكني رفضت ذلك رفضا شديدا.
قلت: لم؟
قال: لقد خشيت عليهم.. لقد رأيت أنهم يحملون أفكارا خطيرة يمكنها أن تتسبب لهم في تشوهات نفسية لا يمكنهم النجاة منها.. ألا ترى أنهم يبدون مسلمين ملتزمين؟
قلت: وذلك ما يدعوني لأن أطلب منك أن تأذن لهم فيما يريدون من الخطاب.. فلعلنا نظفر منه بشيء.
قال: إن ما تقوله خطير.
قلت: كيف ذلك؟
قال: ألا ترى أن هؤلاء، ومع كونهم غير ملتزمين، دب إلي اليأس من شفائهم.. فكيف إذا سرب إليهم هؤلاء أمراض الالتزام.. حينها سيصابون بإعاقة نفسية دائمة لا يمكن لهذا المستشفى أن يتحمل تبعاتها.
قلت: لقد ذكرت لي أنك قد يئست من شفائهم.. واليائس لا يبالي أي مركب ركب.
سكت قليلا، ثم قال: لا بأس.. سآذن لهم اليوم بالحديث إكراما لك.. ولكن لابد أن تكون حاضرا لترى الخرافات التي يريدون أن يسروا بها للمرضى.
تقدمت مع صاحب المستشفى إلى الزائرين.. وقد كانوا منشغلين بتأمل المرضى والنظر فيهم.. مع تحريك ألسنتهم بكلمات لم نتبينها.
ربوبيون وربانيون (3/125)
قال صاحب المستشفى يخاطبهم: أنا لا أزال محتارا في سر حضوركم بين الحين والحين إلى هذا المستشفى، مع أني أعلم أنه لا قريب لكم فيه ولا صديق.. فما سر إصراركم على الحضور؟
قال أحد الزائرين: لأنا أشعر بألم كبير نحو هؤلاء.. نحن نراهم كعطشى استبد بهم العطش، ولا أحد يسقيهم الشراب الذي يتناسب معهم.
ابتسم صاحب المستشفى، وقال: وهل لديكم مثل هذا الشراب الذي تتحدثون عنه؟
قال أحد الزوار: أجل.. وهذا مصدر حزننا.. ألا ترى يا بروفيسور أنه من المحزن أن يحال بين المنقذ وبين من يريد أن ينقذه؟
ضحك صاحب المستشفى بصوت عال، وقال: أنتم تزعمون أنكم مخلصون كالمسيح؟
قال أحد الزوار: كل من تربى على يد الأنبياء صار مسيحا.. ومنقذا.. ومخلصا.
قال صاحب المستشفى: ولكنك تربيت على يد محمد، لا على يد المسيح.
قال أحد الزوار: المسيح ومحمد وجميع الأنبياء من مدرسة واحدة.
قال صاحب المستشفى: ولكن تلاميذ المسيح يختلفون عن تلاميذ محمد؟
قال أحد الزوار: المحرفون من تلاميذ محمد والمحرفون من تلاميذ المسيح هم الذين يختلف بعضهم عن بعض.. أما الصادقون من كليهما فهم أبناء مدرسة واحدة.
قال صاحب المستشفى: من أنتم؟
قال أحد الزوار: نحن نحاول أن نكون تلاميذ للأنبياء الذين أرسلهم الله لخلاص الإنسان.
ربوبيون وربانيون (3/126)
قال صاحب المستشفى: اسمعوا.. لقد بدا لي اليوم أن أعطيكم فرصة لأن تسقوا المرضى بالشراب الذي تريدون.. لكن احذروا أن تسقوهم سما.
بدا البشر على وجوههم، وقال أحد الزوار: شكرا يا بروفيسور.. لا تخف.. فالسم لا يوجد عند تلاميذ الأنبياء.. السم لا يوجد إلا عند الشياطين.
طلب صاحب المستشفى من الممرضين أن يحولوا المرضى إلى قاعة أشبه بقاعة محاضرات.
وما هي إلا لحظات قصيرة حتى جلس المرضى بإحباطهم ويأسهم وآلامهم ينتظرون من المخلصين أن ينقذوهم من القيود التي وضعها الألم فيهم.
صعد الرجال الحكماء المنصة، ووقفت مع صاحب المستشفى في محل خاص نرقبه.
قال أحد الزوار: سادتي الأفاضل.. لاشك أنكم تبحثون عن الأمل والراحة والسكينة.. ولاشك أنكم تهتمون بالبحث عنها.
قال آخر: ويحق لكم أن تتيهوا.. لأنكم وليتم وجهتكم نحو اليأس والتعب والقلق والجور، ويستحيل أن تجدو في هذه المحال ما تريدون البحث عنه.
قال رجل من الحاضرين: فهل تعرفون المحال التي تنشر فينا الأمل والراحة والسكينة؟
قال أحد الزائرين: أجل.. ولذلك جئنا لنحدثكم عنها.
قال الرجل: أسرعوا.. أخبرونا.
قال أحد الزائرين: هو محل واحد لا غير.. وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.
قال أحد الزوار: فما هو؟
قال أحد الزائرين: هو الله.
ربوبيون وربانيون (3/127)
قال بعضهم مقاطعا: ولكنا نؤمن بوجوده.. ومع ذلك نمتلئ هما وحزنا ويأسا.
قال أحد الزائرين: هل فكرتم في الأسرار التي يحملها وجود الله؟.. هل تعلمون ما معنى أن الله موجود؟
قال الجميع: حدثونا.
قال أحد الزائرين (1): إن معنى أن الله موجود هو أن العدل موجود والرحمة موجودة والمغفرة موجودة.. معناه أن يطمئن القلب وترتاح النفس ويسكن الفؤاد ويزول القلق.. فالحق لابد واصل لأصحابه.
قال آخر: معناه لن تذهب الدموع سدى، ولن يمضي الصبر بلا ثمرة، ولن يكون الخير بلا مقابل، ولن يمر الشر بلا رادع، ولن تفلت الجريمة بلا قصاص.
قال آخر: معناه أن الكرم هو الذي يحكم الوجود وليس البخل.. وليس من طبع الكريم أن يسلب ما يعطيه.. فإذا كان الله منحنا الحياة، فهو لا يمكن أن يسلبها بالموت.. فلا يمكن أن يكون الموت سلبا للحياة.. وإنما هو انتقال بها إلى حياة أخرى بعد الموت ثم حياة أخرى بعد البعث ثم عروج في السماوات إلى ما لا نهاية.
قال آخر: معناه أنه لا عبث في الوجود، وإنما حكمة في كل شيء.. وحكمة من وراء كل شيء.. وحكمة في خلق كل شيء.. في الألم حكمة وفي المرض الحكمة وفي العذاب حكمة وفي المعاناة حكمة وفي القبح حكمة وفي الفشل حكمة وفي العجز حكمة وفي القدرة حكمة.
قال آخر: معناه ألا يكف الإعجاب وألا تموت الدهشة وألا يفتر الانبهار وألا
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: علم نفس قرآني جديد، مصطفى محمود، ص 7، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (3/128)
يتوقف الإجلال.. فنحن أمام لوحة متجددة لأعظم المبدعين.
قال آخر: معناه أن تسبح العين وتكبر الأذن ويحمد اللسان ويتيه الوجدان ويبهت الجنان.
قال آخر: معناه أن يتدفق القلب بالمشاعر وتحتفل الأحاسيس بكل لحظة وتزف الروح كل يوم جديد كأنه عرس جديد.
قال آخر: معناه ألا نعرف اليأس ولا نذوق القنوط.. وأن تذوب همومنا في كنف رحمة الرحيم ومغفرة الغفار.
قال آخر: معناه أن يذوب ضيقنا وألمنا وإحباطنا في فرج الله وفضله وكرمه.. ألم يقل لنا ربنا: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5 ـ 6]﴾؟
قال آخر: ولأن الله سبحانه واحد.. فلن يوجد في الوجود إله آخر ينقض وعده.. ولن ننقسم على أنفسنا.. ولن تتوزعنا الجهات.. ولن نتشتت بين ولاء لليمين وولاء لليسار، وتزلف للشرق وتزلف للغرب، وتوسل للأغنياء وارتماء على أعتاب الأقوياء.. فكل القوة عنده، وكل الغنى عنده، وكل العلم عنده، وكل ما نطمح إليه ين يديه.. والهرب ليس منه، بل إليه.. فهو الوطن والحمى، والملجأ والمستند، والرصيد والباب والرحاب.
قال آخر: وذلك الإحساس معناه السكن والطمأنينة وراحة البال والتفاؤل والهمة والإقبال والنشاط والعمل بلا ملل وبلا فتور وبلا كسل.. وتلك ثمرة (لا إله إلا الله) في نفس قائلها الذي يشعر بها ويتمثلها، ويؤمن بها ويعيشها.. وتلك هي أخلاق المؤمن بلا إله إلا الله.
قال آخر: وتلك هي الصيدلية التي تداوي كل أمراض النفوس، وتشفى كل علل العقول وتبرئ كل أدواء القلوب.
ربوبيون وربانيون (3/129)
قال آخر: وتلك هي صيحة التحرير التي تحطم أغلال الأيدي والأرجل والأعناق.. وهي أيضا مفتاح الطاقة المكنوزة في داخلنا، وكلمة السر التي تحرك الجبال وتشق البحور وتغير ما لا يتغير.. ولم يخلق إلى الآن العقار السحري الذي يحدث ذرة واحدة من هذا الأثر في النفس.
قال آخر: وكل عقاقير الأعصاب تداوي شيئا وتفسد معه ألف شيء آخر.. وهي تداوي بالوهم وتريح الإنسان بأن تطفئ مصابيح عقله وتنومه وتخدره وتلقى به إلى قاع البحر موثوقا بحجر مغمى عليه شبه جثة، أما كلمة (لا إله إلا الله) فإنها تطلق الإنسان من عقاله وتحرره من جميع العبوديات الباطلة، وتبشره بالمغفرة وتنجيه من الخوف وتحفظه من الوسواس وتؤيده بالملأ الأعلى وتجعله أطول من السماء هامة وأرسخ من الأرض ثباتا.. فمن استودع همه وغمه عند الله بات على ثقة، ونام ملء جفنيه.
قال آخر: ولأن الله هو خالق الكون ومقدر الأقدار ومحرك المصائر.. فليس في الإمكان أبدع مما كان.. لأنه المبدع بلا شبيه.. لا يفوقه في صنعته أحد.. فلن تعود الدنيا مسرحا دمويا للشرور، وإنما درسا رفيعا من دروس الحكمة.
قال آخر: ولأن الله موجود فإنكم لستم وحدكم.. وإنما تحف بكم العناية حيث سرتم وتحرسكم المشيئة حيث حللتم.
قال آخر: وذلك معناه شعور مستمر بالإئتناس والصحبة والأمان.. لا هجر.. ولا غدر.. ولا ضياع.. ولا وحدة.. ولا وحشة ولا اكتئاب، وذلك حال أهل (لا إله إلا الله)
قال آخر: إنهم يذوقون شميم الجنة في الدنيا قبل أن يدخلوها في الآخرة.. وهم الملوك بلا عروش وبلا صولجان.. وهم الراسخون المطمئنون الثابتون لا تزلزهم الزلازل، ولا تحركهم النوازل.
ربوبيون وربانيون (3/130)
قال آخر: تلك هي الصيدلية الإلهية لكل من داهمه القلق.. فيها علاجه الوحيد.. وفيها الإكسير والترياق وماء الحياة الذي لا يظمأ بعده شاربه.. وفيها الرصيد الذهبي والمستند لكل ما نتبادل على الأرض من عملات ورقية زائلة متبدلة.. وفيها البوصلة والمؤشر والدليل.. وفيها الدواء لكل داء.
قام رجل من المرضى، وقال (1): نعم ما ذكرتنا به.. فلاشك أن الغفلة عن ربنا وسوء معرفتنا به هي سر ما حصل لنا من ألم ويأس وإحباط.. ولكن أنى لنا أن نستقر ونسكن لما ذكرت.. ونحن نتشتت بين أنواع الهموم والآلام.. فلا نكاد نستقر في محل حتى نرحل إلى غيره.
ابتسم أحد الزوار، وقال: أنت تسأل عن السكينة.. فالسكينة هي الدواء الوحيد الذي تستقر به النفس.. وهي الدواء الوحيد الذي يشفيها من كل آلام التشتت.
قال الرجل: فأين نجدها؟
قال أحد الزوار: لقد قرأت منذ أعوام كلمة ناضرة لأحد الأطباء اللامعين في أمريكا، قال فيها: (وضعت مرة وأنا شاب جدولا لطيبات الحياة المعترف بها، فكتبت هذا البيان بالرغائب الدنيوية: الصحة، والحب، والموهبة، والقوة، والثراء، والشهرة، ثم تقدمت بها في زهو إلى شيخ حكيم.. فقال صديقي الشيخ: جدول بديع، وهو موضوع على ترتيب لا بأس به، ولكن يبدو لي أنك أغفلت العنصر المهم الذي يعود جدولك بدونه عبثا لا يطاق، وضرب بالقلم على الجدول كله، وكتب كلمتي: (سكينة النفس) وقال أحد
__________
(1) لخصنا هنا ما ذكرناه في كتاب: رحمة للعالمين، ص 176، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (3/131)
الزوار: هذه هي الهبة التي يدخرها الله لأصفيائه، وإنه ليعطي الكثيرين الذكاء والصحة، والمال مبتذل، وليست الشهرة بنادرة، أما سكينة القلب، فإنه يمنحها بقدر.. وقال على سبيل الإيضاح: ليس هذا برأي خاص لي، فما أنا إلا ناقل من المزامير، ومن أوريليوس، ومن لادنس، هؤلاء الحكماء يقولون: خل يا رب نعم الحياة الدنيا تحت أقدام الحمقى، وأعطني قلبا غير مضطرب!.. وقد وجدت يومئذ أن من الصعب أن أتقبل هذا، ولكن الآن بعد نصف قرن من التجربة الخاصة، والملاحظة الدقيقة، أصبحت أدرك أن سكينة النفس هي الغاية المثلى للحياة الرشيدة، وأنا أعرف الآن أن جملة المزايا الأخرى ليس من الضروري أن تفيد المرء السكينة، وقد رأيت هذه السكينة تزهو بغير عون من المال، بل بغير مدد من الصحة، وفي طاقة السكينة أن تحول الكوخ إلى قصر رحب، أما الحرمان منها فإنه يحيل قصر الملك قفصا وسجنا)
قال آخر: صدق الرجل.. فالسكينة هي الإكسير الذي تذوب لمرآه الآلام.
قال الرجل: فأين نجدها؟.. لقد تهنا في البحث عنها.
قال أحد الزائرين: لقد ذكرها الله، وذكر محلها، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: 4]
قال الرجل: فما الدواء الذي تصفه هذه الآية؟
قال أحد الزائرين: إنها تصف دواء محددا واضحا ظاهرا.. إنه الإيمان.
قالوا جميعا: الإيمان!؟
قال أحد الزائرين: أجل.. فسكينة النفس التي هي الينبوع الأول للسعادة، لا يثمرها الذكاء ولا العلم ولا الصحة ولا القوة، ولا المال، ولا الغنى، ولا الشهرة، ولا الجاه، ولا
ربوبيون وربانيون (3/132)
غير ذلك من نعم الحياة المادية؟
قال آخر: هذه السكينة هي التي عمرت قلب رسول الله يوم الهجرة، فلم يعره هم ولا حزن، فقد ﴿نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: 40]
قام رجل من الجمع، وقال: لماذا كان المؤمن أولى الناس بسكينة النفس، وطمأنينة القلب؟.. ولماذا لا يجد الإنسان السكينة في العلم والثقافة والفلسفة، وفيما أنتجه التقدم العلمي من وسائل وأدوات يسرت العيش وجملت الحياة؟
التفت أحد الزوار إلى صاحب المستشفى، ثم قال: إن الجواب عن هذا يحتاج إلى بسطة من التفصيل قد لا يسمح بها طبيبكم الذي قد يزعجه إطالة جلوسي معكم.
التفت إلى صديقي صاحب المستشفى، فوجدته مستغرقا تمام الاستغراق فيما يقوله الزوار.. لذلك ما إن قال الرجل ذلك حتى رد (مباشرة.. ومن غير شعور: تفضل.. لا حرج عليك.. فإن لكلامك تأثيرا لم يسبق لي أن رأيت مثله.
ابتسم الزائر، وقال: سنذكر لكم عشرة أسباب تجعل المؤمن أحق الناس بالسكينة وأولاهم بها.
قالوا: فما السبب الأول؟
قال: إن أول أسباب السكينة لدى المؤمن هو أنه قد هدي إلى فطرته التي فطره الله عليها.. وهي فطرة متسقة كل الاتساق مع فطرة الوجود الكبير.. فلذلك يعيش المؤمن مع فطرته في سلام ووئام، لا في حرب وخصام.
قال آخر: إن في فطرة الإنسان فراغا لا يملؤه علم ولا ثقافة ولا فلسفة، وإنما يملؤه الإيمان بالله جل وعلا، فإذا لم يجد الإنسان ربه ـ وهو أقرب إليه من حبل الوريد ـ فما أشقى
ربوبيون وربانيون (3/133)
حياته، وما أتعس حظه، وما أخيب سعيه!
قال آخر: إنه لن يجد السعادة، ولن يجد السكينة، ولن يجد الحقيقة.. لن يجد نفسه ذاتها.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال أحد الزوار: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19]
قال آخر: لقد ذكر بعض العلماء ذلك، فقال (1): (في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله.. وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله.. وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته.. وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار إليه.. وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه.. وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا)
قال آخر: إنها الفطرة التي لم يملك مشركو العرب في جاهليتهم أن ينكروها مكابرة وعنادا.. قال تعالى مخبرا عنهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: 61]، وقال: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف: 9]
قال آخر: لقد قرأت لبعض الملاحدة الذين اشتهروا بالشك في الدين والتشكيك فيه، كلمات عجيبة، يطالب فيها قراءه ألا يصدقوه إذا كتب هو نفسه وبقلمه ما ينفي عنه الإيمان، أو يخلع عليه الإلحاد.. لقد قال: (لو أردت من نفسي وعقلي أن يشكا لما استطاعا، ولو أرادا مني أن أشك لما استطعت، ولو أني نفيت إيماني بالقول لما صدقت أقوالي، فشعوري
__________
(1) هذا الكلام لابن القيم في كتابه (مدارج السالكين)
ربوبيون وربانيون (3/134)
أقوى من كل أقوالي! ماذا لو أن إنسانا قال: إنه لا يحب نفسه أو لا يحب الحياة، فهل تصدقه؛ أو هل يصدق هو كلامه؟ هل يمكن أن ننفي أنفسنا أو إحساسنا بها بالكلام؟ إن الحقائق الكبيرة لا تسقطها الألفاظ، كذلك الإيمان بالله والأنبياء والأديان من الحقائق القوية التي لا يمكن أن تضعفها أو تشكك فيها الكلمات التي قد تجيء غامضة أو عاجزة لأن فورة من الحماس قد أطلقتها.. إن إيماني يساوي: أنا موجود إذن أنا مؤمن ـ أنا أفكر إذن أنا مؤمن ـ أنا إنسان إذن أنا مؤمن!)
قال آخر: ورحم الله العبد الصالح الذي قال: (إلهي ماذا وجد من فقدك!؟ وماذا فقد من وجدك!؟ لقد خاب من رضي دونك بدلا، وخسر من بغى عنك حولا)
قالوا: عرفنا السبب الأول.. فما السبب الثاني؟
قال أحد الزوار: السبب الثاني من أسباب السكينة لدى المؤمن هو أنه قد هدي إلى الإجابة على تلك الأسئلة العميقة الغامضة التي يختزنها سر كل إنسان.. والتي لن يلقى الراحة من دونها.
قال رجل من الجمع: فما تلك الأسئلة؟
قال أحد الزوار: إن في أعماق كل إنسان أصواتا خفية تناديه، وأسئلة عميقة تلح عليه منتظرة الجواب الذي يذهب به القلق، وتطمئن به النفس.. وهذه الأسئلة هي: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاءا؟ من صنعهما؟ من يدبرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ أي مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟
قال آخر: هذه الأسئلة التي ألحت على الإنسان من يوم خلق، وستظل تلح عليه إلى أن تطوى صفحة الحياة، لم تجد ـ ولن تجد ـ لها أجوبة شافية إلا في الدين.
ربوبيون وربانيون (3/135)
قال آخر: الدين وحده هو الذي يحل عقدة الوجود الكبرى، وهو المرجع الوحيد الذي يستطيع أن يجيبنا عن تلك الأسئلة بما يرضي الفطرة، ويشفي الصدور.
قال آخر: وتحضرنا هنا قصة لبعض الملاحدة من الفلاسفة المتشككين حضرته الوفاة، فهاله الموت وما بعده، فأنشد يقول:
لعمرك ما أدري ـ وقد أذن البلى... بعاجل ترحالي ـ إلى أين ترحالي؟
وأين محل الروح بعد خروجه... عن الهيكل المنحل، والجسد البالي؟
فبلغ ذلك بعض الصالحين، فقال: (وما علينا من جهله؟ إذا كان لا يدري إلى أين ترحاله؟ فنحن ندري إلى أين ترحالنا وترحاله، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: 13 ـ 14]
قالوا: عرفنا السبب الثاني.. فما السبب الثالث؟
قال أحد الزوار: السبب الثالث هو وضوح الغاية والطريق عند المؤمن.. فبينما يعيش غير المؤمن في الدنيا تتوزعه هموم كثيرة، وتتنازعه غايات شتى، هذه تميل به إلى اليمين، وتلك تجذبه إلى الشمال، فهو في صراع دائم داخل نفسه، وهو في حيرة بين غرائزه الكثيرة، أيها يرضي: غريزة البقاء، أم غريزة النوع، أم المقاتلة، أم غيرها من الغرائز.
قال آخر: وهو حائر مرة أخرى بين إرضاء غرائزه وبين إرضاء المجتمع الذي يحيا فيه، وهو حائر مرة ثالثة في إرضاء المجتمع، أي الأصناف يرضيهم، ويسارع في هواهم، فإن رضا الناس غاية لا تدرك.
قال آخر: في نفس الوقت نجد المؤمن قد استراح من هذا كله، وحصر الغايات كلها في غاية واحدة، عليها يحرص وإليها يسعى، وهي رضوان الله تعالى، لا يبالي معه برضى الناس أو سخطهم.
ربوبيون وربانيون (3/136)
قال آخر: وما أعظم الفرق بين رجلين، أحدهما عرف الغاية، وعرف الطريق إليها، فاطمأن واستراح، وآخر ضال، يخبط في عماية، ويمشي إلى غير غاية، لا يدرى إلام المسير؟ ولا أين المصير؟.. ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الملك: 22]
قالوا: عرفنا السبب الثالث.. فما السبب الرابع؟
قال أحد الزوار: السبب الرابع هو أنس المؤمن بالوجود كله.. فالمؤمن يعيش موصولا بالوجود كله، ويحيا في أنس به، وشعور عميق بالتناسق معه، والارتباط به، فليس هذا الكون عدوا له، ولا غريبا عنه، إنه مجال تفكره واعتباره، ومسرح نظره وتأملاته، ومظهر نعم الله وآثار رحمته.
قال آخر: هذا الكون الكبير كله يخضع لنواميس الله كما يخضع المؤمن، ويسبح بحمد الله كما يسبح المؤمن.. والمؤمن ينظر إليه نظرته إلى دليل يهديه إلى ربه، وإلى صديق يؤنسه في وحشته.
قال آخر: وبهذه النظرة الودود الرحبة للوجود، تتسع نفس المؤمن، وتتسع حياته، وتتسع دائرة الوجود الذي يعيش فيه.
قالوا: عرفنا السبب الرابع.. فما السبب الخامس؟
قال أحد الزوار: السبب الخامس هو أن المؤمن يعيش في معية الله.. ولذلك لا يعتريه ذلك المرض النفسي الوبيل، الذي يفتك بالمحرومين من الإيمان، ذلك هو مرض الشعور بالوحدة المقلقة، فيحس صاحبه أن الدنيا مقفلة عليه، وأنه يعيش فريدا منعزلا؛ كأنه بقية غرقى سفينة ابتلعها اليم، ورمت به الأمواج في جزيرة صغيرة موحشة يسكنها وحده، لا يرى إلا زرقة البحر وزرقة السماء، ولا يسمع إلا صفير الرياح، وهدير الأمواج.
ربوبيون وربانيون (3/137)
قال آخر: وأي عالم أشد على النفس من هذا العالم، وأي إحساس أمر من هذا الإحساس؟ إن أقسى ما يصنعه السجان بالسجين أن يحبسه في سجن انفرادي (زنزانة) ليحرمه من لذة الاجتماع، وأنس المشاركة والاختلاط، فما بالنا بمن وضع نفسه دائما في تلك الزنزانة، وعاش فيها بمشاعره وتصوره وحده، وإن كانت الدنيا تضج من حوله بخلق الله من بني الإنسان!؟
قال آخر: والمختصون متفقون على أن هذا المرض من أخطر أمراض النفس، لما يجلبه على صاحبه من عزلة وفقدان للثقة بمن يتعاملون معه، إذ يعتقد أن كل من حوله دونه، وأنهم يخالفونه في كل مقومات الحياة، وأينما التفت لا يجد غير نفسه، وقد مثل بعضهم حالة هذا المريض بإنسان قد سجن في غرفة جميع جدرانها (مرايا) فأينما ينظر لا يجد إلا نفسه، وأن هذه الغرفة التي سجن فيها لا أبواب لها، ولا منافذ بها، فأين السبيل إلى الهرب منها؟
قال آخر: فهل يستطيع مثل هذا الإنسان أن يعمل أو ينتج، أو أن يظل محتفظا بوعيه وقدرته على الفهم والتركيز؟ وهل يمكن لمثله أن يظفر بالسكينة والاطمئنان؟ الجواب طبعا: لا.
قال آخر: بل قال المختصون في علاج هذه الأمراض: إن لهذا المرض النفسي آثارا عضوية تظهر على جسم صاحبه، كما تظهر في حركاته وتصرفاته.. فقد يصيبه الدوار ويتصبب عرقه، وتسرع نبضات قلبه، كأنه خائف من عدو قاهر، أو مقدم على موقف عصيب وقد يتخبط في حركاته ومشيه كأنه يريد الهرب.
قال آخر: لقد قال في ذلك الدكتور (موريس جوبتهيل) مدير إدارة الصحة العقلية بنيويورك: (إن مرض إحساس الإنسان بوحدته لمن أهم العوامل الأساسية للاضطرابات العقلية)
ربوبيون وربانيون (3/138)
قال آخر: ولم يدخر الأطباء وعلماء النفس وسعا في البحث عن علاج ناجع لهذا المرض، وبذلوا في ذلك جهودا جمة، وأجروا تجارب كثيرة، وحاولوا محاولات مخلصة حتى انتهى رأي المنصفين منهم أخيرا إلى أن العلاج الأمثل لهذا المرض هو اللجوء إلى الدين، والاعتصام بعروة الإيمان الوثقى، وإشعار المريض بمعية الله والأنس به.
قال آخر: فهذا الإيمان القوي هو خير دواء لعلاج هذا المرض الخطير، كما أنه خير وقاية من شره.. قال الدكتور (فرانك لوباخ) العالم النفسي الألماني: (مهما بلغ شعورك بوحدة نفسك فاعلم أنك لست بمفردك أبدا، فإذا كنت على جانب من الطريق فسر وأنت على يقين من أن الله يسير على الجانب الآخر)
قال آخر: واعتقاد المسلم أكبر من هذا وأعمق.. إنه يؤمن أن الله معه حيثما كان، وليس على الجانب الآخر من الطريق، إن الله سبحانه يقول في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني).. ويقول في كتابه: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 35]
قال آخر: إن شعور المؤمن بأنه مع الله، وأن عنايته تسير بجانبه، وأنه ملحوظ بعينه التي لا تنام، وأنه معه حيث كان، يطرد عنه شبح الوحدة المخيف، ويزيح عن نفسه كابوسها المزعج.
قال آخر: فكيف يشعر بالوحدة من يقرأ في كتاب ربه: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 115]، ويقرأ: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد: 4]؟
قال آخر: إن المؤمن لا يشعر إلا بما شعر به موسى عليه السلام حين قال لبني إسرائيل: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62]، وما شعر به محمد في الغار حين قال
ربوبيون وربانيون (3/139)
لصاحبه: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40]
قال آخر: إن شعور المؤمن بمعية الله وصحبته دائما يجعله في أنس دائم بربه، ونعيم موصول بقربه، يحس أبدا بالنور يغمر قلبه، ولو أنه في ظلمة الليل البهيم.. ويشعر بالأنس يملأ عليه حياته وإن كان في وحشة من الخلطاء والمعاشرين.
قالوا: عرفنا السبب الخامس.. فما السبب السادس؟
قال أحد الزوار: السبب السادس هو أن المؤمن لا يشعر أنه في عزلة عن إخوانه المؤمنين.. إنهم، إن لم يكونوا معه في عمله أو مسجده أو داره ـ يعيشون دائما في ضميره، ويحيون في فكره ووجدانه.
قال آخر: ولذلك، فإنه إذا صلى ـ ولو منفردا ـ تحدث باسمهم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5].. وإذا دعا دعا باسمهم: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6].. وإذا ذكر نفسه ذكرهم: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).. هذا في التشهد الذي يتكرر في الصلوات المفروضة وحدها تسع مرات يوميا عدا السنة والنوافل.
قال آخر: وإنه لأوسع مدى من أن يعيش مع مؤمني عصره وحدهم، بل انه ليتخطى الأجيال، ويخترق العصور والمسافات، ويحيا مع المؤمنين وإن باعدت بينه وبينهم السنون والأعوام، ويقول ما قال الصالحون: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]
قال آخر: المؤمن يشعر أنه يعيش بإيمانه وعمله الصالح مع أنبياء الله ورسله المقربين، ومع كل صديق وشهيد وصالح من كل أمة وفي كل عصر: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]
ربوبيون وربانيون (3/140)
قال آخر: وأي إنسان أسعد ممن يرافق هؤلاء ويرافقونه؟ إنها ليست مرافقة جسد وصورة، ولكنها مرافقة روح ووجدان، وفكر وقلب، وكفى أنه (معهم)، وليس خلفهم، ولا قريبا منهم.
قال آخر: ولا يحسبن امرؤ من الناس أن مرافقة هؤلاء للمؤمن شيء هين ضئيل، أو أمر خيالي موهوم، فإنه لفرق كبير دين إنسان تاريخه هو تاريخ شخصه أو أسرته، أو حزبه مثلا، فهو قريب القاع، سطحي الجذور، وإنسان تاريخه هو تاريخ الإيمان والهدى من عهد آدم، تاريخه هو تاريخ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد من أولي العزم من الرسل، ومن غيرهم من أصحاب النبوات والرسالات منذ بعث الله رسولا، وأنزل كتابا، فهو يستلهم هذا التاريخ المؤمن الحافل في كل ما ينزل به من أحداث، وما يعرض له من مشكلات، وما يقف في سبيله من عوائق، ويجد فيه الأسوة والهداية كما يجد فيه السلوى والعزاء، كما يجد فيه الأنس والود، ومن كل ذلك يأخذ الزاد لفكره، والنور لقلبه، والمدد لإرادته.
قالوا: عرفنا السبب السادس.. فما السبب السابع؟
قال أحد الزوار: السبب السابع هو ما أتيح للمؤمن من مناجاة ربه في الصلاة والدعاء والذكر.. وذلك كله مما لا يجده الماديون، وإنما هو نعيم خالص للمؤمنين.
قال آخر: فالصلاة لحظات ارتقاء روحي يفرغ المرء فيها من شواغله في دنياه، ليقف بين يدي ربه ومولاه ويثني عليه بما هو أهله، ويفضي إليه بذات نفسه: داعيا راغبا ضارعا.
قال آخر: وفي الاتصال بالله العلي الكبير قوة للنفس، ومدد للهزيمة، وطمأنينة للروح.
قال آخر: لهذا جعل الله الصلاة سلاحا للمؤمن يستعين بها في معركة الحياة، ويواجه
ربوبيون وربانيون (3/141)
بها كوارثها وآلامها، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153].. وكان محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ولم تكن صلاته مجرد شكل أو رسم يؤدى، وإنما كانت استغراقا في مناجاة الله، حتى أنه كان إذا حان وقتها قال لمؤذنه بلال في لهفة المتشوق واشتياق الملهوف: (أرحنا بها يا بلال).. وكان يقول: (جعلت قرة عيني في الصلاة)
قال آخر: أي سكينة يشعر بها المؤمن حين يلجأ إلى ربه في ساعة العسرة ويوم الشدة، فيدعوه بما دعا به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل: (اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنى الدين، وأغنني من الفقر) (1)
قال آخر: وأي طمأنينة ألقيت في قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم عاد من الطائف دامي القدمين، مجروح الفؤاد من سوء ما لقي من القوم، فما كان منه إلا أن رفع يديه إلى السماء يقرع أبوابها بهذه الكلمات الحية النابضة التي دعا بها محمد ربه، فكانت على قلبه بردا وسلاما: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا
__________
(1) رواه مسلم.
ربوبيون وربانيون (3/142)
قوة إلا بالله) (1)
قالوا: عرفنا السبب السابع.. فما السبب الثامن؟
قال أحد الزوار: السبب الثامن هو أن المؤمن لا يعيش بين (لو) و(ليت).. ذلك أن من أهم عوامل القلق الذي يفقد الإنسان سكينة النفس وأمنها ورضاها هو تحسره على الماضي وسخطه على الحاضر، وخوفه من المستقبل.
قال آخر: إن بعض الناس تنزل به النازلة من مصائب الدهر، فيظل فيها شهورا وأعواما، يجتر آلامها ويستعيد ذكرياتها القاتمة، متحسرا تارة، متمنيا أخرى.. شعاره: ليتني فعلت، وليتني تركت، لو أنى فعلت كذا لكان كذا.
قال آخر: ولذا ينصح الأطباء النفسيون، والمرشدون الاجتماعيون، ورجال التربية، ورجال العمل، أن ينسى الإنسان آلام أمسه، ويعيش في واقع يومه، فإن الماضي بعد أن ولى لا يعود.
قال آخر: ولكن الضعف الإنساني يغلب على الكثيرين، فيجعلهم يطحنون المطحون ويبكون على أمس الذاهب، ويعضون على أيديهم أسفا على ما فات، ويقلبون أكفهم حسرة على ما مضى.
قال آخر: وأبعد الناس عن الاستسلام لمثل هذه المشاعر الأليمة، والأفكار الداجية هو المؤمن الذي قوي يقينه بربه، وآمن بقضائه وقدره، فلا يسلم نفسه فريسة للماضي وأحداثه، بل يعتقد أنه أمر قضاه الله كان لابد أن ينفذ، وما أصابه من قضاء الله لا يقابل بغير الرضى والتسليم.
__________
(1) رواه الطبراني.
ربوبيون وربانيون (3/143)
قال آخر: إن المؤمن لا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن يقول: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) (1)
قال آخر: إن المؤمن يوقن أن قدر الله نافذ لا محالة، فلم السخط؟ ولم الضيق والتبرم؟ والله تعالى يقول: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 22 ـ 23]
قال آخر: وفي غزوة أحد التي قتل فيها سبعون من المسلمين، نعى القرآن على طائفة من المنافقين ومرضى القلوب، وضعاف الإيمان، عاشوا بين (لو) المتندمة و(ليت) المتحسرة، فيقول: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154]
قال آخر: ويرد على أولئك الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا: ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: 168]
قال آخر: إن شعار المؤمن دائما: (قدر الله وما شاء فعل.. والحمد لله على كل حال).. وبهذا لا يأسى على ما فات، ولا يحيا في خضم أليم من الذكريات، وحسبه أن يتلوا قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11]
__________
(1) رواه مسلم.
ربوبيون وربانيون (3/144)
قالوا: عرفنا السبب الثامن.. فما السبب التاسع؟
قال أحد الزوار: السبب التاسع هو أن المؤمن يعيش في حالة رضا تام عن ربه.. ولذلك لا يصيبه ذلك التشتت والألم الذي يصيب الساخطين المعترضين.. لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال أحد الزوار: (إن الله عز وجل بقسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الغم والحزن في السخط والشك) (1)
قال آخر: ففي هذا الحديث الشريف كشف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حقيقة نفسية باهرة، فكما أن سنة الله قد ربطت الشبع والري بالطعام والشراب في عالم المادة، فإن سنته تعالى في عالم النفس والروح قد ربطت الفرح والروح والسرور وراحة النفس بالرضا واليقين.. فبرضا الإنسان عن نفسه وربه يطمئن إلى يومه وحاضره، وبيقينه بالله والآخرة والجزاء، يطمئن إلى غده ومستقبله.. ومن غير المؤمن في رضاه عن يومه، ويقينه بغده؟ كما ربطت سنة الله الغم والحزن بالسخط والشك.
قال آخر: فالساخطون والشاكون لا يذوقون للسرور طعما.. إن حياتهم كلها سواد ممتد، وظلام متصل، وليل حالك لا يعقبه نهار ولا يرتقب له فجر صادق.
قال آخر: وقد ربط الحديث النبوي الكريم بين السخط والشك، وهما متلازمان، فلا سخط من غير شك، ولا شك من غير سخط،
قال آخر: ولذلك ترون الساخط دائم الحزن، دائم الكآبة، ضيق الصدر، ضيق الحياة، ضيقا بالناس، ضيقا بنفسه، ضيقا بكل شيء، كأن الدنيا ـ على سعتها ـ في عينيه سم الخياط.
__________
(1) رواه الطبراني.
ربوبيون وربانيون (3/145)
قال آخر: إن شعور الإنسان بالرضا من أول أسباب السكينة النفسية التي هي سر السعادة.. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سعادة المرء استخارته ربه، ورضاه بما قضى، ومن شقاء المرء تركه الاستخارة وعدم رضاه بعد القضاء) (1)
قال آخر: والمؤمن وحده هو الذي يغمره الإحساس بالرضا بعد كل قدر من أقدار الله.. والرضا نعمة روحية جزيلة، هيهات أن يصل إليها جاحد بالله، أو شاك فيه، أو مرتاب في جزاء الآخرة، إنما يصل إليها من قوي إيمانه بالله وحسن اتصاله به، وقد خاطب الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ [طه: 130] وامتن عليه بقوله: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 5]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا) (2)
قال آخر: وأثنى الله تعالى على المؤمنين بقوله: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة: 119]
قالوا: عرفنا السبب التاسع.. فما السبب العاشر؟
قال أحد الزوار: السبب العاشر هو أن المؤمنين ـ بسبب إيمانهم ـ أهل حلم وصبر وتواضع وتسامح وحياء: ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]
قال آخر: ولذلك يعرفون بطول الصمت، وتواصل الفكر، وخفض الصوت، والبعد عن الهرج والصخب والتلاعن.
__________
(1) رواه البزار ومعناه عند أحمد والترمذي.
(2) رواه أحمد ومسلم والترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/146)
قال آخر: ويعرفون بالتأني والاتقان والإحسان فيما يعهد إليهم من أعمال.
قال آخر: ويعرفون بالدماثة ولين الطبع والصدق والوفاء والاعتدال في الأخذ من كل شيء.
قال آخر: وهذا كله يدل على انسجام عناصر النفس والتوافق بين متناقضاتها، وانقيادها في خضوع وسلاسة لصاحبها وهي أمر لا يوهب إلا للمؤمن.. لأن علاقة المؤمن بماحوله علاقة متميزة مختلفة.. علاقته بالأمس والغد وعلاقته بالموت.. وعلاقته بالناس.. وعلاقته بعمله ونظرته للأخلاق.
قام بعض المرضى، وقال: لقد وعينا ما ذكرت.. ونعم ما ذكرت.. ولكنا نريد أن تبين لنا المفاتيح التي تنفتح بها مغاليق الهمم من نفوسنا المكدرة بسموم اليأس.
قال أحد الزوار (1): لا شك أنكم تعلمون أن النفس الإنسانية تمر بحالات شديدة التباين خلال مسيرتها في الحياة.. فبينما تشرق أحيانا، ويملؤها الطموح، ويدفعها الأمل لتحقيق لمعجزات.. تدهمها أمواج اليأس ـ في أحيان أخرى ـ فتنهزم أمام المصائب والصعوبات والمخاوف.
قال آخر: ولا شك أنكم تعلمون أن من أخطر ما يهدد سلام النفس الإنسانية، ويقضي على مقدراتها استسلامها للإحباط والهزيمة الداخلية.. واستشعارها أن شيئا مما فسد لا يمكن إصلاحه، وأن الأجدى ـ وقد انسكب اللبن ـ أن نعكف عليه باكين نادمين بدلا من القيام والبحث عن حل.
__________
(1) رجعنا في هذا المطلب لمقال مهم بعنوان (المنهج الإسلامي في علاج الهزيمة النفسية)
ربوبيون وربانيون (3/147)
قال آخر: ولا شك أنكم تعلمون أن الشعور بالإحباط والهزيمة النفسية يقضي على أي أمل للإصلاح.. فبدلا من الكد في سبيل الخروج من الأزمة يكتفي المحبط بالعويل واعتبار نفسه شهيد المصيبة! ومن ثم يعزو كل فشل لاحق إلى مصيبته التي وقع فيها ـ أو أوقع نفسه ـ ومن ثم تسلمه كل مصيبة وهزيمة إلى أختها أو أكبر منها!
قام بعض المرضى، وقال: نحن لا نشك في كل ما ذكرت.. لكنا نريد العلاج.. لقد شخصت الداء، ونحن نطالبك أن تتفضل علينا بالعلاج.
قال أحد الزائرين: ما دمتم قد سلمتم لكل ما ذكرنا لكم.. فسنذكر لكم الآن عشرة مفاتيح تنفتح بها المنافذ التي يسدها الشيطان في وجه الأمل.
قال آخر: وسنستعير هذه المفاتيح من فيض النور الأزلي كلام رب العالمين الذي شرح الله به الصدور، ورفع به الهمم، وأحيا به الأمل.
قال آخر: وسنستعير في ذلك ما نزل من القرآن الكريم في غزوة من غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسمى (غزوة أحد) أصاب المسلمين فيها بعض ما يمكن أن يسمى هزيمة (1).. وكان من الممكن أن يضع ذلك المسلمين في أجواء من الكآبة والحزن والإحباط.. ولكن الله تعالى برحمته أنقذهم من كل ذلك، لينهضوا في فترة قصيرة جدا لإكمال ما عهد إليهم من رسالة، غير متأثرين بأي ألم أو إحباط.
قال آخر: لقد نزلت آيات من القرآن الكريم تخاطب ذلك الجيل.. وتخاطب معه كل من وقع في بلاء أو مصيبة.. وكان من ذلك الخطاب هذه المفاتيح العشرة.
قالوا: فما المفتاح الأول؟
__________
(1) ذكرنا في كتاب (النبي المعصوم) النواحي الإيجابية الكثيرة المرتبطة بما حصل في غزوة أحد.
ربوبيون وربانيون (3/148)
قال أحد الزوار: هو ما يشير إليه قوله تعالى، وهو يخاطب عباده المنكسرين نفسيا من آثار تلك الغزوة..: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]
قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟
قال أحد الزوار: إن ما ذكرته الآية الكريم هو المفتاح الأول.. وهو مفتاح يرفع الروح المعنوية للنفس بلفت نظرها إلى الجوانب الإيجابية في الفرد والأمة.
قال آخر: لقد كان ذلك الخطاب خطابا واقعيا، ولم يكن تحذيرا لنفوسهم أو تسكينا مؤقتا لآلامهم.. تعالى الله عن ذلك.. فليس هناك شخص مركب من شر محض أو فشل محض أو ضعف محض.. إن بكل إنسان جوانب قوة وجوانب ضعف.. ولابد من لفت نظر الإنسان المنكسر نفسيا إلى جوانب القوة الحقيقية فيه ليحسن توظيفها في التغلب على جوانب ضعفه.
قال آخر: ولذلك، فإنه يخاطَب بهذا المعنى كل إنسان فقد مقوما من مقومات نجاحه في الحياة.. كمن فقد مالا أو صحة أو حاسة.. بل حتى لمن فقد عزيزا لديه كان يحسبه سنده الوحيد في الحياة ويرى الحياة صفرا يدونه.
قال آخر: ويخاطَب أيضا بهذا المعنى المجتمع المنكسر لضعفه وقوة عدوه أو غلبة العوائق على طريق تقدمه.
قال آخر: ولسنا بحاجة إلى التأكيد أن هذا العلاج لا يعني أن ينتشي المنكسر والمهزوم نفسيا، فيقعد عن علاج أزماته طالما أنه يحوز إيجابيات عديدة، وإلا لما شرط الله علو المؤمنين في الآية السابقة بالإيمان الذي يقتضي منطقيا العمل والبذل وعدم القعود دون المنازل العالية.
قالوا: عرفنا المفتاح الأول.. فما المفتاح الثاني؟
ربوبيون وربانيون (3/149)
قال أحد الزوار: هو ما يشير إليه قوله تعالى في هذه الغزوة: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ [آل عمران: 166 ـ 167]
قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟
قال أحد الزوار: إن هذه الآية الكريمة تذكر النفوس اليائسة بأن الألم قد يحوي من الخير والنفع والأمل ما لا قد تفطن النفس لرؤيته، فتنحجب بالألم عن الأمل.
قال آخر: لقد ذكر الله ذلك في مواضع من القرآن.. فالله تعالى يقول: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، ويقول: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19].. ففي هذه النصوص يلفت الله انتباه المؤمنين إلى أن أي مصيبة لابد أن تنطوي على نقاط مضيئة وجوانب إيجابية.
قالوا: عرفنا المفتاح الثاني.. فما المفتاح الثالث؟
قال أحد الزوار: تعميق الإيمان بأن المصائب أمر مقدر.. كتب الله لكل مخلوق حظه منه من قبل أن يوجد.
قال آخر: نعم هناك أسباب مادية واقعية تقود إلى المصيبة، ولكن هذا لا ينفي ارتباط الأمر ـ من قبل ومن بعد ـ بقضاء الله وقدره.. وإنما يتحرك الإنسان سعيا لجلب نفع أو دفع ضر، لأن الله أمره بالأخذ بالأسباب وهو مأجور على العمل والسعي ما دام موافقا للشرع.. كما أنه يتحرك لذلك وهو موقن أن الله قادر على تعطيل الأسباب وقادر كذلك على إنفاذها.
قال آخر: فالإنسان وأهل الأرض جميعا إن اجتمعوا على دفع مصيبة قدرها الله لن يستطيعوا مهما أوتوا من أسباب.
قال آخر: وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته التربوية المعجزة التي وجهها لقلب المنكسر وعقله حين قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز وإن
ربوبيون وربانيون (3/150)
أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا.. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان) (1)، وما عمل الشيطان المقصود هنا سوى ذلك الإحباط الذي يسيطر على النفس أمام فرصة فائتة أو خطب نازل.
قالوا: عرفنا المفتاح الثالث.. فما المفتاح الرابع؟
قال أحد الزوار: توجيه المؤمنين بعد مصيبة أحد إلى إمكانية استئناف المسير وفتح صفحات ناصعة إذا هم أحسنوا التوبة مما وقعوا فيه من أخطاء مهما كانت، وإن كانت ضخمة كالفرار من الزحف أو مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال آخر: نعم.. قد يخطئ الإنسان أخطاء كبيرة أو صغيرة ولكن الحياة لن تنتهي عند حدود الأخطاء التي وقعت طالما أن باب الإصلاح والتوبة مفتوح.. المهم أن يسارع المخطئ إلى تدارك الأمر.. اسمع إلى قوله تعالى في هذا: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 133 ـ 136]
قالوا: عرفنا المفتاح الرابع.. فما المفتاح الخامس؟
قال أحد الزوار: هو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وابن ماجة.
ربوبيون وربانيون (3/151)
قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 146 ـ 148]
قالوا: فما في هذه الآية من مفاتيح الأمل؟
قال أحد الزوار: إن القرآن لكريم في هذه الآيات يسلك سبيلا آخر حكيما إلى النفوس المنكسرة يمسح عنها الأسى حين يلفت أنظارها دائما إلى عبرة الماضي المتكررة وهي أن السقوط يعقبه قيام ونصر لمن سار على الدرب.
قال آخر: وهذا منهج قرآني تكرر في غير هذا الموضع في مواجهة أزمات مرت بالمسلمين واقتربت بهم من دائرة الإحباط.. فتجد أن الله ينزل سورتين متواليتين في العام العاشر من البعثة في أواخر العهد المكي حين ضاق الحال تماما برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة تكذيبا وإيذاء وصدودا عن لحق، فتنزل القرآن بسورة هود وما حوته من قصص لرسل سابقين وكيف صبروا وثبتوا حتى جاءهم نصر الله.. ثم يختتمها الله تعالى بقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود: 120]
قال آخر: فتعرف أخبار السابقين المشابهة يثبت القلب ويزيل اليأس ويلقي في روع المهموم أن ما أصابك من هم لم يكن جديدا اختصصت به دون غيرك، بل سبقك إلى ساحة الامتحان آخرون مثلك فنجحوا وعبروا الأحزان.
قال آخر: كما تنزلت بعدها سورة (يوسف).. وليس بخاف ما تحفل به من سلوى للمصابين وآمال لليائسين من خلال العديد من المآزق التي تعرض لها يوسف عليه السلام فصبر وثبت حتى نجاه الله منها جميعا.. إلى جانب الأزمة العنيفة المتصاعدة التي مرت
ربوبيون وربانيون (3/152)
بيعقوب عليه السلام والمتجسد في فقد أحد بنيه، ثم تزيد بفقد التالي له في المنزلة بعد سنوات من الصبر.
قالوا: عرفنا المفتاح الخامس.. فما المفتاح السادس؟
قال أحد الزوار: هو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آل عمران: 140]
قالوا: فما في هذا من العلاج؟
قال أحد الزوار: في هذه الآية الكريمة يلفت القرآن أنظار المسلمين تعقيبا على أحد إلى أن الألم الذي أصابهم قد أصاب عدوهم مثله، فلم يخرج عدوهم من المعركة ـ وإن بدا منتصرا ـ سالما من الجراح والآلام.. وبذلك، فإن كفاح المؤمنين ضد عدوهم لم يذهب سدى، بل إن عدوهم قد أصابه ما أصابهم من أذى (قرح مثله).. وهي سنة ماضية في معركة الحق مع الباطل فصلها الله في موضع آخر من كتابه حين قال أحد الزوار: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ [النساء: 104]
قال آخر: ولا ريب أن فرقا كبيرا بين من هزم وهو يرى عدوه مكتمل الفوز والانتصار، ومن هزم وهو يشعر أنه هو أيضا قد نجح في النيل من عدوه ولو بعض النيل.. شتان بين النفسيتين!!
قالوا: عرفنا المفتاح السادس.. فما المفتاح السابع؟
قال أحد الزوار: هو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]
قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟
قال أحد الزوار: كما يربي القرآن الكريم المنهزمين نفسيا على أن الجراح والآلام
ربوبيون وربانيون (3/153)
ليست حكرا عليهم دون أعدائهم يوجه أبصارهم نحو سنة كونية ثابتة متى استقرت في النفس المحبطة عاودها الأمل من جديد.. تلك السنة هي المتمثلة في أن من شأن الأحوال أنها لا تثبت على هيئة واحدة، بل من شأن المقاعد أن يتبادلها الجالسون كل حين عليها، فلا المهزوم يظل مهزوما، ولا المنتصر يظل منتصرا.. وكذلك الغني والفقر والصحيح والسقيم.
قال آخر: وإذا فهم المحبط ذلك أيقن بلا شك أن بالإمكان حتما أن يتجاوز دائرة إحباطه التي تسيطر عليه لأن الأحوال حتما تمضي إلى تبدل، وخير له أن يستثمر هذا التحول لصالح النهوض من كبوته.
قالوا: عرفنا المفتاح السابع.. فما المفتاح الثامن؟
قال أحد الزوار: ما أشار إليه القرآن الكريم ـ تعقيبا على تلك الغزوة ـ من أن الإنسان يوم القيامة يحاسب على عمله الذي كسبته يداه، ولا يحاسب على النتائج المترتبة على فعله هذا.
قال آخر: والإسلام يرسخ هذا المعنى في نفوس المؤمنين، لأن العامل قد يحسن العمل، ثم لا تأتي النتيجة على المستوى المطلوب فيحبط ويشعر بالفشل.
قال آخر: فلذلك يربط القرآن الجهود والخطط بما تستطيع النفوس تحقيقه، لا بما يتعلق بالغيب والقدر المحض.
قال آخر: ومن ثم يربط القرآن المؤمنين ـ في كفاحهم عبر الحياة ـ بثواب الآخرة المستقر اليقيني المترتب مباشرة على عملهم، فترى الله عز وجل يقول عن المؤمنين المجاهدين في سبيله: ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ﴾ [آل عمران: 148].. فالثواب الحسن حقا هو ثواب الآخرة.
ربوبيون وربانيون (3/154)
قال آخر: أما الذين كفروا فحتى لو حققوا انتصارا ـ أي: نتيجة حسنة ـ فيهم من الخاسرين في الآخرة (لسوء عملهم) يقول تعالى: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: 196 ـ 197]، ويقول: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 176]
قالوا: عرفنا المفتاح الثامن.. فما المفتاح التاسع؟
قال أحد الزوار: ذلك ما أشار إليه القرآن الكريم من أن طول القعود عقب الهزيمة يوجب العقاب من رب العالمين.. وذلك حتى يعلم الإنسان أن واجبه عقب الانكسار أن يبادر بالنهوض وإصلاح ما فات، فالعمر ضيق لا مجال فيه لطول القعود يأسا وإحباطا، والفرص المتاحة قد لا تظل متاحة إلى الأبد.
قال آخر: ولذلك يقول الله تعالى معالجا أشد ساعات الهزيمة النفسية لدى المؤمنين يوم أحد: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144]
قال آخر: لقد فقه هذا المعنى رجلان من الأنصار ـ قبل أن تنزل الآية الكريمة ـ فهذا أنس بن النضر يصيح بأولئك الذين أحبطوا وقعدوا عن القتال لما سمعوا بمقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما تصنعون بالحياة بعده!؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه).. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل.
قال آخر: أما الآخر فكان ثابت بن الدحداح.. فقد كان يصيح بأصحابه الأنصار يوم أحد بعد الانكسار والهزيمة: (إن كان محمد قد قتل فإن الله حتى لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم).. فربط السعي بالله الباقي.. ومن كانت هذه جهة
ربوبيون وربانيون (3/155)
سعيه فلن ييأس لأنها جهة مفتوحة على الدوام.
قال آخر: بهذا المنهج الإسلامي الفريد قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إلى الخروج من أزماتهم كلها ومنها أزمة أحد.. فها هو صلى الله عليه وآله وسلم بعد أحد بيوم واحد يتخذ القرار لمطاردة المشركين العائدين إلى مكة بما يشبه الانتصار.. وأصر صلى الله عليه وآله وسلم ألا يأخذ معه في هذا الخروج إلا من اشترك في أحد، وقال أحد الزوار: (لا يخرج معنا إلا من شهد القتال)، برغم أن أولئك الذين شهدوا القتال بالأمس سيخرجون اليوم والجراح تملأ أجسادهم ونفوسهم جميعا.. إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يداوي هذه النفوس الكسيرة بعمل من شأنه أن يرفع معنوياتهم ويرد إليهم هيبتهم ويضعف من حلاوة النصر لدى قريش إذا اختتم المشهد بمطاردتهم إلى مكة!!
قال آخر: وقد كان هذا القرار النبوي العظيم قرارا تربويا من الدرجة الأولى.. فقد تعمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ الذين شاركوا في (أحد) مع ما بهم من جراح وآلام ونفسية سيئة مهزومة، وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ليقول لهم: إنه يثق بهم تماما، وبقدراتهم وكفاءاتهم.. بل وبإيمانهم وعقيدتهم.. وأن ما حدث في (أحد) لم يكن إلى حدثا عابرا يندر تكراره، وأن الأمل فيهم كبير، والنصر لهم حليف إن شاء الله.
قال آخر: وخرج المسلمون للقتال في إصرار، وعسكروا في (حمراء الأسد) وهو مكان علي بعد ثمانية أميال من المدينة.. وكان جيش قريش معسكرا على بعد ستة وثلاثين ميلا.. فلما سمعوا بمقدم المسلمين ترددوا في قتالهم وأرسلوا إليهم من يخوفهم من أعداد المشركين وقوتهم.. ولكن هذا التهديد الآن صادف نفوسا عادت إليها قوتها وعافيتها، فما تأثرت نفوس المؤمنين قيد أنملة بل على العكس ازداد إصرارهم على القتال، وازدادوا رغبة في الخروج من الأزمة، وإعادة الكرة على الكافرين..
قال آخر: وإزاء هذا الإصرار من قبل المؤمنين فر المشركون وتجنبوا القتال مع كثرة
ربوبيون وربانيون (3/156)
عدهم وقوة عدتهم.. وخرج المسلمون من أزمتهم بنجاح.
قال آخر: وهكذا يصنع الإصرار في نفوس أصحابه وفي نفوس خصومهم.
قالوا: عرفنا المفتاح التاسع.. فما المفتاح العاشر؟
قال آخر: قال أحد الزوار: هو ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 172 ـ 174]
قالوا: فما في هذا من مفاتيح الأمل؟
قال أحد الزوار: في هذه الآيات الكريمة يمجد الله أصحاب حمراء الأسد.. مع أنهم هم أهل أحد الذين وقعوا في أخطاء الأمس، ولكنهم أحسنوا الخروج من آثار أخطائهم.. فاستحقوا ذلك التمجيد العظيم.
قال آخر: وبذلك يكون الأمل هو المفتاح الوحيد الذي يعالج الألم، ويكسر الإحباط، ويصحح المسير.
ما إن وصل الزوار من حديثهم إلى هذا الموضع حتى قام جميع المرضى يهللون ويكبرون.. وقد عجبت إذ رأيت صاحبي ـ صاحب المستشفى ـ يهلل ويكبر معهم.. ولم أملك ـ حينها ـ إلا أفعل ما يفعلون، وأصيح بما يصيحون.
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن المشهد الذي عرفت به الرحمة المرتبطة بالفقراء،
ربوبيون وربانيون (3/157)
وعلاقتها بالدين.
قال: لقد شاء الله أن يكون هذا المشهد في جمعية خيرية تهتم برعاية الفقراء والمحتاجين، لا من حيث حاجاتهم المادية فقط، وإنما من حيث دينهم أيضا.
وقد أسسها صاحب لنا من المبشرين بالمسيحية، ولذلك كان اهتمامها بالفقراء دينيا يربو على اهتمامها بهم ماديا.. ولذلك جعلت شعارها (أطعم الفقراء فكرا قبل أن تطعمهم خبزا)
وقد صادف ذلك اليوم الذي سرت فيه إليها أن رأيت صاحب الجمعية بنفسه قد اجتمع لديه الفقراء، وهو يخطب فيهم بلهجة ممتلئة بالحماسة.. وكان مما سمعته منه قوله (1): اسمحوا لي حضرات الأصدقاء الأفاضل أن أتحدث إليكم كصديق كلاما كله في صالحكم.. أدعوكم من خلاله إلى إعادة النظر وتقليب الفكر في الحياة التي تحيونها، والتوجهات التي اخترتموها أو ورثتموها.. فعساكم تجدون في ذلك التأمل ما يدلكم على المخرج الذي يخرجكم مما تعانون منه من الفقر والحرمان.
سكت قليلا، ثم قال: ثم لا تنتظروا بعد مني أن أدلكم على أي حل.. لأن الحل بسيط جدا.. وستجدونه عندما تعرفون سبب المعاناة التي تعانونها.. فإنه إذا إدرك السبب شخص الداء.. وإذا شخص الداء عرف الدواء.. ولتشخيص الداء تعالوا نبحث في خارطة العالم عن أكثر الشعوب فقرا.. ثم نبحث عن سر كونها أفقر من غيرها.
ثم فتح كتابا كان بين يديه، وقال: لقد وضع علماء الاجتماع مقاييس كمية لمدى انتشار الحرمان في العالم باعتماد مؤشرات تقريبية معينة.. منها نقص التغذية في الفرد.. ومنها
__________
(1) لخصنا هنا ما ذكرناه في كتاب: رحمة للعالمين، ص 204، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (3/158)
متوسط العمر المتوقع عند ولادته.. ومنها مدى انتشار الأمية، وغيرها.. وهذا تصنيف علمي واقعي دقيق.. فالتغذية حاجة بدنية أساسية لازمة.. وأما متوسط عمر الفرد فيعكس مدى تأثير مختلف أنواع الحرمان.. وأضيف إلى هذين المقياسين البيولوجيين، عنصر الأمية كمؤشر للحرمان من التطور الاجتماعي.. وتعطي هذه المؤشرات الثلاثة، بنظر خبراء الأمم المتحدة، صورة موجزة وواضحة لمدى انتشار الفقر في مظاهره الشائعة.
سكت قليلا، ثم قال: وعلى هذا الأساس صنفت هيئة الأمم المتحدة عام 1971 م دول العالم حسب المقاييس، في جدول مقسم إلى ثلاث فئات: دول متقدمة، ودول نامية فقيرة، ودول معدمة، وهي أكثر بلاد العالم فقرا وتخلفا.. أما الفئة الأولى ـ المتقدمة ـ فتشكل 25 بالمائة من سكان العالم وهي في 37 دولة تعدادها حوالي (1100) مليون نسمة.. والدول النامية تشكل، مع الدول المعدمة 75 بالمائة من سكان العالم، ومجموع دولها ـ آنذاك ـ دولة، أما سكانها فيبلغون (3000) مليون نسمة.. وحددت الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1971 م الدول المعدمة ـ الأكثر تخلفا ـ بـ 24 دولة ثم أضيفت إليها أربع دول أخرى عام 1975 م، وزيدت ثلاث أخرى عام 1977 م، وأخيرا رفعوها إلى ست وثلاثين دولة بعد إضافة خمس دول أخر.. وقالوا: إن هذه الدول الأقل نموا (1) دولة منها في إفريقيا، وفي آسيا، وفي أوقيانوسيا وواحدة في أمريكا.. هذا ما ذكروه.. أو بالأخرى هذا ما ذكرته الإحصائيات العلمية الدقيقة.
ركز نظره للحضور المتعجبين من حديثه هذا، وقال: أتدرون ما وجه العجب في هذا؟
__________
(1) صنفت هكذا على أساس شروط ثلاثة قائمة فيها، هي أن إجمالي الدخل القومي للفرد كان أقل من (100) دولار أمريكي في العام، وكان نصيب الصناعة من إجمالي الدخل القومي لا يتعدى 10 بالمائة. وكانت نسبة الأمية فيها 80 بالمائة أو أكثر.
ربوبيون وربانيون (3/159)
سكتوا، فأجاب نفسه يقول: إن وجه العجب هو أن أغلبية سكان هذه الدول (في آسيا وأفريقيا).. هم من المسلمين، وأربع دول منها أعضاء في جامعة الدول العربية!!.. أتدرون سر ذلك؟
كان الجالسون أمامه.. والذين عضهم الفقر بنابه لا يكادون يدركون شيئا مما قال، لقد كانت لهفتهم إلى الخبز أشد من لهفتهم للمعلومات والمعاني التي يريد أن يقنعهم بها.. فلذلك لم يجد إلا أن يجيب نفسه بقوله: سر ذلك يكمن في الإسلام.. لقد اكتشفت من خلال دراسة موضوعية متأنية استغرقت مني عقودا من عمري أن الإسلام هو الدين الوحيد من أديان العالم الذي شجع على الفقر، ودعا إليه، وطلب من الفقراء أن يظلوا على فقرهم.. بل توعدهم بأنهم لو فكروا في الخروج من فقرهم، فإنهم بذلك يحاربون إرادة الله في قسمته بين عباده.
سكت قليلا، ثم قال: لقد زرت.. بل عشت، أياما وأشهرا، في كثير من الحواضر الكبرى في ديار المسلمين.. لقد عشت في (لاغوس) في نيجيريا و(القاهرة) في مصر و(كراتشي) في باكستان، و(جاكرتا) في إندونيسيا و(داكا) في بنغلادش؛ ورأيت فيها جميعا التناقض المخيف بين من يملكون الملايين ومن لا يملكون شروى نقير (1).
فتح كتابا كان بين يديه، وقال: اسمعوا لما يقول نبي المسلمين، وهو يشجع الفقراء على الرضوخ لفقرهم والاستسلام له: (اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء) (2).. وقال: (قمت على باب الجنة؛
__________
(1) انظر (الحرمان والتخلف في ديار المسلمين) نبيل صبحي الطويل.
(2) رواه أحمد وابن حبان.
ربوبيون وربانيون (3/160)
فإذا عامة من دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون) (1)
قلب بعض الصفحات من الكتاب، ثم قال: وقد قرأت في بعض الكتب هذا النص الذي نقلته لكم حرفيا لتدركوا السلبية التي يحملها الإسلام، والتي هي السر في كون المسلمين هم أفقر أمم العالم.
ثم راح يقرأ: (إن أخيار الصحابة كانوا للمسكنة محبين، ومن خوف الفقر آمنين، وبالله في أرزاقهم واثقين، وبمقادير الله مسرورين، وفي البلاء راضين، وفي الرخاء شاكرين، وفي الضراء صابرين، وفي السراء حامدين، وكانوا لله متواضعين، وعن حب العلو والتكاثر ورعين.. لم ينالوا من الدنيا إلا المباح لهم بالبلغه منها وزجوا الدنيا وصبروا على مكارهها وتجرعوا مرارتها وزهدوا في نعميها وزهرتها، فبالله أكذلك أنت؟ ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا وقالوا: ذنب عجلت عقوبته من الله، وإذا رأوا الفقر مقبلا قالوا: مرحبا بشعار الصالحين، وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء أصبح كئيبا حزينا، وإذا لم يكن عندهم شيء أصبح فرحا مسرورا، فقيل له: إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا، وإذا كان عندهم شيء فرحوا، وأنت لست كذلك! قال: إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت إذ كان لي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة، وإذا كان عند عيالي شيء اغتممت إذ لم يكن لي بآل محمد أسوة، وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا وقالوا: ما لنا وللدنيا وما يراد بها فكأنهم على جناح خوف، وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا وقالوا: الآن تعاهدنا ربنا، فهذه أحوال السلف ونعتهم) (2)
قلب صفحات أخرى، ثم قال: ليس ذلك فقط.. اسمعوا ما يقول هنا.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) إحياء علوم الدين (3/ 267)
ربوبيون وربانيون (3/161)
راح يقرأ: (لو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى بنبيك إذ هداك الله به، وترضى ما اختاره لنفسه من مجانبة الدنيا، ويحك! تدبر ما سمعت وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا، فسر مع لواء المصطفى سابقا إلى جنة المأوى، فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء، وإذا استقرض لم يجد قرضا، وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه، ولم يقدر على أن يكتسب ما يغنيه، يمسي مع ذلك ويصبح راضيا عن ربه)، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. ألا يا أخي متى جمعت هذا المال بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر وللفضل تجمعه، لا! ولكنك خوفا من الفقر تجمعه، وللنعم والزينة والتكاثر والفخر والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه، ثم تزعم إنك لأعمال البر تجمع المال: راقب الله واستحي من دعواك أيها المغرور.. ويحك إن كنت مفتونا بحب المال والدنيا فكن مقرا أن الفضل والخير في الرضا بالبلغة ومجانبة الفضول، نعم وكن عن جمع المال مزريا على نفسك معترفا بإساءتك وجلا من الحساب، فذلك أنجى لك وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج لجمع المال.. إخواني اعلموا أن دهر الصحابة كان المال فيه موجودا وكانوا مع ذلك من أورع الناس وأزهدهم في المباح لهم، ونحن في دهر الحلال فيه مفقودا وكيف لنا من الحلال مبلغ القوت وستر العورة، فأما جمع المال في دهرنا فأعاذنا الله وإياكم منه) (1)
بعد أن تحدث بما تحدث به مما ذكرت لكم بعضا منه، قام الوكلاء بتوزيع الطعام على الفقراء، وأثناء توزيعه لهم قال أحدهم: هلموا إلى الطعام الذي باركه المسيح.. وصنعته
__________
(1) إحياء علوم الدين (3/ 271)
ربوبيون وربانيون (3/162)
لكم يد هذه الحضارة.. فلا تنسوا أن تشكروهما.. ولا تنسوا أن تتأملوا المعاني العظيمة التي شرحها لكم حضرة الأب الفاضل.
قال آخر: ونرجو ألا تسيئوا فهمه.. فهو مع كونه رجلا كبيرا من رجال المسيحية إلا أنه لم يتفوه بلفظة واحدة يدعوكم فيها للمسيحية.. ذلك أن الإيمان بالمسيح يطلب نفوسا في غاية السمو والقداسة والترفع.
قال آخر: ولذلك هو لم يطلب منكم أن تكونوا مسيحيين، بل طلب منكم فقط شيئا واحدا هو أن لا تميلوا بكل قلوبهم لذلك القاسي الغليظ الذي كان سبب فقركم وحرمانكم وألمكم، وبعد ذلك ولوا وجوهكم أي وجهة شئتم.. مما دلكم عليها الدليل، أو هداكم إليها البرهان.
قال آخر: لا جناح عليكم أن تكونوا شيوعيين أو اشتراكيين.. فالشيوعية والاشتراكية لها موقف مشرف من الفقراء خير بكثير من موقف الإسلام.. بل لا وجه للمقارنة بينهما في ذلك.
قال آخر: وإن شئتم أن تلتحقوا بركب المسيحية.. فذلك شيء عظيم.. وهو لا يدل إلا على أنكم قد وصلتم إلى القمة السامقة من قمم الوعي والتفكير السليم.
بعد أن قال الوكلاء هذا، صاح صاحب الجمعية في الفقراء: إن كان لي عندكم مقام وكرامة، فإني أطلب منكم شيئا واحدا أرجو أن لا تخذلوني، فترفضوه.
قالوا: اطلب ما تشاء.
قال: أنا لا أطلب منكم شيئا لنفسي.. بل أطلبه لكم.. أطلب منكم أن تحطموا ذلك الصنم الذي سكن قلوبكم سنين طويلة.
قالوا: نحن نعبد الله.. ولا نعبد أي صنم.
ربوبيون وربانيون (3/163)
قال: لا أقصد الله.. فالله يمكن أن تجدوه في كل الأديان.. ولكني أقصد صنم ذلك القاسي الذي كان سببا في فقركم وجوعكم وألمكم.. أتعرفون من هو؟
قالوا جميعا بصوت ممتلئ بالضعف: من؟
قال الوكيل: محمد.. لا شك أنه محمد.. أليس محمد هو الذي جاء بالإسلام؟.. أليست تعاليم الإسلام هي التي ملأت حياتكم بالفقر والحاجة والألم؟
هنا تغيرت وجوه الفقراء، ودبت فيهم قوة عجيبة جعلتهم يقومون، ويقول أحدهم: لقد تحدثت أنت وصاحبك كما يحلو لكما، والآن ائذنوا لنا أن نتحدث.
قال آخر: نحن لا نريد أن نبين لكم هنا سر ما حصل لبلاد المسلمين من الفقر والفاقة والجوع.. فلا شك أنكم تعلمون ذلك.
قال آخر: لاشك أنكم تعرفون أولئك الجبابرة الطغاة اللصوص الذين استعمروا أرضنا، ونهبوا ثرواتنا.
قال آخر: لقد ذكرتم بعض الإحصاءات.. وبما أنكم تؤمنون بما تقوله الإحصاءات، فسنذكر لكم منها ما عساه يبين لكم سر ما تقع فيه بلاد المسلمين من الفقر والحرمان.
قال آخر: وبما أن صاحبكم قد قرأ لنا من كتاب كتبه بعض رجالنا، فسأقرأ لكم من كتاب كتبه بعض رجالكم.. ها هو الكتاب.
أخرج كتابا من كيسه الذي كان يحمله، ثم قال: ها هو.. إن عنوانه هو (إفريقيا الإمبراطورية البريطانية الثالثة) (1).. إنه يحاول أن يصف بعض ما صنع الإنجليز بالقارة
__________
(1) هذه النقول من هذا الكتاب وغيره نقلناها من كتاب (الاستعمار أحقاد وأطماع) لمحمد الغزالي.
ربوبيون وربانيون (3/164)
الإفريقية.. لن أقرأ لكم كل ما ذكره الكاتب من جرائم المستعمرين.. ولذلك سأكتفي ببعض ما ذكر.. وسأبدأ منه بما ذكره عن جرائم البريطانيين تجاه أفارقة جنوب إفريقيا.
راح يقرأ: (يتكون اتحاد جنوب إفريقيا من أربع مقاطعات خاضعة لنظام الحكم الذى وضع فى 31 مايو سنة 1915، والذى خول سلطة الحكم للبريطانيين والبوير، وقد منحت الحكومات البريطانية بعض الحقوق السياسية للإفريقيين والملونين، وكذلك حق الانتخاب.. غير أن الذين قيدوا فى جداول الانتخاب 12، 000 فقط من عدد الإفريقيين البالغ 1500، 000.. وفى (ناتال) توجد حقوق انتخاب صورية للسود، لم يمارسها فى الواقع سوى القليلين، هذا مع العلم بأن السكان الوطنيين يربون على تسعة ملايين نسمة.. ومنذ عام 1913 وأجود الأراضى يمتلكها الفلاحون الأوروبيون والشركات المتحدة، وتبلغ مساحة الأراضى التى يحويها اتحاد جنوب إفريقيا 462347 من الأميال المربعة، قد وزع حوالى 88 بالمائة منها بين ما يزيد على 2، 000، 000 أوروبى، بينما هناك 000، 2000 ـ إفريقى وآخرون من غير الأوروبيين يشغلون ما تبقى وقدره 12 بالمائة من المساحة الكلية للأرض)
سكت قليلا، ثم راح يقرأ: (والغريب أنه قبل انحلال النظام القبلى كانت الأرض ملكا لجميع الإفريقيين، فلم يكن هناك نظام الملكية الفردية، بل كان ينظر للأرض باعتبارها هبة الطبيعة للجميع، يقوم رئيس القبيلة بالنظر فى جميع أمورها، وحل مشاكلها، ولم تكن الأرض تباع ولا تشترى.. وبصدور القانون الوطنى للأراضى عام 1913، قضى قضاء تاما على نظام الحياة الاقتصادية الكريمة للإفريقيين، كما أصبحت السيطرة على الإفريقيين فى يد وزير أجنبى يسمى وزير الأعمال الوطنية.. ولقد كان هذا القانون حجر الأساس للناحية الاقتصادية وعليه بنى نظام التقسيم فى اتحاد جنوب إفريقيا.. ومنذ ذلك الحين والإفريقيون
ربوبيون وربانيون (3/165)
يضطرون للعمل بالقوة، فى نظام من السخرة يوجب أن يقضى تسعة أعشار السود حياتهم فى عمل جسمانى، أو يدوى، يستغرق يومهم بأكمله.. ويلاحظ أن الكثير من الأراضى المحلية المخصصة للإفريقيين غير صالحة للزراعة أو الرى، ومع ذلك يحرم القانون عليهم امتلاك أراضى أخرى، كما يقضى بغرامة قدرها مائة جنيه أو السجن مدة ستة أشهر للأوروبى الذى يسمح لأى إفريقى يرعى قطيعه فى أراضيه الخاصة به)
سكت قليلا، ثم قال: اسمعوا ما يقول الكتاب عن نتائج هذا النظام الاقتصادى.
راح يقرأ: لقد بلغ فقر الإفريقيين أشده، فشكلت حكومة برئاسة (وليم بيومنت) لبحث الحالة، وأوصت بتخصيص 8، 000، 000 فدان لصالح الملايين المشردة من الإفريقيين، ولكن هذه التوصية لم تنفذ، بل صدر قانون سنة 1932 واعتبر تأجير الإفريقى لأرض خارج نطاق المنطقة المخصصة لبنى جنسه جريمة يعاقب عليها بالجلد أو السجن.. والغرض من ذلك ألا تسنح الفرصة للإفريقى بتحسين حالته المادية.. وعلى العموم كانت القوانين تفرق دائما بين البيض والسود، وتعاقب من يخالفها بالسجن أو الغرامة، وترتب على ذلك الظلم وتلك المعاملة القاسية أن هرب الكثيرون من الإفريقيين إلى المدن، وتملك اليأس الآخرين، وهم حوالى 2، 000، 000 فعاشوا عبيدا للأرض التى حرمت عليهم القوانين امتلاكها.. ولابد لكل إفريقى يعمل بأرض أوروبى أن يشتغل مدة 180 يوما فى العام، يحددها السيد كما يشاء ليربطه بالأرض طوال العام.. ويفضل السيد أن يصطحب الأسود أفراد أسرته للعمل معه، وبعض هذه الأسر يتقاضى أجورا زهيدة جدا، أما الكثرة فلا تتقاضى شيئا.. وليس للإفريقى حق مغادرة الحقل الذى يعمل به، إلا بأمر سيده، ومن يهرب يقبض عليه، ثم يرد إلى سيده بعد توقيع العقوبة عليه إما جلدا وإما سجنا.. وفى حالة بيع الأرض تنتقل بما فيها من عمال إلى السيد الجديد، ومن هذا يتضح أن كل القوانين توضع
ربوبيون وربانيون (3/166)
لصالح الرجل الأبيض)
بعد أن قرأ هذا النص وغيره التفت إلى صاحب الجمعية، وقال: هذا هو السبب الحقيقي والأكبر للفقر.. وأنتم ترون أنه لا علاقة للإسلام بذلك.
ضحك الوكيل بصوت عال، وقال: عجبا لك في استدلالك.. ما أغربه.. لقد ذكرت نموذجا هو أبعد النماذج عما تريده.. فجنوب إفريقيا نملكها نحن، ولا يملكها الإسلام.. فكيف تستدل بها؟
قال أحد الفقراء: لا تزال فيكم روائح الاستعمار والعنصرية.. جنوب إفريقيا لأهل جنوب إفريقيا.. نحن في الإسلام نعتقد أن كل من أحيا أرضا مواتا فهي له.. نحن لا نتعلق بالأرض.. ولا ننزع الأرض من أهليها.. ولا ننسب الأرض لغير أهلها.
قال آخر: لكن مع ذلك سنذكر لك نموذجا مما تريد.. نموذجا يعتبره قومك، وكثير من قومي نموذجا للحضارة.. لاشك أنكم تعرفونه.. إنه نابليون ذلك المجرم المغرور الذي اجتهد الكل في تحسين صورته التي لا يمكن أن تتحسن.. لأن المستبد الظالم يبقى مستبدا ظالما، ولو غسل بجميع بحار الدنيا.
قال آخر: لقد ذكر المؤرخون الثقاة أنه (1) عندما دخل نابليون بجنوده مدينة القاهرة اتخذ هو وقومه سياسة جديدة اجتهدوا أن يكفكفوا فيها لصوصيتهم المأثورة، وأن يلبسوا زيا يخدعون فيه الناس عن حقيقتهم، فادعى نابليون الإسلام، ثم زعم أنه هو وجيشه ما جاءوا إلا ليردوا للشعب حقوقه التى غصبها المماليك، فماذا كان من أمرهم؟
قال آخر: وكان من أمرهم أن قاموا من كبيرهم إلى صغيرهم، بأخس أعمال
__________
(1) المعلومات التي نذكرها هنا نقلناها من كتاب (الاستعمار أحقاد وأطماع) لشيخنا محمد الغزالي وهو بدوره نقل أكثره من مؤرخ مصر الكبير (الجبرتي)
ربوبيون وربانيون (3/167)
اللصوص.. ابتداء من نابليون إلى أحقر جندى.
قال آخر: إنهم لم يستطيعوا أن يتخلوا عن طباعهم مهما حاولوا.. لقد وجدوا أمامهم قصور المماليك والأغنياء بعد أن تركها أصحابها وفروا هاربين بأنفسهم، وكانت تلك القصور تحوى الأموال الطائلة، والجواهر الثمينة، والتحف النادرة، والمصوغات الغالية، والأمتعة النفيسة، ومختلف أنواع الفرش والأثاث والأوانى، عدا السيوف والدروع وأدوات الحرب، فماذا فعل الشرفاء، الذين جاءوا ليردوا إلى الشعب حقوقه المغصوبة؟
قال آخر: كان من أمرهم أن انطلق الجميع إلى هذه القصور بحجة البحث عن السلاح فنهبوها، وأخذوا ما فيها من الأموال والجواهر، والمصوغات والنفائس الغالية، بل إنهم فعلوا أكثر من ذلك، فقد كانوا يدخلون البيوت المسكونة بأفراد الشعب الذين لم يهاجروا، بحجة البحث عن السلاح أيضا، فيسرقون كل ما يجدون عند هؤلاء المساكين من مال قليل، أو مصوغات متواضعة.
قال آخر: ولم تقف نذالة هؤلاء الحقراء عند هذا الحد، فإنهم قد علموا أن بعض زوجات الأمراء، ونساء كبار المماليك، لم يستطعن الهرب مع أزواجهن، فاضطررن إلى الاستخفاء فى أماكن مجهولة خوفا على حياتهن.. فأمر نابليون الهمام أن ينادى بالأمان لهؤلاء النساء الضعيفات، ولكن عليهن أن يدفعن ثمن هذا الأمان.. على كل منهن أن تصالح على نفسها بمبلغ من المال، لكى تعود إلى قصرها أو بيتها.
قال آخر: ولم ير الناس فى تاريخ الهمج أو اللصوص نذالة مثل هذه النذالة.. وأخذ النساء يظهرن، ويصالحن على أنفسهن بأموال طائلة.
قال آخر: ولكن هل وقفت الخسة مع النساء عند هذا الحد؟.. لقد ذكر الجبرتى أن زوجة رضوان بك ـ أحد كبار المماليك ـ ظهرت من مكانها الذى كانت تختباء فيه..
ربوبيون وربانيون (3/168)
وصالحت على نفسها وبيتها بثلاثمائة وألف ريال فرنسى، وأخذت منهم ورقة بهذا الأمان.. ولم تكتف بذلك، بل ألصقتها على باب بيتها، ليعرف الجنود الشرفاء أنها دفعت الضريبة فيكفوا عنها.. ولكن ذلك لم يفدها بشاء.. فبينما هى فى منزلها آمنة مطمئنة، فاجأها جماعة من العسكر ومعهم ترجمان، فقالوا لها: لقد بلغنا أن عندك أسلحة، ونريد البحث عنها.. فأخبرتهم أنه ليس عندها سلاح.. فقالوا: لابد من التفتيش.. ففتشوا، ووجدوا ملابس ثمينة جدا لزوجها وأمتعة غالية.. قال الجبرتى: (ثم نزلوا إلى تحت السلالم، وحفروا الأرض، وأخرجوا منها دراهم كثيرة، وحجاب ذهب فى داخله دنانير).. وكان هذا كله هو المطلوب، فأخذه لصوص الاحتلال وأخذوا معهم السيدة المسكينة وانصرفوا، وهم يسخرون بورقة الأمان التى علقتها على باب بيتها.. ومكثت عندهم فى الاعتقال هى وجواريها ثلاثة أيام، ولم تعد إلا بعد أن اشترت لنفسها منهم أمانا جديدا بالمال.
قال آخر: لا شك أنكم فى دهشة بالغة.. لا تكادون تصدقون معها أن هذا الرجل الذى يجعله الفرنسيون مصدر فخرهم، وعنوان مجدهم، ينحط فى إنسانيته ومروءته إلى هذا الدرك المعيب.. ولكن ـ مع الأسف الشديد ـ هذا هو الواقع المر الذى نجده فى مذكرات الجبرتى التى كان يكتبها يوما بيوم يسجل فيها ما رأى من حوادث تلك الأيام، وهو عالم ثقة، ومؤرخ صادق.
قال آخر: ولا ندرى لماذا اجتنب المؤرخون أن ينقلوا للناس ما ذكره هذا المؤرخ فى مذكراته اليومية عن هذا الرجل وجنوده من صور عجيبة.. نعم صور عجيبة لم يقف فيها العجب عند بيع الأمان للنساء مرة ومرة، بل تعدى ذلك إلى بيع الأمان للخيول والثيران.
قال آخر: فهذا المحارب العجيب، يطلب إلى الناس أن يقدموا له كل ما يملكون من خيل وجمال، وأبقار وثيران.. ومن عز عليه أن يقدم ذلك، فعليه أن يشترى الأمان لماشيته،
ربوبيون وربانيون (3/169)
أى أن يصالح عنها بالمال، وفى ذلك يقول الجبرتى بالحرف الواحد: (وفى يوم الأحد طلبوا الخيول والجمال، والسلاح، فكان شيئا كثيرا.. وكذلك الأبقار والأثوار فحصل فيها أيضا مصالحات.. وأشاعوا التفتيش على ذلك وكسروا عدة دكاكين بجهة سوق السلاح وغيرها، وأخذوا ما وجدوه فيها.. وفى كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق ما لا يحصى)
قال آخر: ولم يقنع نابليون ورجاله بالأموال الطائلة التى نهبوها من بيوت الأمراء، وغصبوها من ضعاف النساء، ولا بما فرضوه للمصالحة على الخيول والثيران، بل لجأوا إلى امتصاص دماء الأهالى بأسلوب يدعو إلى السخرية والمهانة.
قال وكيل زويمر: فلم لم يثر هؤلاء.. أليس الإسلام هو الذي منعهم من ذلك؟.. أليس الإسلام هو الذي جعلهم يرضخون لكل من ينيلهم ألوان الهوان؟
قال أحد الفقراء: هل تدرون أن جزيرة (مدغشقر) ثارت بعد الحرب العالمية الثانية تطلب حريتها، فكان جزاء الثائرين أن تحركت القوات الفرنسية، وقتلت من الأهلين ثمانين ألف نسمة!.. ثمانين ألف نفس فى ضربة واحدة! لقد داخ الثوار إثر هذه المجزرة، وساد الجزيرة الصريعة صمت مطبق، وقضى على حركة التحرر فيها قضاء لا يعرف مداه، وركنت بقية الأحياء إلى الخنوع وهم فى فزع لمقتل الآباء والأبناء، والأمهات والبنات بهذه الصورة المسرفة.. أما الفرنسيون فقد استأنفوا حمل مشعل الحضارة مع غيرهم من مؤسسى هيئة الأمم المتحدة.
قال آخر: هل تدرون ماذا حدث فى كينيا.. إن قبائل (ماوماو) ثارت هى الأخرى تطلب حريتها من الإنجليز المحتلين، واستطاعت هذه القبائل أن تكون جيشا على شاء من النظام والدربة، له قائد برتبة (جنرال)، ودارت رحى القتال بين البيض والسود، وبين
ربوبيون وربانيون (3/170)
قبائل الإنجليز السكسون، وقبائل الزنوج الإفريقيين، وكانت حربا لا تكافؤ فيها ولا شرف.. كان قادة (الماوماو) يشنقون إذا سقطوا فى الأسر، وضرب المستعمرون الأقوياء نطاقا حول وسط أفريقيا، ثم شرعوا فى صمت يبيدون أهل البلاد، ويقتلونهم بالعشرات والمئات، حتى تم لهم الإجهاز على الثورة والثائرين.
قال آخر: لقد أعلن ناطق عسكرى منذ أيام أنه لم يبق من هؤلاء سوى 250 أو 300 على الأكثر.. إذن لقد أبيدت عشرات الألوف من هؤلاء الطالبين بحقوق الإنسان، ولعل كثيرين لا يعلمون أنه ـ حين كانت هذه الجماعات تباد بمختلف الوسائل.
قال آخر: وقد أذاع الإنجليز فجأة أن وحوشا مفترسة تأكل البشر قد ظهرت بكثرة، وانتشرت فى مواطن أولئك المجاهدين، وأنها تفتك بهم فتكا ذريعا، وأن حملات عسكرية وجهت لإبادة هذه الوحوش، ونجحت فى إبادتها، وأغلب الظن أنه لم تكن ثمة وحوش، لكنهم أرادوا تغطية جرائمهم البشعة أمام العالم، فاختلقوا هذه المزاعم ليلصقوا بالوحوش البريئة تهمة إبادة البشر، على حد المثل (رمتنى بدائها وانسلت).. لقد كانوا وحدهم الوحوش التى أكلت البشر.
لم يجد صاحب الجمعية ما يرد به على الحقائق الكثيرة التي ذكرها الفقراء، فراح يحاول تغيير الموضوع.. فقال: نحن لم نجتمع هنا لندرس التاريخ.. فلكل أمة مساوئها التاريخية وجرائمها.. نحن هنا اجتمعنا لنبحث في الفكر السامي النبيل الذي يخرجكم من جحيم الفقر إلى جنة الغني.. وقد ذكرت لكم من الأدلة ما يكفي للبرهنة على أن النصوص المقدسة للمسلمين هي التي تحمل الفيروس الذي يجعل من الفقر صديقهم الصادق الذي لا يمكنه أن يفارقهم، ولا يمكنهم أن يفارقوه.
قال أحد الفقراء: أنت تريد منا إذن أن نجيبك عن المعاني التي تحملها تلك
ربوبيون وربانيون (3/171)
النصوص.
قال صاحب الجمعية: لا يمكن للمعاني التي تطرحها تلك النصوص أن يجمل صورتها أحد من الناس.
قال أحد الفقراء: نحن لا نريد أن نجمل صورتها.. فالقبيح يبقى قبيحا، حتى لو وصفته بأجمل الأشعار.. لكنا نريد أن نذكر المعاني التي تحملها.. وهي معان تنطوي ضمن منظومة شاملة عالج بها الإسلام الفقر والفقراء.
قال آخر: الإسلام نظر إلى الفقير كإنسان.. والإنسان فيه جانب مادي هو جسده.. وهو جانب يحتاج غذاء وكساء ومأوى وغير ذلك من الضرورات.. وقد دعا الإسلام إلى توفير كل ذلك بكل الأساليب.. لكنه لم يكتف به.. فللفقير جانب آخر يحتاج إلى الرعاية.. ولا يمكن أن نرحمه إن لم نرع فيه ذلك الجانب.
قال الوكيل: وما هو؟
قال أحد الفقراء: نفسه.. وروحه.. وحقيقته.. ومعناه.. كل هذه يصيبها من الفقر ما يصيب الجسد، وهي تحتاج لذلك إلى معاملة خاصة.. ربما كانت أهم من المعاملة المادية نفسها.
قال آخر: ولهذا فقد ورد في النصوص المقدسة النهي عن المساس بنفس الفقير بأي أسلوب من الأساليب.. فقد نهى القرآن عن المن واعتبر القول المعروف خيرا من الصدقة التي يتبعها من، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ
ربوبيون وربانيون (3/172)
فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 262 ـ 264]
قال آخر: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.. قال قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: (المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) (1)
قال آخر: بل إن علماء المسلمين اعتبروا ـ انطلاقا من النصوص المتشددة في هذا الباب ـ أن كل ما يؤذي الفقير يجب اجتنابه حتى لو كان في ظاهره معروفا.. فعن بعضهم، قال: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه ـ أي لكونه يتكلف لك قياما ونحوه لأجل إحسانك عليه ـ فكف سلامك عنه)
ضحك صاحب الجمعية بصوت عال، وقال: وما علاقة كل ذلك بما نحن فيه.. لقد أوردت لك النصوص التي يحث فيها الإسلام على الفقر.. فهل من علاج الفقير حثه على الفقر؟
ابتسم أحد الفقراء، وقال: أرأيت لو أنك خاطبت مريضا مرضا مزمنا عجز جميع الأطباء عن شفائه، بقولك: لا بأس عليك ـ يا أخي ـ فما المرض إلا حالة بسيطة تمر بها بعض أعضائك، ويمكنك أن تعيش معه حياة طبيعية سليمة إن راعيت ما يتطلبه من أنواع العلاج.. فهل ترى في هذا الكلام ما يدعو إلى المرض، أو يحرض عليه؟
قال صاحب الجمعية: وما علاقة المرض بالفقر؟
قال أحد الفقراء: كلاهما سواء في هذه الناحية.. فالمريض مس الألم جسده، وجعله
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والترمذي وأبو داود.
ربوبيون وربانيون (3/173)
محروما من بعض متع الحياة، وهكذا الفقير، ولكن الألم لم يمس جسده، وإنما مس ذات يده، وهو لذلك يحرم من بعض المتع التي يتمتع بها سائر الناس.
قال صاحب الجمعية: فلنفرض وجود التشابه بينهما، فما علاقة المثال الذي ذكرته بالعلاج النفسي للفقير؟
قال أحد الفقراء: ذلك الخطاب الطيب هو نفسه الخطاب الذي خاطب به الإسلام الفقير.. لقد ذكر له أن الفقر شيء هين، لا ضرر منه على دينه ولا على حياته.. بل ذكر له من الثمار التي قد يجنيها من فقره إن هو أحسن التعامل معه ما لا يجده الأغنياء في غناهم.
قال صاحب الجمعية: فهو يحثهم على الكسل إذن؟
قال أحد الفقراء: فرق كبير بين الأمرين.. فرق بين خطاب نفس الفقير وروحه بما يطمئنها ويملؤها بالسعادة والسلام وبين ما ذكرته من الكسل والعجز.
قال صاحب الجمعية: أنا لا أرى أي فرق.
قال أحد الفقراء: الفرق في المخاطب بكلا الأمرين، فالنفس والروح لا علاقة لها في الأصل بالفقر والغني.. ولذلك تخاطب بما يرفع همتها عن النظر إلى الدنيا ومتاعها.. أما جسد المكلف وقواه وقدراته، فتخاطب بما يجعلها تسعى وتتحرك في الحياة بحسب القدرات التي وهبت لها.
قال آخر: سأضرب لك مثالا يقرب لك ذلك.. أرأيت لو أن قوما مسافرين نفذ من بعضهم الزاد، فصاروا فقراء.. هل ترى نخاطبهم بما يملؤهم بالألم واليأس، أو ترى أن الخطاب الأمثل لهم هو أن نقول لهم: نعم.. أنتم نفذ منكم الزاد.. وصرتم لذلك فقراء.. ولكن ذلك لن يحول بينكم وبين مواصلة سفركم.. لأنكم إن وصلتم إلى بلادكم، فستجدون أموالكم تنتظرون، وسترون من الغنى ما فقدتموه في هذه الطريق؟
ربوبيون وربانيون (3/174)
سكت صاحب الجمعية، فقال أحد الفقراء: هذا المثال ينطبق على معاملة الإسلام للفقير في هذه الناحية.. إنه يقول له: نعم أنت فقير.. ولكن فقرك المادي لا يعني فقرك الروحي.. أو لا ينبغي أن يجرك إلى الفقر الروحي.
قال آخر: ذلك أن الفقر المادي مرحلة بسيطة تمر بها.. ويوشك لو أحسنت التعامل معها أن تنال من فضل الله أن تنال من الغنى ما تبز به جميع الأغنياء.
قال آخر: هكذا خاطب الإسلام الفقراء.. وهكذا ملأ أرواحهم بالهمة العالية.. ولقد ضرب لهم الأمثلة بالصالحين الذين ارتفعت هممهم، فلم يبق في قلوبهم همة لغير مولاهم.. قال تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]
قال آخر: وقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]
قال آخر: وقد روي أن رجلا مر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم مر رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال: أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا خير من ملء
ربوبيون وربانيون (3/175)
الأرض مثل هذا) (1)
قال آخر: وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أبغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم) (2)
قال آخر: وري أن رجلا رأى له فضلا على من دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟) (3)
التفت أحد الفقراء إلى صاحب الجمعية، وقال: لقد أعطت هذه النصوص وغيرها للفقراء مكانة خاصة في المجتمع الإسلامي وحفظتهم من تلك العقد النفسية التي يجدها الفقراء في المجتمعات المنحطة.
قال آخر: لقد صار الصالحون يرددون: حبك الفقراء من أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين، وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين.
قال آخر: وجاء فقير إلى بعضهم، فقال له: تخط، لو كنت غنيا لما قربتك، وكان الأغنياء من أصحابه يودون أنهم فقراء لكثرة تقريبه للفقراء وإعراضه عن الأغنياء.
قال صاحب الجمعية: أهذا كل ماجاء به الإسلام لعلاج الفقر؟
قال أحد الفقراء: ما ذكرناه لكم هو العلاج الأول الذي جاء به الإسلام للفقر.. وهو علاج مهم، لأنه يبدأ من الجذور التي يتكون منها الفقر.
قال آخر: إن الإسلام يقول من خلاله للفقراء: (نعم أنتم فقراء.. ولكن لا ينبغي لأحد من الناس أن يتسلط عليكم بسبب فقركم، فأنتم مثلهم تماما.. كلكم عبيد رب
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
(3) رواه البخاري.
ربوبيون وربانيون (3/176)
واحد.. نعم أنتم تختلفون في درجات الرزق، ولكنكم لا تختلفون في الإنسانية.. بل إن الفقير الذي رفع همته إلى ربه يصير له من الفضل والكمال والغنى ما لا يظفر به الأغنياء في غناهم)
قال صاحب الجمعية: فما العلاج الآخر؟
قال أحد الفقراء: هو نابع مما قبله.. والإسلام يخاطب من خلاله الفقير ليقول له: انظر إلى ما عندك من فضل الله، واستثمره، ولا تنظر إلى ما لم يعطك حتى لا تجحد نعمة الله عليك.
قال آخر: ويقول له: (ابن آدم عندك ما يكفيك، وأنت تطلب ما يطغيك.. ابن آدم لا بقليل تقنع، ولا من كثير تشبع.. ابن آدم إذا أصبحت معافى في جسدك آمنا في سربك عندك قوت يومك، فعلى الدنيا العفاء) (1)
قال آخر: ويقول له: (من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) (2)
قال آخر: ويقول له: (ليس لابن آدم حق في سوى هذا الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء) (3)
قال آخر: ويقول له: (قال الله: إن أغبط أوليائي عندي: مؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضا في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك، ثم نقر بيده، فقال: عجلت منيته، قل تراثه،
__________
(1) رواه ابن عدي والبيهقي.
(2) رواه الترمذي.
(3) رواه الترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/177)
قلت بواكيه) (1)
قال آخر: ويقول له: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه) (2)
قال آخر: ويقول له: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغني غني النفس) (3)
قال آخر: ويقول له: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، قال: (عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يارب، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك) (4)
قال صاحب الجمعية: ألا ترى أن هذه النصوص تحث على الكسل.. إنها تطلب من الفقير أن يقنع بما عنده، ولا يتطلع إلى ما ليس عنده؟
قال أحد الفقراء: لا.. هذه النصوص لا تخاطب العضلات، فتقول لها: كفي عن العمل.. ولا تخاطب الاجتهاد لتقول له: اركن إلى الكسل.. بل هي تخاطب نفس الإنسان التي لا تشبع، لتقول لها: كفي عن أهوائك، فعندك ما يكفيك من فضل الله.
قال آخر: إنها تخاطب ذلك الخواء الذي في نفس الإنسان، والذي لا يملؤه إلا التراب.. والذي عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (لو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون له ثان، ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب) (5)
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه مسلم والترمذي.
(3) رواه البخاري ومسلم والترمذي.
(4) رواه الترمذي.
(5) رواه البخاري ومسلم والترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/178)
قال صاحب الجمعية: وهي بذلك تقضي على أهم ما يحث على الكسب والعمل.. وتدعو بطريقة غير مباشرة إلى الركون إلى الراحة والكسل.
قال أحد الفقراء: إن مفهوم العمل في الإسلام أشرف من أن ينحصر في ملأ ما يقتضيه الطمع والحرص.. ولذلك، فإن هذه النصوص لن تؤثر في جد الإنسان واجتهاده.. ذلك أن الذي يحركه للعمل هو طلب مرضاة الله، لا طلب شهوات النفس.
قال آخر: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعبر عن ذلك: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر) (1)
قال صاحب الجمعية: إن هذا لعجيب، فما فائدة الغرس حينذاك؟
قال أحد الفقراء: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك الحديث يأمرنا أن نعمل لوجه الله.. ولا يهمنا بعد عملنا هل استفدنا منه في حياتنا أم لم نستفد.. إنه يربينا على القناعة بفضل الله، وفي نفس الوقت يربينا على العمل الجاد المخلص الذي يحقق النفع العام بغض النظر عن استفادتنا منه.
قال آخر: ولهذا ينهانا صلى الله عليه وآله وسلم أن ننشغل بترف المترفين وغنى الأغنياء عن حياتنا التي قدر الله لنا أن نعيشها، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه) (2)، وفي رواية قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)
قال آخر: وقد قال بعضهم: كنت أصحب الأغنياء فما كان أحد أكثر هما مني، كنت أرى دابة خيرا من دابتي، وثوبا خيرا من ثوبي، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء
__________
(1) رواه أحمد والبخاري في الأدب.
(2) رواه البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/179)
فاسترحت.
قال صاحب الجمعية: لا بأس.. فهل هذا فقط ما جاء به الإسلام لمواجهة الفقر.. إن هذا قليل جدا.
قال أحد الفقراء: لا.. للإسلام منظومة كاملة في علاج الفقر.. وما ذكرناه بعضها فقط.
قال صاحب الجمعية: فاذكروا لنا غير ما ذكرتم.
قال أحد الفقراء: منها ما سماه القرآن تعففا، وأثنى على أهله، فقال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273]
قال آخر: وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته على هذا الخلق الرفيع.. ففي الحديث أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفذ ما عنده، قال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر) (1)
قال آخر: وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم استعمل رجلا من بني عبد الأشهل على الصدقة، فلما قدم سأله بعيرا منها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى احمر وجهه، وعرف الغضب في وجهه ـ وكان مما يعرف به الغضب في وجهه أن تحمر عيناه ـ ثم قال: (ما بال رجال يسألني أحدهم ما لا
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
ربوبيون وربانيون (3/180)
يصلح لي ولا له فإن منعته كرهت منعه، وإن أعطيته أعطيته مالا يصلح لي ولا له؟) فقال الرجل: يا رسول الله، لا أسألك منها شيئا أبدا (1).
قال آخر: وروي أن حكيم بن حزام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفسه بورك له فيه، ومن أخذه يأشراف نفسه لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى) (2)
قال آخر: وروي أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله فأعطاه، فلما وضع رجله على أسكفة الباب، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو تعلمون ما في المسألة، ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا) (3)
قال آخر: وروي أنه قال: (من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له بالجنة)؟ فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدا شيئا (4).
قال آخر: وهكذا وردت الأحاديث الكثيرة تحذر من السؤال، وترغب في العفة والقناعة.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا ابن آدم، إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى) (5)
قال آخر: وقال: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي
__________
(1) رواه مالك في الموطأ.
(2) رواه البخاري ومسلم والترمذي.
(3) رواه النسائي.
(4) رواه أبو داود.
(5) رواه مسلم والترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/181)
لا يسأل الناس، ولا يفطنون به فيعطونه) (1)
قال آخر: وقال: (المسائل كدوح يكدح بها لرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء تركه، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدا) (2)
قال آخر: وقال: (لأن يأخذ أحدكم أحبله، ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه) (3)
قال آخر: وقال: (لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره، فيبارك له فيما أعطيته) (4)
قال آخر: وقال: (من سأل الناس، وله ما يغنيه، جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش ـ أو خدوش أو كدوح ـ) (5)
قال آخر: وقال: (من سأل الناس تكثرا، فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر) (6)
قال صاحب الجمعية: إن نبيكم بهذا قد ضيق واسعا، فمن للفقير المحتاج الذي لا يفطن له الناس؟.. أتراه يتركه يموت جوعا؟
قال أحد الفقراء: ليس هذا ما قصده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث التي ذكرتها ينهانا عن السؤال والشحاذة التي قد يلجأ إليها المرء من غير حاجة إليها.. أو يلجأ إليها من حاجة غير ضرورية.. أو يلجأ إليها، وفي إمكانه أن يلجأ إلى غيرها.. أو يلجأ حين
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه أبو داود والنسائي.
(3) رواه البخاري.
(4) رواه مسلم والنسائي.
(5) رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
(6) رواه مسلم.
ربوبيون وربانيون (3/182)
اضطراره إليها إلى من لا يستحق أن يلجأ إليه.
قال آخر: ولهذا وردت الأحاديث تنظم السؤال، وتجعل له محلا محدودا لا يتجاوزه.. فقد ورد في الحديث عن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسأل يا رسول الله؟ قال: (لا، وإن كنت سائلا ولا بد، فاسأل الصالحين) (1)
قال آخر: وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سأل وله قيمة أو قية فقد ألحف)، قال قلت: ناقتي الياقوتة هي خير من أوقية، فرجعت ولم أسأله (2).
قال آخر: وعنه، قال: سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيت وقعدت فاستقبلني، وقال: (من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن يسأل وله قيمة أو قية، ققد ألحف) فقلت: ناقتي الياقوتة هي خير من أوقية، فرجعت ولم أسأله) (3)
قال آخر: وعن عطاء: أن رجلا من بني أسد قال له: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقال لي أهلي: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسألته لنا شيئا؟ وجعلوا يذكرون من حاجتهم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوجدت عنده رجلا يسأله، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلميقول: لا أجد ما أعطيك، فولى الرجل وهو مغضب يقول: لعمري، إنك لتعطي من شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه ليغضب علي أن لا أجد ما أعطيه، من سأل منكم وله أوقية أو عدلها، فقد سأل إلحافا)، قال الأسدي، فقلت: للقحتنا خير من أوقية، وكانت الأوقية أربعين درهما فرجعت ولم أسأله شيئا، فقدم بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشعير وزبيب، فقسم لنا منه، حتى أغنانا (4).
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي.
(2) رواه أبو داود.
(3) رواه النسائي.
(4) رواه مالك في الموطأ وأبو داود والنسائي.
ربوبيون وربانيون (3/183)
قال آخر: وعن قبيصة قال: تحملت حمالة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها، ثم قال: ياقبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ـ أو قال: سدادا من عيش ـ ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش ـ أو قال: سدادا من عيش ـ فما سواهن من المسألة ياقبيصة سحت، يأكلها صاحبها سحتا) (1)
قال آخر: وروي أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: ائتني بهما فأتاه بهما، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: [أنا] آخذها بدرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من يزيد على درهم؟ ـ مرتين أو ثلاثا ـ قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاما، فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عودا بيده، ثم قال: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما، ففعل، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا، وببعضها طعاما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا الثلاث: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع) (2)
قال آخر: وعن حبشي بن جنادة: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع يقول ـ
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
(2) رواه أبو داود والترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/184)
وهو واقف بعرفة، وأتاه أعرابي، فأخذ بطرف ردائه، فسأله فيه، فأعطاه إياه، وذهب به، فعند ذلك حرمت المسألة، فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الصدقة لا تحل إلا لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو دم موجع، ومن سأل الناس ليثري به ماله، كان خموشا في وجهه يوم القيامة، ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر) (1)
قال آخر: وعن عبد الله بن مسعود: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل) (2)
قال صاحب الجمعية: وعينا هذا.. فهل من علاج غيره؟
قال أحد الفقراء: أجل.. وقد سماه القرآن الكريم (فضلا).. قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10]
قال آخر: ففي هذه الآية الكريمة يدعو الله المؤمنين ـ بعد ممارستهم للشعائر التعبدية ـ بالانتشار في الأرض بحثا عن فضل الله.. وهو بالنسبة للفقراء يشمل أمرين: السعي والإحسان.
قال صاحب الجمعية: فحدثونا عن الأول.
قال أحد الفقراء: لقد ورد في النصوص المقدسة الكثيرة الدعوة إلى العمل باعتباره أشرف وسائل الحصول على الرزق.. بل اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم الساعي والضارب في الأرض بحثا عن فضل الله مجاهدا في سبيل الله، ففي الحديث أن بعض الصحابة رأوا شابا قويا يسرع إلى
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه الترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/185)
عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بقوله: (لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان) (1)
قال آخر: بل صرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ الجهاد، فقال لبعض أصحابه: (أبشر، فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله) (2)
قال آخر: وبما أن الكثير قد يستكبرون على بعض الأعمال ظنا منهم أنها من الأعمال الخسيسة التي لا تتنسب مع مكانتهم، وقد يكون ذلك سبب فقرهم، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه وعن الأنبياء عدم تعففهم عن أي عمل نافع، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم)، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: (نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) (3)
قال آخر: وقال: (ما أكل أحد طعاما خيرا من عمل يديه إن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) (4)
قال صاحب الجمعية: فحدثونا عن الثاني.
قال أحد الفقراء: لقد ورد في الشريعة منظومة كاملة للتكافل الاجتماعي بين المسلمين لم يوجد مثلها في جميع أديان الدنيا وقوانينها.
قال آخر: وحسبكم من ذلك تلك النصوص المقدسة التي يقرؤها المسلمون صباح
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير.
(2) رواه الحاكم.
(3) رواه البخاري ومالك.
(4) رواه البخاري.
ربوبيون وربانيون (3/186)
مساء لتعرفوا قيمة الإنفاق في سبيل الله.. ذلك الإنفاق الذي جعل جميع المجتمعات الإسلامية في جميع عصورها مجتمعات متضامنة متحدة لا صراع فيها بين غني أو فقير.. ولا وجود فيها لبروليتاريا، ولا لبرجوازيين.
قال آخر: ومن ذلك قوله تعالى ـ وهو يقرن التوجه إليه بالعبودية بالتوجه للمحتاجين بما يسد حاجاتهم ـ: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 1 ـ 3]، وقال: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الأنفال: 3]، وقال: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ﴾ [إبراهيم: 31]
قال آخر: قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 272].. وقال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 92].. وقال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133 ـ 134].. وقال: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39]
قال آخر: وقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 261 ـ 262]
ربوبيون وربانيون (3/187)
قال آخر: وعلى هذا الهدي جاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحث على الإنفاق في سبيل الله، وترغب فيه بكل الوسائل.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا) (1)
قال آخر: وقال: (سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد وورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال أني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه) (2)
قال آخر: وقال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا) (3)
قال آخر: وقال: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب ـ يعني الجنة ـ يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان) (4)
قال آخر: وقال: (من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف) (5)
ما وصل الفقراء من حديثهم إلى هذا الموضع حتى أصابت صاحب الجمعية نوبة
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه النسائي.
ربوبيون وربانيون (3/188)
أشبه بنوبات الصرع.. فقد أخذ يصيح بصوت عال ملأني رعبا، في الحين الذي كانت أطرافه جميعا تتحرك حركات كثيرة لا إرادية.
وقد كان مما سمعته منه قوله: اغربوا عني.. لماذا تتبعونني حيث سرت.. لماذا تكدرون حياتي.. لماذا تملأون أحلامي بالكوابيس.. لماذا تملأون يقظتي بأحاديثكم المنتنة.
أسرع إليه وكلاؤه، وراحوا يهدئونه، فلما لم يستجب، راحوا يحقنونه بحقنة كبيرة.
اقتربت من بعض الوكلاء، ورحت أناجيه متسائلا عن سر هذه الحالة، فقال: هذه هي حاله دائما كلما سمع أحاديث عن الإسلام.
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن المشهد الذي عرفت به الرحمة المرتبطة بالمستضعفين، وعلاقتها بالدين.
قال: لقد شاء الله أن يكون هذا المشهد في ناد من النوادي المهتمة بالتنمية البشرية، وقد قصدته بعد أن علمت أن بعض المدربين الكبار قد قصده، ولم أكن أعلم أن ذلك المدرب نفسه يحتاج إلى تدريب.
لن أستعجل عليكم.. سأحكي لكم المشهد من أوله.
عندما دخلت قاعة المحاضرات في ذلك النادي، سمعت المدرب، وهو ينادي بصوت عال (1): اسمعوني.. لن تتحرروا من ضعفكم وعجزكم إلا إذا تسلحتم بسلاح القوة، حتى تتحولون إلى السوبرمان الذي يمكن أن يحرك العالم أجمع.. ذلك السوبرمان الذي لا يشكو من ضعف البشر.. ولا يحتكم إلى الأخلاق.. لأن الاحتكام إلى الأخلاق
__________
(1) لخصنا هنا ما ذكرناه في كتاب: رحمة للعالمين، ص 244، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (3/189)
من شيم الضعفاء، وليس من شيم الأقوياء.. فالسلوك ينبغي أن يكون قائما على إرادة القوة.. وهي ليست سوى ميل الإنسان للسيطرة على غيره والتحكم في أهوائه.. والسوبرمان سوف يسعى إلى نوع جديد من الكمال والتفوق بماله من قدرة على تحقيق مسعاه للسلطة بأسلوب الأقوياء، لا بأسلوب الضعفاء.
سكت قليلا، ثم قال: اسمعوا أيها المستضعفون.. فليس هناك حل إلا نيتشة.. فعنده تجدون كل الحلول.. ففي الاجتماع قال نيتشة: (الإنسان جاء إلى الحياة ليتمتع بما فيها، وكل ما يهيء له طريق التمتع فهو خير (وافق الحق أو خالفه)، وما يقال عن تساوي الخلق بعضهم مع بعض خطأ، بل الحق أن في الناس سادة وعبيدا، وعلى العبيد أن يهيئوا وسائل الراحة للسادة).. وفي الاقتصاد قال: (لابد أن يستثمر القوي الضعفاء بأقل ما يمكن، وأن يحاول كل مكار خداع السيطرة على الآخرين في هذا المجال).. وفي الأخلاق قال: (والأخلاق من الضعف؛ إن الجزء الأعظم من فطرة الإنسان التعدي والظلم، وإن الجزء الأقل هو العقل والعاطفة، والجزء الأعظم هو الذي يجب أن يتبع).. وقال: (ولابد أن يمارس الإنسان كل نوع من أنواع الإجرام ليعيش في رفاه وسعادة).. وفي السياسة قال: (وعلى هذا الأساس فالسياسة تقوم على خدمة الأقوياء وسحق الضعفاء وكل ما هناك من الدين والأخلاق فإنما هو وسيلة للسيطرة على المستضعفين)
قال آخر: وهكذا في كل الشؤون كان نيتشة حكيما عاقلا أعطى البشرية الحل الطبيعي الذي تقتضيه الفطرة.. وليس هو إلا شيء واحد هو (القوة).. القوة التي لا يقهرها شيء.
بعد أن أنهى المدرب حديثه، طلب من الحضور المشاركة بأسلتهم أو تعقيباتهم، لكنه
ربوبيون وربانيون (3/190)
لم يكن يعلم أن تلك الجلسة ستصبح محاضرة جديدة تلغي كل ما ذكره.
لقد انبرى له حينها بعض النساء الحكيمات اللاتي لا يختلفن في قوة حجتهن عن كل الرجال الحكماء الذين حدثناكم عنهم.
قالت إحداهن بصوت جهوري قوي: ما أجمل ما دعوتنا إليه.. فلا يمكن للإنسان أن يتحقق بإنسانيته ما لم يتحقق بالقوة التي تستدعيها إنسانيته.. ولكنا مع ذلك نرى أن التوفيق أخطأك.. فلم تر بصيرتك المحل الصحيح الذي تجد فيه القوة.. القوة التي لا يغلبها شيء، ولا يعجزها شيء (1).
قالت أخرى: لقد دعوتنا إلى الثقة بالنفس.. وهذا شيء جميل.. ولا ينبغي لعاقل أن يخالفك فيه.. ودعوتنا إلى الإنسان.. أو السوبرمان.. الذي يمشي بخطوات ثابتة وجنان مطمئن.. والذي يحمل صورة الصامد في وجه أعاصير الفتن.. وصورة المبتسم المتفائل رغم الصعاب.. وصورة ذلك الذي يجيد النهوض بعد أي كبوة.. وصورة ذلك الذي يمشي نحو هدفه لا يتلفت ولا يتردد.. وكل هذه الصور صور جميلة؛ كل واحد منا يطمح أن يمتلكها، وكل واحد منا يود لو يغير واقع حياته عليها.. ولكنا مع ذلك نرى أن هذه الصور لو اقتصرنا عليها.. فسنقع في الوهم.. فنحن مع قوتنا ضعاف.. ومع غنانا فقراء.. ومع ذاتيتنا تابعين.
قالت أخرى: لقد علمنا ربنا هذا.. لقد خاطبنا يقول: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان: 1]، وقال لنا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15].. وقال لنا: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28].. وقال
__________
(1) رجعنا في هذا الحديث لمقال جميل كتبته (فوز بنت عبد اللطيف كردي) بعنوان (وقفه مع الثقة بالنفس) في مجلة البيان.
ربوبيون وربانيون (3/191)
لنا: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: 23 ـ 24].. وقال لنا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]
قالت أخرى: وعلمنا نبينا أن نقول.. ونحن نتوجه إلى الله بالدعاء: (اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك.. أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي.. اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك فإنك تعلم ولا أعلم.. اللهم لا حول ولا قوة لي إلا بك.. اللهم إني أبرأ من حولي وقوتي إلى حولك وقوتك.. اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي.. اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك فأهلك.. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) (1)
قالت أخرى: إن هذه النصوص وغيرها كثير ترفع عنا حجاب الوهم الذي يجعلنا نشعر من أعماق نفوسنا بالقوة الكاذبة التي تفصلنا عن ربنا وعن حقيقتنا.. ولذلك فإن النفس الكاملة القوية هي النفس التي تتربى على هذه النصوص المقدسة، ثم تعترف بعجزها وفقرها، وتقر بضعفها وذلها.. ولكنها لا تقف عند حدود هذا الاعتراف فتعجز وتحبط وتكسل، وإنما تطلب قوتها من ربها، وتسعى وتعمل وتتذلل لمن بكلمة واحدة يهبها القدرة على ما يريد، ويلين لها الحديد، ويعطيها فوق المزيد.
قالت أخرى: هذه طريقة الإسلام في التعامل مع النفس، والترقي بها.. إنها تبدأ فتعرفها بحقيقتها؛ فقد خلقها الله من عدم، وجبلها على ضعف، وفطرها على النقص والاحتياج والفقر إليه، ثم تدلها على المنهج الذي يرفعها من هذا الضعف والفقر الذي جبلت عليه، لتكون برغم صفاتها هذه أكرم خلق الله أجمعين.. ثم هي تذكرها بعدوها الذي
__________
(1) هذه الأدعية وردت في محال مختلفة وهي من الشهرة بحيث لم نحتج إلى توثيقها.
ربوبيون وربانيون (3/192)
يريد إضلالها عن طريق الله المستقيم بتزيين طرق غواية تشتبه به، وتحذيرها من اتباعه، وبيان طرق مراغمته.
قالت أخرى: إن هذا المنهج ـ كما ترون ـ منهج تعترف فيه النفس بفقرها وذلها إلى الله، وتتبرأ من حولها وقوتها، وتطلب من مولاها عونه وقوته وتوفيقه وتسديده، فيعطيها جل جلاله، ويكرمها ويعليها.
قالت أخرى: إنه منهج تعترف فيه النفس بضعفها واحتياجها، وتستعين فيه بخالقها ليغنيها ويعطيها، ويقيها شر ما جبلها عليه؛ فيقبلها ويهديها، ويسددها ويرضيها.
قالت أخرى: وهو منهج تتخذ فيه النفس أهبة الاستعداد لعدوها المتربص بها ليغويها؛ فتستعيذ بربها منه، وتدفع شر ذلك العدو بما شرع لها؛ فإذا كيده ضعيف، وإذا قدراته مدحورة عن عباد الله المخلصين؛ فقد أعاذهم ربهم وكفاهم وحماهم وهو مولاهم؛ فنعم المولى، ونعم النصير.
قالت أخرى: وهو منهج يضاد منهج قارون الذي راح يصيح بكبرياء: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]
قالت أخرى: وهو منهج ينابذ منهج الأبرص والأقرع اللذان راح يصيحان: (إنما ملكناه كابرا عن كابر) (1)
قالت أخرى: وهو منهج يتبرأ صاحبه أن يكون خصيما مبينا لربه الذي خلقه ورباه بنعمه، أو ينازعه عظمته وكبرياءه.
قالت أخرى: وهو منهج لا يتوافق مع مذهب (القوة) الذي يقول زعيمه (نيتشه):
__________
(1) إشارة إلى حديث الأبرص والأقرع والأعمى، رواه البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/193)
(سنخرج الرجل السوبرمان الذي لا يحتاج لفكرة الإله!)
قال آخر: وهو منهج يصادم (الثيوصوفي وليام جيمس) ومذهبه البراجماتي، ومطبقي فكرة باندلر وجرندر، ومن بعدهم، وغيرهم ممن يصيح كل حين: (أنا أستطيع.... أنا قادر.... أنا غني.. أنا أجلب قدري..)
صاح بعض الحاضرين قائلا: لكن الله تعالى خاطبنا بقوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ [آل عمران: 139]
نظرت إليه بعض الحكيمات، وقالت: لا تقطع الآية.. فكلام ربنا يؤخذ جميعا.. لقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139].. لقد ربط الله العلوم بالإيمان، فمنه يستمد العلو، وبدوام الإلحاح والطلب منه تحقق الرفعة.
قال آخر: وقال في آية أخرى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 35].. انظر.. لقد ربط الله العلو في هذا بمعية الله.. فلا يمكن لمن لم يكن الله معه أن يظفر بأي علو، أو يحلم بأي رفعة.
قام آخر، وقال: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) (1)
نظرت إليه بعض الحكيمات، وقالت: المؤمن القوي ليس قويا من عند نفسه، ولا بمقومات شخصيته.. وإنما هو قوي لاستعانته بربه، وافتقاره إليه، وثقته في موعوداته الحقة.
قالت أخرى: تأمل ـ يا أخي ـ كلمات القوة من موسى عليه السلام أمام البحر والعدو
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والنسائي.
ربوبيون وربانيون (3/194)
وراءه: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62]، فموسى عليه السلام لم يثق بنفسه، وقد أعطي من المعجزات وخوارق العادات ما أعطي، وإنما كانت ثقته بتوكله على الذي يستطيع أن يجعله فوق الإمكانات البشرية، بل يجعل لعصاه الخشبية قدرات لا يستطيعها أساطين الطقوس السحرية.
قالت أخرى: تأمل ـ أخي ـ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي ذكرته: (استعن بالله ولا تعجزن).. إن هذه الكلمات تفسر سر قوة المؤمن.. إنها قوة مستمد من إيمانه واستعانته بربه.
قالت أخرى: إنها كلمات الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم يربي أمته على منهج الإيجابية والفاعلية.. لم يقل: تخيل قدرات نفسك.. ولم يقل: أيقظ العملاق الذي في داخلك وأطلقه.. ولم يقل: نوم الواعي وخاطب اللاواعي لديك برسائل إيجابية، وبرمجه برمجة وهمية؛ وإنما دعاك صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطريقة الربانية، وخاطبك مخاطبة عقلية بعبارات إيمانية: (استعن بالله ولا تعجزن).. فاستعن به وتوكل عليه، ولا تعجزن بالنظر إلى قدراتك وإمكاناتك؛ فأنت بنفسك ضعيف ظلوم جهول، وأنت بالله عزيز.. أنت بالله قادر.. أنت بالله غني.
بعد أن أنهت الحكيمات حديثهن، قام المدرب، وقال: جميل.. جميل.. كل ما ذكرتموه جميل.. لكنه لا يصلح إلا لمن يعتقد ما تعتقدن.. كلامكن يصلح خطبة في المسجد.. أو موعظة في الكنيسة.. لكنه لا يصلح أن تخاطبن به في محافل الحياة الأخرى.. فالحياة التي تستند إلى الله حياة مملوءة بالضعف والجبن والعجز والكسل.. والدين كما تقول أحدث النظريات العلمية (أفيون الشعوب).. ولا يمكن أن تتحرر الشعوب إلا إذا تحررت منه.
قامت بعض الحكيمات، وقالت: أنت تدعي أن الإيمان مناقض للقوة.. وأنه لا يمكن
ربوبيون وربانيون (3/195)
للمستضعف أن يخرج من ضعفه ما دام يرتدي لباس الإيمان؟
قال المدرب: أجل.. أنا أقول ذلك.. وكل العقلاء يقولون ذلك.. وكل الدراسات النفسية والاجتماعية تؤيد ذلك.
قالت إحدى الحكيمات: فاسمع منا إذن البراهين التي تدلك على أن القوة بنت للإيمان.. والبراهين التي تدلك على أنه لا يمكن للإيمان الصحيح أن يولد إلا القوة الصحيحة.
قالت أخرى: أنت تعلم (1).. وكلكم تعلمون.. أن للإنسان في الحياة آمال عريضة، وأهداف كثيرة، لكن الطريق إليها شائك وطويل، والعقبات متنوعة، والمعوقات كثيرة، بعضها من الطبيعة وسنن الله فيها، وبعضها من البشر أنفسهم، فلا غرو أن يظل الإنسان في جهاد دائب، وعمل متواصل، ليتغلب على الآلام والمعوقات ويحقق الأهداف والآمال.
قالت أخرى: وما أشد حاجة الإنسان إلى قوة تسند ظهره، وتشد أزره، وتأخذ بيده، وتذلل له العقبات، وتقهر أمامه الصعاب، وتنير له الطريق.. وليست هذه القوة المنشودة إلا في ظلال العقيدة، ورحاب الإيمان بالله.
قالت أخرى: الإيمان بالله هو الذي يمدنا بقوة الروح، فالمؤمن لا يرجو إلا فضل الله، ولا يخشى إلا عذاب الله، ولا يبالي بشيء في جنب الله.. إنه قوي وإن لم يكن في يديه سلاح.. غني وإن لم تمج خزائنه بالفضة والذهب.. عزيز وإن لم يكن وراءه عشيرة وأتباع.. راسخ وإن اضطربت سفينة الحياة، وأحاط بها الموج من كل مكان.
قالت أخرى: فهو بإيمانه أقوى من البحر والموج والرياح، وفي الآثار: (لو عرفتم الله
__________
(1) رجعنا في هذا المبحث إلى كتاب (الإيمان والحياة)
ربوبيون وربانيون (3/196)
حق معرفته لزالت بدعائكم الجبال)
قالت أخرى: وهذه القوة في الفرد مصدر لقوة المجتمع كله، وما أسعد المجتمع بالأقوياء الراسخين من أبنائه، وما أشقاه بالضعفاء المهازيل، الذين لا ينصرون صديقا، ولا يخيفون عدوا، ولا تقوم بهم نهضة، أو ترتفع بهم راية.
ضحك المدرب بصوت عال، وقال: أنتن تطلقن الدعاوى إطلاقا في الوقت الذي تزعمن فيه أن لديكن البراهين على ما تقلن.
قالت إحدى الحكيمات: اصبر.. فسنحدثك حديثا تعيه.. ويعيه كل من يحضر معنا.. أنت تعلم.. وأنتم تعلمون جميعا أن القوة تحتاج إلى محرك يحركها.. وأنه لا يمكن لقوة من القوى أن تستمر في حركتها ما لم يكن لديها هذا المحرك.
قالوا: أجل.. ذلك صحيح.
قالت: وتعلمون أن الحركة القوية وحدها لا يمكن أن نعتبرها حركة قوية إيجابية ما لم تكن موجهة الوجهة الصحيحة النافعة.
قالوا: ذلك صحيح.. ونحن جميعا نسخر من القوة التي يوجهها صاحبها في غير محلها، لأنه لا يجني من تعبه غير العلقم والصبر وانهداد القوى.
قالت: بناء على هذا.. فسنبرهن لكم على أن الإيمان هو الذي يملك مصادر القوة ومحركاتها، كما أنه يملك المعاني التي توجه القوة الوجهة الصحيحة التي تجعل منها قوة بناءة نافعة لا قوة هدامة ضارة.
قالوا: فحدثننا عن الأول.. عن مصادر القوة التي يحملها الإيمان.
قالت: أول مصدر من مصادر قوة المؤمن هو (الله).. فالمؤمن يستمد قوته من الله العلي الكبير، الذي يؤمن به، ويتوكل عليه، ويعتقد أنه معه حيث كان، وأنه ناصر المؤمنين،
ربوبيون وربانيون (3/197)
وخاذل المبطلين.. ولهذا رد الله على المنافقين الذي اعتبروا المؤمنين مغرورين بسبب الطموحات العظيمة التي كانوا يحملونها، فقال: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 49] فهو سبحانه عزيز لا يذل من توكل عليه، حكيم لا يضيع من اعتصم بحكمته وتدبيره.
قالت أخرى: ولهذا خاطب الله تعالى المؤمنين بقوله: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160]، فهذه الآية الكريمة كغيرها من الآيات تعلمنا أن التوكل على الله ـ وهو من ثمار الإيمان ـ ليس استسلام متبطل، أو استرخاء كسول.. إنه معنى حافز، وشحنة نفسية، تغمر المؤمن بقوة المقاومة، وتملؤه بروح التحدي والإصرار، وتشحذ فيه العزم الصارم، والإرادة الشماء.
قالت أخرى: والقرآن الكريم يرسخ هذه المعاني فينا عبر قصص أولياء الله ورسله.. والذين جعلهم توكلهم على ربهم واستعانتهم به يخوضون غمارا لا يمكن لغيرهم أن يخوضها.
قالت أخرى: فهذا نبي الله هود عليه السلام في دعوته لقومه يجد من هذا التوكل حصنا حصينا يلجأ إليه.. قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: 53 ـ 56]
قالت أخرى: وهذا شعيب عليه السلام وقومه يساومون ويهددون يجد التوكل على الله ملجأه الحصين.. قال تعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
ربوبيون وربانيون (3/198)
إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: 88 ـ 89]
قالت أخرى: وهذا موسى عليه السلام بعد أن تميز بقومه عن معسكر الفراعنة يقول لهم: ﴿يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [يونس: 84 ـ 86]
قالت أخرى: وها هم الرسل جميعا عليهم السلام يعتصمون بالتوكل على الله أمام عناد أقوامهم وإيذائهم.. قال تعالى حاكيا عنهم: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم: 12]
قالت أخرى: بعد هذا، فإن المؤمن يستمد قوته من الحق الذي يعتنقه، فهو لا يعمل لشهوة عارضة، ولا لنزوة طارئة، ولا لمنفعة شخصية، ولا لعصبية جاهلية، ولا للبغي على أحد من البشر، ولكنه يعمل للحق الذي قامت عليه السموات والأرض، والحق أحق أن ينتصر، والباطل أولى أن يندثر.. قال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 18].. وقال: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81]
قالت أخرى: والمؤمن بإيمانه بالله وبالحق على أرض صلبة غير خائر ولا مضطرب، لأنه يعتصم بالعروة الوثقى، ويأوي إلي ركن شديد: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256]
قالت أخرى: والمؤمن بإيمانه بالله وبالحق ليس مخلوقا ضائعا، ولا كما مهملا، إنه خليفة الله في الأرض، إن تظاهر عليه أهل الباطل، فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح
ربوبيون وربانيون (3/199)
المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير.. فكيف يضعف أمام البشر ومن ورائه الملائكة؟.. بل كيف ينحني للخلق ومعه الخالق؟ ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 173 ـ 174]
قالت أخرى: هذا الإيمان هو الذي جعل بضعة شبان كأهل الكهف، يواجهون بعقيدتهم ملكا جبارا، وقوما شديدي التعصب، غلاظ القلوب، مع قلة العدد، وانعدام الحول والطول المادي.. قال تعالى حاكيا قصتهم: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الكهف: 13 ـ 15]
قالت أخرى: والمؤمن يستمد قوته من الخلود الذي يوقن به، فحياته ليست هذه الأيام المعدودة في الأماكن المحدودة، بل إنها حياة الأبد، وإنما هو ينتقل من دار إلى دار.
قالت أخرى: والمؤمن يستمد قوته من القدر الذي يؤمن به، فهو يعلم أن ما أصابه من مصيبة فبإذن الله، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه.. ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 51]
قالت أخرى: والمؤمن يعتقد أن رزقه مقسوم، وأجله محدود، لا يستطيع أحد أن يحول بينه وبين ما قسم الله له من رزق، ولا أن ينتقص ما كتب الله له من أجل.
قالت أخرى: وهذه العقيدة تعطيه ثقة لا حدود لها، وقوة لا تقهرها قوة بشر.. وقد كان الرجل من سلفنا الصالح يذهب إلى الميدان مجاهدا في سبيل الله فيعترض سبيله
ربوبيون وربانيون (3/200)
المثبطون، ويخوفونه من ترك أولاده، فيقول: علينا أن نطيعه تعالى كما أمرنا، وهو ـ سبحانه ـ يرزقنا كما وعدنا.
قالت أخرى: والمؤمن يستمد قوته من إخوانه المؤمنين، فهو يشعر بأنهم له وهو لهم، يعينونه إذا شهد، ويحفظونه إذا غاب، ويواسونه عند الشدة، ويؤنسونه عند الوحشة، ويأخذون بيده إذا عثر، ويسندونه إذا خارت قواه، فهو حين يعمل يحس بمشاركتهم، وحين يجاهد يضرب بقوتهم، إذا حارب جيشا من ألف مؤمن شعر كل فرد منهم أنه يقاتل بقوة ألف لا بشخصه وحده، وشعر أن هؤلاء الألف يعيشون في نفسه ـ كما يعيش هو في أنفسهم ـ حبا لهم، وحرصا عليهم، وضنا بهم، فإذا ضربت الألف في الألف كان المجموع المعنوي ألف ألف رجل في الحقيقة وان كانوا ألفا واحدة في لغة الإحصاء والتعداد.
قالت أخرى: وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوة المؤمن بإخوانه المؤمنين باللبنة في البناء المتين، فقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) (1)
قالت أخرى: اللبنة وحدها ضعيفة مقدور عليها، ولكنها داخل البنيان أصبحت مرتبطة به ارتباطا لا ينفصل، أصبحت جزءا من (الكل) الكبير، لا يسهل كسرها، أو زحزحتها عن موضعها فإن قوتها هي قوة البنيان كله الذي يشدها إليه.
قالوا: عرفنا مصادر قوة المؤمن.. والتي تخرجه من وهم الاستضعاف.. فما ثمار هذه القوة التي يحملها الإيمان؟
قالت إحدى الحكيمات: أول الثمار التي يجنيها المؤمن من قوته الإيمانية هو التزامه الحق مع القريب والبعيد.. فالمؤمن صادق في كل حال، عدل في كل حين، يعترف بالخطأ
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/201)
إذا زلت به قدمه غير جاحد ولا مكابر، ولا مبرر لخطئه بخطأ آخر، أو بإلقاء التهمة على غيره، وهو يقول الحق ولو كان مرا، ويقوم لله شهيدا بالقسط ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، ويعدل مع العدو عدله مع الصديق، لا يعرف التحيز، ولا يعرف المحاباة.
قالت أخرى: ومن ثمار هذه القوة شجاعته في مواطن البأس وثباته في موضع الشدة، فهو لا تتزلزل له قدم، ولا يتزعزع له ركن، لا يخشى الناس قلوا أو كثروا، ولا يبالي بالأعداء وإن أرغوا وأزبدوا، انسدت أبواب الخوف كلها في نفسه، فلم يعد يخاف إلا من ذنبه، ومن سخط ربه.
قالت أخرى: ولذلك، فإن المؤمن إذا قيل له: إن أعداءك أكثر عددا تلا قوله تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249]
قالت أخرى: وإذا قيل: إنهم أكثر مالا.. قرأ عليهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 36]
قالت أخرى: وإذا حذروه من مكرهم وكيدهم أجابهم بما قال الله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 54]
قالت أخرى: وإذا قيل إنهم أمنع حصونا.. قرأ عليهم: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]
قالت أخرى: إنه يسير بمعونة الله، وينظر بنور الله، ويقاتل بسيف الله، ويرمي بقوة الله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 17]
ربوبيون وربانيون (3/202)
قالت أخرى: ومن ثمار هذه القوة إخلاصه القول والعمل والنية لوجه ربه، فتراه يعمل الخير، ويحارب الشر، وإن لم يكن له فيه نفع مادي، ولا هوى شخصي، لا يهمه الشهرة ولا المحمدة ولا رضا الناس، بل يؤثر الخفاء على الشهرة، وعمل السر على عمل العلانية، تجنبا للرياء، وبعدا بالنفس عن مزالق الشرك الخفي، متمنيا أن يكون ممن يحبهم الله، من الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا، محاولا أن يكون كالجذع من الشجرة يمدها بالغذاء وهو في باطن الأرض لا تراه العيون، وكالأساس من البنيان، يختفي في الأعماق وهو الذي يمسك البناء أن يزول.
بعد أن تحدث الحكيمات عن الثمار اليانعة الطيبة التي يجدها المؤمن في شجرة القوة التي جعلها الله فيه، قام المدرب، وقال: لكني أرى المؤمن الذي تذكرون ضعيف يهزه كل شيء.
قالت إحدى الحكيمات: أنت لم تر المؤمن إذن، فليس كل من ادعى الإسلام مؤمن.. ذلك أن من أعظم الثمار التي يجنيها المؤمن من إيمانه ثمرة الثبات.. فلا يمكن للمستضعف أن يخرج من استضعافة ما لم يكن يحمل كل ما يجعله ثابتا كالطود الأشم.. أو كالشجرة الراسخة الجذور.
قالت أخرى: لقد ذكر الله تعالى ثبات الأنبياء عليهم السلام جميعا في وجه المحن التي واجهتهم أثناء دعوتهم إلى الله، فقال: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا
ربوبيون وربانيون (3/203)
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم: 9 ـ 14]
قالت أخرى: لقد ذكر الله تعالى هذا الثبات جملة وتفصيلا حتى نتخذ الأنبياء قدوة لنا في تلك القوة التي جعلتهم يواجهون أممهم مواجهة صارمة ليس فيها أي خنوع أو ذلة.
قالت أخرى: ومن نماذج الثبات التي ذكرها الله تعالى نموذج سحرة فرعون الذين تحولوا من خدم متزلفين متذللين إلى أقوياء ثابتين راسخين.. ولم يكن ذلك إلا بسبب الإيمان الذي تنورت به قلوبهم.. قال تعالى يحكي عنهم: ﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [الأعراف: 113 ـ 126]
قالت أخرى: ومن نماذج الثبات التي ذكرها القرآن الكريم قصة الرسل الثلاثة ومن
ربوبيون وربانيون (3/204)
ساندهم من الدعاة إلى الله.. قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ [يس: 13 ـ 27]
قالت أخرى: ومنها قصة أصحاب الأخدود.. قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج: 1 ـ 11]
قالت أخرى: وهذه بعض النماذج التي حكاها القرآن عن ثبات المستضعفين.. أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد ذكر الكثير من نماذج الثبات.. ومنها قصة ماشطة فرعون التي حكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصتها، فقال: (لما كانت الليلة التي أسرى بي فيها، أتت على رائحة طيبة، فقلت يا جبريل ما هذه الرائحة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قال: قلت: وما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم إذ سقطت المدرى من يديها، فقالت: بسم
ربوبيون وربانيون (3/205)
الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبى؟ قالت: لا، ولكن ربى ورب أبيك الله، قالت: أخبره بذلك؟ قالت: نعم، فأخبرته فدعاها فقال: يا فلانة، وإن لك ربا غيري؟ قالت: نعم، ربى وربك الله، فأمر ببقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها أن تلقى هي وأولادها، قالت: إن لي إليك حاجة.. قال: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدى في ثوب واحد وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق، قال: فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحدا واحدا، إلى أن انتهى ذلك إلى صبى لها مرضع، وكأنها تقاعست من أجله، قال: يا أمه اقتحمي، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت) (1)
قالت أخرى: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أيام الشدة يخبر أصحابه بما عانى الأنبياء وورثتهم من أنواع المحن، وكيف لم يصدهم ذلك عن دينهم.. ففي الحديث عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو متوسد بردة له، في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا، فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله، ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) (2)
قالت أخرى: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة في الثبات بكل أنواعه (3).. فقد قال يخبر عن نفسه: (لقد أوذيت فى الله عز وجل وما يؤذى أحد، وأخفت فى الله وما يخاف أحد، ولقد أتت على ثلاثة من بين يوم وليلة وما لى ولعيالى طعام يأكله ذو كبد إلا ما يوارى إبط
__________
(1) رواه أحمد وأبو يعلى.
(2) رواه البخاري.
(3) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فصل (ثبات) من كتاب (معجزات حسية)
ربوبيون وربانيون (3/206)
بلال) (1)
قالت أخرى: وقد حكى عقيل بن أبي طالب بعض مواقف ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي لا تزال أسوة لكل المستضعفين في الأرض، فقال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا، وفي نادينا، فيسمعنا ما يؤذينا به، فإن رأيت أن تكفه عنا فافعل، فقال لي: يا عقيل، التمس لي ابن عمك، فأخرجته من كبس من أكباس أبي طالب، فأقبل يمشي معي يطلب الفيء يمشي فيه، فلا يقدر عليه، حتى انتهى إلى أبي طالب، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي، والله ما علمت إن كنت لي لمطاعا، وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم، وفي ناديهم تسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكف عنهم، فحلق ببصره إلى السماء، فقال: (والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار)، فقال أبو طالب: (والله ما كذب ابن أخي قط، ارجعوا راشدين) (2)
قالت أخرى: وذكر المؤرخون أن قريشا حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك، فظن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلمه وضعف عن القيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك في طلبه)، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبكى، فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابن أخي فأقبل عليه، فقال: (امض على أمرك
__________
(1) رواه أحمد.
(2) رواه الطبراني في الأوسط والكبير.
ربوبيون وربانيون (3/207)
وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا) (1)
قالت أخرى: وعن عبد الله بن جعفر قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه ترابا، فرجع إلى بيته، فأتت فاطمة تمسح عن وجهه التراب وتبكي قال: فجعل يقول: (أي بنية، لا تبكين، فإن الله عز وجل مانع أباك)، ويقول ما بين ذلك: (ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب) (2)
قالت أخرى: وعن أشعث قال حدثنى شيخ من بنى مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسوق ذى المجاز يتخللها يقول: (يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)، قال: وأبو جهل يحثى عليه التراب ويقول: (يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزى) (3)
قالت أخرى: وعن سهل بن سعد قال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغسل الدم، وكان على بن أبى طالب يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم (4).
قالت أخرى: وعلى هذا الدرب سار كل المستضعفين من أتباعه.. لا يثنيهم تهديد، ولا يهد من ثباتهم مخافة:. وكان منهم عمار بن ياسر وآل بيته الشهداء الطاهرين.. فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بعمار بن ياسر وبأهله يعذبون في الله ـ عز وجل ـ فقال: (أبشروا آل ياسر
__________
(1) رواه ابن إسحق.
(2) رواه ابن إسحاق.
(3) رواه أحمد.
(4) رواه مسلم.
ربوبيون وربانيون (3/208)
موعدكم الجنة) (1)
قالت أخرى: وكان منهم بلال بن رباح وغيره من الطيبين الطاهرين من قديسي هذه الأمة.
قالت أخرى: وكان منهم رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنه يثني على هذا الدور البطولي الذي مثله مع أهل بيته الطاهرين: (حسين مني وأنا من حسين) (2).. لقد كان الحسين هو صاحب هذا الدور.. لقد كان الحسين هو مثال التضحية والثبات في أرفع درجاتها.
بعد أن حكى الحكيمات بتفصيل ما حصل للإمام الحسين في كربلاء بسبب ثباته في مواجهة المحرفين، فاضت دموع كثيرة من عيون الجموع، فأحس المدرب أن كل ما يريد أن يقوله يكاد يتبخر مع تلك الأحاديث القوية المجلجلة.. فراح يقاطعهن قائلا: نحن لا نتحدث عن كل هذا.. نحن لا نناقش هنا قضايا الإيمان والكفر.. فلكل فرد الحرية في نوع الإيمان الذي يختاره.. أنا مثلا رجل يهودي.. آبائي كلهم يهود.. ولكن ذلك لم يمنعني من الثورة على اليهودية.. لقد ثرت على اليهودية التي شعرت أنها كانت سببا فيما حصل لليهود من مآسي.. لكني عندما ثرت عليها لم أخرج من اليهودية.. بل قمت بتصحيح لليهودية.. أو استبدال لليهودية النائمة بيهودية مستيقظة متحركة ثائرة.. لقد لقحت الديانة اليهودية بأفكار نيتشة.. فتحولت اليهودية إلى ديانة الثورة والقوة.. لقد رأيت أن موسى وحده عاجز عن تسيير دفة اليهودية.. فرحت أعينه بنيتشة.. وقد ولد من بينهما تلك الفكرة القوية
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط.
(2) رواه أحمد الترمذي وابن ماجة.
ربوبيون وربانيون (3/209)
العظيمة فكرة الصهيونية.. التي استطاعت أن تحقق حلم اليهود الذي عجز جميع الأنبياء عن تحقيقه.
ما إن قال هذا حتى قامت بعض الحكيمات، وقالت: إن المؤمن ـ بما اكتسبه من قوة إيمانية ـ أولى الناس بالثورة والمواجهة.. فمن ثمار القوة (1) التي ينشئها الإيمان في نفسه أنه لا يفريه وعد، ولا يثنيه وعيد، ولا ينحرف به طمع متسلط، أو هوى جائر، أو شهوة طاغية، فهو دائما داع إلى الخير، ثائر على الشر؛ آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، هاد إلى الحق والعدل، مقاوم للباطل والظلم، يغير المنكر بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.
قالت أخرى: لقد رأينا الناس لا يضعف نفوسهم شيء كالحرص على الحياة وإن تكن ذليلة، والهرب من الموت وإن كان كريما، ولا يغرس فيهم القوة شيء كالاستهانة بالحياة، والإقبال على الموت في سبيل الحق الذي يعتقدونه ولا شيء كالإيمان بالله وبالخلود يهون على الإنسان لقاء الموت، وفراق الحياة.
قالت أخرى: والمرء إذا هانت عليه الدنيا، ولم يبال بالموت.. هان عليه جبابرة الأرض، وملوك الناس، ونظر إلى الذهب كما ينظر إلى الحجر، وإلى السيف كما ينظر إلى العصا أو هو أدنى.
قالت أخرى: الحرص والخوف هما اللذان يضعفان النفوس، ويحنيان الرؤوس، ويذلان الأعناق.. وإذا لم يكن حرص ولا خوف فلا سبيل إلى الضعف بحال من الأحوال.
قالت أخرى: ولذلك، فإن الانتصار للحق والثورة على الباطل عنصر ضروري
__________
(1) بعض ما نذكره هنا من (الإيمان والحياة)
ربوبيون وربانيون (3/210)
للحياة الإسلامية، فإن فصل عنها فقدت أكبر ما تمتاز به، لأن الإسلام أسس قومية المسلم عليه، وجعلهم شهداء الحق على العالم كله، فكما يجب على الشاهد ألا يتوانى في إبداء شهادته كذلك يتحتم على المسلم ألا يقصر في إعلاء الحق، ولا يبالي في أداء فرضه بمصيبة أو بلاء، بل يصدع به حيثما كان، ولو لاقى دونه الحمام.
قالت أخرى: ولهذا نجد (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من أكبر الفرائض الإسلامية.
قالت أخرى: والتوحيد يعلم المسلمين أن الخوف والخشوع لا يكون إلا لله الواحد العظيم، أما غيره فلا يخاف منه ولا يخشع له، وإن من يخشى غير الله فهو مشرك به، وجاعل غيره أهلا للخوف والطاعة، وهذا ما لا يجتمع مع التوحيد أبدا.
قالت أخرى: والإسلام من أوله إلى آخره دعوة عامة، إلى البسالة والجرأة والتضحية، والاستهانة بالموت في سبيل الحق.
قالت أخرى: والقرآن يكرر كل حين هذا المعنى، فالله تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39].. ويقول: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18]، ويقول: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 36]
قالت أخرى: والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) (1).. ويقول: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان
__________
(1) رواه الحاكم على شرط الصحيحين.
ربوبيون وربانيون (3/211)
جائر) (1).. وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ العهد من أصحابه أن يقولوا الحق أينما كانوا (2).
بقيت طيلة ذلك اليوم أستمع إلى النسوة المؤمنات الحكيمات، وهن يتحدثن بكل قوة.. وقد تعجبت لانفراد النساء في الحديث في ذلك الموقف دون الرجال، وقد كفاني البحث عن سر هذا (المدرب) بقوله بعد أن فرغ النسوة من حديثهن: ما أجمل ما تحدثتن به.. لكن عجبي منكن إذ تحدثتن دون الرجال.. فما سر ذلك؟
قامت إحدى الحكيمات، وقالت: الإسلام لا يفرق بين الرجل والمرأة.. فالنساء شقائق الرجال.. فلذلك هو يزرع القوة في الجميع.. لا يفرق في ذلك بين إنسان وإنسان.
قالت أخرى: وإنما تحدثت أنا مع أخواتي دون الرجال، لتعلم وليعلم قومك أن الرجال الذي يؤون إلى أمثال هؤلاء النساء يستحيل أن يصيبهم ضعف، أو يتمكن منهم ظالم أو مستبد.
قالت أخرى: إن قيمة الرجل عندنا بقدر قوته.. وقوته بقدر إيمانه.. ولذلك فإن موازين الكرامة عندنا مرتبطة بالإيمان.. فلا قوة إلا بالإيمان.
بعد أن سمع (المدرب) هذه الأحاديث وجم قليلا، ثم ضغط على يديه يشير بهما بكل قوة، وكأنه يبعد شيئا عنه، ثم راح يصيح: علموني ما تقولون إذا أردتم أن تدخلوا هذا الدين.. فلا أحسبه إلا دينا صالحا.
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن المشهد الذي عرفت به الرحمة المرتبطة بالعبيد،
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
(2) رواه البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/212)
وعلاقتها بالدين.
قال: لقد شاء الله أن يكون هذا المشهد أمام تمثال الحرية في أمريكا، وبحضور الكثير من الأمريكيين السود، وقد تصدر المشهد أول الأمر أحد المبشرين السود، والذي تخلى عن الدعوة للمسيح عليه السلام إلى الدعوة إلى أمريكا وقيمها.. ولم يكتف بذلك، بل راح يحرض على الإسلام، لتخلفه عن القيم الأمريكية، والتي مثلها كما يذكر تمثال الحرية.
لكن المشهد الذي بدأ به، لم ينته به.. إذ كان من بين الحضور سبعة من الحكماء، غيروا مسار الحديث تماما.. وقد كانوا سببا في تخلصي من كل تلك الشبهات التي كانت تملأ عقلي عن الإسلام وموقفه من العبيد.
بدأ المشهد بالمبشر الذي نظر إلى تمثال الحرية، وقال (1): لقد اتخذنا ـ نحن الأمريكيين ـ هذا التمثال رمزا لبلادنا ولثقافتنا.. فنحن نحب الحرية، ونكره الاستعباد.. ونحن لذلك نشعر بأن الله ابتعثنا لنخرج الشعوب من عبودية الثقافات والأديان التي جعلتها فريسة للعبودية.
سكت قليلا، ثم قال: واسمحوا لي أن أذكر لكم ـ بصراحتي التي تعهدونها ـ أن أكبر ما يقف في وجه حملتنا التحريرية هو الإسلام.. ذلك أنه الدين الوحيد الذي شرع الاستعباد، وقنن له قوانينه في كتابه المقدس.. لقد اندهشت كثيرا عندما قرأت كتاب المسلمين المقدس الذي يسمونه (القرآن).. فهو الكتاب الوحيد من الكتب المقدسة الذي يتحدث بتفصيل عن العبيد.. وقد أثر على تراث المسلمين الفقهي.. فلذلك لا نجد كتابا في الفقه، إلا وهو يحوي الحديث عن أحكام العبيد.. ولذلك يشعر فقهاء المسلمين اليوم بفراغ
__________
(1) لخصنا هنا ما ذكرناه في كتاب: رحمة للعالمين، ص 284، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (3/213)
كبير.. فعندما ألغى قومنا الرق.. أو بتعبير أدق عندما قام نبي الحرية (أبراهام لنكولن) بإلغاء الرق شعر المسلمون بامتعاض شديد، فلا يمكن لتشريعات الإسلام أن تقوم من دون أن تكون هناك عبودية.
بعد أن قال هذا الكلام وغيره.. قام رجل من الحكماء، وكان أسود البشرة، وقال: اسمح لنا أن نحدثك.. فنحن مثلك من أمريكا.. أو بتعبير أصح نحن من عبيد أمريكا المحررين.. وقد كنا مثلك في فكرك ودينك وتحريضك.. لكنا عندما عرفنا الإسلام وقارنا موقفه من الرق بغيره من الأديان والمذاهب والأفكار والحضارات.. عرفنا أن الإسلام هو رحمة الله للعالمين.
قال آخر: لن نحدثك عن أنفسنا، ولا عن رحلتنا الطويلة التي اكتشفنا فيها الإسلام.. ولكنا سنحدثك عن هؤلاء الذين تفخر بهم.. وتفخر بانتمائك إليهم (1).
قال آخر: لقد بدأت حديثك بتثمال الحرية الذي تعتبره رمزا لبلادنا.. وأود هنا أن أسألك عن هذا التمثال المخادع.. هل أقيم رمزا للحرية التي أسبغت على 112 مليون هندى أحمر؟.. أم أنه رمز لحرية عشرات الملايين من الأفارقة المساكين الذين جرى خطفهم وجلبهم بالقوة إلى الجنة الأمريكية للعمل الشاق حتى الموت من أجل تحقيق الحلم الأمريكى؟
قال آخر: إنها لمهزلة كبرى أن يُقام تمثال الحرية على جثث وجماجم عشرات الملايين من البشر الذين تمت إبادتهم جماعيا بشكل لم يحدث مثله لحيوانات الغابات.. بل لو حدث معشار هذه الإبادة ضد الحيوانات لأقامت جمعيات الرفق بالحيوان فى الغرب الدنيا ولم
__________
(1) رجعنا عند بيان المعلومات المرتبطة بتاريخ الرق إلى كتاب (الإسلام محرر العبيد، التاريخ الأسود للرق فى الغرب)
ربوبيون وربانيون (3/214)
تقعدها.
قال آخر: أما إبادة مائة مليون هندى أحمر فهو أمر يؤسف له ـ على حد زعمهم ـ لكنه كان ضروريا لأمن البلاد كما يذكرون.. بل كان أبو الحرية الأمريكية المزعومة ـ جورج واشنطن ـ نفسه يملك ثلاثمائة عبد وجارية فى مزرعته الخاصة، ولم يحرر منهم واحدا قط.
قال آخر: ويحكى المؤرخون الأوربيون المنصفون قصصا يشيب لهولها الولدان.. فقد كان الغزاة البيض يشعلون النار فى أكواخ الهنود، ويقيمون الكمائن حولها، فإذا خرج الهنود من أكواخهم هاربين من الحريق، يكون رصاص البيض فى انتظار الرجال منهم، بينما يتم القبض على الأطفال والنساء أحياء لاتخاذهم عبيدا!
قال آخر: وكتب أحد الهولنديين قائلا: (انتزع البيض بعض الأطفال الهنود الصغار من أحضان أمهاتهم وقطعوهم إربا أمام أعينهن، ثم ألقيت الأشلاء فى النيران المشتعلة أو النهر!! وربطوا أطفالا آخرين على ألواح من الخشب ثم ذبحوهم كالحيوانات أمام أعين الأمهات)
قال آخر: إنه منظر ينفطر له قلب الحجر ـ كما يقول الهولندى الراوى نفسه ـ كما ألقوا ببعض الصغار فى النهر، وعندما حاول الآباء والأمهات إنقاذهم لم يسمح لهم الجنود بالوصول إلى شاطئ النهر، ودفعوا الجميع ـ صغارا وكبارا ـ بعيدا عن الشاطئ ليغرقوا جميعا.. والقليل جدا من الهنود كان يمكنه الهرب، ولكن بعد أن يفقد يدا أو قدما، أو ممزق الأحشاء برصاص البيض.. هكذا كان الكل إما ممزق الأوصال، أو مضروبا بآله حادة أو مشوها بدرجة لا يمكن تصور أسوأ منها.
قال آخر: ويذكر المؤرخون أنه تم نقل أعداد هائلة من العبيد الهنود إلى جزر الهند الغربية للعمل بالمزارع الشاسعة هناك أو لبيعهم لآخرين.. كما شحن مئات الألوف منهم
ربوبيون وربانيون (3/215)
شمالا إلى نيوانجلند و(نيويورك) حيث مقر الأمم المتحدة، وتمثال الحرية.
قال آخر: وكان المؤرخ (لا كاس) الذى فضح جرائم الإسبان فى أمريكا الجنوبية بكتابه الشهير (تدمير الهنود الحمر) قد أثار القضية أمام المحاكم الأسبانية.. فلجأت الحكومة هناك إلى تهدئة الرأى العام الثائر بإصدار قانون يمنع استعباد الهنود بشكل شخصى، لكن النصوص ـ كما يقول لا كاس ـ لم تعرف سبيلها إلى التطبيق الواقعى أبدا فى الأمريكيتين.
قال آخر: وبعد أن أباد البيض معظم الهنود الحمر رأوا أنهم لن يتمكنوا من استصلاح وزراعة عشرات الملايين من الأفدنة فى القارة الجديدة ـ أمريكا ـ بدون جلب الملايين من الأيدى العاملة الرخيصة.. وتفتقت أذهان الشياطين عن خطة جهنمية بدأت كل دول أوروبا الغربية تقريبا تنفيذها.. لقد روأ أن الزنوج الأفارقة هم من أقوى أنواع البشر وأكثرهم جلدا وصبرا وتحملا للمشاق والأجواء القاسية، ولهذا استقر رأى المجرمين على اصطياد أكبر عدد ممكن منهم.
قال آخر: وهكذا تكالبت الوحوش البيضاء المسعورة على الفريسة المسكينة ـ إفريقيا ـ تنهش فلذات أكبادها بلا ذرة من رحمة أو إنسانية.. آلاف السفن الأوروبية المحملة بالجنود المسلحين بالبنادق والمدافع تقاطرت على الساحل الغربى للقارة السوداء حاملة الموت والخراب لأغلب سكانها، والخطف والاستعباد والإذلال مدى الحياة لمن بقى منهم على قيد الحياة.
قال آخر: وتقول المصادر الأوروبية ذاتها: إن جيوش إنجلترا وبلجيكا والبرتغال وألمانيا وفرنسا وهولندا وأسبانيا ـ ذات التسليح المتقدم الذى لا يمكن مقارنته بالسيوف والحراب التى لا يملك الأفارقة غيرها ـ لم تجد صعوبة كبيرة فى السيطرة على الساحل
ربوبيون وربانيون (3/216)
الغربى لأفريقيا المطل على المحيط الأطلنطى.
قال آخر: وخلال خمسين عاما فقط تم خطف وترحيل ما بين 15 إلى 40 مليونا من الأفارقة حيث تم بيعهم كعبيد فى أسواق أمريكا وأوروبا.
قال آخر: والمصادر الغربية ذاتها تؤكد أنه من بين كل عشرة أفارقة كان يتم أسر واحد فقط واستعباده، بينما يلقى التسعة الآخرون مصرعهم إما برصاص الغزاة البيض، وإما جوعا وعطشا أو انتحارا من على ظهر السفن التى كانوا يحشرون فيها كالماشية.. وكثير منهم كان يلقى حتفه اختناقا بسبب تكديس المئات منهم فى أقبية السفن فى مساحة عدة مترات بلا تهوية أو طعام أو مراحيض.
قال آخر: وكثيرا ما كان البحارة يقتلون المئات من الضحايا ويلقون بجثثهم فى البحر.. وعلى ذلك فإن ما لا يقل عن مائة مليون أفريقى قد لقوا حتفهم فى 50 عاما فقط خلال ملاحم اصطياد العبيد من القارة المنكوبة.
قال آخر: وتذكر دائرة المعارف البريطانية أن الإنجليز كانوا يشعلون النيران فى الأحراش والأشجار المحيطة بأكواخ الأفارقة، فيضطر هؤلاء المساكين إلى الخروج من مساكنهم هربا من النيران، فتتلقفهم رصاصات القناصة لقتل الرجال، بينما يتم أسر الأطفال والنساء، ثم ترحيلهم إلى مراكز لتجميع العبيد على طول الساحل الغربى الأفريقى تمهيدا لنقلهم بالسفن عبر المحيط الأطلنطى فى رحلة بلا عودة.. وهذا هو الأسلوب ذاته الذى جرى استخدامه لاصطياد الهنود الحمر، كما يصطادون الوحوش والحيوانات غير الأليفة من الغابات.
قال آخر: ونحن لا نعرف بالضبط الأرقام الحقيقية للضحايا سواء من القتلى أو ممن سقطوا فى فخاخ الاستعباد حتى الموت، ولكن من المؤكد أن الأرقام أعلى بكثير مما تذكره
ربوبيون وربانيون (3/217)
المصادر الغربية.. ويكفى أن كاتبا غربيا كبيرا ذكر أن عدد القتلى فى دولة واحدة هى الكونجو بلغ عشرة ملايين إفريقى فى عهد الملك الطاغية (ليوبولد) الذى دمر شعبا بأكمله، وعرقل مسيرة الكونجو لمئات السنين بسبب نهمه وجشعه وإجرامه.
قال آخر: وقد قال آدم هو تشيلد فى كتابه (شبح الملك ليوبولد): (إن هذا الطاغية قتل كل هؤلاء خلال 23 عاما فقط حكم خلالها الكونجو التى كان يدعيها مستعمرة مملوكة له شخصيا بكل ما عليها من بشر وثروات وحيوانات)
قال آخر: وقد كان الأوروبيون مثل (ليوبولد) فى الكونجو، والفرنسيون فى مناطق أخرى، والبرتغاليون فى أنجولا، والألمان فى الكاميرون، والإنجليز فى دول أخرى عديدة قد وضعوا نظاما إجراميا للسخرة لاستخراج المطاط والذهب وغيرها من كنوز القارة السوداء التى نهبها المجرمون، كما سرقوا فلذات أكباد الأفارقة، وعطلوا مسيرتهم مئات السنين، ولم يتركوا لهم سوى الموت والخراب الشامل والتعاسة التى لم يفلت منها أحد.
قال آخر: ويعدد (هوتشيلد) وغيره من المؤلفين الغربيين الفظائع التى ارتكبها الأوروبيون فى أفريقيا، فقد كان الشنق وتعليق الجثث على الأشجار، وقطع الأيدى والأقدام والأذن وغيرها أمرا شائعا مارسه المحتلون على اختلاف دولهم وهوياتهم.
قال آخر: وكان من المألوف الإجبار على العمل المتواصل تحت الشمس الحارقة بلا ماء أو طعام كاف، والربط بالسلاسل الحديدية، وحرق قرى بأكملها عقابا على أية بادرة تذمر.. وكان هناك نوع من الكرابيج يصنعه الجلادون خصيصا من جلد الخرتيت بعد أن يتم تجفيفه وتقطيعه بطريقة تترك أطرافه حادة وقاطعة.. وقد ذكر هوتشيلد أن عشرين جلدة بهذه الكرابيج كانت كافية ليفقد المجلود الوعى تماما، فإذا ارتفع عدد الضربات إلى مائة جلدة بتلك الكرابيج الشيطانية فإن المجلود يلقى حتفه فورا.
ربوبيون وربانيون (3/218)
قال آخر: وإذا كان زبانية (ليوبولد) يستخدمونها ضد التعساء فى الكونجو، فقد كان الفرنسيون يستخدمونها بضراوة أشد فى (برازافيل)، ولم تكن ألمانيا بعيدة عن الميدان، فقد أباد الألمان شعبا بأكمله هو قبائل (الهيريرو) فيما يعرف الآن بـ (ناميبيا).. وتكفى قراءة فقرة واحدة من تعليمات القائد الألمانى لجنود الاحتلال عام 1904 م لإدراك هول ما حدث ووحشية السادة البيض.. لقد ورد فيها: (كل هيريرو ـ إفريقى ـ يوجد يجب أن يقتل سواء كان يحمل سلاحا أم لا وسواء كانت لديه ماشية أم لا.. ولا يجوز إعتقال أى رجل، يجب فقط أن يقتل)
قال آخر: وقد كانت البرتغال كذلك من أكثر دول أوروبا تورطا فى الرق.. وقد تتبع القسيس البرتغالى فرناندو دى أليفيرا في كتابه (فن الحرب فى البحر) كيف كان تجار الرقيق من البرتغاليين بقيادة صديقه القس (لاس كاساس) أكبر النخاسين فى عصره يقومون بترحيل مئات الألوف من العبيد الأفارقة عبر المحيط الأطلنطى بعد خطفهم وانتزاعهم من أسرهم وتقييدهم بالسلاسل.
قال آخر: وحسبما ذكر إليفيرا كان يصاحب كل سفينة قسيس ليقوم بتنصير العبيد مقابل مبلغ مالى يتقاضاه عن كل رأس.. وحققت الكنائس الأوروبية ثروات هائلة من تلك الرسوم التى تتقاضاها من النخاسين.
قال آخر: وشاركت هولندا أيضا فى تجارة العبيد، حيث طافت مئات من السفن الهولندية موانئ أفريقيا الغربية منذ القرن السادس عشر لنقل ملايين من العبيد إلى أوروبا وأمريكا.. بل كانت جزيرة (جورى) التى يجمعون فيها العبيد تمهيدا لنقلهم عبر الأطلنطى تحت سيطرة الهولنديين الى أن باعوها للإنجليز عام 1872 م.
قال آخر: وكانت بعثات التبشير الهولندية متورطة فى أخس تجارة عرفتها البشرية..
ربوبيون وربانيون (3/219)
ويبدو أنهم اكتشفوا أن خطف واصطياد الأفارقة المساكين واستعبادهم يدر من الأرباح أضعاف ما يجلبه العمل على تغيير عقائدهم باسم الرب الذى يزعمون.
قال آخر: ويكشف (هيوتوماس) سببا اخر لاختطاف الأفارقة واستعبادهم وهو الإنتقام البربرى.. يقول في ذلك: (الحقيقة أن البرتغاليين وغيرهم كانوا يصطادون الإفريقيين ويحولونهم إلى عبيد محض انتقام من الأفارقة المغاربة بسبب سيطرتهم على أسبانيا والبرتغال.. فقد كان أسلاف هؤلاء المغاربة من المسلمين قد سيطروا على أسبانيا والبرتغال لمئات من السنين)
قال آخر: ومن الواضح ـ كما شهد هيوتوماس ـ أن القوم لم ينسوا أحقادهم رغم أن المسلمين ـ كما شهد مؤرخو الغرب ـ قدموا للغرب وللعالم كله أياد بيضاء طوال حكمهم للأندلس، فقد نشروا العلوم والمعارف والحضارة فى تلك العهود، وعاملوا غير المسلمين بالأندلس بكل عطف ورحمة!!
قال آخر: ويؤيد ما قاله هيوتوماس أن البابا يوجينياس الرابع أعلن رعايته لحملات الاستعباد التى يقوم بها الملك هنرى فى أفريقيا!! وفى الفترة من 1450 حتى 1460 م عقد البابا نكولا الخامس وكالكاتاس الثالث صفقة لاسترقاق الأفارقة مقابل تعميد العبيد ودفع 300 كراون للكنيسة عن كل رأس.. بل أرسل أحد الأساقفة سفينة لحسابه فى إحدى الحملات.
قال آخر: وقد لجأ البيض إلى أساليب شيطانية لقمع العبيد وقهرهم والسيطرة عليهم.. وقننوا هذا كله بتشريعات تشكل وصمة عار لأى نظام قانونى فى التاريخ.
قال آخر: وقد كان القانون الذى يتناول أحوال الرقيق يعرف فى كل أمة من الأمم المعاصرة بالقانون الأسود.. وعلى سبيل المثال كان القانون الأسود الفرنسى الذى صدر
ربوبيون وربانيون (3/220)
سنة (1685) ينص على أن الزنجى إذا اعتدى على أحد الأحرار أو ارتكب جريمة السرقة عوقب بالقتل أو بعقاب بدنى آخر، أما إذا أبق العبد فإن نص القانون أن الآبق فى المرة الأولى والثانية يتحمل عقوبة صلم الأذنين والكى بالحديد المحمى، فإذا أبق الثالثة قتل.. وقتل الآبق كان معمولا به أيضا فى انجلترا، فقد نصت شريعتهم على أن من أبق من العبيد وتمادى فى إباقه قتل.. ودام الحال على هذا فى فرنسا حتى قامت ثورة 1848 م.
قال آخر: أما فى أمريكا فكان القانون فى غاية الشدة والقسوة، وكان مقتضى القانون الأسود أن الحر إذا تزوج بأمة صار غير جدير بأن يشغل وظيفة فى المستعمرات.. وكانت القوانين تصرح بأن للسيد كل حق على عبده حتى حق الاستحياء والقتل.
قال آخر: وكان يجوز للمالك رهن عبده وإجارته والمقامرة عليه وبيعه كأنه بهيمة.. ولم يكن يحق للأسود فى أن يخرج من الحقل ويطوف بشوارع المدن إلا بتصريح قانونى.. ولكن إذا أجتمع فى شارع واحد أكثر من سبعة من الأرقاء ولو بتصريح قانونى كان لأى أبيض إلقاء القبض عليهم وجلدهم.. وهذه النصوص كانت مطبقة فى كل أنحاء الأمريكتين.
لم يجد المبشر ما يقول ردا على أبناء بلده، فراح يقول: نحن لا نتحدث عن أمريكا، نحن هنا نتحدث عن الرق الذي جاء به الإسلام.. أليس الإسلام بما نشره من فكر وثقافة ودين هو السبب في استعباد الإنسان لأخيه الإنسان؟.. أليس كتاب المسلمين المقدس هو الكتاب الوحيد من بين الكتب المقدسة الممتلئ بالحديث عن أحكام العبودية وقوانينها؟
قال أحد الحكماء: قبل أن نجيبك عن سؤالك نود أن نصحح معلومات مرتبطة بتاريخ الرق في العالم.. فالإسلام لم يكن في يوم من الأيام مسؤولا عن ابتداع الرق.. هكذا تثبت حقائق التاريخ التى دونها المؤرخون من غير المسلمين.. فالتاريخ يشير إلى أن الرق
ربوبيون وربانيون (3/221)
ظاهرة عريقة فى القدم.. تاريخها هو ذاته تاريخ الاستغلال وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وقد ذكر المؤرخون.. أقصد مؤرخينا من الأوروبيين والأمريكيين أن ظاهرة استعباد الإنسان للإنسان نشأت منذ عشرات الألوف من السنين، وتحديدا فى فترة التحول من الصيد إلى الاعتماد على الزراعة المنظمة كوسيلة لاكتساب الرزق.
قال آخر: لقد عرفت كل الحضارات والأمم السابقة على الإسلام ظاهرة لاستعباد الآخرين على أوسع نطاق ممكن.. فالرق كان موجودا لدى الفراعنة.. إذ كان الملوك والكهنة وقواد الجيش المصرى القديم يتخذون أسرى الحرب عبيدا لهم، يستخدمونهم فيما تحتاج إليه الدولة الفرعونية من أعمال كشق الترع وبناء الجسور والمعابد والأهرامات.
قال آخر: وكان الرق موجودا على أوسع نطاق لدى الآشوريين.. وقد كانت قصورهم مليئة بالعبيد والجوارى.. وفى بلاد فارس كان الأرقاء يتخذون للرعى والزراعة، ويستخدمون فيما تحتاج إليه البيوت من الزينة والعمل.. وإذا ارتكب الرقيق ذنبا عوقب عقابا معتدلا، فإذا ارتكبه مرة أخرى فلسيده أن يعاقبه بما يشاء، وله أن يقتله.
قال آخر: وكان لدى الهنود القدماء طبقات أعلاها: طبقة الأشراف وهم البراهمة، أما طبقة العمال، فهى الطبقة الدنيا التى تستخدم فى الأعمال، وتعامل معاملة بشعة.. وللطبقة الأولى السيادة والسيطرة، وعلى الطبقة الثانية ـ وهى طبقة الأرقاء ـ الطاعة والخضوع، ويستمر الرقيق خادما طوال حياته، وكانت القوانين التى يحاكم بها جائرة، فإذا اعتدى رقيق على برهمى حكم على الرقيق بالقتل، وإذا شتمه بلفظ بذاء قطع لسانه، وإذا احتقره عوقب بوضع خنجر محمى بالنار فى فمه، وإذا تجرأ ونصح لبرهمى نصيحة تتصل بواجبه أمر الملك بوضع زيت ساخن فى أذنه وفمه، وإذا اغتصب برهمى شيئا من الرقيق حكم عليه بدفع غرامة مالية، وإذا سرق عبد شيئا من برهمى حكم عليه بالإحراق!!،
ربوبيون وربانيون (3/222)
وكانت الأعمال النجسة تترك للعبيد ليقوموا بها، والأعمال المقبولة يقوم بها الخدم، وكانت فى الهند طائفة أخرى منبوذة تسخر للخدمة كالعبيد.
قال آخر: وكان الفقراء من الصينيين القدماء يبيعون أبناءهم وبناتهم لشدة فقرهم وحاجتهم، وكان للسيد الحق فى بيع من لديه من الأرقاء وأولادهم.
قال آخر: أما عند الإغريق، فقد كان فى أثينا ثلاث طبقات: طبقات المواطنين والغرباء والعبيد، وقد كان عددهم كبيرا، وهم إما أسرى حرب، أو ضحايا غارات الاسترقاق، أو أطفال أنقذوا وهم معرضون فى العراء، أو أطفال مهملون، أو مجرمون.. وكانت قلة منهم فى بلاد اليونان يونانية الأصل؛ وكان الهلينى يرى أن الأجانب عبيد بطبعهم لأنهم يبادرون بالخضوع إلى الملوك، ولهذا لم يكن يرى فى استعباد اليونان لهؤلاء الأجانب ما لا يتفق مع العقل؛ لكنه كان يغضبه أن يسترق يونانى.
قال آخر: وكان تجار اليونان يشترون العبيد كما يشترون أية سلعة من السلع، ويعرضونهم للبيع فى طشيوز، وديلوس، وكورنثة، وإيجينا، وأثينا، وفى كل مكان يجدون فيه من يشتريهم، وكان النخاسون فى أثينا من أغنى سكانها الغرباء؛ ولم يكن من غير المألوف فى ديلوس أن يباع ألف من العبيد فى اليوم الواحد؛ وعرض سيمون بعد معركة يوريمدون عشرين ألفا من الأسرى فى سوق الرقيق،
قال آخر: وكان فى أثينا سوق يقف فيه العبيد متأهبين للفحص وهم مجردون من الثياب، ويساوم على شرائهم فى أى وقت من الأوقات، وكان ثمنهم يختلف من نصف مينا إلى عشر مينات.. وكانوا يشترون إما لاستخدامهم فى العمل مباشرة، أو لاستثمارهم؛ فقد كان أهل أثينا الرجال منهم والنساء يجدون من الأعمال المربحة أن يبتاعوا العبيد ثم يؤجروهم للعمل فى البيوت أو المصانع، أو المناجم.. وكانت أرباحهم من هذا تصل إلى
ربوبيون وربانيون (3/223)
33 فى المائة.. وكان أفقر المواطنين يمتلك عبدا أو عبدين.. وكان عددهم فى بيوت الأغنياء يصل أحيانا إلى خمسين، وكانت الحكومة الأثينية تستخدم عددا منهم فى الأعمال الكتابية وفى خدمة الموظفين، وفى المناصب الصغرى، وكان منهم بعض رجال الشرطة.
قال آخر: وكان فلاسفة اليونان يجاهرون بتأييدهم للرق.. بل كان أفلاطون يرى أن العبيد لايصلحون لأن يكونوا مواطنين.. وعليهم فقط لزوم الطاعة العمياء لسادتهم أحرار أثينا.. ولا ندرى أى مدينة فاضلة تلك التى يكون ثلاثة أرباع أهلها من العبيد.
قال آخر: أما تلميذه أرسطو فهو يرى أن بعض الناس خلقوا فقط ليكونوا عبيدا لآخرين! ليوجهوهم كما يريدون، وبعضهم خلقوا ليكونوا سادة، وهم الأحرار ذوو الفكرة والإرادة والسلطان.. فالعبيد خلقوا ليعملوا كأنهم آلات، والأحرار خلقوا ليفكروا ويلقوا الأوامر لينفذها العبيد! ويجب فى رأى أرسطو أن يستمر هذا الاستعباد حتى يتوصل الإنسان إلى صنع آلات معدنية تحل محل الرقيق!
قال آخر: وفى بلاد اليونان كان العبيد يعملون خدما فى البيوت، ولا يسمح لهم بأن يكونوا كهنة فى المعابد كما يؤكد بلوتارك المؤرخ اليونانى المعروف.
قال آخر: وقد اعتاد قدماء الإغريق السير فى البحار، وخطف من يجدونه من سكان السواحل، وكانت قبرص وصاقس وسامس والمستعمرات اليونانية أسواقا كأثينا يباع فيها الأرقاء ويشترون.. وكان العبيد يعملون لمواليهم ولأنفسهم، ويدفعون لسادتهم مقدارا محددا من المال كل يوم.. وكان فى كل منزل بأثينا عبد للقيام بالخدمة، مهما كان صاحبه فقيرا، وكان المولى حر التصرف فيمن يملكهم من عبيد.
قال آخر: وكان الرقيق إذا أخطأ عوقب بالجلد بالسوط وكلف القيام بطحن الحبوب على الرحى، وإذا هرب كوى على جبهته بالحديد المحمى فى النار.
ربوبيون وربانيون (3/224)
قال آخر: أما تاريخ العبودية لدى الرومان فهو بحق صفحات حالكة السواد فى سجل الرق.. فقد كان الرومان يحصلون عادة على الأرقاء من أسرى الحروب، وأولاد العبيد، وأولاد الأحرار الذين حكم عليهم القانون بأن يكونوا عبيدا، كالمدينين الذين صعب عليهم الوفاء بديونهم.. وكان ثلاثة أرباع سكان الامبراطورية الرومانية من الرقيق! وفى أثناء الحرب كان النخاسون الذين يتجرون فى الرقيق يلازمون الجيوش، وكان الأسرى يباعون بأثمان زهيدة، وأحيانا كان النخاسون من الرومان يسرقون الأطفال ويبيعونهم، ويسرقون النساء للاتجار بأعراضهن.
قال آخر: وكان الرقيق فى روما يقف على حجر فى السوق، ويدلل عليه البائع، ويباع بالمزايدة، وكان الراغب فى الشراء يطلب أحيانا رؤية العبد وهو عريان لمعرفة ما به من عيوب.. وكان هناك فرق كبير فى الثمن بين العبد المتعلم والعبد الجاهل، وبين الجارية الحسناء والجارية الدميمة.
قال آخر: وكان القانون ينظر إلى الرقيق كأنه لا شاء، فهو ليس له أسرة، ولا شخصية، ولا يملك شيئا، والعبد وما ملكت يداه لسيده، ويتبع الرقيق أمه حين الوضع، فإذا كانت حرة كان حرا، وإذا كانت رقيقة كان رقيقا.
قال آخر: وكان لمالك الرقيق الحرية المطلقة فى التصرف مع عبده كما يتصرف فى الحيوانات التى يملكها.. فإذا أخطأ العبد عاقبه سيده كيفما شاء، أو بأية وسيلة شيطانية تخطر له على بال.. فكان يقيده بالسلاسل ويكلفه مثلا بحرث الأرض وهو مكبل بالحديد، أو يجلده بالسياط حتى الموت، أو يعلقه من يديه فى مكان مرتفع عن الأرض بينما يربط أثقالا برجليه حتى تتفسخ أعضاء جسمه!! أو يحكم عليه بمصارعة وحوش كاسرة ـ كالأسود والنمور ـ تم حبسها وتجويعها أياما طوال كى تكون أشد افتراسا وفتكا بالعبيد
ربوبيون وربانيون (3/225)
البائسين الذين قدر عليهم أن يلقوا حتفهم بهذا الأسلوب الذى يقشعر له بدن الشيطان!!
قال آخر: ولم تكن هناك أية عقوبة فى القانون الرومانى تطبق على السيد الذى يقتل عبده أبدا، فالقانون الرومانى كان ينص على أن العبد هو أداة ناطقة!! وكانوا يعتبرون الرقيق مجرد أشياء وليسوا بشرا ذوى أرواح وأنفس!! وكان منظرا عاديا لديهم أن يشاهدوا جثثا مصلوبة على جذوع الأشجار لعبيد شاء سادتهم المجرمون شنقهم، أو تعليقهم هكذا بلا طعام ولا شراب حتى الموت، أو حرقهم أحياء، أو إجبارهم على العمل الشاق وأرجلهم مقيدة بالسلاسل عراة تحت أشعة الشمس الحارقة!! وكانت الفقرة المحببة لدى الرومان فى الأعياد والمهرجانات هى المبارزات الحية بكل الأسلحة الفتاكة بين العبيد حتى يهلك الأعجل من الفريقين!! وتتعالى صيحات المجرمين الرومان إعجابا أو تلتهب الأكف من التصفيق الحاد حين يتمكن أحد العبيد من تسديد طعنة نافذة فى جوف القلب تقضى على غريمه!!
قال آخر: وكان من الطبيعى أن تندلع ثورات عارمة احتجاجا على وحشية السادة الرومان تجرى فيها دماء الطرفين أنهارا، لكنها للأسف كانت تنتهى بمقتل جميع العبيد الثائرين، والويل لمن يبقى حيا حتى ممن لم يشاركوا فى التمرد.
قال آخر: وفى القرون الوسطى كان الأرقاء فى فرنسا وإيطاليا والجزر البريطانية وأسبانيا القديمة يكلفون بالأعمال الزراعية من حرث وزرع وحصد؛ لأن الأعمال اليدوية فى نظرهم كانت محتقرة لا يقوم بها الأحرار!! وكان الأرقاء فى ألمانيا يقدمون إلى سادتهم مقادير معينة من القمح أو الماشية أو الملابس.. وكان لكل عبد مأوى يقيم فيه، ويدبر أحواله كما يريد.
قال آخر: وكان الفرنج ـ وهم الألمان الذين يقيمون على جانبى نهر الراين الأسفل ـ
ربوبيون وربانيون (3/226)
يعاملون الأرقاء أقسى معاملة، فإذا تزوج حر رقيقة أجنبية صار رقيقا مثلها، وإذا تزوجت حرة رقيقا أصبحت رقيقة، وفقدت الحرية التى كانت تتمتع بها.. وفى لمبارديا كانت الحرة إذا تزوجت رقيقا حكم عليهما بالإعدام.
قال آخر: ولدى الأنجلوسكسون ـ وهم الأمم الجرمانية التى تناسل منها الانجليز ـ كان الأرقاء ينقسمون قسمين: قسم كالمتاع يجوز بيعه، وقسم كالعقار يقوم بحرث الأرض وزرعها، ويباح لهم جمع مال يدفعونه لسادتهم.
قال آخر: وكانت نظرة الأوروبيين إلى العبيد حتى القرن التاسع عشر أنهم لا روح لهم ولا نفس، ولا إرادة.. فإذا اعتدى زنجى على سيده أو على حر من الأحرار، أو سرق أى شاء كان القتل جزاء له.. وإذا هرب عوقب بقطع أذنه فى المرة الأولى، وكوى بالحديد المحمى فى المرة الثانية، وقتل فى الثالثة.. وإذا قتل المالك رقيقه فللقاضى الحق فى أن يحكم ببراءة المالك!
بعد أن ذكر الحكماء هذه الحقائق التاريخية التي اندهش لسماعها الجميع، قام المبشر، وقال: نشكركم على كل هذه المعلومات التي أوردتموها.. ونحن لا نعارضك فيها لأنها تصب فيما نحن فيه.. فنحن عندما نتحدث عن الرق، وعن ظلم الرقيق لا نميز بين أمة وأمة.. ولا بين دين ودين.. أنا فقط وهنا في هذا المجلس تحدثت عن الإسلام كجبار من الجبابرة الظلمة الذي راحوا ينشرون الاستعباد، ويحرضون عليه، ويعدون بالجنان من يستعبد الناس ويسترقهم.
قال أحد الحكماء: نحن لا نتفق معك في موقفك من الإسلام.. لا لأنه ديني الذي اخترت أن أعتنقه.. وإنما لأني رأيت ـ بالأدلة الكثيرة ـ أنه الدين الوحيد الذي حفظ من حقوق العبيد، وضمن لهم من الحرية ما لم يضمن أي دين آخر.. لقد كان رحمة لهم لم تعدلها
ربوبيون وربانيون (3/227)
أي رحمة.
قال آخر: وإن شئت أوردنا لك الأدلة الكثيرة التي تبين مدى سمو موقف الإسلام من الرقيق.. وسيجعلك ذلك لا محالة تتخلى عن موقفك المناوئ له.
قال المبشر: لا بأس.. لكن قبل أن تذكروا أي دليل.. أجيبوني.. هل ورد في كتابكم المقدس إباحة الاسترقاق؟
قال أحد الحكماء: لقد قرأت القرآن من أوله إلى آخره، فلم أجد فيه كلمة واحدة تقول: (أحل لكم الاستعباد).. بل ما وجدت فيه إلا: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 4 ـ 5]
قال آخر: وقوله: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [المائدة: 96]
قال آخر: وقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: 275]
قال المبشر: أنتم تفرون من سؤالي.
قال أحد الحكماء: بل نجيبك عنه.
قال المبشر: ولكن القرآن ذكر في مواضع كثيرة الاسترقاق والاستعباد، وهو يكني عن ذلك بالرقبة.
ربوبيون وربانيون (3/228)
قال أحد الحكماء: فهل يمكن أن تقرأ لنا هذه النصوص؟
قال المبشر: أجل.. بكل سرور.. لقد سجلتها في هذه الورقة.. وسأقرؤها لكم آية آية.
فتح المبشر ورقة أخرجها من جيبه، وراح يقرأ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 92]
ثم قال: ليس ذلك فقط ما ورد.. اسمعوا هذه الآية..: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 89]، وهذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 3]، وهذه: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد: 11 ـ 13]
التفت المبشر إلى الجموع، وقال: ألا تكفي كل هذه الآيات للبرهنة على أن القرآن يتحدث عن العبيد.. ويقر استعبادهم؟
ابتسم أحد الحكماء، وقال: أفي هذه النصوص التي قرأتها: تحرير الرقبة، أم استعباد الرقبة؟
سكت المبشر، فقال الحكيم: بل ذكرت هذه النصوص المقدسة تحرير الرقبة.. وليس
ربوبيون وربانيون (3/229)
هناك نص في القرآن الكريم أو السنة المطهرة فيه استعباد الرقاب.
قال المبشر: ولكن مع ذلك، فإن الرق مشروع بالنصوص.. ولو حرم لورد النص فيه كما ورد في الخمر والميسر وغيرها من المحرمات.
قال أحد الحكماء: مسألة الرقيق تختلف كثيرا عن الخمر والميسر وغيرها.. ولذلك كان علاجها يختلف عن علاج الخمر والميسر.
قال المبشر: كيف؟.. ألست تدعي أن الإسلام حرم الاستعباد؟
قال أحد الحكماء: أنا لا أقول: إن الإسلام حرم الاستعباد.. ولكني أقول: إن الإسلام في علاجه للاستعباد يكاد يصرح بتحريم الاستعباد.. وإلا كيف يبحث عن استئصال ما يقول بإباحته؟
قال المبشر: لا يزال ذهني كليلا دون إدراك ما ترمي إليه.
قال أحد الحكماء: إدراك ما أرمي إليه يستدعي التعرف على منهج الإسلام في الأحكام، وهو المنهج الذي يراعي الواقع النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.. ولأجله قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم) (1)، فأمر الكعبة من الخطورة بالنسبة للواقع الاجتماعي الذي عاشه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحيث منعه من فعل ما هو حق حرصا على الواقع.
قال المبشر: ولكن الإسلام جابه الواقع في قضايا كثيرة.
قال أحد الحكماء: يختلف ذلك بحسب نوع القضايا.. فعندما يتعلق الأمر أو النهي
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/230)
بقاعدة من قواعد التصور الإيماني، أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى، ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج، ويهيء الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة.
قال آخر: عندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك أمضى أمره منذ اللحظة الأولى في ضربة حازمة جازمة لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة فيها ولا مساومة، ولا لقاء في منتصف الطريق.. لأن المسألة مسألة قاعدة أساسية للتصور، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام.
قال آخر: فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف، والعادة تحتاج إلى علاج.. فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع.. وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى.. ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43].. والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة، وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي؛ إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله، فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها.. حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]
قال المبشر: ولكن مثل هذا النص لم ينزل في الاستعباد.
ربوبيون وربانيون (3/231)
قال أحد الحكماء: أمر الاستعباد لم يكن يتعلق بالفرد في حد ذاته، بل كان يرتبط بوضع اجتماعي اقتصادي، وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبل تعديل ظواهرها وآثارها.
قال آخر: والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية.. ولم يأمر الإسلام بالرق قط، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى، ولكنه جاء فوجد الرق نظاما عالميا يقوم عليه الاقتصاد العالمي، ووجد استرقاق الأسرى عرفا دوليا، يأخذ به المحاربون جميعا، فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل.
قال المبشر: فيم تمثل هذا العلاج؟
قال أحد الحكماء: لقد وضع الإسلام أربعة أنواع من العلاج لهذه الظاهرة لا تساهم فقط في تحرير الرقيق، بل توفر لهم من الحياة ما لا يحلم به الأحرار.
قال المبشر: فما أولها؟
قال أحد الحكماء: تجفيف منابع العبودية.
قال المبشر: ما معنى هذا؟
قال أحد الحكماء: لقد كان للرق روافد كثيرة، وإمدادات واسعة.. كان كالنهر العظيم الذي تمده السيول والوديان كل حين، بكل قوة.
قال المبشر: فماذا فعل الإسلام؟
قال أحد الحكماء: لقد ذهب إلى تلك السيول والوديان، وراح يجففها واحدا واحدا..
ربوبيون وربانيون (3/232)
ليجف النهر بعد ذلك.
قال المبشر: هلا شرحتم لنا هذا (1).
قال أحد الحكماء: عندما ظهر الإسلام كان للمظالم الاجتماعية والتمييز العرقى والطبقى منابع وروافد عديدة تغذى نهر الرق في كل يوم بالمزيد من الأرقاء.
قال آخر: فالحرب يتحول بها الأسرى إلى أرقاء، والنساء إلى سبايا وإماء.. والخطف، يتحول به المخطوفون إلى رقيق.. وارتكاب الجرائم الخطيرة كالقتل والسرقة والزنا كان يحكم على مرتكبيها بالاسترقاق.. والعجز عن سداد الديون، كان يحول الفقراء المدينين إلى أرقاء لدى الأغنياء الدائنين.. وسلطان الوالد على أولاده، كان يبيح له أن يبيع هؤلاء الأولاد، فينتقلون من الحرية إلى العبودية.. وسلطان الإنسان على نفسه، كان يبيح له بيع حريته، فيتحول إلى رقيق.. والنسل المولود من كل هؤلاء الأرقاء يصبح رقيقا، حتى ولو كان أباه حرا.
قال آخر: ومع كثرة هذه الروافد التى تمد نهر الرقيق فى كل وقت بالمزيد من الأرقاء كانت أبواب العتق والحرية إما موصدة تماما، أو ضيقة عسيرة على الولوج منها.
قال المبشر: فماذا فعل الإسلام ليحمي الإنسان من هذه الروافد الكثيرة التي تلتهم حريته؟
قال أحد الحكماء: لقد بدأ الإسلام بإغلاق كل الروافد التى كانت تمد نهر الرقيق بالمزيد من الأرقاء، فلم يبق منها شيئا.
قال المبشر: كيف تقول هذا.. والمسلمون كانوا يسترقون من يأسرونهم في حروبهم
__________
(1) رجعنا في هذه الردود إلى كتاب (شبهات المشككين)
ربوبيون وربانيون (3/233)
الظالمة والتوسعية، والتي كانوا يكذبون على العالم بتسميتها فتوحا.
قال أحد الحكماء: أنا أتحدث لك عن الإسلام بمصادره المقدسة، ولا أتحدث عن المسلمين.. فالمسلمون ليسوا معصومين.. وقد ارتكبوا من الأخطاء في تاريخهم ما نالوا جزاءه، ولا يزالون.
قال المبشر: لكن فقهاء المسلمين يعتبرون الأسر منبعا من منابع العبودية.
قال أحد الحكماء: إسلامنا نأخذه من كتاب ربنا وسنة نبينا.. أما الفقهاء فهم بشر كسائر البشر، يخطئون ويصيبون.
قال المبشر: فهل في قرآنكم ما ينفي استعباد الأسرى؟
قال أحد الحكماء: أجل.. فليس فيه نص واحد يبيح استرقاق الأسرى (1).
قال آخر: لقد فتح الإسلام أمام الأسرى باب العتق والحرية بالمن أو الفداء، كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ [محمد: 4]، فعندما تضع الحرب أوزارها، يتم تحرير الأسرى، إما بالمن عليهم بالحرية وإما بمبادلتهم بالأسرى المسلمين لدى الأعداء.
قال آخر: بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سن لنا سنة المن، وبين الواقع التاريخي ما في هذه السنة من المصالح، فقد روى الثقاة من كتاب السير والحديث أن المسلمين أسروا في سرية من السرايا سيد بني حنيفة ثمامة بن أثال الحنفي وهم لا يعرفونه، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعرفه وأكرمه، وأبقاه عنده ثلاثة أيام، وكان في كل يوم يعرض عليه الإسلام عرضا كريما، فيأبى ويقول: إن تسأل مالا تعطه، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، فما كان من
__________
(1) انظر: كتاب [بيان حكم استرقاق الأسيرات والاستغلال الجنسي لهن في ضوء القرآن والسنة] للشيخ: علي رضا دميرجان.
ربوبيون وربانيون (3/234)
النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن أطلق سراحه.. ولقد استرقت قلب ثمامة هذه السماحة الفائقة، وهذه المعاملة الكريمة، فذهب واغتسل، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسلما مختارا، وقال له: (يا محمد، والله ما كان على الأرض من وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى.. والله ما كان على الأرض من دين أبغض إلى من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين إلي.. والله ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك، فقد أصبح أحب البلاد إلي).. وقد سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإسلامه سرورا عظيما، فقد أسلم بإسلامه كثير من قومه.
قال آخر: ولم يقف أثر هذا التسامح في المعاملة عند إسلام ثمامة وقومه، بل كانت له آثار بعيدة المدى في تاريخ الدعوة الإسلامية، فقد ذهب مكة معتمرا، فهم أهلها أن يؤذوه ولكنهم ذكروا حاجتهم إلى حبوب اليمامة، فآلى على نفسه أن لا يرسل لقريش شيئا من الحبوب حتى يؤمنوا، فجهدوا جهدا شديدا فلم يروا بدا من الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكتب صلى الله عليه وآله وسلم إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين حبوب اليمامة، ففعل.
قال آخر: بل امتد أثر دخوله في الإسلام على أساس من الاختيار والرغبة الصادقة إلى ما بعد حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك أنه لما ارتد بعض أهل اليمامة، ثبت ثمامة ومن اتبعه من قومه على الإسلام، وصار يحذر المرتدين من أتباع مسيلمة الكذاب، ويقول لهم: (إياكم وأمرا مظلما لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم، وبلاء على من لم يأخذ به منكم)، ولما لم يجد النصح معهم خرج هو ومن معه من المسلمين وانضموا للعلاء بن الحضرمي مددا له، فكان هذا مما فت في عضد المرتدين، وألحق بهم الهزيمة.
قال آخر: بالإضافة إلى هذا، فإنه لم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضرب الرق على أسير من الأسارى، بل أطلق أرقاء مكة، وأرقاء بني المصطلق، وأرقاء حنين.
قال آخر: وثبت عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أعتق ما كان عنده من رقيق في الجاهلية، وأعتق كذلك ما
ربوبيون وربانيون (3/235)
أهدي إليه منهم.
قال المبشر: لا بأس.. فهل هناك علاج غير هذا.. فهذا لا يكفي.
قال أحد الحكماء: العلاج الثاني الذي وضعه الإسلام لعلاج الاستعباد هو حفظ حقوق المستعبدين.
قال المبشر: وما جدوى هذا العلاج ما دام الرقيق يظل رقيقا؟
قال أحد الحكماء: إذا وجد الرقيق الحياة الكريمة الطيبة، والتي لا تختلف عن حياة الأحرار لن يتألم ـ كبير تألم ـ للرق الذي يصيبه.
قال المبشر: إن هذا مداره على نوع الحقوق التي يتمتع بها.
قال أحد الحكماء: لقد ساوى الإسلام بين العبد والحر فى كل الحقوق الدينية، وفى أغلب الحقوق المدنية، ولم يكن التمييز في بعض هذه الحقوق إلا لمصلحة الأرقاء مراعاة للاستضعاف والقيود التى يفرضها الاسترقاق على الإرادة والتصرف.
قال آخر: فالمساواة تامة فى التكاليف الدينية، وفى الحساب والجزاء، وشهادة الرقيق معتبرة عند كثير من الفقهاء، بل هي الأرجح، وله حق الملكية فى ماله الخاص، بل ورد في النصوص الحث على إعانته على شراء حريته بنظام المكاتبة والتدبير، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33].. وزيادة على هذا كله، فإن الدماء متكافئة فى القصاص.
قال المبشر: ولكن فقهاء المسلمين ينصون على أن الرقيق لا يرث.
قال أحد الحكماء: وذلك في مصلحته.. فلو كان له الحق في الإرث لاحتفظ به سيده لنفسه، ولم يعتقه طمعا في وفاة بعض مورثيه لينال مما يصيبه من تركته.
ربوبيون وربانيون (3/236)
قال المبشر: لكن الرقيق قد لا يهتم بالكثير مما ذكرت من حقوق.. إنه يبحث عن الحياة الإنسانية الكريمة التي تجتمع فيها جميع متطلبات الحياة النفسية والاجتماعية.
قال أحد الحكماء: وقد وفر الإسلام جميع ذلك.. وفي أرقى الدرجات.. بل إن الرق الذي كان أكبر مصادر الاستغلال والثراء لملاك العبيد، حوله الإسلام بفضل القيم التى جاء بها إلى ما يشبه العبء المالى على ملاك الرقيق.
قال آخر: ذلك أنه طلب من مالك الرقيق أن يطعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل مالا يطيق.. بل طلب منه إلغاء كلمة العبد والأمة لما فيها من إهانة، واستبدالها بكلمة الفتى والفتاة.
قال المبشر: انظر ما تقول.. فليس من اليسير أن تقوّل الفقهاء ما لم يقولوا.
قال أحد الحكماء: ما قلته لم يقله الفقهاء.. بل قاله سيد الفقهاء.. بل كان من آخر وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيته بهم، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)، فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه (1).
قال آخر: وقد تظافرت الأحاديث المبينة لأنواع الحقوق التي يجب على المالك أداؤها على من يملكه؛ فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المالك أن يطعم مملوكه ويكسوه، مما يأكل ويلبس، وأن لا يكلفه من العمل ما لا يطيق.
قال آخر: ففي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خولكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما
__________
(1) رواه أبو داود.
ربوبيون وربانيون (3/237)
يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم) (1)
قال آخر: وقال: (إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين؛ فإنه ولي علاجه) (2)
قال آخر: وقال: (كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم) (3)
قال آخر: وقد نهي عن تكليفهم من الأعمال فوق طاقتهم، وقد روي أنه دخل على سلمان رجل وهو يعجن فقال: يا أبا عبد الله ما هذا؟ فقال: بعثنا الخادمة في شغل، فكرهنا أن نجمع عليه عملين.
قال آخر: وفوق هذا نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينادى العبد بما يدل على تحقيره واستعباده، فقال: (لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، ولا يقولن المملوك: ربي وربتي، ليقل المالك: فتاي وفتاتي، وليقل المملوك: سيدي وسيدتي، فإنكم المملوكون والرب: الله عز وجل) (4)، وقال: (لا يقولن أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي ومولاي ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي) (5)
قال آخر: ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ظلمهم وإذيتهم، بل رتب الكفارة على ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه) (6)
قال آخر: وعن أبي مسعود الأنصاري قال: بينا أنا أضرب غلاما لي إذ سمعت صوتا
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
(5) رواه البخاري ومسلم.
(6) رواه أحمد وغيره.
ربوبيون وربانيون (3/238)
من خلفي، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)، فقلت: هو حر لوجه الله، فقال: (لو لم تفعل لمستك النار) (1)
قال آخر: بل نص الفقهاء على أن للقاضي حق الحكم بالعتق إذا ثبت له أن المالك يسيء معاملة ملوكه.
قال آخر: ولهذا ورد نهي من لا يطيق الإحسان إليهم عن تملكهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لايمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله) (2)
قال آخر: هذه التشريعات.. أما الترغيبات.. ولا يحرك البشر شيء مثل الطمع.. فحسبك منها أن الله تعالى قرن الإحسان إلى المملوك بعبادته، فقال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ [النساء: 36]
قال آخر: وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الإحسان إلى المملوك من الصدقات التي يجازى المؤمن عليها، فقال: (ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقه) (3)
قال آخر: ورغب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعليمهم وتأديبهم، فقال: (من كانت له جارية فعلمها، وأحسن إليها وتزوجها، كان له أجران في الحياة وفي الأخرى: أجر بالنكاح
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
(2) رواه أبو داود.
(3) رواه النسائي.
ربوبيون وربانيون (3/239)
والتعليم، وأجر بالعتق) (1)
قال المبشر: ألم تكن هذه النصوص مجرد توجيهات لم تجد أحدا يستمع لها؟
قال أحد الحكماء: لا.. ما كان للمسلمين أن يهملوا التعاليم العظيمة التي جاء بها نبيهم.. لقد ورد في الأخبار الكثيرة المتواترة تجليات تلك التعاليم المقدسة.
قال آخر: ومنها ما روي عن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر، وعليه حلة، وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك، فذكر أنه ساب رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعيره بأمه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية: هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده؛ فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) (2)
قال آخر: وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني من العهود المحمدية عهدا مرتبطا بالإحسان إلى العبيد، ذكر فيه موقف الأولياء منه، ونظرتهم إليه، فقل: (واعلم يا أخي أنك لو أحسنت إلى عبدك مدى الدهر لا تقوم بواجب حق عبدك عليك لأنه بالأصالة إنما هو عبد الله كما أنك عبده، فإحسانك إليه يصحبه شهود المنة عليه، ولا هكذا إحسان عبدك إليك، فأجره موفر للدار الآخرة بخلاف أجرك، وهنا أسرار يعرفها أهل الله تعالى لا تسطر في كتاب.
قال آخر: ويذكر عن شيخه علي الخواص ـ رحمه الله ـ قوله: (لا ينبغي للفقراء أن يروا لهم ملكا لشيء من الوجود لا عبدا ولا أمة ولا دابة كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكمل ورثته يفعلون، وكان كل عبد دخل في يدهم أعتقوه لوقته، فهم يستحيون من الله تعالى أن يراهم
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/240)
يستعبدون أحدا من الخلق، ويجعلون عبيد سيدهم عبيدا لهم، فإن ذلك عندهم من أعلى طبقات سوء الأدب، ومن هنا كانوا عبيد الله خالصين لم يسترقهم شيء من مملكة الدارين، ولو أعطاهم الحق تعالى شيئا قبلوه أدبا ثم خرجوا عنه في الحال لربهم حياء منه أن يراهم مشاركين له في وصف من الأوصاف، فليس فرحهم سوى إقبال الحق عليهم، وليس حزنهم إلا على إدبارهم عنه لا غير، فسواء أقطعهم الجنة كلها أو لم يقطعهم منها هو عندهم سواء لعدم شهودهم دخول شيء من الكونين في ملكهم وشكرهم لله تعالى إنما هو من حيث النسب لا غير)
قال آخر: وقد استدل الشعراني لهذا الفهم الرباني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي) (1)
قال المبشر: دعني من هذا، وأخبرني كيف تخاطب الشريعة التي تزعم لها الرحمة العبد بالتكاليف الشرعية، وهو لا حرية له؟
قال أحد الحكماء: لقد رحم الله هذا العبد ـ أولا ـ فخفف عليه الكثير من التكاليف التي كلف بها الأحرار مراعاة للحالة التي يمر بها.
قال آخر: ثم إن الله تعالى برحمته جعل للعبد من الأجر إن أطاع الله ضعف ما للحر، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد إذا نصح لسيده، وأحسن عبادة الله، فله أجره مرتين) (2)
قال آخر: وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المملوك الذي يحسن عبادة ربه، ويؤدي إلى سيده الذي عليه من الحق، والنصيحة، والطاعة، له أجران) (3)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري.
ربوبيون وربانيون (3/241)
قال آخر: وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق الله، وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران) (1)
قال المبشر: ولكن مع كل ما ذكرت من وجوه الإحسان، فإن العبد يظل متألما للنظرات القاسية التي توجه له.. فيكفي أنه عبد.
قال أحد الحكماء: لا تقل هذا.. فالمسلم لا يفعل هذا.. بل قد ورد من الترغيب في هذا الباب ما جعل الصالحين يتمنون حياة العبودية، وقد استدل بعض العلماء بها إلى تفضيل العبد على الحر؛ لأنه مخاطب من جهتين: مطالب بعبادة الله، مطالب بخدمة سيده.
قال المبشر: لا بأس.. عرفت هذا.. وسلمت له.. فهل هناك غيره؟
قام بعض الحكماء، وقال: أجل.. وهو يتمثل في التشريعات المختلفة التي توفر للرقيق الحرية.
قال المبشر: فما هي هذه التشريعات؟
قال الحكيم: كثيرة.. ولكنها يمكن أن تجتمع في أربعة أصول كبرى.
قال المبشر: فما أولها؟
قال الحكيم: لقد جعل الله تعالى عتق الرقاب عبادة قائمة بذاتها لها من الشرف والفضيلة ما لا تدانيه عبادة أخرى، فقد اعتبر الله تعالى فك الرقبة وتحريرها من الأسباب التي يمتنع بها صاحبها من عذاب جهنم، فقال: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/242)
رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ [البلد: 11 ـ 16]
قال آخر: إن لفظ العقبة في الآية يوحي بالأهوال الشديدة التي تنتظر الإنسان.. إن القلب المؤمن يقشعر عند قراءتها، خاصة وأنها تليت بما يؤكدها، ويبين خطورتها، فقد قال تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾ [البلد: 12].. وهذه القشعريرة التي وردت في هذه السورة التي يقرؤها جميع المؤمنين باعتبار قصرها هي التي تحركهم لعتق الرقاب.
قال آخر: ليس هذا فقط.. بل وردت الأحاديث الكثيرة المعمقة لهذا المعنى، والتي تملأ به قلوب المؤمنين الخائفين من عذاب الله، والراجين لفضل الله، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار، حتى إنه ليعتق باليد اليد، وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج) (1)
قال آخر: وقد كان لهذا الحديث تأثيره المباشر في نفس الإمام السجاد، فقد قال بمجرد سماعه: ادع مطرفا، فلما قام بين يديه قال: اذهب فأنت حر لوجه الله.
قال آخر: وقد روي أن هذا الغلام الذي أعتقه الإمام السجاد كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم (2).
قال آخر: وكما رُغب الرجال رغب النساء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما مسلم أعتق رجلا مسلما، فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامه عظما من عظام محرره من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظما من عظامها من النار) (3)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
(2) رواه مسلم.
(3) ورواه النسائي.
ربوبيون وربانيون (3/243)
قال آخر: وفي حديث آخر يربط صلى الله عليه وآله وسلم بين عتق الرقاب والأعمال الصالحة العظيمة، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من بنى مسجدا ليذكر الله فيه، بنى الله له بيتا في الجنة، ومن أعتق نفسا مسلمة، كانت فديته من جهنم، ومن شاب شيبة في الإسلام، كانت له نورا يوم القيامة) (1)
قال آخر: وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار) (2)
قال آخر: وقد كان عتق الرقاب من الحلول التي يلجئ إليها المخطئون ليكفروا عن خطاياهم تطبيقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114]، ففي الحديث: أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صاحب لنا قد أوجب ـ يعني النار ـ بالقتل، فقال: (أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار) (3)
قال آخر: ولكن هذه العبادة قد لا تتسنى لعامة المسلمين، فأسعار العبيد كانت غالية.. ولهذا، فإن الشرع لم يكتف بالحث على عتق الرقاب، والذي قد لا يتسنى لعامة الناس، بل رغب في العتق بحسب الطاقة.
قال المبشر: كيف ذلك؟
قال أحد الحكماء: بأن يشترك الجمع من المؤمنين في عتق رقبة من الرقاب، وقد ورد في ذلك أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، علمني عملا يدخلني الجنة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة: أعتق النسمة، وفك الرقبة)، فقال: يا رسول الله، أوليستا بواحدة؟ قال: (لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة
__________
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه أحمد.
(3) رواه النسائي.
ربوبيون وربانيون (3/244)
أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم؛ فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير) (1)
قال المبشر: عرفت التشريع الأول، واقتنعت به، فما الثاني؟
قال أحد الحكماء: لقد جعل الشرع عتق الرقاب من الكفارات على أعمال قلما يخلو من الوقوع فيها أكثر المسلمين، وأكثرها مما ورد التنصيص عليه في القرآن الكريم لئلا يجد أي مساغ للتأويل والاحتيال.
قال المبشر: فما هي هذه الأعمال؟
قال أحد الحكماء: أولها وأكثرها وقوعا أن الشرع جعل عتق الرقبة كفارة للحنث في اليمين الذي قد لا يخلو من الوقوع فيه أحد، وقد نص على ذلك في قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: 89].
قال المبشر: والثاني؟
قال أحد الحكماء: لقد جعل الله تعالى عتق الرقاب كفارة في الظهار، وهو تحريم الرجل زوجته على نفسه، ثم رغبته في العودة إليها، وقد نص على ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
__________
(1) رواه أحمد.
ربوبيون وربانيون (3/245)
فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة: 3 ـ 4]، ولم يجعل الله تعالى للقادر على عتق الرقبة أي خيار آخر.
قال المبشر: والثالث؟
قال أحد الحكماء: لقد جعل الله تعالى عتق الرقاب كفارة للقتل خطأ، وقد نص على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ [النساء: 92].. ألا تلاحظ أن الله تعالى ذكر في هذه الآية وحدها جملة ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: 92] ثلاث مرات؟
قال المبشر: أجل.
قال أحد الحكماء: ألا يكفي ذلك للدلالة على ما يشكل عتق الرقاب من أهمية في هذا الدين؟
قال المبشر: كيف ذلك؟
قال أحد الحكماء: القرآن الكريم هو كتاب الحقائق الأزلية، ولذلك يندر وجود التفاصيل الفقهية، فذكر هذه التفاصيل في هذا المحل يدل على مدى أهمية الموضوع.
قال آخر: بالإضافة إلى هذا، فقد ورد في السنة تشريع عتق الرقاب كفارة للإفطار المتعمد في نهار رمضان، فقد روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هلكت يا رسول الله، قال: ما شأنك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: فهل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين
ربوبيون وربانيون (3/246)
مسكينا؟ قال: لا) (1)، فقد اعتبر عليه السلام العتق هو الواجب الأول في هذه الكفارة قبل الصيام مع أن الصيام من أسمى العبادات، بل هو ركن من أركان هذا الدين.. بل ورد قبل الإطعام للفقراء، مع حاجتهم إليه، وكأن رد الحرية إلى الرقيق وفيها حياته الحقيقية أولى وأهم.
قال آخر: بالإضافة إلى هذا كله، فقد عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل العتق كفارة لضرب العبد أو لطمه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من لطم مملوكا له أو ضربه فكفارته عتقه) (2)، وروي تطبيق هذا عن أبي مسعود الأنصاري قال: بينا أنا أضرب غلاما لي إذ سمعت صوتا من خلفي، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)، فقلت: هو حر لوجه الله، فقال: (لو لم تفعل لمستك النار) (3)
قال المبشر: فما الثالث؟
قال أحد الحكماء: تشريع المكاتبة.. وقد نص عليها في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 33].. ففي هذه الآية الكريمة يبين الله تعالى حلا تشريعيا مهما يضاف إلى الحلول السابقة، فقد أمر الله تعالى المؤمنين فيها أن يكاتب منهم كل من له مملوك، وطلب المملوك الكتابة، وعلم سيده منه خيرا.
قال المبشر: فما الكتابة؟.. وما وجه كونها من الحلول الشرعية؟
__________
(1) رواه البخاري وأبو داود والترمذي.
(2) رواه أحمد وغيره.
(3) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/247)
قال أحد الحكماء: هي أن يتفق السيد مع عبده القادر على العمل على أن يكسب له من المال ما يفدي به نفسه.
قال المبشر: أيمكن للعبد أن يترك له سيده الفرصة لأن يحترف، ثم يملك المال الذي يقبضه؟
قال أحد الحكماء: أجل.. بل ورد ما يدل على وجوب موافقة السيد على طلب عبده المكاتبة، وقد ورد أن الآية نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له صبح، طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين دينارا فأداها.
قال المبشر: أرأيت لو رفض السيد المكاتبة حرصا على استغلال عبده؟
قال أحد الحكماء: لا يقبل منه ذلك، فلا ينبغي للسيد أن يفرض العبودية على من يرفضها.. ألم تسمع الأمر الصريح في الآية؟
قال المبشر: بلى.. ولكن القرائن الخارجية.
قال أحد الحكماء: دعك من الخارج.. فما خرج عن النص لا يلغي النص.. ومع هذا.. فإن هذا الوجوب مرتبط بمدى صلاحية العبد للحرية.
قال المبشر: كيف ذلك؟.. أيمكن للعبد أن لا يصلح للحرية؟
قال أحد الحكماء: أجل.. قد يكون الأصلح له والأوفق بمصالحه أن يظل عبدا.
قال المبشر: هذا لا يمكن أبدا.. فالحرية وعشقها فطرة في النفوس.
قال أحد الحكماء: سأقرب لك هذا.. أنت تعلم أنه لا يكون للعبد أهل في المنطقة التي يتواجد بها.. ولذلك يكون مبيته وأكله وحياته في بيت سيده جزاء الخدمات التي يؤديها له.
ربوبيون وربانيون (3/248)
قال المبشر: عرفت هذا في التشريع السابق.
قال أحد الحكماء: وعرفت أن السيد المؤمن هو الذي يتساوى مع عبده فيما تتطلبه الحياة من مرافق.
قال المبشر: عرفت هذا.
قال أحد الحكماء: والسادة عادة يكونون من الأغنياء، أو ممن لهم نصيب وافر من المال.
قال المبشر: هذا صحيح.
قال أحد الحكماء: فالعبد الذي يتوفر له كل هذا.. ثم لا يكون له من الحرف ما يقدر به على الاشتغال لن يجد حياة أفضل من حياة العبودية التي تؤمن له جميع أسباب الرزق التي يستوي فيها مع الأغنياء من غير تعب كبير.
قال آخر: لقد جوستاف لوبون يقرر هذا: (إن الذي أراه صادقا هو أن الرق عند المسلمين خير منه عند غيرهم، وأن حال الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوروبا، وأن الأرقاء في الشرق يكونون جزءا من الأسرة.. وأن الموالي الذين يرغبون في التحرر ينالونه بإبداء رغبتهم.. ومع هذا لا يلجأون إلى استعمال هذا الحق) (1)
قال آخر: ولذلك ربط الله إذن السيد بالكتابة بمعرفته لمدى أهلية عبده للحياة الاجتماعية منفصلا عنه.
قال المبشر: وكيف يعرف ذلك؟
قال أحد الحكماء: بقدرة العبد على الكسب، وتخلقه بالأخلاق الاجتماعية التي تجعله
__________
(1) حضارة العرب ص 459 ـ 460.
ربوبيون وربانيون (3/249)
فردا ناجحا في حياته.
قال المبشر: لقد ورد النص بإعانتهم، فما المراد منه؟
قال أحد الحكماء: لقد قال تعالى مرغبا في إعانتهم: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33].. وهو أمر صريح للسادة بإعانتهم في مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئا مما في أيديهم ـ أيدي السادة ـ أو يحطوا عنهم شيئا من مال الكتابة.. وقد ترك الشرع ذلك من غير تحديد ليتنافس فيه المتنافسون.
قال المبشر: فما الرابع؟
قال أحد الحكماء: لقد جعل الشارع سهما خاصا من الزكاة، يوجه لغاية واحدة هي تحرير الرقاب.
قال المبشر: كيف يتم ذلك؟
قال أحد الحكماء: لقد ذكر الفقهاء في ذلك طرقا يمكن انتهاجها جميعا: منها أن يعان المكاتب، وهو العبد الذي كاتبه سيده واتفق معه على أن يقدم له مبلغا معينا من المال يسعى في تحصيله، فإذا أداه إليه حصل على عتقه وحريته وقد عرفت ذلك في التشريع الثالث.
قال آخر: ومنها أن يشترى الرجل من زكاة ماله عبدا أو أمة، فيعتقها أو يشترك هو وآخرون في شرائها وعتقها أو يشترى ولى الأمر مما يجبيه من مال الزكاة عبيدا وإماء فيعتقهم.
قال المبشر: أترك هذا للأفراد وأمزجتهم؟
قال أحد الحكماء: لا.. هذا في حالة عدم تولي الدولة شؤون الزكاة.
قال المبشر: فإن تولتها؟
قال أحد الحكماء: إذا تولاها الحاكم المسلم ـ كما هو الأصل ـ فله أن يشترى ويعتق
ربوبيون وربانيون (3/250)
من الرقيق ما يتسع له مال الزكاة، بشرط أن لا يجور على المصارف الأخرى.
قال آخر: ويمكن أن يأخذ بالرأي القائل بوجوب تسوية الأصناف المستحقين للزكاة، وبهذا لا يقل نصيب العبيد عن الثمن.
قال المبشر: ولكن أليس الثمن نصابا حقيرا مع ما تتطلبه الحاجة إلى عتق الرقاب من أموال؟
قال أحد الحكماء: قد يرى ولي الأمر أن يزيد في سهمهم بسب الحاجة إلى ذلك، وخاصة إذا استغنت الأصناف الأخرى.
قال المبشر: ولكن بانتفاء عصر الرقيق انتفت الحاجة إلى هذا السهم، وتفرغت الزكاة لغيرها من الأصناف.
قال أحد الحكماء: لا.. لا تقل هذا.. فلا يزال العبيد في الأرض.
قال المبشر: كيف تقول هذا؟
قال أحد الحكماء: هناك شعوب مستعبدة تحتاج من يفك رقابها.
قال المبشر: إن هذه فتوى خطيرة.
قال أحد الحكماء: لا حرج على الفتوى إن صدرت من أهلها.
قال المبشر: فهل أنت من أهلها؟
قال أحد الحكماء: لقد سمعت السيد رشيد رضا يجعل لسهم الرقاب مصرفا في تحرير الشعوب المستعمرة من الاستعباد إذا لم يكن له مصرف تحرير الأفراد (1).
قال آخر: وجاء من بعده الشيخ محمود شلتوت ـ وهو من هو ـ ليقول بعد أن تحدث
__________
(1) تفسير المنار: 10/ 598.
ربوبيون وربانيون (3/251)
عن انقراض رق الأفراد: (ولكن ـ فيما أرى ـ قد حل محله الآن رق هو أشد خطرا منه على الإنسانية، ذلكم هو استرقاق الشعوب في أفكارها وفى أموالها وسلطانها وحريتها في بلادها.. كان ذلك رق أفراد يموت بموتهم وتبقى دولهم حرة رشيدة، لها من الأمر والأهلية ما لسائر الأحرار الراشدين، ولكن هذا رق شعوب وأمم، تلد شعوبا وأمما هم في الرق كآبائهم فهو رق عام دائم، يفرض على الأمة بقوة ظالمة غاشمة!! وإذن فما أجدر هذا الرق بالمكافحة والعمل على التخلص منه، ورفع ذله عن الشعوب، لا بمال الصدقات فقط، بل بكل الأموال والأرواح) (1)
قال المبشر: أهذه هي التشريعات التي وردت في النصوص لتحرير الرقيق؟
قال أحد الحكماء: هناك غيرها مما لا يسعنا تفصيله هنا.. ومنها أن السيد إذا ملك زوجته صارت حرة، وإذا ملكت الزوجة زوجها صار حرا.
قال آخر: ومنها أن المالك إذا كان له ولد من أمته، كانت في سبيلها إلى الحرية، فإن شاء حررها، وإلا حرم عليه التصرف في ملكيتها حتى يموت فتكون حرة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك: (أيما امرأة ولدت من سيدها فإنها حرة إذا مات) (2)
قال آخر: ومنها أن المالك إذا عتق نصيبه في عبد، عتق العبد، وكان على المالك تخليصه من ماله، فإن لم يكن له مال سعى العتيق في أداء المال إلى الشريك الآخر دون إرهاق، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك: (من أعتق شقصا له في عبد فخلاصه في ماله أن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه) (3)
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة ص 446.
(2) رواه ابن ماجة والحاكم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/252)
قال آخر: ومنها أنه إذا أوصى المالك بعتق عبده لم يجز له الرجوع في الوصية، وكان هذا العبد حرا بعد الوفاة، ولو تجاوزت قيمته ثلث التركة الذي تنفذ فيه الوصايا.. بل إن المالك إذا جرى على لسانه هازلا إعتاق عبده، أصبح العبد حرا، لأن الحرية لا تتوقف على القصد والنية.
قال آخر: ومنها أن القرابة القريبة تتنافى مع الاسترقاق، ولهذا إذا ملك الشخص قريبه المحرم صار هذا القريب حرا، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن ملك ذا رحم محرم فهو حر) (1)
قال آخر: ومنها أن من نذر أن يحرر رقبة وجب عليه الوفاء بالنذر متى تحقق له مقصوده.
قال المبشر: هذه التشريعات، فما التوجيهات، فإنها قد تكون أعظم خطرا من التشريعات؟
قال أحد الحكماء: لقد نشرت النصوص الكثيرة الورادة في فضل عتق الرقاب وعيا عاما بالفضيلة العظمى للعتق.. حتى نشأت جماعات كان همها الدعوة إلى عتق الرقاب، وقد قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني معبرا عن هذه الدعوات: (أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نرغب كل غني عنده عبيد أو مال في العتق، لا سيما إن كان كثير الذنوب كالحكام وحاشيتهم وقضاة الأرياف الذين يتهورن في الأحكام)
قال آخر: وما نشأت هذه الدعوات إلا من تعاليمه صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان يربط فضائل الأعمال بعتق الرقاب لينشر مثل هذا الوعي، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال كل يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات
__________
(1) رواه النسائي وابن ماجة.
ربوبيون وربانيون (3/253)
كان كعدل رقبة يعتقها من ولد إسماعيل، ومن قالها مائة مرة كان كعدل عشر رقاب) (1)
قال آخر: وقد كان هذا الوعي سببا في انتشار ظاهرة العتق لأوهى الأسباب، فقد روى محمد بن عمر بن حرب قال: قال لنا بعض أصحابنا عن ابن عون أن نادته أمه فأجابها فعلا صوته صوتها فأعتق رقبتين.
قال آخر: وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم، قيل: فما بلغ من حلمه؟ قال: بينما هو جالس في داره إذ أتته خادمة له بسفود عليه شواء فسقط السفود من يدها على ابن فعقره فمات، فدهشت الجارية، فقال: ليس يسكن روع هذه الجارية إلا العتق فقال لها: أنت حرة لا بأس عليك.
قال آخر: وكان عون بن عبد الله إذا عصاه غلامه قال: ما أشبهك بمولاك؟ مولاك يعصي مولاه وأنت تعصي مولاك، فأغضبه يوما فقال: إنما تريد أن أضربك اذهب فأنت حر.
قال آخر: وكان عند ميمون بن مهران ضيف فاستعجل على جاريته بالعشاء فجاءت مسرعة ومعها قصعة مملوءة، فعثرت وأراقتها على رأس سيدها ميمون؛ فقال: يا جارية أحرقتني، قالت: يا معلم الخير ومؤدب الناس ارجع إلى ما قال الله تعالى قال: وما قال الله تعالى؟ قلت: قال: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ [آل عمران: 134] قال: قد كظمت غيظي، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 134] قال: قد عفوت عنك، قالت: زد فإن الله تعالى يقول: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 134]) والله يحب المحسنين﴾ (آل عمران: 134)، قال: أنت حرة لوجه الله تعالى.
__________
(1) رواه أبو داود.
ربوبيون وربانيون (3/254)
قال آخر: وقد روى الأصمعي، قال: حدثنا شبيب بن شيبة قال: كنا بطريق مكة وبين أيدينا سفرة لنا نتغدى في يوم قائظ، فوقف علينا أعرابي ومعه جارية له زنجية، فقال: يا قوم أفيكم أحد يقرأ كلام الله عز وجل حتى يكتب لنا كتابا؟ قال: قلت له: أصب من غدائنا حتى نكتب لك ما تريد، قال: إني صائم، فعجبنا من صومه في البرية، فلما فرغنا من غدائنا دعونا به فقلنا: ما تريد؟ فقال: أيها الرجل إن الدنيا قد كانت، ولم أكن فيها، وستكون، ولا أكون فيها، وإني أردت أن أعتق جاريتي هذه لوجه الله عز وجل، ثم ليوم العقبة، تدري ما يوم العقبة؟ قول الله تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد: 11 ـ 13]، اكتب ما أقول لك، ولا تزيدن علي حرفا: (هذه فلانة، خادم فلان، قد أعتقها لوجه الله عز وجل ليوم العقبة)، قال شبيب: فقدمت البصرة، وأتيت بغداد، فحدثت بهذا الحديث المهدي فقال: مائة نسمة تعتق على عهد الأعرابي.
قال آخر: وقال صالح بن عبد الكريم: رأيت غلاما أسودا في طريق مكة عند ميل يصلي فقلت له: عبد أنت؟ قال: نعم، قلت: فعليك ضريبة؟ قال: نعم، قلت: أفلا أكلم مولاك أن يضع عنك؟ قال: وما الدنيا كلها فأجزع من ذلها؟ قال: فاشتريته وأعتقته، فقعد يبكي وقال لي أعتقتني؟ قلت: نعم، قال: أعتقك الله يوم القيامة، وقعد يبكي ويقول: اشتد علي الأمر، فناولته دنانير فأبى أن يأخذها، قال: فحججت بعد ذلك بأربع سنين فسألت عنه فقالوا: غاب عنا فمذ غاب قحطنا وصار إلى جدة.
قال آخر: وقد روي أن عبد الله بن جعفر خرج إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه غلام أسود يعمل فيه؛ إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله، ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم؟ قال ما رأيت! قال فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال ما هي بأرض كلاب،
ربوبيون وربانيون (3/255)
إنه جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت أن أشبع وهو جائع! قال فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا فقال أحد التلاميذ بن جعفر ألام على السخاء! إن هذا الغلام لأسخى مني، فاشترى الحائط والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه.
قال المبشر: فكيف بقي الرق كل تلك الفترة مع كل هذا؟
قال أحد الحكماء: أنسيت يزيدا والحجاج؟
قال المبشر: وما علاقتهما بهذا؟
قال أحد الحكماء: إن الانحراف الذي حصل في السياسة فأنتج يزيدا والحجاج قد وجد مثله في المجتمع، فمكن للرق الذي جاء الإسلام ليستأصله.
قال المبشر: وعيت كل ما ذكرتموه.. فما العلاج الرابع الذي عالج به الإسلام مرض الاستعباد؟
قام أحد الحكماء، وقال: لقد استعملت الشريعة كل الأساليب التوجيهية والتشريعية لإدماج الرقيق المحرر، وتخليصه من آثار العبودية.
قال المبشر: ولم هذا؟
قال أحد الحكماء: ألا ترى أن قومك يزعمون أنهم حرروا العبيد؟
قال المبشر: أجل.. فقد نصت المادة الرابعة من إعلان حقوق الإنسان على أنه (لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعها)
قال أحد الحكماء: ولكن حياتهم وسلوكهم ومواقفهم تمتلئ بالعنصرية المقيتة؟
قال المبشر: صدقت في هذا.. فكيف عالجه الإسلام؟
قال أحد الحكماء: بأمرين: أحدهما تشريعي، والآخر سلوكي.
ربوبيون وربانيون (3/256)
قال المبشر: فما التشريعي؟
قال أحد الحكماء: لقد شرع الولاء، واعتبره مثل النسب، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب) (1)
قال المبشر: فما الولاء؟ وما المقصد التشريعي منه؟
قال أحد الحكماء: الولاء هو انتماء العبد المحرر إلى العائلة التي أعتقته، بحيث يصير فردا من أفرادها يحمونه وينصرونه، ويحميهم وينصرهم.. وقد اعتبره الإسلام كالنسب تماما.. فلهذا حرم هبته وبيعه، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن بيع الولاء وهبته (2).
قال آخر: ولهذا ورد النهي أن يوالي الشخص غير مواليه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا) (3)
قال آخر: ولهذا ورد النهي عن السائبة، ولهذا إن أعتق المالك عبدا سائبة على أن لا ولاء عليه عتق، وثبت له الولاء لقوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: 103]
قال آخر: وقد ورد في الحديث عن هزيل بن شرحبيل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني أعتقت عبدا لي وجعلته سائبة، فمات وترك مالا ولم يدع وارثا، فقال أحد التلاميذ: (إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإنما كان أهل الجاهلية يسيبون، وأنت ولي نعمته ولك ميراثه،
__________
(1) رواه الدارمى.
(2) رواه الجماعة.
(3) البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/257)
وإن تأثمت وتحرجت في شيء فنحن نقبله ونجعله في بيت المال) (1)
قال المبشر: ألا ترى أن في الولاء مصلحة للمعتق، فقد جعل الإسلام الولاء من أسباب الإرث؟
قال أحد الحكماء: ولكن مصلحة العبد المحرر أعظم.
قال المبشر: كيف ذلك؟
قال أحد الحكماء: أولا.. سيشجع هذا السادة على تحرير العبيد، لأنه يعلم أنه بإمكانه أن يرث مال عبده الذي أعتقه إن لم يكن له ورثة.
قال آخر: وثانيا.. هذا الاعتبار سيجعل السادة يحرصون على حفظ أموال عبيدهم الذين أعتقوهم حتى لا يقترب منهم من يؤذيهم.
قال آخر: ثم إنه لا مضرة على العبد المحرر في هذا.. لأن هذا الميراث لن ينتقل إلى محرره إلا في حالة عدم وجود وارث للعبد المحرر، وقد روي أن رجل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل وقال: اشتريته وأعتقته، فقال: (هو مولاك إن شكرك فهو خير له، وان كفرك فهو شر له وخير لك)، فقال: فما أمر ميراثه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن ترك عصبة، فالعصبة أحق وإلا فالولاء) (2)
قال المبشر: فإن مات السيد المعتق؟
قال أحد الحكماء: انتقل الولاء إلى أقاربه، لأن الولاء كالنسب، ويقدم في الميراث الأقرب فالأقرب، وقد روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (المولى أخ في الدين ونعمة يرثه أولى الناس بالمعتق)
قال المبشر: فما العلاج السلوكي التربوي؟
__________
(1) رواه البرقاني.
(2) رواه البيهقي وعبد الرزاق.
ربوبيون وربانيون (3/258)
قال أحد الحكماء: ما بثه الإسلام في النفوس المؤمنة من المساواة بين البشر، فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]
قال آخر: وقد ذم الله تعالى اليهود والنصارى الذين دعاهم تميزهم عن سائر البشر إلى اعتقاد بنوتهم لله، فقال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [المائدة: 18]
قال آخر: ولهذا استوت في الإسلام كل الأجناس والأعراق، لأن الميزان الذين يوزنون به هو التقوى لا النسب ولا أي شيء آخر.
قام رجل من الحاضرين، وقال: لقد ذكرتني بتأثير هذا الوعي في نفوس المجتمع الذي كان يمتلئ فخرا وكبرا، فقد قال الشاعر، وكان في أشرف بطن في قيس، يقول:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر... وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي أذاها... وأرمي من رماها بمنكب
قال أحد الحكماء: لقد ذكرتني ببذور التعصب التي نبتت في الأمة تريد صرفها عن هديها.
قال المبشر: فمن فعل ذلك؟
قال أحد الحكماء: المستبدون، ومن شايعهم.. وقد روي أن الحجاج لما خرج عليه ابن الأشعث وعبد الله بن الجارود، ولقي ما لقي من قرى أهل العراق، وكان أكثر من قاتله وخلعه وخرج عليه الفقهاء والمقاتلة والموالى من أهل البصرة، فلما علم أنهم الجمهور
ربوبيون وربانيون (3/259)
الأكبر، والسواد الأعظم، أحب أن يسقط ديوانهم، ويفرق جماعتهم حتى لا يتألفوا، ولا يتعاقدوا، فأقبل على الموالي، وقال: (أنتم علوج وعجم، وقراكم أولى بكم)، ففرقهم وفض جمعهم كيف أحب، وسيرهم كيف شاء.
قال آخر: ولم يكتف بذلك، بل راح ينقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجهه إليها، وقد انتشر شؤم هذا التصرف في الأمة أجيالا مديدة.
قال آخر: ويروى أن أعرابيا من بني العنبر دخل على سوار القاضي، فقال: إن أبي مات وتركني وأخا لي، وخط خطين، ثم قال: وهجينا، ثم خط خطا ناحية، فكيف يقسم المال؟ فقال له سوار: ها هنا وارث غيركم؟ قال: لا؟ قال: فالمال أثلاثا؛ قال: ما أحسبك فهمت عني، إنه تركني وأخي وهجينا، فكيف يأخذ الهجين كما آخذ أنا وكما يأخذ أخي؟ قال: أجل؛ فغضب الإعرابي، ثم أقبل على سوار، فقال: والله لقد علمت أنك قليل الخالات بالدهناء؛ قال سوار: لا يضرني ذلك عند الله شيئا.
قال آخر: ومع ذلك.. فإن شؤم الحجاج ومن شايعه لم يعد فئة محدودة، لم يكن لها تأثير كبير في الحياة الإسلامية.. فتأثير العلماء والصالحين في المجتمع الإسلامي كان أعظم من تأثير الحجاج، وقد حدث سالم بن أبي الجعد عن نفسه قال: اشتراني مولاي بثلثمائة درهم وأعتقني، فقلت: بأي شيء أحترف؟ فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائرا فلم آذن له.
قال آخر: ومثله أبو العالية، فقد اعتقته امرأة من بني رياح.. قال أبو العالية: دخلت المسجد معها فوافقها الإمام على المنبر فقبضت على يدي فقالت: اللهم أدخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله، ثم ذهبت فما تراءينا بعد.
قال آخر: وقبل هؤلاء وسابقهم بلال بن رباح، فقد كان له من الاحترام بين
ربوبيون وربانيون (3/260)
المسلمين.. ولهذا شرفه صلى الله عليه وآله وسلم بالآذان، فكان أول مؤذن في الإسلام، فعن القاسم بن عبد الرحمن قال: (أول من أذن بلال)
قال آخر: بل كان مقربا جدا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن أبي عبد الله الهوزني قال: لقيت بلالا فقلت: يا بلال حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي له ذلك منذ بعثه الله عز وجل حتى توفي، وكان إذ أتاه الرجل المسلم فرآه عاريا، يأمرني فأنطلق، فأستقرض، وأشتري البردة فأكسوه وأطعمه.
قال آخر: وعن عبد الله قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بلال، وعنده صبرة من تمر قال: ما هذا يا بلال؟ قال: يا رسول الله ادخرته لك ولضيفانك فقال: (أما تخشى أن يكون له بخار في النار؟ أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا) (1)
قال آخر: وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين ليلة ويوم مالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال) (2)
قال آخر: وفي اختيار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له لهذه الوظائف دليل على أنه كان يقصد دمجه في المجتمع ليخلصه من آثار الجاهلية، وليخلص بلالا من آثار العبودية.
قال آخر: بل روي ما هو أعظم من ذلك كله، فعن عبد الله بن بريدة قال: سمعت أبي يقول: أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعا بلالا فقال: (يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، إني دخلت البارحة، فسمعت خشخشتك، قال: (ما
__________
(1) رواه الطبراني والبزار.
(2) رواه الترمذي.
ربوبيون وربانيون (3/261)
أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بهذا) (1)
قال آخر: وقد كان لهذه المعاملة النبيلة تأثيرها في نفس بلال حتى أنه لم يطق أن يؤذن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. قال محمد بن إبراهيم التيمي: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن بلال ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقبر.. فكان إذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله انتحب الناس في المسجد، فلما دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له أبو بكر: أذن يا بلال، فقال: إن كنت إنما أعتقتني لأكون معك فسبيل ذلك، وإن كنت أعتقتني لله فخلني ومن أعتقتني له، فقال: ما أعتقتك إلا لله، قال: فإني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فذلك إليك، فقام حتى خرجت بعوث الشام فخرج معهم حتى انتهى إليها.
قال آخر: بل روي أن أبا بكر طلب منه أن يعينه في مهامه، فرفض، فعن سعيد بن المسيب قال: لما كانت خلافة أبي بكر تجهز بلال ليخرج إلى الشام، فقال له أبو بكر: ما كنت أراك يا بلال تدعنا على هذا الحال، لو أقمت معنا فأعنتنا، قال: إن كنت إنما أعتقتني لله عز وجل فدعني أذهب إليه، وإن كنت إنما أعتقتني لنفسك فاحبسني عندك، فأذن له فخرج إلى الشام فمات بها.
قال آخر: وقد كان له من السمعة في المجتمع ما جعل المسلمين يرغبون في تزويجه بناتهم، فقد روي أن بلالا وصهيبا أتيا أهل بيت من العرب فخطبا إليهم فقيل لهما، من أنتما فقال: فقال أحد الحكماء: أنا بلال وهذا أخي صهيب، كنا ضالين فهدانا الله وكنا مملوكين فأعتقنا الله، وكنا عائلين فأغنانا الله؛ فإن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فسبحان الله، فقالوا: بل تزوجان والحمد لله، فقال صهيب: لو ذكرت مشاهدنا وسوابقنا مع رسول الله
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم.
ربوبيون وربانيون (3/262)
صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: اسكت، فقد صدقت فأنكحك الصدق.
ما انتهى الحكماء من هذا الحديث حتى قام رجل من الجالسين، وقال: بورك فيكم فقد ـ والله ـ أزحتم عن قلوبنا جبالا من الآلام كانت تتراكم عليها.
قال آخر: كنا نتعجب أن يقر الإسلام عبودية البشر للبشر مع أنه جاء يحرر البشر من عبودية أنفسهم وعبودية كل شيء إلا الله.
قال آخر: لقد كنت أقرأ وصية الإمام على لابنه: (ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا).. فأتعجب كيف يقر هذا الدين الرق.
قال أحد الحكماء: فما عرفت الآن؟
قال الرجل: عرفت أن العبودية التي وضع الإسلام قوانينها بتشريعاته وتوجيهاته لا تختلف كثيرا عن الوظائف التي تسند إلينا في حياتنا المدنية المعاصرة.. إن لم تفقها في كثير من النواحي.
قال أحد الحكماء: كيف ذلك؟
قال الرجل: الموظف عندنا في أي شركة من الشركات يتمنى أن تفرض عليه الشركة استعبادها، فلا تعتقه، ولا تستكتبه.
قال أحد الحكماء: ولكنه حر.. وحسبه بالحرية.
قال الرجل: إن كثيرا مما ذكرت من حقوق المستعبدين يفوق ما يناله الكثير من الأحرار في هذه الوظائف.. فالعبد في بيته مستقر مع أهله قد ضمن له أكله وشربه ولبسه ومبيته وكل ما تتطلبه حياته.. فإذا ما عجز سيده عن الوفاء انتقل إلى سيد آخر.. وحياة السادة لا تختلف كثيرا عن حياة عبيدهم.
قال آخر: زيادة على هذا كله، فإن وظائف هؤلاء العبيد محدودة لا تصرفهم عن
ربوبيون وربانيون (3/263)
الحياة العادية ولا عن العلم، ولا عن أهله.. وكل ذلك قد لا يتسنى لكثير من الأحرار في عصرنا.
بعد أن انتهى الجميع من الحديث، ساد صمت عميق ذلك المجلس.. قطعه المبشر بقوله: اسمحوا لي ـ حضرة العبيد المحررين ـ أن أقر لكم بحقيقة.. أرجو أن لا تستقبلوها إلا بما تستقبل به الحقائق.. لقد رأيتم موقفي في بداية هذا المجلس من الإسلام.. وربما جعلكم ذلك تتصورون أني أحقد على الإسلام، أو أن قلبي يختزن نحوه من العداوة ما يختزنه لساني.. وأريد الآن.. وبعد أن سمعت حديث هؤلاء الأفاضل أن أخبركم بالحقيقة.. الحقيقة المرة التي جعلتني أقول ذلك الكلام.
سكت قليلا، ثم قال: أنتم تعلمون أني من أمريكا.. فقد كنت أفخر كل حين بينكم بهذا البلد.. ولاشك أنكم تعلمون حقيقتي التي كنت أكتمها.. وهي أن أصلي ليس أمريكيا.. بل إنني من إفريقيا.. ومن بلد مسلم من بلادها.. بل إن أجدادي فوق ذلك كله كانوا من المسلمين.. ولكني.. وبسبب تلك العقد الكثيرة التي نشرها في وفي أجدادي الاستعباد صرت لا أرى السادة إلا في أمريكا، ولا أرى السيد إلا ذلك الرجل الأبيض الممتلئ بالقسوة.. وقد حملني هذا إلى أن أسير به في البلاد المستضعفة لأنفخ فيها ما ملأني به الإستعباد.. وأمارس عليها من السيادة ما مارسه علي وعلى آبائي أولئك المجرمون القساة.. أما الآن.. وبعد أن سمعت أحاديث هؤلاء الرفاق الطيبين، فإني أصرخ بينكم بكل قوة بشهادة التوحيد التي صرخ بها آبائي جميعا.. فلا سيادة ولا حرية ولا كمال ولا فخر إلا بالانتساب إلى الله.. ثم الانتماء إلى ذلك النبي العظيم الذي جعله الله رحمة للعالمين.
ربوبيون وربانيون (3/264)
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن المشهد الذي عرفت به الرحمة المرتبطة بالخطائين، وعلاقتها بالدين.
قال: لقد شاء الله أن يكون هذا المشهد في بعض سجون المسلمين، والتي ذهبت إليها صحبة بعض رجال الكنيسة، لتبشيرهم، وبث الأمل فيهم، واستغلال ذلك للتنفير من الإسلام، والدعوة للمسيحية.. لكن ما وقع لم يكن بحسب ما يريده تماما.
قلنا: كيف ذلك؟
قال: عندما جلسنا مع السجناء راح القس يخاطبهم بقوله: لقد أرسلني المسيح إليكم لأنقذ أرواحكم من تلك العقد التي يوقعكم فيها الإسلام حينما يشعركم بالذنب.. وحينما يملؤكم بالحزن على ذنوبكم.
سكت قليلا، ثم قال: نحن في المسيحية لا نفعل ذلك.. نحن نملؤكم بالمسرة والسعادة حتى ولو كنتم مذنبين.. بل نحن نبشركم بما بشرنا به بولس حين قال في رسالته إلى أهل رومية: (بر الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون، لأنه لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجانا بنعمه بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السلفة بإمهال الله لإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون بارا ويبرر من هو من الإيمان بيسوع، فأين الافتخار، قد انتفى بأي ناموس، أبناموس الأعمال، كلا، بل بناموس الإيمان، إذا نحسب أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس) [رومية: 3: 22 ـ 28]
فتح الكتاب المقدس على بعض المواضع، ثم راح يقول: كما نبشركم بما ورد في نفس السفر من قوله: (لأنه أن كان بخطيئة واحد مات الكثيرون فبالأولى كثيرا نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين.. وليس كما بواحد قد
ربوبيون وربانيون (3/265)
أخطأ هكذا العطية، لأن الحكم من واحد للدينونة، وأما الهبة فمن جرى خطايا كثيرة للتبرير، لأنه أن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح، فإذا كما بخطيئة واحدة صار الحكم إلى جميع الناس لتبرير الحياة، لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة هكذا أيضا بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبرارا) [رومية: 5: 15 ـ 19]
قال ذلك.. ثم راح يغرق في حالة وجدانية رقيقة قائلا: حينما تؤسس حياتكم على صخرة الإيمان بربنا يسوع المسيح، وتعاليم الكتاب المقدس العظيم، وتعودون إلى كتابات الآباء الأولين فإنكم ستشعرون حتما بالثقة والطمأنينة والفخر حينما ترون الكنيسة وهي تعيش الإيمان المسلم من الرب ذاته للرسل الأطهار.. ليكن هدفنا من التعلم أن نمارس ما نتعلمه في حياتنا لكي نستفيد بكل حسن من أجل نمو حياتنا في الإيمان، وانتصارنا على الحية القديمة المدعو إبليس، متطلعين إلى الحياة الأبدية حينما نحيا في حضرة إلهنا، نتمتع به ونتذوق حلاوته.
فجأة.. ومن غير المنتظر أو المتوقع.. رفع سجين من السجناء يده يطلب السؤال.. كان سجينا ذكيا فطنا، خبيرا بالمسيحية، عالما بها وبنقاط ضعفها، وهو فوق ذلك يحمل من الصبر ما يصل به إلى غايته ولو في أطول الطرق وأضيقها.
رأى القس يده المرفوعة، فلم يملك إلا أن يأذن له، فلم يكن يتوهم أن هذه اليد المرفوعة وغيرها من الأيادي ستنسخ كل ما ذكره من الأحاديث.
قال السجين: أجبني حضرة الأب الفاضل.. لقد ذكرت لنا أننا لن نتطهر إلا عندما نتعمد.. وعندما ندخل الكنيسة.. وقد كنت عارفا بالمسيحية وبكنائسها، وقد رأيت فيها شيئا لست أدري مدى صحته.. ومدى علاقته بالمسيح وبالمسيحية.
ربوبيون وربانيون (3/266)
قال القس، وقد بدا عليه بعض الإرباك: ما هو؟
قال السجين: سر الاعتراف.. لقد رأيت الكنيسة تمارس ما تسميه سر الاعتراف، فهل توجد أدلة كتابية وتاريخية وآبائية تدل على ضرورة أن يكون الاعتراف أمام الكاهن؟.. وهل الاعتراف لله لا يكفي حتى نحتاج إلى الاعتراف أمام الكاهن؟
استجمع القس أنفاسه، وكأنه يهم بالقيام بحرب ضروس، ثم قال: للإجابة على سؤالك هذا ينبغي أن نعلم حقيقتين هامتين.. أولاهما: أن الوحيد القادر على غفران الخطايا هو الله عن طريق دم المسيح المسفوك على عود الصليب.. والثانية: عن حياتنا المسيحية، فكل مسيحي هو عضو في جسد المسيح الحي الذي هو كنيسته المجيدة، ورأس هذا الجسد هو المسيح له كل المجد.. ومن أجل بنيان هذا الجسد أعطى الله المواهب الروحية المتكاملة، فقد أعطي البعض أن يكونوا رسلا، والبعض أنبياء، والبعض مبشرين، والبعض رعاة ومعلمين لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح، ولذلك ينبغي عليك أن لا تحزن إذا وجدت نفسك بحاجة إلى آخر لكي يعمل معك ومن أجلك فبالتأكيد أن الله أعطاك موهبة روحية ولكنه لم يعطك كل المواهب والوظائف اللازمة لتسير في طريق الكمال.
سكت قليلا، ثم قال: واعلم أيضا أنك حينما تخطئ فإنك لا تسئ إلى نفسك فقط وإنما تسئ أيضا إلى الجسد الذي تنتمي إليه (الكنيسة)، كما أنك تسئ أيضا إلى الله القدوس البار.. ولذا فإن الإنسان حينما يخطئ يطالب بأن يندم على خطيئته ويكرهها، ثم يقر بها أمام الكنيسة وحينها يقوم الله بغفران هذه الخطايا.. وهذا ما فهمه المسيحيون الأوائل، وهذا ما نراه في سفر الأعمال حينما يقول: (وكان كثيرون من الذين آمنوا يأتون مقرين ومخبرين بأفعالهم) [أعمال: 19: 1].. وقد أعطيت الكنيسة ممثلة في الرسل ومن خلفهم من الأساقفة
ربوبيون وربانيون (3/267)
هذا السلطان من الرب يسوع حينما قال: (كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السموات) [متى: 16: 19]
فتح الكتاب المقدس على بعض المواضع، ثم قال: وقال في سلطة الكنيسة: (وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار، الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء) [متى 18: 17، 1].. وبعد قيامته قال لتلاميذه بعدما نفخ في وجوههم: (اقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تغفر لهن ومن أمسكتم خطاياه أمسكت) [يوحنا: 20: 22، 23]
قال السجين: لكن.. ألا يمكن أن يكون المسيح قد أراد أن يكون هذا السلطان عاما للجميع، وليس للرسل والكهنة فقط.. وبذلك يستطيع كل واحد منا أن يحل ويربط كالرسل تماما؟
قال القس: لا.. هذا لا يمكن.. فالخطاب الموجه في الآيات السابقة كان موجها لقادة الكنيسة ممثلة في الرسل، كما أن أهل كورنثوس لم يستطيعوا ممارسة هذا السلطان إلا حينما مارسه الرسول بولس مع زاني كورنثوس الشهير [1 كو 5: 1 ـ 5].. ولا ينبغي أن تنسى أن مواهب الروح قد قسمت على الجميع، وكما يقول الرسول: (فإني أقول بالنعمة المعطاة لي لكل من هو بينكم أن لا يرتئي فوق ما ينبغي آن يرتئي بل يرتئي إلى التعقل كما قسم الله لكل واحد مقدارا من الإيمان) [رومية: 12: 3]
سكت قليلا، ثم قال: وهذا ما فهمه جميع الآباء في القرون الأولى ومارسوه بكل قوة وتكلموا عنه وكتبوه في كتاباتهم التي مازالت باقية حتى اليوم ولا يستطيع أحد التشكيك فيها، ولا أظن أن شخصا منصفا محبا لله ومهتما بخلاص نفسه ينكر آيات الكتاب
ربوبيون وربانيون (3/268)
وتفاسيرها ومن مارسوها ليقدم بدعة لا سند لها من الكتاب أو التاريخ أو أقوال الآباء.. وهل يستطيع أحد أن بخرج لنا آية من العهد الجديد تقول: (لا تعترفوا على يد الكهنة)؟
أخرج كتابا من محفظته، وفتحه على بعض المواضع، ثم قال: من الأقوال المحكية في ذلك قول القديس كبريانوس (200 ـ 258 م): (فليعترف كل منكم أيها الأخوة الأحباء بإثمه مادام من إثم في هذا العالم وما دام ممكنا قبول اعترافه وما دامت المغفرة بواسطة الكهنة مقبولة عند الله).. وبقول العلامة ترتليان (160 ـ 240 م): (إن كثيرين ينتبهون إلى الخجل أكثر من الخلاص فيهربون من الاعتراف سترة لهم ويؤخرونه من يوم إلى يوم كمن أصابه مرض في الأعضاء المستحى منها فأخفى عن الأطباء مرضه فيباد بخجله.. فإذا أخفينا نفوسنا عن معرفة الناس هل تخفى عن الله، وهل الأولى لنا أن نهلك وذنوبنا مخفية من أن نحل وهي مكشوفة في التوبة)
رفع سجين آخر يده، ثم قال: هل تسمح لي ـ حضرة الأب الفاضل ـ أن أعترف أمامك وأمام هذا الجمع ببعض الشبهات التي تخطر على بالي في هذا الباب، وتكدر علي بذلك صفو اتباع المسيح ودين المسيح؟
قال القس: تحدث.. قل ما تشاء.. وأنتم أيضا.. تحدثوا كما تشاءون.. فستجدون عندي الجواب الكافي والشافي.
قال السجين (1): أنت تعلم ـ حضرة الأب الفاضل ـ أن الأساس الأول في المسيحية هو عقيدة الخلاص، فالمسيح المخلص نزل من السماء وصلب ومات ليخلص المؤمنين من وزر الخطيئة الأولى التي تحملتها البشرية قرونا طويلة.
__________
(1) استفدنا هذه الردود من: (الإثم الفردي والغفران في تصور الكنيسة)، للدكتورة: أميمة بنت أحمد شاهين.
ربوبيون وربانيون (3/269)
قال القس: أجل.. فالابتلاء ليس إلا نتيجة للعنة الخطيئة التي أوقعها الإله على آدم وذريته بعد السقوط، وقد أشار إلى ذلك معجم اللاهوت الكاثوليكي، فذكر أن سبب العذاب والألم والموت هو الخطيئة عينها.. أي الخطيئة الأصلية.
قال السجين: وهذا يعني أن موت المسيح كان لرفع هذه اللعنة.
قال القس: أجل.. فموت المسيح كان كفارة وفداء عن العقوبة التي وقعت على الجنس البشري كله بسقوط نائبه الأول.
قال السجين: بناء على هذا، فإن المؤمن المسيحي يتحول بعد الفداء إلى حالة النقاء التي خلق عليها الإنسان الأول قبل السقوط.. خاليا من الخطيئة ولعنتها.. سعيدا كما كان قبلها.
قال القس: أجل.. ذلك صحيح.
قال السجين: ولكنا لو تناولنا هذا الأمر من منظور واقعي فسنجد أن الحياة المسيحية لم تتغير، فما زالت ـ كما عرفها التاريخ ـ تشوبها المكاره، ويعتريها الشقاء.. والمؤمن المسيحي ما زال مثقلا بالمصائب يشقي ويتعب، والشرور لم تزل تحيط بمجتمعات ترفع الصليب فوق رؤوسها.. أليس كذلك حضرة الأب الفاضل؟
سكت القس، فقال السجين: إذا لم صلب المسيح ومات، ما دام ذلك لم يغير معالم الواقع المر؟.. وأين الخلاص الذي وعدنا به؟
لم يجب القس بأي جواب، فقال السجين: لقد رأيت أن المؤمنين بالمسيح أمام هذه التناقضات انقسموا إلى قسمين.. أما أولهما، فحاول تطبيق تعاليم المسيح المثالية اعتقادا منهم أنهم نالوا الخلاص بإيمانهم به، منتظرين تغيير حالهم تحقيقا لوعد قدم لهم من رجال الكنيسة، ليفاجئوا بأن الشقاء ما زال ملازما لهم والمصائب تزورهم بين الحين والآخر،
ربوبيون وربانيون (3/270)
الأمر الذي أصابهم بخيبة مريرة دفعتهم للابتعاد عن الكنيسة ورجالها، رافضين سلطانها وتعاليمها، فقد أثبتت التجربة الواقعية لهم فساد أقوال رجالها وتعاليمهم.. وقسم آخر اتبع هواه مرتكبا المخازي غير آبه بالفضائل الأخلاقية اعتمادا منه على الخلاص الذي وعد به من قبل الكنيسة.. فبإيمانه يخلص لا بالأعمال، فالفاسق والصالح سواء بإيمانهما بالمسيح الفادي.. وهكذا ابتعد هذا القسم عن الكنيسة، فما الداعي للارتباط بها وتنفيذ تعاليمها ما دام المسيحي قد نال الخلاص بإيمانه القلبي لا بالأعمال.
قال سجين آخر: وهكذا أصبح المؤمن المسيحي في وضع لا يحسد عليه، فما كاد يفرح بالخلاص المزعوم حتى اعتراه الأسى، فقد وقع بما خلص منه، فها هي ذي خطاياه تضيق خناقها عليه بسلاسل الشقاء والألم والحزن.. وهذا ما أرادت الكنيسة أن يحدث، فهي تريده مهزوما ضعيفا لاجئا إليها يبحث عن النجاة، والإجابة عن هذه القضايا التي عجز العقل عن فهمها، فكيف يحمل وزر خطيئة أبويه وخطيئته الشخصية، في حين يحمل أبواه وزر خطيئتهما فقط، وإذا كان العدل تحقق بصلب المسيح فداء من الخطيئة الأولى وميراثها، فهذا الفداء نعمة لآدم وحواء الذين نجوا بالفداء من خطيئتهما، وأصبحا نقيين من الدنس كحالتهما الأولى قبل السقوط، أما ابن آدم فبعد الفداء من الخطيئة الأصلية، ما زالت عليها الخطايا الفعلية التي صدرت منه نتيجة ميراث فساد الطبيعة الذي انتقل إليه من أصله الأول.
التفت السجين إلى القس، وقال: فما السبيل للنجاة من هذه الخطايا إذا كانت التوبة والأعمال لا تؤدي إليها؟
سكت القس، فقال السجين: لقد عمدت الكنيسة عند رؤية أتباعها وهم على هذه الحالة من الإضطراب، أن تصدرت عقولهم مقررة أن مفتاح النجاة بأيدي رجالها، فهي
ربوبيون وربانيون (3/271)
التي بإمكانها غفران هذه الخطايا الفردية أو جزء منها مقابل الاعتراف وأداء التعويض الذي يقرره رجل الدين، ولتطفي على ذلك ثوب الشرعية أصدرت قانونا بمنح هذه الصلاحية لرجل الدين، وهو الصادر عن المجمع الثاني عشر المنعقد في روما عام 1215 م.. فقد كان من أهم قرارات هذا المجمع ما نصه: (الكنيسة البابوية تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء).. ولكن رجال الكنيسة، وعلى رأسهم البابا الرئيس الأعلى للكنيسة كلها حسب التعليم الكاثوليكي من ذرية آدم، فإذا غفرت خطيئتهم الأصلية بالفداء كما يقرر دينهم، فما زالت خطاياهم الشخصية تلاحقهم أينما ذهبوا، فكيف يتسنى لمخطئ تبرئة مخطئ؟ وكيف يمنح الغفران من هو في حاجة إليه، ولتفادي هذا الاحتجاج الذي ترتفع به أصوات الكثيرين، أصدروا قرارا آخر يفيد عصمة البابا، وهو القرار الصادر عن المجمع العشرين المنعقد في روما عام 1869 م.. وهكذا أصبحت قرارات الكنيسة قرارات تتسم بالعصمة من الضلال فرأسها البابا معصوم، وعصمته تلك تنتقل بالتالي لقراراته.
قال القس: ولكن الكنيسة استمدت هذا السلطان من وعد المسيح وأمره إذ قال لبطرس: (وأعطيك مفتاح ملكوت السموات فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات) [متى: 16 ـ 19].. والمسيح وهو يعطي هذا السلطان لبطرس لم يعطه إياه كفرد، بل كتلميذه المعترف والمؤمن بلاهوت المسيح عندما قال: (أنت هو المسيح ابن الله).. وقد أكد المسيح هذا بما لا يدع مجالا للبس، إذ بين أن هذا سلطان الكنيسة كلها: (وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة وأن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء وكل تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء) [متى: 18: 17 و18]
فتح الكتاب المقدس على بعض المواضع، ثم قال: وقد تأيد هذا السلطان بأمر المسيح
ربوبيون وربانيون (3/272)
قبل الصعود عندما قال: (دفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والإبن والروح القدس) [متى: 28: 18 و19] وهذا حق لأن الكنيسة كمنظمة على الأرض ينبغي أن يكون لها سلطان يقرر وينظم ويدعم كيانها ورسالتها وأعمالها.
ابتسم السجين، وقال: وهكذا أرست الكنيسة سلطانها في نفوس أتباعها بنصوص من الأناجيل، وبقرارات مجمعية، لتتحول بعد ذلك لكيفية استثمار هذه السلطة، فأصدرت ما أسمته بالوصايا الخمس، وجعلت تطبيقها ملزما لكل مسيحي بعد التعميد وبلوغه السابعة من العمر.. من أهم تلك الوصايا، الوصية الرابعة.. والتي تنص على ضرورة الاعتراف السنوي (إذا كانت هناك خطايا مميتة)
قال سجين آخر: ولم تكتف الكنيسة بهذا.. فسلطانها لا يدعم بالاعتراف فحسب.. ولهذا ذهبت إلى ضرورة التعويض الذي يوازي الخطيئة.. وهو تعويض يفرضه الكاهن اعتمادا على فطنته الروحية في تحديده.
قال آخر: أما لو امتنع المسيحي عن أداء التعويض الذي فرض عليه من قبل الكاهن، فسيكون مصيره دخول المطهر بعد الموت مباشرة كمرحلة تطهيرية قبل يوم الدينونة.. هذا ما ذكره معجم اللاهوت الكاثوليكي بقوله: (الإنسان يخضع لهذه المرحلة التطهيرية إذ يموت مبررا بالنعمة بمقدار ما تكون حالة العقاب (المستحق) لا تزال موجودة فيه ولم تزول بزوال الخطايا بالغفران يوم التبرير، وبمقدار ما بالإمكان أن تزيل هذه الحالة عقوبات تعويضه.
قال آخر: أما عن طبيعة هذه المراحل الصحيحة وعن مكان هذه العقوبات فليس لنا في الكتاب المقدس أي دليل.. ولا يجب أن تمنعنا كلمة المطهر من أن نجد كلمة أصح
ربوبيون وربانيون (3/273)
وأحسن لندل على هذه المراحل التي نوهنا عنها.. التي تعني حرفيا النار المطهرة)
قال آخر: وبهذا استطاعت الكنيسة إرساء سلطانها على أتباعها، فلا بد لهم من طاعتها طاعة تامة، فهي مؤسسة بأمر المسيح معصومة الرأس وقراراتها إلزامية مما أهلها لغفران خطايا رعاياها بحسب ما ترى، وعلى المؤمن المسيحي إن أراد الخلاص من خطاياه الشخصية التقدم إلها مرة كل عام على الأقل ليعترف ويتلقى أمرها بتنفيذ التعويض.
قال آخر: وكأني بها ـ وهي تدعو إلى هذه المعاني، وتثبتها في نفوس أتباعها ـ تريد من كل فرد منهم أن يدفع ضريبة للكنيسة لتتمكن من إدارة شئونها وتوسعة سلطانها وسيطرتها على أتباعها.
قال آخر: وهذا ما حصل بالفعل.. فمطامع رجال الكنيسة لم تزل تتزايد وتتسع، حتى أصدروا صكوك الغفران التي عادت عليهم بمزيد من الأرباح.
قال آخر: لقد نقل ويل ديورانت عن أحد المعارضين ـ وهو كاثوليكي ـ المساوئ التي نتجت عن فرض صكوك الغفران فقال: (إن المساوئ ذات الصلة بصكوك الغفران تنشأ كلها تقريبا من سبب واحد وهو أن المؤمنين بعد أن يشهدوا مراسم التكفير، وهي الشرط المقرر المعترف به لنيل المغفرة، يتطلب أن يقدموا من المال ما يتناسب مع ثرائهم، وبذلك أصبح المال الذي يؤدي للأعمال الخيرية، وهو الذي يجب أن يكون من للأعمال الخيرية، وهو الذي يجب أن يكون من الأعمال النافلة التي لا يلزم بها إنسان، أصبح هذا المال في بعض الحالات هو الشرط الأساسي لغفران الذنوب.. وكثيرا ما أصبح المال لا العمل الصالح هو الغاية المقصودة من الغفران.. ولسنا ننكر أن العبارات التي صيغت فيها قرارات البابوية يخيل إلى الإنسان معها أنها لا تحيد مطلقا عن عقائد الكنيسة، وأن الاعتراف والندم والأعمال الصالحة المنصوص عليها في هذه العقائد هي الشرط الأساسي لنيل
ربوبيون وربانيون (3/274)
المغفرة، إلا أن الجانب المالي كان يبدوا واضحا في جميع الأحوال وكان للهبات المالية المقام الأول في هذا الأمر كله مما يسربل الكنيسة بالعار ويجعلها مضغة في الأفواه.. اتخذت صكوك الغفران شيئا فشيئا صورة الصفقات المالية، وأدى هذا إلى الكثير من النزاع بين السلطات الزمنية التي كانت تتطلب على الدوام حظها من هذه الموارد.. ولا يقل عن بيع صكوك الغفران دلالة على حب الكنيسة للمال قبولها أو طلبها المال أو الهبات أو الوصايا نظير تلاوة الأدعية والصلوات التي يقولون أنها تقصر المدة التي تقضيها روح الميت في المطهر لتعاقب عن ذنوبها.. وكان الصالحون الأتقياء من الناس يخصصون من أموالهم جزءا كبيرا لهذا الغرض لتنجو به روح قريب لهم أو ميت فارق الحياة الدنيا أو ليقصروا المدة هم أنفسهم في المطهر بعد موتهم أو يلغوها إلغاءا تاما.. ولهذا أخذ الفقراء يشكون من أن عجزهم عن أداء الأموال نظير الأدعية والصلوات أو لابتياع صكوك الغفران يجعل الأغنياء على الأرض لا الوادعين هم الذين يرثون ملكوت السموات، ولقد كان كوليس حصيفا حين أمتدح المال لأن (من يمتلك المال يستطيع نقل الأرواح إلى الجنة) (1)
التفت أحد السجناء إلى القس الذي لزم الصمت، ثم قال: سأنقل لك نصا لأحد صكوك الغفران.. لقد قرأته في كتاب (سوسنة سليمان في أصول العقائد والأديان) لمؤلفه رجل الدين المسيحي (نوفل أفندي نوفل).. لقد ذكر هذا الأب الفاضل ترجمة لأحد صكوك الغفران التي كانت تباع في مدينة ويتمبرغ الألمانية (التي كان مارتن لوثر يدرس فيها) عام 1513 م.. اسمعوا نص الصك.. (ربنا يسوع المسيح يرحمك يا فلان، ويحلك باستحقاقات آلامه الكلية القداسة، وأنا بالسلطان الرسولي المعطى لي أحلك من جميع
__________
(1) قصة الحضارة: 1/ 51، 52.
ربوبيون وربانيون (3/275)
القصاصات والأحكام والطائلات الكنسية التي استوجبتهان وأيضا من جميع الافراط والخطايا والذنوب التي ارتكبتها مهما كانت عظيمة وفظيعة، ومن كل علة ولئن كانت محفوظة لأبينا الأقدس البابا والكرسي الرسولي، وأمحو جميع العجز وكل علامات الملامة التي ربما جلبتها على نفسك في هذه الفرصة، وأرفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر، وأردك حديثا إلى الشركة في أسرار الكنيسة وأقرنك في شركة القديسين، وأردك ثانية إلى الطهارة والبر اللذين كانا لك عند معموديتك حتى أنه في ساعة الموت يغلق أمامك الباب الذي يدخل منه الخطاة إلى محل العذابات والعقاب ويفتح الباب الذي يؤدي إلى فردوس الفرح، إن لم تمت سنين مستطيلة فهذه النعمة تبقى غير متغيرة حتى تأتي ساعتك الأخيرة.. باسم الآب والابن والروح القدس الواحد، آمين)
قال سجين آخر: ليت الكنيسة اكتفت بتلك الأموال التي كانت تدر عليها من صكوك الغفران.. لقد ذهب بها الجشع والظلم إلى أن تستعمل هذه الصكوك في سفك دماء الأبرياء.
قال آخر: هذه هي الحقيقة التي ذكرها التاريخ (1).. لقد كانت الكنيسة تواجه ـ في مرحلة من مراحلها ـ بألد أعدائها وأخطرهم.. إنهم أولئك المسلمون الطيبون.. فقد كانت الحروب الصليبية قد استعر أوراها، وبدأت تلوح علامات الهزيمة للصليبيين، وبلغ ضعف الحماس الديني في نفوس الأوربيين مبلغا كبيرا، وفقد المقاتلون ثقتهم في الكنيسة نتيجة لخيبة أملهم في النصر الذي وعدتهم وعدا قاطعا، ولم يروا للمسيح والملائكة والقديسيين أثر في معاركهم، بل على العكس تخيلوا أنهم يقفون ضدهم تماما، وبذلك اهتز موقف الكنيسة
__________
(1) ذكرنا هذا في كتاب (ثمار من شجرة النبوة) ونعيده هنا مع بعض التصرف وقد ذكرنا هناك المراجع التي رجعنا إليها ومن أهمها (العلمانية) لسفر الحوالى و(مذاهب فكرية معاصرة) لمحمد قطب.
ربوبيون وربانيون (3/276)
وأيقنت أن وعودها المعسولة بالنصر، وقراراتها الشفوية بالمغفرة للمشتركين في الحرب لم تعد تؤدى مفعولا مؤثرا، فقررت الكنيسة تجسيد هذه الأماني في وثيقة خطية محسوسة يحملها المقاتل، ويندفع للاشتراك في الحملة الصليبية وهو على ثقة وعزم.
قال آخر: وتنفيذا لذلك استخدمت من جديد (صكوك الغفران) لأداء أرذل وظيفة.. لقد كانت ـ كما ذكر المؤرخون ـ توزع على المشتركين في الحروب الصليبية ضد المسلمين.
قال آخر: وبهذا.. أصبجت هذه الصكوك حكرا على أحد رجلين: إما صاحب مال.. يشترى الصك من الكنيسة حسب التسعيرة التي تحددها.. أو صاحب سيف.. يبذل دمه في سبيل نصرة الكنيسة والدفاع عنها وحراسة مبادئها.
قال آخر: أما ما عدا هذين.. فيظل محروما لا يملك ثمن الصك.. ولذلك يظل المسكين أسير صراع نفسي مرير وشعور بالحرمان قاتل.
قال آخر: وهكذا فالكل مضحون، والكل خاسرون، والكنيسة هي الرابح الوحيد من هذه الصكوك.
لم يجد القس ما يجيبهم به، فراح أحد السجناء يلتفت إلى زملائه، ويقول: أتدرون ما نهاية هذه الصكوك المشؤومة؟
قال السجناء: ما نهايتها؟
قال السجين: لقد كانت هذه البدعة ـ أول أمرها ـ من أسباب قوة الكنيسة ودعائم شموخها.. فمن ناحية المكانة الدينية ارتفعت منزلة رجال الدين في نظر السذج والجهلة بعد أن منحهم المسيح هذه الموهبة العظيمة، وخيل إليهم أنه ما دام أعطاهم حق المغفرة للناس فبديهي أنه غفر لهم، بل قدسهم ووهبهم من روحه كما يدعون، وبذلك تجب
ربوبيون وربانيون (3/277)
طاعتهم والتزلف إليهم وتملقهم على من أراد التقرب إلى المسيح والحصول على رضاه، وإذ قد آمن الناس ـ ملوكا وصعاليك ـ بحق الغفران، فقد سهل عليهم أن يؤمنوا بمقابلة (حق الحرمان)، ولم يزدادوا طمعا في ذاك إلا وازدادوا رهبة لهذا.
قال آخر: ومن الوجهة المادية أثرت الكنيسة من عملية بيع الصكوك ثراء فاحشا حتى أصبحت بحق أغنى طبقات المجتمع الأوروبي آنذاك بما تكدس في خزائنها من أموال وتدفق عليها من عطايا وهبات.
قال آخر: ومن الوجهة السياسية قويت الكنيسة وتدعمت سلطتها بالجحافل البربرية التي تطوعت للقتال في سبيلها من أجل الحصول على الغفران.. وبالمقابل انخفضت سلطة الملوك الذين كانوا جنودا للكنيسة بأنفسهم في الحروب الصليبية، إلا من تردد منهم أو حاول التملص من قبضتها فعوقب بالحرمان كما حدث لفريدريك الثاني (1).
قال آخر: كل هذه الثمار جنتها الكنيسة من جراء هذه المهزلة.. ولكن الحصاد الخبيث الذي حصدته من جرائها لا يمكن وصفه.. لقد كانت تلك الصكوك مسمارا في نعش الكنيسة، وبداية لنهايتها، وكانت خسارتها بها عظيمة عظم جنايتها:
قال آخر: فمن الوجهة الاقتصادية تلى الإقبال الهائل على شراء الصكوك انكماش وفتور كالذي يصيب أي بدعة أو ظاهرة جديدة بعد فترة من ظهورها، فنضبت الكثير من موارد الكنيسة في حين ازدادت طمعا وشراهة.. فاضطرت إلى عرض الصكوك بطريقة مبتذلة، فكان الآباء والقساوسة يتجولون في الإقطاعيات، ويبيعونها بأسعار مخفضة، ثم
__________
(1) هو الإمبراطور (فريدريك الثاني) وهو أعظم زعيم تحدى سلطات الكنيسة واستطاع مقاومتها مدة غير يسيرة ويرجع ذلك إلى المؤثرات الإسلامية في ثقافته وشخصيته، فقد كان مجيدا للعربية مغرما بالحضارة الإسلامية، حتى أن الكنيسة اتهمته باعتناق الإسلام وسمته (الزنديق الأعظم)، أما المفكرون المعاصرون فيسميه بعضهم (أعجوبة العالم) وبعضهم (أول المحدثين)، انظر حول سيرته كتاب الزنديق الأعظم وفصل أعجوبة العام، ج 3 ويلز.
ربوبيون وربانيون (3/278)
زهيدة، وكلما ازداد العرض قل الطلب وتولد لدى الناس شعور داخلي بأن شراءها إضاعة للمال فيما لا فائدة فيه، أو على الأقل فيما ليس مضمون العاقبة.
قال آخر: وفي الوقت نفسه داهمت المسرح المالي فئة جديدة من الناس أخذت تظهر بوضوح منافسة للطبقتين البارزتين آنذاك (النبلاء) و(رجال الدين) تلك هي الطبقة البورجوازية وحصلت تحولات أخرى كانت بمثابة المؤشر لنهاية النظام الإقطاعي بجملته.
قال آخر: ومن ناحية المكانة الدينية لرجال الدين، فقد بدأت تلك الهالة القدسية المحيطة بهم تتبخر شيئا فشيئا بعد زمان من ظهور هذه المهزلة وابتداء الناس يعتقدون أنهم كانوا مخطئين في ذلك الاندفاع الأعمى والتسليم الأبله، وعمق ذلك الاعتقاد تنافس القساوسة على بيع الصكوك مقرونا بسيرتهم السيئة وفجورهم الفاضح، وعجب الناس إذ رأوا كثيرا من الأشرار والطغاة يتبوءون مقاعدهم في الملكوت ببركة الصكوك التي منحها لهم رجال الدين، فكان ذلك إيذانا بالشك في قداسة رجال الدين أنفسهم ومدى صلاحهم واستحقاقهم للملكوت في ذواتهم.
قال آخر: ومن ناحية المركز السياسي والنفوذ الدنيوي، فقد كان لصكوك الغفران وما أحاط بها من ظروف وملابسات أثره البالغ في العلاقة بين الكنيسة من جهة والملوك والأمراء والنبلاء من جهة أخرى، فقد رأوا أن قبضة الكنيسة تزداد استحكاما مع الأيام وأنهم وشعوبهم ليسوا إلا أدوات أو صنائع رجال الدين يمنون عليهم بالعفو إن رضوا ويعاقبونهم بالحرمان إن سخطوا، كما أن الثراء الذي حصلت عليه الكنيسة جعلها تبدو منافسا قويا لأصحاب الإقطاعيات وكبار الملاك، فكان يسيطر على الجميع شعور موحد بالعداوة لها والحقد عليها.
ربوبيون وربانيون (3/279)
قال آخر: لذلك لم تكد بوادر الاستنكار ضد تصرفاتها ـ لا سيما صكوك الغفران ـ تبرز للعيان حتى انتهزها الملوك والأمراء فرصة سانحة لحماية الحركات المعارضة وتأجيج سعيرها، ولولا أن بعض المصلحين الكنسيين ـ ولوثر خاصة ـ وجدوا الحماية والعطف من الأمراء والنبلاء لما نجوا من قبضة الكنيسة ونتائج قرارات حرمانها.
قال آخر: أما من الناحية الاجتماعية، فقد كانت صكوك الغفران سببا مباشرا في انبعاث الشرارة الأولى التي اندلعت نيرانها فيما بعد، فالتهمت الأوضاع الاجتماعية وأودت بالتعاليم الكنسية والتقاليد الدينية كافة.
قال آخر: وبذلك.. فقد ساعدت صكوك الغفران بصفة مباشرة على هدم التعاليم الدينية من أساسها والاستهتار بكل المعتقدات والأصول الإيمانية بجملتها وأسهمت في انتشار فكرة إنكار الآخرة والجنة والنار التي لا يقوم دين بغيرها.
قال آخر: ولا زالت إلى الآن شاهدا قويا ومستندا قاطعا لكل أعداء الدين في الغرب، حيث نشأ عن الكفر برجل الدين وتصرفاته كفر بالدين ذاته وما يتصل به من سلوك وخلق.
قال آخر: لقد كان الخيار الصعب الذي وضعه أعداء الدين أمام الإنسان الأوروبي هو إما أن يؤمن بصكوك الغفران فيحكم على نفسه تلقائيا بالجمود والغباء والرجعية المتناهية، وإما أن يكفر بها فيلزمه بالإطار الذي يحويها بكامله إطار الدين والغيبيات، لا سيما الآخرة.
التفت أحد السجناء إلى القس، وقال: هل رأيتنا زدت حرفا واحدا على ما نطق به التاريخ؟
قال القس: أنتم تكررون ما يقوله الهراطقة.. ولذلك لن أجيبكم بشيء.. فلا يجدي
ربوبيون وربانيون (3/280)
الكلام مع الهراطقة شيئا.
قال السجين: ألم تأمركم الكنيسة والمسيح بأن تظهروا الحقائق بنور الإيمان، وتردوا على الشبهات بسيف العلم؟
لم يجد القس إلا أن يقول: أرانا قد خرجنا عن الموضوع.
قام بعض السجناء، وقال: لا يا حضرة القس.. نحن لم نخرج عن الموضوع.. لقد جئتنا لتحدثنا عن البشارة التي جاء بها المسيح للمذنبين.. وكل ما تحدثنا به لم يخرج عن هذا الباب.
قال القس: لا بأس.. قد أسلم لكم بهذا.. لكن ألا تتفقون معي أن الإسلام وقع في نفس ما وقعت فيه المسيحية؟
قال أحد السجناء: لا يا سيدنا.. فموقف الإسلام من الخطائين مختلف تماما.. فالقرآن يصف الله تعالى بكونه الغفور، بل واسع المغفرة، قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [النجم: 32]
قال آخر: والقرآن الكريم يذكر أن الله تعالى ـ برحمته بعباده ولطفه بهم ـ مكّنهم من تصحيح أخطائهم، ومراجعة سلوكهم ومواقفهم، ليصير في إمكانهم ليس تصحيح مسارهم المستقبلي فقط، وإنما العودة إلى ماضيهم، وتصحيح ما وقعوا فيه من أخطاء، وعبر أعمال بسيطة يقومون بها، ليغسلوا آثار ما تركته الذنوب في نفوسهم.
قال آخر: ولهذا آثاره الكبيرة في السعادة والأمل.. ذلك أن من مصادر الإحباط والكآبة الاهتمام بالماضي، والحزن على الأخطاء التي وقعت فيه، بل تحولها إلى عقبة كبيرة تحول بين النفس والتزكية والترقي.. فكيف تتهذب نفس تشعر كل حين أن بينها وبين ربها
ربوبيون وربانيون (3/281)
آلاف الحواجز التي لا يمكن إزالتها، وهل يمكن لأحد أن يرجع للماضي حتى لا يقع فيما وقع فيه؟
قال آخر: ولذلك كان من رحمة الله تعالى أنه جعل لعباده القدرة على محو كل ذنوبهم، وآثارها، للاستمرار في السير إلى الله بنفس مملوءة بالنقاء والطهارة، بل يمكنها أن تنافس من سبقها، إن أحسنت استثمار توبتها، والاستفادة من أخطائها.
قال آخر: ولذلك بشر الله تعالى المستفيدين من أخطائهم بأنه لن يمحو سيئاتهم فقط، وإنما يستبدلها بحسنات، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 70]
قال آخر: وأخبر فوق ذلك أن كل سيئة يمكنها أن تمحى أو تعوض بحسنة تذهب بآثارها في النفس والمجتمع، فقال: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114]
قال آخر: وحتى يحصل كل هذا لا يحتاج المؤمن إلى الذهاب إلى الكهنة أو رجال الدين لتتحقق له المغفرة، مثلما حصل في المسيحية أو غيرها من الأديان المحرفة، والتي صارت تبيع صكوك الغفران، وتدعو أتباعها إلى الاعتراف المذل المخزي أمام الكاهن حتى تتحقق لهم المغفرة، بل يكفي المؤمن أن يلتجئ إلى ربه، بصحبة الندم على الذنوب التي وقع فيها، ثم يسأله بصدق وإخلاص وتجرد أن يغفرها له، ويعده بعدم العود إليها، ويعده بأن يسعى لمحو كل آثارها المتعدية إلى الآخرين؛ فيرد حقوقهم التي سلبها منهم، ويطلب منهم براءة ذمته.
قال آخر: وبذلك فإن تلك المغفرة لا تساهم فقط في تزكية نفسه، وجعلها مستعدة للترقية، وإنما تساهم في عودته للمجتمع، وتقبله له، ليصبح سندا ومساعدا له في تحقيق
ربوبيون وربانيون (3/282)
توبته في الواقع.
قال آخر: ولهذا ورد في النصوص المقدسة وعد الله الجازم بمغفرة الذنوب مهما كثرت، وذلك ليجعل المجتمع مستعدا لتقبل الخاطئين إن تابوا، وتجعل الخاطئين مسرعين إلى التوبة إن رجعوا إلى نفوسهم وعرفوا قبح أفعالهم.
قال آخر: ومن أمثلة تلك الآيات التي تخاطب النفس والمجتمع قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: 7]، فالآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى النظر في حاضر الإنسان، ومدى اهتمامه وممارسته للعمل الصالح، وغض النظر عن ماضيه الذي تاب منه، ذلك أن الله تعالى محاه وكفره، وبذلك لم يبق في صحيفة عمله إلا الأعمال الصالحة التي يقوم بها.
قال آخر: وهي بذلك تجعل المدعين عليه أو التهمين له كاذبين في دعواهم؛ لأنهم يتهمونه بذنوب لا وجود لها في صحيفته، وكأنها تقول لهم: إن كان الله قد كفرها ومحاها؛ وهو صاحب الحق المطلق في العقوبة عليها؛ فكيف لكم أنتم أن تعاقبوه، ولو بذكرها؟
قال آخر: ومثل ذلك ورد في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ [الاحقاف: 16]، فهي تخبر أن الله تعالى بفضله ورحمته ينتقي من أعمال عباده أفضلها وأحسنها، ليجزيه على أساسها، أما ذنوبه فيكفيه توبته منها، وصدقه في ذلك.
قال آخر: وهكذا ترد الآيات القرآنية الكثيرة تدعو المذنبين إلى استئناف حياة الطهارة الجديدة، بعيدا عن ذلك الألم الذي قد يحول بينهم وبين مواصلة حياتهم؛ فيكفيهم تذكرهم لذنوبهم، وإقرارهم بها، وندمهم عليها، وتصحيحهم لآثارها.
قال آخر: بل إنها تنهاهم عن التشاؤم أو الوقوع في الإحباط واليأس بسببها، لأن من
ربوبيون وربانيون (3/283)
يفعل ذلك يسيء إلى ربه، حين يتوهم عجزه عن مغفرة ذنوب عباده، قال تعالى: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]
قال آخر: ولهذا كان من العقائد الأساسية للمؤمن معرفة اسم الله تعالى [الغفور]، وما يرتبط به من أسماء كالعفو والحليم والتواب وغيرها.. والتي لا يتم إيمان المؤمن إلا بها، قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [البقرة: 225]، وقال: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]، وقال: ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 74]
قال آخر: ولهذا أُمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل من سار على قدمه وسنته بتبشير المخطئين، وبث الأمل في نفوسهم بمغفرة الله خطاياهم، وتوبته عليهم إن هم عادوا إليه، قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 54]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنفال: 70]
قال آخر: وفي مقابل ذلك نُهي نهيا شديدا من زرع اليأس في قلوب المذنبين، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فاني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك) (1)
__________
(1) مسلم.
ربوبيون وربانيون (3/284)
قال آخر: وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أحدثكم حديث رجلين من بني إسرائيل؟ كان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر يراه بنو إسرائيل أنه أفضلهم في الدين والعلم والخلق، فذكر عنده صاحبه، فقال: لن يغفر الله له، فقال الله لملائكته: ألم يعلم أني أرحم الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ فاني أوجبت لهذا الرحمة، وأوجبت على هذا العذاب، فذا تتألوا على الله) (1)
قال آخر: وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الذين زعموا لأنفسهم امتلاك خزائن الجنان (المتألين)، فقال: (ويل للمتألين من أمتي، الذين يقولون: فلان في الجنة، وفلان في النار) (2)
قال آخر: وأخبر عن هلاك هذا النوع من الناس، فقال: (إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم) (3)، وقال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم) (4)
قال آخر: وسر ما وقع فيه هؤلاء الذين يقنطون الخطائين من رحمة الله تعالى عدم معرفتهم بالله، وقياسهم لأنفسهم عليه، ولو أنهم عرفوه حق معرفته، وعظموه حق تعظيمه، لاعتبروا مغفرته أعظم من أن تغلبها الذنوب.
قال آخر: ولهذا يرد في النصوص المقدسة الكثيرة تبشير الخطائين بأنه لا توجد ذنوب يمكنها أن تعظم على الله؛ بل يمكن للتوبة الصادقة النصوح أن تمسح كل آثار الخطيئة، ففي الحديث القدسي قال تعالى: (يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى.. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك.. يا ابن
__________
(1) أبو نعيم في الحلية وابن عساكر.
(2) البخاري في التاريخ.
(3) مالك وأحمد ومسلم وأبو داود.
(4) أحمد ومسلم وأبو داود.
ربوبيون وربانيون (3/285)
آدم إنك لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) (1)
قال آخر: وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (والذى نفسى بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم) (2)
قال آخر: وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إقبال الله تعالى على عبده إن تاب إليه، وفرحه بذلك، فقال: (لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده، عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده) (3)
قال آخر: هذه بعض النصوص المقدسة التي تبين فضل الله تعالى على عباده بقبوله لهم، من دون أن يشترط عليهم الطهارة المطلقة؛ فيكفي أن يعودوا إليه، ويصححوا ما وقعوا فيه، ليدخلوا الميدان مع غيرهم، يتنافسون في الأعمال الصالحة.
قال القس: ولكن ألا ترون أن هذه البشارات التي ذكرتموها ستشجع العصاة.. فما أسهل على كل عاص أن يقول: أستغفر الله.. ثم يتحول بعدها إلى صاف من كل الذنوب.. إن هذا لا يختلف تماما عن كل ما انتقدتم به الكنيسة.
__________
(1) رواه الترمذى.
(2) رواه أحمد.
(3) رواه البخاري ومسلم.
ربوبيون وربانيون (3/286)
قال أحد السجناء: لا يا سيدنا.. فالتوبة في الإسلام ليست مجرد ألفاظ تردد، إنها بداية حياة جديدة، تصحح كل ما وقع فيه الخطاء من خطايا.
قال آخر: ولهذا أخبر الله تعالى عن داود عليه السلام أنه بمجرد أن فطن لما حصل منه، وكونه نطق بالحكم قبل أن يسمع للخصم الثاني، أسرع مباشرة للإنابة والاستغفار، ومن غير تكلف ولا معاناة، قال تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [ص: 24]
قال آخر: ولهذا يصف الله تعالى التائبين الحقيقيين بقوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 17]
قال آخر: وهذا هو معنى الإنابة؛ فهي تعني سرعة العودة إلى الله بعد الغفلة أو المعصية أو كل ما يصرف عن الله.. فالمريد الصادق يعتبر الله تعالى غايته العظمى، لذلك يستعمل كل الوسائل حتى لا ينشغل عنه بشيء.
قال آخر: ولهذا يقرن الله تعالى بين الإنابة وإسلام الوجه لله، قال تعالى: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [الزمر: 54]، ذلك أن للمنيب قبلة واحدة، وهي وجه ربه، فهو مسلم مستسلم له، لا يرغب عنه، ولا يستبدله بغيره.
قال آخر: وقد روي أن بعضهم قال بحضور الإمام علي: (أستغفر الله)، فقال له الإمام علي: (ثكلتك أمّك، أ تدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيّين، وهو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها النّدم على ما مضى، والثّاني: العزم على ترك العود إليه أبدا، والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة، والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها، والخامس: أن تعمد إلى اللحم الّذي
ربوبيون وربانيون (3/287)
نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله) (1)
قال آخر: هذه هي التوبة الحقيقية الصادقة النصوح، وهذه المعاني هي التي تزكي النفس وتطهرها وترتقي بها.. وليس تلك المعاني التي تملأ النفس بالكسل والدعاوى والعريضة.
قال آخر: وهذه المعاني هي التي أرادها القرآن الكريم عندما وضع الشروط الكثيرة لتحقق التوبة، ونصحها، وصدقها، فقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران]، فقد قرن الله تعالى في الآية الكريمة الاستغفار بعدم الإصرار، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) (2)
قال آخر: وذلك لا يعني العصمة من الذنوب، أو عدم العودة إليها؛ فقد يصر الشخص على شيء ويعزم عليه، ولكنه ينكث عزمه.. فالمراد هو أن يعاهد الله أن لا يقع في الذنب بجزم وتأكيد، فإن قدر ووقع في الذنب عاد إلى الاستغفار من جديد.
قال آخر: أما أن يكتفي بالاعتراف دون أن يعاهد الله على عدم العود، أو دون الاجتهاد في ذلك؛ فإنه نوع من السخرية بالتوبة.. وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى تلك التوبة بتوبة المستهزئين، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (التائب من الذنب
__________
(1) نهج البلاغة حكمة 409 ص 1281
(2) رواه أحمد.
ربوبيون وربانيون (3/288)
كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه) (1)
قال آخر: وعن الإمام الرضا أنه قال: (مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرّك فيتناثر، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربّه) (2)، وقال: (سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء: من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه، ومن استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله الجنّة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه، ومن تعوّذ بالله من النار ولم يترك الشهوات فقد استهزأ بنفسه، ومن ذكر الله ولم يستبق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه) (3)
قال آخر: وعن الإمام الصادق أنه قال: (رحم الله عبدا لم يرض من نفسه أن يكون إبليس نظيرا له في دينه، وفي كتاب الله نجاة من الردى، وبصيرة من العمى، ودليل إلى الهدى، وشفاء لما في الصدور فيما أمركم الله به من الاستغفار مع التوبة، قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110]، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار، واشترط معه بالتوبة والإقلاع عمّا حرّم الله، فإنّه يقول: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10]، وهذه الآية تدلّ على أنّ الاستغفار لا يرفعه إلى الله إلّا العمل الصالح والتوبة) (4)
قال آخر: وشبه الإمام علي المستغفر بالمستعمل للدواء؛ فإذا كان يستعمله، ويسرف
__________
(1) رواه ابن أبى الدنيا.
(2) اصول الكافي ج 2 ص 504.
(3) كنز الكراجكي ج 1 ص 330
(4) تفسير العيّاشي ج 1 ص 198
ربوبيون وربانيون (3/289)
على نفسه بما يسبب له المرض، فإنه لن يشفى أبدا، لأن غرض الاستغفار هو العودة إلى الله، لا مجرد حركة اللسان، فقد روي عنه أنه قال: (الذنوب الداء والدواء الاستغفار، والشفاء أن لا تعود) (1)
قال آخر: ولذلك، فإن حقيقة التوبة تتمثل في الرجوع إلى الله، وتصحيح الهفوات والأخطاء والتقصير والغفلة والمفاهيم الخاطئة وكل المواقف التي يقفها الإنسان المقصر.
قال آخر: كما أنها تشمل ذلك الشعور الذي يعتري المقربين؛ فيجعلهم يستغفرون الله، ويتوبون إليه، لا لذنب اقترفوه، ولا لغفلة طرأت عليهم.. وإنما لذلك الحياء والهيبة التي تعتريهم في صحبة ربهم؛ فتشعرهم بجلاله وجماله وكماله؛ فلا يملكون معها إلا الانحناء تواضعا له، وشعورا بالتقصير في حقه.
قال آخر: وهذه التوبة هي التي سمها الله تعالى التوبة النصوح، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: 8]
قال آخر: فوصف التوبة بالنصح.. يعني أنها خالصة لله تعالى مجردة، لا تتعلق بشئ، ولا يتعلق بها شئ، وهو الاستقامة على الطاعة، من غير روغان إلى معصية، كما تروغ الثعالب، وألا يحدث نفسه بذنب متى قدر عليه، وأن يترك الذنب لأجل اللَّه تعالى خالصا لوجهه، كما ارتكبه لأجل هواه مجمعا عليه بقلبه وشهوته، فهذه هى التوبة النصوح، وهذا العبد هو التواب المتطهر الحبيب.
__________
(1) غرر الحكم ص 79
ربوبيون وربانيون (3/290)
قال آخر: وقال تعالى في آية أخرى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]، أي ارجعوا إلى الله من هوى نفوسكم، ومن وقوفكم مع سهواتكم وحظوظكم، عسى أن تظفروا ببغيتكم فى المعاد، وكى تبقوا ببقاء اللَّه فى نعيم لا زوال له ولا نفاد.
بعد أن سمع القس كل هذه الكلمات، لم يجد إلا أن يطأطئ رأسه، ويخرج، ولست أدري هل كان حزينا عند خروجه، أم فرحا.. لكن رأيت فيه من الهمة والإرادة ما لم أره عند دخولنا السجن.
قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن المشهد الذي عرفت به الرحمة المرتبطة بالكون، وعلاقته بالدين.
قال: لقد شاء الله أن يكون هذا المشهد في محمية خاصة بحماية الحيوانات، حيث اجتمع الكثير من الناس بين يدي مجموعة من الناس يزعمون أنهم من جمعية الرفق بالحيوان، لكنهم استغلوا هذا للتحذير من الإسلام، مستغلين شرائعه المرتبطة خصوصا بعيد الأضحى، لوصمه بالقسوة وعدم الرحمة.
لكن الله تعالى شاء أن يجلس في ذلك المجلس من العقلاء الحكماء من فندوا ذلك، ومن حيث لم يحتسب أولئك الدعاة.
وقد بدأ المشهد بقول رئيس الجمعية، وهو يشير إلى الحيوانات المتنوعة: إن هذه الحيوانات المسكينة التي ترونها كائن حي له من المشاعر والأحاسيس ما لنا جميعا.. إنها تشعر بالألم كما نشعر.. وهي تحب الحياة كما نحبها.. وهي لا ترضى أن يحصل لها ما حصل
ربوبيون وربانيون (3/291)
كما لا نرضى أن يحصل لنا.. تصوروا أنفسكم أو تصوروا أحب الناس إليكم، خروفا يذبح في يوم العيد لإرضاء الرب الذي يزعم المسلمون أنه إله إلههم.
قال ذلك، ثم اغرورقت عيناه بدموع لم يستطع في الظاهر أن يحبسها.
قام بعض الحضور، وقال: نحن نقدر مشاعرك النبيلة.. ولكن ما الحل الذي تراه؟.. هل ترى أن نتوقف عن أكل الحيوانات؟
قال رئيس الجمعية، وقد توقفت دموعه فجأة ـ: لا.. أنا لم أقل ذلك.. أنا لم أقل لكم تحولوا إلى نباتيين.. فأنا أعرف أن جسم الإنسان يحتاج إلى بروتينات حيوانية.. وأنا شخصيا من المدمنين على أكل اللحوم بجميع أنواعها.. حتى الخنزير الذي حرمه دينكم.
قال الرجل: فما الحل إذن؟
قال: أردت منكم فقط أن تستشعروا الألم الذي تشعر به الحيوانات، وهي تسلم رأسها لسكاكينكم الحادة وقلوبكم القاسية.. انظروا كيف تذيقونها الموت الزؤام.
قال الرجل: فما الحل؟
قال رئيس الجمعية: الحل بسيط.. بسيط جدا.. لقد استطاعت حضارتنا العظيمة أن تجد الحل.. وقد طبقناه في بلادنا.. وقد أتيناكم به هنا لتطبقوه، وتتخلوا عن تلك الأعراف الجاهلية البائدة التي جاءكم بها ذلك الذي تدعونه محمدا (1).
عندما قال هذا تغيرت وجوه الناس، وقام أحدهم، وقام أحدهم، وقال: ما تعني؟
قال رئيس الجمعية: لقد رأيت الكثير من الناس.. وصحبت الكثير.. وقرأت عن الكثير.. لكني لم أجد رجلا قسا على الكائنات كما قسا عليها محمد ودين محمد.
__________
(1) تحدثنا عن التفاصيل الكثيرة الدالة على رحمة الإسلام بالكائنات المختلفة في كتاب (أكوان الله). ولذلك، سنتحدث هنا عن بعض الأمثلة فقط والتي يقتضيها المقام، من غير تفصيل.
ربوبيون وربانيون (3/292)
قال الرجل: وكيف عرفت ذلك؟
قال رئيس الجمعية: ألا يكفي تشريعه الذبح لتقتنع بذلك.. ألا ترى أنه لا يسيل الدماء إلا المتعطش للدماء؟
قال الرجل: ولكنك ذكرت لنا أنك من المدمنين على اللحم، ومن المحبين له.. فكيف تراك تحصل عليه؟.. أتنتظر الحيوان حتى يموت لتأكله؟
غضب رئيس الجمعية غضبا شديدا، وقال: أنت تشتمني بقولك هذا يا رجل.. أنا إلى الآن أخاطبكم بالرفق واللين.. كيف تتهمني بأكل الميتة؟
قال الرجل: أتراك تقطع الحيوان.. وهو حيوان حي صحيح لتأكله؟
قال رئيس الجمعية: أتبلغ بي القسوة إلى هذا الحد؟
قال الرجل: فكيف تأكله إذن ما دمت لا تأكله ميتة، ولا تأكله مذبوحا؟
قال رئيس الجمعية: لقد ذكرت لكم أن حضارتنا وجدت الحل.. لقد وجدنا الحل الممتلئ بالرحمة.. وهو حل يخلصكم من قسوة محمد ودين محمد.
قال الرجل: فأسعفنا به.
قال رئيس الجمعية: الحل بسيط جدا.. بدل أن يُذبح الحيوان بالسكين الحادة المؤلمة، استطاع قومنا أن يخلصوه من روحه من دون أي ألم.. وقد جئنا هنا لنعلمكم ذلك.. لا شك أنكم تعرفون الكهرباء.. وتعرفون الصعقة الكهربائية.. إن هذه تقنيات حديثة لم تكن في عهد محمد.. ولعلها لو كان في عهده لأخذ بها.. هذا طبعا إن كان في قلبه شيء من الرحمة.
قال الرجل: لقد رأيت ما تمارسه المجازر التي تريد أن تنقل تقنياتها إلينا، وقد عرفت السر في عملها هذا.. إنها تدعي أن قصدها هو رحمة الحيوان.. ولكن الهدف الحقيقي المخبأ وراء ذلك هو الحصول على أكبر كمية من اللحم في مدة قصيرة.. أو بعبارة أخرى هي تهدف
ربوبيون وربانيون (3/293)
لتحقيق مكاسب تجارية على مستوى واسع.. أو بعبارة أخرى هي تضحك على الحيوان المسكين أو على البشر المساكين حين توهمهم أن الصعقة الكهربائية أرحم وأحن على الحيوان من تلك الشفرة الحادة التي يستعملها المسلمون، كما استعملها قبلهم أجيال كثيرة من البشر.
سكت قليلا، ثم قال: نسيت أن أخبركم أني باحث وطبيب، وقد قمت مع مجموعة من الأطباء بإجراء تحقيق كامل في مثل هذه اللحوم، ووصلت إلى مجموعة نتائج.. فإن شئتم ذكرتها لكم.
قال أحد الحضور: أجل.. يسرنا ذلك.
قال الرجل: من تلك النتائج أنا وجدنا أن تخدير الحيوان قبل الذبح يسبب فتورا لدى الحيوان، وانكماشا في قلبه، فلا يخرج منه الدم عند الذبح بالكمية التي تخرج عادة.. ومن المشاهد أن طعم اللحم الذي خرج منه الدم كاملا غير طعام الحيوان الذي بقيت فيه كمية من الدم.. وقد رأيت أثناء تواجدي في (برمنجهام) أن من الإنجليز من يفضل الحيوان المذبوح بالطريقة الإسلامية للأكل؛ وذلك لأجل طعمه المتميز عن بقية اللحوم.
سكت قليلا، ثم قال: ومنها أن الصدمة الكهربائية لا تؤدي مقصودها في جميع الأحوال، فإذا كانت الصدمة مثلا خفيفة بالنسبة لضخامة الحيوان بقي مفلوجا بدون أن يفقد الحواس ويشعر بالألم مرتين.. الأولى.. بالصدمة الكهربائية أو بضربة المسدس، والثانية.. عند الذبح.. أما إذا كانت الصدمة الكهربائية شديدة لا يتحملها الحيوان، فإنها تؤدي إلى موته بتوقف القلب، فيصير ميتة لا يجوز أكله بحال من الأحوال.
سكت قليلا، ثم قال: ومنها أن الطريقة المتبعة لدى المسلمين أرحم بالحيوانات؛ وذلك لأن الذبح يتم بسكين حاد بسرعة فائقة، ومن الثابت أن الشعور بالألم ناتج عن تأثير
ربوبيون وربانيون (3/294)
الأعصاب الخاصة بالألم تحت الجلد، وكلما كان الذبح بالطريقة المذكورة خف الشعور بالألم أيضا، ومن المعروف أن قلب الحيوان الذي لم يفقد حسه أكثر مساعدة على إخراج الدم.
قال ذلك، ثم التفت لبعض الشباب الذي كانوا معه، وقال لهم: أخبروهم عن التعاليم التي جاء بها الإسلام في شأن التعامل مع الذبيحة.
قال أحدهم: لقد دعا الإسلام إلى الرحمة الشاملة التامة العامة.. ومنها الرحمة بالحيوان إذا أريد ذبحه.. ومن هذه الرحمة أن يحسن الذابح الذبح، وأن يحد الشفرة، وأن يريح الذبيحة.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) (1)
قال آخر: ومنها أن يستر الشفرة عن الذبيحة حتى لا تتألم برؤيتها.. ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يحد الشفرة أمام الشاة، فقال له: (أتريد أن تميتها ميتتين؟.. هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها) (2)
قال آخر: ومنها أن لا يذبح الحيوان أمام غيره من الحيوانات، فقد قال الإمام علي: (لا تذبح الشاة عند الشاة، ولا الجزور عند الجزور وهو ينظر إليه)
قال آخر: ومنها عدم قطع أي جزء منها قبل موتها، فالقطع تعذيب وحرام، ولا يجوز أكل ما يقطع منها قبل ذبحها، كما لا يجوز قطع أي شيء منها قبل أن تستقر ـ أي يتأكد من موتها ـ امتثالا لقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا﴾ [الحج: 36]، فلم يبح الله أكل شيء منها قبل وجوب الجنب، وهو الموت.. ويدخل في باب التعذيب جمع الأغنام معا
__________
(1) رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(2) رواه الحاكم وعبد الرزاق.
ربوبيون وربانيون (3/295)
وذبحها بالدور وهي تشاهد الذبح.
قال آخر: ومنها معاملة الحيوان بعد ذبحه برفق، فلا يكسر عنقه، ولا يقوم بسلخه أو قطع أي عضو منه حتى يبرد، فإذا فعل ذلك فقد أساء.
قال آخر: وفوق ذلك، فقد حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اتخاذ الحيوان وكل ذي روح غرضا، أي هدفا للرمي.. فعن ابن عباس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل كل ذي روح إلا أن يؤذي) (1)
قال آخر: ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل العصافير، فقال: (من قتل عصفورا عج إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة) (2)، وقال: (ما من إنسان قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها)، قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: (يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها يرمي بها) (3)
قال آخر: ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تعريض الحيوانات للجوع.. ففي الحديث عن عبد الله بن جعفر قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغلته وأردفني خلفه، فدخل حائطا لرجل من الأنصار، فإذا فيه ناضح له، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حن وذرفت عيناه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمسح ذفريه وسراته فسكن، فقال: من رب هذا الجمل؟ فجاء شاب من الأنصار فقال: أنا، فقال: (ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكاك إلي وزعم أنك تجيعه وتدئبه) (4)
قال آخر: وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرفق بالحيوانات المتخذة للركوب، فعن عائشة أنها
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه ابن حبان.
(3) رواه النسائي.
(4) رواه أبو داود وأحمد.
ربوبيون وربانيون (3/296)
ركبت بعيرا وفيه صعوبة، فجعلت تردده، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (عليك بالرفق) (1)
قال آخر: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن إرهاق الحيوان بإيقافه وإطالة الجلوس عليه من غير ضرورة.. وقد دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال: (اركبوها سالمة، ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه) (2)
قال آخر: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم) (3)
قال آخر: ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن التحريش بين الحيوانات، وهو الإغراء وتهييج بعضها على بعض كما يفعل بين الجمال والكباش والديوك وغيرها.. ففي الحديث عن ابن عباس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن التحريش بين البهائم) (4)
قال آخر: ويدخل في هذا ما يفعله المجرمون المستكبرون القساة في عصرنا مما يسمونه مصارعة الثيران.. فأين مايدعونه جمعية الرفق بالحيوان من هذه التي يسمونها رياضة؟
قال آخر: ليس ذلك فقط.. بل إن شريعة الرحمة الإلهية التي أنزلها على عبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم شملت برحمتها جميع الكائنات ما يعقل منها وما لا يعقل.. فكل مسلم ـ بفضل تلك التعاليم العظيمة ـ يشعر بعلاقة حميمة من الكون تبدأ من صحبته في الله، وتنتهى بالسير معه إلى الله.
قال آخر: ولذلك فإن المسلم الصادق لا يستكبر على تراب الأرض.. ولا على
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أحمد.
(3) رواه أبو داود وقال إسناده حسن.
(4) رواه أبو داود.
ربوبيون وربانيون (3/297)
قطرات المطر.. ولا على أعشاب الحقول.
قال آخر: وهو إن احتاج أن يستعملها يستعملها فيما شرع الله له، ووفق الأدب الذي حثه عليه، فلا يغير خلق الله، ولا يبدل فطرة الله، ولا ينشر الفساد الذي ينشره العابثون.
قال آخر: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يربينا على ذلك: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض ـ أي طرقها ـ) (1)
بقي الشباب مدة من الزمان يحدثون بمثل هذه الأحاديث (2) إلى أن رأيت، دموعا تسقط من عين رئيس الجمعية، ولم يكتف بها، بل راح يقول بعد انتهاء حديثهم: بورك فيكم إخواني.. لقد أنقذتموني من نفسي القاسية الظالمة.. لقد كنت مجرما.. بل مجرما خطيرا.. لقد كنت مصارع ثيران.. ولم يكن يضحك لي سن إلا بعد أن أرى الثور المسكين في حلبة الصراع، وهو يئن من الألم، ولا يجد المسكين أي لغة يعبر بها عن ألمه.. لقد أمضيت حياتي كلها أستمتع بتلك الآلام.. لكني وفي هذه اللحظة فقط شعرت بأنوار عظيمة تتنزل علي.. لاشك أنها أنوار محمد.. لطالما حذرني قومي منها.. ولكني مع ذلك أراها أنوارا لذيذة.. بل لا يمكن وصف لذتها.. فما أجمل الرحمة أن يمتلئ بها القلب.. وما أجمل الدموع التي تسقط من قلب صاف خال من كل حيلة ومكر وخداع.
قال ذلك، ثم صمت، وصمت معه الجمع قليلا.. ثم قطع الصمت بقوله: اسمحوا لي بهذه المناسبة العظيمة.. مناسبة سقوط أول دمعة رحمة من عيني أن أشهد بينكم بتلك الشهادة العظيمة التي وقف جميع الشياطين يحولون بيني وبينها.. اسمحوا لي أن أنطق بينكم في هذه اللحظات بشهادة الإسلام، التي وإن كنت قد اعتقدت بها متأخرا إلا أني أعلم بل
__________
(1) رواه مسلم.
(2) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في كتاب (أكوان الله)
ربوبيون وربانيون (3/298)
أوقن أن الله الرحيم الرحمن لاشك يقبلها مني.
قال ذلك، ثم راح يردد بصوت خاشع الشهادتين.. وقد تبعه رفاقه في ذلك.