الكتاب: ربوبيون.. وربانيون ج1
الوصف: رواية في الجواب على إشكالات منكري النبوة ومستلزماتها
السلسلة: الإلحاد والدجل
المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1444 هـ
عدد الصفحات: 594
ISBN: 978-620-4-72146-0
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
يحاول هذا الكتاب ـ بأجزائه الثلاثة ـ أن يجيب على كل الإشكالات التي يطرحها من يطلقون على أنفسهم لقب [الربوبيين]، وهم الذين يرون إمكانية استبدال النبوة بالعقل، ويرون أن هداية الله لهم يمكن أن تتحقق من دون حاجة لأي دين أو نبوة، وقد استثمروا في ذلك ما وقع في تاريخ الأديان من انحرافات عما تقتضيه العقول السليمة، وتتطلبه القيم النبيلة.
ولذلك فإنه ـ وبصيغته الروائية الحوارية ـ يحاول ـ وبهدوء ـ أن يحاور هؤلاء، من خلال منطلقاتهم العقلية والفكرية أولا، ثم من خلال مستلزمات تلك المنطلقات، وهي الأدلة التفصيلية التي يسوقونها لبيان الانحرافات التي وقعت فيها الأديان.
وهذا السبب هو الذي دعانا إلى مناقشة كل الانحرافات التي وقعت فيها الأديان، وبمختلف أنواعها، وبيان الاتفاق عليها مع الربوبيين، ثم بيان وجه الحق في التعامل معها.
ولهذا يجد القارئ الرواية مملوءة بذكر الكثير من مواقف الأديان والمذاهب الفكرية في كل قضية تُطرح ابتداء من القضايا المرتبطة بالله والنبوة والكتب المقدسة، وانتهاء بكل القيم الإنسانية كالسلام والعدالة والرحمة وغيرها.
وبما أن مشكلة الربوبيين هي في ذلك التعميم الخاطئ لمواقفهم، فقد بينا في الرواية خطأ ذلك التعميم، وأن كل المعاني السليمة التي يسوقونها أو يدعون إليها موجودة في الإسلام، باعتباره الدين المهيمن والصحيح الباقي على وجه الأرض، مع التنبيه إلى الأخطاء التي وقع فيها المسلمون، والتي لا علاقة لها بالدين الإلهي.
ربوبيون وربانيون (1/7)
يحاول هذا الكتاب ـ بأجزائه الثلاثة ـ أن يجيب على كل الإشكالات التي يطرحها من يطلقون على أنفسهم لقب [الربوبيين]، وهم الذين يرون إمكانية استبدال النبوة بالعقل، ويرون أن هداية الله لهم يمكن أن تتحقق من دون حاجة لأي دين أو نبوة، وقد استثمروا في ذلك ما وقع في تاريخ الأديان من انحرافات عما تقتضيه العقول السليمة، وتتطلبه القيم النبيلة.
ولذلك فإنه ـ وبصيغته الروائية الحوارية ـ يحاول ـ وبهدوء ـ أن يحاور هؤلاء، من خلال منطلقاتهم العقلية والفكرية أولا، ثم من خلال مستلزمات تلك المنطلقات، وهي الأدلة التفصيلية التي يسوقونها لبيان الانحرافات التي وقعت فيها الأديان.
وهذا السبب هو الذي دعانا إلى مناقشة كل الانحرافات التي وقعت فيها الأديان، وبمختلف أنواعها، وبيان الاتفاق عليها مع الربوبيين، ثم بيان وجه الحق في التعامل معها.
ولهذا يجد القارئ الرواية مملوءة بذكر الكثير من مواقف الأديان والمذاهب الفكرية في كل قضية تُطرح ابتداء من القضايا المرتبطة بالله والنبوة والكتب المقدسة، وانتهاء بكل القيم الإنسانية كالسلام والعدالة والرحمة وغيرها.
وبما أن مشكلة الربوبيين هي في ذلك التعميم الخاطئ لمواقفهم، فقد بينا في الرواية خطأ ذلك التعميم، وأن كل المعاني السليمة التي يسوقونها أو يدعون إليها موجودة في الإسلام، باعتباره الدين المهيمن والصحيح الباقي على وجه الأرض، مع التنبيه إلى الأخطاء التي وقع فيها المسلمون، والتي لا علاقة لها بالدين الإلهي.
ولذلك؛ فإن في إثبات صحة الإسلام، وكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول الله ما يرد على
ربوبيون وربانيون (1/8)
طروحات الربوبيين، لأن الواقع ـ كما يقال ـ خير دليل.. خاصة وأن الربوبيين الذين يقرون بالإيمان بالله، لا ينفون النبوة بدليل عقلي، وإنما بمجرد الحدس، وانطلاقا من الواقع الديني المحرف الذي يرونه.
ولذلك كان من الواجب على كل من يريد أن يحاورهم أن يتفق معهم أولا على الضلالات التي وقعت فيها الأديان، أو وقع فيها المتدينون بها، وأنها لا تمثل الله، ولا دينه الحق، وفي نفس الوقت يثبت لهم وجود الدين الحق بالدلائل والبراهين الكافية.
وكما أن الرواية موجهة بالدرجة الأولى إلى هؤلاء الربوبيين الذين ذكرنا حالهم، فهي موجهة كذلك للمؤمنين الصادقين، ليزداودا إيمانا بدينهم ونبيهم.
وهي موجهة كذلك للراغبين في الحوار مع الآخر، سواء كان من الربوبيين أو من أهل الأديان المختلفة، ذلك أنا وضعنا في الرواية الكثير من التفاصيل التي يحتاجون إليها، وبلغة بسيطة مهذبة بعيدة عن كل أشكال التعقيد.
وهي موجهة كذلك لغير المسلمين، لأن فيها تعريفا لهم بالإسلام، وبالخلاف بينه وبين الأديان التي ينتمون إليها.
وهي موجهة كذلك للملاحدة الذين دعاهم إلى إنكار وجود الله ما يرونه من خرافات في الأديان، وخصوصا تلك التي تصور الله بصور وثنية تتنافى مع ما يقتضيه العقل والعلم، وبيان الرؤية الصحيحة المرتبطة بذلك.
وتدور أحداث الرواية حول سبعة من الربوبيين زاروا قرية المؤلف، ليتحدثوا عن الأسباب التي جعلتهم يتركون الإلحاد، ويؤمنون بالله، لكنهم عندما سئلوا عن الدين الذي اختاروه لأنفسهم ذكروا أنهم لا يحتاجون لأي دين، لأن عقولهم التي عرفتهم بالله، وهو أهم قضية في الدين، تغني عن الحاجة إلى أي نبوة أو دين.
ربوبيون وربانيون (1/9)
ثم شرحوا لأهل قرية ما اقتنعوا به، والأدلة المفصلة عليه، مما أثر في الكثير منهم، وخاصة في أولئك الذين وجدوا في هذه الدعوة فرصة للتنصل من كل التكاليف التي يدعو إليها التدين.
وقد حاول أهل القرية أن يناقشوهم بكل الأساليب لكنهم لم يستطيعوا إقناعهم، إلى أن عاد أولئك الربوبيون السبعة إلى القرية من جديد، وبعد عام من بثهم لدعوتهم، ليخبروا المؤلف وأهل القرية بما حصل لهم في تلك السنة، مما جعلهم يتراجعون عن مواقفهم من الدين، وخصوصا الإسلام.
وكل فصل من فصول الرواية السبعة، حكاية لأحد أولئك الربوبيين السبعة، وكيف خرج من الربوبية إلى الربانية، والمشاهد التي مر بها، والحوارات التي سمعها.
وتتناول تلك الحوارات كل القضايا التي تطرح حول النبوة والدين، وهي:
1. الدين والعقل: وقد ناقشنا فيه الموقف من العقل بين الدين والربوبيين، وهل يستند الربوبيون حقا للعقل في إنكارهم للدين؟
2. الدين والله: وفيه حوارات مفصلة حول موقف الأديان المختلفة من الدين، بما فيها الإسلام، وبيان الانحرافات التي وقعت فيها.
3. الدين والنبوة: وفيه حوارات مفصلة حول دلائل النبوة العامة والخاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره ممثلا لكل الأنبياء، ودينه ممثلا لكل الأديان، وقد رددنا فيه على الشبهات المختلفة التي يطرحها الربوبيون وغيرهم حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
4. الدين والكتب: وفيه مقارنات مفصلة بين القرآن الكريم والكتاب المقدس بعهديه، باعتبار هذه الكتب الأكثر انتشارا بين المتدينين.
5. الدين والسلام: وفيه ردود مفصلة على ما يُرمى به الإسلام من العنف
ربوبيون وربانيون (1/10)
والإرهاب، وبيان تفوقه في كل قيم السلام على كل الأديان والمذاهب الفكرية.
6. الدين والرحمة: وفيه ردود مفصلة على ما يُرمى به الإسلام من العنف والقسوة وخاصة مع المستضعفين من النساء والعبيد والأطفال ونحوهم.
7. الدين والعدالة: وفيه ردود مفصلة على الشبهات المرتبطة بالشريعة والنظم الإسلامية والحدود والعقوبات ونحوها.
وقد رجعنا في هذا الكتاب إلى مراجع كثيرة، وخصوصا إلى ما كتبناه في سلسلة [حقائق ورقائق] من روايات تتعلق بهذه الجوانب، والتي توجهت بالخصوص للحوار الإسلامي المسيحي، ولهذا اقتصرنا منها هنا على ما يرتبط بالحوار مع الربوبيين، مع إضافات مهمة، وتبديلات في الصياغة بحسب ما يقتضيه المقام.
وننبه إلى أنا تساهلنا في التوثيقات، فاكتفينا بذكر المرجع أو الكتاب في أول كل مشهد أو في أثنائه، دون ذكر التفصيلات في كل جزئية، لأن ذلك سيصرف القارئ عن الهدف الذي تتوخاه الرواية.
ربوبيون وربانيون (1/11)
القصة التي سأحكيها لكم اليوم لا تدور حول الإلحاد، ولا على أدلته، أو مناقشتها، مثلما فعلت في الحكايات السابقة من هذه السلسلة.. ولكني سأحكي لكم عن قوم يعترفون بوجود الله.. ولكنهم لا يمنحونه أي صلاحيات، سوى صلاحية الخلق، أو تدبير بعض الشؤون المادية.. أما ما عدا ذلك، فهم يعزلونه عزلا تاما.
وقد بدأت هذه الظاهرة تنتشر في قريتي البسيطة التي لا تختلف عن سائر قرى ومدن العالم منذ أن زارنا بعض العلمانيين المتطرفين الذين حاولوا أن يقنعوا شبابنا وكهولنا وأهل الفكر فينا بعدم تدخل الله في الشؤون السياسية والاقتصادية، بل حتى الاجتماعية.. وأن لله محلا واحدا في حياتنا لا يعدو المساجد أو المواضع التي نصلي فيها.. أما الحياة فهي لعقولنا وتدبيرنا.
ثم قدم إلينا من يفسر القرآن الكريم بطريقة سماها عصرية، خالف بها جميع المفسرين والمحدثين والفقهاء، ومن جميع طوائف المسلمين، حيث لم يعد الإسلام ذلك الدين المضبوط بضوابطه المعروفة، وإنما هو استسلام لله، وتسليم له، ولا تهم تلك الضوابط والقيود.. فيكفي أن يتحقق التسليم، ولو من دون أي شعيرة تمارس، ولا واجبات تؤدى، ولا منكرات ينتهى عنها.
ثم تحولت الصلاة التي هدد الله من تخلف عنها إلى مجرد دعاء، يقال ولو مرة في العمر، لينجو صاحبه من كل ذلك الوعيد والتهديد.
وهكذا تحولت كل شعائر الدين التي كان أهل قريتي يحرصون عليها، وبحسب الشروط التي ذُكرت في المصادر المقدسة، والتي اتفق الفقهاء على أصولها، وإن اختلفوا في
ربوبيون وربانيون (1/12)
بعض كيفياتها وفروعها.. تحولت جميعا إلى مجرد أسام لا وجود لها في الواقع إلا بحسب ما يشتهيه صاحبها، لا بحسب ما ورد التصريح به في القرآن الكريم.
وبعد كل هذه الجولات التشكيكية.. جاءنا وفد من الذين يطلقون على أنفسهم لقب [الربوبيين] من منكري النبوات والأديان.. والذين استطاعوا أن يحققوا كل أمنيات من سلفهم، بل زادوا عليها.
ومشكلة هؤلاء أنهم يختلفون فيما بينهم اختلافا شديدا.. حتى أنه يمكن اعتبارهم منقسمين على أنفسهم بحسب أعداد أفرادهم.. فلكل واحد منهم دينه الخاص الذي يتميز به عن غيره.. وهذا مصدر صعوبة تسجيلي لأحداث هذه القصة.
لكني بحمد الله، وحتى لا أظهر بمظهر المتحيز، ذكرت أقوالهم جميعا.. ثم ذكرت الردود عليها.. لا مني، ولا من المتكلمين وعلماء الدين.. بل منهم أنفسهم.
وحتى لا أخلط بداية القصة بنهايتها.. سأحكي لكم ما حصل بالضبط.. وربما يفهم بعضكم بالإشارة، ما لا يحتاج معه للعبارة.. ولذلك بدأت بذكر مقولاتهم، وكما عبروا بها عن أنفسهم، ومن خلال مصادرهم.. والعاقل قد يكفيه حكاية القول عن تكلف الرد عليه.
في صباح ذلك اليوم الجميل من أيام الربيع، سمعت صائحا يصيح في الطريق، وبأعلى صوته قائلا: لقد شرّفنا اليوم سبعة من دعاة الإلحاد الكبار، بعد أن منّ الله عليهم بالهداية إليه.. وأنتم مدعوون جميعا لسماع أحاديثهم، للتعرف على الحجج والبراهين التي ألجأت عقولهم إلى الإيمان، ليصبحوا من دعاته الكبار.
فرحت كثيرا بذلك الخبر السار، ورحت أبشر به في كل المحال، مستعملا كل وسائلي ووسائطي لذلك، وأنا أرجو من ذلك أن أنال الثواب العظيم عند الله؛ فالدال على الخير
ربوبيون وربانيون (1/13)
كفاعله.. لكني لم أعلم أبدا ما سيحصل، وما نتيجة ما عملته بنفسي، وبتسرعي.
ذلك أني بعد جلوسي في ذلك المحل، وسماعي مع الجمهور العريض الحاضر للحجج التي أوردها زوارنا الكرام للدلالة على وجود الله وعظمته، والتي قادت عقولهم إلى الإيمان، وهي لا تختلف كثيرا عن الحجج التي أوردها المتكلمون والعلماء في كل العصور، وإن كانت بصياغة مختلفة متناسبة مع عصرنا.
ما فرحت بذلك الحديث حتى نغصت إجاباتهم على الأسئلة التي أوردها الحضور علي فرحتي، ذلك أني رأيت أنها دعت إلى نوع جديد من الإلحاد أكثر عقلانية وتطورا.
فالإلحاد الأول ـ والذي كان يتبناه زوارنا الكرام ـ ينفي وجود الله مطلقا.. وأما الثاني، فإنه لا ينفي وجوده، ولكن ينفي فاعليته وتأثيره، ويجعله مجرد صانع مبدع، لا علاقة له بخلقه إلا تلك العلاقة الهشة التي لا معنى لها.. والاعتراف به حينها مثل الاعتراف بمدير أو رئيس من غير الانصياع لأوامره، لا تكبرا وتعنتا، ولكن لأنه لا يستطيع أن يأمر أو ينهى، لأن دوره فقط أن يكون مديرا.. أو في أحسن أحواله يكون ملكا يملك ولا يحكم، ويخلق ولا يتصرف إلا في حدود ضيقة جدا.
دعوني لا أستعجل في أحكامي، فقد أكون مخطئا فيها.. ولهذا سأنقل لكم الحوار حرفيا كما سمعته، وسترون بأنفسكم دقة ما نقلته عنه (1).
فبعد انتهاء زوارنا الكرام من محاضراتهم القيمة، والتي أعجبتني كثيرا، حيث ذكر
__________
(1) الحوار الموجود هنا منقول ببعض تصرف من مواقع دعاة الربوبية وغيرها، ومنها مقال بعنوان: أسئلة حول الربوبية [مدونة الربوبي العربي | الرب أعطانا عقلا لا دينا]، وغيرها. وسأكتفي بالإشارة إلى هذا عن التوثيق لكل ما أذكره من هذه المواقع.
ربوبيون وربانيون (1/14)
كل واحد منهم أسباب إلحاده، ثم كيف تحول إلى الإيمان، والأدلة التي قادته إليه.. طرح مدير الجلسة عليهم هذا السؤال، والذي لا أدري هل كان سؤالا اعتباطيا، أم أنه نسق مع الزوار قبل طرحه.
لقد قال لهم: بعد تخلصكم من الإلحاد، واقتناعكم بالإيمان، ما هو الدين الذي رأيتموه أهلا لأن يعرفكم بربكم، وبمراضيه وكيفية التواصل معه؟
قال أحدهم، وبتلقائية: نحن مع اختلافنا مع بعض في الكثير من التفاصيل إلا أنه يمكنك أن تسمي الدين الذي ارتضته لنا عقولنا باسم [الربوبية]
تصورت في البداية أنه يقصد ذلك المعنى المشتق من الرب، والذي نسبه الله تعالى لعباده الصالحين فقال: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران: 79]، وقال في آية أخرى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146]، فالرباني والرِّبي هو المنسوب إلى الرب.. لكني وجدت أنه لا يقصده أبدا.. بل يقصد معان أخرى.. أدعه يشرحها لكم.
سأله حينها مدير الجلسة قائلا: ما الذي تقصده بالربوبية؟.. هل هي نسبة إلى الرب سبحانه وتعالى؟
قال الربوبي: لك أن تقول ذلك.. لكن لا على المعنى الوارد في الأديان.. فالرب عندنا شيء آخر تماما أكثر جمالا وقداسة وقوة وعظمة.. هو عندنا ليس بتلك الصورة المشوهة الواردة في الأديان.. بل هو (المصمم الأعظم) أو هو (قوّة كونية هي مصدر الخلق).. ولهذا فإن لنا مصطلحاتنا الخاصة بنا، والتي نتحاشى فيها ما وقعت فيه الأديان.
ربوبيون وربانيون (1/15)
قال المدير: أرى أن لك موقفا سلبيا من الدين.. فهل هو مرتبط بدين معين أم بجميعا؟
قال الربوبي بسرعة وتلقائية: بل بجميعها.. وأنا وكل الربوبيين وإن اختلفنا في الكثير من الأمور إلا أننا نتفق في موقفنا السلبي من الأديان جميعا.. فبسبب تحريفاتها وتشويهاتها للمصمم الأعظم وقعت ووقع الكثير من أصدقائي في الإلحاد.
قال آخر (1): إن شئتم أن نحدثكم بلغة علمية أكاديمية، فإنه يمكن القول بشكل عام أن الربوبية هي التصور الذي يرى أن العقل وحده ـ وبدون أن يكون في حاجة إلى وحي أو إلهام ـ قادر على الوصول إلى المبادئ الأساسية الصحيحة المشتركة للدين والأخلاق.
قال آخر: ولهذا عرف بعض علمائنا الربوبية بأنها: الرؤية التي تذهب إلى أن الدين الحق هو الدين الطبيعي.. والمقصود باللاهوت الطبيعي أو الدين الطبيعي: الدين الكلي، العالمي، الذي يمكن التوصل إلى مبادئه الأساسية البسيطة من خلال العقل البشري.
قال آخر: وبمثل ذلك عرفها جون هيك بأنها: المذهب الذي يرى اللاهوت الطبيعي وحده كاف من الناحية الدينية.. وبذلك فإن كل هذه التعريفات تدور حول كفاية العقل في الوصول إلى الحقائق الدينية والأخلاقية الأساسية دون اللجوء للوحي.
قال آخر (2): وحتى أبسط لكم هذا؛ فإن العقيدة الربوبية عقيدة بسيطة جداً، لها فقط ثلاثة مبادئ أساسية تقوم عليها.. أولها الإيمان بإله واحد خالق، عظيم، هو موجد الكون ومنظمه، هو أعظم من أن تدركه أو تدرك خصائصه حواس البشر القاصرة.
قال آخر: وثانيها الإيمان بأن هذا الإله العظيم قد وضع في هذا الكون ـ بكل ما حوى
__________
(1) انظر: النزعة الربوبية، محمد سيد سلامة، نماء للبحوث والدراسات.
(2) كلام الربوبيين هنا مقتبس من حديث ربوبي في: مناظرة مع ربوبي، منتدى التوحيد.
ربوبيون وربانيون (1/16)
ـ النظم والآليات التي تضمن تسييره علي النحو المرسوم له بواسطة هذا الإله، ومن ثم فإنه لا يتدخل بشكل مباشر في سيره وتفاعلاته وتطوره، فهذا الكون يسير في الطريق المرسوم له ووفق القواعد المحددة التي تحكم حركته.
قال آخر: وانطلاقاً من هذا المبدأ يؤمن الربوبيون بفكرة التصميم الذكي للكون وللإنسان، وهي تشير إلى عدم الحاجة للتدخل من الإله الأعظم في شؤون الكون، فذكاء التصميم يجعله مناسبا دائما، وليس في حاجة للتصحيح أو التعديل بتدخل إلهي طارئ خارج إطار التنظيم أو القوانين التي بنى عليها الكون، عبر إرسال الرسل أو جلب الكوارث على شكل متعمد أو دفعها أو غير ذلك، لذا يحلو لهم تسمية الخالق بالمهندس العظيم.
قال آخر: أما المبدأ الثالث، فهو أن الربوبيين لا يؤمنون بالأديان التي تدعي أنها سماوية، ويدعي أنبياؤها بأنهم مرسلون من الذات الإلهية العليا، فهم لا يصدقون بأن الإله الأعظم قد طلب من هؤلاء الأنبياء بأن يرشدوا البشرية لمعرفته أو لتعاليم وأوامر معينه يريدنا أن نتبعها.
قال آخر: وجميع الربوبيين تقريباً يتفقون على هذه الأسس، وقد يختلفون فيما وراءها.. لكن لا يجب أن نفهم العقيدة الربوبية بأنها مثل الأديان الأخرى التي لها هيكل واضح من الأفكار والمعتقدات، فالربوبية هي عقيدة فضفاضة جداً، لكن هذا لا يعيبها، فهي ليست دينا، وإنما هي فكرة بسيطة تتلخص في جملة واحدة هي (هناك إله خلق الكون وخلق النظم التي تحكم حركته، وهناك منطق والأديان غير صحيح)
قال المدير: أرجو ألا أظهر أمامكم بمظهر المقصر في المطالعة والبحث.. لكني لم أسمع بهذا من قبل، لأني كنت أتصور أن كل مؤمن لابد أن يكون حتما ضمن أي دين..
ربوبيون وربانيون (1/17)
فمتى ظهر هذا النوع من التفكير؟
قال أحد الربوبيين (1): منذ أن تخلى الإنسان عن الأسرار الغامضة، والقوى الغيبية الخارقة للطبيعة، والتي كانت أداة التفسير الأولى للظواهر الطبيعية والمعتقدات في القرون الوسطى.. حيث لم يكن العقل أداة أولية في اكتشاف الحقائق، واقتصرت وظيفته في الغالب على مهمة الدفاع عن الإيمان والحقائق التي أتى بها الوحي.. ومع بزوغ فجر النهضة الأوربية اكتشف الإنسان الطبيعة واعتبر نفسه جزءا منها، وسادت القناعة أن جميع الحقائق لابد أن تكون على انسجام مع الطبيعة..
قال آخر (2): ومع تقدم الفكر في القرن السابع عشر، شاع الاعتقاد بأن المبادئ بشكل عام إنما تُقبل ويتمسك بها بحسب ما لديها من أسباب كافية لتبريرها، وعليه فإن كل الأنظمة سواء كانت إنسانية أو إلهية، لابد أن تقدم من الأسباب ما يبرر وجودها في ضوء الطبيعة والعقل.
قال آخر: ولهذا راج بين المثقفين استعمال كلمة العقل والطبيعية دون تمايز واضح بين مفهومهما؛ فقد كان مصطلح العقل في تلك الحقبة ـ حقبة عصر التنوير ـ يعني ضمنا العلم النيوتوني أكثر مما يعني الفلسفة الأرسطية.. لقد كان النقد والعقلانية هي روح ذلك العصر، وشعر الناس أنهم في حاجة إلى القدرة على إعطاء أسباب كافية لمعتقداتهم، ولم يكن الدين ليستثنى من مقصلة النقد والامتحان العقلي.
قال آخر: ومما يذكره المؤرخون في هذا أنه في بداية القرن السابع عشر دعا البروفسور اللاهوتي الإنجليكي ريتشارد هوكر (1554 ـ 1600) إلى بناء نظام كنسي لا يُستمد فقط
__________
(1) انظر: النزعة الربوبية، محمد سيد سلامة، نماء للبحوث والدراسات.
(2) المرجع السابق، بتصرف.
ربوبيون وربانيون (1/18)
من الوحي، ولكن من الطبيعة أيضا؛ فالطبيعة ملك لله وقوانينها من صنعه، فهي كلمة الله المشاهدة.
قال آخر: وقد التمس هوكر حكم العقل أيضا وعظم من شأنه في أمر قبول الاعتقاد الديني، وكان يذكر أن ثقة الإنسان في اعتقاده لا تضمن له صحته في نفس الأمر، لكن عقلانية الأسباب التي بني عليها الاعتقاد هي التي تضمن لنا ذلك، وهي وحدها التي تؤكد لنا أن هذه المعتقدات من الله وليست من روح خبيثة.
قال آخر: وقد كان هوكر يرى أن اتِّباع الدين بدون الاصغاء إلى صوت العقل تصرف يشبه تصرف الماشية في القطيع.. لقد كان يعبر عن روح عصره الذي كان يؤكد على أنه لا يمكن لأي نوع من الحقائق أن تتناقض مع العقل والطبيعة.
قال آخر: وفي نهاية القرن السابع عشر أصبح الخلاف ملحوظا بين المحافظين الذين يؤيدون عقلانية الدين التقليدي بما فيه من معجزات وخرق لقوانين الطبيعة؛ وبين أولئك الذين يرفضون هذه الأمور، ودار النقاش حول القيمية الدلالية للمعجزات، وأهمية الدين الطبيعي بالمقارنة بالدين الموحى به، وحقيقة الكتاب المقدس، وسلطة الوحي، والعلاقة بين الوحي والعقل.. وقد كانت هذه بداية الجدل الربوبي الذي امتد خلال النصف الأول من القرن الذي يليه.
قال آخر: بعد ذلك انتشرت الربوبية بين مفكري الغرب على نطاق واسع في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي، وكانت انجلترا من أبرز أماكن الانتشار.. وقد بدأت هناك باللورد إدوارد هربرت (1583 ـ 1648)، الذي لقب بأبي الربوبيين أو الطبيعيين، وقد حددت كتاباته المبادئ الرئيسية للمذهب الربوبي.
قال آخر: لقد اهتم هربرت ببيان المفاهيم المشتركة للأديان والتي يمكن من خلالها
ربوبيون وربانيون (1/19)
تحديد الحقيقة الدينية.. وهي كما تصورها هربرت تتمثل في أن هناك ربا أعلى.. وأن هذا الرب يجب أن يعبد.. وأن العبادة تتشكل من مجموع العفة مع التقوى.. وأنه يجب على البشر أن يتوبوا من خطاياهم ويقعلوا عنها.. وأن الجزاء والعقاب في الدنيا والآخرة قائم على عدل الله وخيريته.
قال آخر: وقد عرفت هذه المبادئ الخمسة بالمقولات الخمس للربوبيين الإنجليز، وهي ـ بحسب هربرت ـ تشكل نواة كل الأديان بما في ذلك المسيحية قبل أن يسلم الناس أنفسهم لأطماع وخبث الكهنوت.
قال آخر: وقد نظر هربرت إلى هذه المبادئ على أنها تعبر عن كامل العقيدة المسيحية الكاثولويكية الحقيقية في أصلها الأول قبل أن تفسد وتحرف.
قال آخر: ويمكن القول أن هذه المقولات الخمس تشكل عنده دين العقل.. وما هو مخالف لهذه المقولات الخمس يعتبر مخالفا للعقل، وبالتالي باطل.
قال آخر: وأما ما وراء العقل مما لا يتعارض معه فقد يكون موحيا به، لكن كونه معروفا بين الناس كوحي لا يعني أنه وحي في نفس الأمر؛ بل هو تراث، وصدق هذا التراث متوقف على الراوي، ولا يمكن بحال أن يكون أكثر من مجرد احتمال.
قال آخر: وأما التباين والاختلاف الذي نراه بين الأديان فذلك يرجع إما إلى خداع النفس، أو المكر الكهنوتي، أو التأويل المجازي للطبيعة، أو عمل الخيال.
قال آخر: وقد كرس هربرت أحد أبرز أعماله للتحقق من هذه النتيجة التي جاء بها عن المفاهيم المشتركة الدينية فخرج عمله في الصورة التي تعرف الآن بعلم مقارنة الأديان.. ولذلك يعتبر هربرت من أوائل الذين بذلوا جهدا منهجيا في مجال مقارنة الأديان.
قال مدير الجلسة: بحسب قولكم هذا؛ فإن الربوبية لا تنكر الأديان، بل هي تبحث
ربوبيون وربانيون (1/20)
فيما يوافق العقل منها.. والدليل على ذلك ما فعله هربرت.
قال أحد الربوبيين: نحن حدثناك عن المرحلة الأولى في الربوبية.. أو عن صنف من أصنافها أو مدرسة من مدارسها، وهي المدرسة التي يطلق على أصحابها الربوبيين المسيحيين، وهم الربوبيون الذين دافعوا عن الدين الطبيعي، وفي نفس الوقت لم يتخلوا عن المسيحية، وهم على درجات متفاوتة في مقدار ما يقبلونه ويرفضونه منها.
قال آخر: لكن بشكل عام يمكن القول أنهم آمنوا بإمكان الوحي والمعجزات والتدخل الإلهي الشخصي في حياة البشر، ورأوا أن مضمون الوحي هو نفس جوهر الدين الطبيعي، وأن رسالة المسيح دخلها الإفساد بواسطة القساوسة والكهنة الذين وظفوا الدين لتحقيق أغراضهم الذاتية من حيازة السلطة والمال.
قال آخر: ولم تكن تلك الفكرة.. أي فكرة اللاهوت الطبيعي فكرة جديدة فقد قال بها لاهوتيون عقليون في القرون الوسطى، مثل توما الإكويني، والذي نصر اللاهوت الطبيعي، وكان تصوره للعلاقة بين الوحي والعقل مقبولا بشكل عام لدى المسيحيين المحافظين.
قال آخر: حيث ذهب الإكويني إلى أن العقل قادر على التوصل إلى معرفة صحيحة عن الله ـ وإن لم تكن مكتملة ـ أما الوحي فهو المصدر الذي يعطينا من المعارف ما هو خارج نطاق قدرات العقل، أي يعرفنا ما لا يستطيع العقل أن يصل إليه بمفرده، ثم إن هذه المعارف الحصرية التي يأتينا بها الوحي لا يمكن أن تتناقض مع العقل.
قال آخر: وذلك على خلاف اللاهوتيين العقليين الذين تقبلوا الوحي المسيحي جملة وتفصيلا.. ذلك أن الربوبيين المسيحيين جعلوا العقل هو الحكم على الوحي؛ فقبلوا منه ما لا يناقض العقل والطبيعة، وكان بعضهم، كجون لوك، والذي ألف كتابا في معقولية
ربوبيون وربانيون (1/21)
المسيحية، يميل إلى الشك في الوحي المسيحي، مع اعتقاده بإمكان الوحي، وبعضهم تحفظ في قبول المعجزة، وبعضهم شكك في قيمتها الاستدلالية.
قال آخر: ولم ينكر إدوارد هربرت ـ صاحب المقولات الخمس للربوبيين الانجليز ـ الوحي، لكنه أنكر أن يكون للوحي أي سلطة معرفية إلا على الشخص الذي أوحي اليه، أما بالنسبة الآخرين فهو لهم مجرد تراث.
قال آخر: وهكذا شكك تشارلز بلونت (1654 ـ 1693) ـ خليفة هربرت ـ في قصص المعجزات الواردة في الكتاب المقدس، وأنكر عقيدة الثالوث والخلاص.
قال آخر: وأكد جون تولاند (1670 ـ 1722) أنه ليس ثمة شئ في الكتاب المقدس يناقض العقل، وليس في الكتاب المقدس ما يتخطى نطاقه أيضا؛ أي أنه ينكر أن يكون في الكتاب المقدس ما هو فوق نطاق القدرات العقلية، كسر الثالوث مثلا. فليس في المسيحية ـ بحسب تولاند ـ أي أسرار تتجاوز حدود العقل.
قال آخر: ومثلهم بنجامين فرانكلين (1706 ـ 1790) الذي قال: إن المسيحية قد لا تكون صحيحة الصحة الصارمة لكنها بكل تأكيد نافعة بل هي جزيلة الفائدة، بينما أن مذهبا ربوبيا قد يكون صحيحا لكنه لن يكون ذا نفع أو فائدة.
قال آخر: ومع تقدم النقاش أصبحت الخطوط الفاصلة بين اللاهوتيين العقليين والمسيحيين الربوبين أكثر وضوحا؛ حيث بدأت الانتقادات الجذرية الموجهة للكتاب المقدس تظهر، والبعض ذهب إلى أن الوحي ليس ضروريا، وأنه إذا كان ثمة وحي فعلا فليس له سلطة معرفية، وأن الكتاب المقدس ملئ بالأخطاء والتناقضات.
قال آخر: ولذلك كان الكتاب الأرذوثوكس ينظرون إلى الربوبيين المسيحيين كملحدين كفرة يريدون إعادة بناء المسيحية بإزالة كثير من مبادئها الجوهرية كما هي مقررة
ربوبيون وربانيون (1/22)
في المسيحية التقليدية ـ كعقيدة الخطيئة الأصلية، والخلاص، والثالوث، وغيرها ـ لذلك كانوا يستعملون كلمة ربوبي بالمعنى الإزدرائي ويطلقون عليهم [ربوبيون] بقصد الإساءة.
قال المدير: بناء على ما ذكرتموه يمكن تقسيم الربوبيين باعتبار موقفهم من الإيمان بالمسيحية إلى ربوبية مسيحية، وربوبية لا دينية، والعامل المشترك بينهما: اعتقاد كل منهما أن العقل يستطيع أن يبرهن على وجود الله، وأن يكتشف قوانين الأخلاق.
قال أحد الربوبيين: أجل.. فقد زعم جون لوك وصمويل كلارك على سبيل المثال ـ وهما من الربوبيين المسيحيين ـ أن الأخلاق الطبيعية الوضعية يمكن أن تكون علما تنطبق سننه الأخلاقية على سنن الأخلاق المسيحية.
قال المدير: حدثتمونا عن الربوبيين الدينيين؛ فحدثونا عن الربوبيين اللادينيين.
قال أحد الربوبيين: الربوبيون اللادينيون هم الذين تخلوا عن المسيحية وكل الأديان تماما، واعتقدوا أن العقل قادر على وضع دين طبيعي عالمي ذي محتوى عقدي قليل ومحتوى أخلاقي عملي أكثر.
قال آخر: ورأوا أنه ليس ثمة حاجة إلى الوحي طالما أن الإنسان يستطيع بواسطة العقل وحده أن يبرهن على وجود الله، وأن يكتشف قوانين الأخلاق، وبالتالي فلا حاجة لخرافات وأساطير اليهود القديمة وغيرها.
قال آخر: وكان منهم من يرى في المسيح معلما أخلاقيا دعا إلى المبادئ الأخلاقية ذاتها الموجودة في الكونفوشوسية والإسلام والرواقية وغيرها من أديان العالم، وأن تلك الأديان والمذاهب جميعا متشابهة في أصلها، والسبب يعود إلى كون جميع البشر يتمتعون بالملكات العقلية ذاتها والحس الأخلاقي نفسه.
قال آخر: والغالب أن اسم الربوبيين إذا أطلق ينصرف على أصحاب هذا القسم.
ربوبيون وربانيون (1/23)
قال آخر: وعليه يمكن القول أن معظم الربوبيين يعتبرون دين الوحي ـ أي الدين القائم على الوحي ـ من نسج الخيال.
قال آخر: وهم يرون أن الله أراد أن تسعد مخلوقاته ورسم الفضيلة كوسيلة لهذا الغرض.. ولأن إحسان الله عام لا يحابي أحدا، فإنه ضمن أن تكون المعرفة اللازمة للسعادة متاحة للجميع، لذلك لا يمكن أن يكون الخلاص معتمدا على وحي خاص.
قال آخر: وبذلك؛ فإن الدين الحق هو تعبير عن الطبيعة الإنسانية الكلية.. وهذا الدين جوهره العقل، ولذا فهو واحد في كل مكان وزمان..
قال آخر: أما التعاليم والتقاليد الدينية الخاصة لأديان مثل المسيحية والإسلام واليهودية، فنشأت من سذاجة التصديق، والطغيان السياسي والكهنوتي، وقد تسببت هذه التقاليد الدينية الخاصة في إفساد العقل، وتغطية الدين الطبيعي بالشوائب.
قال المدير: فهمنا هذا.. فهل يتفق هؤلاء في مواقفهم من الأديان، أم يختلفون؟
قال أحد الربوبيين: الربوبيون مدارس وأصناف كثيرة.. منهم ربوبيون غير معادين للمسيحية وللأديان بشكل عام.
قال آخر: ومنهم الربوبيون المعادون للأديان وللوحي المسيحي ـ اليهودي بشكل خاص.. وهم الذين شنوا هجوما على الأسفار المقدسة، وأظهروا تناقضاتها وسخافتها المنافية للعقل وسخروا منها، وكانت أعمالهم تمثل طلائع النقد الجدي للكتاب المقدس.
قال آخر: وقد صنف القسيس الإنجيلي صمويل كلارك (1675 ـ 1729) الربوبيين اللادينيين بحسب معتقداتهم إلى أربعة فئات.. الأولى، أولئك الذين يرون أن الله هو الموجود السرمدي اللامتناهي، الغني العاقل، الذي خلق العالم، لكنه لا يهتم على الإطلاق بحكم العالم أوالسيطرة عليه، ولا يولي أي رعايه له ولمن فيه.
ربوبيون وربانيون (1/24)
قال آخر: والصنف الثاني.. من يؤمنون بالموجود الأعلى السامي المتصف بالعناية الإلهية، لكنهم يقيدون عناية الله وسلطته بالمجال الطبيعي في العالم، وبالتالي فإن الله، بالنسبة لهؤلاء، لا يلتفت إلى أخلاقيات الأفعال الإنسانية من خير وشر؛ بل تعتمد هذه الأمور على القوانين البشرية الوضعية الاعتباطية.
قال آخر: والصنف الثالث، هم الذين آمنوا بالرب ذي السيادة الكاملة، الذي تمتد سلطته وحكمه وعنايته إلى كل شيء في العالم الطبيعي والأخلاقي، وهو يحكم العالم وفق صفاته ـ العدالة المطلقة، الحقيقة المطلقة، الخير المطلق ـ لكنهم ينكرون أي حالة مستقبلية للإنسان بعد الموت.. أي ينكرون البعث.
قال آخر: والصنف الرابع، هم الذين يؤمنون بأن الله واحد سرمدي لا متناهي عاقل قادر حكيم، وهذا الإله متصف بالعدل المطلق والخير المطلق والحق المطلق وكل الصفات الأخلاقية الأخرى، كما هو الحال بالنسبة للكمالات الطبيعية، وهذا الإله صنع العالم لتتجلى قدرته وحكمته ولينشر خيره وسعادته على مخلوقاته، وهذا الإله يدبر أمر العالم من خلال عنايته الحكيمة المستمرة، ويحكمه وفقا للقوانين الأبدية للعدالة الإلهية اللانهائية، والإنصاف والخير والرحمة والحق، وأن الإنسان مكلف بواجب أخلاقي بناء عليه سيكون الجزاء والعقاب في مرحلة مستقبلية.
قام بعض الحضور، وقال: اسمحوا لي أن أتدخل في هذا.. حيث أرى أن ما ذكرتموه عن الربوبيين اللادينيين يتوافق تماما مع ما نسبه علماء الكلام المسلمون إلى البراهمة الهنود، فهم أيضا أنكروا النبوات.
قال آخر: وقد قال ابن حزم عنهم: (ذهبت البراهمة وهم قبيلة بالهند فيهم أشراف أهل الهند ويقولون أنهم من ولد برهمي ملك من ملوكهم قديم ولهم علامة ينفردون بها
ربوبيون وربانيون (1/25)
وهي خيوط ملونة بحمرة وصفرة يتقلدونها تقلد السيوف وهم يقولون بالتوحيد على نحو قولنا أنهم أنكروا النبوات.. وعمدة احتجاجهم في دفعها أن قالوا لما صح أن الله عز وجل حكيم وكان من بعث رسولا إلى من يدري أنه لا يصدقه فلا شك في أنه متعنت عابث فوجب نفي بعث الرسل عن الله عز وجل لنفي العبث والعنت عنه.. وقالوا أيضا إن كان الله تعالى إنما بعث الرسل إلى الناس ليخرجهم بهم من الضلال إلى الإيمان فقد كان أولى به في حكمته وأتم لمراده أن يضطر العقول إلى الإيمان به قالوا فبطل إرسال الرسل على هذا الوجه أيضا ومجيء الرسل عندهم من باب الممتنع) (1)
قال أحد الربوبيين: يمكنكم أن تقولوا ذلك.. ولهذا تجدون الكثير من أصحابنا يجلونهم ويحترمونهم.. لكني شخصيا لا أصدق هذا.. فنسبة إنكار النبوات إلى البراهمة لا تخلو من تأمل.
قال آخر: أجل، وقد ذكر النوبختي في كتابه (الآراء والديانات) أن البراهمة أثبتوا الخالق والرسل والجنة والنار، وزعموا أن رسولهم ملك أتاهم في صورة البشر.
قال آخر: بل قد رفع عبد الرحمان بدوي من وتيرة التشكيك هذه حيث إنه وبعد بحث وتقص ومتابعة لكلمات وأقوال العلماء المسلمين حول معتقدات البراهمة رأى (أن الروايات التي نجدها لدى المؤلفين الإسلاميين عن البراهمة بحسبانهم منكري النبوة إنما ترجع إلى كتاب (الزمرد) لابن الراوندي، جازما بأن ابن الراوندي حينما يدع البراهمة يطعنون في الأديان المنزلة إنما يخفي تحت هذا القناع عقيدته الخاصة)، ومحتملا أن سر اختياره لمدرسة هندية وهي مدرسة البراهمة لينسب إليها تلك الأقوال، هو أنه (تبع سنة
__________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل (1/ 63).
ربوبيون وربانيون (1/26)
قديمة تضع على لسان حكماء الهند أقوالا مثل هاتيك) (1)
قال آخر: وهكذا نُسِب هذا التفكير النير إلى أبي العلاء المعري، حيث يذكر مؤرخوه أنه تبنى مذهب البراهمة.. ولذا عدّه بعض أصحابنا من أنصار الربوبية، بالنظر إلى ما ورد في بعض الأشعار المنسوبة إليه.
قال آخر: لكني أرى خلاف ذلك تماما.. فمثل هذا التفكير النير لا يمكن أن يظهر في المشرق، فهو في عادته يتعلق بالخرافات والأديان.. ولهذا فإن المنشأ الحقيقي لهذا النوع من التفكير هو بلاد الغرب، فهي المنبت الأساس للفكر الربوبي المعروف في العصور المتأخرة.
قال آخر: وهم يشملون الكثير من فلاسفة عصر التنوير، والذين تبنوا الاعتقاد بالربوبية، ومنهم الشاعر والفيلسوف الفرنسي فولتير (توفي 1778 م)
قال آخر: ومن العلماء المعاصرين أنطوني جيرارد نيوتن فلو (1923 م ـ 2010 م)، وهو الذي كان من المنظرين ولعقود طويلة للإلحاد، ثم في أخريات حياته تحوّل إلى الاعتقاد بالربوبية، ونُسب هذا الاعتقاد أيضاً إلى بعض رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية.
قال آخر: هذا عن ماضينا، أما اليوم فإن أعضاء جماعتنا آخذون بالانتشار، مستعينين بسهولة أفكارنا وبساطتها واعتضادها بالعقل وتقديرها للعلم، بالإضافة إلى الضعف الذي ينتاب الفكر الديني على أكثر من صعيد، حيث يسود التشدد والتعصب الدينيين وتنتشر الخرافة والاعتقادات البالية، ناهيك عن احتراب الجماعات الدينية وتقاتلها، وشهرها للسيف في وجه كل من لا يتفق معها في الرأي وارتكابها الجرائم باسم الدين.
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: عالم دون أنبياء،، دراسة نقدية في الفكر الربوبي، حسين الخشن، ص 18، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/27)
قال آخر: بل إن الفكر الربوبي آخذ بالتبلور كمذهب له تشكيلاته وأطره التنظيمية، فثمّة اتحادٌ عالمي للربوبيين، ولديهم مركز في العاصمة الأمريكيّة واشنطن.. بل إن الكثير من الأدلة تشير إلى أن الربوبية هي من أكثر المذاهب انتشاراً في أوروبا.
بعد أن انتهى الربوبيون من أحاديثهم، والتي شكل الشق الأول منها قمة الإيمان المؤسس على العقل والعلم، وشكل الشق الثاني قمة الانحراف عن مقتضياته ومستلزماته، خرجت من ذلك المجلس، وأنا لا أدري هل أفرح بهم وبحضورهم وأسرّ، لأنهم أثبتوا الإيمان بالله، ومن خلال العقل والعلم، أو أحزن وأتألم لأنهم استعملوا من تثبيتهم للإيمان بالله شباكا لقلع الإيمان برسله وشريعته ودينه وكل ما يمت بصلة لتواصله مع خلقه.
وليت ما حصل كان مجرد آلام لحظية اعترتني.. أو تتعلق بهم.. بل إن ما حصل فوق ذلك بكثير، وهو ليس غريبا ولا مستبعدا.
ذلك أن الملاحدة الذين كانوا يصرخوا بإلحادهم في كل المحال، لم يستطيعوا أن يؤثر في عقلاء الناس ومثقفيهم بقدر ما استطاع أولئك الربوبيون، لأنهم لا يجادلون في وجود الله، وإنما في رسله ودينه وما يستلزمه ذلك الإيمان من تكاليف ترتبط بالحياة جميعا.
وقد نشأ عن ذلك المروق عن الإيمان بالنبوة والدين والشريعة انحرافات كثيرة عن القيم النبيلة، حتى تلك الفطرية منها.
ذلك أن الجميع ـ مهما اختلفت عقولهم ـ يرجعون عند الخلاف فيها للدين المقدس الذي يحكم بينهم، لكنهم بعد تلك الأفكار، وبعد تخليهم عن ذلك المعيار المقدس، لم يبق هناك أي معيار يمكنه أن يتحكم في التصرفات، أو يحد من الغرائز.
ربوبيون وربانيون (1/28)
لقد التقيت بعد فترة وجيزة من حضوري لذلك المجلس.. رجلا ينصح أخاه المتأثر بأولئك الربوبيين في أن يكف عن أكل الربا، ويذكر له الآيات التي تحرمه.. لكنه لم يكد يصغي له، بل أجابه، وهو يسخر ـ بقوله: عقلي لم يقتنع بما تذكره، لأنه لا دليل على ما ذكرت إلا القرآن، وهو قد يكون دليلا بالنسبة لك، لكنه ليس دليلا بالنسبة لي؛ فأنا لا أؤمن به، ولا بأن الله تحدث مع أحد من عباده.. ولا أن المصمم الأعظم ترك كونه جميعا، ثم انشغل بالحديث معنا عنه، وعما تسميه أكل الربا.
وهكذا رأيت آخر يحتج بمثل ذلك على حلية الخمر والمسكرات، وكل ما ورد تحريمه من المطاعم في القرآن الكريم بحجة عدم الدليل العقلي عليها.. بل إن الربوبي راح يستدل بوجودها وتوفيرها على إباحتها.
وهكذا رأيت آخر يلقي خطابا في الدعوة للتحلل من كل تلك الالتزامات الدينية التي يمارسها المؤمنون من الصلاة والذكر والدعاء، والتي يشعر ممارسوها الصادقون بالراحة والطمأنينة عند ممارستها، ويخبرهم أنها مجرد طقوس لا تنفع الله شيئا.
أذكر أن بعض المتدينين حينها قال له: أعلم أنها لا تنفع الله.. فالله هو الغني عن عباده، ولكنها تنفعنا لأنها وسيلتنا إليه، وإلى تذكره، وتذكر عظمته، واستشعارها.. وهي أداة تواصل بيننا وبينه.
حينها سخر الربوبي الجديد، وقال: هل تتصور أن المصمم الأعظم يترك كل كونه وعظمته لينشغل بك أيها القزم الحقير؟
ثم أضاف: هل تعلم حجم الأرض بالنسبة للكون.. إنها مجرد صفر.. وأنت فيها مجرد صفر مضاعف.. والصفر لا يحلم أبدا بأن يتصل باللانهاية؟
لم يجد المتدين ما يجيبه به.. وهكذا كنت ألاحظ قصورا كبيرا في الردود على
ربوبيون وربانيون (1/29)
الطروحات التي يطرحها هؤلاء الذين تتلمذوا على أولئك الربوبيين، مما اضطر بعض وجهاء القرية أن يجتمعوا ليبحثوا في حل هذه المعضلة التي وقعت.
وسرعان ما أخبرهم أحدهم بأنه يعرف عالما كبيرا، وأنه يمكنه أن يصحح الوضع، وبكل سهولة، وليس عليهم سوى أن يجمعوا له بعض المال، ليتمكن من استدعائه، لكونه يسكن في بلد بعيد.. ويُحتاج إلى إعطائه بعض الهدايا من باب التكريم والتبجيل.
وما هي إلا أيام حتى زُينت قريتنا بكل أصناف الزينة، ثم هب مجلس أعيان القرية ليستقبل ذلك العالم الكبير الذي وُكلت إليه مهمة تصحيح ذلك الوضع الديني والفكري الذي آلت إليه.
لكن العالم، أو هكذا يطلق عليه، لم يكن في المستوى الذي يؤهله لمواجهة تلك الفتنة، ذلك أنه لم يعتمد ما ورد في القرآن الكريم من الحوار والجدال بالتي هي أحسن والحكمة والموعظة الحسنة، وإنما اعتمد أساليب القضاة في الحكم على من وقعوا في تلك الفتنة.
لقد بدأ حديثه، وهو يخاطب الجماهير التي التفت به بقراءة قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [النساء: 150 ـ 151]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 152]
وبدل أن يفسرها بأن الكفر بالرسل وجحودهم لا يختلف من حيث نتيجته العملية عن الكفر بمرسلهم.. ذلك أن السفير يمثل الدولة التي ينتمي إليها، واحتقاره احتقار لها.. وجحوده جحود لها.
بدل أن يفسرها بذلك، راح يستنتج منها أن هؤلاء الذين وقعوا فريسة في تلك
ربوبيون وربانيون (1/30)
الشبهات كفرة مارقون، وأن جزاءهم أن يستتابوا، فإن تابوا فبها، وإلا ضربت أعناقهم.. ولم يستدل لذلك بأي دليل سوى ما فعله بعض سلفه ممن نكلوا بكل داعية بدعة، ومثير فتنة.
ثم راح يحرض الآباء على أبنائهم.. والأعيان على الشباب الذين تأثروا بتلك الأفكار.. ثم لم يخرج من بيننا إلا بعد أن أضاف فتنة جديدة لا تقل عن الفتنة التي زرعها الربوبيون.
وهكذا تحولت قريتنا إلى قنبلة موقوتة تكاد تنفجر في أي لحظة، ذلك أن أولئك الذين اقتنعوا بما ذكره الربوبيون أعداد كثيرة لا يمكن السيطرة عليها؛ فقد آلت القوة لهم، خاصة بعد أن انضم إليهم الكثير من التجار الذين وجدوا في طروحاتهم ما يغنيهم عن دفع الزكاة وحقوق الفقراء والمساكين.
ومثلهم أصحاب الأهواء والشهوات الذين فرحوا بتلك الفكرة، لأنها لا تخلعهم من الإيمان، وفي نفس الوقت لا تبعدهم عن أهوائهم التي منعهم عنها الدين.
ومثلهم أصحاب التسلط والتجبر، لأنهم صاروا لا يخافون من دعوات المستضعفين.. فالمصمم الأعظم ـ كما يذكرون ـ أعظم من أن ينشغل بدعاء عجوز أو شيخ أو مريض.. وماذا يساوي أولئك بجانب الكواكب والنجوم والمجرات الكثيرة؟
أذكر أن بعض صالحي القرية حينها اقترح على مجلسها بأن يحضروا واعظا لعله يستطيع أن يقمع تلك الفتنة، ويرد العقول إلى محالها.. وما أسهل أن قدم ذلك الصالح، فهو لم يحتج منهم لا إلى مال، ولا إلى هدايا.
لكنه بمجرد أن حدثهم عن الطمأنينة التي يحدثها الإيمان في النفوس، والسعادة التي يجدها الصالحون، وهم في صحبة ربهم، أو في مجالس ذكره، وأن ذلك هو الذي منع من
ربوبيون وربانيون (1/31)
تفشي ظواهر الانتحار بين المؤمنين على خلافها بين غيرهم.
ما إن قال هذه الكلمة العارضة، كمثال ساقه على الطمأنينة والرضا الذي يحدثه الإيمان بما جاء به الرسل عليهم السلام حتى قام أحد أولئك الربوبيين مقاطعا له بقوله (1): لقد سمعنا منك ما يكفي.. فمنطقك أنت هو كالتالي: نحتاج الدين لأنه يعطينا إجابات لأسئلتنا الحائرة، مثل.. لماذا خلقنا؟.. وما الغاية من وجودنا؟.. وأين نذهب بعد الموت؟.. وأنه من دون هذه الإجابات سيُصاب الناس بالإكتئاب ويقدمون على الانتحار لعدم إحساسهم بقيمة حياتهم.. أما منطقنا نحن فيختلف تماما.. لذلك ليس عليك أن تفرض علينا قناعاتنا، أو أن تقنعنا بتجربتك.. فنحن لا نسلم عقولنا للخرافات ولتجارب الآخرين.
قال آخر: صدق صاحبي.. فهناك مئات الملايين من البشر لا يؤمنون بالأديان، ولا يؤمنون بالإجابات التي تقدمها لتلك الأسئلة الكونية الحائرة.. وهناك مئات الملايين من البشر ممن يعتنقون أدياناً لا تعطيهم إجابات واضحة لتلك الأسئلة الكونية، مثل الديانة البوذية التي لا تقدم تبريراً أو غاية لخلق الإنسان.. ومن غير الثابت أن هؤلاء الذين ليس لديهم إجابات لتلك الأسئلة الكونية هم أكثر تعاسة من الآخرين أو أنهم مصابون بالاكتئاب بسبب افتقادهم إجابات تلك الأسئلة الكونية.
قال آخر: وبالنسبة لإحصاءات الانتحار، والإدعاء بان اللادينيين يعانون من التعاسة والاكتئات لذا هم أكثر إقبالات على الإنتحار؛ فصحيح أن نسب الإنتحار في الدول الإسلامية قد تكون أقل من غيرها، ولكن بالله عليك هل يقدم على الانتحار شخص
__________
(1) كلام الربوبيين هنا مقتبس من حديث ربوبي في: مناظرة مع ربوبي، منتدى التوحيد.
ربوبيون وربانيون (1/32)
يؤمن تماما بأن الخلود في النار هو مصيره، حتى ولو كان أكثر أهل الأرض تعاسة؟.. لا يمكنك إطلاقاً القول بأن الانتحار مكافئ للتعاسة وفقدان الهدف في الحياة، لأن إحصائية الانتحار هي غير معبرة ومشوهة بسبب دور الدين الذي قد يمنع الناس من الانتحار.. لا أنه لا يحول بينهم وبين التعاسة والاكتئاب.
ضحك آخر، وقال: لعل أجمل ما قيل في ذلك قول المفكر الإنجليزي المشهور جورج برناررد شو، الذي عبر عن الحقيقة المطلقة بقوله: (القول بأن المتدينين هم أكثر سعادة من غير المتدينين هو قول لا يختلف كثيراً عن القول بأن السكران هو أكثر سعادة من المستفيق)
قال آخر بسخرية: لو افترضنا بأن الإسلام هو الدين الصحيح الذي يقدم أدق إجابات لتلك الأسئلة الكونية، فسنجد أن إجابة الإسلام على سؤال الغاية من الخلق هو ليس فقط جوابا غير قابل للإثبات، ولكنه جواب غير منطقي.
قال آخر: بل هو بالأحرى ليس جواباً شافياً للسؤال.. فالخالق ليس بحاجة للبشر بالتأكيد، وليس هناك أي علة واضحة تجعلنا نؤمن عقلياً بصحة الجواب الإسلامي بأن الله خلق البشر لعبادته.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك إجابة الإسلام عن مصيرنا بعد الموت، وما إذا كان هناك حساب وثواب وعقاب؛ فليس في وسع أحد إثبات صحة أو خطأ ذلك.
قال آخر: وهكذا بالنسبة لما ذكره من غاية خلقنا، وأنها لعبادته.. فهي إجابة لامعقولة.. بل يوجد خلل منطقي كبير فيها.. وحتى لو افترضنا استحالة نفي صحة تلك الإجابة، فهي على أقل تقدير إجابة غامضة أو غير شافية لا تشبع ولا تغني من جوع.. وهي مثل جواب سؤال: لماذا صنع الإنسان الساعة؟.. بالقول بأنه صنعها لكي تدور عقاربها.
قال آخر ساخرا: أثبت لنا بدون الرجوع للنص الديني، منطقية أو معقولية أن يكون
ربوبيون وربانيون (1/33)
الله قد خلقنا لعبادته.. فإن لم تستطيع ولن تستطيع، فاعلم بأن الأديان لا تعطي جوابا شافيا لسؤال لماذا خلقنا الله ولا تقوم بالوظيفة التفسيرية التي تبرر حاجتنا لتلك الأديان.
قال آخر: الشخص الذي لا يفكر في هذه المسألة بعمق سيقبل تلك الإجابة الإسلامية يتسليم تام، ويقول سمعنا وأطعنا، ولكن الشخص الذي يحكم عقله في تلك المسأله لن يستطيع قبول تلك الإجابة.
قال آخر: فهل يعني ذلك بأن الوظيفة التفسيرية للدين والإجابات الدينية لتلك الأسئلة الكونية معني بها فقط من لا يحكمون عقولهم ويقبلوا النص الديني بدون تساؤلات!
قال آخر: أما القول بأن الربوبية واللادينية لا تمتلك الميكانيزمات والآليات التي تخولها الخوض في إثبات صحة هاته الأجوبة من عدمه، ولا تستطيع أن تقدم أجوبة بديلة.. فهذا كلام مردود، فاللادينية ليست طرفاً في هذه المسألة.
قال آخر: ذلك أن النزاع هنا هو بين المنطق واللامنطق، وبين ما يقبله العقل وما لا يقبله العقل.. والعقل والمنطق لا يقبلان القول بأن الله قد خلقنا لأجل عبادته فيما أنه غني عن عبادتنا.. فلا يوجد كائن عاقل ومنطقي يقوم بصنع شئ لأجل غاية هو غني عنها، وهذا القول بأن الله خلقنا لعبادته، وإن لم يكن قابلا لإثبات خطئه المنطقي فهو على أقل تقدير قول لا يقدم إجابة شافية لسؤال لماذا خلقنا الله.
قال آخر: وذلك كله يدل على أن الأديان لا تقدم إجابات شافية لأسئلة البشرية الحائرة.. ويستثنى من ذلك بالطبع البشر الذين لديهم الاستعداد لقبول تلك الإجابات بدون تساؤل أو فحص لمدى صحتها أو قدرتها على إجابة تساؤلاتهم بشكل منطقي.
بعد أن غادر ذلك الواعظ المسكين الذي لم تجد تبشيراته وإنذاراته أي آذان صاغية..
ربوبيون وربانيون (1/34)
جاءنا رجل من الذين ورثوا صناعة الكلام والجدل أبا عن جد.. وقد تصور أن بمقدوره أن يحل كل إشكالاتهم، كما حلها سلفه من قبله، لذلك راح يحدثهم بما تعود المتكلمون أن يتحدثوا به من اصطلاحات وتقسيمات.. لكنهم واجهوه بنفس ما واجهوا به غيره، ولست أدري هل كان ذلك لعدم فهمهم للأسلوب الذي تحدث به، أم لعدم قناعتهم بما طرحه؟
لقد قال له أحدهم، وهو يحاول أن يستعمل نفس أسلوبه في الجدل (1): بالنسبة لما ذكرته عن مصادرنا على مسألة الحياد الإلهي وعدم التدخل الإلهي في شؤون البشر والكون.. فأنا شخصياً.. لم أشاهد أو أسمع ولم يرد لعلمي دليل قاطع يدل على حدوث تدخل إلهي سواء كان عن طريق قيام الله بإرسال رسل أو عبر تحقق إلهام أو رؤية لشخص صالح أو ولي من أولياء الله أو عبر إستجابة دعاء شخص دون أن يكون هذا الشخص قد اتخذ الأسباب المؤدية لتحقق الشئ الذي دعا به.. وهذا يكفيني كدليل على الحياد الإلهي.. وإن كان لديك دليل على حدوث تدخل إلهي خارج نطاق السنن الكونية فالرجاء أن تسوقه لنا.
قال آخر: وبالنسبة للتدخل عبر إرسال الرسل.. سواء لتعريف البشر بخالقهم أو لغير ذلك من الأسباب فهذا شيء يقع عليك أنت عبأ إثباته.. أنا شخصيا لا أظن بأن الإله الذي خلق الكون بما حوى هو حريص على أن يعرفه البشر يقينا.. فلو أراد الله ذلك لتحقق مراده، ولعرفه البشر يقينا، وأحسبه لو أراد أن يعرفه الناس يقينا لتجلى لهم فرأوه كما يروا الشمس في السماء، ولا أرى أي دليل قوي عموماً يدل على تدخل الله عبر إرسال الرسل.
قال آخر: وهكذا الأمر بالنسبة لتدخل الإله لتدبير شؤون العباد.. فهناك من يعاني
__________
(1) كلام الربوبيين هنا مقتبس من حديث ربوبي في: مناظرة مع ربوبي، منتدى التوحيد.
ربوبيون وربانيون (1/35)
في هذا العالم، ومن يموت جوعاً، ومن يموتون في الحروب.. فأي تدبير خارج نطاق السنن الكونية ذلك الذي تتحدث عنه؟
قال آخر: إن كنت تريد منا أن نثبت لك بأن الله لا يتدخل في شؤون البشر؛ فهذا سهل جدا.. ذلك أن التدخل الإلهي قد يتخذ أشكالا متعددة.. منها أنه يمكن أن يكون في شكل إجابة الدعاء.. وأنا لم أر في حياتي شخصاً يدعو فيستجيب الله له خارج نطاق السنن الكونية، كأن يدعو تلميذ فاشل الله لأن يصبح الأول في صفه، فيستجيب الله له، ولكن على النقيض من ذلك رأيت الملايين من المسلمين والمسيحيين يدعون الله ليلاً ونهاراً لتحقيق مآرب معينة، ولا أرى دليلا على حدوث الإجابة، رغم إلحاحهم في الدعاء.. المسلمون يؤمنون بأن إجابة الدعاء قد تكون في شكل دفع بلاء أو تؤجل إجابة الدعاء ليوم القيامة.. أما أنا فأؤمن بأن تلك القناعة ما هي إلا تبرير لعدم حدوث الإستجابة.
قال آخر: ومثل ذلك تذكرون أن التدخل الإلهي قد يكون في شكل إلهام أو رؤيا صالحة أو خرق محدود لسنن كونية تتحقق لأحد أولياء الله الصالحين.. ولكن حدوث مثل تلك الأشياء هو أيضاً شئ غير مثبت علمياً، وأنا شخصياً لم أرى حدوث ذلك، ولم أسمع بحدوثه إلا في حالات محدودة بدا فيها جلياً وجود نوع من الإيحاء النفسي أو خداع الحواس الذي يدفع البعض لتصديق حدوث تلك الخوارق لبعض من يدعوا بأنهم من أولياء الله الصالحين.
قال آخر: ومثل ذلك تذكرون أن التدخل الإلهي قد يكون في شكل خرق لسنن الكون، كإحداث زلزلال أو بركان لإهلاك قوم مفسدين، أو جلب أمطار لقوم مجدبين رحمة بهم، أو غير ذلك من مظاهر ما يسمى بالعناية الإلهية أو الغضب الإلهي.. وهذه أيضاً يستحيل إثباتها، كما يستحيل التأكد من أن وقوع تلك الزلال أو البركان أو الأمطار لم يكن
ربوبيون وربانيون (1/36)
إلا حدثاً طبيعياً عادياً.
قال آخر: ومثل ذلك تذكرون أن التدخل الإلهي قد يكون عبر معجزة يجريها الله لأحد أنبياءه، كشق البحر لموسى، وهذا النوع من المعجزات هو بالطبع حجة فقط على من رآه ممن عاصروا هذا النبي، ولا يقوم دليلاً على حدوث التدخل الإلهي بالنسبة لنا.
قال آخر: ومثل ذلك تذكرون أن التدخل الإلهي قد يكون عبر إرسال الرسل وإنزال الشرائع للبشر.. وهذا هو النوع الوحيد من التدخل الإلهي الذي يمكن الإحتجاج به لنفي صحة العقيدة الربوبية.. وبذلك؛ فإن العقيدة الربوبية صحيحة ما لم يتم إثبات صحة أحد الرسالات السماوية ونسبتها لرب العالمين، وهي وجهة النظر المتدينين، أو يتم إثبات عدم وجود إله، وهي وجهة نظر الملاحدة.. وبخلاف ذلك فإن الشئ الوحيد الذي يمكن تحدي العقيدة الربوبية به هو القول بأن حكمة الله وعدله ورحمته وغيرها من صفات كماله تستوجب قيامه بالتدخل في شؤون البشر عبر إرسال الرسل.
قال آخر: لكن مهلاً.. من هو ذا الذي يدعي معرفته بحدود ومقتضيات الحكمة الإلهية؟.. من ذا الذي يستطيع الجزم بأن تعامل الله مع المعطيات هو مطابق لطريقة تعامل البشر معها؟.. وما يدرينا ما هي غاية الله من الخلق حتى نفترض بأن الله يجب أن يتدخل فيرسل لنا الرسل والرسالات؟
قال آخر: أما الإجابة الإسلامية لسؤال لماذا خلقنا الله، وهي أن الله قد خلقنا لكي نعبده.. بالمعنى الواسع للعبادة.. أي لكي نسير على الدرب الذي رسمه لنا ونلتزم بالنهج الذي خطه لنا.. وهذا بالطبع بجانب تبجيله وتقديسه وذكره وشكره على نعمه.. ولكن لو نظرنا لتلك الإجابة بتمعن سنجد أنها لا تعطينا أي معلومة مفيدة.
قال آخر: فكون الله قد خلقنا لنعبده ونلتزم بالنهج الذي رسمه لنا ونقدسه.. كل
ربوبيون وربانيون (1/37)
ذلك لا يمكن أن يكون هدفاً أو غاية في حد ذاته، ولكنه يصلح فقط كوسيلة لتحقيق غايات أخرى.
قال آخر: على سبيل المثال عندما قام الإنسان بصنع الساعة، فهل يجوز لنا القول بأن الإنسان قد صنع الساعة لكي تدور عقاربها؟.. هل يجوز القول بأن الإنسان قد صنع السيارة من أجل أن تسير، وصنع الطائرة من أجل أن تحلق في السماء؟
قال آخر: هذا هو نفس منطق من يقول بأن الله قد خلق الإنسان من أجل عبادته والإلتزام بالنهج الذي رسمه له، فهذا القول ليس بجواب شافي لسؤال (لماذا خلقنا الله؟).. وسيبقى السؤال مطروحاً ولكن بصيغة أخرى، حيث سيصبح السؤال.. (لماذا يريدنا الله أن نلتزم بالنهج الذي رسمه لنا أو نقدسه أو نصلي له.. وهو غني عن كل ذلك؟)
قال آخر: ذلك أنه طالما أن الله غني عن عبادتنا له، ولن تضيف له تلك العبادة شيئاً، فلا مناص من القول إذاً بأن الله قد أمرنا بعبادته لتحقيق مصلحة خاصة بنا.. أي لتحقيق مصلحة البشر.. ولكن حتى هذا الافتراض لن يحل المعضلة.. إذ كيف يصح القول بأن الله قد خلقنا لتحقيق هدف ما، في حين أن تحقيق هذا الهدف لن يكون مطلوباً لو لم يخلقنا الله من الأساس، فلو لم يخلقنا الله لما كان هناك داعي لكي يأمرنا بعبادته لكي تتحقق مصلحتنا.
قال آخر: ولذلك.. لا توجد إجابة شافية لسؤال (لماذا خلقنا الله؟) سوى بالاعتراف بأن الله قد خلقنا لغاية أو حكمة يعلمها الله وحده ولم يفصح لنا عنها.. فإذا كنا لا نعرف الغاية التي خلقنا الله من أجلها، فكيف نجرؤ على الإدعاء بأن إبراز كمال الصفات الإلهية يقتضي اتصال الله بنا وإعطاءنا تعليمات محددة عبر رسله لكي نتبعها!
قال آخر: في الواقع.. إن إفتراض تدخل الله لحل مشاكل البشر وضبط أمورهم لا يعدو أن يكون نوعاً من التفكير القائم على التمنيات.
ربوبيون وربانيون (1/38)
قال آخر: وهذا دائماً هو حال الإنسان عندما يشعر بالضعف أو فقد السيطرة، فسرعان ما يهرع لأحلامه ورغباته فيخلطها بالواقع فيقول محدثاً نفسه: (أنا أستحق ذلك، إذا يجب أن يحدث ذلك)
قال آخر: فنحن نتصور بأن الخالق العظيم سوف يتدخل في حياة البشر عبر إرسال الرسل، ولكن هذا التصور قد يكون مجرد نتيجة لقصر مدراكنا ولعدم إحاطتنا بالحكمة الإلهية والغايات الإلهية.
قال آخر: هناك خطأ منهجي آخر وقع في الإنسان القديم، وكرسه الفكر الديني.. وهو الحرص الزائد على ملأ كوب المعرفة عندما يكون فارغاً أو نصف ممتلئ.
قال آخر: فالإنسان بطبعه يحب أن يكون محيطاً بكل شئ ولا يقبل الغموض في بنائه المعرفي، وهذا ما دفعه للوقوع في خطأ (ملأ الفراغ المعرفي بالأساطير)
قال آخر: فقديماً ـ على سبيل المثال ـ لم يعرف الإنسان سر نزول المطر فافترض بأن هناك إلهاً مسؤولاً عن ذلك، تقدم له القرابين فيستجيب منزلاً الغيث.
قال آخر: وعلى النقيض من ذلك، فالعقيدة الربوبية تقبل وبصدر رحب وجود بعض الفراغات المعرفية.. عملاً بمبدأ (الإقرار بالجهل فضيلة)، ولعل هذا هو سر بساطتها، وسر استعصاء نقدها على الكثيرين.
قال آخر: صحيح أن هناك بعض الأسئلة التي يرغب الإنسان.. وكنت أرغب شخصياً.. في أن يوضحها لنا خالق الكون، وتحديداً السؤال المتعلق بمصيرنا بعد الموت وشكل الثواب والعقاب المترتب على أعمالنا الدنيوية.. ولكن للأسف لم يقدم الخالق العظيم لنا إجابات لتلك الأسئلة، وذلك من وجهة نظري الربوبية.. فهل ألوم الله أو أفترض فيه عدم الكمال والحكمة لأنه لم يفعل ذلك.. بالطبع لا، فليس من حقي أن ألوم
ربوبيون وربانيون (1/39)
الله، ولكن يجب أن ألوم قصر مداركي وعجزي عن إدراك الغايات الإلهية وأبعاد الحكمة الإلهية.. ولا أستبعد أن يكون في عدم إجابة هذه السؤال بواسطة الخالق خيراً أعظم للإنسانية.
قال آخر: هل ترى أن نسلم بصحة الإديان لمجرد أنها قدمت إجابات لتلك الأسئلة؟.. كان ذلك ممكناً لو كانت إجابات الأديان لتلك الأسئلة منطقية، ولو لم تحتو الأديان على كثير من جوانب التناقض واللامنطقية واللاعملية التي دفعتني لرفضها جملة وتفصيلاً؟
قال آخر: أنت تقول بأن إرسال الرسل هو واجب عقلي.. ولكن كيف يكون ذلك؟.. الواجب العقلي شيء لا يجب الاختلاف حوله، وهو ما لا يتصور العقل عدمه أو انتفاءه.. فهل قصر عقل أينشتين أو إسحاق نيوتن أو غيرهم من العلماء والمفكرين عن إدراك هذا الواجب العقلي؟.. إن أكثر العلماء الحاصلين على جائزة نوبل هم من اللادينين، فهل تعني هذه الإحصائية شيئاً بالنسبة لك؟
لم يكتف الربوبيون بكل تلك المحاورات.. ولا بالأساليب العادية البسيطة في دعوة الشباب إليهم.. بل استطاعوا أن يستولوا على المركز الثقافي، وبكل وسائله، وصاروا يستخدمونه وسيلة لإقناع كل من يزوره بأفكارهم.. وقد علقوا فيه الكثير من الصور التي تصور الأخطاء التي وقع فيها المتدينون.. وكتبوا تحتها [الربوبية واللادينية هي الحل]
وقد حضرت مرة بعض ندواتهم، وكان عنوانها [الأدلة على الحياد الإلهي وعدم إرسال الرسل]، وقد قال حينها بعض أساتذتهم (1): من أوضح الأدلة على كون الربوبية
__________
(1) كلام الربوبيين هنا مقتبس من حديث ربوبي في: مناظرة مع ربوبي، منتدى التوحيد.
ربوبيون وربانيون (1/40)
هي الدين الذي سيصبح في المستقبل دين العالم أجمع ما نراه من عدم منطقية الأديان التي تقول بأن الله قد أرسل رسلاً، وذلك ما يثبت عدم صحة قيام الخالق بإرسال الرسل.
قال آخر: وهناك نقطة هامة أرجو لفت الإنتباه لها لفهم هذا الدليل.. وهي أننا لا نقول بأن الرب الخالق لن ينزل ديناً في المستقبل، فهذا شيء لا يمكن الجزم به، وإنما نقول بأن الرب الخالق لم ينزل ديناً في الماضي.. وهناك فرق بين (لم) و(لن).. وعندما نقول بأن عقيدتنا هي بأن الإله لا يتدخل بشكل مباشر في سير الكون فإن ذلك هو مجرد قراءة تاريخية للماضي، وليس صياغة لقانون يحكم المستقبل.
قال آخر: أما بخصوص عدم تدخل الله في الماضي ـ عبر إرسال الرسل ـ فهو جلي بالنسبة لنا، وبالنسبة للكثيرين ممن شهد لهم القاصي والداني من علماء ومفكرين وفلاسفة عظام، ولا داعي لذكرهم وهم بالآلاف؛ فلما فحصنا الأديان الحالية ورأينا وجه تناقضها وعدم منطقيتها ومخالفتها للعلم وصلنا لقناعة ببشريتها وعدم لياقتها لأن تكون صادرة من الخالق العظيم وتيقنا بأن الرب الخالق لم ينزل ديناً.
قال آخر: وطالما أنه لا يوجد دين صحيح فإن ذلك يعني بأن الخالق العظيم قد ارتضى للبشرية اللادينية.
قال آخر: وكل ما يقال عن ضرورة قيام الله بإرسال الرسل يصبح لا قيمة له إن لم يثبت وجود رسالات على درجة من الكمال والسمو والصحة تليق بأن تكون منزلة من الله رب العالمين.
قال آخر: ومن الأدلة على الربوبية واللادينية كذلك.. محدودية النتائج المترتبة على التدخل الإلهي المفترض، والتي تؤكد عدم حدوثه.. فالأديان لم تستقطب إلا نسبة بسيطة من البشر، ومن هذه النسبة التي آمنت بتعاليم السماء وبالرسل هناك نسبة أقل عملت
ربوبيون وربانيون (1/41)
بمقتضى تلك التعاليم.
قال آخر: والنتيجة هي أن تلك التعاليم والتوجيهات السماوية لم تكن مؤثرة فعلاً في مسيرة البشرية، وبشكل يتناسب مع كونها صادرة من الخالق العظيم.
قال آخر: ولو كانت البشرية فعلاً بحاجة لذلك التدخل الإلهي، ولا يستقيم حال البشر إلا بذلك التدخل، فإن من المفترض أن نرى نتائج ملموسة لذلك التدخل الإلهي وفي شكل تغير جذري في حياة البشرية، ولكن لا يوجد أي أدلة تؤكد حدوث ذلك التغير الجذري في مسيرة البشرية والذي يمكن نسبته لتدخل إلهي أو إرسال رسل.
قال آخر: وهذا ما نراه في الواقع، حيث عاش الإنسان طوال عمره على ظهر كوكب الأرض، وكأن لم يكن هناك رسل أو رسالات.
قال آخر: صحيح أن البشر عانوا خلال مسيرتهم تلك من بعض المشاكل والصعاب، لكنهم تعايشوا مع تلك المشاكل والصعاب وسعوا للتغلب عليها، ويبدو لي أن البشرية قد حققت تقدماً ملموساً في هذا الجانب.. مرة أخرى بدون عون من السماء، أو بتوجيه من الرسالات والشرائع المنزلة.. باختصار.. لو أسقطنا الرسل والرسالات فلن نلمس أي تغير في حال البشرية.
قال آخر: ومن الأدلة على الربوبية واللادينية كذلك.. أن افتراض حدوث التدخل الإلهي يوقعنا في فخ اتهام الخالق العظيم بالتقصير.. فافتراض عدم استقامة حال البشر بدون إرسال الرسل يعني أحد شيئين أو كلاهما.. فقد يعني بأن الله قد خلق البشر، وفيهم ضعف ذاتي أو خلل مركب، مما يجعلهم بحاجة دوماً لتدخل خارجي من الخالق لإصلاح ذلك الخلل عبر إرسال الرسل، وهذا الخلل المركب قد يشير إلى عيب في التصميم أو الصنعة، تعالى الله عن ذلك.
ربوبيون وربانيون (1/42)
قال آخر: وقد يعني احتياجنا للتدخل السماوي وعدم استقامة حالنا بدونه بأن الله قد رضى ـ أو ربما شاء ـ بأن يكون حال البشر غير مستقيماً ومختلاً، وأن لا يتم إصلاح الخلل الذي هو كائن فيهم ومزروع فيهم بالفطرة.. فكما هو معلوم فإن أغلب الناس لا يؤمنون بالرسل والرسالات وإن آمنوا بها فلا يعملوا بمقتضاها.. والمحصلة هي أن حال البشر لن يستقيم وسيظل مختلاً رغم إرسال الرسل.
قال آخر: ومن الأدلة على الربوبية واللادينية كذلك.. أن إثبات حاجة البشرية لذلك التدخل الإلهي وللرسل والرسالات السماوية يقوم على افتراض غير مثبت، وهو أن المؤمنين برسالة السماء والمتبعين لها هم أفضل حالاً من غير المؤمنين بها أو المتبعين لها.
قال آخر: فبدون إثبات أفضلية المؤمنين على غير المؤمنين يستحيل إثبات حاجتنا لذلك التدخل السماوي.
قال آخر: أي يجب أن يتم أولاً إثبات أن الرسل والرسالات قد أثرت فعلاً في حال متبعيها، فجعلت حالهم أفضل من غيرهم.. ولكن هذا الشئ هو غير ثابت.
قال آخر: صحيح أن حال المؤمنين قد يكون أفضل من حال غير المؤمنين في بعض الجوانب مثل بعض الأخلاق.. لكن هذا لا يكفي للحكم بأفضلية المؤمنين على غير المؤمنين.
قال آخر: ذلك أنه في الواقع حتى تثبت الحاجة للتدخل السماوي يجب أن يكون حال المؤمنين هو أفضل في كل الجوانب، وليس فقط في بعضها، وأن يكونوا أفضل من جميع غير مؤمنين.
قال آخر: وليس فقط أفضل من بعضهم.. وأن يكون تمايز المؤمنين على غير المؤمنين واضحاً وجلياً فيتفوقوا بمراحل حال الغير مؤمنين، بما يليق بعظمة المصدر الإلهي الذي
ربوبيون وربانيون (1/43)
أعطاهم هذه الأفضلية.. وكل ذلك هو بالطبع غير مثبت.. أما ذلك المجتمع المثالي الذي تبشر به الأديان أتباعها إن هم إتبعوا تعاليم السماء، فهذا المجمتع لم يقم على أرض الواقع.
قال آخر: ومن الأدلة على الربوبية واللادينية كذلك.. أن أسلوب ذلك التواصل المفترض بين الله والبشر.. أي عبر الأنبياء والرسل.. هو أسلوب تثار العديد من التساؤلات حول مدى منطقيته.. فلا يعقل أن يلجأ الله لأشخاص يصطفيهم ليبلغوا رسالته للناس؟..
قال آخر: فلماذا لا يقوم الله بإيصال تلك الرسالة بنفسه وهو قادر على ذلك؟
قال آخر: ذلك أنه إذا كان لديك رسالة هامة جدا تريد أن توصلها لشخص ما أو مجموعة أشخاص، هل ستوصلها لهم بنفسك أم سترسلها عن طريق وسيط أو رسول؟
قال آخر: بالتأكيد إذا كانت الرسالة هامة جدا وكنت قادرا على إيصالها بنفسك فلن تلجأ إلى الوسيط.
قال آخر: فإذا كان الخالق العظيم قد خلق الناس خصيصاً ليعبدوه، فلماذا شاء أن يتم إيصال تلك الرسالة بواسطة أشخاص قد تحوم حول صدقهم الشبهات، وقد يتهمون بالكذب في ادعاء النبوة.. وهذا ما حدث بالفعل، فقد كُذِّبَ معظم الأنبياء.
قال آخر: قد يقول البعض بأن الله قد شاء أن يرسل الرسالة بواسطة أشخاص من نفس جنس المرسل إليهم، أو بأن الحكمة من قيام الله بإرسال الرسل وعدم تبليغنا تلك الرسالة بنفسه أو عبر ملائكة مثلا هي ضرورة تجسيد تلك الرسالة في الواقع من خلال سلوك وممارسات الرسل الذين يرسلهم الله للناس لإعطاء مثال حي على كيفية الالتزام.. لكن هذا الرأي ليس ناتجاً إلا عن قصور في تصور حدود القدرة الإلهية وما يمكن أن يفعله الله لو أراد تبليغنا رسالته بدون وسطاء.
قال آخر: فهل هذا الإسلوب يليق بالخالق العظيم لإيصال رسالته لعموم البشر؟
ربوبيون وربانيون (1/44)
قال آخر: أليس من كمال الله وعظمته أن يلجأ لأسلوب آخر أكثر نجاعة في إيصال رسالتة للناس بدلاً من الاعتماد على رسل يكونون دائماً محل شك واتهام بادعاء النبوة سعياً لتحقيق مآرب خاصة أو أجندات معينة بغض النظر عن مدى أخلاقية وسمو تلك الاجندات.
قال آخر: ومن الأدلة على الربوبية واللادينية كذلك.. أن عدم انتظام ذلك التدخل السماوي المفترض وعشوائية نطاق تغطيته الزمانية والمكانية يؤكدان عدم ألوهيته.. ولو كان هذا التدخل ضروريا فعلاً وكان صادراً من الخالق العظيم لشمل كل البشر في كل زمان ومكان.
قال آخر: فالأديان السماوية عموماً والإسلام على وجه الخصوص ظاهرة شرق أوسطية.. أما رد المسلمين على هذا الإتهام بما ورد في القرآن من أنه ما ﴿أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24]، فهو غير كاف، ذلك أنهم يعجزون عن ذكر أي نبي مرسل لأي أمة خارج نطاق الشرق الأوسط أو التدليل على صحة وجوده، حتى في أساطير الشعوب القديمة.. فلا يعرف من هؤلاء المرسلين الذين أرسلهم الله سوى ال 24 نبياً المذكورين في التوارة بالإضافة إلى صالح الذي انفرد القرآن بذكره وبعض الأنبياء الذين انفردت التوراة أو الإنجيل بذكرهم.
قال آخر: وحتى نكون أكثر دقة، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن ظاهرة الرسل والرسالات ليست فقط ظاهرة شرق أوسطية، بل هي في الواقع ظاهرة تنحصر فقط في ست ديانات شرق أوسطية هي الزرادشتية والديانة المانوية وديانة الصابئة واليهودية والمسيحية والإسلام.
قال آخر: ولم تدَّعِ أي من الديانات القديمة بخلاف تلك الديانات الستة بأن الله قد
ربوبيون وربانيون (1/45)
أرسل أنبياء لتبليغ الناس بأوامر أو تعليمات محددة.
قال آخر: صحيح أن في الكثير من الحضارات وفي الكثير من الأديان بعض الأشخاص ممن ادعوا قدرتهم على الاتصال بقوى خارقة أو قوى من خارج الكون، إلا أن أياً من هؤلاء المدعين لم يدّع بأن الله قد أرسله لإبلاغ الناس بأوامر وتعلميات محددة أو بأن كتاباً سماوياً قد نزل عليه من الله.
قال آخر: حدث هذا فقط في الديانات الستة المشار إليها..
قال آخر: والمفارقة الأخرى هي أن تلك الديانات الستة المشار لها ديانات متداخلة ورثت بعضها بعضاً، فالإسلام والمسيحية تأثرتا باليهودية، وديانة الصابئة والمانوية تأثرتا بالمسيحية والزرادشتية.. وهكذا يمكننا تتبع منشأ ظاهرة الرسل والرسالات إلى الديانة اليهودية أو الزرادشتية ومن أحد هاتين الديانتين انتقلت الظاهرة للديانات الأخرى.
قال آخر: أما العشوائية الزمانية لظاهرة إرسال الرسل فتظهر بوضوح من خلال ما يعرف بأهل الفترة.. فإذا كان الله يخلق بعض البشر ثم يتركهم بدون رسل أو رسالات، فهذا يثبت بأن حاجة البشر للرسالات ليست حاجة ماسة.
قال آخر: كل هذه الأدلة تشكك بوضوح في صحة القول بالتدخل الإلهي المفترض عبر إرسال الرسل، وتعطينا الحق لرفضه عقلاً.
قال آخر: وبعد سقوط فكرة التدخل الإلهي عبر إرسال الرسل، يكون قد تم دحض كل أشكال التدخل الإلهي الممكن في حياة البشر أو في سير الكون.. وبدحض فكرة التدخل الإلهي في حياة البشر يكون قد تم إثبات مبدأ الحياد الإلهي.. وبإثبات الحياد الإلهي مع إثبات عدم صحة الأديان، وإثبات وجود خالق للكون يكون قد ثبت صحة العقيدة الربوبية.
ربوبيون وربانيون (1/46)
بعد أن استعمل العقلاء الحكماء من أهل قريتي كل الوسائل والأساليب لمواجهة تلك الظاهرة التي انتشرت بين أبنائها انتشار النار في الهشيم.. وكادت تتحول قريتنا البسيطة بسببها إلى كيان معقد تُلغى معه كل القيم والمعاني.
بعد كل ذلك جاء الفرج الإلهي.. ومن قوم لم نكن نتصور أبدا أنهم سيكونون سبب خمود الفتنة، ذلك أنهم أول من أشعلها.
فبعد سنة من زيارتهم لنا، سمعت باب بيتي يُدق، ثم خرجت فوجدت سبعة رجال متنكرين، أمام الباب، وهم يستأذنونني في الدخول، فأذنت لهم.. وبعد أن أماطوا اللثام عن وجوههم عرفتهم.. فهم الربوبيون السبعة الذين أشعلوا نيران الفتنة في قريتنا.
حينها رحت أصب عليهم جام غضبي، وأذكر لهم المآسي التي خلفوها وراءهم.. لكني استغربت حين رأيتهم يطأطئون رؤوسهم، وبتواضع شديد، وهم يبكون.. مما أثر في كثيرا، فسألتهم عن سر ما حصل لهم، فقال أحدهم، وهو أكبرهم: لقد قدمنا إلى هنا لنصحح ما أفسدناه، لعل الله يغفر لنا خطايانا.
قلت: لم أفهم ما تقصدون.. وما علاقتي أنا بذلك؟.. فأنا بحمد الله لم أتأثر بدعوتكم، ولا بإشكالاتكم.. فإن أردتم أن تصلحوا ما أفسدتموه، فها هي منابر القرية متاحة لكم.. وأرجو أن يستجيب لكم أولئك الذين تأثروا بدعوتكم، فقد جربنا معهم كل الوسائل، ولم نرها تجدي شيئا.
قال أحدهم: نحن لم نقدم إليك من تلقاء أنفسنا، بل أرسلنا إليك معلمك.. معلم الإيمان.. لتحكي للناس قصتنا.
ربوبيون وربانيون (1/47)
قلت: أتلك التي مرت.. أم تلك التي تلتها؟
قال: كلاهما.. فلا يمكن أن تُفهم الثانية قبل أن تفهم الأولى.
قلت: والجماهير التي تأثرت بكم.. والتي لم تجدِ معها كل وسائلنا نفعا.. ما الذي تفعلونه لهم حتى يعودوا إلى رشدهم.
قال: سنتحدث إليهم في الوقت الذي نتحدث إليك.. وأنت ستكتب كل ما يجري بيننا وبينهم.
قلت: هل تعني أنكم ستناظرونهم في الأمور التي كنتم أقنعتموهم بها؟
قال: لا.. نحن لن نناظرهم.. فنحن قد دربناهم على عدم جدوى مناظرتهم.. لذلك سنكتفي بحكاية ما حصل لنا بعد زيارتنا لهم.
قلت: وهل تريدون مني أن أنظم لكم لقاء لأجل هذا؟
قال: أجل.. وعليك أن تسجل كل ما يدور من حديثنا وحديثهم.. فما حصل في قريتكم، حصل في غيرها من القرى.. ونحن لا طاقة لنا بأن نسير في جميع القرى.. فلذلك سيكون كتابك الذي تحكي فيه قصتنا هو رسالتنا إليهم، لعلهم يهتدون.
قلت: يسرني ذلك كثيرا.. لكن.. ليتكم تعلمون التعنت الذي بلغه أولئك الذين تأثروا بكم.. إنهم لا يكادون يسمعون لأحد.. بل إنهم يصرحون في كل المحال بأن طروحاتهم بسيطة، ولذلك لا يمكن نقدها، ولا الحوار معها.
قال: لا بأس.. نحن سنقوم بواجبنا في البناء، كما قمنا به في الهدم.. ولعل الله أن يلين قلوبهم لنا بالهداية، كما لانت بالتضليل.
في تلك الليلة باتوا عندي.. وقد رأيت من حالهم ما ملأني بالعجب.. ففي منتصف الليل قاموا جميعا، وصلوا، ودعوا الله تعالى بدعوات كثيرة لهم ولجميع البشرية بالهداية.
ربوبيون وربانيون (1/48)
ثم رأيتهم يكثرون من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعتذرون إليه كل حين، وقد سمعت أحدهم، وهو يردد ـ بصوت خافت، والدموع تفيض من عينيه ـ قائلا: يا رسول الله.. اعذرنا، فقد جهلناك، ولم نجتهد في البحث عنك.. ولذلك رحنا لورثة أبي جهل وأبي سفيان وأبي لهب.. لنردد ما رددوا، ونكذب عليك بمثل ما كذبوا، ونستبعد ما أكرمك الله به من النبوة، مثلما استبعدوا، فاغفر لنا جهلنا وتقصيرنا، وسل الله أن يوفقنا لأن نصلح ما أفسدنا، ونعيد الحياة لما أمتنا.. فقد جعلنا ما تبقى من حياتنا كلها نصرة لك وللحق الذي جئت به، كما جاء به الأنبياء والهداة من قبلك.
وهكذا سمعت منهم، ورأيت من المواقف الرقيقة ما احتقرت به نفسي.. فقد رأيت بعيني أولئك الربوبيين، وكيف تحولوا إلى ربانيين صالحين..
وقد تذكرت حينها أولئك السحرة الذين دخلوا، وهم يحلفون بعزة فرعون، وما خرجوا من ذلك المجلس الذي أقيم لهم إلا وهم أولياء شهداء صالحون.
في صباح اليوم التالي، تركت ضيوفي في البيت، ورحت إلى كبير أعيان القرية، والذي كان يتألم بشدة لما حصل لها، وللفتن التي حاقت بها.. وعندما أخبرته خبرهم، بكى، وخر ساجدا، ثم راح يحمد الله تعالى، ويقول: يا رب لك الحمد على إجابتك لدعائي.. والحمد لك على أنك لم تقبضني إليك إلا بعد أن أرى الهداية تعود إلى قريتنا من جديد.
بعد أن انتهى من دعائه، سألته عن دعائه الذي أجيب، فقال: مع أن ما أصاب قريتنا كان مؤلما جدا بالنسبة لي، إلا أني لم أكن أقتصر في دعواتي على الدعاء بهدايتها، بل كنت أدعو أن يهدي الله تعالى أولئك الذين أشعلوا نيران الفتنة فيها.. ذلك أني رأيت أن قدرتهم على التخلص من وهم الإلحاد الذي كانوا يدعون إليه، هي نفس قدرتهم التي تجعلهم يتخلصون من الأوهام الجديدة التي وقعوا فيها، والتي جرهم إليها عدم استمرارهم في
ربوبيون وربانيون (1/49)
البحث، أو عدم اهتدائهم إلى الربانيين الصالحين الذين يرشدونهم إلى الحق الذي انحرفوا عنه.. ولذلك كنت أدعو الله دائما أن يضع بين أيديهم من الربانيين من يدلهم على الحق.
قال لي ذلك، ثم سار معي إليهم.. وعندما رآهم قبل أيديهم، وأظهر لهم كل ما في قلبه الطيب من الفرح والسرور بهم.. ثم ما لبث أن خرج، وهيأ مجلسا كبيرا دعا إليه جميع أهل القرية، وأولهم أولئك الذين تأثروا بهم، والذين تعجبوا كثيرا عندما رأوهم يعتلون المنصة التي اعتلوها قبل سنة، لكن بغير الشعارات التي كانوا يحملونها.
ما إن حل الهدوء في الساحة الكبيرة التي اجتمع فيها الناس، حتى قال كبير الربوبيين التائبين: لقد جئناكم هذه المرة.. لا لندعوكم لأي فكرة، أو نناقشكم في أي موضوع.. وإنما لنقص عليكم من حكايتنا ما حصل لنا في هذه السنة.. فلعل في ذلك عبرة لكم، كما كان عبرة لنا.
رأيت حينها وجوه الربوبيين الجدد من أهل قريتي، وهي واجمة فيهم، تستمع بلهفة لكل ما يقولونه.. وقد سرني ذلك كثيرا، ذلك أني لم أرهم يفعلون ذلك مع كل من حضر الوعاظ والعلماء والمتكلمين.
سكت الزائر التائب قليلا، ثم قال: بما أني كبير أصحابي.. فقد أذنوا لي في أن أبدأ حديثي معكم.. فاسمحوا لي أن أذكر لكم بعض المشاهد التي مررت بها هذه السنة، والتي كانت كافية لأن تغير حياتي تماما.. وطبعا أنا أذكر لكم تجربتي وما مررت به، وهو لا يعني أبدا أنكم ستتفقون معي، أو ستقفون نفس مواقفي.. ولكن العاقل هو الذي يضم عقول غيره إلى عقله، حتى يكتمل عقله وينضج.
ربوبيون وربانيون (1/50)
قلنا جميعا: فحدثنا عن المشهد الأول.
قال: هي ليست مشهدا واحدا، بل مشاهد متعددة، جاءت وراء بعضها جميعا.. وكانت كفيلة لأن تجعلني أكثر تواضعا في رؤيتي لعقلي وحدوده وطاقاته.. ورؤيتي كذلك للعلم وعلاقته بالدين.. ويمكنني أن أذكر لكم ـ مراعاة للوقت ـ أربعة منها.
قلنا: فحدثنا عن أولها.
قال: لقد بدأ المشهد الأول من يوم مغادرتي لقريتكم.. فعندما عدت إلى بيتي أصابني مرض شديد أقعدني الفراش أياما كثيرة، لجأت حينها للكثير من الأطباء.. وكلهم للأسف أخلف ظني في البحث عن علاجي، بل إن منهم من أعطاني أدوية أضافت آلاما جديدة إلى آلامي وعللا جديدة إلى عللي.
وقد يئست حينها من وجود علاج لعلتي، ورحت بيني وبين نفسي ألعن الطب والأطباء، وأكفر بكل ما كنت أردده عن التطور الطبي.. إلى أن جاءني بعض الأقارب، وأخبرني عن طبيب بارع في اختصاصه.. وأني سأجد عنده ضالتي.
حملت كل قواي التي بقيت معي، وذهبت إلى الطبيب الذي وصفه لي، لكني بمجرد أن وقفت أمام باب عيادته، ورأيت اللافتة التي علقها عليه، والتي كتب عليها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80] حتى عاد إلي اليأس من جديد، وقررت أن أعود من حيث أتيت.. لكن علتي وآلامي جعلتني أدخل عليه، مثلما دخلت على غيره، وإن كنت ممتلئا يأسا.. لكن المريض يتعلق بقشة كما يقال.
لكني بمجرد دخولي إليه، ورؤيتي للأجهزة المتطورة التي يستعملها، واستعماله لها معي، واكتشافه بدقة ما حصل لي.. وفي وقت محدود جدا.. تغيرت نظرتي إليه تماما.
ربوبيون وربانيون (1/51)
وازداد ذلك التغير بعد زيارتي الرابعة له، وبعد استعمالي لكل ما طلبه مني من حمية وعلاج.. حيث رأيت بعيني بوادر القوة تعود إلي.. لا بالتدريج، ولكن بسرعة شديدة.
لكني بمجرد أن دخلت عليه في زيارتي الرابعة، ورؤيتي له، وهو ساجد.. عادت نظرتي السلبية إليه من جديد.. ولست أدري كيف غفلت حينها عن حديثي عن علتي، ورحت أسخر من سجوده، وأنا أقول: مع احترامي لك كطبيب، إلا أني تعجبت كثيرا عند رؤيتي لك، وأنت تمارس ما يمارسه الذين ألغوا عقولهم..
لم يغضب لما قلت، بل رد علي بهدوء، قائلا: هل تقصد تلك السجدة التي كنت أسجدها لربي، شكرا له على بعض النعم التي أتاحها لي؟
قلت، وبجرأة شديدة: ربك أعظم من أن يترك جميع كونه، ثم ينشغل بك، وبحاجاتك.. هل تعلم حجم الأرض بالنسبة للكون؟
قال: وهل تعلم أنت حجم الفيروس الذي تسبب لك في ذلك الداء الذي عانيت منه كثيرا.. إنه لم يكن يتجاوز واحد من عشرة ملايير من جسدك.. ومع ذلك كان له ذلك التأثير؟
ثم قال: بما أن أمور جسدنا لا تُقاس بالحجم، ولا بالكتلة.. فأمر الكون جميعا كذلك.. وربي الذي أبدع كل شيء، وصمم كل شيء لن يصعب عليه أن يتواصل مع كل شيء.. فهو قد تواصل معي حين أبدع خلقي.. وتواصل معي حين وفر لي كل ما أحتاجه.. وفي كل مراحل حياتي.. حتى الدواء الذي وصفته لك أو قد يصفه لك غيري من الأطباء ليس سوى من محض فضله.. ولذلك تراني قد علقت على باب عيادتي تلك الآية الكريمة.
قلت: وقد تعجبت من تعليقك لها.. فأنت بذلك قد أهنت كل الأطباء الذين يبذلون كل جهودك من أجل صحة البشر.. فبدل أن تنسب توفير الشفاء لهم رحت تنسبه لربك.
ربوبيون وربانيون (1/52)
قال: أرأيت إن وجدت فقيرا.. ولم يكن لديك مال.. فرحت لبعض مصانع الثياب تطلب منهم أن يمنوا عليه بما يحتاجه من ثياب.. ورحت لبعض المطاعم تطلب منهم أن يوفروا له ما يحتاجه من طعام.. ورحت لبعض البنائين، وطلبت منه أن يوفر له مسكنا.. هل تطالبه بعدها بأن يشكرك.. أم يشكرهم معك؟
قلت: بل أطلب منه أن يشكرهم قبل أن يشكرني.. فأنا لم أفعل سوى أن دللته عليهم.
قال: وهكذا نحن الأطباء.. فنحن لم نفعل سوى أن نكتب لك في الوصفة ما وفره الله لك من علاج.. فكل ما تراه في الدنيا من أدوية لم يكن ليتوفر لولا أن الله أوجد في كونه ما ييسر ذلك..
قلت: قد يصدق قولك مع الأدوية المستخلصة من الأعشاب وغيرها.. ولكنه لن يصدق أبدا مع تلك الأدوية الكيميائية الكثيرة.
قال: بل يصدق معها أيضا.. فالله تعالى هو الذي هيأ لنا إمكانية تشكيلها.. وهو الذي هدى عقولنا بعد ذلك لصناعتها.. فلذلك كان علينا أن نشكر الصانع الذي صنعها، قبل أن نشكر المكتشف الذي وصل إليها.. وإن كنا مأمورين بشكر الجميع، فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله.
قلت: إن ما تقوله يخاطب العواطف الرقيقة.. لكنه أبدا لا يصح لأن تخاطب به العقول.
ابتسم، وقال: أنت تذكرني بشبابي.. حينها كنت متفلتا من كل الحدود التي أمرتنا الشريعة بمراعاتها.. وكنت أخاطب الجميع بكل سخرية.. مفتخرا بعقلي.. إلى أن عرفت أن عقلي حينها لم يكن سوى تجسيدا لرغباتي التي أضفت على نفسها وصف العقل، لتفر من
ربوبيون وربانيون (1/53)
كل التكاليف التي يطالبني بها عقلي الحقيقي.
قلت: ما تعني؟
قال (1): لقد كنت حينها أردد ما لقنني إياه أساتذتي من عدم الإيمان بمرجعية خلاف العقل، وأنه لا رسول سواه بين الله وخلقه.. ولذلك لا يمكن الاحتجاج بالوحي والنص المقدس.. وذلك ما يجعلني بل يجعلنا جميعا في حل من كل التكاليف الدينية إلا تلك التي رضيتها عقولنا.
قلت: لقد صدق أساتذتك في ذلك ونصحوك.
قال: نصيحتهم لي باستعمال العقل، وعدم الخضوع للدجالين والمزورين كان في غاية النصح.. والحمد لله، فبسببهم اخترت تعلم علوم الطب، حتى أقضي على الخرافات التي كانت تنتشر بين أهل بلدي، بسبب تولي هذا الأمر ممن لا يحسنه، بل من يستعمل الدين وسيلة له، ويجني من ذلك أرباحه الكثيرة.
قلت: أنت توافقني إذن على خرافة الدين.
قال: بل أوافقك على الخرافات التي وقع فيها المتدينون، والتي حجبت الخلق عن الدين الحقيقي.
قلت: أليس من الأجدى أن نرمي الدين جميعا، حتى نرمي معه كل الخرافات التي علقت به؟
قال: فلم لم تطبق هذا مع جسدك.. فقد ذكرت لي أنك مررت على الكثير من الأطباء، ولم يزدك مرورك بهم إلا مرضا.. لكنك مع ذلك لم تيأس إلى أن وفقك الله
__________
(1) عالم دون أنبياء، ص 29.
ربوبيون وربانيون (1/54)
لاكتشاف علتك، ثم وفقك لتخلصك منها، وبسهولة ويسر؟
لم أجد ما أقول، فراح الطبيب الرباني يكمل قوله: بعد أن درست الطب، وعرفت الأسرار الكثيرة المودعة في جسم الإنسان، عرفت من ربي ما كنت أجهله.. وحينها.. وبمقدمات كثيرة حصلت لي.. عرفت أن ربي الذي أكرمنا بتعريفنا بأجسادنا، وبما يداويها، أكرمنا كذلك بما يدلنا عليه، وعلى أنفسنا ومصيرنا.
قلت من حيث لا أشعر: فقد تركت عقلك إذن.. واستسلمت للأديان.
قال: معاذ الله أن أترك عقلي الذي كان الواسطة التي عرفت بها كل ذلك.. لقد رحت أبحث حينها في الأديان إلى أن اهتديت إلى الدين الحقيقي.. وحينها رحت أبحث فيه لأخلصه من كل ما علق به من خرافة ودجل.. إلى أن وصلت بحمد الله إلى ما أعتقد أنه دين الله.. وهو لا يتناقض مع العقل ولا العلم أبدا.. فيستحيل على الصانع أن يدعو لما يناقض مصنوعاته.
قال ذلك.. ثم استأذنني في أن ينصرف للمرضى الذين ينتظرون.. ثم بشرني بعد أن قام ببعض الفحوصات لجسدي، بأن المرض قد ارتفع عني تماما، وأنني يمكنني أن أعود إلى نظام حياتي القديم، ومن غير الحمية التي نصحني بها في تلك الفترة، ومن غير استعمال أي دواء.. لكنه قال لي، وهو يصافحني بحرارة: أظن أنك صادق في البحث.. وأسأل الله أن يقيض لك من الربانيين من يبعدون عنك وساوس الخرافيين والدجالين وإخوانهم من الشياطين.
قلنا: حدثتنا عن المشهد الأول.. فحدثنا عن الثاني.
قال: بعد مغادرتي لعيادة ذلك الطبيب الرباني المؤمن.. وفي الطريق إلى بيتي مررت
ربوبيون وربانيون (1/55)
على بعض الكليات التي تدرس الفلسفة، وقد رأيت اثنين حينها يتحاوران، قال أولهما (1): إن ما تذكره من الاكتفاء بالعقل وحده باعتباره الموصل إلى الله والدال عليه، والحجة بين الله وبين خلقه ومصدر التشريع ورفض أي مرجعية عداه، كلام لا يمكنني أن أوافق عليه.. فمن قال لك: إن الله تعالى لم يجعل رسولا بينه وبين خلقه سوى العقل؟.. ومن أين لك الجزم والاطمئنان بذلك؟.. أليس من الممكن والمحتمل أن هذا الإله قد اعتمد طريقا آخر بديلا عن العقل، أو إلى جانب العقل يكون وسيلة التواصل بينه وبين خلقه؟
أراد الثاني أن يتحدث، فقال الأول: من الطبيعي.. بل من البديهي أن الوحي ليس هو من أقنعك بانحصار وسيلة التواصل بين العبد وخالقه بالعقل وحده، فأنت تنكر الوحي، ولا تؤمن به.. كما أن الفطرة ليست حاكمة بهذا الانحصار، هذا لو كنت تؤمن بالفطرة.. ولذلك لا يبقى أمامك إلا أن تدعي أن العقل هو الذي أقنعك بذلك.
قال الأول: أجل.. عقلي هو من أوحى إلي بذلك.. وكونه صنعة الله وتصميمه يعني أن الله هو الذي أوحى إلي بذلك.. ألا يكفي ذلك حجة ودليلا؟
قال الثاني: لكني كغيري من البشر، وأنا أتحدث هنا عن مئات الملايين من الناس.. لا نجد أن عقولنا تحكم بانحصار طريق التواصل بين الله تعالى وبين خلقه بالعقل وحده، فنحن وغيرنا من ذوي العقول، ومع أننا نعتقد بدور محوري للعقل في العلاقة مع الله تعالى، لكننا لا نجد مانعا من أن يختار الله رسلا يرسلهم إلينا من بني جنسنا، بل إننا نعتقد بضرورة ذلك.. وبذلك، فإن ما يذكره الربوبيون من أن العقل هو الطريق الوحيد للعلاقة مع الله والتعرف عليه، هو كلام لا يمت إلى العقل بصلة؛ لأن من مزايا أو خصائص القضايا
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: عالم دون أنبياء، ص 30، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/56)
العقلية أن يتلاقى عليها، ويلتفت إليها كافة العقلاء، أما ما ينفرد بالاعتقاد به أشخاص قليلون أو جماعات محدودة فهذا لا يكون من أحكام العقل في شيء، بل إن انفراد الإنسان بـ (رأي عقلي) مع عدم تفهم الآخرين من ذوي العقول له، سيكون مؤشرا على أن هذا الرأي ليس مما يحكم به العقل.
قال الأول: أنت تتهمني بعدم إعمال عقلي إذن.. وأنك وحدك وأصحابك من يعملون عقولهم.
قال الثاني: معاذ الله أن أتهمك بذلك.. لكني أتعامل معك بنفس منهجك، فأنت تتهمني وتتهم معي الكثير من العقلاء بأننا لا نعمل عقولنا.
قال الأول: فكيف تفسر قناعتي العقلية التي لا يتطرق إلي فيها الشك أبدا؟
قال الثاني: تفسير ذلك سهل.. فبعض الناس يعيشون أجواء ثقافية معينة، وينشؤون عليها، ويتربون فيها، وذلك يؤثر بكل تأكيد على قناعاتهم، ويجعلهم يتخيلون أن ما يحملونه من أفكار هي مما يحكم به العقل المودع لديه.. وأفكار كهذه ـ لو صح وصفها بالعقلية ـ ليست حجة دامغة في حد ذاتها؛ لأن ما هو حجة من العقل، ويمكن إلزام الآخرين بمدركاته هو العقل الفطري المودع لدى الإنسان، وليس العقل المكتسب الخاضع للعوامل الثقافية والتربوية المختلفة والمتغيرة، إلا إذا رجعت أحكام العقل المكتسب إلى أسس بديهية أو فطرية.
قال الأول: فهلا ضربت لي على ذلك مثالا يعيه عقلي.
قال الثاني: من الأمثلة على ذلك ما سمعته منك مرات كثيرة من أن المتدين يتعرف على إلهه من طريق النصوص الدينية، بينما أنتم ـ معشر الربوبيين ـ تتعرفون عليه من خلال العقل.. وهذا كلام مرفوض، ومجاف للحقيقة، ويعد مغالطة بينة؛ فنحن إنما نثبت قضية
ربوبيون وربانيون (1/57)
وجود الله تعالى ـ وهي كبرى عقائدنا وأساسها المتين ـ من خلال العقل، وليس من خلال الوحي.. ومثل ذلك عقيدتنا الثانية، وهي النبوة، نعتمد في إثباتها على العقل الذي قادنا للإذعان والتصديق بالنبوة بعد أن رأينا البرهان الساطع على ذلك.. وهكذا فإن اعتقادنا بيوم القيامة، وهو من أمهات العقائد الدينية نعتمد في إثباته على العقل.. إلى غير ذلك من مجالات الإفادة من حكم العقل في مجال بناء العقائد، لكن هذا كله لا يمنع من الاستعانة بهداية الوحي للتعرف أكثر على بعض صفات الله تعالى أو بعض القضايا التي قد لا تنكشف للعقل بشكل تام.
قال الأول: قد أسلم لك بهذا.. وربما لا يمكنني إلا التسليم.. فأنا أرى الكثير من الفلاسفة والمتكلمين يستعملون المنهج العقلي في استدلالاتهم على ما ذكرت.. ولكن ألا يدعو ذلك إلى الاكتفاء بالعقل المجرد.. فما دام العقل قادرا وحده للوصول إلى الحقيقة؛ فما وجه الحاجة للنبوة والدين مع ما يكتنفها من مخاطر التلبيس والتشويه؟
قال الثاني: وجه الحاجة واضحة.. فالعقل الذي نقدّر ونثمّن دوره ونؤمن بمرجعيته في مجال بناء العقيدة، وفي غيرها من المجالات هو عقل إنسان، والإنسان مجبول على النقص، وليس معصوما، وبالتالي فعقله مهما سما وترقى وأبدع يظل في معرض الخطأ والانحراف والتشويش، ويصاب بالشلل أحيانا، أو تغلب عليه الغريزة والأطماع، فيحتاج في كثير من الأحيان ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالتفاصيل إلى مصباح يضيء له الطريق.. والمصباح ـ باعتقادنا ـ هو الوحي الإلهي، كما قال بعض أئمتنا في لك: (فبعث الله فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ،
ربوبيون وربانيون (1/58)
ويثيروا لهم دفائن العقول) (1)
سكت قليلا، ثم قال: بالإضافة إلى ذلك، فإن الاكتفاء بمرجعية العقل والتضحية بمرجعية الوحي يمثل خسارة كبرى للإنسان، لأنه يحرمه من نبع زاخر ومصدر ثري يغنيه فكريا وروحيا ومعنويا وأخلاقيا.. فالإنسان كما يحتاج إلى الغذاء الفكري فإنه بحاجة إلى الغذاء الروحي، ولا أعتقد أن هناك تراثا روحيا عرفته البشرية يمتلك الغنى والعنق كذاك الذي تركه الأنبياء والأولياء.. ولو أنه تم استثمار هذا التراث كما ينبغي لأسهم إلى حد كبير في وضع حد للثقافة الاستهلاكية المادية التي اجتاحت الإنسان وفرغته من القيم الروحية والأخلاقية، ودفعته إلى ممارسة الطغيان والعدوان.
قال الأول: الانحرافات التي مارسها المتدينون أخطر من تلك التي مارسها غيرهم.
قال الثاني: انحرافات المتدينين هي كانحرافات غيرهم.. ولا يهمنا أيهما أكثر انحرافا.. فالمتدين السلبي ليس سوى حجاب عن الدين.. ولا يمكن اعتباره ممثلا للدين الصحيح، مثلما لا يمكن اعتبار الدجالين والسحرة والخرافيين علماء ولا أطباء.. كثروا أو قلوا.
قال الأول: لكن شتان بين المنحرفين بسبب قصور عقولهم.. والمنحرفين بسبب الدين.. فالأول حتى لو أخطأ فإنه ينسب خطأه لنفسه بخلاف المتدين، فإنه ينسب خطأه لله.
قال الثاني: كلاهما ينسب خطأه لله.. فالربوبي الذي يدعي بأن الله لم يزود عقله بالقدرة على تعقل إرسال الأنبياء يفتري على الله.. ومن أدراه بأن الله زوده بذلك، لكنه لعدم
__________
(1) نهج البلاغة: 1/ 23.
ربوبيون وربانيون (1/59)
بحثه أو لكبره امتنع من البحث أو من الاتباع.
قال الأول: ما تعني بقولك هذا؟
قال الثاني: أنت تقول لي دائما.. مثلك مثل جميع الربوبيين المنكرين للنبوات.. بأن العقل يمثل مرجعية وحيدة في مجال علاقتنا بالله تعالى.
قال الأول: أجل.. عقولنا تقول ذلك.. لا نحن.
قال الثاني: دعنا نناقش المسألة بهدوء وبعيدا عن أنا وأنت.. ذلك أننا إذا أردنا أن نعرف موقف العقل من إرسال الرسل من قبل الله تعالى.. فهل العقل يحكم باستحالة إرسالهم؟ أو أنه يحكم بعدم الحاجة إليهم؟ أو أنه لا يحكم سوى بعدم ثبوت صدقية الأشخاص الذين ادعوا أنهم رسل الله تعالى؟
قال الأول: أنا أدعي استحالة إرسال الله رسلاً إلى خلقه.
قال الثاني: لكن هذه القضيّة لا يمكن لعاقل أن يدرجها في عداد القضايا المستحيلة والممتنعة التحقق والثبوت، وكيف تكون مستحيلة ولا يلزم منها محذور عقلي، كمحذور التناقض أو غيره؟.. ولذلك فإنه إذا انتفى احتمال الاستحالة، فلا يبقى إلا أن يقال: إنّ قضيّة إرسال الرسل إمّا من القضايا الضرورية التحقق ـ كما هو رأي الدينيين ـ أو أنها ممكنة التحقق، ولا احتمال آخر في المقام.. فالحصر بين هذه الاحتمالات الثلاثة عقلي، وحيث إنّ الربوبي لا يؤمن بأنّها ضرورية الوقوع، فلا يبقى أمامه إلا أن يدرجها في دائرة الإمكان؛ لأنّ كل قضيّة لا تكون ضرورية الامتناع ولا ضرورية التحقق، ستكون لا محالة ممكنة كما ذكر المناطقة والفلاسفة.
قال الأول: لا بأس.. قد أسلم لك بهذا.. فأعتبر قضية إرسال الرسل من قبل المصمم الأعظم من القضايا الداخلة في دائرة الإمكان، بمعنى أنّ من الممكن حصولها
ربوبيون وربانيون (1/60)
وتحققها، ومن الممكن عدم حصولها.. لكن هذا يستدعي سؤالاً آخر يفرض نفسه، وبقوة، وهو أنّه كيف يتسنى لنا إثباتها أو نفيها.. فمن الواضح أنّ الإثبات أو النفي لا يكون إلا بدليل، كما يحكم العقل بذلك، ذلك أن العقل يقول للإنسان: إنّ الممكنات لا يمكنك الجزم بنفيها ولا إثباتها إلا بدليل، كما قال ابن سينا: (كل ما طرق سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان).. فهل من دليل على الإثبات أو النفي في المقام؟
قال الثاني: سؤالك وجيه جدا.. وهو دليل على تسليمك للحق.. وعدم جدالك.. وبناء على ذلك سأجيبك بأني باعتباري من المؤمنين بمبدأ النبوّة أستند في إثباتها إلى الواقع؛ فإنّ خير دليل على الإمكان هو الوقوع.. ذلك أن تاريخ البشرية عرف جماعة كبيرة من الأشخاص من ذوي الصدق والنبل الذين ادعوا النبوّة والرسالة، ونحن صدقناهم لأنّهم أقاموا الدليل على ذلك.
قال الأول: ومثلك أنا.. فأنا أرى أن الواقع هو خير دليل لنفي النبوة.
قال الثاني: إن قولك هذا يحمل مجازفة كبيرة.. إنه مثل من يرى طبيبا أو طبيبين يخطئان في علاج المرضى، فيحكم بناء على ذلك أنه لا يوجد طبيب واحد في الدنيا.. وأن كل الأطباء دجالون ومخادعون..
قال الأول: فكيف لا يتسنى لي أن أقول ذلك.. وأنا أرى الانحرافات الكثيرة التي سببها وجودهم؟
قال الثاني: وهذا أيضا من الأحكام الجائرة المتسرعة.. فمن ذكر لك أن كل من ينتسب لهم صادق في انتسابه.. أو أن كل ما وصل عنهم صحيح.
قال الأول: فما الذي علي فعله إذن؟
قال الثاني: أن تعمل عقلك إعمالا حقيقيا.. لا بالتسرع في الإنكار وإنما بالبحث
ربوبيون وربانيون (1/61)
والتحقيق.. ذلك أن الإنكار العام المتسرع يصطدم بواقع مفاده أنّ أشخاصاً كثيرين بلغوا الآلاف جاءوا على مرّ التاريخ، وقالوا للناس: إنا رسل الله إليكم، وهذه رسالتنا وتعاليمنا، وهذه أدلتنا وحججنا التي تثبت صدقنا، فهل يمكن تكذيب هؤلاء جميعاً أو الحكم باشتباههم وخطئهم وخطأ كل هؤلاء البشر الذين صدّقوهم وآمنوا بهم!؟.. وكيف يتسنى للعاقل وبجرّة قلم إصدار حكم عام بكذب هؤلاء الأنبياء أو اشتباههم!؟.. لا أخال أنّ العقل يسمح للإنسان أن يتبنى موقفاً متسرعاً بتكذيب أو تخطئة كل هؤلاء الرسل والحكم باشتباه أتباعهم، اللهم إلا إذا درس سيرتهم جميعاً، وتثبّت من خطأهم أو كذبهم.
قال الأول: لكن كيف يتسنى لي أن أدرس حياتهم جميعا.. وقد اندثرت أخبارهم.
قال الثاني: مثلما يستدل علماء الآثار على الأمم والحضارات بما بقي من آثارها.. يمكنك أن تبحث فيما بقي من تراث الأديان عن كل من ادعوا النبوة.. ثم تحاكمهم بعد ذلك لعقلك.. ولا يمكنك أن تفعل ذلك إلا بعد أن تمارس كل مناهج التحقيق والتحري التي تتطلبها العقول السليمة.. فلا يمكن تمييز الدجالين من الصادقين إلا بذلك.
قال الأول: لكن ذلك صعب شديد.
قال الثاني: أنت بين أمرين.. بين أن تسكت عن الحديث في هذه المسألة.. فلا تجعل من نفسك داعية لإنكار الدين والنبوة.. أو أن تبحث بصدق لتثبت بذلك.. وإلا كنت مدعيا وكاذبا.. فلا يمكن الحكم على أي قضية من دون استكمال كل أدوات التحري.
قال الأول: فهلا ضربت لي مثالا على ذلك.
قال الثاني: أرأيت إن ذكر بعض علماء التاريخ أن الحضارة المصرية لم تعرف صناعة الفخار.. فهل يمكن قبول ذلك مطلقا؟
قال الأول: قد يُقبل ذلك.. لكن بتحفظ.
ربوبيون وربانيون (1/62)
قال الثاني: لم؟
قال الأول: لأنا لم نحط بعد بجميع آثار المصريين.. ففي كل حين تكتشف آثار جديدة، وقد يكون من بينها أواني من الفخار.. وبذلك ينهار كل ذلك التخمين الذي ذكره المؤرخ.
قال الثاني: أرأيت لو تكشف الآثار عن آنية فخار واحدة؟
قال الأول: حتى لو كانت آنية واحدة، فإنها قد تكون دليلا على غيرها مما لم يكتشف.. وهي كافية للقضاء على ذلك الحدس الذي ذكره المؤرخ رجما بالغيب.. لأنه كان يمكنه أن يقول: إلى الآن لم تكشف الآثار عن أي أواني أو أدوات تدل على صناعة المصريين للفخار.. وربما يكون ذلك دليلا على عدم معرفتهم بتلك الصناعة.
قال الثاني: ونفس الشيء مارسه في بحثك عن النبوة.. فقد ينهار كل ما يذكره إخوانك من الربوبيين عندما يكتشفون صدق نبي واحد.. لأنه يدل على غيره من الأنبياء.
قال الأول: ألا ترى أننا سنضيع وقتا كثيرا للبحث في ذلك، وقد لا نصل بعدها لأي نتيجة؟
قال الثاني: فهل ترى تلك الجهود أهم، أو تلك الجهود التي يبذلها علماء البيولوجيا وهم يبحثون في الجماجم، أو علماء الآثار، وهم يحفرون الأرض.. أليس البحث عن النبوة بحثا عن مصدر جديد للحقائق.
قال الأول: ولكن العقل يكفي في الدلالة على الكثير منها.
قال الثاني: أليس كل البشر يحنون لمعرفة ما في الفضاء الخارجي.. ويتمنون أن تصلهم أي موجات تدل على أي حياة أو حضارة؟
قال الأول: بلى.. وقد خصصت وكالات الفضاء ميزانيات خاصة بذلك.
ربوبيون وربانيون (1/63)
قال الثاني: فلم لا يكتفون بالحدس والتخمين مثلما يفعل الربوبيون حين يفرضون على الله تعالى من حيث لا يشعرون عدم تواصله مع خلقه، وبأي طريقة؟
لم يجد الأول ما يقول.. لكنه راح يداعب صاحبه قائلا: أظن أنني وصلت اليوم إلى نتائج مهمة في حواري معك.. قد أبلغك بها في أقرب الآجال.. لكن إياك أن تتصور أني سلمت لكل ما ذكرت.. فهناك الكثير من الإشكالات التي لا تزال تراود ذهني.
قال الثاني: أنا موقن تماما بأنك ستصل إلى الحق، ومن أقرب أبوابه.. لأنك لست معاندا ولا جاحدا ولا متكبرا.. والله تعالى سيفتح لك أبواب هدايته لرسله، كما فتح لك أبواب هدايته إليه.
قالوا: حدثتنا عن المشهد الثاني.. فحدثنا عن الثالث.
قال: لقد حصل لي هذا المشهد بعد أن مررت ببعض التجارب التي خف بسببها ثقتي في بعض العلوم التي كنت أتوهم أنها علوم قطعية لا يمكن تطرق الشك إليها.. لكن جاء من يشكك فيها، وبطرق أكثر قوة وقطعية.
حينها مررت على بعض الأساتذة يتحدثون، بعضهم ربوبي مثلي، وبعضهم ربانيون، وكلهم من جامعة واحدة، ويعملون في تخصص واحد.
قال أحدهم، وكان ربوبيا (1): أنتم تعلمون أن موقفنا من الأديان منطلق من العلم.. ذلك أنا نرى أن الإنسانية ستعرف على ربها أفضل عن طريق العلم والكون.. فهذا هو الطريق الوحيد الذي يمكننا من معرفة الإله.. فمن خلال دراسة الخلق، وليس من خلال
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: عالم دون أنبياء، ص 49.
ربوبيون وربانيون (1/64)
الكتب المقدسة للأديان التي هي من صنع مؤسسيها.
قال آخر، وكان ربانيا: يمكنك أن تتحدث عن العلم كما تشاء، لكن لا يمكنك أن تحتكره، كما لا يمكنك أن تحتكر العقل.. فاعتبار الربوبي إنسانا علميا بينما المتدين إنسان غيبي وغير علمي، أمر مرفوض بتاتا؛ فالعلم بالنسبة إلينا أمر مقدس، ونحن كمسلمين ـ على الأقل ـ نعتبر أن الكون بكل آياته وقوانينه ومظاهر جماله وجلاله هو الكتاب الأكثر دلالة على الله تعالى.
قال آخر: ذلك أن أهم برهان ركز عليه القرآن الكريم في إثبات وجود الخالق وعظمته هو برهان النظم، الذي ينطلق من الخلق إلى الخالق ومن النظم إلى الناظم، فإن التأمل والتفكر في الخلق يهدي الإنسان إلى الخالق، وملاحظة النظام البديع خير آية على وجود المنظم المبدع.
قال آخر: وهكذا، فإنا نستعين بالعلم، لا لإثبات وجود الله فحسب، بل ولإثبات العديد من المعتقدات الدينية، ومنها وحدانية الله تعالى وسائر صفاته من الحكمة والقدرة والعلم.
قال آخر: أجل، فبالتأمل في الكون وملاحظة ما تكشفه حركة البحث العلمي عن دقائقه وأسراره ووحدة النظام الحاكم فيه، نتعرف أكثر فأكثر على خالقنا مصمم هذا الكون، فوحدة النظام تدل على وحدة المنظم، وعظيم الصنع فيه يدل على قدرة الصانع وسعة علمه، كما أننا نتعرف من خلال التأمل في العديد من الظواهر الكونية على فكرة المعاد والبعث، إلى غير ذلك من مجالات الإفادة من نتائج البحوث العلمية.
قال آخر: ولا يقتصر الأمر على الاعتقاد بمكانة العلم وتثمين دوره، بل تخطاه إلى الفعل، فقد كان للعلماء المسلمين إسهامات جليلة وعظيمة في شتى العلوم التجريبية
ربوبيون وربانيون (1/65)
والطبيعية، فأسماء علماء المسلمين المبدعين في شتى العلوم معروفة للقاصي والداني، وقد نوه بها المنصفون من علماء الغرب ومفكريه وعامة المستشرقين.
قال آخر: ففي كتابه (الإسلام) يشير روجيه غارودي إلى جهود بعضهم، من أمثال الخوارزمي رائد الجبر الذي أحدث انقلابا في الرياضيات بابتكار نظام العد العربي.. والبتاني الذي يرى بأن الإنسان يتوصل بالإلمام بعلم الفلك إلى إقامة البرهان على وحدانية الله وحكمته.. وابن سينا الفيلسوف والطبيب الذي ترجم جيرار دو كرومون كتابه (القانون في الطب) إلى اللاتينية ليظل الموسوعة الكبرى في الطب إلى عصر النهضة.. إلى ابن خلدون عالم الاجتماع الشهير الذي كتب مؤلفا مدهشا في التاريخ الكلي وسوسيولوجيا عظمة الحضارات وانحطاطها.. وغيرهم من المبدعين الكبار الذين ساهموا في إثراء الحضارة الإنسانية.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن إيمان الربوبي وتقديره للعلم يفترض أن يدفعاه إلى عدم التسرع برمي الأفكار الدينية وحتى المعجزات المنقولة عن الأنبياء عليهم السلام بالخرافات والأوهام، فإن العالم الذي يحترم علمه يتوقف إزاء الظواهر التي لا يفهم كنهها ولا يسارع إلى إنكارها، فالمسارعة إلى الإنكار دأب الجهلة وأنصاف المتعلمين، أما العلماء فإن علمهم يدفعهم إلى التواضع والإقرار بأن ثمة مجهولات وأسرارا في هذا العالم، وأن تطور العلم كفيل بكشف الكثير منها
قال آخر: لقد كان الفيلسوف الأمريكي جورج سنتيانا (1863 م ـ 1953 م) يزدري ـ كما ينقل عنه ول ديورانت ـ العلماء الذين يتوهمون أنهم قد أثبتوا بطلان الدين بالعلم، من غير أن يبحثوا عن أصل الأفكار والعادات التي نبعت عنها تلك العقائد الدينية، ومن غير أن يعرفوا معنى العقائد الدينية الأصلي وعملها الحقيقي، فعلى العالم أن لا يغتر بعلمه مهما
ربوبيون وربانيون (1/66)
بلغ، وأن لا ينظر إلى الطروحات الدينية نظرة استخفاف أو سخرية، فهذا ليس دأب العلماء ولا يليق بهم، والعلماء حقا والذين يقدرون العلم يتثبتون من كل الظواهر ولو كانت هامشية، فكيف بظاهرة بمستوى وحجم وتأثير الظاهرة الدينية.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن تثميننا لدور العلم، ورفضنا لأي دعوة تسعى إلى تكبيل حركة العلم الهادف، هو الاتجاه الأكثر حضورا في المجال الديني.
قال آخر: أجل، ثمة اتجاه متزمت لم يع الفواصل بين العلم والدين بشكل جيد، فضيق على حركة البحث العلمي، ووقف موقفا سلبيا من بعض الأفكار والنظريات العلمية.. لكن حسبنا أن هذا الاتجاه يكاد ينحسر، وهو اتجاه شاذ ومدان ومرفوض من غالبية علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم.
بعد أن انتهى الربوبي التائب من حديثه عن المشاهد التي أثرت في رؤيته لعلاقة العقل والعلم بالدين.. قام أحد الحضور، وقال: ولكن ألم تصطدم رؤيتك تلك بما يذكره المتدينون عن النبوة.. وهل يمكن للعاقل المتحرر الذي يتبنى العلم بآخر مستجداته أن يصبح تلميذا لنبي؟
قال: لقد كنت أردد ما كنت تردد الآن، وأنشره في كل المحال، ومنها قريتكم هذه.. ولعلكم أول ما سمعتم هذا الكلام سمعتموه مني ومن أصدقائي.. لكن الله تعالى قيض لي من ألوان الهداية ما جعلني أتراجع عن رأيي، لأصبح أكثر تواضعا.. وإن شئتم، فسأحكي لكم أربعة مشاهد مما حصل لي، كان لها تأثيرها الكبير في تغيير نظرتي للنبوة والأنبياء.
ربوبيون وربانيون (1/67)
قلنا: فحدثنا عن أولها.
قال: لقد حدث هذا المشهد لي أثناء زيارتي لفلسطين، وفي بلدة من بلداتها المعطرة بأريج النبوة، رأيت نفرا من الشباب يتحدثون بحماسة وشوق، فرغبت نفسي في الاستماع لهم، فسمعت أحدهم، وهو أكبرهم، ويبدو أنه كان معلما لهم، يقول (1): أنتم تعلمون أن النقطة الجوهرية التي يجمع عليها الربوبيون، وتشكل مرتكزا أساسيا ومحوريا لمذهبهم، هي أنهم ـ مع كونهم يؤمنون بالله تعالى ـ ينكرون النبوات والرسالات السماوية، ويرفضون كل نتائجها ومنظومتها التشريعية والغيبية، ويعتقدون أن كل الذين يتكلمون باسم الله هم مدعون واهمون ولا أساس لدعواهم.. ولذلك، فإني أريد منكم أن تناقشوا أطروحتهم هذه بعلم وهدوء، كما أمرنا الله تعالى بقوله: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 46]
قال أحدهم: إشكالاتهم في هذا الباب كثيرة، فعلى أيها تريد أن نجيبك؟
قال المعلم: لقد سمعت بعضهم يذكر أنه لا حاجة لنا إلى الرسل، وذلك، لأن الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها، فإن جاء بما يوافق العقول لم تكن إليه حاجة ولا فائدة، وإن جاء بما يخالف العقول وجب رد قوله.. فبم تردون على هذا الإشكال؟
قال أحدهم: إن هذا الإشكال ينطلق من افتراض مسبق مفاده أن العقل يدرك كل ما يصلح الإنسان ويفسده، وأن له حكما في كل الأفعال، وبالتالي، فإن كان ما جاء به الرسل
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: عالم دون أنبياء، ص 129، فما بعدها، وقريب منها ما في كتاب: لإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 3/ 50.
ربوبيون وربانيون (1/68)
موافقا لحكم العقل فلا ضرورة له، أي لما جاءت به الرسل، وإن كان مضادا لحكم العقل، فلا يكون ما جاءوا به مقبولا.
قال آخر: وفي هذا مصادرة مرفوضة، وهي افتراض أن العقل يدرك كل شيء مما ينفع الإنسان أو يضره وما يصلحه أو يفسده، وهذا غير صحيح؛ فنحن نسلم بأن العقل يدرك الكثير من الأمور، وهي كليات الأمور ومبادئها العامة، لكن بعض الأمور ولا سيما القضايا التفصيلية والجزئيات ليس للعقل فيها حكم أو موقف واضح لا سلبا ولا إيجابا، وقد تختلف فيها أنظار ذوي العقول، وعليه فما المانع من أن يصدر عن الشرع حكم في هذه الحالات؟
قال آخر: ويمكننا مقاربة هذا الجواب بطريقة أخرى، وهي أننا نوجه سؤالا لصاحب هذا الكلام، وهو: ما المقصود بعدم انسجام ما جاء به الوحي عما حكم به العقل؟
قال آخر: ذلك أنه إن أريد به المعارضة والمضادة التامة، فالمعارضة بهذا النحو ليست متصورة أساسا، ونحن لا نؤمن بحكم شرعي ينافي صريح أحكام العقول، ولا نجد حكما من هذا القبيل، ونتحدى ـ بكل محبة ـ أن يدلنا أحد على حكم ينافي صريح حكم العقل.
قال آخر: وإن أريد بعدم الانسجام أن ما يحكم به الوحي ـ كلا أو بعضا ـ ليس مما يقتضيه حكم العقل، فتعليقنا عليه، أن هذا لا يضر بشيء، ولا يشكل عيبا في حكم الشرع وما جاء به الوحي؛ إذ ليس من شرط قبول حكم الشرع أن يكون مما يقتضيه أو يدركه العقل، وإنما الشرط هو أن لا يكون منافيا ومضادا لحكم العقل.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه حتى لو كان ما جاء به الأنبياء عليهم السلام مما يدركه العقل، مع ذلك فإن في إرسال الرسل العديد من الفوائد الجليلة.
قال آخر: منها أن الإنسان المؤمن عندما يعلم أن ما يدركه بعقله هو موضع عناية الله
ربوبيون وربانيون (1/69)
تعالى واهتمامه، فسوف يشكل ذلك دافعا وحافزا قويا له لامتثاله تقربا إلى الله تعالى أو رغبة في ثوابه ورضوانه.. وهو سيعلم في هذه الحالة أنه عندما يخالف هذا الأمر فإنه لا يخالف حكم العقل فحسب، بل إنه يخالف حكم الله تعالى أيضا، وهذا ما يجعله يستحضر رقابة الله تعالى في كل أفعاله وأقواله.
قال آخر: ومنها أن العقل البشري ـ حتى لو سلمنا أن له قابلية عالية لإدراك كل الأمور ـ إلا أنه قد يقع أسير الغريزة والمطامع، فـ (كم من عقل أسير تحت هوى أمير)، أو رهين الشبهات الفكرية المختلفة، فيتعرض بفعل ذلك للتشويش والاضطراب، وربما الانحراف عن دوره في تقويم الإنسان وتسديد خطاه، وهنا يأتي الوحي الرباني ليرفع التشويش عن حكم العقل، ويعيده إلى إشراقته، فيتميز حكم العقول عن الميول الغرائزية.. وهذه إحدى وظائف الأنبياء عليهم السلام ومهامهم الجليلة.
قال المعلم: بورك فيكم.. فما تقولون فيمن يعترض على النبوة بما يعتبره قبحا للتسليم والانقياد لبشر مثلنا، حيث يقول: إن من المستقبح في نظر العقل اتباع مدعي النبوة، والحال أنه إنسان مثلنا من ناحية الإمكانات والطاقات والمؤهلات، ولا يمتاز علينا في الصورة والنفس والعقل، فهو يأكل مما نأكل ويشرب مما نشرب، ولدينا عقل كعقله وقلب كقلبه، فكيف ننقاد إليه انقيادا أعمى نصدقه فيما يقول، وننفذ ما يطلب، ونمتثل كل ما يأمر به أو ينهى عنه إلى درجة أن نكون بالنسبة إليه كالعبيد أمام سيدهم، فأي تميز له علينا لنتبعه ونجمد عقولنا؟
قال أحدهم: هذه الحجة أضعف من سابقتها، ذلك لأن البشر وإن كانوا متساوين في الإنسانية، لكنهم ـ بكل تأكيد ـ ليسوا متساوين في الكثير من لوازمها، فهنا تختلف الهمم وتتفاوت الاستعدادات، فهم متساوون بالقوة والقابلية، ومتفاوتون بالفعل، والواقع خير
ربوبيون وربانيون (1/70)
دليل على ما نقول.
قال آخر: ذلك أنا نرى أن في الناس العالم والجاهل، وفيهم الكامل المهذب والفاسد المنحرف، وفيهم القوي والضعيف، وهذا التفاوت والاختلاف هو آية عظيمة ونعمة كبرى، فهو يفرض عليهم التعاون والتعاضد، وذلك برجوع الجاهل إلى العالم، واستعانة الضعيف بالقوي، واقتداء غير الكامل بالكامل، كاتباعنا للأنبياء عليهم السلام وانقيادنا لهم، وهذا الاتباع أو الاقتداء هو مما يحكم به العقل وتقره سيرة العقلاء، وليس فيه انتقاص من إنسانية الإنسان، وليس هو انقيادا أعمى، وإنما هو اتباع للحجة والبرهان، وانقياد للحق والقيم.
قال آخر: ولهذا يرفض القرآن الكريم الإيمان غير القائم على البرهان، ويدين التقليد والانقياد الأعمى حتى لمدعي النبوة إلا إذا أقاموا على دعواهم بينة ودليلا، فإذا أقاموا على دعواهم البينة، فإن اتباعهم حينئذ سيكون اتباعا للبرهان والبينة.. ذلك أنه بعد أن يصدق الإنسان بهذا النبي أو ذاك لقيام الحجة المقنعة على نبوته، يكون من الطبيعي أن يسلم له فيما يأتي به من منظومة عبادية أو تشريعية ترمي إلى تنظيم حياة العباد، أو فيما يخبر به عن غيب السماء، وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء – 65]
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فلنفرض أن البشر متساوون في الإمكانات والمؤهلات، لكن هذا لا يمنع من أن يختار الله واحدا منهم لإيصال رسالته إلى العباد، كما يختار وزير الخارجية ـ مثلا ـ في زماننا واحدا من موظفي الوزارة الأكفاء للقيام بمنصب السفارة في دولة أخرى، حيث لا مفر من القيام بهذه المهمة.
قال آخر: وما ينبغي للوزير أن يفعله في هذه الحالة هو أن ينظر في الموظفين فإن وجد
ربوبيون وربانيون (1/71)
أن أحدهم أكفأ من الآخرين في خبرة أو شهادة فعليه أن يختاره دون سواه لهذا المنصب، وإذا فرض تساويهم في الكفاءة والأهلية فإن الأمر عندئذ يترك إلى حدس الوزير نفسه أو إلى حسه الدبلوماسي لاختيار السفير الذي يراه مناسبا.
قال آخر: والأمر بالنسبة لله تعالى هو من هذا القبيل، ولكن على النحو الأمثل، فالله تعالى لا يحدس ولا يظن، وإنما يختار من موقع علمه الذي لا يخطأ.
قال المعلم: بورك فيكم.. فما تقولون فيمن يعترض على النبوة بما ورد عنها من التعاليم التي قد تستقبحها بعض العقول؟.. ويستدل لذلك بأن العقل قد دل على أن للعالم صانعا حكيما، والحكيم لا يتعبد الخلق بما يقبح في عقولهم.. ويضربون المثل لذلك بما ورد في الشرائع السماوية من التوجه الى بيت مخصوص للعبادة، والطواف حوله، والسعي بين جبلي الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإحرام والتلبية وتقبيل الحجر الأصم، والحكم بذبح الحيوان وإيلامه.. وغيرها.
قال أحدهم: هذا الإشكال مندفع، لأن الأمور المذكورة سواء ما يتصل منها بالعبادات أو غيرها هي أعمال ترمز إلى بعض المعاني اللطيفة، ولا يصح للإنسان العاقل أن يتسرع في تسخيفها وتسفيهها، وإنما يجدر به أن يتأمل فيها أو يسأل عن حكمتها ومغزاها، وسوف يجد جوابا على أسئلته؛ فإن أقنعه ذلك الجواب وأزال استغرابه فهو المطلوب، وإلا فإن مجرد الاستغراب أو عدم فهم الإنسان لمغزى عبادة أو طقس معين لا يبرر له أن يعد ذلك الشيء مخالفا لحكم العقل ويستهزئ به، ولا سيما أن هذه الأمور العبادية والطقوس هي مما جاءت به الرسل والأنبياء المعروفون بحكمتهم وكمال عقولهم.
قال آخر: ونحن لا ننكر أن ثمة آراء وفتاوى مستغربة أو مستقبحة طرحها بعض علماء الدين استنادا إلى اجتهاداتهم الخاصة في النصوص الدينية، لكن هذه الاجتهادات
ربوبيون وربانيون (1/72)
ليست مقدسة، ويمكن مناقشتهم فيها، وردها إن كانت ـ فعلا ـ منافية لحكم العقل.
قال آخر: بل يمكن مناقشة الأحاديث المنسوبة إلى الأنبياء عليهم السلام وورثتهم من الهداة إذا رأينا مخالفتها لحكم العقل، ونحكم بخطأ الناقلين أو اشتباههم، لعلمنا أن النبي معصوم، ولا يتكلم بما لا تقبله العقول، لأنه يصدر عن نبع صافية ومصدر مأمون عن العبث الشيطاني أو نحوه.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإنه لا يمكن الجزم بأن كل ما تنكره بعض العقول تنكره العقول جميعا.. ومن الأمثلة على ذلك أن بعضهم يستنكر ذبح الحيوان مع أنه ليس الأمر واضحا فيما ادعي من أن لدى العقل حكما ناجزا وبديهيا بقبح ذبح الحيوان والإفادة من لحمه وشحمه وجلده، وآية ذلك أننا وجدنا عامة العقلاء ـ إلا القليل منهم ـ لا تدرك عقولهم قبح هذا الأمر، ما دام أن الذبح هو لغرض الانتفاع بالحيوان.
قال آخر: نعم، قد يشعر الإنسان بشفقة تجاه الحيوان، وهذا الإحساس طيب وجميل ويستحكم كثيرا فينا بلحاظ الحيوانات الأليفة التي عملنا على تربيتها بأيدينا، لكن من المعلوم أن الشفقة لا تستدعي تحريما، ولا سيما إذا أصبح لحم الحيوان ضرورة غذائية للإنسان، ودخل في نظامنا الصحي كمكون أساسي لا غنى عنه.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن لدى أهل الأديان رؤية تقول: إن هذه الحيوانات قد سخرها الخالق لفائدة الإنسان ونفعه، وأذن له بالإفادة منها ضمن ضوابط وشروط، والعقل الذي قادنا إلى الإيمان بالخالق، قد عرف حكمته تعالى، وأنه لا يأمر بما فيه عبث أو ظلم أو قبح، وحيث قد خفي الأمر على ذوي العقول في مسألة ذبح الحيوان ولم يستطيعوا البت فيه، فعليهم التسليم لما جاء عن الخالق الحكيم.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن إيلام الحيوان وتعذيبه وإيذاءه لغير الحاجات
ربوبيون وربانيون (1/73)
الإنسانية منهي عنه، فما يحصل في بعض الدول أو لدى بعض الأفراد من جعل الحيوان غرضا للسهام، أو اتخاذه وسيلة للمصارعة، كما في مصارعة الديكة أو الثيران، أو تعذيبه أو تركه دون طعام حتى الموت هو عمل محرم، وقد نهت عنه النصوص الدينية الواردة عن الأنبياء عليهم السلام، ما دام الحيوان لا يشكل خطرا على الإنسان.
قال آخر: بل إن القرآن الكريم قد اعتبر الحيوانات أمة من الأمم، مثلها مثل الإنسان، كما قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38] في الوقت الذي كانت فيه القوانين الغربية إلى ما قبل قصيرة تعرف الحيوانات على أنها (أشياء سائبة لا حرمة لها)
قال المعلم: فما تقولون لمن يذكر أن واقع المجتمعات المعاصرة يؤكد عدم حاجتنا إلى النبوة والوحي؛ فالمجتمعات التي أبعدت الدين عن حياتها استطاعت أن تجد لنفسها نظاما يكفل للإنسان مستوى مقبولا من الاستقرار، وأما المجتمعات الدينية ـ كمجتمعاتنا الاسلامية ـ فهي مجتمعات تعيش التوتر والصراعات المذهبية والتخلف العلمي، كما تعيش الفقر والجهل والتخبط على أكثر من صعيد، ما يعني أن الدين هو سبب معاناتها وتخلفها؟
قال أحدهم: يمكن الجواب على ذلك بوجوه كثيرة، أولها أن الإنصاف يدفعنا إلى القول: إن هذا التطور الحضاري الذي وصلت إليه البشرية كان للأنبياء ولرسالاتهم إسهام كبير فيه، فالفعل الحضاري هو حصيلة تراكم، ولو أخذنا العرب مثالا، فإنهم مدينون في نهضتهم للإسلام، فلولاه لم يكونوا شيئا مذكورا.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أنقذهم من الجاهلية وصنع منهم أمة ذات شأن بعد أن كانوا قبائل متناحرة ومتخلفة.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن تقدم الحياة المدنية وتطورها لا يلغي حاجة الإنسان إلى الارتباط المعنوي بالله تعالى، ولا ينفي الحاجة إلى العطاء الروحي الذي جاءت
ربوبيون وربانيون (1/74)
به رسالاتهم، ولا يلغي دور الدين في رفد الحياة الإنسانية بالقيم الأخلاقية، وكل ما يساعد على الانتظام الاجتماعي، وهذا بعض من عطاء الأنبياء عليهم السلام.
قال آخر: أما الصراعات باسم الدين فالأنبياء عليهم السلام ليسوا مسؤولين عنها، بل المسؤول هو الذين لم يعوا حقيقة الدين.. ولذلك، فإن المتدينين بحاجة إلى فهم الدين فهما صحيحا، لا إعادة النظر في حاجتنا للدين نفسه.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الصراعات التي يذكرونها ليست كلها ذات منشأ ديني، فهناك عوامل عديدة تدخل في الوسط.. ومن أهمها المصالح والأهواء والألاعيب السياسية والسلطوية والتي تلبس لبوس الدين وتوظفه في لعبتها القذرة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: 19]، وقال: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الجاثية: 17].. فلماذا نحمل الدين وزر أولئك الناس الذين يستغلونه ويوظفونه في لعبة الدم والسلطة والسياسة والمال وشتى المصالح!؟
قال المعلم: فما تجيبون من يشكل عليكم بأن الدين قد فشل في بسط العدالة الاجتماعية، وتحقيق السعادة للإنسان، في الحين الذي نرى فيه الدول الغربية استطاعت أن تنشر العدل في ربوعها وتحقق الأمن والاستقرار لشعوبها بعد أن تخلت عن الدين، مما يعني أن الدين هو سبب المشكلة؟
قال أحدهم: أول الأجوبة على ذلك هو أن بسط العدل ونشر الأمن في المجتمعات، هي وظيفة الإنسان، وليست وظيفة الدين.. أما الدين فوظيفته أن يساعد في هذا المجال بوضع أسس الهداية وقواعد العدالة وتحديد الضوابط التي تنهض بالإنسان وتعمل على
ربوبيون وربانيون (1/75)
أنسنته وتهذيبه بما يؤهله للقيام بالمهمة المذكورة؛ ولذا، فإننا إذا وجدنا مجتمعا تفتك به العصبيات والأحقاد؛ فهو ليس من الدين في شيء، ولو كان أهله مصلين صائمين، حاجين ومعتمرين.
قال آخر: أما الغرب الذي يذكرونه، فهو لم يترك الدين، وإنما ترك أو تخلى عن نسخة مشوهة منه، وهي النسخة التي فهمت الدين باعتباره سيفا مسلطا على الرؤوس، وسوطا يجلد الظهور، وسلطة جائرة تكم الأفواه، وتخرس الأصوات، وتقمع الحريات.. وهكذا، فإن على المسلمين أيضا التخلي عن النسخة المشوهة من الإسلام التي تتحكم بعقول الكثيرين وتعيق الإنسان.
قال آخر: ولذلك، فإنه لا يصح ما يذكرونه من أن عالما دون أنبياء سيكون أفضل حالا، وأكثر أملا وتفاؤلا.. ذلك أن مثل هذا العالم ستغيب عنه التجربة المعنوية الغنية التي تمنح الإنسان كل هذا السمو الروحي.
قال آخر: وهو عالم تغيب عنه الحكمة والغاية وراء الخلق، هو عالم تتراجع فيه المبادئ الأخلاقية، هو عالم يفقد فيه الإنسان أهم سند وداعم للمستضعفين وحامل لقضيتهم على مر التاريخ، هو عالم لا تشعر فيه بوجود الله تعالى يملأ قلبك وعقلك وحركتك، وإذا غاب الله عن حياتنا اقترب منها الخوف والقلق.
قلنا: حدثتنا عن المشهد الأول.. فحدثنا عن الثاني.
قال: بعد أن انتهى أولئك الشباب ومعلمهم من الحديث، ساروا، فتبعتهم، إلى أن دخلوا بعض المقاهي، وهنا طلب المعلم من أحد تلاميذه أن يتحدث، فراح يقول: ها قد جئناكم في الموعد المحدد، ونحن مستعدون لأن نجيبكم عن أي سؤال أو إشكال.
ربوبيون وربانيون (1/76)
قال أحد الحضور: ما دمتم تذكرون أن الله تعالى عدل بين عباده، فلماذا فضل بعضهم، واعتبرهم وسطاء وسفراء، واحتقر آخرين، وهم أكثر الخلق، فلم يعطهم هذه الأدوار.
قال أحد التلاميذ: إن كان الأمر كذلك.. فقد احتقر الله تعالى الخلق أيضا حين جعل بعضهم فقط، وهم قليلون جدا، أطباء، وغيرهم لم يتح لهم هذه الفرصة.
قال السائل: فرق كبير بين الأمرين.. فالطبيب بذل جهدا كبيرا ليصل إلى ذلك.. بينما النبي أتيح له ذلك من غير أي جهد.
قال التلميذ: أجل.. ولكن الله تعالى لم يختر النبي ليتولى تلك المسؤولية العظيمة إلا بعد أن أثبت قدرته على ذلك من خلال حكمته وأدبه وأخلاقه.
قال آخر (1): ذلك أن النبوة مقام سام وجليل، لأنها تمثل السفارة والوساطة بين الخالق والمخلوق.. ومهمة كهذه لا ينوء بها إلا أولئك الذين بلغوا ذروة الكمال الروحي والسمو الإنساني، وتحلوا بالخلق الرفيع والشجاعة والزهد والتواضع والنبل والحزم والعزم وغيرها من مكارم الأخلاق ومحامد الصفات.
قال آخر: وهؤلاء أشخاص ذوو قابليات وملكات خاصة، ولديهم استعداد عال لتلقي وحي الله تعالى، كما قال تعالى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: 5]، ولجلالة هذه المهمة وأهمية هذا الموقع وحساسيته كان من الطبيعي أن يكون اختيار الرسل بيد الله تعالى، وليس بيد الناس أنفسهم؛ فالنبي لا ينتخبه الناس كما ينتخبون رئيسهم وزعيمهم مثلا.
__________
(1) استفدنا المادة العلمية في هذا المشهد من: عالم دون أنبياء، ص 87، فما بعدها، ومثلها: الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 3/ 22.
ربوبيون وربانيون (1/77)
قال آخر: وسبب ذلك أنه من الطبيعي أن تتم إدارة الناس لشؤونهم بأيديهم، ليختبروا إرادتهم، ويجهدوا في تقديم تجربتهم، ومن الممكن أن يجعل أمر اختيار القائد السياسي والمدير التنفيذي بأيدي الناس أنفسهم، ضمن ضوابط وشروط محددة، لكن موقع السفارة عن الله تعالى هو موقع مغاير لذلك تماما.
قال آخر: لأن الدور المناط بهؤلاء السفراء دور مصيري في حياة الإنسانية جمعاء، والمهمة الملقاة على عاتقهم مهمة استثنائية، ولذلك تحتاج لشخصية استثنائية تتحلى بمواصفات خاصة.
قال آخر: ومن أهمها صفة العصمة، التي من شأنها أن تحمي النبي من الوقوع في شباك الغرائز أو تحت ضغط الأهواء، وأن تحصنه من الأخطاء المقصودة وغير المقصودة، حتى يصل وحي الله إلى الناس كاملا غير منقوص.
قال آخر: ومعلوم أن توفر شخص ما على هذه القابليات والمواصفات أمر لا يعرف على وجهه الأتم إلا من قبل الله تعالى، فإنه الأعلم بعباده بحكم أنه الخالق لهم، كما قال تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، وقال: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]
قال آخر: ولهذا عبر القرآن الكريم عن النبوة بأنها اصطفاء إلهي، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج: 75]، وقال: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص: 68]، وقال لموسى عليه السلام: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ [طه: 13]
قال آخر: ولذلك، فإن الاختيار أو الاصطفاء الإلهي ليس اعتباطيا ولا عبثيا، وإنما يقوم على ميزان دقيق.
ربوبيون وربانيون (1/78)
قال آخر: فالله تعالى عندما يختار أي شخص للنبوة، فلعلمه الأتم الذي لا يتخلف أن هذا الشخص هو الأنسب لهذا الموقع، وأنه الأقدر والأجدر على النهوض بأعباء المهمة التاريخية الملقاة على عاتقه.
قال آخر: ذلك أن السفارة الإلهية لا تقتصر على دور ساعي البريد، الذي يحمل الرسائل للناس ويوصلها إليهم بأمانة، دون أن يكون مطلعا على مضمونها، أو يتحمل مسؤولية التزام الناس بها، بل إن الرسول إنسان يحمل الرسالة بيده، ويجسد تعاليمها في خلقه وهديه؛ فمهمته هداية الناس وتزكيتهم وتعليمهم مضامين الرسالة هي العنصر الأهم والمكمل لعملية حمل الرسالة وإيصالها إليهم، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]
قال آخر: ولهذا، فقد جسد الرسل عليهم السلام معنى القدوة والمثل الأعلى في المجتمعات البشرية، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، ذلك أن البشر كما هم بحاجة إلى رسالة إلهية ترسم لهم معالم الطريق في المجال العقدي والسلوكي، فإنهم بحاجة إلى أن يروا حامل الرسالة شخصا يجسد قيمها وهديها من خلال سلوكه العملي، الأمر الذي يساعد على تمثلهم لتلك القيم والأخلاق.
قال أحد الحضور: ما دام الأمر بهذا الشكل، يحتاج إلى الصفاء والعصمة التامة، فلم لم يبعث الله ملكا رسولا؟
قال آخر: أو كما عبر البراهمة على ذلك بقولهم في بعض إشكالاتهم على إرسال الرسل: (هلا أرسل ملكا، فإن الملائكة إليه أقرب، ومن الشك فيهم أبعد، والآدميون يحبون الرئاسة على جنسهم)
ربوبيون وربانيون (1/79)
قال أحد التلاميذ: سبب ذلك هو أن نهوض النبي في مهمته يتوقف على كونه بشرا؛ لأنه لو كان النبي مجرد ساعي بريد، لأمكن أن يكون ملكا يبعثه الله إلى الناس، فيلقي عليهم الكتاب في قراطيس يتلونها، ثم ينصرف لشأنه، تماما كما تلقي الطائرات بالمنشورات على الناس لتبلغهم أمرا ما.
قال آخر: أما إذا كان دور النبي هو هداية الناس وإرشادهم والأخذ بأيديهم في مدارج الكمال، وأن يقوم بدور القدوة والمثل الأعلى لهم، فإن من الطبيعي أن يكون من جنس البشر، ليتسنى لبني الإنسان أن يقتدوا به، ويتفاعلوا معه، وبغير ذلك لا تقوم الحجة عليهم.
قال آخر: فمقتضى الحكمة أن لا يكون الرسول ملكا، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 95].
قال آخر: وحيث إن أهل الأرض ليسوا من جنس الملائكة، وإنما هم من نسل آدم، فلا بد أن يكون الرسول إليهم من جنسهم.. وهذا ما يجعلنا نفهم سر التأكيد القرآني على بشرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه (من أنفسكم)، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]
قال آخر: وقد ذكر الله تعالى هذا الإشكال، ورد عليه، فقد قص لنا عن جماعة من الناس أنهم كانوا يعترضون على كون الرسول من جنس البشر وامتنعوا عن الإيمان بهم بسبب ذلك، قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 94]، وقد أجابهم الله تعالى بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 95]
قال آخر: وذكر إشكالهم، ورد عليه في موضع آخر، فقال: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
ربوبيون وربانيون (1/80)
مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: 8 ـ 9]
قال آخر: ومن المظنون، بل المؤكد أن هؤلاء الذين اعترضوا بهذا الاعتراض على إرسال رسول من جنس البشر، كانوا سيعترضون وينددون على إرسال رسول من جنس الملائكة، متعللين بأنه لا طاقة لهم باتباع الملائكة، أو غير ذلك من العلل والأعذار.
قال آخر: ولا تفسير لذلك إلا أن هؤلاء لم يوطنوا أنفسهم على اتباع الهدى والإذعان للحق، وإنما انطلقوا من موقع العناد واللجاج، بسبب أن النبوة جاءت بما يصادم مطامعهم وأهواءهم، لذا قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الأنعام: 7]
قال آخر: وقد يكون استغراب إرسال رسل من بني الإنسان منطلقا من توهم أن بشرية الرسل فيها انتقاص من مكانتهم الرفيعة، باعتبارهم السفراء الإلهيين.. وهذا مرفوض لأن صاحب هذا الإشكال يتخيل أن البشرية هي صفة دونية، وتعد علامة نقص أو نقطة ضعف في صاحبها، وهو ما يلتقي بالعقيدة القائلة: (إن الإنسان يولد في الخطيئة)، أو (سيأتي تفنيد هذه العقيدة لاحقا)، وهذا مخالف للتصور الإسلامي القرآني حول الإنسان وكرامته، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن بشرية النبي تعني أنه ورغم تميزه بملكات روحية وخلقية عالية تؤهله للوصول إلى أعلى درجات القرب من الله تعالى، فإنه يبقى في خصائصه وطباعه وعواطفه بشرا، فهو ـ كسائر الناس ـ يتألم ويمرض، ويجوع ويعطش، ويبكي ويضحك، ويفرح ويحزن، ويعيش كل الأحاسيس والانفعالات والخصائص البشرية، ولن
ربوبيون وربانيون (1/81)
تمنعه بشريته من التسامي والارتقاء إلى أعلى درجات الطهارة الروحية.
قال آخر: ولهذا، أكد القرآن الكريم على بشرية الأنبياء عليهم السلام، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [فصلت: 6]، أي إنما أنا بشر مثلكم، فيما أحمله من أحاسيس وعواطف، وأواجه ما تواجهون من حاجات بشرية، كالحاجة إلى الأكل والشرب والنوم، ويعتريني ما يعتريكم من عوارض جسمية كالنعاس والتعب والألم والفرح والحزن.
قال آخر: والتأكيد على بشرية الأنبياء عليهم السلام يهدف ـ بالإضافة إلى محاولة الحد من نزعات الغلو فيهم ـ إلى منع تعلل الناس أو تعذرهم عندما يُطلب منهم الاقتداء بهم واتباع هديهم وسيرتهم، ليبرروا بذلك تقاعسهم عن القيام بالمسؤوليات الشرعية، وتهربهم من الالتزام بما أمروا به أو نهوا عنه.
قال آخر: ولهذا يذكر الله تعالى أن الأنبياء بشر مثل سائر البشر، وأنهم استطاعوا أن يمتثلوا ذلك كله بجهدهم وسعيهم وترويضهم الدائم لنفوسهم، حتى وصلوا إلى أعلى درجات الكمال والقرب الروحي والمعنوي من الله تعالى.
قال آخر: وبكلمة مختصرة نقول: إن الرسل عليهم السلام كانوا ـ وهم المتصلون بالغيب ـ يعيشون الواقع بكل تحدياته وصعوباته، وقد عملوا على تجسيد آمال الناس وتحقيق طموحاتهم وتطلعاتهم، في بناء نظام العدالة الاجتماعية، وتحقيق الاستقرار والأمن في ربوع الأرض، وجاءت تعاليمهم وإرشاداتهم لتكون بمثابة البلسم للأرواح، والدواء لأمراض النفوس والقلوب، ومدوا أيدي المحبة للناس جميعا، وقد لقوا من الناس أهوالا ومقاومة ومناهضة، وتعرضوا لصنوف من الطرد والاضطهاد وتحملوا من التضحيات ما لا نتصوره ولا نطيقه، وما طلبوا على هدايتهم أجرا ولا حاولوا نفوذا ولا سلطة.
ربوبيون وربانيون (1/82)
قال أحد الحضور: قد نسلم لكم بكل ما ذكرتم.. لكن أنى يتسنى لنا أن نفرق بين النبي الحقيقي والكاذب المدعي؟.. ألا ترون أن ذلك وحده كاف في اعتبار الإيمان بالله وحده مغنيا عن تكلف البحث فيما لا طاقة للبحث فيه؟
قال أحد التلاميذ: إن إيمانك بالله تعالى، والذي نلتقي معك فيه هو أمر يحملك ـ كما يحملنا ـ مسؤولية البحث عن هذا الإله وصفاته والتأمل في مخلوقاته، والتعرف على مشروعه وهدفه من خلق الإنسان، ويحملك أيضا مسؤولية التأمل في دعاوى الأشخاص الذين يدعون أنهم رسل الله إلى العباد، إذ ربما كانوا صادقين في دعواهم.
قال آخر: وهذه المسؤولية هي مما يحكم بها العقل، فهو الذي يفرض على الإنسان دفعا للضرر المحتمل والخسارة المتوقعة أن يدرس وينظر في دعاوى الأنبياء عليهم السلام، فلعلهم صادقون فيما يدعون، وليس ثمة مبرر عقلي للحكم المسبق بتكذيبهم أو تخطئتهم.
قال آخر: ألا ترون أنه عندما يأتينا شخص معروف بحكمته وصدقه، ويدعي أنه يحمل رسالة من قبل شخصية ذات أهمية كالملك ـ مثلا ـ وهي رسالة تخص أصحاب المملكة جميعا، وتفرض عليهم التزامات معينة وتضع لهم برنامجا خاصا، وتحذرهم من مغبة عدم اتباعه، فإن العاقل في هذه الحالة لا يستخف بهذه الدعوى، ولا يكون غير مبال اتجاهها، بل يجد نفسه ملزما بالتحري عن صدقها وصدق صاحبها.
قال آخر: ولو فرض أنه تعامل معها بشيء من اللامبالاة أو الاستخفاف، وكانت النتيجة أنه لحقه بسبب ذلك ضرر أو ضيم، فإنه يكون قد أساء إلى نفسه ولا يجد العقلاء له عذرا.. والأمر عينه يمكن قوله إزاء دعوات الأنبياء عليهم السلام.
قال آخر: ولذلك، فإنا نسأل كل من يشكك في النبوات جميعا قائلين: إن أمامنا ظاهرة ملفتة عرفها كل هذا التاريخ البشري العريق، وهي ظاهرة الاعتقاد بالنبوات
ربوبيون وربانيون (1/83)
والانتماء إلى دين من الأديان، كما يؤكد ذلك تاريخ أسلافنا من بني الإنسان، ولا مجال للتشكيك في الأمر.. فهل من المعقول أن لا يثير ذلك فينا فضول المعرفة، ويدفعنا للتساؤل عن سر هذا الاعتقاد، وذلك الالتزام؟.. وهل يمكن لأحد أن يدعي أنه يفهم الإنسان إذا لم يفهم الأديان؟.. وهل يمكن أن نفهم البشر دون أن نفهم معتقداتهم وأفكارهم.
قال آخر: ونقول لهم كذلك: إن أمامنا وأمامكم عددا كبيرا من الأنبياء والرسل الذي ادعوا أنهم جاءوا من عند الله تعالى، وادعوا أنهم رسل الله، وأنه يوحى إليهم من الله تعالى، وكانت حصيلة هذا الوحي عددا من الكتب الدينية المقدسة.. فما هو موقفكم من الأنبياء ودعواهم تلك، وهل من المنطقي أن تكذبوهم بهذه السهولة؟
قال آخر: نعم.. قد نتفهم إنكار الملحد للنبوات، لأن من ينكر وجود الله تعالى يكون من الطبيعي أن ينكر أو يكذب الأنبياء، ذلك أن إنكار المرسل يستلزم إنكار الرسول.. أما من آمن بالله تعالى كالربوبي الذي قاده عقله إلى ضرورة وجود خالق ومنظم لهذا الكون، فأنى له وبهذه البساطة أن يكذب الأنبياء والرسل الذين يزعمون أنهم صلة الوصل بين الخالق والمخلوقين وأنهم سفراء الله إلى عباده!
قال آخر: ذلك أن اتهام الأنبياء عليهم السلام بالكذب وتعمد الافتراء على الله، لمجرد شبهات من هنا أو هناك، موقف انفعالي، واتهام باطل ومتسرع، ليس لكونه يفتقر إلى الدليل فحسب، بل لأن هؤلاء الأنبياء هم أشخاص معروفون بالصدق والأمانة والنزاهة والخلق الرفيع، وهذا ما جعل لهم تلك المكانة المميزة والمرموقة في نفوس الملايين من الناس، وشهد لهم بذلك القاصي والداني والصديق والعدو.
قال أحد الحضور: لا بأس.. قد نقر لكم بأن الأنبياء صادقون، وليسوا كاذبين.. ولكن ما المانع في أن يكون كذبهم من الكذب الأبيض الذي لا ضير فيه، فهم يكذبون فيما
ربوبيون وربانيون (1/84)
يدعونه من منصب النبوة أو السفارة الإلهية، وذلك ليتسنى لهم أن ينشروا رسالتهم الإصلاحية الهادفة إلى تهذيب الناس، وحملهم على الأخلاق النبيلة والسجايا الفاضلة وإبعادهم عن الظلم والطغيان ورذائل السجايا وذميم الأخلاق؛ إذ ليس هناك أسلوب أفضل وأكثر إقناعا للعامة من ادعاء النبوة، وأن الله أعد للمطيعين جنة عرضها السماوات والأرض فيها ما تشتهي الأنفس، وهيأ للعصاة نارا تشوي الوجوه وتبدل الجلود.
قال أحد التلاميذ: إن هذا الكلام مجاف للحقيقة التاريخية، فالأنبياء عليهم السلام ـ كما دلت على ذلك المصادر الكثيرة ـ كانوا أصدق الناس قولا، واشتهروا بقول كلمة الحق ولو على أنفسهم، وقد عاشوا في مجتمعاتهم وبين شعوبهم مدة طويلة لم يعرف عنهم خلالها كذبة في قول.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لبث في قومه أربعين سنة قبل النبوة، وعُرف عنه خلالها الصدق والنزاهة والأمانة حتى أسماه قومه بالصادق الأمين.. واستمر على هذه السيرة بعد البعثة، فكان يرفض استخدام الأساليب الملتوية والكاذبة لتثبيت دعائم رسالته، فعندما توفي ولده إبراهيم في يوم صادف فيه كسوف الشمس، وقال قائل: كسفت الشمس حزنا على إبراهيم، أبت نفسه صلى الله عليه وآله وسلم استغلال هذا الأمر وخداع الناس ولو كانت الغاية نبيلة، فصعد المنبر وخاطب المسلمين قائلا: (يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) (1)
قال آخر: هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المصلح لو كان كاذبا في دعوى خطيرة على هذا المستوى، وهو أن يدعي أنه رسول الله، وأنه يحمل إلى الناس شريعة يزعم أنها
__________
(1) البخاري (1060)، ومسلم (915)
ربوبيون وربانيون (1/85)
شريعة إلهية، ويكذب أيضا في زعمه وجود عالم آخر أعد للحساب.. فهذا معناه أنه شخص مجبول على الكذب، وأنه معتاد عليه، وإن لم يكن معتادا فتكرار الكذبة سيجعله معتادا، ومن يكذب في الكبير يكذب في الصغير، ومن يكذب مرة يكذب الأخرى.. والشخص الكذوب لا بد أن يفتضح أمره، وأن ينكشف زيفه، فحبل الكذب قصير، كما يقول المثل، ولن يطول الخداع والتضليل، فما أضمر أحد شيء إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الأنبياء عليهم السلام لو كانوا مجرد مصلحين وعباقرة وليسوا مبعوثين من قبل الله تعالى، وإنما ادعوا ما ادعوه بهدف إصلاح مجتمعاتهم، فكيف نفسر هذا التلاقي بين الأنبياء على العناوين العامة العقدية، وهي الدعوة إلى الإيمان بالإله الواحد الأحد ورفض الشرك به، وكذلك التلاقي على الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر؟.. ألم يكن من الضروري أن تتغير (المفاهيم الإصلاحية) المزعومة بتغير العادات والتقاليد، واختلاف المجتمعات؟
قال آخر: ثم لماذا نرى لدى كل الأنبياء عليهم السلام تركيزا على العقيدة الصحيحة القائمة على الإيمان بالإله الواحد ورفض الوثنية والشرك، مع أن هذا الأمر قد لا يخدم الرسالة الإصلاحية المزعومة، وهي تغيير الواقع المنحرف والفاسد، ذلك أنه إذا كان هدف الأنبياء إصلاح المجتمع فقط، فما الذي يفرق بين الدعوة إلى الإيمان بالإله الواحد الأحد أو الإيمان بإلهين، أحدهما إله الخير والآخر إله الشر؟ ولماذا إصرار الأنبياء على رفض الشرك بالله ورفض الوثنية وعبادة الأصنام، مع ما سبب لهم ذلك من مشاكل جمة مع الأمم التي بعثوا فيها، بحيث أدت دعوتهم تلك إلى انقسام المجتمع، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ [النمل: 45]
ربوبيون وربانيون (1/86)
قال أحد الحضور: لا بأس.. قد نسلم لكم بأن الأنبياء عليهم السلام لا يكذبون، ولا يتعمدون الخداع والمكر، لكن ذلك لا يحتم علينا أن نعتقد أن قولهم الحق، وأن دعواهم النبوة مطابقة للواقع، فربما كانوا مشتبهين وواهمين، وما يتصورون أنه وحي سماوي هو مجرد تخيلات نفسية، ناتجة عن استغراقهم فيما يدعونه من وحي منزل إليهم.
قال آخر: ومعلوم أن الإنسان إذا استغرق في أمر معين وشغل فكره فيه، فإن ذلك قد يأخذ عليه بعقله ولبه، ويسيطر على حواسه ومداركه فلا يرى سواه، حتى ليصدق تخيلاته ويقنع نفسه بصوابيتها، ومن ثم يتحول إلى مبشر بها؟
قال أحد التلاميذ: سبب هذا الإشكال توهم أن الأنبياء عليهم السلام أشخاص عاديون في قدراتهم العقلية والنفسية.. والأمر ليس كذلك، بل هم خيرة الناس عقلا وحكمة واستقامة، وهم معروفون بالتوازن النفسي والنبوغ الفكري.. ولم نجد في سيرة واحد منهم ما يؤشر إلى أنه كان ذا عقدة نفسية أو عصاب ذهني..
قال آخر: والدليل على ذلك ملاحظة ما تركوه من إرث روحي وديني وأدبي، فإن كلام المرء ونتاجه الفكري والأدبي والروحي هو خير مرآة عاكسة لعقله وشخصيته، ذكاء أو بلادة، نبوغا أو تخلفا.
قال آخر: ولهذا، فإن المنهج العلمي المعتمد في الدراسات المعاصرة هو التعرف على شخصيات الشعراء والأدباء والفلاسفة وخصائصهم النفسية وآرائهم الفكرية من خلال نتاجهم العلمي والفلسفي والأدبي.
قال آخر: وعلى ضوء ذلك، فإن المتأمل والدارس الموضوعي في النتاج والإرث الروحي والثقافي والأدبي الذي خلفه لنا الأنبياء عليهم السلام، فضلا عن مواقفهم وجهودهم الجبارة التي غيرت مسار التاريخ، ولا تزال تحظى بقبول الغالبية العظمى من
ربوبيون وربانيون (1/87)
بني الإنسان، سوف يذعن بأن هذا النتاج وهذا الجهد العظيم ليس مجرد تخيلات وأوهام تفتق عنها ذهن إنسان عادي ولو كان عبقريا، وإنما هو نتاج إنسان مسدد وملهم ويوحى إليه من قبل الله تعالى.
قالوا: حدثتنا عن المشهد الثاني.. فحدثنا عن الثالث.
قال: بعد أن انتهى الشباب ومعلمهم من الإجابة عن الإشكالات التي طرحها أهل المقهى بكل أدب وهدوء.. صاح أحد الحاضرين: نحن مع احترامنا لكم، ولما ذكرتموه، إلا أننا ـ كما ترون ـ عوام بسطاء، ولذلك لا نكتفي منكم بما ذكرتم إلا بعد أن نسمع حواركم مع أساتذتنا الذين لقنونا ما ذكرناه لكم من إشكالات.. فإن شئتم أن نذهب جميعا إليهم، فلكم ذلك.
قال المعلم: يسرنا ذلك.. فنحن لم نأت إلى بلدكم إلا لنحاوركم وتحاورونا.. والحق وحده من يحررنا جميعا.
سار الجميع، وسرت معهم إلى مكتبة كبيرة، وهناك رأينا جمعا من الناس يجتمعون، لا للمطالعة، وإنما للحوار.
وبمجرد دخولنا قال أحد الجالسين في تلك المكتبة، وربما كان المسؤول عنها: لقد كنا ننتظركم.. وها قد جئتم.. لقد أخبرنا بعض أصحابنا بقدومكم، وأنكم تناقشون الإشكالات الجديدة الكثيرة التي انتشرت في مدينتنا انتشار النار في الهشيم، ونحن نريد منكم أن تجيبونا عنها.
قال المعلم: شكرا جزيلا لكم ولأدبكم ولطفكم وحسن استقبالكم لنا.. ويسرنا كثيرا أن نستمع لكم، وتستمعوا لنا.
ربوبيون وربانيون (1/88)
قال المدير: لقد سمعنا بأنكم تعرفون كل ما لدينا من إشكالات ترتبط بالنبوة والأديان.. ولذلك نريد منكم أن تذكروا لنا البراهين الدالة عليها، لنمحصها في عقولنا، ثم نرى مدى إمكانية قبولها.
قال المعلم: لكم ذلك.. وسنذكر لكم في هذا المجلس سبعة إشكالات على الإشكالات التي تطرحونها؛ فإن شئتم الزيادة زدناكم.
قال المدير: حسبنا الآن بالسبعة.. فإن رأينا الحاجة للمزيد استزدناكم.. فما أولها؟
أشار المعلم إلى بعض تلاميذه، فقال (1): أول سؤال نتوجه به للربوبي المنكر للنبوة، أن نقول له: هل إن الإله الذي تؤمن به إله حكيم أم لا؟.. فإن كان إلهك حكيما، وهذا ما يتوقع أن تجيب به، فمقتضى الحكمة أن يعلن عن نفسه، ويحدد للناس سر خلقه لهم، ويجيب على أسئلتهم، ومن أهم هذه الأسئلة: لماذا خلقهم؟ ولماذا كان خلقهم على هذه الحال.. أي مزيجا مركبا من المادة والروح، من العقل والعاطفة؟.. ولماذا لم يخلقهم بطريقة لا يستطيعون معها فعل الشرور وتجنبهم الآلام والمصائب؟
قال آخر: ذلك أنه إذا لم يجب الله تعالى على هذه الأسئلة، فهذا يعني أنه لم يفعل مقتضى الحكمة، بل قرر أن يظل غامضا.
قال آخر: وهذا لا نقبله في الإله الحكيم؛ لأن عقولنا التي آمنت بالله ورأته في كل آية من آيات هذا الكون البديع والمحكم، لا يمكنها أن تتقبل فكرة أن يكون هذا الإله غير حكيم، أو أنه يتعمد البقاء في دائرة الغموض والالتباس.
قال آخر: وحيث إن فكرة الإله الغامض الذي قرر الاحتجاب عن خلقه، وعزم
__________
(1) استفدنا المادة العلمية في هذا المشهد من: عالم دون أنبياء، ص 102، فما بعدها، ومثلها: الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 3/ 22.
ربوبيون وربانيون (1/89)
على أن لا يكشف لهم عما يريده منهم فكرة غير مقبولة لدى العقل البشري، فقد رأينا أن الغالبية العظمى من بني الإنسان لم تتفاعل مع دعوى الربوبيين، مع أنها دعوى قديمة.. وإنما وجدناهم، وعلى رأسهم أهل الحكمة والرأي، وحتى الفلاسفة، تفاعلوا بشكل منقطع النظير مع دعوى الرسل، لقناعتهم أن الإله الأقرب إلى وجدانهم هو الإله الذي يتواصل مع خلقه، ويرسل لهم رسولا.
قال آخر: ولذلك نقول للربوبيين: إذا كنتم توافقوننا القول بأن من واجبنا نحن البشر أن نتعرف على الله تعالى، وأن نتحرى عن مسؤولياتنا تجاهه، فإن من واجب الله تعالى (1) ـ باعتباره الحكيم اللطيف ـ أن يظهر ذاته ويبين هويته ويفصح عن نفسه، ويحدد لهم العقائد التي يلزم العباد الاعتقاد بها حتى لا تذهب بهم المذاهب يمينا وشمالا.. ذلك أنه إذا كنا مسؤولين عن الاعتقاد، فهو مسؤول عن بيان العقيدة وعن مستلزماتها.
قال آخر: ذلك أن ثمة سؤالا بسيطا لا يستطيع الربوبي تقديم إجابة شافية عليه، وهو ما هي الغاية من الخلق؟.. بينما نجد لدى المتدين إجابة شافية مفصلة عنه؛ فهو يعتقد أن هدف الخلق هو إتاحة المجال أمام الإنسان للرقي الروحي والمعنوي والمادي، وأن يسعى في مضمار التكامل ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
قال آخر: فقد أناط الله بالإنسان مهمة جليلة، وهي مهمة إعمار الأرض وإقامة مجتمع العدل فيها، فعلى الخليفة أن يعمرها بالأمن والعدل.. ومن واجبه أيضا أن يعبد الله تعالى؛ لأن العبادة هي حاجة للإنسان، وهي في الوقت عينه تعبير عن شكره وامتنانه للخالق على ما أعطى الإنسان من نعم لا تعد ولا تحصى، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ
__________
(1) اضطررنا إلى قبول هذا التعبير، وإلا فالله تعالى أعظم من أن يوجب عليه أحد، بل هو الذي أوجب على نفسه تفضلا وتكرما.
ربوبيون وربانيون (1/90)
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: 34]
قال آخر: هذا هو تصور المتدينين حول هدف الخلق، فبماذا يجيب الربوبيون عن السؤال حول الهدف المذكور؟.. ليس لديهم جواب شاف ومقنع، وهذا في الواقع اتهام للرب بأنه غير حكيم، فكيف لك أن تؤمن بإله ليس حكيما؟.. ألا يكون عدم الإيمان والحال هذه أفضل؟
قال آخر: ذلك أن كل الدلائل تدل على أن الله تعالى حكيم، ولا يفعل العبث واللهو، وهذا ما تحكم به عقولنا، وترشدنا إليه نصوص كتابنا، وهو القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115]، وقال: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 17]
قال آخر: ولذلك لا يعقل في حق الحكيم أن يخلق الخلق، ثم يتركهم بدون هداية، ودون أن يحدد لهم ما يفعلون، وإلى أين هم سائرون ولماذا خلقهم؟
قال آخر: ولهذا وجدنا أن القرآن الكريم قد أكد على الهداية وعطفها على الخلق، قال تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]، فكل شيء، أي كل موجود، من الإنسان أو الحيوان أو النبات قد خلقه الله، ثم رسم له طريقه وأعطاه ما يلزمه من الهداية، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى: 2 ـ 3]، فالآية تذكر الخلق وتسوية البنية، ثم تذكر الهداية بشكل منفصل، ولا شك أن أحد معالم الهداية هي النبوة التي تقوم بدور أساسي في توجيه الإنسان والأخذ بيده.
قال آخر: وفي آية أخرى ينكر الله تعالى على الذين يشككون في إرسال الأنبياء عليهم السلام بقوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91]، فالذين يشككون في إرسال الرسل لم يعرفوا الله حق المعرفة، بل هناك نقص في
ربوبيون وربانيون (1/91)
توحيدهم.
قال آخر: ثم تكمل الآيات في بيان هداية النبوة متجاوزة مسألة إمكان بعث الأنبياء إلى الحديث عن وقوع ذلك، فالنبوة أمر واقع، وخير دليل على الإمكان هو الوقوع، وما على الإنسان إلا أن يدرس النبوات ليكتشف هدايتها، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 90]
قال آخر: وقد روي عن الإمام الصادق ذكر كلا الطريقين اللذين أشارت إليهما الآيات الكريمة، حيث قال ـ لمن سأله: (من أين أثبت الأنبياء والرسل؟) ـ: (إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه فيسألوه عن واجباتهم، ثبت أن له سفراء في خلقه يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، والمعبرون عنه جل وعز، وهم الأنبياء عليهم السلام وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها) (1)
قال أحد الحضور: فما تقولون لمن يذكر لكم أن الهدف من الخلق موجود، وعدم البوح به لا يعني عدم وجوده، ولا تتوقف معرفتنا له على إرسال الأنبياء والرسل، فعقولنا كفيلة باكتشاف الهدف ومعرفته؟
قال أحد التلاميذ: نقول له: إن الأجدى والأجدر بالحكيم أن يبين لعباده الهدف وراء خلقه لهم، وأن لا يترك الأمر إلى اجتهادات العقول التي لا بد أن تختلف؛ لأن عدم
__________
(1) توحيد الصدوق: 253.
ربوبيون وربانيون (1/92)
بيانه سيوقعهم في الحيرة والاختلاف.
قال آخر: ونقول لهم: إن معرفة الهدف ليست هي الغاية الوحيدة لبعث الأنبياء، وإنما هناك غاية أخرى لذلك، وهي بيان الطريق الموصل إلى هذا الهدف المذكور.
قال آخر: وهذه الغاية لا تقل أهمية عن بيان الهدف نفسه، وقد تكفلت النبوات ببيان الطريق الموصل إلى الله، ولم تترك الأمر إلى عقول الناس، وإلا لاختلفوا وتنازعوا، وربما لم يهتدوا إلى ذلك سبيلا.
قال المدير: وعينا هذا، وقد نسلم لكم به.. فما الإشكال الثاني؟
قال أحد التلاميذ: الإشكال الثاني هو أن نقول للربوبيين: ألا ترون أن عقولنا وعقولكم التي قادتنا وقادتكم للإيمان بالله تعالى تطرح عليكم أسئلة عن واجبنا أو مسؤوليتنا تجاه هذا الإله الخالق المنعم والصانع المبدع؟ ألا يجب علينا شكره على نعمائه؟ وكيف نشكره ونعبر عن عرفاننا لجميله علينا؟
قال آخر: لقد رأينا الربوبيون يتوقفون عن الإجابة على هذا الإشكال الذي نراه مهما.. بينما الدين يجيب على كل تلك الأسئلة، وبكل عقلانية، فهو يعطي تصورا شاملا عن المبدأ والمعاد، وعن العلة الفاعلية، والعلة الغائية، ولا يبقي سؤالا جوهريا إلا وأجاب عنه، ولا نقطة غامضة إلا وأوضحها.
قال آخر: ونسأل الربوبيين كذلك، فنقول لهم: هل تؤمنون بالمعاد أم أنكم لا تؤمنون به؟.. والعقل الذي تتغنون به هل دفعكم إلى سؤال ما يحصل بعد الموت أم لا؟.. إن المتدينين إلا من شذ منهم ـ كما تعلمون ـ يؤمنون أن ثمة حياة أخرى لا بد أن يحياها الإنسان بعد الموت، وتتم فيها محاكمته لينال المحسن جزاءه وينال العاصي حسابه.. فهل أن عقلكم الذي دفعكم للإيمان بالله عاجز عن الإجابة على هذا السؤال عن الحياة بعد
ربوبيون وربانيون (1/93)
الموت؟.. أم أن لديه جوابا؟.. وإذا كان ثمة جواب فهل هو بالإيجاب أم بالسلب؟
قال آخر: وإذا كان الجواب بالإيجاب، أي نفترض أنكم آمنتم بالمعاد، وأقررتم بأن الحياة لا تنتهي بالموت، بل ثمة حياة ونشأة أخرى، وأن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الناس صائرون إلى الله، وأنهم إلى ربهم يحشرون، فنحن نسألكم عندئذ: ما الذي على الإنسان أن يعده لتلك السفرة الطويلة، وبم يتزود لتلك الرحلة المجهولة المعالم؟
قال آخر: ونقول لهم: لا يفترض بكم لو جردتم أنفسكم للحق، أن تصدقوا أن عقلكم يستطيع بمفرده أن يحدد لكم المسار الصحيح، ويكشف النقاب عما يحتاجه الإنسان في تلك الرحلة بشكل يطمئن به.
قال آخر: فالعقل ـ وإن قيل إنه قادر على الحكم بضرورة وجود يوم للحساب ينتصف فيه للمظلوم من ظالمه، ويعطى فيه كل ذي حق حقه ـ لكنه يظل قاصرا عن إدراك كنه ذلك العالم، ومعرفة موازينه، وعاجز عن معرفة ما الذي يحقق ويضمن السعادة للناس في ذلك اليوم، لأنه عالم مجهول بالنسبة إلينا فهو غيب من غيب الله تعالى، وعقولنا قاصرة عن الإلمام به بشكل واف وإدراك كنهه.
قال آخر: ونقول لهم: إن العلم مهما تقدم أو تطور، فإنه غير كاف لتقديم الجواب الشافي بشأن عالم الآخرة، وتحديد الأشياء الضارة والنافعة للسعادة الأخروية، بل إن العلم أساسا قد لا يستطيع أن يثبت وجود نشأة أخرى وإن كان لا يستطيع أن ينفي ذلك.
قال آخر: ونقول لهم: إننا لا نعقل ولا نتصور أن الخالق الذي قرر إعادة إحياء الناس بعد الموت ليحاسبهم، يمكن أن يتركهم دون أن يحدد لهم ما هو المصباح الذي يحملونه بأيديهم، ويضيء لهم طريق الآخرة.
قال آخر: ونقول لهم: أما إن كان الجواب بالنفي، أي لم تؤمنوا بالآخرة، فإننا
ربوبيون وربانيون (1/94)
نسألكم: لماذا تنكرونها وعلى أي أساس لا تؤمنون بها؟.. هل لأن المعاد محال؟.. أو لأنه لم ينهض دليل عندكم على الإيمان به؟.. أما دعوى استحالة المعاد، فلا أخال عاقلا آمن بالله تعالى يتفوه بها، لأن الله إذا كان قادرا على الإيجاد فإنه قادر على الإعادة.
قال آخر: ونقول لهم: إن ادعيتم عدم نهوض دليل على المعاد، فإننا نتوجه إليكم بالسؤال: ألا تجدون أن ثمة أسئلة تفرض نفسها، وهي التي تعرف بأسئلة المصير، وتلح على كل إنسان وتقتحم عليه نومه ولا تفارقه على الدوام، وعمدة هذه الأسئلة هي: نحن من أين؟ وإلى أين؟ وفي أين؟ فهل يعقل أن تواجهوا هذه الأسئلة، ومنها: سؤال إلى أين؟ أو ماذا بعد؟ بنحو من اللامبالاة!؟
قال آخر: نقول لهم هذا لأننا ـ من خلال حواراتنا الكثيرة معهم ـ لم نجد لديهم إجابات على هذه الأسئلة الوجدانية، بينما الفكر الديني قد قدم إجابات عليها، وكانت إجابات مقنعة لمعظم البشر، حيث يذكر الدين للإنسان: إنك من الله، وإلى الله سبحانه تعود، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156]
قال آخر: وقد قامت الحجة على الإنسان بذلك من خلال الرسل، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 163 ـ 165]
قال المدير: ألا ترون أنكم تستعجلون في أحكامكم، فربما يقول بعضهم: إن الملحدين والربوبيين يستطيعون الإجابة على هذه الأسئلة أيضا، وذلك بإرجاعها إلى كونها
ربوبيون وربانيون (1/95)
نتيجة طبيعية لحالة الخوف من الطبيعة وظواهرها المخيفة.
قال أحد التلاميذ: هذا الجواب التقليدي والمستهلك غير مقنع، فالإنسان قد امتلك ناصية الطبيعة، ولم يعد خائفا منها، ومع ذلك فإن هذه الأسئلة لا تزال تلح عليه يوما بعد يوم.
قال آخر: وبذلك، فإن من أبرز وجوه الحاجة إلى الأنبياء عليهم السلام أنهم قدموا أجوبة شافية على أسئلة المصير، وشكلت أجوبتهم أساسا ومرتكزا متينا للاستقرار الروحي، لأنها وبحق قد منحت الإنسان الأمن والاطمئنان بشكل منقطع النظر: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]
قال المدير: وعينا هذا، وقد نسلم لكم به.. فما الإشكال الثالث؟
قال أحد التلاميذ: الإشكال الثالث هو أن نقول للربوبيين: إن الإنسان كائن متعدد الأبعاد، وأهمها: البعد المادي، والبعد الروحي، فهو متكون من جسد وروح.. ولكل هذه الأبعاد متطلباتها، فكما هو بحاجة إلى إشباع حاجات جسده المادية فهو بحاجة ـ أيضا ـ إلى الإشباع الروحي. وتوفر الإنسان على البعد المعنوي والروحي أمر لا ينكر.. وسؤالنا لكم هو: ما الذي يضمن للإنسان طريق التكامل في الجانب المعنوي، ويؤمن له الإشباع الروحي؟
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن في الإنسان بعدا ثالثا، وهو البعد الاجتماعي، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ولا يمكن أن يعيش بعيدا ومنعزلا عن بقية الناس، والسؤال: من الذي يحدد متطلبات هذا البعد، ويصيغ علاقات الإنسان مع الآخرين من بني جنسه وينظمها؟
قال آخر: إننا نعتقد أن أهم وظائف الأنبياء عليهم السلام ومهامهم هي إعداد
ربوبيون وربانيون (1/96)
البرنامج الذي يلبي حاجات ومتطلبات الإنسان في أبعاده الثلاثة، فهو برنامج يشبع متطلبات الروح والمادة ويحفظ التوازن بينهما، كما أنه يضع له البرنامج الاجتماعي الأمثل الذي يحدد علاقاته بالآخرين ويبين ما له وما عليه، وقد قام الأنبياء عليهم السلام بهذه المهمة على أكمل وجه وأتمه.
قال بعض الحضور: اسمح لي أن أعقب عليك في خصوص إشباع البعد الروحي، ألا ترى أن ذلك مما يتكفل به الإنسان وحده، من خلال ما أودعه الله فيه من الفطرة السليمة والعقل السوي، مستعينا بتجارب الآخرين وعقولهم، ومن يمتلك العقل والفطرة فلا يحتاج إلى الأنبياء والرسالات السماوية.
قال أحد التلاميذ: مع احترامنا للفطرة ـ أو الوجدان ـ إلا أنها لا تستطيع أن تشكل الضمانة الكافية لهداية الإنسان ووصوله إلى مرحلة الكمال على المستوى المعنوي والروحي، لأن الفطرة قد تتلوث، وهي بحاجة إلى من يسددها ويصقلها ويكتشف العناصر الطيبة فيها فينميها، كما هو الحال في الطفل الذي يحتاج إلى من يكتشف مواهبه.
قال آخر: والشاهد على ما نقول: أننا قد رأينا الإنسان في مسيرته التاريخية ومع امتلاكه للفطرة الصافية قد وقع ولا يزال في الأخطاء الكبيرة والانحرافات الخطيرة التي أبعدته عن خط الفطرة، ما يعني أن امتلاكه الفطرة لم يحل المشكلة ولم يكن كافيا لهداية أفراد البشر، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) (1)
قال آخر: وهكذا الأمر بالنسبة للعقل، فإن العقل البشري مهما سما وبلغ في درجات
__________
(1) النسائي 4/ 59 ـ 60.
ربوبيون وربانيون (1/97)
الكمال واكتشف من المعارف وأبدع في الصنع واستطاع أن يضع القوانين والنظم.. لكنه يبقى عقلا بشريا، والبشر مجبول على النقص ولا يستطيع أن يتخلص من الخطأ، لذا فالعقل ـ مع أهميته ودوره في هذا المجال ـ قد يخطئ في التشخيص، فيبقى بحاجة إلى هاد يهديه، ويصوب مسيرته، ويسدد خطواته، ولذا نؤمن نحن أتباع الدين أن الإنسان بحاجة إلى هدي الوحي وهدي العقل معا.
قال بعض الحضور: لا بأس.. قد نسلم لكم هذا في البعد الروحي.. لكنا لا نستطيع أن نسلم لكم به في البعد الاجتماعي.
قال أحد التلاميذ: أنتم تعلمون أن الإنسان مدني بالطبع، ولا يعيش إلا ضمن الجماعة، والحياة الاجتماعية لا بد لها من قانون يحكمها؛ لأن الاجتماع مظنة التصادم والاختلاف الناتج عن وجود غرائز لدى الإنسان، مثل غريزتي حب الذات وحب التملك، وما ينتج عنها من حسد وجشع وأنانية، أو غريزة الغضب وما ينتج عنها من عدوانية تجاه الآخر.. وكل ذلك سوف يدفعه إلى التعدي على الآخرين ويؤدي ـ لا محالة ـ إلى التشاجر والتنازع، الأمر الذي يفرض الحاجة إلى القانون الذي ينظم هذه الحياة، ويمنع البغي والظلم ويعطي كل ذي حق حقه.
قال آخر: وهذا ما يدعو إلى التساؤل عن الذي يسن القانون، وينظم العلاقات، ويرسم الحدود بين بني الإنسان؟.. هل يستطيع العقل وحده دون إرشاد من الوحي أن يضع القانون الأكمل؟.. مع العلم أننا لا نتحدث هنا عن التفاصيل الجزئية القانونية والتشريعية، فإن هذه الأخيرة هي أحكام متغيرة.. وإنما نتحدث عن المبادئ القانونية الثابتة والتي تنظم وتضبط حركة الاجتماع البشري.
قال آخر: وفي هذا المجال نرى النبوات قدمت ولا تزال قادرة على تقديم الكثير على
ربوبيون وربانيون (1/98)
الصعيد التشريعي الناظم لحركة المجتمع.. ذلك أنها استطاعت أن تسهم في تشريع القانون الأمثل والأفضل لنظم الحياة الإنسانية.
قال أحد الحضور: ما أكثر الدعاوى.. وما أقل البينات.
قال أحد التلاميذ: بل ما أكثر البينات على ذلك.. فاصبر معنا لتسمعها.. أنت وأنتم جميعا تعلمون أن القانون ـ ليكون كاملا ـ يحتاج أن يتوفر في واضعه شرطان.. أولها: أن لا يكون واضع القانون مستفيدا منه استفادة خاصة.. وثانيهما: أن يكون عالما بمن يقنن لهم.
قال آخر: والوجه في الشرط الأول واضح، باعتبار أن المنتفع بالقانون لن يضع القانون إلا بما يخدم مصالحه، كما نلاحظ في أيامنا هذه، حيث تفصل القوانين على قياس الزعماء والملوك وطبقا لمصالحهم الخاصة.. والوجه في الشرط الثاني واضح أيضا، لأن المقنن إن لم يكن عالما بمن يشرع له فسوف يأتي قانونه قاصرا، وربما أوجد المشاكل بدل أن يحلها.
قال آخر: وكلا هذين الشرطين لا يتوفران بصورة كاملة في الإنسان، وإنما هما متوافران بصورتهما المثلى في الله سبحانه؛ وذلك لأن الإنسان في الأعم الأغلب يضع القانون الذي يخدم مصالحه، ولن يستطيع التجرد عن ذاتياته وغرائزه وعواطفه، بينما الله سبحانه لا ينتفع من القانون، وليس له مصلحة خاصة من وضعه إلا تربية عباده ونظم أمورهم.
قال آخر: هذا بالنسبة للشرط الأول.. أما الشرط الثاني فتوفره بالنحو الأكمل والأتم في الله عز وجل واضح، بينما الإنسان مهما بلغ علمه ومعرفته فسوف يبقى جاهلا بالكثير مما يصلحه ويفسده، أما الله تعالى فهو العالم بحقيقة عباده وما يصلحهم وما يفسدهم، كما قال تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].. وعلى ضوء ذلك تكون الحاجة إلى الأنبياء نابعة من الحاجة إلى القانون الأمثل، وربما كان قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد:
ربوبيون وربانيون (1/99)
25] مشيرا إلى هذا المعنى.
قال آخر: وحتى لو سلمنا بقدرة الإنسان على اكتشاف القوانين الكفيلة في تنظيم حياته، ولو من خلال التجارب الاجتماعية وتراكم المعرفة، إلا أنه لن يصل أبدا إلى مرتبة القانون الإلهي في ذلك، لأنه ينطلق من رؤية وجودية متكاملة، قد خطت للإنسان مسارا في هذه الحياة وهو مسار نابع من أن هذه الحياة هي مرحلة مهمة أنيط إلى الإنسان فيها دور خلافة الله على الأرض وكلف بإعمارها، لتبدأ بعد ذلك المرحلة الأعم، وهي مرحلة الحياة الآخرة ليجني فيها الإنسان ما زرعه في الحياة الدنيا، فيقف بين يدي الله ليحاسبه على ما فعل وليحيا هناك الحياة الأبدية، ويقابل ذلك رؤية مادية لا تنظر إلى الإنسان إلا بحجم عالم الدنيا وما يحقق له السعادة فيها دون أن تقدم تصورا عما بعد الموت.
قال آخر: ثم إن الإيمان بأن القوانين تنتسب إلى الله تعالى يمنحها قوة خاصة وزخما كبيرا يساعد على تطبيقها، ويعطي المؤمن بالله دفعا روحيا خاصا يجعله يتحرك لامتثالها، لأنه في الحقيقة يعبد الله ويتقرب إليه بامتثال هذه القوانين، كما أنه يستحضر رقابة الله تعالى قبل رقابة الضابطة العدلية.
قال آخر: ولو شكك مشكك في أهمية دور الأنبياء عليهم السلام على صعيد تنظيم المجتمع، على اعتبار أن الأجدى في أمر القوانين هو أن تترك إلى العقل البشري واجتهاده الذي يراعي تغير الحياة، فلا أظن أحدا ينبغي أن يشكك في أن القوانين تحتاج إلى ضمانات لتطبيقها.
قال آخر: ولا ريب أنه بالإضافة إلى الرقابة القضائية التي تكفل إلى حد كبير تطبيقها، فإنها بحاجة إلى حوافز أخرى ومن نوع آخر، وهي الحوافز الروحية التي تضخ في القانون بعدا روحيا كبيرا، وليس ثمة أقوى من الإيمان على هذا الصعيد، حيث يدفع الإنسان المؤمن
ربوبيون وربانيون (1/100)
إلى الالتزام بالقوانين من موقع أنه يعبد الله بذلك كما يعبده بالصلاة والصيام، فالحياة كلها في شتى مواقعها وساحاتها في بيوتها وأسواقها هي معبد ومختبر لإرادة الإيمان.. وأما لو كانت القوانين من وضع الإنسان نفسه فلن تمتلك القداسة نفسها التي تمتلكها القوانين والتعاليم والإرشادات التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام استنادا إلى وحي الله تعالى، أو أمضوها وأقروها، ولا يشعر أنه يتعبد إلى الله تعالى بالتزامها.
قال آخر: ولذلك كان للإيمان بالمبدأ والمعاد دور مهم في بناء شخصية مسؤولة فاعلة، فالمؤمن بالله وبيوم الحساب ليس لديه عبثية فكرية، ولا تفلت سلوكي أو أخلاقي، وإنما هو شخص يعيش حس المسؤولية والانضباط لأنه يتحرك في مسار واضح المعالم، فهو من الله وإليه يعود.
قال آخر: ولهذا فإيمانه يعطيه للحياة معنى وقيمة، ويجعلها متقبلا لظروفه مهما كانت مرة وصعبة، ولذا فهو في أصعب الأحوال التي تمر عليه وأقساها يندفع بإيجابية عالية للرضا بما قسم الله تعالى له، لأن كل ما ألم ونزل به هو بعين الله تعالى، وهو سوف يعوضه رضوانا وسلاما أبديا على كل معاناته وآلامه وصبره على الأذى، ولن يضيع أجره، دون أن يعني ذلك الاستسلام لهذا الواقع، بل إن المؤمن مدعو للعمل على تغيير الواقع نحو الأفضل بالطرق الملائمة والمشروعة، وهكذا يغدو الإيمان طاقة خير مبدعة وخلاقة وليس سببا للجمود ولا للكراهية؛ فالمؤمن شخص ملتزم وليس متعصبا وشتان بين الأمرين، فالمتعصب إنسان مريض يفتك به الحقد، وقد يقتله قبل أن يقتل غيره، أما الإنسان الملتزم فهو يعيش الانتماء للقضية التي يؤمن بها ويمارس إيمانه بكل شجاعة.
قال آخر: وبذلك، فإن حاجتنا إلى الأنبياء عليهم السلام على الصعيد الاجتماعي هي حاجتنا إلى من يضع القوانين، أو على الأقل إلى ما يضخ في القوانين والتشريعات روحا
ربوبيون وربانيون (1/101)
وحيوية خاصة، هي روح الإيمان بالله تعالى.
قال المدير: وعينا هذا.. حدثتمونا عن دور النبوة في سد الحاجات الروحية والاجتماعية.. وبقي البعد الثالث.. البعد الأخلاقي.. فكيف سدته النبوة؟
قال أحد التلاميذ: أنتم تعلمون أن الإنسان في رحلته في هذه الحياة معرض للسقوط والغرق في وحول المادة وشباك الغريزة، فقد ينحدر وينحرف عن الخط المستقيم، ويبتعد عن القيم وتصبح الدنيا وزخارفها كل همه وتغدو نظرته للأمور نظرة مادية بحتة، يقيس الأمور بالأرباح والخسائر المادية، ولهذا فهو بحاجة إلى منظومة من القيم الأخلاقية التي تسدد خطاه وتصوب مسيرته وتكون منارات هداية له.
قال آخر: ولا يكفي التنظير في هذا المقام، فالأخلاق لا يكتسبها الإنسان من المعلم والأستاذ كما يكتسب مادة الرياضيات مثلا، وإنما يكتسبها من خلال سلوك المعلم، فلا بد من وجود مثل أعلى يتمثل الخلق السوي ويجسده في حياته فيشكل من خلال ذلك منارة وعلم هداية، وهذا ما يربي الإنسان على الآداب والأخلاق.
قال آخر: وهذا ما يدعونا إلى السؤال عن الذي يضع ويقر المنظومة الأخلاقية الهادية للإنسان، ومن الأجدى بأن يشكل علم هداية على هذا الصعيد.. وأنتم تعلمون أن الربوبيين يجيبون على هذا بأن الأخلاق فطرية في الإنسان النبيل، ولا تحتاج إلى وحي مقدس.. ونحن نعتقد بفطرية المبادئ الأخلاقية، لكننا لا نرى ذلك كافيا، لأن الفطرة قد تتلوث، فتحتاج إلى من يعيدها إلى أصالتها.
قال آخر: ولهذا لن نجد أصلح لمهمة وضع الضوابط الأخلاقية من رسل الله الذين يتلقون من خلال الوحي ما ينفع الإنسان ويهذب أخلاقه ويزكي نفسه، فإن خالق الإنسان ومصممه هو الأعلم بما يصلحه وينقذه من أوحال الانحطاط وبراثن الأحقاد.. وبالفعل
ربوبيون وربانيون (1/102)
فقد لاحظنا أن المنظومة الأخلاقية التي يحتاجها الإنسان قد تكفلت بها الأديان، وشكلت حجر الزاوية في رسالتهم، ولهذا لخص نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هدف نبوته بقوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (1)، وقد أثر عن المسيح عليه السلام قوله: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض، بل لأكمل) [متى 5/ 17 ـ 18]
قال آخر: ذلك أنه في مهمة التربية الأخلاقية، لا تكفي الفكرة والموعظة المجردة، بل لا بد من المثل والنموذج الذي يعمل على تجسيد الفكرة في سلوكه ويمثلها في حياته.
قال آخر: ومن هنا شاء الله تعالى أن يتم اختيار الأنبياء عليهم السلام من جنس البشر لا من جنس آخر كالملائكة مثلا.. فإن البشر يتفاعل مع جنسه، ويحتج عليه بنوعه، ومن غير المنطقي أن يؤمر بالاقتداء بكائن يحمل مؤهلات تختلف عن مؤهلاته، فذلك لا يقطع عذر الإنسان لو أراد التهرب من الأخذ والالتزام بمكارم الأخلاق.
قال المدير: ولكن مع احترامنا لما ذكرتم، يمكن للربوبي أن يذكر أن القوانين الوضعية كفيلة ـ في حال تطبيقها ـ بضبط الإنسان والحد من نزعته العدوانية، والرقابة والمحاسبة القضائية في هذا المجال تكفي لضمان تطبيق تلك القوانين، فلا موجب للحديث عن الأخلاق وعن الرقابة الإلهية، فحديث الأخلاق والروح والرقابة الإلهية هو حديث الشعوب غير المتحضرة والتي تتراجع فيها سلطة القضاء والقانون، وتسودها شريعة الغاب، فيراد التخفيف من عدوانية الإنسان فيها ومن وحشيته، وذلك بصياغة منظومة أخلاقية توصي بالتزام الأخلاق النبيلة.
قال أحد التلاميذ: مع احترامنا لما ذكرت إلا أن ـ من خلال اطلاعنا على الواقع ـ
__________
(1) البخاري في الأدب المفرد (273)، وفي التاريخ الكبير 7/ 188، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (13)، والحاكم 2/ 613.
ربوبيون وربانيون (1/103)
رأينا أن الذين تعاملوا مع الإنسان بهذه الطريقة جنوا على البشرية، وجروا عليها الويلات، ذلك أن إبعاد البعد الروحي والأخلاقي عن الإنسان حوله إلى ما يشبه الآلة الجامدة والوحش الكاسر الذي همه (الأنا) وتأمين مصالحه ولو على حساب أوجاع الآخرين.
قال آخر: ولذلك، فإننا لا نضع الأخلاق بديلا عن القانون، وإن كنا نتطلع إلى عالم يسوده الخلق السوي ولا يعود الإنسان فيه بحاجة إلى الرقابة القانونية، ولكن هذا أشبه بالحلم في أن نعيش في مدينة فاضلة؛ لأننا عندما نتحدث عن الإنسان فنحن نتحدث عن عالم تتشابك فيه المصالح والمبادئ، وتتصارع فيه النفس اللوامة مع النفس الأمارة، وتتزاحم فيه الغرائز والعواطف، وكثيرا ما ينتصر الحقد على الحب، وتنتصر الغريزة على العقل، وتتقدم المصالح على المبادئ، وتلتهم الغرائز إنسانية الإنسان وتحوله إلى وحش كاسر يفتك دون رحمة ويقتل دون إحساس أو شعور بالذنب.
قال آخر: ومن هنا تنشأ حاجتنا إلى القانون الذي ينظم ويحاسب ويحاكم، وحاجتنا إلى النظام الذي يحكم بالعدل ويمنع التعدي ويأخذ على يد الظالم والمجرم والمفسد، ولا شك أن صرامة القانون ستساهم في إيجاد قوة ردع كبيرة في النفوس، وبذلك تحصل العبرة ويتعظ الكثيرون من ذوي النوايا الإجرامية.
قال آخر: وبهذا الاعتبار أو اللحاظ يكون القانون بما في ذلك قانون العقوبات رغم قسوته مظهر رحمة بالإنسانية، إذ لولاه لساد الهرج والمرج وعمت الفوضى، فمبدأ المحاسبة أو نظام العقوبات هو لحماية الحياة الإنسانية وحفظ استقرارها، وهذا ما أشار له قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]، فمحاسبة الفرد على إجرامه لا ترمي إلى التشفي أو الانتقام منه، وإنما تهدف إلى إصلاحه وتأديبه من جهة، وإصلاح وحماية
ربوبيون وربانيون (1/104)
المجتمع من جهة أخرى.
قال آخر: هذه هي فلسفة القانون ومبرر وجوده، بيد أن ذلك على أهميته لا يفقد القيم الأخلاقية وعلى رأسها قيم الحب والعفو والتسامح وغيرها أهميتها في المجال الاجتماعي والإنساني، شريطة أن نعمل على تحويل هذه القيم إلى ثقافة عامة نبشر بها ونربي الأجيال عليها، وهذا سيساعد على تحقيق الغاية التي من أجلها وضعت القوانين وسنت الدساتير والشرائع، وهي تحقيق الانتظام والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي.
قال آخر: وإذا كانت النبوة قد مثلت استجابة وتلبية لاحتياجات الإنسان، وكان لها هذا الدور الكبير في بنائها فردا ومجتمعا، وقامت بهذه الوظيفة العظيمة في هدايته وإرشاده، كان من الطبيعي أن تكون أصلا من أصول الدين، ويتوقف الانتساب إلى الدين على الإيمان بها.
قال آخر: ذلك أن الإيمان بالنبوة يعني بناء تصورنا عن الحياة وتحديد مواقفنا وسلوكياتنا فيها على ضوء ذلك الإيمان.
قال آخر: فللإيمان كيمياء خاصة، وهو ليس مجرد طقوس جوفاء وفارغة من الروح والمعنى، بل إن الإيمان الحقيقي لا بد أن يحدث تغييرا شاملا وتاما في حياة الإنسان وبنائه الثقافي وفي تصوراته وسلوكه وعلاقاته ومشاعره، فكل ذلك لا بد من صوغه على ضوء الاعتقاد بالنبوة، كما قال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]، وقال: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 84]
ربوبيون وربانيون (1/105)
قال آخر: ونلاحظ أن الآية الأولى أكدت على لزوم الإيمان بالرسل، والثانية على ضرورة الإيمان بما أنزل على الرسل، واشتركت الآيتان في عدم جواز التفريق بين الأنبياء، فإيماننا بهم لا يصح تجزئته، فالجميع رسل الله أو أنبياؤه ولا يحق لنا أن ننكر أحدا منهم، أو نأخذ منه موقفا سلبيا حتى لو كان أتباع هذا النبي أو ذاك ظالمين منحرفين، وقد عدت بعض الآيات التفريق بين الرسل كفرا، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 150]
قالوا: حدثتنا عن المشهد الثالث.. فحدثنا عن الرابع.
قال: بعد أن انتهى التلاميذ ومعلمهم من طرح ما لديهم من إشكالات، وإجابتهم عليها، قال مدير المكتبة: لا أحسب إلا أنكم أقمتم علينا الحجج الكثيرة من خلال ما طرحتموه.. لكنا نريد منكم أن تجيبونا على بعض الإشكالات التي لا تزال تعلق بعقولنا.
قال المعلم: سلوا ما بدا لكم.
قال المدير: أنا في الحقيقة كنت مؤمنا بكل ما ذكرتموه عن النبوة.. لكني بعد أن شببت عن الطوق، ورأيت الاختلافات الشديدة بين الأنبياء إلى درجة التناقض، أثر ذلك في كثيرا.. فهل يمكن لله أن يتناقض مع نفسه؟
قال أحد الحضور (1): أجل.. وأنا أيضا كان هذا الإشكال هو السبب فيما اقتنعت به من مذهب الربوبيين.. ذلك أنه إذا كان وجه الحاجة إلى النبوات واحدا في طبيعته، وهو
__________
(1) استفدنا المادة العلمية في هذا المشهد من: عالم دون أنبياء، ص 143، فما بعدها، ومثلها: الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 3/ 22.
ربوبيون وربانيون (1/106)
الإجابة على أسئلة المصير، وتحديد المسار السوي الكفيل بهداية الإنسان والإرشاد إلى القانون الأمثل، فلماذا اختلفت الأديان فيما بينها؟
قال آخر: أجل.. وأنا أيضا.. فقد رأيت بعد البحث الطويل أن الاختلاف بين الأديان ليس أمرا عابرا وبسيطا بل هو كبير جدا، ويصل إلى درجة التضاد والتعارض، حيث يأتي النبي اللاحق لينسخ ما حكم به النبي السابق، وتحرم الشريعة المتأخرة ما أحلته الشريعة المتقدمة، وهكذا تختلف الأديان في شعائرها وطقوسها، ويمتد التعارض بين الأديان إلى العقائد والتصورات، ليقدم كل دين حزمة من العقائد المغايرة لما تطرحه الأديان الأخرى، فلو كانت هذه الأديان صادرة من عند الله تعالى وتنتسب إليه حقا، لجاءت منسجمة متوافقة في بناها الفكرية ورؤاها العقدية كما في أحكامها وطقوسها وتشريعاتها.
أشار المعلم إلى أحد تلاميذه، فقال: ونحن أيضا مررنا بما مررتم به، لكنا قد نكون مارسنا من الجهد في بحثنا أضعاف ما مارستم.. ولذلك خرجنا بنتيجة مغايرة.. فقد رأينا أن الحديث عن التعارض والتضاد بين الأديان والشرائع السماوية هو حديث مبالغ فيه، فالأديان في تصوراتها ومفاهيمها وتعاليمها وتشريعاتها تشترك في الأسس والمبادئ العامة، ويأتي النبي اللاحق ليصدق النبي السابق، كما قال تعالى حكاية على لسان المسيح عليه السلام: ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ [آل عمران: 50]
قال آخر: فالأنبياء عليهم السلام إنما يصدرون عن نبع واحد، وهو نبع الوحي، ويسعون إلى تحقيق أهداف متجانسة، ولا مجال لأن تختلف رسالتهم في مقاصدها وغاياتها.
قال آخر: ذلك أنهم جميعا يسعون إلى أنسنة الإنسان وهدايته وتهذيب أخلاقه، ولذلك تلتقي رسالاتهم في عناوينها العامة وخطوطها العريضة؛ لأن الانسان في فطرته وغرائزه وعواطفه لا يختلف من زمان لآخر ومن جيل لآخر، فالمبدأ واحد، والمقصد واحد،
ربوبيون وربانيون (1/107)
والمستهدف والمخاطب واحد.
قال آخر: ونقاط الاشتراك لا تلغي وجود الاختلاف بين الشرائع السماوية، والاختلاف له أسباب شتى، وبعضها يبدو طبيعيا وضروريا، وبعضها الآخر ليس كذلك، بل هو نتيجة عوامل غير مبررة.
قال آخر: فمن الاختلاف الطبيعي ـ مثلا ـ الاختلاف الذي تمليه ضرورة مواكبة الرسالة السماوية للنمو العقلي والثقافي الذي يشهده الإنسان، وللتغيرات التي تشهدها الحياة الاجتماعية؛ لأن الإنسان كائن متغير في ثقافته، ومتطور في وعيه للمفاهيم والقضايا الكلية، كما هو متغير في طريقة عيشه وأنماط حياته، وهو ـ في الأعم الأغلب ـ يتحرك في مسار تصاعدي؛ ولذا يكون من الضروري حدوث تغير في الرسالات السماوية يلائم تطور الإنسان، ويواكب التغيرات الجوهرية التي تشهدها حياته.
قال آخر: ومن هنا، فإن الإشكال على الأديان إنما يرد لو كان البيان فيها واحدا وثابتا، ولا يساير تطور الإنسان في وعيه وفهمه للأمور، ولا يراعي اختلاف الزمان وتبدل المكان، ولا تغير الحياة وظروفها.
قال آخر: أما الاختلاف بين الشرائع غير المبرر، فهو الذي نشأ من تعرض تلك الشرائع في العديد من نصوصها الأصلية للإهمال الذي أدى إما إلى فقدان بعض الكتب المقدسة وضياعها، أو تعرضها للتزوير والتحريف الذي مارسه الإنسان نفسه، لغايات شتى.
قال آخر: وقد عرفنا من خلال الأدلة الكثيرة أن التلاعب قد طال كافة الكتب المقدسة السابقة للقرآن الكريم، حيث أدى الإهمال إلى ضياع بعضها واندثارها، فلم يصلنا منها شيء يوثق به أو يعتمد عليه.
ربوبيون وربانيون (1/108)
قال آخر: كما أن المصالح والأطماع دفعت بعض الناس إلى ممارسة التحريف والتزوير في بعضها الآخر، وهذا ما تؤكده الدراسة الموضوعية لحال ما تبقى منها، كما يؤكده ما جاء في القرآن الكريم.
قال آخر: ولذلك، فإننا نعتقد أن الكتاب السماوي الوحيد الذي بقي محفوظا من الضياع أو التزوير هو القرآن الكريم، ولسنا نلقي هذا الكلام جزافا أو من موقع الهوى الديني، بل لنا دلائل قاطعة تثبت صحة كلامنا، وندعو الآخرين إلى دراستها والتثبت من صحتها.
قال المدير: لا بأس.. قد نسلم لكم بهذا.. أو قد نترك مناقشته لمحل آخر.. والآن أجيبونا عن هذا الإشكال الأكبر الذي يراود الكثير، والذي يدور حول ختم النبوة.. فإذا النبوة ـ كما يعتقد المتدينون ـ حاجة للبشرية، فهذا يقتضي أن لا تتوقف النبوات الهادية عند حد معين، بل تستمر وتمتد ما بقي الإنسان، لكنا نجد المسلمين يعتقدون بانقطاع الوحي مع بعثة محمد الذي هو وفق رؤيتهم خاتم النبيين.
قال آخر: أجل.. فما دام عقل البشر ـ كما تذكرون ـ يحتاج إلى هداية الوحي، فاللازم استمرار الوحي الإلهي واللطف الرباني، فكيف وأنى لهذا الوحي أن ينقطع كل هذه المدة الطويلة منذ ارتحال محمد وصولا إلى يومنا هذا!؟
قال آخر: أجل.. فإذا كانت الحياة متغيرة والاحتياجات الإنسانية تختلف وتتبدل من زمان لآخر، فهذا يفرض ويحتم أن تكون التشريعات والقوانين متسمة بمرونة وحركية تجعلها صالحة للمواكبة، وهذا يحتم استمرار النبوة لا انقطاعها.. فكيف تجيبون على هذا؟
قال أحد التلاميذ: لذلك إجابات كثيرة تدل عليها العقول.. منها أن الأمر الذي لا ينكر أن البشرية قد قطعت أشواطا كبيرة في رحلة التكامل والخروج من حياة البداوة
ربوبيون وربانيون (1/109)
الفكرية والاجتماعية، وبلغت مرحلة متقدمة نسبيا من النضج العقلي والتقدم المعرفي والنمو الثقافي والاجتماعي والعلمي؛ وذلك بفعل تراكم الخبرات والتجارب وتنامي المعارف وتلاقح الحضارات، ولا شك أن للأنبياء دورا أساسيا وكبيرا في ذلك كله، فقد أسهمت النبوة في تعليم الإنسان وتربيته وتهذيبه ووضعه في هذا المسار التكاملي المتنامي.
قال آخر: وقد شاءت الحكمة الإلهية أن تواكب النبوات هذا التطور التدريجي فكان لكل مرحلة تاريخية نبيها الذي يقوم بدور الدليل والهادي والمربي، وكان لها رسالتها التي تشكل مصباحا للهداية ودستورا للعمل.
قال آخر: وهذا النمو والنضوج الذي بلغته الإنسانية في مرحلتها الأخيرة، احتاج إلى رسالة دينية نوعية ومتميزة، في شكلها ومضمونها، وفي شخص حامل الرسالة، وما يتحلى به من مواصفات.
قال آخر: وبذلك لم تعد البشرية بحاجة إلى رسالة جديدة بعد تلك الرسالة الخاتمة؛ لأن أي رسالة أخرى لن تأتي بجديد يتضمن إضافات ذات مغزى كبير ومغاير لما جاءت به وتضمنته الرسالة الخاتمة.
قال آخر: والفضل في ذلك يعود إلى أن البشرية وببركة النضج الاجتماعي والفكري الذي وصلته أصبحت قادرة على استكمال مسيرتها التكاملية مستعينة بهداية العقل والوحي.
قال آخر: والوحي الذي نتحدث عنه هو عبارة عن رسالة سماوية من نوع خاص، رسالة ذات نص ديني مرجعي يتلاءم وهذا المستوى من النضج العقلي والمعرفي الذي وصلته الإنسانية، وما سيؤول إليه حالها في مستقبل الأيام، وما قد تواجهه من متغيرات.
قال آخر: وملاءمة هذا النص لذلك هو ما حتم أن يكون نصا متميزا بخصوصية أو
ربوبيون وربانيون (1/110)
خصوصيات لا نظير لها في كل النصوص الدينية السابقة، بما يمنحه قدرة على مواكبة تغيرات الحياة ومستجداتها، بحيث تقل أو تنتفي معه الحاجة إلى رسالة جديدة.. وهذا النص هو القرآن الكريم.
قال آخر: وأما الخصوصيات التي تميز القرآن الكريم والرسالة الإسلامية عموما، فهي كثيرة، منها أن القرآن الكريم يعطي العقل مكانة عالية، ويمنحه حيزا كبيرا ليس في اكتشاف الكون ومجاهيله فحسب، بل في فهم النص نفسه وسبر أغواره.. بل إن العقل القطعي، يعد حاكما على النص، ومقدما عليه في صورة التعارض المستحكم بينهما.
قال آخر: وهذا ما يفسر كون المعجزة الكبرى التي جاء بها النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهي القرآن الكريم ـ معجزة تعتمد على التفكير العقلي، بينما لم تحظ المعجزات الحسية التي عرفتها النبوات السابقة بهذه الأهمية في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحسب ما سجله لنا القرآن الكريم.
قال آخر: ويمكن فهم هذا الأمر على ضوء ما هو معروف من أن الرسالة الخاتمة تحتاج إلى معجزة خاتمة، لأن المعجزة الحسية هي ـ في الأغلب ـ معجزة آنية ظرفية فلا تصلح آية لرسالة خاتمة ومستمرة.
قال آخر: ولذلك، فإن مقارنة سريعة بين تجربة المسلمين التاريخية وتجربة غيرهم من أتباع سائر الرسالات السماوية، تؤكد القيمة الكبيرة التي أولتها الرسالة الإسلامية الخاتمة للعقل.
قال آخر: حيث لم يعهد أن شريعة من الشرائع السماوية التي سبقت الإسلام، اعتمدت العقل في إيمانها وتدينها وبنائها العقدي، كما هو الحال في الإسلام؛ فلا النصوص الدينية في الكتب السماوية المتداولة لدى غير المسلمين تساعد على إعطاء مكانة مميزة للعقل في المعرفة الدينية، ولا التجربة الدينية التاريخية لغير المسلمين تساعد على تقديم صورة
ربوبيون وربانيون (1/111)
ناصعة ومتفائلة إزاء العقل.
قال آخر: وتجربة الكنيسة في القرون الوسطى القاتمة والمريرة مع حركة العقل والعلم، لا تزال محفورة في ذاكرة العقل الغربي وغيره إلى يومنا هذا؛ فقد شاع لدى علماء اللاهوت المسيحيين وضع الإيمان في خط مواز ومقابل للعقل.
قال آخر: بخلاف الإسلام الذي ندد بالذين لا يستخدمون عقولهم وطاقاتهم أو حواسهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال: 22]، وبنى منظومته الإيمانيّة والعقدية على أساس المنطق والبرهان، ولسان حاله ومقاله دوماً: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]، فالعقل هو الحجة بين الله وعباده، وهو دليل معرفة الله ووحدانيته وعلمه وقدرته وحياته.. كما أنه دليل إثبات النبوة ويوم المعاد.. إلى غير ذلك من العقائد.
قال آخر: ولذلك لا نرى في الإسلام أي تناف أو تناقض بين مرجعية العقل ومرجعية الوحي، بل إن إحداهما تكمل الأخرى.. وكما أن الوحي بحاجة إلى العقل في تأصيل مرجعيته وإثبات حجيته، فإن العقل بدوره يحتاج إلى الوحي في تحسين ظروف عمله وترشيده، وإزالة العوائق من أمامه.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن القرآن الكريم يتصف بمرونة وحركية استثنائية، وفي ذلك ما يمكنه من مواكبة المتغيرات دون أن يبلى بمرور الزمان وتطور الحياة، ولذلك نرى أن رسالة الإسلام قد تضمنت قواعد شرعية مستفادة من القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمنحها قدرة عالية على المواكبة والتطوير وتجديد نفسها بنفسها.
قال آخر: ومن أشهر هذه القواعد ما يسمى بالقواعد الحاكمة، والتي لها حق الإشراف والحكومة على كل الأحكام الشرعية الأولية، إلى درجة أن بإمكانها نقض تلك
ربوبيون وربانيون (1/112)
الأحكام وتغييرها.
قال آخر: وأهم هذه القواعد الحاكمة: قاعدتا نفي الحرج ونفي الضرر، المستفادتان من الكتاب والسنة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].. وعلى ضوء هاتين القاعدتين، فكل حكم من أحكام الشريعة يغدو لسبب أو لآخر موجبا للعسر والحرج أو الضرر فإنه يرتفع ويسقط.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن من من أهم مزايا القرآن الكريم أنه يتحلى بالعمق في معانيه ومضامينه، وهذا ما جعله نصا زاخرا ومتدفقا بالمعاني، وذا أبعاد متعددة، بحيث إن الإنسان العادي يمكنه أن يقرأه وينهل من معينه بما يروي عطشه، وكذلك العالم والفيلسوف يمكنه أن يقرأ النص نفسه، ليفهم منه معنى أعمق بكثير مما فهمه الإنسان العادي.
قال آخر: فالمتدبر في القرآن الكريم، والمتأمل في آياته يتسنى له أن يكتشف بوضوح أن له أعماقا وطبقات متعددة ومضامين سيالة متجددة ومتدفقة لا ينضب معينها، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36]، فظاهر هذا الكلام، النهي عن العبادة العادية للأصنام، كما قال تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ [الحج: 30].. لكن بالتأمل والتحليل، يعلم أن عبادة الأصنام ممنوعة لأنها خضوع وذل أمام غير الله، ولا خصوصية لكون المعبود صنما، كما عد الله تعالى طاعة الشيطان عبادة له، فقال: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس: 60]
قال آخر: وبتحليل آخر، يعلم أنه لا فرق في طاعة الإنسان وخضوعه بين نفسه وغيره، فكما أنه لا تجوز طاعة الغير، كذلك لا تجوز طاعة رغبات النفس مقابل الله تعالى،
ربوبيون وربانيون (1/113)
كما يشير الله تعالى إلى ذلك في قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: 23]
قال آخر: وبتحليل أكثر دقة، يعلم أنه يجب أن لا يلتفت إلى غير الله تعالى أبدا، وأن لا يغفل عنه أبدا، لأن التوجه إلى غير الله، معناه إعطاؤه الاستقلالية والخضوع وإظهار الذل أمامه، وهذا الإيمان هو روح العبادة، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]
قال آخر: وهكذا اكتشفنا في الآية الواحدة الكثير من المعاني، والمرتبطة بجميع جوانب الحياة.
قال آخر: وسر ذلك يعود إلى أن النص القرآني يتسم بالإحكام والإتقان، والشمولية والعمق، والمرونة والحيوية، بما لا يتوفر في أي نص آخر، والمعاني القرآنية في تدفق دائم وتوالد مستمر.
قال آخر: وهذا أمر طبيعي، لأنه نص إلهي يمثل الرسالة الخاتمة، ومن الطبيعي أنه كلما ارتفع مستوى المعرفة لدى المتكلم، وازداد علمه وثقافته، ارتفعت معاني كلامه، وكثرت مدلولات ألفاظه.
قال آخر: فالباحثون في تفسير القوانين ونصوص الاتفاقيات، يعتمدون مبدأ قطعيا، وهو أن واضعي القوانين وكاتبي الاتفاقيات، بلغوا من الخبرة والثقافة حدا يمكن المفسرين من أن يتعمقوا في معاني كلماتهم، وعليه، فالكلام الإلهي، بما أنه صادر عن العليم الخبير الذي ﴿وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [طه: 98]، فهو كنز لا ينفد، ونبع لا ينقطع، ونور لا يخبو، وللقارئ أو المستمع لكلام الله أن يتدبر ويتفكر فيه ما وسعه، باذلا الجهد في اكتشاف أعماقه، وتلمس أبعاده، ومع ذلك، فلن يبلغ الغاية، فهو (بحر لا يدرك قعره)
ربوبيون وربانيون (1/114)
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستلهام من هدي القرآن، والاغتراف من معينه، والتعرف إلى مضامينه، يتفاوت تبعا لتفاوت أفهام الناس واختلاف مداركهم، فكل يغترف حسب طاقته، ويستقي مقدار ما يسع إناؤه، كما قال تعالى: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: 17]
قال آخر: وهكذا، فإنه كلما تدبر الإنسان في النص القرآني، استزاد واستفاد أكثر، وانفتحت أمامه آفاق جديدة، وكلما قرأه قراءة واعية في ضوء المعطيات الواقعية، وفي ضوء الخبرات الإنسانية المتراكمة، فإنه سوف يشعر بغزارة المعاني وتدفقها، فإن معطيات الواقع ومستجداته، تفتح فضاءات جديدة أمام النص، لجهة تكشف معانيه ومضامينه ومقاصده.
قال آخر: وبعبارة جامعة: إن هناك علاقة وطيدة بين النص والواقع، وكما أن المعرفة بالنص تضيء الواقع وتوجهه، فإن المعرفة بالواقع بدورها تفتح مغلقات النص وتظهر مكنوناته، ما يسمح بالاستزادة المستمرة من معينه وهديه.
قال آخر: وفي ضوء ذلك، يتضح أن تقادم الزمان، وما يرافقه من تطور العلوم وتراكم الخبرات، له دور كبير في إبراز مكنونات النص القرآني، وتحويل باطنه إلى ظاهر.
قال آخر: وهذا معنى ما ورد عن بعض العلماء أن (القرآن يفسره الزمان)، أو ما ورد عن أئمة الهدى من أن القرآن حي لا يموت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار.
قال آخر: وكما أن لتقدم الزمان وتطور المعارف الإنسانية دورا أساسيا في تكشف بطون النص القرآني وأعماقه، فإن التدبر والتأويل، يلعب هو الآخر دورا أساسيا في بلوغ هذه الأعماق وتظهيرها.
قال آخر: ذلك أن التأويل ـ بمعناه اللغوي ـ جهد تفسيري يحاول تفسير الآية بمآلاتها المتجددة، وبذلك، فإنه أداة اكتشاف واستنباط.. وهو اجتهاد في فهم النص
ربوبيون وربانيون (1/115)
واستنطاقه وبلوغ أعماقه.
قال آخر: وبذلك كله، فإن سر ختم النبوة يكمن في وصول البشرية إلى مرحلة متقدمة من حياتها العقلية والحضارية، وهذه المرحلة المتقدمة قد ساهم كل الأنبياء السابقين بوضع لبناتها وتشييد بنيانها.
قال آخر: وكل هذا جعل من الممكن أن تتحرك البشرية وتسير وتستمر في خط تكاملها على ضوء هداية العقل المسددة بهداية الوحي القرآني الذي شاءت يد الحكمة الإلهية حفظه من التحريف والتلاعب بالنقيصة أو الزيادة.
قال المدير: لا بأس.. قد نسلم لكم بهذا.. أو قد نترك مناقشته لمحل آخر.. والآن أجيبونا عن إشكال آخر لا يقل عن الإشكال الذي أجبتم عنه، وهو عن جمود الشريعة، ذلك أنها تستند إلى أفكار عمرها آلاف السنين، وتعتمد على مرجعية تشريعية لا تنتمي إلى هذا العصر المتمدن.. والزمان ـ كما تعلمون ـ متحرك ومتغير، بينما النصوص التشريعية الدينية ثابتة ولا يطالها مبدأ التغيير، استنادا إلى قاعدة متسالم عليها بين المسلمين وهي قاعدة ثبات الشريعة.
أشار المعلم إلى بعض تلاميذه، فقال: شكرا على إشكالكم الوجيه.. وهو يحتاج منكم بعض الصبر والتأني لفهم الجواب عنه.. ونبدأ ذلك بما قد تعلمونه جميعا من أن المتأمل في تاريخ الفكر الديني سيكتشف أن الرسالات السماوية كانت تراعي بشكل لافت خصوصية الزمان والمكان.
قال آخر: فالمعارف والعقائد والتعاليم الدينية الأساسية وبالرغم من أن السمة العامة لها هي الثبات، إلى حد يبدو معه أنها واحدة عند كل الأديان، إلا أن ذلك لا يعني أن الشرائع كانت نسخة متطابقة ومتماثلة، بل إنها مع تلاقيها في المبادئ العامة متفاوتة في
ربوبيون وربانيون (1/116)
طرحها ومتحركة في أحكامها التفصيلية وحتى في مقاربتها لبعض القضايا الاعتقادية.
قال آخر: فعلى مستوى العقائد يمكن تصوير التغير والتطور من زاوية أن عقول البشر في قدرتها على استيعاب المعارف الإلهية متفاوتة، فالبشرية في تطور دائم في مداركها مع تطور الزمان، ولم يخلق البشر عارفين ومؤهلين لتلقي كل المعارف الالهية منذ البداية دفعة واحدة.
قال آخر: فكما أن الإنسان يتطور بحسب مراحل عمره، فيدرك الشاب ما لا يدركه الطفل، ويدرك الكهل ما لا يدركه الفتى، كذلك البشرية بشكل عام، فإنها تبدأ بطفولة معرفية ثم تأخذ بالترقي، وهذا يفترض تدرجا في طرح المفاهيم الدينية والعقائد أيضا وتكاملا، بحيث إن النبوة الأولى تؤسس لهذه المفاهيم والعقائد ولو بشكل أولي، يتناسب مع ذهنية الإنسان البدائي، ثم تأتي النبوة اللاحقة لتعمق هذه المفاهيم والعقائد وتكشف بعض أعماقها، وقد يدخل عنصر آخر في طريقة طرح المفاهيم العقائدية وعرضها، وهذا العنصر هو طبيعة الإنسان نفسه، ومدى تمدنه أو تخلفه، مرونته أو رعونته.
قال آخر: أما على الصعيد التشريعي.. فالتغيير والتطور أكثر وضوحا وجلاء، أجل، إن التغير بين الشرائع السماوية لا يطال الأسس والركائز ولا الجوهر، لأن غاية التشريع هي إقامة العدل وتحقيق الأمن على المستوى الأخلاقي والروحي والاجتماعي، وقد نادى بذلك كل الأنبياء عليهم السلام.. وإنما يطال التغيير الجوانب التفصيلية والفرعيات التي يفرضها تبدل الحياة وحركيتها وتطورها، فالإنسان كل ما كان أقرب إلى المدنية والتطور والتحضر ويقظة الضمير وخرج عن حالة البدواة والقسوة في سلوكياته والرعونة في أخلاقه كان من اللازم أن ينعكس ذلك على التشريعات التي تنظم شؤونه وحياته، وذلك بنحو من المرونة والتخفيف واليسر، وأما إذا كان لا يزال يرتع في أجواء التخلف وكانت حياته أقرب إلى
ربوبيون وربانيون (1/117)
أجواء التوحش فإن ذلك يفرض شدة في التشريعات وصرامة في القوانين بهدف تأديبه وتهذيبه والحد من عدوانيته.
قال آخر: ولعل هذا ما يفسر لنا هذا التدرج في التخفيف الذي نلحظه بين شريعتي موسى وعيسى عليهما السلام، فشريعة موسى عليه السلام كانت تتسم بنوع من القسوة التي فرضتها طبيعة بني إسرائيل، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام.
قال آخر: ولهذا نجد أن الله تعالى يقول عن عيسى عليه السلام: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: 50]، ونلاحظ في هذا النص القرآني أن عيسى عليه السلام يؤكد أولا على مبدأ الاستمرارية والتتابع بين شريعته وشريعة موسى عليه السلام ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾ [آل عمران: 50] ثم يعقب ذلك بالخصوصية التي ميزت شريعته وهي خصوصية التوسعة والتخفيف، ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: 50]، ثم تأتي بعد ذلك الشريعة الإسلامية بسمة عامة وهي التيسير والتخفيف على الناس، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157]
قال آخر: وينبغي أن يُعلم أن التشريعات التي تتسم بالقسوة والشدة التي كانت مفروضة على بعض الأمم السابقة لم تنطلق من انتقام إلهي، أو ردة فعل، فليس إلها حقيقيا هذا الذي ينطلق من مثل هذه الدوافع، وإنما كانت منطلقة من تعنت الإنسان وعنفه، فكان يحتاج في سياق تربيته وتهذيبه إلى مستوى من التشدد القانوني والتشريعي، كما قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: 160]، حتى أن بعض
ربوبيون وربانيون (1/118)
أنواع العذاب العام الذي كانت تواجه به بعض تلك الأمم وهو عذاب الاستئصال كان سببه وصول تلك الجماعة إلى مستوى من التردي والانحطاط والتمرد والعصيان لا ينفع معهم إلا هذا النوع من العقاب.
قال آخر: ولذلك، فإن إن مسألة النسخ المعروفة بين الشرائع هي خير شاهد على ما نقوله ونتحدث عنه من مراعاة التشريع الديني لتغير الظروف، واختلاف الزمان والمكان، سواء كان النسخ بين شريعتين، أو داخل الشريعة الواحدة، فالنسخ لا يعد عيبا ولا نقصا في الشرائع بقدر ما يعد عنصر قوة ومرونة في التشريع تسمح له بمواكبة المستجدات والتطورات والتغيرات التي طرأت على وضعية الإنسان وحياته وأنماط عيشه.
قال المدير: ما دمتم ذكرتم هذا.. فلم لا يطال مبدأ النسخ الشريعة الإسلامية نفسها، فكيف لها أن تبقى دائمة وخالدة ولا تتبدل مع مرور الزمان وتغير الأحوال، كما هو المعروف والمعتمد عند كافة المسلمين؟
قال أحد التلاميذ: لقد ذكرنا لكم سابقا أن الإسلام امتاز في نصوصه وقواعده التشريعية بمرونة عالية تمكنه من مواكبة المستجدات، ولذلك لا نحتاج بعد ذلك إلى نسخ الشريعة رأسا.
قال آخر: ذلك أن التشريع الإسلامي يخضع لجملة من القواعد التي تسمح له بمواكبة المتغيرات، ومن أهم هذه القواعد: قاعدتا نفي الضرر ونفي الحرج، ومفادهما: أن أي حكم شرعي يغدو امتثاله في زمن أو مكان معين سببا لوقوع الإنسان في الضرر أو الحرج فإنه يكون منفيا ومرتفعا.. وبتعبير بعض المفكرين الإسلاميين فإن للقاعدتين المذكورتين حق النقض (الفيتو)، وصلاحية نقض كل الأحكام الشرعية التي يغدو امتثالها بمرور الأزمان واختلاف الأحوال حرجيا أو ضرريا.
ربوبيون وربانيون (1/119)
قال آخر: وهكذا، فإن النصوص التشريعية الواردة في القرآن الكريم، هي ـ في الأعم الأغلب ـ نصوص تمتاز بأنها تطرح المبادئ العامة والعناوين الكلية، الأمر الذي يكسبها مرونة عالية تجعلها قابلة للتكيف مع مختلف الظروف.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أن نفقة الزوجة في التشريع الإسلامي واجبة على زوجها، ولكن عندما يريد القرآن الكريم بيان هذه النفقة فإنه لا يحددها بمبلغ معين أو أشياء معينة ومحددة، فهذا أمر يختلف باختلاف الظروف والأحوال وأنماط العيش المتغيرة، وإنما يعطي قاعدة عامة مرنة، وهي لزوم عشرة المرأة بالمعروف، ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]، ومعلوم أن العشرة بالمعروف عنوان مرن، وما كان عشرة بالمعروف في زمان سابق ربما لم يعد كذلك في هذا الزمان، وعلى الزوج أن يحقق ما هو عشرة بالمعروف في زمانه لا ما هو كان عشرة في السابق.
قال آخر: وهكذا، فإن الاجتهاد في الإسلام هو القوة المحركة التي تمكن التشريع الاسلامي من تجديد ذاته، وتسمح ببقائه حيا في النفوس وقابلا للحياة على أرض الواقع، وعلى المجتهد أن يراعي مبدأ أساسيا في هذا المقام، وهو أن للزمان والمكان دورا في عملية استنباط الحكم الشرعي، وهذا المبدأ قد أقرته الشريعة الإسلامية نفسها، والمجتهد هنا عليه أن يميز بين المبادئ والوسائل، فالأولى ثابتة والثانية متحركة، وعليه أيضا أن يستلهم دائما مقاصد الشريعة لتلهمه في عمله الاستنباطي.
بعد أن انتهى الربوبي التائب من حديثه عن المشاهد التي أثرت في رؤيته لعلاقة العقل والعلم بالدين.. قام أحد الحضور، وقال: ولكن ألم تصطدم رؤيتك تلك بما يذكره
ربوبيون وربانيون (1/120)
المتدينون عن المعجزات والخوارق والتواصل مع عالم الغيب، وعلاقة ذلك بالنبوة والدين؟
قال: أجل.. لقد كان ذلك من الحجب التي حالت بيني وبين التسليم للدين إلى أن قيض الله لي مشاهد أخرى، كان لها أثرها في تغيير نظرتي للمعجزة والتواصل مع عالم الغيب، أو تخفيف حدة موقفي منها.. وإن شئتم، فسأحكي لكم خمسة منها.
قلنا: فحدثنا عن أولها.
قال: لقد حدث هذا المشهد لي في بلاد الهند.. وقد مررت حينها على بعض من يمارسون بعض الخوارق العجيبة، ورأيت التفاف الناس حولهم، وتعجبهم مما يشاهدونه، وبعد أن انتهوا من ممارساتهم، وجنوا ما جادت به أيدي المشاهدين من الأموال، قام أحدهم، وقال: أرجو ألا تتصوروا أن ما أتينا به خارقا لسنن الله تعالى أو قوانينه التي أجرى عليها كونه.. نحن فقط استعملنا من الوسائل ما لا عهد لأكثر الناس به.. لذلك فإن هذه الخوارق لا تتناقض مع العقل، وإنما مع العادة التي جرت عليها المشاهدة والأعراف.
قال آخر: لذلك نحن لم نقصدكم إلا لنسليكم.. وما أخذنا من أموالكم برضاكم إلا بسبب ما أدخلناه من البهجة والفرحة لقلوبكم.. فاحذروا من الذين يجعلون منا وسيلة لضرب النبوة، وما أقامه الله من المعجزات لأنبيائه، ليكون ذلك برهانا على نبوتهم.
قال أحد الحضور: مع أني أحضر هنا للتسلية والبهجة إلا أن عقلي يرفض الإيمان بالمعجزة.. وما يذكره المتدينون عنها.. فهي في تصوري ليست سوى خرافة.. فما كان الله ليخرق قوانينه التي صممها.
قام أحد الممارسين لتلك الألعاب، وقال: مع أننا لم نأت هنا لنناقشكم، ولسنا أهلا لذلك.. ومع ذلك اسمح لي أن أطلب منك ألا تتحدث إلا عن عقلك.. وإلا فإن عقول
ربوبيون وربانيون (1/121)
أكثر الخلق لا تنكر المعجزات.
قال آخر (1): ذلك أن رمي المعجزة بالخرافة قبل دراستها ليس أمرا منطقيا ولا عقليا، والذي يوحي للناس بأن معنى أن تكون عقلانيا هو أن ترفض المعجزات ولا تصدق بها، كلام تهويلي خطابي، وفيه مصادرة غير مبررة، وهو مما لا وجه لها عقلا؛ لأن العقل لا يستخف ولا يستهين بأي ظاهرة.. والرسولي المؤمن بالأنبياء يقولها بكل يقين: إن الإيمان بالمعجزة لا يتنافى مع المنهج العقلي، بل العقل هو الذي قادنا إلى الإيمان بالمعجزة وما يترتب عليها.
قال آخر: ذلك أن المعجزة في حد ذاتها كظاهرة حسية مغايرة للمألوف وخارقة للقوانين الطبيعية، لا تشكل دليلا على صدق مدعي النبوة، وإنما تحتاج إلى ضم مقدمة أخرى يحكم بها العقل، وهي أن من القبيح على الله عز وجل أن يظهر الإعجاز على يد شخص يدعي كذبا أنه رسول رب العالمين؛ لأن إظهار المعجزة على يدي الكاذب مقارنا لادعائه النبوة، يتضمن إقرارا إلهيا بصدقه، وهو خلاف الحكمة، لأنه يشكل إغراء للناس بالجهل والضلال.. والله عز وجل بمقتضى حكمته أجل وأكرم من أن يضل عباده أو يوقعهم في الحيرة؛ فيكون الأساس في دلالة المعجزة على صدق النبوة هو حكم العقل هذا، وليس مجرد خرق قوانين الطبيعة.
قال آخر: ولذلك، لا يحق للربوبي ـ منكر النبوات ـ الذي يدعي أن مرجعية العقل هي الأساس عنده، أن يرفض المعجزة أو يستخف بها ويتهمها بالخرافة، أو يحكم بكونها مستحيلة عقلا، وكيف يستحيل على خالق هذا الكون بقوانينه أن يجمد هذه القوانين بشكل
__________
(1) استفدنا المادة العلمية في هذا المشهد من: عالم دون أنبياء، ص 143، فما بعدها، ومثلها: الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 3/ 22، ومثلها الكثير من كتب علم الكلام المتخصصة.
ربوبيون وربانيون (1/122)
ظرفي ومؤقت لمصلحة كبيرة وحكمة جليلة تتصل بهداية خلقه وإرشادهم إلى طريق الهدى والصواب؟
قال آخر: ومن هنا، فلسنا متناقضين مع أنفسنا عندما نتحدث عن وجود طريقين للمعرفة، وهما طريق العقل وطريق الوحي، فهذان الطريقان ليسا متنافيين أو متناقضين، كما يحاول البعض أن يصور أو يوحي، في مغالطة تريد الإيحاء بأن اتباع الوحي هو عمل غير عقلي، أو تحاول إيجاد خصومة مفتعلة بين المنهج العقلي والمنهج الديني، فالعقل هو الذي قاد للإيمان بالله تعالى وقاد إلى الإيمان بالوحي، والوحي بدوره يسدد العقل ويرشده في الكثير من المحطات.
قال الربوبي: مع أن عقلي لم يستوعب أكثر ما ذكرتم من معان، لأني لا أؤمن بالنبوات أصلا.. إلا أني أتعجب من ربطكم بين النبوة والمعجزة.. فهلا وضحتم ذلك لعقلي.. لا لعقولكم التي تقبل كل شيء.
قال أحدهم: لا بأس.. فلنفترض أنه جاءنا شخص من مكان بعيد، وادعى أنه طبيب ماهر.. ثم حصل لنا الريب في دعواه، وأردنا منه أن يثبت صحة مدعاه.. ما هي الطرق التي تراها مناسبة ليثبت دعواه؟
قال الربوبي: يمكنه أن يثبت ذلك من خلال شهادة موثوقة من جامعة معروفة، تثبت تخرجه منها، وتصادق على شهادته.. أو يثبت لنا صدقه من خلال التجربة العملية الناجعة، بأن يقوم ـ مثلا ـ وعلى مرأى ذوي الاختصاص بعمل جراحي دقيق وحساس ولو لمرة واحدة أو أكثر، وينجح في ذلك، بما يعرب عن مهارته ويدلل على أنه طبيب حاذق في هذا المجال.. أو يمتحن من قبل أهل الخبرة من الأطباء المعروفين بنزاهتهم، بسؤاله عن بعض القضايا التي لا يعرفها إلا أهل الاختصاص، مما يكشف عن مصداقيته وصحة
ربوبيون وربانيون (1/123)
دعواه.
قال أحدهم: فهل هذه الطرق الثلاثة تختص بالمجال الطبي فقط، أم يمكن تطبيقها في غيره من التخصصات؟
قال الربوبي: بل يمكن اعتماد هذه الطرق وتطبيقها في كل شيء.
قال أحدهم: ولهذا، فنحن قد طبقناها في اختبار دعوى النبوة، فإذا تم اختبار طريق منها أو أكثر، فإن العقل سيحكم بصدقية النبي.
قال الربوبي: مع أني لا أتفق معكم في دعاواكم جميعا.. إلا أني أسألكم عن كيفية تطبيقكم لذلك.
قال أحدهم: أما الطريق الأول، فإن الوثيقة التي تثبت انتساب الأنبياء عليهم السلام إلى الجامعة الإلهية التي تعلم وتدرب وتخرج رسل الله حقا هي عبارة عن الكتاب السماوي الذي يأتوننا به، والذي يمثل بحق شهادة بينة على صدقهم، وذلك من خلال ما يمثله من حكمة بليغة، وروحانية متميزة ودستور أخلاقي راق بالمستوى الذي يعجز البشر العاديون عن الإتيان بمثله، مهما بلغوا من الفطنة والذكاء.
قال آخر: وهذا ما نعتقده وندعيه في شأن القرآن الكريم وندعو الآخرين إلى اختبار دعوانا هذه، فقد استطاع هذا الكتاب بحكمته أن يبني أمة ويفجر طاقاتها وينقلها من حالة التخلف والجهل إلى نور العلم ورحاب الحضارة، وما تزال رسالته ومضامينه غضة طرية ومواكبة لشتى الأزمنة والعصور.
قال آخر: وأما الطريق الثاني، فيتمثل بالعمل الإعجازي الخارق للمألوف والمعهود من نواميس الطبيعة والذي يقوم به النبي عندما يُطلب منه ذلك، بحيث تظهر على يديه ـ بشكل تلقائي ودون تعليم أو محاكاة لشيء موجود ـ آية معجزة لا لبس فيها، ولا تعتمد على
ربوبيون وربانيون (1/124)
خدعة بصرية أو لعبة معينة.
قال آخر: والمعجزات ليست بالضرورة أمرا خارج نطاق القوانين، فربما كانت تعتمد على قوانين معينة، لكن حيث لم يتسن لنا اكتشافها، خلنا أنها تمثل خرقا للقوانين.
قال آخر: ذلك أنها في الواقع تمثل خرقا للمألوف من القوانين، وليست خرقا للقوانين نفسها.. ولذلك، فإنه عندما يأتينا شخص بهذه المعجزة المرافقة لدعوى النبوة ودون سابق تصميم وإنذار، ومع كونه من خارج نطاق أهل التخصص أو المتدربين على أيدي ذوي الخبرة، فهذا يمثل شهادة صدق على دعواه.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن المعجزة لا تنحصر بالعمل الحسي الخارق للقوانين الطبيعية، فقد تكون عملا أو جهدا رساليا تربويا يعمل على صناعة الإنسان وانتشاله على ضوء دستور بديع من دركات الحضيض إلى الأعالي حيث الحياة السامية والرقي والتكامل.
قال آخر: ذلك أنه إذا كان إقدام مدعي صفة الطبابة على عمل جراحي في جسد إنسان معين هو شهادة على صدقه في دعواه، فإن قيام مدعي النبوة بعمل إصلاحي كبير في المجتمع، معتمدا ومستندا إلى منظومة فكرية وأخلاقية وروحية غير معهودة في زمانه، هو الآخر شاهد على صدق دعواه.
قال آخر: وأما الطريق الثالث، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا يُسألون ويُختبرون من قبل بعض الناس لإثبات صدقهم، وذلك بسؤالهم عن أخبار غيبية لا يعلمها أحد من الناس بحسب وسائلهم المتاحة لهم، وقد جاءت إخباراتهم صادقة ومطابقة للواقع، مع أنه لم يكن ثمة مؤشرات اجتماعية أو سياسية تساعد على التنبؤ بما قالوه وتوقع حدوثه، ولا مجال لدعوى أنها مجرد تحليلات صادرة عن إنسان حكيم قرأ المعطيات بدقة نظر وتنبأ بها.
قال آخر: ما رأيك ـ مثلا ـ لو أن نصا صدر عن شخص متخصص قبل آلاف أو
ربوبيون وربانيون (1/125)
مئات السنين يتحدث فيه عن نظرية علمية في منتهى الدقة لم تكن معروفة آنذاك، بل كشف عنها مستقبل العلم الحديث، ألا يكون ذلك دليلا على نبوغه العلمي؟
قال آخر: وهكذا الحال في إخبار نبي من الأنبياء عن أمر جلل سوف يحدث في المستقبل مع أنه لا وجود لمؤشرات تساعد على وقوعه، ويكون تنبؤه به مقرونا بدعوى النبوة وأن مصدره في ذلك هو وحي الله؛ فإن ذلك سيكون دليلا قويا وحاسما على صدقه في ادعاء النبوة أو ـ على الأقل ـ مؤشرا على ذلك، وإذا ما انضم إليه مؤشرات أخرى، فإن ذلك سيورث اليقين بصدق.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك كله، فثمة طرق أخرى لاختبار صدق الأنبياء عليهم السلام، ومن أبرزها دراسة حياتهم وأقوالهم وأفعالهم، والمقارنة بين ما جاءوا به وبين الموروث الثقافي في مجتمعهم، وملاحظة مدى استقامتهم ونزاهتهم وابتعادهم عن الأطماع والأهواء، والتزامهم العملي بما جاءوا به ودعوا الآخرين إليه.. وغير ذلك من الشواهد المستمدة من حياتهم، فإن حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته.
قال آخر: ذلك أن الأنبياء الذين صدقهم الناس اعتمدوا هذه الطرق العقلية لإثبات دعواهم.
قال آخر: هذا ما ندعيه ويدعيه التاريخ الديني، وليس أمام الربوبي سوى التثبت من ذلك بدراسة تاريخ الأديان دراسة تحقيق ونظر، ولا يحق له التسرع برفض ذلك ورمي هذه الأمور بالخرافات واتهام المؤمنين بالرسالات السماوية بأنهم غير عقلانيين.
قال آخر: فالاتهام المتسرع هو حرفة العاجز وسلاح الضعيف والفاشل، فالعاقل لا يتسرع إلى الإنكار قبل التحري والبحث، والقوي في حجته لا يتهرب من الحوار ولا يتخذ مواقف مسبقة دون برهان أو دليل، بل سيرة العقلاء ودأب الحكماء قائم ـ في مثل هذه
ربوبيون وربانيون (1/126)
الحالات ـ على طلب الحجة والبرهان، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]
قال الربوبي: لكن.. بم تردون على من يذكر لكم أن لديه شكوكا كثيرة في صدقية التاريخ الديني، فليس ثمة ما يضمن صحته؟
قال أحدهم: نحن نوافقه الرأي على ذلك، فنحن لدينا الكثير من الشكوك أيضا، إلا أن ذلك لا يعفينا من مؤونة البحث والتحري عن الحقيقة، فالحقائق لا تأتي إلينا دائما، بل علينا أن نذهب إليها ونفتش عنها، نقول هذا مع أننا نزعم أن النص الديني الإسلامي المتمثل بالقرآن هو نص لم يتعرض للتزوير والتحريف.. ولذلك، فإن على الربوبي المنكر للنبوات، وللإسلام خصوصا أن يختبر ذلك بدرس هذا النص دراسة موضوعية بعيدة عن الأحكام المسبقة..
قال آخر: ونحن نعلم بأن لديك العديد من الأسئلة والإشكالات على بعض المفاهيم القرآنية، ولسنا ننكر عليك ذلك فهذا حقك، ولكن نصيحة العقل تقول: إن نصا دينيا كالقرآن وبهذا الزخم التاريخي الهائل الذي جعله يأسر قلوب مئات الملايين من العقلاء، وتنهمر دموعهم عند تلاوة آياته، فإن من الخفة بمكان استسهال رميه بالخرافة، أو التعامل معه بهزء وسخرية.
قال آخر: ولذلك ننصحك أن تفكر مليا، وتتدبر تدبرا سويا، وتسأل أهل الحكمة قبل التسرع بالرفض، فلربما كان ثمة وجه يرفع الشبهة أو جواب يزيل الاعتراض.
قالوا: حدثتنا عن المشهد الأول.. فحدثنا عن الثاني.
قال: غادرت ذلك المحل، وأنا لا أعلم ما حصل بعدها لذلك الربوبي.. ولو أنه قد
ربوبيون وربانيون (1/127)
بدا لي أكثر ليونة بعد ذلك الحوار الهادئ الذي سمعه من أولئك العامة البسطاء.
وفي الطريق سمعت رجلا يخاطب نفرا من الناس مجتمعين، وهو يقول لهم (1): أنا أتفق معكم في اقتران الحوادث بالأسباب.. فكل العلماء والفلاسفة يقولون ذلك.. بل عامة الناس يذكرونه في أقوالهم التي تجري مجرى العادة.. فالأسباب موجودة لا خلاف فيها من أحد، لكن الخلاف الأكبر في السبب: ما هو؟.. وماذا يعمل؟.. وهل الأسباب العاملة عنصر مستقل في الكون، والحوادث المعمولة عنصر آخر يخالفه في الكنه والقوة؟.. وهل السببية قوة تنتقل بين الأشياء والحوادث، أو هي قوة خاصة ببعض الأشياء والحوادث؟
قال آخر (2): صدقت.. فنحن نعلم أن لكل شيء سببا.. ما في ذلك خلاف.. لكن ما هو السبب؟.. هل هو موجد الشيء الذي خلقه، ولولاه لم يخلق؟.. أو هو حادث سابق للشيء، أو مقترن به يلازمه كلما حدث على نسق واحد؟
قال آخر: أما كون السبب هو موجد الشيء فيمنعه في العقل اعتراضات قوية كأقوى ما يكون الاعتراض في المسائل الفكرية.. فكل ما يقرره العقل وهو واثق منه أن سبب الشيء يسبقه، أو يقترن به كلما حدث على نسق واحد.. لكن السبق لا يستلزم الإيجاد، ويضربون لذلك مثل النور والصوت في قذيفة المدفع؛ فإن العين ترى النور قبل أن تسمع الأذن صوت القذيفة، ولا يقول أحد: إن النور هو سبب الصوت، أو إنه هو سبب القذيفة، وإن تكررت رؤيته وسماع الصوت بعده مئات المرات أو ألوف المرات.. وكذلك صياح الديكة قبل طلوع النهار.. وغير ذلك من المتلاحقات التي تقترن على ترتيب واحد، ولا يستلزم تلاحقها أن يكون السابق منها موجدًا لما لحقه؛ بأي معنى من معاني الإيجاد.
__________
(1) استفدنا المادة العلمية في هذا المشهد من كتاب: الفلسفة القرآنية، العقاد، ص 103، فما بعدها.
(2) الفلسفة القرآنية، العقاد، ص 103.
ربوبيون وربانيون (1/128)
قال آخر: كذلك يعترض العقل على السببية على المعنى المتقدم بأن التلازم بين الأسباب والنتائج في وقائع الطبيعة ليس تلازمًا عقليًّا كتلازم المقدمة والنتيجة في القضايا العقلية، وإنما هو تلازم المشاهدة والإحصاء، وغاية ما نملكه فيه أن نسجل هذه المشاهدة أو هذا الإحصاء؛ فحدوث الصوت من القذيفة يقع على التواتر كما نسمعه، ولكن لا يلزم عقلًا من تسلسل الحوادث التي تقع مع القذيفة أن نسمع ذلك الصوت، وإنما تستلزم حدوثه؛ لأنه قد حدث قبل ذلك مرات، ولا زيادة على ذلك في دواعي الاستلزام.. فكل ما هنالك ـ مما يسمى بالأسباب الطبيعية ـ إنما هو مقارنات في الحدوث، ولا تفسير فيها أمام العقل لتعليل الإيجاد.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإنا إذا نظرنا إلى أصول الأسباب الكبرى نجد أنه يتعذر على العقل أن ينسب الظواهر الطبيعية إلى هذه الأسباب التي تلازمها، ثم يقف عندها، فمن العسير على العقل أن يسلم أن الظواهر المادية هي أسباب الحوادث بطبيعة مستمدة منها ملازمة لها، مستقرة فيها.
قال آخر: لأن التسليم بهذا تسليم بوجود مئات أو ألوف من المواد كلها خالد، وكلها موجود بذاته، وكلها مع ذلك مؤثر في غيره، وهو مستحيل.
قال آخر: فهل هناك ألوف من المواد، أو هناك مادة واحدة؟.. إن كان هناك ألوف من المواد كلها خالد بصفاته وطبائعه، فمن العجيب في العقل أن يكون الخالد مؤثرًا في خالد مثله، وأن يوجد الشيء منذ الأزل بطبيعته وخصائصه؛ ليؤثر في شيء آخر موجود مثله منذ الأزل بغير تلك الخصائص وغير تلك الصفات.
قال آخر: أما إن كانت هذه الخصائص تحولات ترجع إلى مادة واحدة في القدم فقد بطل أنها هي أسباب الحوادث بطبعها، وتعين أن تكون عارضة مؤثرة بما أودع فيها على
ربوبيون وربانيون (1/129)
حسب تلك التحولات، والتي ترجع في النهاية إلى مصدر واحد لا تعدوه.
قال آخر: وبذلك، فإن العقل ينتهي في مسألة الأسباب إلى نتيجة واحدة تصح عنده بعد كل نتيجة؛ وهي أن الأسباب ليست هي موجدات الحوادث، ولا هي مقدمة عليها بقوة تخصها دون سائر الموجودات، لكنها مقارنات تصاحبها ولا تغني عن تقدير المصدر الأول لجميع الأسباب وجميع الكائنات.
قال آخر: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 62].. وقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].. وقوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40]
قال آخر: ومثل ذلك ما ورد في القرآن الكريم من تدبير الله تعالى لكل شيء، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 57]
قال آخر: والذي ينساق عندنا في مساق العقل أن الحوادثَ، كبيرَها وصغيرها، لا يمكن أن تحدث إلا بأمر الخلق المباشر من إرادة الله.. فلا ينساق عندنا في مساق العقل أن الحادثة تحدث بفعل الأسباب أو النواميس، ثم بفعل الإرادة الإلهية؛ لأن الناموس لا يملك وحده قدرة الانطلاق والتوافق التي يسبب بها ألف حادث على نسق واحد، ولا بد له من القدرة التي يتابع بها هذا التسبب مرة مرة، وحادثًا حادثًا، بلا فرق هنا بين الجملة والتفصيل.. فلا فرق هنا بين الحادث الذي يقع مرة واحدة، والحادث الذي يقع ملايين ملايين المرات؛ فكلها تتوقف في بادئ الأمر على إرادة الخلق والإنشاء: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾
ربوبيون وربانيون (1/130)
[البقرة: 117]
قال آخر: وقوله تعالى: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: 117] تقريب إلى الذهن في المجاز، والأمر أهون من ذلك جدًّا في إرادة الخلاق.. وإنما يهال الذهن المغلق بهذا التقدير؛ لأنه يظن أن مسألة الخلق مسألة حمل وانتقال، وتحريك أثقال، وحيرة بين الأرقام والمقادير الموزعة في آفاق الفضاء السحيق، وهي ـ على هذا الظن ـ شيء تختلف فيه القدرة على القليل، والقدرة على الكثير.
قال آخر: لكنا نحن ـ معشر البشر ـ قد رأينا بأنفسنا أن الموجودات المادية تنتهي في حسابنا إلى معانٍ ومعادلات رياضية، فالإيجاد إذن بالنسبة لصاحب الوجود المطلق هو مسألة معقولات تقع لأنها قائمة في العقل المحيط بجميع الكائنات، ولا فرق بين ما يقع منها كثيرًا متواترًا، أو يقع قليلًا نادرًا، ولا بين البعيد منها والقريب؛ لأنه لا بعيد في العقل المطلق ولا قريب، ولا حاجة إلى انتقال ولا حمل أثقال.
قال آخر: وبناء على هذه المقدمات نعرف أن المعجزات شيء لا يخالف العقل، لكنه يخالف المألوف والمتواتر في المحسوس.. فإذا كان كل عمل من الأعمال خلقًا مباشرًا في إرادة الله فلا فرق في حكم العقل بين وقوع المعجزة، ووقوع المشاهدات المتكررة في كل لحظة، ولا يكون الاعتراض على المعجزة أنها شيء يرفضه العقل، ولا يجوز في التفكير، وإنما يكون الاعتراض الصحيح: هل هي وقعت فعلًا أو لم تقع؟ وهل هي لازمة أو غير لازمة للإقناع؟
قال آخر: ذلك أنه لا يُمتنع عقلًا أن تقع المعجزة، وإنما الذي يُمتنع عقلًا أن تقع عبثًا لغير ضرورة مع إمكان الاستغناء عنها، إذا تبين أن إقناع المكابرين كان ممكنًا بغيرها.
قال آخر: ذلك أنه يمكن أن تتغير نواميس الكون، وقوانين الطبيعة كلها دفعة واحدة.. فلا فرق في ذلك بين تغييرها في فترة ما، وتغييرها في جميع الآفاق والأكوان.. لكن
ربوبيون وربانيون (1/131)
الذي لا يمكن هو وقوع التغيير عبثًا، مع إمكان اجتنابه والاستغناء عنه.
قال آخر: أجل.. فتغيير الحوادث كلها في قدرة العقل المطلق أهون من تغيير الفرض في عقل الرياضي وهو مغمض العينين، فهذه قضية عقلية مجردة يستوي فيها حساب الكثير، وحساب القليل، لكن الشيء الذي لا يقع في العقل المطلق هو العبث الذي لا يساغ في العقل المطلق، ولا في سائر العقول.
قال آخر: وقد أشار القرآن الكريم إلى الخوارق من باب الإعجاز، أو من باب السحر، فردها كلها إلى السبب الأخير، الذي ترد إليه جميع الأسباب؛ وهو إرادة الخالق أو إذن الله.. كما قال تعالى عن المسيح عليه السلام: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 49]
قال آخر: ولذلك، فإن الحكم في جميع الخوارق أن العقل لا يمنع وقوعها، بل المرجع فيها إلى مطابقته للحكمة الإلهية، وضرورة التوسل به أو إمكان التوسل بغيره في مقام الإقناع.
قالوا: حدثتنا عن المشهد الثاني.. فحدثنا عن الثالث.
قال: لقد تعرفت في هذا المشهد على الفوارق التي تميز المعجزة التي يعتقد بها المتدينون عن غيرها من الخوارق، ذلك أني كنت أضع الجميع في جبهة واحدة، ثم أصوب عليهم سهام انتقادي.
وقد بدأ ذلك المشهد من رجل كان يفكر بنفس تفكيري مررت به، وهو يحادث
ربوبيون وربانيون (1/132)
رجلا آخر، كان يبدو أكثر حكمة وعقلا.
قال الأول: ألا ترى أن المعجزة التي تذكر أنها دليل من دلائل النبوة في إمكان أي ساحر أو بهلوان أن يقوم بها.. الفرق بينهما فقط في أن أصحابك ادعوا النبوة، وغيرهم لم يدعها.
قال الثاني: ما تقوله غير صحيح.. فالفرق بينهما شديد جدا.. وسأذكر لك ستة منها لعلها تكفي عقلك ليقتنع بتلك الفروق.
قال الأول: فما أولها؟
قال الثاني (1): أول الفروق وأهمها أن ما تنتجه الرياضة والسحر والشعوذة من آثار خارقة للعادة، جميعها خاضعة لمناهج تعليمية، لها أساتذتها وتلامذتها، وتحتاج إلى الممارسة المتواصلة والدؤوبة حتى يصل طالبها إلى النتائج المطلوبة، فينام على مسامير مُحَدَّدَة، وتكسر الصخور بالمطارق على صدره، من دون أن يصاب بجراح في صدره أو ظهره، أو يقوم بحركات توجب تأثيراً نفسياً على إنسان آخر، فيُذهب وَعْيَه ويتصرف فيه، أو يقوم بألاعيب خفيّة يبهر بها العيون، ويستولي بها على القلوب، فيصوّر غير الواقع واقعاً متحققاً.. وكل هذا آثر التعليم والتعلّم وكثرة الممارسة والمجاهدة.
قال الأول: والإعجاز الذي يأتي به الأنبياء؟
قال الثاني: الإعجاز الذي يقوم به الأنبياء عليهم السلام منزه عن هذا الوصمة، فإن ما يأتونه من الأعمال المدهشة الخارقة للعادة، لم يدرسوه في منهاج، ولا تلقوه على يد أستاذ، ولا قضوا أعمارهم في التدرب والتمرن عليه.. ولأجل ذلك يحكي الله تعالى أن موسى عليه
__________
(1) استفدنا المادة العلمية في هذا المشهد من كتاب: الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 3/ 109، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/133)
السلام عندما رجع من مدين إلى مصر فوجئ برؤية تلك المعجزات التي بهرته، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَأَىهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [القصص: 29 ـ 32].. ولذلك كان ما رآه أو قام به عملا إبداعيا غير مسبوق بتعلم ولا تمرن، ولذلك استولى عليه الخوف في بداية الأمر، كما قال تعالى: ﴿يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل: 10]
قال الأول: فما الثاني؟
قال الثاني: الإعجاز المرتبط بالنبوة يجب أن يكون مقترناً بدعوى السفارة والنبوة، فإذا تجرّد عنها، وكان صاحبها صالحا يسمى حينها كرامة، لا معجزة، كما قال تعالى عما أكرم به مريم عليها السَّلام: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37].. فحضور الرزق بلا سعي طبيعي لم يكن مقترناً بدعوى النبوة، فلذلك لم يوصف بالإعجاز.. وهكذا نجد أكثر من يقومون بالخوارق أو يدعون أنهم يقومون بها لا يذكرون أنهم أنبياء، ولا أي وظيفة أخرى ترتبط بالنبوة.
قال الأول: فما الفرق الثالث؟
قال الثاني: هو في تحديد القدرة، فقدرة السَحَرة في حدّ القدرة البشرية، وقابلة
ربوبيون وربانيون (1/134)
للمعارضة، بخلاف إعجاز الأنبياء.. وقد أشار الله تعالى إلى هذا الفرق عند ذكره لقصة موسى عليه السلام مع السحرة، حيث أدرك السحرة الفرق الكبير بين عملهم التخييلي وبين ما جاء به موسى عليه السلام من الخوارق، والتي كانت حقيقية لا علاقة لها بالخيال، كما قال تعالى: ﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 113 ـ 121]
قال الأول: فما الفرق الرابع؟
قال الثاني: الرابع هو أنّ السَّحَرة والمرتاضين، وإن كانوا يأتون بالعجائب ويفعلون الغرائب، إلاّ أنّ واحداً منهم لا يجرؤ على تحدّي الناس، ودعوتهم إلى مقابلته، لعلمهم بأنّ الدعوة إلى التحدّي لن تتم لصالحهم، إذ ما أكثر السحرة وأهل الرياضة من أمثالهم.. وهذا بخلاف أهل الإعجاز، فإنّهم لا يأتون بمعجزة إلاّ ويقرنوها بالتحدّي، ولذلك أُمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: 88]
قال الأول: فما الفرق الخامس؟
قال الثاني: أن الأنبياء عليهم السلام يتبنون من خلال تلك الآيات التي يجريها الله تعالى على أيديهم أهدافاً عالية، ويتوسلون بها لإثبات أحقية تلك الأهداف، ونشرها.. وهي تتمثل في الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده، وتخليص الإنسان من عبودية الأصنام والحجارة والحيوانات، والدعوة إلى الفضائل ونبذ الرذائل، واستقرار النظام الاجتماعي للبشر، وغير
ربوبيون وربانيون (1/135)
ذلك.. وهذا بخلاف المرتاضين والسحرة، فغايتهم إمّا كسب الشهرة والسمعة بين الناس، أو جمع المال والثروة، وغير ذلك مّما يناسب متطلبات القوى البهيمية، ولذلك لا ترى مرتاضاً أو ساحراً يقوم بنشر منهج أخلاقي أو اجتماعي فيه إنقاذ البشر من الظلم والاضطهاد، ويدعو إلى التقوى والعفة وما شابه.. والسبب في ذلك واضح، فإنّ الأنبياء عليهم السلام خريجوا مدرسة إلهية تزخر بالدعوة إلى الفضائل واجتناب الرذائل، فلا يقومون بالإعجاز إلاّ لنشر أهداف مدرستهم.. وأما غيرهم، فهم خريجوا المدرسة المادية الّتي لا هَمَّ لها إلاّ إرضاء ميولها الحيوانية، وإشباع لذّاتها وشهواتها.
قالوا: حدثتنا عن المشهد الثالث.. فحدثنا عن الرابع.
قال: لقد كان هذا المشهد من المشاهد التي صححت لي الكثير من أخطائي حول ارتباط المعجزة بالعقل.. وقد ميز هذا المشهد أن الحوار فيه لم يكن بين أصحابي من الربوبيين وغيرهم من المتدينين، وإنما بين المتدينين أنفسهم.. بل بين معلم وتلاميذه الصغار.
فبعد أن تركت ذينك الرجلين يتحدثان، سرت في تلك المدينة إلى أن وجدت رجلا في حلقه مع تلاميذ لهم، وهو يسألهم قائلا: والآن.. أخبروني عن المعجزات، وهل يمكن اعتبارها خارقة للعقل؟
قال أحدهم: يستحيل ذلك.. فالله الذي خلق لنا العقول يستحيل أن يأمرنا باعتقاد ما يخالفها.
قال آخر: كيف ذلك، وقد أمرنا الله تعالى باستعمال العقل فيما لا يعد من المواضع في القرآن الكريم؟
قال المعلم: فلم تسمى خوارق إذن؟
ربوبيون وربانيون (1/136)
قال أحدهم: لأنها خوارق للعادات.. لا للعقول.
قال المعلم: فما الفرق بينهما؟
قال أحدهم (1): الأمور الخارقة للعقل هي المضادة لحكم العقل البات، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما، ووجود المعلول بلا علة، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين.. فإن هذه أمور يحكم العقل باستحالتها وامتناع تحققها.. أما الأمور الخارقة أو المخالفة للقواعد العادية، فهي تُعد محالا حسب الأدوات والأجهزة العادية، والمجاري الطبيعية، ولكنها ليست أمرا محالا عقلا.
قال المعلم: فهلا ضربتم لنا أمثلة توضح ذلك.
قال أحدهم: من الأمثلة على ذلك ما جرت به العادة من أن حركة جسم من مكان إلى مكان آخر تتحقق في إطار عوامل وأسباب طبيعية بدائية أو وسائل صناعية متحضرة.. ولكن لم تعرف العادة أبدا حركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين، بدون تلك الوسائط العادية.
قال آخر: لكن هذا غير ممتنع عقلا، إذ لا يمتنع أن تكون هناك أسباب أخرى لتحريك هذا الجسم الكبير، لم يقف عليها العلم بعد، ومن هذا القبيل ما حكاه القرآن الكريم من قيام من أوتي علما من الكتاب بإحضار عرش بلقيس، ملكة سبأ، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام، في طرفة عين، بلا توسط شيء من الأجهزة المادية المتعارفة، بل بأسباب غيبية كان مطلعا عليها.. فعمله هذا الخارق للعادة، غير خارق للعقل لما ذكرنا، وهو معجزة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أن معالجة الأمراض الصعبة كالسل والعمى، أمر
__________
(1) استفدنا المادة العلمية في هذا المشهد من كتاب: الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، 3/ 70، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/137)
ممكن لذاته عقلا، لكنه كان أمرا محالا عادة في القرون السالفة، لقصور علم البشر عن الوقوف على الأجهزة والأدوية التي تعيد الصحة إلى المسلول، والبصر إلى الأعمى.
قال آخر: ومع تقدم العلم تذللت الصعاب أمام معالجة هذه الأمراض، فصار بإمكان الطبيب الماهر القيام بالمعالجة عن طريق الأدوية والعمليات الجراحية.
قال آخر: وفي المقابل هناك طريقة أخرى للعلاج، وهي الدعاء والتوسل إلى الخالق تعالى.. والعلاج ـ بكلا الطريقتين ـ يشترك في كونه أمرا ممكنا عقلا، غير أنه يختلف في الطريقة الأولى عن الثانية، بالطريق والسبب.
قال آخر: فالطبيب الماهر يصل إلى غايته بالأجهزة العادية، فلا يعد عمله معجزة ولا كرامة، والنبي ـ كالمسيح عليه السلام وغيره ـ يصل إلى نفس تلك الغاية عن طريق غير عادي، فيسمى معجزة.. فالعمل في كلتا الصورتين غير خارق لأحكام العقل، إلا أنه موافق للعادة في الأولى دون الثانية.
قال المعلم: ما دمتم قد ذكرتم هذا؛ فما تقولون فيمن يذكر أن المعجزات مخالفة لأصل العلية؟
قال أحدهم: لم نفهم ما تعني معلمنا الكريم.
قال المعلم: أنتم تعرفون أن بديهة العقل تحكم بأن كل ظاهرة ممكنة، تحتاج في تحققها إلى علة.
قال أحدهم: أجل.. هذا أمر لم يختلف فيه اثنان، وعليه أساس التجربة والبحث العلمي، فإن العلماء ـ في المختبرات وغيرها ـ يبحثون عن علل تكون الظواهر، وموجداتها، فشأنهم كشف الروابط بين العلل المادية ومعاليلها.
قال المعلم: لكن الكتب السماوية، والسير التاريخية، تنسب إلى الأنبياء عليهم
ربوبيون وربانيون (1/138)
السلام، أمورا لا تتفق بظاهرها مع هذا الأصل، حيث تنسب إلى موسى عليه السلام أنه ألقى عصاه الخشبية الصماء، فانقلبت حية تسعى.. وأن المسيح عليه السلام كان يمسح بيده على المرضى فيبرؤون.. وأن الحصى سبحت في كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك من المعجزات.. والاعتقاد بهذه لا يجتمع مع قبول الأصل العقلي المذكور، لأن الثعبان يتولد من البيضة بعد مرورها بمراحل عديدة من الانفعالات الداخلية.. وإزالة المرض وعود الصحة، رهن استعمال الأدوية وإجراء العمليات الجراحية.. والتسبيح نوع تكلم يحتاج إلى حنجرة وفم ولهوات، يقوم به العاقل.. وهكذا.. وبذلك فإن ظهور المعجزات مع عدم علل مادية تظهرها، يعد خرقا لقانون العلية، وقولا بتحقق المعلول بلا علة.. فما تقولون في هذا؟
قال أحدهم: إن المعترض بما ذكرت ـ معلمنا الكريم ـ خلط بين عدم وجود العلة المادية التي اعتاد عليها الإنسان في حياته، وعدم العلة على الإطلاق؛ فالذي ييناقض قانون العلية هو القول بأن المعجزة ظاهرة اتفاقية لا تستند إلى علة أبدا، وهذا مما لا يقول به أحد من المتدينين.
قال آخر: أما القول بعدم وجود علة مادية متعارفة للمعجزة، فليس هو بإنكار لقانون العلية على الإطلاق ونفيا للعلة من الأساس، وإنما هو نفي دور وتأثير قسم خاص من العلل، ونفي الخاص لا يكون دليلا على نفي العام.
قال آخر: وهذا القسم الخاص من العلل، المنفي في مورد المعجزة، هو العلل المادية المتعارفة التي أنس بها الذهن، ووقف عليها العالم الطبيعي، واعتاد الإنسان على مشاهدتها في حياته.. لكن لا يمتنع أن يكون للمعجزة علة أخرى لم يشاهدها الناس من قبل، ولم يعرفها العلم، ولم تقف عليه التجربة.
قال آخر: وبعبارة أخرى، كون المعجزة معلولا بلا علة شيء، وكونها معلولة لعلة
ربوبيون وربانيون (1/139)
غير معروفة للناس والعلم شيء آخر.. والباطل هو الأول، والمدعى هو الثاني.
قال المعلم: ما دمتم قد ذكرتم هذا.. فما هي العلة المحدثة للمعجزة؟
قال أحدهم: في ذلك احتمالات متعددة.. منها أن تكون العلة هي الله تعالى، فهو من يقوم بإيجاد المعجزات والكرامات مباشرة من دون توسط علل وأسباب.. فكما أنه من أوجد المادة الأولى، وأجرى فيها عللا وأنظمة، قام في فترات خاصة بخلق الثعبان من العصا الخشبية، وفجر الماء من الصخور الصماء.. وغير ذلك من خوارق الطبيعة والعادة.
قال آخر: لكن هذا ـ وإن كان أمرا ممكنا، لعموم قدرته تعالى على كل شيء ممكن بذاته ـ إلا أن سنة الله تعالى التي أجراها في الكون، هي أن يكون لكل شيء سببا وعلة.. ولذلك، فإنه من المستبعد أن يخالف الله تعالى سنته في هذا المجال المعجزات.
قال آخر: بالإضافة إلى هذا الاحتمال، هناك احتمال ثان، وهو أن تكون العلة المحدثة للمعجزة، علة مادية غير متعارفة، اطلع عليها الأنبياء عليهم السلام في ظل اتصالهم بعالم الغيب.
قال آخر: ذلك أنه لا بعد أن يكون للشيء علتان، إحداهما يعرفها الناس، والثانية يعرفها جمع خاص فيهم.
قال آخر: ويمكن تقريب ذلك بملاحظة إثمار الأشجار، فإن له علة مادية يعرفها الزارع العادي، فتثمر في ظل تلك العلة بعد عدة أعوام، وهناك خبراء من مهندسي الزراعة واقفون على خصوصيات في التربة والأشجار والبيئة والمياه وغير ذلك، توجب إثمار الأشجار في نصف تلك المدة مثلا.
قال آخر: فإذا كان هذا ملموسا لنا في الحياة، فلا نستبعد أن يقف الأنبياء المتصلون بخالق الطبيعة، على أسرار ورموز فيها، يقدرون بها على إيجاد المعجزات.
ربوبيون وربانيون (1/140)
قال آخر: بالإضافة إلى هذا الاحتمال، هناك احتمال ثالث، وهو أن المعجزات تتحقق بفعل الملائكة عليهم السلام.. ذلك أن الله تعالى وصفهم بقوله: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ [النازعات: 5]، أي بأمر منه سبحانه، عند إرادة النبي إثبات نبوته بها.. ولعل من هذا القبيل تمثل الروح الأمين على السيدة مريم، كما في قوله تعالى: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 17]
قال آخر: بالإضافة إلى هذا الاحتمال، هناك احتمال رابع، وقد ذهب إليه بعض الفلاسفة، وإدراك صحته يتوقف على معرفة القدرة العظيمة التي تمتلكها النفس البشرية، حيث يذكر هؤلاء أن الإنسان كلما ازداد توجها إلى باطنه، وانقطاعا عن الظواهر المادية المحيطة به، كلما تفجرت مكامن قدرات نفسه وتأجج أوار طاقاتها، وبالعكس، كلما ازداد انغماسا في دركات الملذات، وإشباع الغرائز، كلما خمدت طاقاتها وانطفأت قدراتها.
قال آخر: ويستدلون لذلك بما يقوم به المرتاضون من خوارق الأفعال وعجائبها، حيث يرفعون الأجسام الثقيلة التي لا يتيسر رفعها إلا بالرافعات الآلية، ويستلقون على المسامير الحادة، ثم تكسر الصخور الموضوعة على صدورهم بالمطارق.. وغير ذلك مما يراه السائح في بلاد الهند وغيرها، وتواتر نقله في وسائل الإعلام كالجرائد والمجلات والإذاعات.. وكل ذلك دليل قاطع على أن في باطن الإنسان قوى عجيبة لا تظهر إلا تحت شرائط خاصة.
قال آخر: وبعبارة أخرى، فإن نفس الإنسان كما تسيطر على أعضاء البدن، فتنقاد لإرادتها، وتتحرك قياما وجلوسا بمشيئتها، فكذلك تسيطر ـ في ظل تلك الظروف الخاصة ـ على موجودات العالم الخارجي، فتقودها بإرادتها، وتخضعها لمشيئتها، وتقدر، بمجرد الإرادة، على إبطال مفعول العلل المادية في مقام التأثير، وغير ذلك من الأفعال.
ربوبيون وربانيون (1/141)
قال آخر: وليس القيام بعجائب الأمور من خصائص المرتاضين، بل إن هناك أناسا مثاليين، أفنوا أعمارهم في سبل العبادة ومعرفة الرب، بلغوا إلى حد قدروا معه على خرق العادة والمجاري الطبيعية.
قال آخر: وأذكر أن ابن سينا قال في هذا المجال: (إذا بلغك أن عارفا أطاق بقوته فعلا، أو تحريكا، أو حركة تخرج عن وسع مثله، فلا تتلقه بكل ذلك الإستنكار، فقد تجد إلى سببه سبيلا في اعتبارك مذاهب الطبيعة.. وإذا بلغك أن عارفا حدث عن غيب فأصاب، متقدما ببشرى أو نذير، فصدق ولا يتعسرن عليك الإيمان به، فإن لذلك في مذاهب الطبيعة أسبابا معلومة) (1)
قال آخر: ومثل ذلك قال صدر المتألهين: (لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوة إلهية، فيطيعها العنصر في العالم المادي، كإطاعة بدنه إياها؛ فكلما ازدادت النفس تجردا وتشبها بالمبادئ القصوى، ازدادت قوة وتأثيرا فيما دونها؛ فإذا صار مجرد التصور سببا لحدوث هذه التغيرات ـ طاعة البدن للنفس ـ في هيولى البدن، لأجل علاقة طبيعية وتعلق جبلي لها إليه، لكان ينبغي أن يؤثر في هيولى العالم مثل هذا التأثير، لأجل اهتزاز علوي للنفس، ومحبة إلهية لها، فتؤثر نفسه في الأشياء) (2)
قال آخر: ويدل لهذا الذي قاله هؤلاء ما يذكره الله تعالى من أفعال السحرة الواقعة بإذنه تعالى، كما قال تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 102]
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فهناك من الآيات الكريمة ما هو أصرح منها في نسبة
__________
(1) الإشارات والتنبيهات، مع شرح المحقق الطوسي ج 3 ص 397.
(2) المبدأ والمعاد، ص 355.
ربوبيون وربانيون (1/142)
الخوارق إلى أصحاب النفوس القوية، كما ورد في أحوال سليمان عليه السلام عندما طلب من الملأ إحضار عرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين قبل أن يأتوه مسلمين، فذكر عفريت من الجن إنه قادر على حمله والإتيان به قبل انفضاض مجلس سليمان، ولكن من كان عنده علم من الكتاب قال إنه قادر على الإتيان به قبل أن يرتد طرف سليمان إليه، وبالفعل، بأسرع من لمح البصر، كان العرش ماثلا أمامه.
قال آخر: وفي القرآن الكريم إشارات إلى هذا المعنى حيث ينسب تعالى الإتيان بالمعجزة إلى نفس الرسول بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 38]، فإن الفاعل في (يأتي) هو الرسول المتقدم عليه.
قال آخر: ويؤيد هذا الاحتمال ما ورد في وصف الأنبياء عليهم السلام بأنهم جند الله، وأنهم منصورون في مسرح التحدي ومقابلة الأعداء، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 171 ـ 173]، وكون النبي منصورا في جميع المواضع، ومنها مواضع التحدي، يدل على أن له دورا في الإتيان بخوارق العادات.
قال آخر: ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: 21]، فوصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكونه غالبا، يدل على كونه داخلا في مواضع التحدي.. ولا دليل على اختصاص الآيتين بالمغازي والحروب، بل إطلاقهما يدل على كونهم منصورين وغالبين في جميع مواقع المقابلة، سواء أكانت محاجة أو تحديا بالإعجاز أو حربا وغزوا.
قال آخر: وهذا الفعل العظيم للنفوس، إنما يقع بأمره تعالى وتأييده، ولذا كانت تحصل لهم الغلبة في موارد المجابهة؛ كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 81].. فهذه الآيات العامة تدل
ربوبيون وربانيون (1/143)
بظهورها على كون الفاعل للخوارق نفوس الأنبياء وأرواحهم، بإذن الله سبحانه.
قال آخر: وهناك آيات أخرى خاصة، تسند إلى خصوص بعض الأنبياء خوارق العادة، بل ائتمار الكون بأمرهم، كما قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 81]، ففي قوله (بأمره) يدل على أن إرادته كانت نافذة في لطائف أجزاء الكون.
قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في المسيح عليه السلام: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 49]، وقال: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾ [المائدة: 110]، فالآية تنص على أن نفخ الروح في الهيكل الطيني للطير، رهن طاقة المسيح البشرية، وكذلك إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وكل ذلك بإذن الله تعالى ومشيئته.
قال آخر: وهذا ما تشير إليه الآية التي تنقل مخاطبة يوسف عليه السلام إخوته بقوله: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾ [يوسف: 93]، والآية التالية تبين نتيجة أمره: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ [يوسف: 96].. فالعامل المؤثر في استرجاعه بصره، بعدما ابيضت عيناه من الحزن ليس هو القميص، ولا حامل البشارة، بل هو نفس إرادته الزكية المؤثرة بإذن الله، وعندما تقتضي المصلحة ذلك.. وإنما توسل بالقميص ليعلم أنه هو القائم بذلك.
قال المعلم: بورك فيكم.. والآن أخبروني عمن يعتبر المعجزات هادمة لبرهان النظم.. ذلك أن المعجزات خارقة للعادة والسنن السائدة في هذا النظام، وبذلك، فإنها تُعد استثناء فيه ونوع مخالفة له.. فخلق الثعبان فجأة من الخشب اليابس، وخروج الناقة من
ربوبيون وربانيون (1/144)
الجبل الصخري الأصم، وما شابه ذلك، ينفي وجود المحاسبة في تكون تلك الظواهر.
قال أحدهم: إن المعترض بما ذكرت معلمنا لم يقف على أساس برهان النظم أولا، كما لم يقف على حقيقة الإعجاز وماهيته ثانيا.. ولذلك اعترض بأن القول بالإعجاز يخالف برهان النظم.
قال آخر: أما الأول، فلأن المعترض تصور أن برهان النظم يبتني على وجود نظم واحد بالعدد سائد على الجميع، وقائم بمجموع الأشياء في العالم، بحيث لو شوهد خلاف النظم في جزء من أجزائه لبطل البرهان، بحكم كونه واحدا بالعدد غير قابل للانقسام، والحقيقة خلاف ذلك، فإن برهان النظم واحد بالنوع كثير بالعدد.. فهو يتمثل ويتجسد في كل ذرة خاضعة في ذاتها للنظام؛ فتكون كل ذرة باستقلالها حاملة لبرهان النظم والدلالة على وجود الصانع القادر العليم، من دون توقف في دلالتها على سيادة النظم في الذرات الأخرى.
قال آخر: وفي الحقيقة، إن برهان النظم يتكثر عددا بتكثر الذرات والأجزاء والظواهر الخاضعة للنظام، ولو فرض فقدان النظم في جزء وظاهرة، أو أجزاء وظواهر ـ كما يدعيه المعترض في مجال الإعجاز ـ لكفى وجود النظم في سائر الأجزاء والظواهر، في إثبات الصانع، ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
قال آخر: ففي كل خلية وعضو من الإنسان الواحد يتجسد برهان النظم، ويتكثر بتكثرها؛ فكيف إذا لاحظنا مجموع البشر والمخلوقات والكواكب والمجرات.
قال آخر: وكما أن طغيان غدة من النظام السائد على سائر الغدد في بدن الإنسان، كما هو الحال في السرطان، لا يضر ببرهان النظم القائم بهذا الإنسان، فكذلك الخروج عن النظام في مجال الإعجاز، لأغراض تربوية، ولهداية الناس إلى اتصال النبي بعالم الغيب، فإنه
ربوبيون وربانيون (1/145)
لا يؤثر شيئا في برهان النظم من باب أولى.
قال آخر: وأما الثاني، فلأن الإعجاز ليس من الأمور المتوفرة في حياة الأنبياء، بحيث يكون النبي مصدرا له في كل لحظة وساعة ويوم، ويكون خرق العادة وهدم النظام شغله الشاغل، وإنما يقوم به الأنبياء في فترات خاصة وحساسة لغايات تربوية.
قال آخر: ثم إن النبي إذا أراد الإتيان بالمعجزة، أطلع الناس مسبقا على أنه سيقوم بخرق العادة في وقت خاص، وهذا دال على وجود قوة قاهرة مسيطرة على العالم، تقوم كلما شاءت واقتضت الحكمة والمصلحة القدسية، بخرق بعض النظم والتخلف عنها؛ فالعالم، قبضه وبسطه، وسن أنظمته وخرقها، بيد خالقه، يفعل ما يشاء حسب المصالح.
قال آخر: وبذلك، فإن الإعجاز ليس خرقا لجميع النظم السائدة على العالم، وإنما هو خرق في جزء من أجزائه غير المتناهية الخاضعة للنظام والدالة ببرهان النظم على وجود الصانع.. بالإضافة إلى أن قيام الأنبياء بالإعجاز إنما يحصل بعد اقترانه بالإعلام المسبق، حتى يقف الناظرون على أن خرق العادة وقع بإرادة ومشيئة القوة القاهرة المسيطرة على الكون والمجرية للسنن والأنظمة فيه.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الإعجاز، وإن كان خرقا للسنن العادية، إلا أنه ربما يقع تحت سنن أخرى مجهولة لنا معلومة عند أصحابها، فهي تخرق النظام العادي، وتجري نظاما آخر غير عادي، لا يقل في نظمه عنه.
قال المعلم: بورك فيكم.. والآن أخبروني عن علاقة المعجزة بالنبوة.. وهل يمكن اعتبار المعجزة دليلا على صدق دعوى النبوة؟
قال أحدهم: عند البحث في صفحات التاريخ نجد الكثير ادعوا السفارة من الله والإنباء عنه، عن كذب وافتراء، ولم يكن لهم متاع غير التزوير، ولا هدف لهم سوى السلطة
ربوبيون وربانيون (1/146)
والرئاسة.. ولذلك كان من حكمة الله تعالى وضع معايير وضوابط لتمييز النبي عن المتنبي، وهي كثيرة.. ومن جملتها تجهز المدعي بالإعجاز، وإتيانه بخوارق العادة، متحديا بها غيره على وجه لايقدر أحد على مقاومته، حتى نوابغ البشر.
قال آخر: ومن خلال التأمل في القرآن الكريم نجده يذكر أن طلب الإعجاز باعتباره دليلا على صدق المدعي، كان أمرا فطريا، يطلبه الناس من الأنبياء عند دعواهم النبوة والسفارة الإلهية، ولأجل ذلك لما ادعى صالح عليه السلام النبوة، قوبل بجواب قومه: ﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الشعراء: 154]
قال آخر: وقد يخبر الأنبياء الناس بتجهيزهم بالمعجزات عند طرحهم دعوى النبوة، قبل أن يطلبها الناس منهم، كما قال موسى عليه السلام مخاطبا الفراعنة: ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الأعراف: 105 ـ 106]، وكما ورد ذلك في حق عيسى المسيح عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: 49]
قال المعلم: بوركتم.. والآن أخبروني كيف تردون على من يذكر أن وجه دلالة الاعجاز على صدق قول المدعي دليل إقناعي، يرضي عامة الناس وسوادهم ويجلب اعتقادهم بصدق دعوى المدعي.. وليس دليلا برهانيا بحيث يكون بين المعجزة وصدق المدعي رابطة منطقية، تستلزم الأولى معها، وجود الثانية.. ويستدل لذلك بأن الدليل البرهاني يتوقف على وجود رابطة منطقية بين المدعي والدليل، وتلك الرابطة غير موجودة في المقام، إذ كيف يكون خرق العادة وعجز الناس عن المقابلة، دليلا على صدق المدعي في كونه نبيا وحاملا لشريعة إلهية، إذ لو صح ذلك لصح أن يقال: إن قيام الطبيب بعملية
ربوبيون وربانيون (1/147)
جراحية بديعة، دليل على صدق مقاله في المسائل النجومية والفلكية، أو صدق تخطيطاته السياسية والاجتماعية. ومن المعلوم، انتفاء الرابطة المنطقية بينها.
قال أحدهم: من الأدلة التي تدحض هذا الزعم مجموعة مقدمات.. أولها أن الخالق عادل لا يجور، وحكيم لا يفعل ما يناقض الحكمة.
قال آخر: وثانيها أنه سبحانه يريد هداية الناس، ولا يرضى بضلالتهم وكفرهم.
قال آخر: وثالثها أن المعجزة إنما تعد سندا لصدق دعوى النبوة إذا كان حاملها واجدا لشرطين.. أولهما أن تكون سيرته طاهرة لم يسودها شيء من الأعمال المشينة.. وأن تكون شريعته مطابقة للعقل، وموافقة للفطرة، أو على الأقل، لا يرى فيها ما يخالف العقل والفطرة.
قال آخر: فلو انتفى الشرط الأول، بأن كانت سوابقه سيئة، لكفى ذلك في تنفر الناس عنه.. وكذا لو انتفى الشرط الثاني، بأن كانت شريعته مخالفة للعقل والفطرة، لأنه لا يمكن لأصحاب العقول السليمة حينها أن يقبلوها.
قال آخر: أما لو توفر الشرطان فيه، فحينها تتطاول إليه الأعناق، وتنقاد له القلوب، ولشرعه العقول، فيسلمون ما يقول، ويطيعون ما أمر.
قال آخر: ولهذا؛ فإنه لو كانت دعوة هذا المدعي صادقة، فإعطاؤه القدرة على الإتيان بالعجائب والخوارق، مطابق للحكمة الإلهية.
قال آخر: وأما لو كانت دعواه كاذبة، فإعطاؤه تلك القدرة، وتسخير عالم التكوين له في تلك الظروف، على خلاف الحكمة، ذلك أ ن الله تعالى يريد هداية الناس، ولا يرضى بإضلالهم.
قال آخر: وذلك لأنه تعالى يعلم أن الظروف توجد في الناس خضوعا لهذا
ربوبيون وربانيون (1/148)
الشخص، فيكون إقداره على الاعجاز، مع كونه كاذبا، إغراء بالضلالة، وصدا عن الهداية، والله تعالى حكيم لا يفعل ما يناقض غرضه وينافي إرادته، فأي دلالة منطقية أوضح من ذلك؟
قال آخر: ويمكنك أن تضع هذا الإستدلال في قالب القياس المنطقي، فتقول: إنه سبحانه حكيم.. والحكيم لا يجعل الكون ولا بعضه مسخرا للكاذب.. وبذلك فإن الله سبحانه لا يجعل الكون ولا بعضه مسخرا للكاذب.. لكن المفروض أن هذا المدعي مسخر للكون، فينتج أنه ليس بكاذب بل صادق.
قال آخر: ودلالة المعجزة على صدق دعوى النبوة يتوقف على القول بالحسن والقبح العقليين، أما الذين أعدموا العقل ومنعوا حكمه بهما، فيلزم عليهم سد باب التصديق بالنبوة من طريق الإعجاز، لأن الإعجاز إنما يكون دليلا على صدق النبوة، إذا قبح في العقل إظهار المعجزة على يد الكاذب، فإذا توقف العقل عن إدراك قبحه، واحتمل صحة إمكان ظهوره على يد الكاذب، لا يقدر على التمييز بين الصادق والكاذب.
قال آخر: وقد أشار بعض المتكلمين إلى هذا، فقال: (إنما كان ظهور المعجزة طريقا لمعرفة صدقه لأن الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق، كما إذا قام رجل في مجلس ملك بحضور جماعة، وادعى أنه رسول هذا الملك إليهم، فطالبوه بالحجة، فقال: الحجة أن يخالف هذا الملك عادته، ويقوم على سريره، ثلاث مرات ويقعد، ففعل.. فإنه يكون تصديقا له، ومفيدا للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب) (1)
قال آخر: وهذه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور،
__________
(1) شرح القوشجي على التجريد، ص 465.
ربوبيون وربانيون (1/149)
ولا يشكون فيها أبدا؛ فإذا ادعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختص برعيته، كان من الواجب عليه أولا أن يقيم على دعواه دليلا يعضدها، حين تشك الرعية بصدقه، ولا بد من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح.
قال آخر: فإذا قال لهم ذلك السفير: الشاهد على صدقي أن الملك غدا سيحييني بتحيته الخاصة التي يحيي بها سفراءه الآخرين، فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعية، ثم حياه في الوقت المعين بتلك التحية، كان فعل الملك هذا تصديقا للمدعي في السفارة، ولا يرتاب العقلاء في ذلك، لأن الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدق هذا المدعي إذا كان كاذبا، لأنه يريد إفساد الرعية.
قال آخر: ومما يدل في القرآن الكريم على هذا ما ورد فيه من التهديدات بمعاقبة النبي وإهلاكه إذا كذب على الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44 ـ 47]
قال آخر: فالمراد من الآية الكريمة أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم الذي أثبتنا نبوته، وأظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يتقول علينا بعض الأقاويل، ولو صنع ذلك، لأخذنا منه باليمين، ولقطعنا منه الوتين، فإن سكوتنا عن هذه الأقاويل، إمضاء منا لها، وإدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث.
قال آخر: وبذلك، فإن هذه الآيات الكريمة تحكي عن سنة إلهية جارية في خصوص من ثبتت نبوتهم بالأدلة القطعية ودلت معجزاتهم على أنهم تحت رعايته سبحانه، الذي أقدرهم بها على التصرف في الكون.
قال آخر: فالإنسان الذي يصل إلى هذا المقام، يستولي على مجامع القلوب، ويسخر
ربوبيون وربانيون (1/150)
الناس بذلك لمتابعته، فكل ما يلقيه، ويشرعه، يأخذ طريقه إلى التنفيذ في حياة الناس والمجتمع، فلو افتعل هذا الإنسان ـ في مثل هذه الظروف ـ كذبا على الله تعالى، اقتضت حكمته سبحانه إهلاكه وإبادته، لما في إبقائه وإدامة حياته، من إضلال الناس، وإبعادهم عن طرق الهداية، الأمر الذي يناقض مقتضى الحكمة الإلهية التي شاءت هداية الناس وإبعادهم عن وسائل الضلالة.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الهدف من إعطاء النبي القدرة على خرق العادة الملموسة ـ كقلب العصا حية مثلا ـ هو كونه دليلا على أنهم قادرون على خرق عادة أخرى غير ملموسة، وهي الاتصال بعالم الوحي وكون إدراكات النبي خارجة عن إطار الإدراكات العادية المتعارفة.
قال آخر: ذلك أن الناس الذين كان يواجههم الأنبياء عليهم السلام كانوا يعتبرونهم من عالم الغيب، وأنهم يجب أن يكونوا من جنس الملائكة، ولا يصح أن يكون إنسانا مثلهم، كما قال تعالى يحكي عنهم هذا الاعتراض: ﴿قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ [إبراهيم: 10]
قال آخر: وكان الأنبياء يجيبون سؤالهم بأن المماثلة أساس التبليغ، والوحدة النوعية غير مانعة منه، لإمكان أن يتفضل فرد من نوع على فرد من ذاك النوع، فيكون الفاضل مرسلا، والمفضول مرسلا إليه.. والقرآن الكريم يحكي هذا الجواب، بقوله: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [إبراهيم: 11]
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا يدعون أنهم يتلقون الأصول والمعارف والأحكام والفروع من الله سبحانه عن طريق الوحي، وهو إدراك خاص يوجد فيهم ولا يوجد في غيرهم، وليس من قبيل الإدراكات العادية التي يجدها كل
ربوبيون وربانيون (1/151)
إنسان في صميم ذاته من طريق الإبصار بالعين، والسمع بالأذن، والتفكر والإستدلال بالعقل.
قال آخر: ولهذا؛ فإنهم يواجهون بمن يقول لهم: نحن لا نؤمن بقولكم هذا إلا إذا شاهدنا خرقا للعادة يماثل ما تدعون، حتى نستدل بخرق عادة مرئية، على وجود نظيرها في باطن وجودكم، وصميم حقيقتكم.
قال آخر: ومن منطلق إجابة هذا السؤال، كان الانبياء يفعلون الخوارق، ويأتون بالمعجزات، حتى يدللوا بذلك على تمكنهم من خرق العادة مطلقا، سواء أكانت مرئية ـ كقلب العصا إلى الثعبان، وتسبيح الحصى ـ أو غير مرئية ـ كالإدراك غير المشابه للإدراكات العادية، الذي هو الوحي.. وإن شئت قلت: كانوا يستدلون بخرق العادة الملموسة، على غير الملموسة منها.
قالوا: حدثتنا عن المشهد الثالث.. فحدثنا عن الرابع.
قال: لقد كان هذا المشهد من المشاهد التي قربت لي الوحي الذي يذكره المؤمنون بالنبوة، باعتباره ضرورة من ضروراتها، وقد حصل لي هذا المشهد، وأنا في بعض المستشفيات النفسية، حيث رأيت نفرا من الناس يجتمعون حول بعض الأطباء، وهم يحدثونهم عن بعض الغرائب التي يرونها من الذين يزورون عياداتهم.
ولست أدري كيف انتقل الحديث بعدها إلى الوحي، وأظنه من بعض أصحابنا الربوبيين الذين راحوا يذكرون أن الوحي ليس سوى حالة من الحالات النفسية، أو مرض من أمراضها.
وحينها تعجب أولئك الأطباء من ذكره لهذا، وقال أحدهم: هل ترى أنه من
ربوبيون وربانيون (1/152)
المستحيل على الله أن يوفر لبعض خلقه القابلية لتلقي وحيه وإلهامه وتعاليمه؟
قال الرجل: لا.. ولكن أتكلم عن الواقع.. ونحن مطالبون بأن نتعقل ما نعيشه في الواقع، وإلا وقعنا في الخرافة من حيث لا ندري.
قال الطبيب: وحتى لو لجأنا إلى الواقع، فإنا نرى فيه من الشواهد والظواهر ما يدعم الوحي الإلهي.. وبأجمل الوجوه وأكملها.. بل إننا في واقعنا المعاصر، وتحت مظلة العلم نستطيع ان نفهم هذه المسألة بسهولة تامة بفضل الحقائق المعلومة.
قال آخر (1): ذلك أن هناك وقائع كثيرة جدا تجري من حولنا في كل لحظة، ونحن نعجز عن ادراكها أو سماعها، أو الاحساس بها بوساطة أجهزتنا العصبية، وقد اخترع البشر آلات كثيرة أثبتت أنها تستطيع إدراك الأحداث الكثيرة التي لايمكننا سماعها بالطرق السمعية التقليدية.
قال آخر: وهذ الطاقة غير العادية للسماع لا تخص الآلات العلمية الحديثة، وإنما وهبها الله لبعض الحيوانات أيضا، ومما لاشك فيه أن جهاز سماع الانسان محدود جدا، لكن أجهزة بعض الحيوانات تختلف كل الاختلاف؛ فالكلب، مثلا، يستطيع أن يشم ريح الحيوان الذي مر من الطريق، ومن ثم استغلت الكلاب في البحث عن الجرائم والمجرمين.. وهناك حيوانات كثيرة تسمع أصواتا تخرج عن نطاق أسماعنا.
قال آخر: وقد أثبتت البحوث في هذا الميدان أن بعض الحيوانات يتمتع بقوة (الاشراق)، فلو أنك وضعت حشرة مما يطلق عليه (العثة)، وهي حشرة مجنحة ـ على نافذة مفتوحة ـ فستحدث صوتا يسمع زوجها على مسافة بعيدة جدا، ولسوف يجيبها هذا الزوج
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: الإسلام يتحدى، ص 107، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/153)
أيضا بطريقته.
قال آخر: وهناك نوع خاص من هذه الحشرات يدعى (الجندب)، يحك رجليه وجناحيه ويصوت بطريق غير عادية، ويسمع على بعد نصف ميل، وهو يحرك في هذه العملية ستمائة طن من الهواء، ليدعو زوجه، وهذه الزوج ترسل أيضا وهي ساكنة بلا حراك جوابا لانعرفه، وانما يعرفه الجندب الذكر، ثم يلحق بها أينما كانت.
قال آخر: واذا كان الأمر كذلك، فما وجه الغرابة في ادعاء إنسان أنه يسمع صوتا من لدن ربه، لايدركه عامة الناس مادام من الممكن أن توجد في هذا العالم حركات وأصوات لا تسمعها آذان الإنسان، ولكن تسجلها الآلات.. ومادامت هناك رسائل تدركها حيوانات دون أخرى.. ما هو جانب التعجب والاستبعاد؟
قال آخر: إن الله تعالى ـ لحكمة يعلمها ـ يرسل رسائل بوسائل خافتة خفية إلى الانسان المختار للرسالة، بعد أن يودع فيه صلاحية التقاطها وفهمها، فليس هناك من تصادم في الحقيقة، بين مشاهداتنا وتجاربنا العلمية، فهو واقع من الوقائع الكثيرة التي نشاهدها ونجربها في أمكنة وطرق مختلفة، فالوحي إمكان، وجدناه في شكل الواقع بعد التجربة.
قال آخر: وقد تبين أن تجارب الاشراق أو الانكشاف ومعرفة الغيب لاتخص الحيوانات، وانما توجد في الانسان (بالقوة)، وقد قال في ذلك د. أليكسيس كاريل: (إن حدود الفرد في إطار الزمان والمكان هي مجرد افتراض)، فيستطيع عامل الاشراق أن يجعلك تنام، وتضحك، أو تبكي، كما يستطيع أن ينقل إليك كلمات أو خواطر، لست على علم بها.. إنها عملية لاتستعمل فيها أية وسائل ولايشعر بها غير عامل الإشراق وصاحبه.
قال آخر: إن الإشراق أمر معروف لدى الناس، وهو يدلنا على فهم ذلك النظام
ربوبيون وربانيون (1/154)
الإشراقي العظيم بين الإله والعباد، والذي يكون في أكمل صوره حين يبلغ درجة (الوحي)، وهذا الوحي لايعدو أن يكون (إشراقا كونيا)، من نوع الإشراقات التي عهدناها في حياتنا على مستويات محدودة.
قام أحد الحضور، وقال: لا بأس.. قد نسلم لكم بهذا.. لكن هل ترون من الضروري أن يخاطب الله إنسانا، ليبلغ كلامه إلى الناس؟
قال أحد الحكماء: إن أكبر دليل على هذه الضرورة هو أن الأمر الذي يخبر عنه الرسول من أهم الأمور التي تتعلق بحياة الإنسان ومصيرة، والإنسان لايستطيع أن يصل إلى تلك الحقائق بجهوده الشخصية.
قال آخر: والدليل على ذلك أن الإنسان يبحث منذ آلاف السنين عن حقيقة الكون كي يفهم أسرار بدء الحياة ونهايتها، وحقائق الشر والخير، وكيفية صوغ الإنسان من أجل الإنسانية، وتنظيم أجهزة الحياة حتى تستطيع الإنسانية أن تسير قدما في طريق الخير والرفاهية.. ولم تكلل هذه الجهود بالنجاح إلى يوم الناس هذا، فقد كشفنا عن أسرار الحديد والبترول، وتعرفنا على حقائق الطبيعة بعد جهد قصير، لكننا عاجزون عن كشف (علم الإنسان)، رغم أن جهود أعظم عقولنا العقبرية تواصل البحث عن هذا العلم، ولم تستطع، حتى الآن، تحديد مبادئه وأسسه، إن هذا هو أكبر دليل على أن الإنسان يحتاج إلى هدى الله من أجل أن يعرف نفسه.
قال آخر: ومن المسلم به عند الإنسان الجديد أنه لم يفلح بعد في كشف لغز الحياة، لكنه على كل حال يأمل في أن يساعده القدر يوما لرفع القناع عن هذا السر المعقد، ولاريب أن عجز مجتمع العلم والصنعة عن إشباع الحاجات النفسية للإنسان يؤكد الفكرة التي تقول: (إننا أعطينا أهمية غير عادية للعلوم المادية، على حين تركنا العلوم الإنسانية في
ربوبيون وربانيون (1/155)
مراحلها البدائية)، أما الذين دفع بهم طموحهم الجارف إلى العمل في هذا المجال، مجال (العلوم الإنسانية) فهم كذلك لم يستطيعوا كشف شيء ما، بل لجوا في ضلالهم يعمهون.
قال آخر: لقد عبر بعض فلاسفة الغرب عن ذلك، فقال: (إن مباداء الثورة الفرنسية، وأفكار ماركس، ولينين، لاتنطبق إلا على الإنسان العقلي المثالى، ومن الواجب أن نشعر بصراحة تامة بأن قوانين العلاقات الإنسانية لم تكشف بعد.. أما الاجتماع والاقتصاد وما أشبههما، فهي علوم افتراضية محضة، بدون أدلة يمكن إثباتها بها)
قال آخر: نعم.. لاشك أن علومنا الجديدة قد فتحت مجالات أمام الإنسان، لكنها في نفس الوقت جعلت المسألة أكثر تعقيدا، ولم تساعد في حل الأزمة في أية مرحلة، كما عبر عن ذلك بعض علماء الغرب، فقال: (إن الكون الذي كشفه العلم الحديث هو أكثر غموضا وإبهاما من التاريخ الفكري بأكمله، ولاشك في أن علمنا عن الطبيعة أكثر غزارة من أي عصر مضى، لكن هذه المعلومات كلها غير مقنعة، فنحن نواجه اليوم الابهام والمتناقضات في كل ناحية)
قال آخر: هذه الكارثة المؤسفة التي نقف أمامها، بعد بحث طويل في العلوم المادية عن سر الحياة، تدلنا على أن إدراك سر الحياة لن يتاح للإنسان، مع أن أحوالنا تحتم علينا معرفة سر الحياة، إذ أننا لانستطيع مواصلة الحياة في أكمل صورها دون معرفة؛ ولذلك كان خير ما نتمنى بقبولنا أن ندركه، ولايرضى أسمى جزء من شخصيتنا، وهو العقل، أن يطمئن بدونه، فحياتنا مبعثرة لفقداننا هذه الحقيقة.
قال آخر: ولذلك؛ فإن هذه الحالة وحدها تكفي لنتبين حاجتنا الشديدة إلى (الوحي)، فأهمية سر الحياة، ثم خروج هذا السر عن دائرة قوى الإنسان، يدل على أنه لابد أن تأتي المعرفة من الخارج أيضا، كالضوء والحرارة اللذين تتوقف عليهما حياة الإنسان،
ربوبيون وربانيون (1/156)
ولكنهما هيئا من الخارج.
ربوبيون وربانيون (1/157)
بعد أن انتهى المتحدث الأول.. وهو كبير الربوبيين التائبين، قام الثاني، وقال: لقد جاء الآن دوري.. واسمحوا لي أن أبدأ حديثي بما انتهى إليه حديث صاحبي، فقد مررت مثله بالكثير من المشاهد التي جعلتني أتخلى عن كبريائي وعنادي وتعنتي، لأقوم برحلة البحث التي هدتني إلى الله، وإلى الدين الحق.
قالوا: كيف ذلك؟
قال: لقد كان من أهم القضايا التي جعلتني أهتدي إلى الحق الأشواق التي كانت تملأ عقلي وقلبي، وتدعوني إلى البحث عن ربي.
ذلك أن تلك المعارف المحدودة التي استفدتها من أساتذتي في المدرسة الربوبية لم تكن لتروي غليلي.. ولذلك رحت أبحث في الأديان جميعا.. بل في كل التاريخ وتراث البشرية لعلي أظفر بصفات أخرى، أو بكمال وعظمة لم يطق عقلي المحدود أن يكتشفها.
وقد مررت في أثناء رحلتي لذلك بالكثير من المشاهد، والتي أتاحها الله ليعرفني به، وبأيسر الطرق وأجملها.. وسأحكي لكم ما تشاءون منها، لعله يكون في بعضها من الإرشاد لعقولكم ما يغنيكم عن العنت الذي وصل إليه عقلي، وهو يبحث عن الحق.
قال أحد الحضور: فحدثنا عن بداية تفكيرك في البحث عن الإله الذي جاءت به الأديان؟
قال: عندما تواضعت نفسي، وطأطأت من كبريائها أتاح الله لي الكثير ممن دل عقلي
ربوبيون وربانيون (1/158)
على خطأ ما كنت فيه.. بل دلني على كبري وعنادي الذي جعلني أرفض كل العقول ما عدا عقلي.. وبما أن مشاهد ذلك كثيرة، فسأحكي لكم ما بقي عالقا في ذاكرتي منها.. وأولها تلك المشاهد التي شككتني في الفكر الربوبي الذي كنت أنتمي إليه.
قلنا: فحدثنا عن أولها.
قال: لقد بدأ أولها بعد فترة قصيرة من عودتي من زيارتكم إلى بلادي، حينها أصابتني وعكة خفيفة جعلتني ألجأ إلى طبيب قريب من منزلي.. وقد شاء الله أن تكون تلك الوعكة سببا في الصحة التي تمتع بها عقلي.
قالوا: كيف ذلك؟
قال: في قاعة الانتظار، سألني شيخ كبير عن صحتي، فأخبرته عن الوعكة التي أصابتني، فراح يدعو لي بالشفاء.
ولست أدري كيف ابتسمت ابتسامة سخرية أمامه، ثم قلت: الله أعظم من أن يلتفت لي، أنا الذي لا يساوي شيئا أمام كونه الواسع.. هل تعلم كم تساوي الأرض بالنسبة للمجرة؟.. وكم تساوي المجرة بالنسبة للكون؟.. وكم أساوي أنا بين هؤلاء جميعا؟
ابتسم هو الآخر ابتسامة سخرية، وقال: ما أقبح الصورة التي تحملها عن إلهك.. إنك تشبهه بنفسك وبعقلك وقدراتك واهتماماتك.. أنت هو الذي يشغلك الكبير عن الصغير.. أما ربك فليس عنده كبير ولا صغير.. فهو كما يرى المجرات التي تتحدث عنها يراك ويرى الذرات ويرى كل شيء.. فهو الخالق المدبر.
قلت: لا بأس.. قد يهتم بي.. وقد فعل ذلك حين وفر الدواء.. ولذلك لا حاجة لي بسؤاله، لأنه وضع القوانين التي تدير كونه.. ولا حاجة بعد ذلك لإزعاجه.
ربوبيون وربانيون (1/159)
قال: لقد ذكرت لك أن خطأك هو توهمك أن إلهك مثل نفسك.. فأنت تشبه إلهك بنفسك.. الإله لا ينزعج من مخلوقاته إن طلبوا التواصل معه.. بل هو لكرمه يطلب ذلك منهم.. ويدعوهم إلى سؤاله.. بل يرسل لهم من الأسباب ما يضطرهم إلى سؤاله.
قال ذلك، ثم أخرج مصحفا من جيبه، وقال: اسمع لما يقوله ربي: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 42 ـ 43]
ثم قال: هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان عني وعنك، وتخبرنا أن البلاء الذي ينزل بنا ليس القصد منه إلا إعادتنا إلى وعينا، والتخفيف من كبريائنا، لنتواصل أثناء تواضعنا مع ربنا الذي خلقنا، فلا نتكبر عليه، ولا نستغني عنه.
قلت ساخرا: أرى أنك من المسلمين.. أولئك الذين يعتبرون قتل غيرهم عبادة.
قال: معاذ الله أن أكون من أولئك.. لقد كنت مثلك في يوم من الأيام.. بل كنت ملحدا لا أعرف لي ربا ولا دينا.. ولكن الله هداني إلى البحث عن الحق إلى أن وجدته.
قلت: عند المسلمين!.. أليس ذلك عجيبا؟
قال: إذا وجدت جوهرة ثمينة تنقذك من فاقتك في مزبلة.. هل كنت ستأخذها، أم تأنف نفسك منها؟
قلت: بل سآخذها، وأطهرها، وأنتفع بها.
قال: وهذا ما حصل لي.. فأثناء بحثي عن الحق، لم أجد مثل الإسلام، ومثل كتابه المقدس القرآن.. لكني وجدته بين أيد ملطخة كثيرة.. وحينها نظرت إليه مثلما نظرت أنت إلى الجوهرة الثمينة.. فلم يصرفني عنه أي حجاب.
قلت: فهلا حكيت لي رحلتك إلى الإسلام..
ربوبيون وربانيون (1/160)
قال: هي قصة طويلة.. وهذا المحل ليس صالحا لها.. وأرى أن صحتي وصحتك لا تسمحان لنا بذلك.. لكن إن شئت أن تسمع كيف تخلصت من تلك الصورة التي تحملها عن إلهك.. فتعال إلى ناد ثقافي أقمته أنا وأصدقائي ممن مررنا بنفس التجارب.. وهناك سيكون الحديث أفضل.
قلت: هذا جميل جدا.. سآتيك برفقة بعض رفاقي، لنسمع منكم، وتسمعون منا.
حكى الربوبي التائب هذا المشهد القصير، ثم قال: لقد كان ذلك أول ما قرع عقلي من البصائر، وقد ظلت كلماته تتردد على خاطري مدة من الزمن إلى أن جاء اليوم الذي قررت فيه الذهاب إلى المركز الذي ذكره لي.
حينها رحت إلى بعض أصدقائي، ممن تجمعني بهم هذه العقيدة، وأنا أقول لهم: لقد كان جميلا منا أن نفر من الإلحاد إلى الإيمان بالله.. لكني أرى أننا قصرنا في البحث عن هذه الإله الذي فررنا إليه بعد تجاهلنا له.
قال أحد أصدقائي (1): لا تقل هذا.. فصورة الإله عندنا خير من صورته في جميع الأديان.. ذلك أنها صورة بسيطة وبعيدة عن التعقيد.. فالله قوة كونية، وهي مصدر الخلق ومصدر القوانين والرسوم والنماذج الموجودة في جميع أنحاء الطبيعة.. وخالقنا لا يتدخل في شؤون كونه.. ولذلك، فإن كل ما يحدث ليس ناتجا عن رغبة إلهية، وإنما هو نتائج طبيعية لأسباب تحدث في الحياة.
قال آخر: ولذلك، فإننا نعتمد المنهج العلمي، ونعتمد على أنفسنا في حل مشاكلنا
__________
(1) استفدنا المادة العلمية في هذا المشهد من كتاب: عالم دون أنبياء، ص 55، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/161)
وتحقيق أهدافنا في الحياة.. وأخلاقنا ناتجة عن التزامنا الذاتي بالخير، والابتعاد عن الشر.
بعد أن سمعت هذا وغيره منهم، طلبت منهم أن يسيروا معي إلى ذلك المركز الذي ذكره لي ذلك الشيخ، فقال لي أحدهم: أتريد أن تزج بنا في أوكار الإرهاب.. وما أدراك أن ذلك الشيخ الذي ذكرته أحد عناصرهم.
خفت في البداية عندما ذكر لي هذا، لكني، ومن غير أن أشعر قلت لهم: لا بأس.. فلنذهب هناك، ولنر بأعيننا.
بعد أن استعملت كل الوسائل لإقناعهم سرنا إلى المركز، وقد تعجبنا كثيرا عندما رأينا الوسائل الكثيرة التي يحتوي عليها، والمكتبة الضخمة التي تتواجد فيه.. وتعجبنا أكثر من أولئك الباحثين الكبار الذين وجدناهم يعمرونه، وبعضهم كان من أساتذة الجامعة النابغين الذين درس لديهم بعض أصدقائي.
عندما وصلنا، وتعارفنا، بدأ حوارنا.. ولا حاجة بي لذكر ما قلناه لهم، فهو مما تعرفونه، وترددونه جميعا، لذلك سأحكي لكم ما قالوا لنا.
قال أحدهم: دعوني ألخص ما ذكرتموه.. فأنتم تذكرون أنكم تؤمنون بإله خلق الكون، بيد أنه لا يتدخل في شؤون الناس، ولا في شؤون الكون، وما يجري في العالم من حوادث لا علاقة لله تعالى به، فهو لا يجري عن إرادته ووفق تقديره ومشيئته، لأنه تعالى لم يقدر شيئا مرسوما على الناس.
قال آخر: وتذكرون في علاقة الإنسان بالله، أنكم لا ترون ضرورة للعبادة، وإذا كان لا بد من شكره فمن خلال أعمال الخير التي تقدم نفعا للإنسانية.. فهل هذه هي رؤيتكم، أم ترون أني قولتكم ما لم تقولوا؟
قلت: بل هذا ما نقوله.. وإن كنا نختلف في بعض المسائل والتصورات.. فأنت تعلم
ربوبيون وربانيون (1/162)
أن لكل منا تصوره الخاص بالإله، بحسب ما يمليه عليه عقله.
قال: لا بأس.. المهم أنكم تشتركون فيما ذكرته لكم.
قلت: أجل..
قال: فاسمحوا لنا أن نناقشكم بكل هدوء.. ولكم أن تردوا علينا متى شئتم.. لكن فقط نرجو أن تسمحوا لنا بأن نكمل طرح رؤيتنا، فلا تقاطعونا قبل أن نكملها.
قلت: ذلك من آداب الحوار الضرورية.. ونحن ما جئنا لنقاطعكم، بل جئنا لنسمع لكم، ونطرح لكم ما عندنا.
قال: بورك فيكم.. واسمحوا لي أن أبدأ أول مناقشة لما طرحتموه، وهو حول تصوركم للإله.. حيث نرى أنه تصور ناقص، ويعاني الكثير من الثغرات.. وأولها أن صورة الإله عندكم صورة ساذجة وبسيطة؛ فالإنسان لا يشعر وهو يتأمل في ذلك التصور أنه أمام إله يملأ العقل والروح والوجدان.. ولا يجيب هذا التصور على كل أسئلته ولا يروي عطشه.. فهو إله غامض لم يظهر نفسه بما فيه الكفاية للناس، ولا حدد لهم هدف الخلق، ربما لأنه ليس لديه هدف أصلا.
قال آخر: وهو فوق ذلك ـ كما يلزم من كلامكم ـ عاجز مكبل اليدين، معزول عن التصرف، أو لنقل إنه قد قرر واختار عزل نفسه عن التصرف في العالم، وإلا فكيف يسكت عن كل ما يجري باسمه في هذا العالم؟
قال آخر: أليس لدينا على مر التاريخ آلاف الأشخاص الذين ادعوا أنهم رسل الله، وحملوا للناس شرائع وتعليمات نسبوها لله تعالى، وترتب على ذلك الكثير من الانقسامات بين الناس، حيث آمن بالأنبياء من آمن وكفر بهم من كفر، وأريقت دماء وشنت حروب؟
قال آخر: ولذلك، فإن السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هو: أنه إذا لم يكن لله رسل
ربوبيون وربانيون (1/163)
حقا، فكيف يسكت عما جرى أو يرضى أن يجري كل هذا باسمه، مع أنه بريء منه دون أن يقول: لا علاقة لي بكل هؤلاء الذين يتكلمون باسمي؟.. نعم نحن لا نريد منه أن يتدخل بطريقة مباشرة لمنع هؤلاء من التقول عليه، لكن أليس من الحكمة أن يبين للناس أنه لا يوجد له ممثل ولا رسول؟
قال آخر: كما أنه ليس من الواضح ما إذا كان هذا الإله الذي تؤمنون به عالما بما يفعله خلقه، وما يقومون به من أعمال الخير أو الشر.. وإذا كان يعلم فلا يدرى ما هو موقفه من ذلك؟.. هل هو راض بذلك أو رافض له؟.. وإذا كان رافضا وغير راض بأفعال الشر، فماذا يترتب على رفضه وعدم رضاه؟.. وكيف يترجم انزعاجه؟
قال آخر: وغير خاف عليكم أن فكرة الإله الغامض، والذي تعمد عدم إظهار نفسه، لا يمكن لصاحب الفكر السوي أن يقنع بها أو يتقبلها، وإلا فأي إله هذا الذي لا يفصح عن هويته وعن الهدف الذي خلق الخلق من أجله!؟
قال آخر: أليس مقتضى اللطف والحكمة أن يرشد خلقه ويوجههم إلى الهدف من خلقهم، وما هو مطلوب منهم؟.. ثم هل يمكن أن ينعزل الله عن خلقه؟.. وهل هو من عزل نفسه باختياره؟.. وهل ينعزل لعجزه عن التدخل أم لغير ذلك من الأسباب؟
قال آخر: وقد رأينا أن الربوبيين لم يقدموا لنا أجوبة مقنعة عن هذه الإشكالات، الأمر الذي يدفعنا للاعتقاد أن أهم صفات الإله التي يحكم بها العقل، لا توجد في إله الربوبيين، وأهمها القدرة والعلم والحكمة.
قال أحدنا: ما دام الأمر كما تذكرون، فلماذا لم يكشف نفسه للجميع، بدل أن يكشفها لواحد أو لأفراد معدودين من البشر؟
قال أحدهم: إن الإله الذي نؤمن به، ويفترض أن تؤمن به أنت أيضا، لم يخف نفسه
ربوبيون وربانيون (1/164)
أبدا، بل كشف نفسه لكل الناس من خلال هذا الكون وما فيه من دلائل وآيات ودقة ونظم وانسجام.
قال آخر: أما تنزل الوحي على كل واحد من الناس، فهذا كلام مستغرب ومرفوض؛ ذلك أنه يحتاج إلى لياقة وأهلية خاصة لا يتهيأ لها كل إنسان، فكما لا يتسنى لكل الناس أن يكونوا سفراء دولتهم في الدول الأخرى؛ فإنه لا يتسنى لجميع الناس أن يكونوا رسل الله إلى الخلق، والله تعالى وإن كان يصطفي من عباده رسلا، بيد أن الاصطفاء لا يكون اعتباطا، وإنما لعلمه تعالى بأهلية الذين يصطفيهم ويختارهم لهذا الموقع، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 33]
قال أحدنا: لكن مع ذلك.. فإن عقلي لم يستطع أن يتقبل تدخل الإله في خلقه.. فهو قد وضع القوانين التي تقوم بذلك بدلا عنه.
قال أحدهم: لإشكالك هذا احتمالان.. أولهما أن يكون قصدك أن الله تعالى فقد القدرة على التدخل بعد أن خلق الكون، أو لنقل إنه لم يكن له هذه القدرة من الأساس؟.. والثاني أنه قادر، ولكنه قرر طواعية عدم التدخل؟
قال آخر: أما الاحتمال الأول، وهو عدم قدرة الله على التدخل، فهو يعني أنك تقر بأن إلهك عاجز وضعيف.. ومن كان كذلك لا يستحق أن يكون إلها، فالإله لا يمكن أن يكون فيه أي نقص، فهو مصدر الكمال والقوة، وهو الغني والقوي المقتدر، وكيف لإله أن تكون له القدرة على إيجاد هذا الخلق البديع، ثم لا تكون له القدرة على التدخل والتصرف في شؤونه؟
قال آخر: وإن كنت تقصد الاحتمال الثاني، أي أن الله هو من قرر عدم التدخل طواعية بالرغم من قدرته على ذلك، فإن لنا أن نسألك: من أخبرك بأن الله تعالى اتخذ مثل
ربوبيون وربانيون (1/165)
هذا القرار؟.. هل أخبرك بذلك الوحي؟.. بالطبع لا يمكنك ادعاء ذلك، لأنك لا تؤمن بالوحي أصلا.. أم أنك تزعم أن هذا الأمر مما يحكم به العقل؟
قال آخر: فإن زعمت هذا، فإن ردنا عليك هو أن العقل لا يستطيع التنبؤ بمثل هذا الأمر، لأن قرارا كهذا لا يعرف إلا من قبل الله تعالى دون سواه، وأنت لا تؤمن بأن ثمة وسيلة تواصل مباشر بين الله وبين الناس أصلا.. وأما العقل، فإنه بنظرك القائد والمحرك للإنسان لكنه ليس رسولا يتلقى وحي الله.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن الله تعالى إذا كان قد اتخذ مثل هذا القرار، فإننا نسألك: ما الوجه في اتخاذه له؟.. لا يمكننا أن نصدق أنه اتخذه لا لغاية ولا لهدف، فهو الحكيم الذي لا يمكن أن يفعل شيئا عبثا، أو بدون فلسفة معينة.. ونظيره في الوهن أن يقال: إنه يريد أن يخلد إلى الراحة مثلا أو التفرغ لأعمال أخرى، فهذه كلها وجوه لا تليق بجلال عظمته، فهو المطلق اللامحدود في علمه وقدرته.
قال أحدنا: قد يقال بأن الإله قرر عدم التدخل لغاية وحكمة.. والعقل وإن لم يكن لديه الاطلاع على قراره بشكل مباشر، لكنه يستطيع معرفة ذلك وحكمته من خلال التأمل والتدبر؛ وذلك لأن الله عندما خلق الخلق والكون على أساس القوانين، فهذا معناه أنه أراد لهذا الكون أن يسير وفقها، كما أنه عندما خلق الإنسان كائنا يملك اختيارا وحرية تامة، فهذا مؤشر على أنه قد أراد للإنسان أن يتحرك في هذه الحياة بإرادته واختياره وأن يصنع تجربته بنفسه ويحقق النجاح والتقدم بعيدا عن تدخل الإرادة الإلهية.
قال أحدهم: نعم نوافقك على هذا من حيث المبدأ، فنحن نعتقد أن الكون يتحرك وفق منطق السنن والقوانين، وما يسمى بمبدأ الأسباب والمسببات؛ فسقوط التفاحة من الشجرة إلى الأرض ـ مثلا ـ ليس معناه أن الله تعالى قد أسقطها بشكل مباشر ومنع من
ربوبيون وربانيون (1/166)
ارتفاعها إلى الأعلى، وإنما يخضع ذلك لقانون الجاذبية الذي هو من صنع الله تعالى، وهكذا الحياة كلها تخضع لقوانين خاصة ولا تقوم على التدخل الإلهي المباشر في تفاصيل الأحداث والمجريات اليومية.. والإنسان بدوره يخضع للقوانين، وأهم قانون يحكم حياة الإنسان هو قانون حرية الاختيار والإرادة، فالإنسان ليس مقهورا ولا مجبورا على انتهاج سلوك أو اتجاه معين، كما أن للإنسان ميزة أخرى في هذا المقام، وهي أنه مؤهل وقادر على اكتشاف القوانين الحاكمة على هذا الكون، وذلك من خلال عقله القادر على البحث والتحري والاكتشاف.
قال آخر: إننا نشترك معهم في هذا الاعتقاد، ولكن هذا المعنى لا يعني أن الله تعالى لا قدرة له على التدخل في الكون أو في أفعال الإنسان، أو أنه يمكن لهذا الكون أن يستمر بدونه تعالى، أو أنه قد عزل نفسه عن ذلك ولم يعد له شغل فيه.. فالكون بقوانينه قائم بالله تعالى حدوثا وبقاء، ولا يمكن أن يستغني عنه تعالى طرفة عين أبدا أو أن يستمر بقوانينه ولو لبرهة قصيرة من الزمن إذا رفع الله تعالى لطفه وعنايته عنه.
قال آخر: فليس حال الله تعالى مع الكون، كما هو حال الإنسان مع ما يصنعه من أشياء، فلو قام الإنسان بصناعة طائرة معينة مثلا، فإن الطائرة بحاجة إلى الصانع ابتداء لا بقاء، فربما مات الصانع وبقي المصنوع (الطائرة) فعالا لسنوات طويلة.
قال آخر: وإنما المثال الأقرب لتصوير حالنا مع الله هو مثال الإنسان والعقل، فإن استمرار الإنسان بالعمل المنتج والمتوازن رهن بسلامة العقل، فالعقل هو القائد للإنسان ولا يستغني عنه للحظة.
قال آخر: كذلك الكون بالنسبة لله، فهو تعالى مصدر الطاقة التي تمد الكون والإنسان بالحياة، وإذا نضبت الطاقة تجمد الكون وتوقفت الحياة، فالقضية هنا ليست في عجز القوانين (القابل) بل في قوة الخالق وشدة حضوره (الفاعل)، التي تجعل من المستحيل
ربوبيون وربانيون (1/167)
في حقه أن يغيب عن مملكته طرفة عين أبدا حتى لو كانت هذه المملكة تسير وفق منطق القوانين.
قال آخر: ولذلك، فإن أي تصور يفترض إمكان غياب الله عن خلقه هو تصور ينبئ عن جهل صاحبه بالخالق ومحاولة مقايسته بالمخلوق، كما قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67]، وهذا ما يفسر لنا تأكيد القرآن على أن الكون قائم بالله، وأنه لو أشاح بنظره المعنوي عنه طرفة عين لزال وفني، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: 41]
قال آخر: ثم إن إيماننا بأن الكون قائم على مبدأ القوانين، لا يمنع أبدا من أن يكون خالق القوانين قادرا على تعطيلها أو تجميدها في بعض الحالات، لسبب تقتضيه المصلحة التي يقدرها؛ فهو عز وجل بإمكانه أن يجعل لهذه القوانين نهاية في حال شاء بعث الناس للحساب مقدمة لحياة أخرى، وله أيضا أن يجمدها مؤقتا كما يحصل في حالة المعجزات التي ترمي إلى إقامة الحجة على خلقه وتسديد نبي من أنبيائه، ولسنا نجد مانعا عقليا من ذلك.
حكى الربوبي التائب هذا المشهد، ثم قال: لا طاقة لذاكرتي أن تستعيد كل ما سمعته في ذلك المجلس من كلمات.. ولكن الذي أذكره أني أصبحت مدمنا على الذهاب لذلك المركز، لا للاستماع لما يتحدث به أولئك الأساتذة المتدينين فقط، وإنما لأني كنت أجد كل ما أريده فيه.. ففيه ـ كما ذكرت لكم مكتبة ضخمة ـ مزودة بكل أنواع الكتب، بالإضافة إلى الأجهزة الكثيرة المتطور، بالإضافة إلى أولئك الأساتذة الذين تتنوع تخصصاتهم العلمية، والتي لم تمنعهم أن يكونوا في قمة التدين والالتزام.
ربوبيون وربانيون (1/168)
ومما حصل لي في بعض زياراتي، أني سمعت أحدهم يقول لبعض المرتادين لذلك المركز، بعد أن سبب ضررا لبعض الأجهزة: لا بأس.. سنصلحه إن شاء الله.. ولا تقلق، فأنت لم تقصد ذلك.. وقدر الله وما شاء فعل.
وهنا جن جنون ذلك الزائر، وقال: أنا الذي ارتكبت الخطأ، فلم تنسب الأمر لله.. ولتقدير الله.
قال الأستاذ: نعم أنت المخطئ في تصرفك.. لكنك مع ذلك لم تقصد.. وعندما نسبت الأمر لتقدير الله لم أعفك عن مسؤوليتك، وإنما أردت أن أهون عليك، وكما قدر الله أن يصيب الجهاز الضرر، فقد قدر أيضا أن يصلح ويصحح.. ونحن لم نتذرع بالقدر لنفر من مسؤوليتنا، وإنما لنزداد قوة بلجوئنا إلى ربنا.
قال الزائر: ما دمت قد ذكرت هذا، فإني أرجو أن تجيبني على هذا الإشكال الذي يملأ علي كل كياني.. فعقلي لا يستطيع أبدا أن يتقبل بأن الله قدر الأشياء سلفا.
قال الأستاذ: تعال معي إلى القاعة الخاصة بالحوارات.. وهناك اطرح إشكالك هذا، وسيجيبك عنه الأساتذة المتواجدون فيه.
ذهبنا إلى قاعة الحوارات، وطُلب من الزائر أن يجلس على المنصة ليطرح إشكاله، وبعد أن طرحه، قال أحد الأساتذة الحاضرين (1): لقد فهمنا مما طرحته أنك لا تؤمن بتقدير الله السالف للأشياء.. وكلامك له ثلاثة احتمالات.. أولها أن المقصود نفي التقدير العلمي، بمعنى نفي علم الله تعالى بما يحدث في العالم؟.. وثانيها أن المقصود هو نفي التقدير التكويني بشكل عام، بمعنى نفي صلته وعلاقته جل وعلا بشكل كلي بما يحدث في هذا العالم؟..
__________
(1) استفدنا المادة العلمية في هذا المشهد من كتاب: عالم دون أنبياء، ص 63، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/169)
وثالثها أن المقصود نفي التقدير التكويني في المجال الإنساني فقط، بمعنى نفي صلته المباشرة عن أفعال الإنسان؟
قال آخر: أما إن كنت تقصد الاحتمال الأول، فإن هذا غير ممكن، لأن خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه لا يمكن أن يكون جاهلا بمآله وما يصير إليه، فعلمه غير محدود ولا متناه، ودليلنا على أن علمه كذلك هو أن خالق الشيء هو الأدرى به والأعلم بحاله، فلا مجال لنتصور خالقا مبدعا في خلقه وصانعا متقنا في صنعته وهو في الوقت نفسه جاهل بمخلوقه ومصنوعه.. إنك عندما تنظر إلى دقة آلة مخترعة فسرعان ما تعترف لصانعها بالذكاء وتشهد له بالعلم.
قال آخر: أما إن كنت تقصد الاحتمال الثاني، وهو نفي صلته تعالى وعلاقته الكلية بالكون والإنسان، فهو مرفوض أيضا، لأن ذلك يؤدي إلى أنه تعالى اعتزل العالم، وهذا نوع من التفويض الذي لا يقبله العقل.
قال آخر: أما إن كنت تقصد الاحتمال الثالث، فنحن نوافقك الرأي فيه، فنحن المسلمون ويوافقنا آخرون، نرفض عقيدة الجبر التي تنص على أن الله تعالى هو القاهر لإرادتنا، بحيث يغدو الإنسان في هذه الحياة مسيرا لا مخيرا، ويكون ـ أمام القدر ـ كريشة في مهب الريح، وإنما نؤمن ونعتقد أن الإنسان حر ومختار وتصدر عنه معظم أفعاله وتصرفاته وأقواله بكامل إرادته ووعيه دون جبر أو قسر؛ ولذا كان مسؤولا عن أفعاله وأقواله، ويستحق المدح والثناء على فعله الحسن واللوم والمؤاخذة على فعله القبيح، أما لو كان مجبرا على فعل الشر فيكون ذمه على ذلك قبيحا لأن الإنسان لا يذم على ما ليس بالاختيار.
حكى الربوبي التائب هذا المشهد، ثم قال: ومن المشاهد التي لا أزال أذكرها جيدا
ربوبيون وربانيون (1/170)
في ذلك المركز أن امرأة قدمت إليه، ثم طلبت من الحاضرين في مجلس الحوار أن يجيبوها عن إشكال صرفها عن الدين، بل صرفها عن الله نفسه، وقد استحيت في البداية من ذكره، لكنها تشجعت، وقالت: أنا امرأة أعمل في منظمة نسوية تهتم بحقوق المرأة، ولذلك ربما ترونني متعصبة ضد الذكور، لا لأني أكنّ لهم أي حقد، وإنما لتسلطهم واستبدادهم، حتى أنهم صوروا الإله بصورة الذكر، لا صورة الأنثى.. وهذا ما جعلني أنفر منه، كما أنفر من كل الذكور المستبدين الظالمين.
حينها ابتسم بعض الحاضرين لذلك المجلس، وقال: شكرا جزيلا على إشكالك الوجيه، والحمد لله، قام الباحثون في مركزنا برد هذه الشبهة ردا علميا، أظن أنه يكفيك، وينزع تلك الصورة التي تحملينها عن الإله.
قالت المرأة: يسرني ذلك، فأخبروني عن النتائج التي وصلتم إليها.
قال أحدهم (1): أن اعتبار الإله ذكرا مجاف للحقيقة.. بل إن مجرد طرح السؤال عن جنس الله تعالى، وأنه ذكر أو أنثى جهل بحقيقته تعالى؛ لأن الانقسام إلى الذكور والإناث هو من خصائص المخلوق، ولا يشمل الخالق.
قال آخر: ومن خصائص الذكر أو الأنثى أنهما يتزاوجان وينجبان، والله فوق ذلك كله وأسمى من أن يحتاج إلى الزوجة أو الولد، كما وصف نفسه في كتابه بقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4]، ولو كان ذكرا لكان له نظير وكفؤ.. والله تعالى يقول أيضا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، ولو كان ذكرا أو أنثى لكان له مثيل، فهو تعالى حقيقة مغايرة لما عليه خلقه.
__________
(1) استفدنا المادة العلمية في هذا المشهد من كتاب: عالم دون أنبياء، ص 65، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/171)
قال آخر: أجل، ثمة اعتقاد شعبي وجاهلي حول ذكورية الإله كان منتشرا في الكثير من الأوساط، لكن تحميل الدين وزر مثل هذا الاعتقاد تجن على الدين.. وقد نُقل عن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632 ـ 1677 م) رفضه لهذا الاعتقاد بشجاعة، معتبرا أن تصوير الله بصورة المذكر ينعكس على تبعية المرأة للرجل وخضوعها له على الأرض.. ويرجع سبينوزا هذا التصور عن الإله إلى النظرة الذاتية التي تسيطر علينا، وتمنع من رؤية الحقائق على واقعيتها، ولذلك يؤكد أن تلك النظرة الشخصية قد أفسدت علينا فهم الله سبحانه وتعالى فهما صحيحا فأخذنا ننسب إليه صفاتنا نحن، لأننا أبصرناه من نافذة نفوسنا، ولم نتجرد لنطل عليه من جانب الحقيقة والواقع، فنحن مثلا نتصور الله في صورة المذكر دائما ولا نرضى أن نصبغه بصبغة التأنيث، نقول هو ولا نقول هي، وليس ذلك إلا نتيجة لخضوع المرأة لسلطان الرجل.
قالت المرأة: ما دام الأمر كما تذكرون، ولم يكن الإله ذكرا، فلماذا وصفه القرآن بأوصاف الذكر، سواء على صعيد استخدام الأسماء أو الأفعال أو الضمائر.. مثل هذه الآية: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255]، حيث استخدمت هذه الآية في التعبير عن الله والإشارة إليه ضمير (هو)، ولم تستخدم ضمير الأنثى (هي).. ومثل ذلك: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، حيث استخدمت الآية أيضا أسماء مذكرة، فعبرت عن الله تعالى بأنه (الحي القيوم) ولم تقل: (الحية القيومة).. والأسماء المذكرة كثيرة في القرآن.. وهكذا امتد التذكير إلى الأفعال، حيث استخدمت الآية فعلا مذكرا فقالت: (تأخذه)، وليس (تأخذها)!؟
قال أحدهم: سر ذلك يعود إلى أن اللغة العربية لا تتضمن تعابير محايدة يمكن إطلاقها على الجنسين (الذكور والإناث) معا، أو على ما هو خارج عن الجنسين، أو هو
ربوبيون وربانيون (1/172)
فوقهما كالله تعالى، بل هي لغة تعتمد على ثنائية تعبيرية، هي ثنائية المذكر والمؤنث؛ فنراها تميز بين الجنسين في الضمائر والأفعال وأسماء الإشارة، وهذا بخلاف بعض اللغات الأخرى، ففي الفارسية على سبيل المثال، كما يوجد تعابير خاصة بأحد الجنسين، فإنه يوجد تعابير محايدة، تطلق على الجنسين معا.. ولذلك لا مناص من أن يطلق القرآن النازل باللغة العربية على الله تعالى تعابير خاصة بأحد الجنسين، لأنه لا وجود تعابير محايدة.
قالت المرأة: ما دام الأمر كذلك، فلم عبر عن الله بصيغة المذكر، لا بصيغة المؤنث.. أو مزج بينهما بحيث يعبر عنه مرة بصيغة المذكر، وأخرى بصيغة المؤنث؟
قال أحدهم: ذلك يعود إلى أن اللغة العربية تقسم الموجودات إلى نوعين.. أولهما ما ينقسم إلى مذكر ومؤنث، كما هو الحال في الإنسان والحيوان، وهي المخلوقات المتوالدة.. ولكل من المذكر والمؤنث ضمائر وأسماء إشارة وأسماء موصولة خاصة بها في لغة العرب، فتقول: هذا الغلام هو الذي اصطاد ثعبانا، وهذه البنت هي التي خافت من الأسد.. والمذكر في هذه الحالة يسمى المذكر الحقيقي وكذلك المؤنث.. والثاني، هو ما لا ينقسم إلى مذكر ومؤنث، كما في الأشياء الجامدة، من قبيل الأرض والجبال والنجوم وسائر الأشياء، واسم الله تعالى من هذا القبيل.
قال آخر: وقد ذكر علماء العربية أنه في الموارد التي يكون الشيء مما ينقسم إلى جنسين، وهما الذكور والإناث، تكون مراعاة التذكير والتأنيث ضرورية ولازمة.
قال آخر: وأما في المواضع التي لا تنقسم إلى مذكر ومؤنث، فيتعين إدراجها في مقام التعبير إما تحت المذكر أو المؤنث.. فإذا أدرج الشيء تحت المذكر وعومل معه معاملة المذكر في الضمائر والإشارة والموصول من قبيل كتاب أو بيت أو عشب، قيل له مذكر مجازي، وإذا أدرج تحت المؤنث وعومل معه معاملة المؤنث في ذلك، من قبيل صحيفة ودار ووردة، قيل
ربوبيون وربانيون (1/173)
له: مؤنث مجازي.
قال آخر: وليس هناك قاعدة في معرفة التذكير والتأنيث المجازيين، بل المدار في معرفة ذلك على السماع، وذلك بالرجوع إلى كتب اللغة.. وعليه فالتأنيث في لفظ (الشمس) حيث يقال: هذه الشمس، أو كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ﴾ [الكهف: 17]، والتذكير في لفظ القمر، حيث يقال: القمر طالع، أو كما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: 1]، لا تفسير لهما إلا السماع، ونحوهما سائر الموارد. ولم ينطلقا من أي اعتبار قيمي، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب... ولا التذكير فخر للهلال
قال آخر: وبناء على هذا، فإن تعامل اللغة العربية مع اسم الله تعالى وأوصافه تعامل المذكر مرجعه إلى السماع، ولا قاعدة قياسية له.. وكون المسألة سماعية لا يعني أنها مبتنية على خطأ.
قال آخر: فالسماع لا يوصف بالخطأ؛ لأن اللسان العربي العام قد جرى على ذلك، فيصبح السماع قاعدة مطردة، والخروج عليه هو المخالف للقاعدة وهو الخطأ.
قال آخر: والجري القرآني على ما جرى عليه العرب في لغتهم واعتادوه في استعمالاتهم هو أمر له مبرراته البلاغية والتبليغية، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ [إبراهيم: 4]
قال آخر: ومما يشهد بكون التذكير في اسم الله تعالى ليس منطلقا من عقدة أو عقيدة احتقار الأنثى، أنا وجدنا العرب والمسلمين قد يؤنثون بعض الألفاظ المتصلة بالله تعالى، فيقولون: (الذات الإلهية)، أو (الحضرة الربوبية).. ويقولون في جمع كلمة إله: (قالت الآلهة)، ونظائر ذلك كثير في لغتهم.
ربوبيون وربانيون (1/174)
حكى الربوبي التائب هذا المشهد، ثم قال: ومن المشاهد التي لا أزال أذكرها جيدا في ذلك المركز أني دخلت إليه يوما، فلم أجد أحدا من الأساتذة، فسألت البواب، فذكر لي أنهم داخل المصلى، وكانت أول مرة أعرف فيها أنه يمكن أن يوجد مصلى في مركز مملوء بكل ما يرتبط بالعلم والثقافة.
وعندما قصدته، وجدتهم بين ساجد وراكع، وكلهم يصلي بخشوع عظيم..
بعد أن خرجوا، قلت لهم بكل جرأة: ألا ترون أن الطقوس التي قمتم بها الآن، لن تنفع إلهكم شيئا.. ولذلك لم تكن سوى مجرد أفعال عبثية لا قيمة لها؟
ابتسم أحدهم، وقال (1): ربما عقلك يقول لك ذلك، ولكن عقولنا تقول لنا: إن من يؤمن بوجود الله تعالى لا يسعه أن يتنكر لفكرة عبادته، وذلك لأن العبادة تعبير عن شكرنا له تعالى، وهو يستحق الشكر والامتنان، اعترافا بجميله، فهو المنعم والمتفضل علينا بخلقنا وبكل ما أولانا من نعم لا تعد ولا تحصى.
قال آخر: صحيح أنه تعالى لا يطلب منا الشكر لحاجة له في ذلك، لأنه غني عن العالمين، ولكنه أهل للشكر وهو يستحقه، ولا يسع أي عاقل أن ينكر ذلك، وأنى له أن ينكر والعقل يحكم بلزوم شكر المنعم.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن العبادة تمثل حالة التجاء واستناد إليه تعالى، وعندما نلتجئ إليه في كل أحوالنا، ولا سيما في حالات الضعف البشري والخوف والقلق الذي يواجهنا في الحياة، فإن ذلك اللجوء يمنحنا إحساسا بالأمن وشعورا بالاطمئنان، كما
__________
(1) استفدنا المادة العلمية في هذا المشهد من كتاب: عالم دون أنبياء، ص 71، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/175)
قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].. ولذلك، نحن نلتجئ إلى خالقنا وهو القوي والعزيز وهو العطوف والرحيم، بل هو الأرحم والأرأف بنا من أهلينا وأولادنا وإخواننا ومن كل الناس، ولا يطلب على إحسانه ونعمه أجرا ولا شكرا.
قال آخر: ولذلك نحن نستغرب ممن يؤمن بالله تعالى، ثم في الوقت عينه يسد على نفسه أبواب رحمته، ولا يريد أن يستفيد منه أو يستمد منه أهم ما يمكن أن يعطيه ويمنحه هذا الإله لخلقه، وهو أن يشكل ملجأ وكهفا حصينا له يشعره بالأمن والسكينة والاطمئنان، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]
قلت: إنني وإخواني من الربوبيين لا ننكر مبدأ العبادة من أصله، ولا نرفض فكرة شكر الخالق وامتنانه على نعمه وإحسانه وعرفان جميله، إلا أننا ننكر العبادة المرسومة التي يؤديها المتدينون، ونرفض اعتماد طقوس خاصة في التعبد تعبيرا عن الشكر والامتنان.. وبذلك نكون قد انسجمنا مع أنفسنا حيث نرفض العبادة التي يمارسها المتدينون لعدم إيماننا بكونها وحيا إلهيا، وفي الوقت عينه لم مرفض مبدأ عقليا وهو لزوم شكر المنعم.
قال أحدهم: إذا أقررت بالمبدأ العقلي القاضي بلزوم شكر المنعم، فإن من الجدير بك أن تقر أيضا بمبدأ آخر، وهو أن الله تعالى هو الجهة الأمثل لتعليمنا كيفية الشكر، لا لأنه الأعلم فحسب، بل لأن شكره ـ خصوصا إذا أريد تحويله إلى مراسم خاصة يواظب عليها العباد ـ بالطريقة المستقاة منه هو المتعين، وذلك حذرا من وقوعنا في فخ المغالاة في ذلك أو الإفراط والتفريط فيما لو ترك الأمر إلينا وحرصا على انتظامنا في طريقة شكر موحدة وذات إيقاع متناغم، كما هو الحال في العبادات التي نؤديها نحن المسلمون في انتظام وانسجام.
قال آخر: أجل، إننا لا ننكر أن بإمكاننا أداء وظيفة الشكر لله تعالى من خلال قيامنا
ربوبيون وربانيون (1/176)
بتقدير النعم الإلهية، وتوقيرها تقديرا عمليا يتمثل بالسعي في بذل شيء من طاقاتنا، وما أولانا الله من نعم في سبيل مساعدة عباد الله المحتاجين والتخفيف من معاناتهم، وهذا ما يعده الإسلام شكرا عمليا للخالق عز وجل، ويعتبره من أفضل أنواع العبادة لله سبحانه، دون أن ينفي ذلك حقه علينا في تعليمنا وتوجيهنا إلى طريقة محددة للشكر، يطلبها منا تحقيقا لبعض الأهداف والغايات الراجعة إلينا.
قال آخر: وباختصار، إن هناك طريقين لشكر المنعم.. أولاهما طريقة الشكر المحددة من خلال الوحي، وهي طريقة توقيفية ولا تجوز الزيادة عليها ولا النقيصة فيها، وهي من حقه تعالى على عباده، وإنما افترضها عليهم وأرشدهم إليها حرصا منه عليهم ولأن ذلك يصب في مصلحتهم.
قال آخر: وثانيهما طريقة مفتوحة أمام الناس، ليشكروا ربهم بطريقتهم الخاصة، بألسنتهم المختلفة، أو بقلوبهم الحانية العامرة بالحب، أو بعقولهم المؤمنة بربها، أو بأعمالهم الإنسانية التي تخدم الآخرين وتساعدهم وتحنو عليهم.. ونحن من جهتنا نؤمن بشرعية الطريقين، بينما تصرون أنتم على اعتماد الطريقة الثانية فقط دون حجة مقنعة أو دليل واضح.
قلت: ولكن عقلي لا يستطيع أن يتقبل ما يمارسه الكثير من المتدينين مما يسمونه عبادات، وفي نفس الوقت يمارسون كل أنواع الجرائم والانحراف.
قال أحدهم: لست وحدك من ينكر ذلك.. بل الله تعالى نفسه أنكر ذلك، حيث قال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون: 4 ـ 7]
قال آخر: لكن الانحراف والتشويه يستدعيان التصحيح، لا التأصيل.. ولذلك نحتاج إلى دعوة من شوه عبادته أو انحرف بها إلى تصحيح حاله، حتى لا يكذب على نفسه
ربوبيون وربانيون (1/177)
وربه.. ولا ندعوه إلى التوقف نهائيا عن العبادة.
قال آخر: ذلك أن العبادة الحقيقة هي حالة انفتاح روحي على الله تعالى، ولذلك لا بد أن تخترق شغاف القلب لتجعل الإنسان يحلق في فضاء الروح ويشعر بالاطمئنان والسلام، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]
قال آخر: وهي كذلك لا تقتصر أبدا على حالة توجه العبد إلى خالقه بالذكر والدعاء، وإنما تمتد إلى كل نشاط اجتماعي وإنساني يعود بالخير والنفع على بني الإنسان، لتشمل مساعدة الفقراء، وزيارة الأرحام والإخوان وطيب الكلام والبشر في وجوه الأنام وإزالة الأذى عن الطريق إلى غيرها من أنشطة الخير والأعمال الاجتماعية.. ولذلك كانت الزكاة في الإسلام بما تعبر عنه من تكافل اجتماعي عبادة لله تعالى.
قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن العبادة الحقيقية تعلم العابد الانعتاق والتحرر من كل عبوديات الأرض، فمن يركع لله العزيز المقتدر لا يمكن أن يركع لغيره، وعبوديتنا لله هي حالة الخضوع الوحيدة التي تزيد العبد عزا وفخرا ولا تشعره بالذلة والمهانة، وقد قال بعض أئمتنا في ذلك: (إلهي كفى بي عزا أن أكون لك عبدا، وكفى بي فخرا أن تكون لي ربا، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب)
قلت: مع كون ما ذكرتم جميل ومقنع إلا أني استغربت كثيرا أن أقرأ في القرآن هذه الآية: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، فهل من المعقول أن يخلقنا الله لنعبده؟ أهو يحتاج إلى عبادتنا أم أنه يريد معاقبتنا بهذه التكاليف العبادية الشاقة من صلاة وصوم وحج وغيرها؟
قال أحدهم: إن العبادة ـ التي يقصدها القرآن الكريم ـ ليست مجرد صلوات وأذكار
ربوبيون وربانيون (1/178)
وصيام وحج وعمرة، كما قد يفهمها البعض، مع أن هذه من أمهات العبادة ولها وظيفتها الجليلة على صعيد تهذيب الإنسان وتزكيته، وإنما العبادة ذات مفهوم يتسع للكثير من الأعمال العقلية والجسدية والروحية والعلمية والإنسانية.
قال آخر: ذلك أن للعبادة ثلاثة مجالات.. أولها.. العبادة الشعائرية، المتمثلة بالتزام ما جاء عن طريق الوحي من أعمال عبادية، واجبة كانت أو مستحبة، كالصلاة والصوم، والحج والعمرة، والذكر والدعاء.. وهذه العبادات يفترض بها أن تصقل شخصية الإنسان وتهذبها، وأن تمنح القائم بها الأمن والسلام الروحي من خلال علاقته بالله تعالى، ولجوئه إليه.
قال آخر: فالصلاة هي حالة ارتباط روحي بالله تسمو بالعبد إلى آفاق روحية عالية، وكذلك الصوم والحج، فكل ذلك يرمي إلى إيصال الإنسان لحالة التقوى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21]، وقال: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: 37]
قال آخر: أما المجال الثاني، فهو المجال الاجتماعي، من خلال الانخراط في شتى الأنشطة الاجتماعية، وأعمال الخير والبر التي تمد جسور التواصل الإنساني بين الناس.. فمساعدة الفقراء والمحتاجين، وزيارة الأرحام والإخوان، وتشييع جنازة الأخوة والأصدقاء، والابتسامة في وجوه الآخرين، وكل ما يساعد على نشر حبال المودة والترابط.. كله عبادة لله تعالى ومقرب نحوه، ويكتسب الإنسان عليه من الأجر والثواب كما يكتسب المصلي والصائم.
قال آخر: أما المجال الثالث، فهو عبادة الله من خلال القراءة الواعية والمتدبرة في الكتاب المنظور، والتعرف على آيات جمال الله وجلاله في هذا الكون الفسيح.. والعبادة هنا
ربوبيون وربانيون (1/179)
هي علم وعمل، وعقل وقلب.. علم يكتشف وعمل يبدع.. عقل ينظم وقلب يسدد ويصوب، لتتم الإفادة من كل الاكتشافات في سبيل رقي الإنسان لا في سبيل تسلطه وتكبره، في سبيل البناء لا في سبيل الدمار.
قال آخر: وقد أشار إلى هذه العبادة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تفكر ساعة خير من قيام ليلة) (1)
قال آخر: وعندما ينخرط الإنسان في هذه العبادة الكونية سوف يتملكه إحساس بالتواضع، لأنه كائن صغير في هذا الكون الفسيح، وهو مع سائر المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى، يسير في حركة دائبة وخاضعة للقوانين المحكمة التي أبدعتها يد القدرة الإلهية، التي أتقنت كل شيء
قال آخر (2): وبعبارة أخرى: إن هذه العبادة الكونية في آفاق السماوات والأرض، تشعر الإنسان أنه كائن صغير في هذا المعبد الكبير الذي يتحرك بانتظام، وهو ينطق بملء فيه ويخاطب ـ بلسان الحال ـ كل ذي لب: إن النظام يحتاج إلى منظم، والجمال يحتاج إلى ريشة تخط وأنامل تبدع، كما يحتاج ـ في المقابل ـ إلى ذوق يتلمس ووجدان يقر بالجميل ويعرف بالفضل والإحسان، وهذا هو الدرس العظيم لهذه العبادة، وهو الذي يعطيها هذا الوزن لتغدو تفكر ساعة أفضل من قيام ليلة.
قال آخر: والدرس الآخر لهذه العبادة هو درس الانتظام، فإنه إذا كانت هذه الكائنات بأجمعها تتحرك في مسار منتظم وبديع ولا تتخلف عنه طرفة عين أبدا، فالحري بالإنسان أيضا أن يتحرك في خط سوي مستقيم فلا يعبث ولا يدمر.
__________
(1) ابن سعد 7/ 392، وأبو نعيم 1/ 209، وابن عساكر 47/ 150.
(2) عالم دون أنبياء، ص 88.
ربوبيون وربانيون (1/180)
حكى الربوبي التائب هذا المشهد، ثم قال: بعد هذه المشاهد وغيرها، اجتمعت مع أصحابي، وحكيت لهم كل ما رأيته وسمعته مما يدل على فساد ما نعتقده، وعدم عقلانيته، فقال أحدهم: هل نسيت أن الأديان هي السبب في الإلحاد الذي وقعنا فيه.. فلولاها لما جهلت عقولنا ربنا الذي دلت عليه كل الدلائل.
قال آخر: أم أنك تريد أن تقع في أيدي اللصوص والدجالين الذين اتخذوا الانتماء إلى الله حرفة يتاجرون بها.
وهكذا ردد الجميع مثل هذه الكلمات.. لكني استطعت أن أقنعهم بما يتوافق مع عقولهم، فقلت: لا بأس.. فهلم نبحث في الأديان، وعلى مدار التاريخ.. فلعلنا نجد في بعضها ما لم تستطع عقولنا أن تصل إليه.
وافق الجميع على الفكرة التي طرحتها.. ثم وافقوا على الطريقة التي يتم بها البحث، لكنهم اشترطوا علي أن يختاروا المحل الذي يذهبون إليه، فقبلت.. فساروا بنا إلى مؤسسة كُتب على بابها بخط مزخرف [المركز العالمي لمحاربة خرافات الدين والمتدينين]
وقد رأينا في أول دخولنا إليه نفرا من الأساتذة المتخصصين في مقارنة الأديان، والذين أتاحوا لنا فرصة أن نسألهم عما نشاء، وقد لامست إجاباتهم أهواء رفاقي، لأنها زادتهم طمأنينة بما اختاروه لأنفسهم.
سأحكي لكم بعض ما سمعته منهم لتعرفوا السبب الذي أوقع الملاحدة في الإلحاد، والربوبيين في معاداة الأديان.
ربوبيون وربانيون (1/181)
لقد كان أول سؤال لنا عن معتقدات اليونانيين في الله.. ذلك أننا كنا نتصور أنهم أولى الأمم بالله، باعتبارهم أكثر تحضرا وعقلانية، وخاصة مع انتشار الفلسفة والعلوم المختلفة بينهم.. لكن ظننا لم يكن في محله.
لقد قال أحدهم يصف معتقداتهم (1): لقد حفل تاريخ العقيدة في اليونان بجميع أنواع العقائد الوثنية قبل أرباب (الأوليمب) الذين خلدوا في أشعار هومير وهزيوذ.. حيث عبد اليونانيون الأسلاف والطواطم (2) ومظاهر الطبيعة وأعضاء التناسل، ومزجوا هذه العبادات جميعا بطلاسم السحر والشعوذة.
قال آخر: واستمدوا من جزيرة (كريت) عبادة النيازك وحجارة الرواسب التي شاعت بين أهل الجزيرة من أقدم عصورها البركانية، فرمزوا بها إلى أرباب البراكين والعوالم السفلية، واتخذها بعضهم (طواطم) ينتسبون إليها انتساب الأبناء إلى الآباء.
قال آخر: ولما شاعت بين الإغريق عبادة (أرباب الأوليمب) كان من الواضح أنها أرباب مستعارة من الأمم التي سبقتهم إلى الحضارة وتنظيم العبادات.
قال آخر: فالإله (زيوس) أكبر أرباب الأوليمب هو الإله (ديوس) المعروف في الديانة الهندية الآرية القديمة، واسمه متداول في العبادات الأوروبية جميعا مع قليل من التصحيف بين اللغات واللهجات.. ومن تصحيفاته أسماء الله والإلهية عند الفرنسيين والطليان والإنجليز المعاصرين.
قال آخر: والربة أرتميس ـ ومثلها الربة أفروديت أو فينوس ـ هي الربة عشتار اليمانية
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: الله، العقاد، ص 93، فما بعدها.
(2) الطوطمية هي ديانة مركبة من الأفكار والرموز والطقوس تعتمد على العلاقة بين جماعة إنسانية وموضوع طبيعي يسمى الطوطم، والطوطم يمكن أن يكون طائراً أو حيواناً أو نباتاً أو ظاهرةً طبيعية أو مظهراً طبيعياً مع اعتقاد الجماعة بالارتباط به روحياً.
ربوبيون وربانيون (1/182)
البابلية، ومنها كلمة (ستار) التي تدل على النجم في بعض اللغات الأوروبية الحديثة.. والربة (ديمتر) هي إزيس المصرية كما قال هيرودوت، وهي واحدة من أرباب كثيرة تشابهت عبادتها في بلاد الإغريق وعبادتها بين قدماء المصريين.
قال آخر: وأضيف إلى هذه الأرباب (أدونيس) من (أدوناي) العبرية بمعنى السيد أو الإله.. وأضافوا إليها في مصر بعد الإسكندر المقدوني عبادة إله سموه سرابيس وهو اسم مركب من اسمي أوزيريس وأبيس المعبودين المصريين، وكان لهما معبد تدفن فيه العجول التي تعبد باسم أبيس بعد موتها وذهابها إلى مغرب أوزيريس.. كما أضيفت إليها عبادة (ديونسيس) في أطوارها المتتابعة التي تلبست أخيرا بعبادة (مترا) في الديانة الأورفية السرية.
قال آخر: وقد أعطى اليونان آلهتهم أبشع الصفات.. حيث صوروا أرباب الأوليمب، وهم يقترفون أقبح الآثام ويستسلمون لأغلظ الشهوات، وقد ذكروا أن زيوس قتل أباه كرونوس، وضاجع ابنته، وهجر سماءه ليطارد عرائس العيون والبحار، ويغازل بنات الرعاة في الخلوات، وغار من ذرية الإنسان، فأضمر لهم الشر والهلاك، وضن عليهم بسر (النار) فعاقب المارد برومثيوس لأنه قبس له النار من السماء.
قال آخر: ولم يتصوروه قط خالقا للدنيا أو خالقا للأرباب التي تساكنه في جبل الأوليمب وتركب معه متن السحاب، فهو على الأكثر والد لبعضها ومنافس لأنداده منها، وتعوزه أحيانا رحمة الآباء ونبل العداوة بين الأنداد.. ولم يزل (زيوس) إلى عصر (هومير) خاضعا للقدر مقيدا بأوامره، عاجزا عن الفكاك من فضائله.
قال آخر: ثم صوره لنا هزيود الشاعر المتدين على مثال أقرب إلى خلائق الرحمة والإنصاف ومثال الكمال، ولكنه نسب الخلق إلى أرباب أقدم منه ومن سائر المعبودات
ربوبيون وربانيون (1/183)
الأولمبية، وهي (جيا) ربة الأرض و(كاوس) رب الفضاء، وإيروس رب التناسل والمحبة الزوجية، وجعل إيروس يجمع بين الأرض وزوجها الفضاء فتلد منه الكائنات السماوية والأرضية وآخرها أرباب الأوليمب، وعلى رأسهم (زيوس) الملقب بأبي الأرباب.
قال آخر: وكان (أكسينوفون) المولود بآسيا الصغرى قبل الميلاد بنحو ستة قرون أول من نقل إلى الإغريق فكرة الإله الواحد المنزه عن الأشياء، فكان ينعي على قومه أنهم يعبدون أربابا على مثال أبناء الفناء، ويقول: إن الحصان لو عبد إلها لتمثله في صورة الحصان، وأن الأثيوبي لو تمثل إلها لقال إنه أسود الإهاب، وأن الإله الحق أرفع من هذه التشبيهات والتجسيمات، ولا يكون على شيء من هذه الصفات البشرية، بل هو الواحد الأحد المنزه عن الصور والأشكال، وإنه فكر محض ينظر كله ويسمع كله ويفكر كله ويعمل كله في تقويم الأمور وتصريف أحكام القضاء.
قال آخر: وكان أثر الديانات الآسيوية والمصرية أظهر، لأنها كانت ملتقى عبادة إيزيس وعبادة مترا وعبادة المجوس والبراهمة.. فعرفوا (الروح) وعرفوا تناسخ الأرواح، وعرفوا أدوار التطهير والتكفير، ومزجوا بها عبادة (ديونيس) الذي كان في عصورهم الغابرة إله الخمر والقصف والترف، فجعلوا خمره رمزا إلى النشوة الإلهية: نشوة الحياة والشباب الخالد المتجدد على مدى الأيام.
قال آخر: وكانوا يحتفلون في أثينا بعيد يسمونه الأنشستريا يوافق شهر فبراير، وتقوم شعائره على مزيج من عبادة الحياة وعبادة الأسلاف والموتى، فيشربون الخمر في جرار الجنائز والقرابين، ويعتقدون أن هذه الخمر تسري إلى الأجساد البالية فتنفث فيها الحياة، وتصلحها للبعث من جديد في أجسام الأجنة المطهرة من أدران حياتها الماضية.
قال آخر: وهكذا ظلوا بعد الفلسفة يدينون بالوثنية التي كانوا يدينون بها قبل الميلاد
ربوبيون وربانيون (1/184)
بعدة قرون.
بعد أن حدثنا الأساتذة المتخصصون عن معتقدات اليونانيين في الله، والتي زادت أصحابي فرحا بما هم عليه، سألناهم عن معتقدات المصريين باعتبارهم أصحاب حضارة متطورة، فقال أحدهم (1): لقد شاعت في مصر عبادة الطواطم قبل اتحاد المملكة وبعدها.. ويظن الكثيرون من علماء الأديان أن تقديس الصقر والنسر وابن آوي والقط والنسناس والجعل والتمساح وغير ذلك من فصائل الحيوان هي بقايا طوطمية تحولت مع الزمن إلى رموز، ثم فقدت معنى الرموز واندمجت في العبادات المترقية على شكل من الأشكال.
قال آخر: وشاعت في مصر عقيدة الأرواح، حيث كان المصريون من أعرق الأمم التي آمنت بالروح، ثم آمنت بالبعث والثواب والعقاب بعد الموت، ورمزوا للروح (كا) تارة بزهرة، وتارة بصورة طائر ذي وجه آدمي، وتارة بتمساح أو ثعبان، وقالوا بأن الروح تتشكل بجميع الأشكال، ولكنهم لم يقولوا بتناسخ الأرواح، ولعل اختلاف الرموز من بقايا اختلاف الطواطم في زمان سابق لزمان الاعتقاد بالبعث والثواب والعقاب.
قال آخر: أما أثبت العبادات وأعمها وأقواها وأبقاها إلى آخر العصور فهي عبادة الموتى والأسلاف دون مراء، فإن عناية المصري بتشييد القبور وتحنيط الجثث وإحياء الذكريات لا تفوقها عناية شعب من الشعوب، وقد بقيت آثار هذه العبادة إلى ما بعد بزوغ الديانة الشمسية وتمثيل أوزيريس بالشمس الغاربة، ثم تغليبه على عالم الخلود وموازين الجزاء.
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: الله، العقاد، ص 55، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/185)
قال آخر: فقصة أوزيريس هي قصة آدمية تشير إلى واقعة قديمة مما كان يحدث في الأسر المالكة في تلك العصور السحيقة، وهي قصة ملك أحبه شعبه ثم نازعه أخوه (ست) عرشه فقتله، وجاءت زوجته (إيزيس) بعد ذلك بابن اسمه (حوريس) أخفته في مكان قصي حتى بلغ الرشد، فرشحته للملك فساعده أنصار أبيه على بلوغ حقه في العرش، وعاد (ست) ينازعه هذا الحق أمام الآلهة ويدعي عليه أنه ابن (غير شرعي) من أب غير أوزيريس، فلم تقبل الآلهة دعواه وحكمت لحوريس بالميراث.
قال آخر: وتقول الأسطورة: إن أوزيريس ولد في الوجه البحري، ولكن رأسه دفن في الصعيد بقرية العرابة المدفونة، وإن (ست) حين قتله فرق أعضاءه بين البقاع لكيلا يعثر على جثته أحد من المطالبين بثأره، ولكن إيزيس جمعت هذه الأعضاء وتعهدتها بالصلوات والأسحار حتى دبت فيها الروح من جديد وحملت منه بحوريس الذي قدح عمه في نسبه، وقد حاول أوزيريس أن يعود إلى الملك فأخفق في محاولته وقنع بالسيادة على عالم (المغرب) حيث تغيب الشمس وتنحدر إلى عالم الأموات.
قال آخر: وللخصب شأن لا يستغرب في ديانة مصر القديمة، فهم يرمزون إلى الكون كله ببقرة تطلع من بطنها النجوم، أو بامرأة تنحني على الأرض بذراعيها ويسندها (شو) إله الهواء بكلتا يديه.
قال آخر: وأقدم ما تخيلوه في أصل العالم المعمور أنه عالم واسع من الماء طفت عليه بيضة عظيمة خرج منها رب الشمس، وأنجب أربعة من الأبناء هم (شو) و(تفنوت) القائمان بالفضاء، و(جب) رب الأرض، و(نوت) رب السماء.
قال آخر: ويذكرون أن السماء تزاوجت مع الأرض فولد لهما أوزيريس، وإيزيس وست ونفتيس، فهم تسعة آلهة في مبدأ الخليقة نشأوا من تزاوج الأرض والسماء، ثم استقر
ربوبيون وربانيون (1/186)
الأمر لثلاثة من هؤلاء هم أوزيريس وإيزيس وحورس، وهناك صيغة أخرى من قصة الخلق فحواها أن (رع) كان مزدوج الطبيعة، فتولد منه الخلق فهو منهم بمثابة الأبوين.
قال آخر: ويتراءى لفريق من المؤرخين أن (رع) نفسه ـ إله الشمس ـ كان ملكًا على مصر في زمن من الأزمان، ويستدلون على ذلك بخلاصة قصته المتداولة في الأساطير، وهي أن رع ملك الدنيا قبل سكانها من البشر فتمرد عليه رعاياها فسلط عليهم ربة النقمة (حاتحور)، ثم أشفق عليهم من قسوتها، فاعتزل الدنيا وحملته بقرة السماء على ظهرها فأقام هناك، واندمج شخصه بعد حين بشخص أوزيريس.
قال آخر: وقد فعل غربال الزمن فعله في تصفية هذه العقائد والأرباب، فنسي أوزيريس السلف المعبود ورسخ في الأذهان وصف أوزيريس الشمس القائمة على المغرب أو عالم الأموات، وتوحدت عبادة الشمس بمعناها وتعددت بأسمائها ومواعدها، وجمعت بينها كلها عبادة (آمون) ثم عبادة آتون.
قال آخر: وعبادة (آتون) هي أرقى ما وصل إليه البشر من عبادات التوحيد في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.. فلم يكن المراد بآتون قرص الشمس ولا نورها المحسوس بالعيون، ولكن الشمس نفسها كانت رمزًا محسوسًا للإله الواحد الأحد المتفرد بالخلق في الأرض والسماء.
قال آخر: وكانت في أقاليم القطر ـ قبل ظهور عبادة آتون ـ ثلاث عبادات (شمسية) تتنافس في المبادئ الروحية ووسائل النفوذ التي تتغلب بها على النظراء.. فكانت منف تدين لإله الشمس باسم فتاح.. وكانت عين شمس أو (هيليوبوليس) تدين له باسم رع وأحيانًا باسم (آتوم)، وكانت طيبة تدين له باسم آمون.
ربوبيون وربانيون (1/187)
بعد أن حدثنا الأساتذة المتخصصون عن معتقدات المصريين في الله، سألناهم عن معتقدات الهنود القديمة، فقال أحدهم (1): ترجع الديانة الهندية القديمة إلى أزمنة أقدم من العصر الذي دونت فيه أسفارها المعروفة بالكتب الفيدية.. ويختلف المؤرخون المختصون بالهند في العصر الذي تم فيه هذا التدوين، فمنهم من يرده إلى ألف وخمسمائة سنة قبل الميلاد، ومنهم من يرده إلى ستة آلاف سنة قبل الميلاد، ولكنهم لا يختلفون في سبق الديانة الهندية لهذا العصر بزمن طويل.
قال آخر: وقد اشتملت الديانة الهندية القديمة على أنواع شتى من الآلهة.. ففيها آلهة تمثل قوى الطبيعة وتنسب إليها، فيذكرون المطر ويشتقون منه اسم (الممطر) فهو الإله الذي يتوجهون إليه في طلب الغيث، ومن هنا اسم (أندرا) إله السحاب المشتق من كلمة (أندو) بمعنى المطر أو بمعنى السحاب.. وكذلك يذكرون إله النار وإله النور وإله الريح وإله البحار ويجمعونها في ديانة شمسية تلتقي بأنواع شتى من الديانات.
قال آخر: وأقدم معاني الإله عندهم معنى (المعطي) أو ديفا بلغتهم التي بقيت آثار منها في اليونانية واللاتينية وبعض اللغات الأوروبية الحديثة، فكلمة (ديو) الفرنسية Dieu وكلمة ديتي Deity الإنجليزية وكلمة زيوس اليونانية القديمة مأخوذة من أصلها الهندي المتقدم.
قال آخر: ويرجح المؤرخون أن جوبيتر عند اللاتين ـ وهو (المشتري) في اصطلاح علم الهيئة ـ هو مزيج من كلمة المعطي وكلمة الأب، بمعنى أبي العطاء أو الأب المعطي للجميع، وهما في الهندية القديمة ديوس بيتار Dyaus ـ Petar إذ لا تزال كلمة الأب في أكثر
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: الله، العقاد، ص 63، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/188)
اللغات الأوروبية متفرعة من هذا الجذر الأصيل على تعدد اللهجات ومخارج الحروف.
قال آخر: واشتملت البرهمية القديمة على عبادة الأسلاف كما اشتملت على عبادة المظاهر الطبيعية.. فتقديس الملك عندهم إنما هو تقليد موروث من تقديس جد القبيلة، تحول إلى تقديس الرئيس الأكبر في الدولة بعد أن تحولت القبيلة إلى الأمة.
قال آخر: ومراسم تقديس الملك التي لا تزال مرعية في جوار الهند كانت تحاكي مراسم قصة الخليقة كما تخيلها المصريون، فلم يكن حق الملك مستمدا من الجلوس على العرش أو من البناء بالمملكة التي تنقل إليه حقوقه الملكية، ولكنه يتولى هذا الحق بعد تقديسه في حفل يمثل قصة الخليقة، وكأنهم يعنون بهذا أن الملك يستمد من ذلك التقديس قدرته على الخلق ومنح الحياة، وهي قدرة لا غنى عنها لاضطلاعه بالفرائض الملكية.
قال آخر: وقصة الخليقة في الهند تشبه قصة الخليقة المصرية في أكثر من صيغة واحدة من صيغها العديدة؛ فالحياة ـ كما يذكرون ـ خرجت من بيضة ذهبية كانت تطفو على الماء في العماء، والإله الأكبر كان ذكرا وأنثى فهو الأب والأم للأحياء كما جاء في (رع) في بعض الأساطير المصرية، وبناء العالم من صنع بناء ماهر في أساطير مصر والهند على السواء، وتتفق مصر وبابل والهند على أن الإله الأكبر قد خلق الأرض بكلمة ساحرة، فأمرها بأن توجد فبرزت على الفور إلى حيز الوجود.
قال آخر: وتعززت في الهند عبادة الطواطم بعقيدتهم في وحدة الوجود وتناسخ الأرواح كما تعززت بعقيدة الحلول؛ فعبدوا الحيوان على اعتباره جدا حقيقيا أو رمزيا للأسرة ثم للقبيلة، ثم تخلفت عبادة الحيوان حتى آمنوا بأن الله يتجلى في كل موجود أو يخص بعض الأحياء بالحلول فيه، وآمنوا بتناسخ الأرواح فجاز عندهم أن يكون الحيوان جدا قديما أو صديقا عائدا إلى الحياة في محنة التكفير والتطهير، فعاشت عندهم الطوطمية
ربوبيون وربانيون (1/189)
في أرقى العصور كما عاشت في عصور الهمجية، لهذا الامتزاج بين الاعتقاد الحديث والاعتقاد القديم.
قال آخر: وقد وجد فيهم كما في سائر الأمم من يعتقد بالإله الواحد، وإن اختلفوا في المنهج الذي سلكوه، فلم يكن إيمانهم به على الأساس الذي قام عليه إيمان الشعوب الأخرى بالتوحيد؛ فهم قد بدأوا بإبطال جميع المظاهر فنسبوا إليها التعدد والاختلاف لأنها تتكرر وتزول وتستر من ورائها الحقيقة الأبدية التي لا تتكرر ولا تزول، وتلك هي حقيقة القضاء والقدر، التي تقدر للآلهة وتقضي عليهم كما تقدر لسائر الموجودات وتقضي عليها في أجلها المحدود.
قال آخر: وهنا ذهب حكماؤهم إلى مذهبين غير متفقين؛ فبعضهم تمثل تلك الحقيقة إلها واحدا قريبا من الإله الواحد في أكثر ديانات التوحيد.. وقد قال بعض المؤرخين معبرا عن ذلك: (أيا كان العصر الذي تم فيه جمع الأناشيد المسطورة في الرجفيدا فقبل ذلك العصر كان بين الهنود مؤمنون بالله الأحد الذي لا هو بذكر ولا بأنثى ولا تحده أحوال التشخيص وقيود الطبيعة الإنسانية، وارتفع شعراء الفيدا في الواقع إلى أوج في إدراكهم لكنه الربوبية لم يترق إليه مرة أخرى غير أناس من فلاسفة الإسكندرية المسيحيين، ولكنه فوق هذا لا يزال أرفع وأعلى مما يطيف بأذهان قوم يدعون أنفسهم بالمسيحيين.)
قال آخر: وتبدو مداناة هؤلاء البراهمة لمذهب الموحد المؤمن بالذات الإلهية من إيمانهم بالخلاص على يد الله، وبقاء فريق منهم بعد ذلك بمئات السنين ينقسمون في شرح سبيل الخلاص على نهجهم الذي لا نستغربه من قوم يعظمون الحيوان ذلك التعظيم، فمنهم من يسمي سبيل الخلاص بالسبيل القردية، ومنهم يسميها بالسبيل القطية، ويقصدون بهذه التسمية أن الله يخلص الإنسان إذا تشبث به كما يتشبث ولد القرد الصغير بأمه وهي تصعد
ربوبيون وربانيون (1/190)
به إلى رؤوس الأشجار، أو أن الله على اعتقاد الآخرين يخلص الإنسان وهو مغمض العينين مستسلم للقضاء، كما يستسلم ولد القطة لأمه وهي تحمله مغمضا من مكان إلى مكان.. فالله الذي يخلص عباده هذا الخلاص أو ذاك هو ذات على كلتا الحالتين يتشبث بها العابد أو يستسلم لقضائها فتسهر عليه وإن غفل عنها.
قال آخر: ويتسمى هذا الإله بثلاثة أسماء على حسب فعله في الوجود، فهو (برهما) حين يكون الموجد الخالق.. وهو فشنو حين يكون الواقي المحافظ.. وهو سيفا حين يكون المهلك الهادم، ولا نهاية للتداخل ولا للترجيح بين هذه الأسماء والوظائف والأفعال، على تباين النحل والملل والأجيال.
قال آخر: أما الفريق الثاني فالحقيقة الأبدية عنده معنى ليس له قوام من الذات الواعية، وإنما هو قانون يقضي بتلازم الآثار والمؤثرات، ويقابل الاعتقاد بالقضاء والقدر عند المؤمنين بالأديان الكتابية.. إلا أنه قضاء يسري على الآلهة كما يسري على البشر، ويتغلغل في طبائع الخالقين كما يتغلغل في طبائع المخلوقات، وحكمه الذي لا مرد له هو حكم التغير الدائم والفناء، وحكم الإعادة والإبداء.
قال آخر: ولا نحسب أن أحدا من الأقدمين بلغ في إعظام الأكوان المادية مبلغ البراهمة، سواء في تقدير السعة أو تقدير القدم أو تقدير البقاء؛ فإن أناسا من الأقدمين لم يجاوزوا بعمر الأكوان المادية بضعة آلاف سنة، وأناسا منهم جعلوا لها خلقا واحدا وفناء واحدا خلال أجل مقدور من القرون، لكن البراهمة جعلوا لها أربعة أعمار تساوي اثني عشر ألف سنة إلهية وأربعة ملايين وثلثمائة وعشرين ألف سنة شمسية، وبعض المتأخرين يضاعفها ألف ضعف ويقولون جميعا إنها دورة واحدة من دورات الوجود، وإن هذه الدورة هي يوم يقظة يقابله ليل هجوع، ينقضي بين كل دورة فنيت وكل دورة آخذة في
ربوبيون وربانيون (1/191)
الابتداء.
قال آخر: والقانون الأبدي Karma يقلب هذه الأدوار فيبدئها ويحفظها ويفنيها ثم يختم هذا النهار بليل من ليالي الهجوع، ثم يعود فيطلع النهار كرة أخرى دواليك إلى غير انتهاء؛ لأنه لا انتهاء للزمان.. ويتضاءل الإنسان الفاني كلما تعاظم هذا الفناء الخالد أو هذا الخلود الذي يتجدد بالفناء، فليس للإنسان حساب كبير في هذه الحسبة الأبدية؛ لأنه رقم ضئيل يغرق في طوفان الأرقام التي لا يحيط بها العد والإحصاء.
قال آخر: وعلى هذه القاعدة قامت البوذية التي بشر بها البوذا جوتاما قبل الميلاد المسيحي بحوالي خمسة قرون.. فالبوذية إنما قامت على أساس البرهمية في كل عقيدة من عقائد الأصول، وإنما تميزت عنها بتبسيط العقائد لطبقات من الشعب غير طبقات الكهان، فأخرجتها من حجابها المكنون في المحاريب إلى المدرسة والبيت وصفوة المريدين، ولا تعتبر البوذية إضافة في صميم العقائد الدينية بل إضافة في آداب السلوك وفلسفة الحياة، وإضافة في عرض الآراء على غير المستأثرين بها قديما من سدنة الهيكل والمحراب.
قال آخر: وخلاصة الفلسفة التي أتى بها البوذا جوتاما هي تقريره هذه المبادئ الأربعة.. وأولها أن هناك عذابا وشقاء.. وثانيها أن هناك سببا للعذاب والشقاء.. وثالثها أن هذا السبب قابل للزوال.. ورابعها أن وسيلة الانتهاء إلى هذه الغاية موجودة لمن يختار.
قال آخر: وذكروا أن سبب الشقاء هو الجهل الذي جعلنا نتعلق بالأوهام وننسى لباب الأمور، أو نتعلق بالعرض ونعرض عن الجوهر الأصيل.. والعرض هو كل ما يزول ويتغير، وهو من شر وفساد، وكل ما نحسه هو عرض تشمله لعنة الزوال.. فما من شيء ثم يكون، بل كل شيء يصير ولا يكف عن التغير.
قال آخر: وعلى هذا النحو ينكر البوذا وحدة (الشخصية الإنسانية) لأنها لا تتجاوز
ربوبيون وربانيون (1/192)
أن تكون تلاحقا مستمرا للأحاسيس يبدو لنا كأنه حزمة مضمونة في كيان واحد، ومفسروه في العصر الحديث يمثلون لذلك بشريط الصور المتحركة الذي يلوح لنا شيئا واحدا وهو خطفة بعد خطفة من الألوان والظلال.
قال آخر: وهم يذكرون أنه إذا كان الشقاء في التطرف بالحس إلى النقيضين، فالخلاص من الشقاء لا يتأتى بغير الاعتدال بين كل طرفين، وبهذا نميط عنا غشاوة الخداع الذي يتراءى على ظاهر الأشياء للنفاذ إلى ما وراءها من سر الوجود.. فلا استغراق في إرضاء الحس ولا استغراق في قمعه وتجريده، بل توسط بين الغايتين في أمور الحياة الثمانية، وهي الفهم والعزم والكلام والسلوك والمعيشة والعمل والتأمل والفرح.. فالفهم طرفاه التصديق بكل ما يقال وإنكار كل ما يقال، والوسط بينهما التمييز بين الباقي والزائل والظاهر والباطن والثابت والذي ليس له ثبوت.. والعزم طرفاه التهافت والإهمال، والوسط بينهما إرادة الحكمة متى تبين السبيل إليها بالفهم الصحيح.
قال آخر: وهم يذكرون أن الفرح الصادق هو فرح الرضوان الذي يتاح للإنسان في هذه الحياة فيبلغ به ملكوت (النرفانا) الأرضية في انتظار النرفانا الصمدية، وهي السكينة أو الفناء، وبينها وبين العدم فرق كبير.. لأنها هي وجود يفنى في وجود، ويفسرها بعض العصريين من أذكياء البوذيين بفناء ألوان الطيف في البياض الناصع الذي ليس له لون، وهو ملتقى جميع الألوان.
قال آخر: وهم يذكرون أنه بهذه الآداب ينجو الإنسان من رباط ذلك الدولاب الدائر بالولادة والموت والتجدد في حياة بعد حياة وجثمان وراء جثمان، فيدخل في (النرفانا) ولا يولد بعد ذلك ولا يموت.. وحكمه في هذا المصير حكم الأرباب والملائكة وحكم السماوات والأرضين، فكلها خاضع لقانون القضاء والقدر الذي لا فكاك منه لموجود،
ربوبيون وربانيون (1/193)
وكلها عرضة للتكفير والتطهير والتحول والتغيير، ثم للذهاب في غمرة الفناء الأخير.
قال آخر: وموضع التناقض في هذه الفلسفة أنها تنكر (الشخصية الإنسانية) ولا تعترف بالذات أو بالروح وهي مع هذا تؤمن بتناسخ الأرواح وثبوت شيء في الإنسان يبقى على التنقل بين الأجساد والدورات.. وهي تؤمن بالكل أو (المطلق) الصمدي الوجود، ثم تنفي عنه الذات كما تنفيها عن الإنسان.. مع أن الكل بغير ذات لا يكون كلا بمعنى من معاني الكلية، ولكنه شتات من أجزاء متفرقات.
قال آخر: وعلينا أن نحترس من مغالاة الشراح الأوربيين بهذه الفلسفة البوذية؛ لأنهم يتعصبون لكل منسوب إلى الآرية على اعتبارها عنصر الأوربيين الأقدمين والمعاصرين؛ فقد رفعوها فوق قدرها بلا مراء، وزعموا أنها (جرأة العقل الكبرى) في مواجهة المشكلة الكونية، وأنها الخطوة المقتحمة التي لم يذهب وراءها ذو عقيدة في مطاوح التأمل والإقدام.
قال آخر: لكنها لا تحسب من الجرأة العقلية بوصف من الأوصاف، فما هي إلا جرأة حسية في أقصى ما تطوحت إليه من الفروض والأظانين، وما البوذية كلها إلا تململا من وطأة الحس والجسد، ولا سعادتها القصوى إلا ضيقا بالحس وهربا منه إلى الفناء أو (اللاوعي) على أحسن تقدير.
قال آخر: والمحسوس عندها شامل للمعقول، والكائن بحق الحس عندها شامل للكائن بحق العقل وحق الوعي وحق الذات.. والآلهة عندها تأتي في المرتبة التالية بعد مرتبة الأكوان، وما ارتفعت الأكوان عندها إلى هذه المرتبة إلا بأنها هي المحسوس، وهي أول ما يفاجئنا قبل أن نفكر وقبل أن نتأمل وقبل أن ندين باعتقاد.
قال آخر: نعم إنها قد مدت نطاق الأكوان في الزمان والفضاء مدا قصر عنه المتدينون
ربوبيون وربانيون (1/194)
الأقدمون في معظم الأمم والأقطار.. ونعم إنها نفذت وراء الظواهر فتجاوزتها إلى ظواهر أعم منها وأبقى، فكان البرهميون يجزمون بأن الشمس لا تغيب عن الفضاء حين تغرب في المساء، يوم كان الأقدمون يحسبونها تهلك في مغربها أو يحسبونها تحجب وراء الجبال أو تتوارى بما تخيلوه من ضروب الحجاب، لكنها مدت نطاق الأكوان بحسية كبيرة لا بالخروج من الحسية والجرأة عليها، واختصرت الظواهر بالإقلال منها بعد تكثيرها ولم تردها آخر الأمر إلى ظاهرة واحدة، ولا إلى عقل تتساوى فيه هذه الظواهر في عنصر التجريد.
قال آخر: والبوذيون المعاصرون يسوغون تجريد (الكل) من الذات، أو تجريد الإله الأعظم من الذات، بأن الذات شبهة إنسانية نشأت من تخيل الإنسان كل موجود على مثاله ومنحاه.. ولكن تخيل الإنسان طبقة أعلى من تخيل الإله مجموعة من هذه الأكوان البكماء، وكل ما يقولونه عن ربوات الفراسخ التي يمتد إليها الفضاء لا تزيده على أن يكون فضاء في كل مكان: وذرة واعية في نواة تعيش الألوف منها على سن الإبرة ـ هي أوسع امتدادا في آفاق الوجود من أوسع فضاء لا وعي فيه.
قال آخر: ومن راعه امتداد الفضاء ولم يرعه امتداد (الوعي) فهو يقيس العالم بالأشبار والأمتار ولا يقيسه بعمق الحياة وكنه الوجود الذي يعلم أنه وجود، وما من فارق كبير بين وجود لا وعي له وبين معدوم.. ولذلك، فالبوذية فتح في ميدان التصوف أو ميدان (الوجدانيات) والفضائل الخلقية، ولكنها ليست بالفتح الجريء في معارج الوصول إلى الكمال: كمال الإله.
بعد أن حدثنا الأساتذة المتخصصون عن معتقدات الهنود في الله، سألناهم عن
ربوبيون وربانيون (1/195)
معتقدات الصينين القديمة، فقال أحدهم (1): اختبرت الصين جميع أنواع العبادات من أدناها إلى أرقاها.. لكنها ـ على كثرة العبادات التي دانت بها ـ لا تحسب من أمم الرسالات الدينية كمصر وبابل والهند وفارس وبلاد العرب؛ لأنها لم تخرج للعالم قيما دينية تلقاها منها، وهي باصطلاح التجارة تحسب من الأمم المستنفدة في مسائل الديانات؛ لأنها أخذت من الخارج قديما وحديثا عقائد البوذية والمجوسية والإسلام والمسيحية ولم تعط أمة عقيدتها، مع استثناء اليابان التي أخذت عنها نحلة كنفشيوس.
قال آخر: وأهل الصين لا يخوضون كثيرا في مباحث ما وراء الطبيعة، ويوشك أن يكون التدين بينهم ضربا من أصول المعاملة وأدب البيت والحضارة.. فأشيع العبادات بينهم عبادة الأسلاف والأبطال، وأرواح أسلافهم مقدمة بالرعاية على جملة الأرواح التي يعبدونها ويمثلون بها عناصر الطبيعة أو مطالب المعيشة، ولا يقدر الصيني قربانا هو أغلى في قيمته وأحب إلى نفسه من قربانه إلى روح سلفه المعبود، وهو يحتوي الأغذية والأشربة والأكسية والطيوب، ومنهم من يحرق ورق النقد هبة للروح التي يعتقدون أنها تحتاج إلى كل شيء كانت تحتاج إليه وهي في عالم الأجساد.
قال آخر: والخير والشر عندهم هو ما يرضي الأسلاف أو يسخطهم من أعمال أبنائهم.. فما أرضى السلف فهو خير، وما أسخطهم فهو شر، وقد يختارون فردا من أفراد الأسرة ينوب عن جده المعبود فيطعمونه ويكسونه ويزدلفون إليه ويحسبون أن روح الجد هي التي تتقبل هذه القرابين في شخص ذلك الحفيد.
قال آخر: وتتمشى عبادة العناصر الطبيعية جنبا إلى جنب مع عبادة الأسلاف
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: الله، العقاد، ص 72، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/196)
والأبطال، فالسماء والشمس والقمر والكواكب والسحب والرياح آلهة معبودة أكبرها إله السماء (شانج تي) ويليه إله الشمس فبقية الأجرام السماوية فالعناصر الأرضية.. وهم يتقربون إلى (شانج تي) بالذبائح ويبلغونه صلواتهم بإشعال النار على قمم الجبال، فيعلم الإله ـ مما أودعه الكاهن دواخينها ـ فحوى الرسالة التي يرفعها إليه عباده، ولا يحسنون الترجمة عنها كما يحسنها الكهان.
قال آخر: وإله السماء عندهم هو الإله الذي يصرف الأكوان ويدبر الأمور ويرسم لكل إنسان مجرى حياته الذي لا محيد عنه، وإنما يداول تركيب الوجود من عنصرين هما (ين) عنصر السكون و(يانج) عنصر الحركة، وقد يفسر عنصر السكون بالراحة والنعيم وعنصر الحركة بالشقاء والعذاب، فهما بهذه المثابة يقابلان عنصري الخير والشر وإلهي النور والظلام في الأديان الثنائية.
قال آخر: وقد امتزجت عبادة الأسلاف بعبادة العناصر الطبيعية في القرن العاشر حين تسمى عاهل الصين باسم (ابن السماء)، ويقال إنه استعار الفكرة من كاهن ياباني أراد أن يزدلف إليه فعلمه مراسم تأليه الميكاد في بلاده، فنقلها العاهل إلى بلاط الصين.
قال آخر: وأراد الفيلسوف (شوهسي) في القرن الثاني عشر أن ينشئ بوذية صينية توافق مذهب بوذا في أمور وتخالفه في أمور، فدعا إلى دين لا إله فيه ولا خلود للروح، ووضع (لي) موضع (كارما) الهندية أو القانون أو القضاء والقدر، وسمى دولاب الزمن (تايشي) لأنه هو المحرك لجميع الكائنات، وجعل القانون والدولاب والمادة أو (ووشي) قوام العالم ظاهره وخافيه، فالمادة تحد من القانون، والقانون خالد لا وعي له ولا يسمع ولا يجيب، وإنما ينشأ الوعي أو الإدراك في الإنسان من قدح القانون للمادة كما ينقدح الحجر من الزناد فيخرج الشرر ثم ينطفئ فيموت، وتزول الأرواح كما تزول الأجساد متى نضجت
ربوبيون وربانيون (1/197)
كما تنضج الثمرة في أجلها المعلوم، وقد يبطئ النضج فيطول بقاء الروح فهي إذن طيف أو شبح، كأنها الثمرة في حالة العفن والإهمال.
قال آخر: ومن أشهر المعلمين في الصين (كنفشيوس) و(كنج فو) وأضيفت إليه تسي أي المعلم، وكذلك (لاو) الذي ولد قبله ولم يشتهر في خارج الصين مثل اشتهاره يعرف بلاوتسي أي المعلم لاو، وكلاهما يبشر بالحلم والصبر والبر بالوالدين والعطف على الأقربين والغرباء، والفرق بينهما هو فرق في الخلق والمزاج وليس بفرق في العقيدة والإيمان، فلاو يقول: (من كان طيبا معي فأنا طيب معه، ومن أساء إلي فأنا طيب معه كذلك.. فلنجز السيئة بالحسنة ولنعمل الطيب على كل حال) أما كنفشيوس فهو يوصي بأن نقابل السيئة بالعدل وأن نقابل الإحسان بالإحسان.
قال آخر: ولما مات كنفشيوس سنة (478) ق. م أقاموا له الهياكل وعبدوه على سنتهم في عبادة أرواح الأسلاف الصالحين، وأوشكوا أن يتخذوا عبادته عبادة رسمية، أي حكومية على عهد أسرة هان في القرن الثاني قبل الميلاد، وأوجبوا تقديم القرابين والضحايا لذكراه في المدارس ومعاهد التعليم، وكانت هياكله في الواقع بمثابة مدارس يؤمها الناس لسماع الدروس كما يؤمونها لأداء الصلاة.
قال آخر: ولم تزل عبادته قائمة إلى العصور المتأخرة بل إلى القرن العشرين، حيث خصوه سنة (1906) بمراسم قربانية كمراسم الإله الأكبر (شانج تي) إله السماء لأنه في عرفهم (ند السماء) ومن لم يؤمن اليوم بربوبيته من الصينيين المتعلمين فله في نفسه توقير يقرب من التأليه، وقد جعلوا يوم ميلاده ـ وهو السابع والعشرون من شهر أغسطس ـ عيدا قوميا يحجون فيه إلى مسقط رأسه، وينوب عن الدولة موظف كبير في محفل الصلاة أمام محرابه.
ربوبيون وربانيون (1/198)
قال آخر: وشعائر الدين بين أهل الصين هي شعائر الطريق أو شعائر السلوك وفرائض التهذيب والتثقيف، ومحورها الحلم والسلم والتحذير من العنف والغضب والإفراط والإسراف.
قال آخر: ويظهر أن بيئة الصين لم تواجه أبناءها بالعقد النفسية لكنها واجهتهم بتقلبات العناصر الطبيعية التي تعودت الشعوب قديما أن تروضها بالسحر والكهانة، فجار نصيب الإيمان بالسحر على نصيب الإيمان بالدين، وذاع عن أهل الصين من ثم أنهم أقدر أمة على تسخير الطبيعة بالطلاسم والأرصاد.
بعد أن حدثنا الأساتذة المتخصصون عن معتقدات الصينيين في الله، سألناهم عن معتقدات اليابانيين القديمة، فقال أحدهم (1): موقف اليابان من الإله كموقف الصين على الإجمال، فقد تشابهت عقائدهم في أصولها وعبدوا الأرواح والأسلاف والعناصر الطبيعية، واستعاروا البوذية والإسلام والمسيحية على تفاوت في عدد الأتباع من كل دين، ومزجوا ديانة الشمس بديانة الأسلاف، فلا مخالفة بينهم في هذا إلا بإفراط أهل اليابان في تأليه صاحب العرش واعتدال أهل الصين في تقديسه.
قال آخر: وإذا كان لأهل اليابان سمة خصوصية في العبادات فهي أنهم اختاروا ربة أنثى لعبادة السلف الأعلى حين وحدوا الأسلاف في أكبرها وأعلاها، وتلك الربة هي (أميتراسوا ـ أموكامي) التي لا تزال معبودة إلى اليوم.
قال آخر: ويؤخذ من الأساطير اليابانية أنها كانت ربة الغزاة الذين أغاروا فيما قبل
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: الله، العقاد، ص 72، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/199)
التاريخ على جزيرة كيوشو وأخضعوا أهلها وطردوهم منهزمين إلى الجبال، وكان أهل كيوشو الأولون يعبدون إله الريح والمطر (سوسا ـ نو ـ وو) فهبط هذا الإله بهزيمتهم إلى المرتبة التالية لمرتبة الربة السلفية، ثم انعقد الوئام بين الفريقين بعد تناسي الإحن والترات وامتزاج القبائل الغازية والمغزوة، فأصبح الإلهان أخوين وأصبحت (أميتراسو) هي كبرى الأخوين.
قال آخر: ولا يعتقد اليابانيون أن هذه الربة خلقت الكون أو خلقت الإنسان؛ لأنهم يعتقدون أن عهدها قد سبقته عهود مديدة تنازع فيها الأمر عشرات الألوف من الأرباب، وهذه الأرباب عندهم هي بمثابة الأرواح والملائكة والجن والشياطين من عناصر الخير والشر عند الأمم الكتابية، ويسمون الواحد منها (كامي)، وهي كلمة تطلق على كل رائع خارق للعادة بالغ في القوة أو الجمال، ثم استسلمت هذه الأرباب بعد كفاح طويل وصار الأمر إلى الربة الكبرى برضوان من خالق السماوات والأرضين.
قال آخر: أما الخلق فهو منسوب عندهم إلى إله السماء (أزاناجي ـ نوميكوتو) وزوجته وأخته إلهة الأرض (أزانامي ـ نوميكوتو)، فولدا جزر اليابان وألقحها ببذور الآلهة وجاء أبناء اليابان الآدميون من سلالة هذه الآلهة، فكلهم في النسب الأعلى ـ وليس الميكاد وحده ـ إلهيون.
قال آخر: وفي إحدى الروايات الأسطورية أن ربة الأرض احترقت وهي تضع إله النار، فجرد رب السماء سيفه وضرب به إله النار، فانبعث من وميض سيفه ومن ضرباته رهط من أرباب الزوابع والبروق والوعود، ولم ترجع الأرض إلى خصبها إلا بعد شفاء ربتها وخروجها من هاوية الظلام لتلد الماء والطمي وعناصر الزرع والحياة.
قال آخر: وينسبون الخلق في رواية أخرى إلى (ازاناجي) وحده وهو يبحث عن
ربوبيون وربانيون (1/200)
رفيقة صباه، فمن عينه اليسرى خلقت الشمس ومن عينه اليمنى خلق القمر، ومن عطسته خلق (سوسا ـ نو ـ وو) رب الرياح والأمطار، ولكنه أعجب من بين أبنائه بالشمس دون شقيقيها فخلع عليها عقدا يتلألأ بالجواهر وبوأها أرفع عرش في السماء.
قال آخر: وبذلك، فإن الديانة اليابانية الأصلية ديانة شمسية سلفية جمعت معنى التوحيد أولا في إله السماء حيث تصوروه أبا للخليقة بمفرده أو بمشاركة زوجه، ثم جمعتهما في الربة الواحدة على اعتبارها ربة مختارة بين أرباب.
بعد أن حدثنا الأساتذة المتخصصون عن معتقدات اليابانيين في الله، سألناهم عن معتقدات الفرس القديمة، فقال أحدهم (1): لعل تاريخ الديانة الفارسية القديمة أهم التواريخ الدينية بين الأمم الآسيوية، لتوشج القرابة بينه وبين الديانات الهندية والطورانية والبابلية واليونانية، وارتباطه بالتواريخ السابقة له واللاحقة به واقتباس الديانة الفارسية من غيرها واقتباس غيرها منها، وتقدم الفكرة الإلهية على يد زرادشت صاحب الشريعة القومية في بلاد فارس وأرفع الأعلام شأنا بين دعاة المجوسية من أقدم عصورها إلى أحدثها.
قال آخر: فالفرس الأقدمون من السلالة الهندية الجرمانية، وموقع بلادهم قريب من دولة بابل، قريب من أقاليم الطورانيين، قريب من مسالك الحضارة بين المشرق والمغرب، وقد تلاقت حضارة فارس وحضارة مصر في السلم والحرب غير مرة، وانقضى زمن طويل على الدنيا المتحضرة وهي تقرن بين المجوسية وبين الحكمة أو العلم بأسرار
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: الله، العقاد، ص 77، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/201)
الطبيعة والسيطرة عليها بالسحر والمعرفة الإلهية، وكان لليهود وأبناء فلسطين وأمم العرب علاقات قديمة بالدولة الفارسية تارة والدولة البابلية تارة أخرى؛ فاتصل من ثم تاريخ المجوس بتاريخ اليهود والمسيحيين والمسلمين.
قال آخر: فالأقدمون من الفرس يلتقون مع الهند في عبادة (مترا) إله النور وتسمية الإله بال (أسورا) أو إله ال (أهورا) وإن اختلفوا في إطلاقه على عناصر الخير والشر، فجعله الفرس من أرباب الخير والصلاح وجعلته الهند من أرباب الشر والفساد.. والبابليون عرفوا عبادة (مترا) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد ورفعوه إلى المنزلة العلية بين الآلهة التي تحارب قوى الظلام.
قال آخر: واستعار الفرس من البابليين كما أعاروهم، فأخذوا منهم سنة التسبيع في عدد الآلهة، وجعلوا أورمزد على رأس سبعة من أرباب الحكمة والحق وقوى الطبيعة وأنواع المرافق والصناعات.
قال آخر: ولم تخل الديانة المجوسية من عقائد الطورانيين؛ لأن (زرادشت) عاش بينهم زمنا وبشرهم بدينه فاضطر إلى مجاراتهم في عباداتهم ليجاروه في عبادته، وأدخل أربابا لهم في عداد الملائكة المقربين.
قال آخر: ويعتقد المجوس في بعض أساطيرهم أن (زروان) أبو الإلهين إله النور والظلام، ولعل (زروان) هذا صنو لإله البابليين (نون) أو القدر الذي يتسلط على الآلهة كما يتسلط على المخلوقات.
قال آخر: وقد آمن المجوس بالعالم الآخر كما آمن به المصريون، وآمنوا كذلك بالثواب والعقاب في الدار الآخرة، ولكنهم قالوا بقيامة الموتى ونهاية العالم وبعث الأرواح للحساب في يوم القيامة، ولعلهم جمعوا بذلك بين عقيدة الهند في نهاية العالم وعقيدة
ربوبيون وربانيون (1/202)
المصريين في محاسبة الروح ووزن أعمالها في موقف الجزاء.
قال آخر: وذكر أفلاطون زرادشت في كتاب (السيبادس) فسماه زرادشت بن أورمزد، وقال بليني في تاريخه الطبيعي إنه المولود الذي ضحك يوم ولادته، وقال ديوكريسستوم Dio Chrysostom إنه لا الشاعر هوميروس ولا الشاعر هزيود بلغا مبلغ زرادشت في الإشادة بمجد (زيوس) رب الأرباب في علياء مجده.
قال آخر: فتاريخ الديانة الفارسية عامة وتاريخ زرادشت خاصة على ارتباط وثيق بتواريخ العقائد الآسيوية وتواريخ بعض العقائد في مصر واليونان.. لكن (زرادشت) لا يعرف له تاريخ مفصل على التحقيق، فالمراجع اليونانية ترده إلى القرن الستين قبل الميلاد، والمراجع العربية ترده إلى ما قبل الإسكندر بنحو مائتين وسبعين سنة، فهو على هذا قد ولد حوالي سنة (660) قبل الميلاد وهو أصح التقديرات.
قال آخر: وخلاصة ما جاء به (زرادشت) من جديد في الديانة أنه أنكر الوثنية وجعل الخير المحض من صفات الله، ونزل بإله الشر إلى ما دون منزلة المساواة بينه وبين الإله الأعلى، وبشر بالثواب وأنذر بالعقاب، وقال بأن خلق الروح سابق لخلق الجسد، وحاول جهده أن يقصر الربانية على إله واحد موصوف بأرفع ما يفهمه أبناء زمانه من صفات التنزيه.
قال آخر: وليست المجوسية كلها من تعليم زرادشت أو تعليم كاهن واحد من كهان الأمة الفارسية، فقد سبقه الفرس إلى عقائدهم في أصل الوجود وتنازع النور والظلام، ولكنه تولى هذه العقائد بالتطهير وحملها على محمل جديد من التفسير والتعبير.
قال آخر: فالمجوس كانوا يعتقدون أن هرمز وأهرمن مولودان لإله قديم يسمى زروان ويكنى به عن الزمان، وأنه اعتلج في جوفه وليدان فنذر السيادة على الأرض والسماء
ربوبيون وربانيون (1/203)
لأسبقهما إلى الظهور، فاحتال أهرمن بخبثه وكيده حتى شق له مخرجا إلى الوجود قبل (هرمز) الطيب الكريم، فحقت لأهرمن سيادة الأرض والسماء وعز على أبيهما أن ينقض نذره، فأصلحه بموعد ضربه لهذه السيادة ينتهي بعد تسعة آلاف سنة، ويعود الحكم بعده لإله الخير خالدا بغير انتهاء، ويؤذن له يومئذ في القضاء على إله الشر وتبديد غياهب الظلام.
قال آخر: وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام كانتا قبل الخليقة منفصلتين، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة وأهرمان غافل عنه في قراره السحيق، فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه راعه اللمعان من جانب مملكة أخيه فأشفق على نفسه من العاقبة وعلم أن النور يوشك أن ينتشر ويستفيض فلا يترك له ملاذا يعتصم به ويضمن فيه البقاء، فثار وثارت معه خلائق الظلام وهي شياطين الشر والفساد، فأحبطت سعي هرمز وملأت الكون بالخبائث والأرزاء، وران هذا البلاء على الكون حتى كانت معركة (زرادشت) فكان البشير بانتهاء زمان وابتداء زمان، ولكنه لم يختم صراع العدوين اللدودين بل آذن بتحول النصر من صف إلى صف، وتراجع الشر والظلام عن مملكة الخير والنور، وسيدوم هذا الصراع اثني عشر ألف سنة، ينجم على رأس كل ألف منها بشير من بيت زرادشت فيعزز جحافل هرمز ويوقع الفشل في جحافل أهرمن، وتنقضي المدة فينكص أهرمن على عقبيه مخلدا في أسفل سافلين، لا فكاك له أبد من هاوية الظلمات وسجن المذلة والهوان.
قال آخر: والله في مذهب زرادشت موصوف بأشرف صفات الكمال التي يترقى إليها عقل بشري يدين على حسب نشأته بالثنائية وقدم العنصرين في الوجود.. فالخير عند زرادشت غالب دائم، والشر مغلوب منظور إلى أجل مسمى، وما زال (أهرمن) يهبط في مراتب القدرة والكفاية على هذا المذهب حتى عاد كالمخلوق الذي ينازع الخالق سلطانه،
ربوبيون وربانيون (1/204)
ولا محيص له في النهاية من الخذلان.
قال آخر: وفي (الزندفستا) يقول زرادشت إنه سأل هرمز: (يا هرمز الرحيم! صانع العالم المشهود، يا أيها القدس الأقدس: أي شيء هو أقوى القوى جميعا في الملك والملكوت؟)، فقال هرمز: إنه هو اسمي الذي يتجلى في أرواح عليين، فهو أقوى القوى في عالم الملكوت.. فسأله زرادشت أن يعلمه هذا الاسم فقال له: (إنه (هو السر المسئول) وأما الأسماء الأخرى فأولها هو (واهب الأنعام) وثانيها هو المكين، وثالثها هو الكامل، ورابعها هو القدس، والاسم الخامس هو الشريف، والاسم السادس هو الحكمة، والاسم السابع هو الحكيم، والاسم الثامن هو الخبرة، والاسم التاسع هو الخبير، والاسم العاشر هو الغنى، والاسم الحادي عشر هو الغني، والاسم الثاني عشر هو السيد، والاسم الثالث عشر هو المنعم، والاسم الرابع عشر هو الطيب، والاسم الخامس عشر هو القهار، والاسم السادس عشر هو محق الحق، والاسم السابع عشر هو البصر، والاسم الثامن عشر هو الشافي، والاسم التاسع عشر هو الخلاق، والاسم العشرون هو (مزدا) أو العليم بكل شيء)
قال آخر: وقد حرم زرادشت عبادة الأصنام والأوثان، وقدس النار على أنها هي أصفى وأطهر العناصر المخلوقة، لا على أنها هي الخلاق المعبود، وقال إن الخلائق العلوية كلها كانت أرواحا صافية لا تشاب بالتجسيد، فخيرها الله بين أن يقصيها من منال (أهرمن) أو يلبسها الجسد لتقدر على حربه والصمود في ميدانه؛ لأن عناصر الفساد لا تحارب بغير أجساد، فأبت أن تعتصم بمعزل عن الصراع القائم بين هرمز وأخيه، واختارت التجسد لتؤدي فريضة الجهاد في ذلك الصراع.
قال آخر: ويتخيل زرادشت (هرمز) أو أورمزد أو (أهورا مازدا) أو يزدان ـ على
ربوبيون وربانيون (1/205)
اختلاف اللهجات في نطقه ـ مستويا على عرش النور محفوظا بستة من الملائكة الأبرار، تدل أسماؤهم على أنهم صفات إلهية كالحق والخلود والملك والنظام والصلاح والسلامة، ثم استعيرت لها سمات (الذوات) بعد تداول الأسماء أو تداول الأنباء عما تفعله وما تؤمر به وما تتلقاه من وحي الله.
قال آخر: وتفيض أقوال (زرادشت) كلها باليقين من رسالته واصطفاء الله إياه للتبشير بالدين الصحيح والقضاء على عبادة الأوثان، ومن أمثلة هذا اليقين قوله: (أنا وحدي صفيك الأمين، وكل من عداي فهو عدو لي مبين)، وأن الله أودع الطبائع عوامل الخير جميعا، فإن هي حادت عن سواء السبيل كان إرسال الرسل للتذكير والتحذير آخر حجة لله على الناس، وأن زرادشت هو هذه الحجة التي أبرزها الله إلى حيز الوجود لتهدي من ضل وتذكر من غفل وتستصلح من فيه بقية للصلاح، وكلما انقضى ألف عام برز إلى حيز الوجود خليفة له من سلالته، ولكن الأرواح التي تحف بالعرش هي التي تحمل بذرته إلى رحم عذراء تلهمها تلك الأرواح أن تتطهر في تلك الساعة بالماء المقدس في عين صافية مدخرة في ناحية من الأرض ليومها الموعود.
قال آخر: ويتخيل زرادشت أنه يناجي هرمز ويسمع جوابه ويسأله سؤال المتعلم المسترشد لمرشده وهاديه، فيناديه: رب! هب لي عونك كما يعين الصديق أخلص صديق، ويسأله: رب ألا تنبئني عن جزاء الأخيار؟ أيجزون يا رب بالحسنة قبل يوم المعاد؟ أو يسأله: من أقر الأرض فاستقرت ورفع السماء فلا تسقط؟ ومن خلق الماء والزرع؟ ومن ألجم للرياح سحب الفضاء وهي أسرع الأشياء؟
بعد أن حدثنا الأساتذة المتخصصون عن معتقدات اليابانيين في الله، سألناهم عن
ربوبيون وربانيون (1/206)
معتقدات الفرس القديمة، فقال أحدهم (1): مع كون الحضارة البابلية من أقدم الحضارات المروية في التواريخ إلا أن تصوراتهم عن الله كانت مملوءة بالخرافات التي لا تقل عن خرافات سائر الأمم.
قال آخر: فالغزوات التي تروى عن الأرباب الأقدمين هي غزوات أبطال من الأسلاف الذين برزوا بملامح الآلهة بعد أن غابت عن الأذهان ملامحهم الإنسانية، ثم تلبست سيرتهم بظواهر الكون العليا فسكنوا في مساكن الأفلاك، وحملت الأفلاك أسماءهم ولا تزال تحمل بقية منها إلى اليوم.
قال آخر: فمردوخ إله الحرب هو كوكب المريخ، وقد تغلب على تيمات ربة الأغوار المظلمة، فأخذ زوجها وخلائفها الأحد عشر وسلسلهم أسارى في مملكته السماوية، فهم المنازل الاثنا عشر التي بقيت في علم الفلك إلى اليوم.
قال آخر: وقد اتفق الساميون والشمريون على الأرباب الكبرى كإله النور الذي يسميه الساميون شمس ويسميه الشمريون (آنو)، أو كالزهرة ربة الحب التي يسميها الساميون عشتار ويسميها الشمريون ننسيانة.. لكن الأرباب البابلية أوفر عديدا من أن ينتظمها اتفاق بين قومين مختلفين؛ لأنهم ارتفعوا بعددها إلى أربعة آلاف وقرنوا بها أندادا لها من الشياطين والعفاريت تبلغ هذا العدد أو تزيد.
قال آخر: لهذا كانت سياسة الكون كما تخيلوها أشبه بالجمهورية بل بالمشيخة القبلية، فكانوا يتخيلون أن الأرباب تجتمع كل سنة في يوم الاعتدال الخريفي لتنظر في السماء مقادير السنة كلها وتكتبها في لوح محفوظ لا يمحى قبل نهاية العام، وكان الملك نفسه يتلقى
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: الله، العقاد، ص 90، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/207)
سلطانه على الأرض عاما بعد عام في مثل ذلك الموعد، فيمثل الكهنة رواية الخلق ويشهدها الملك فردا من الأفراد، ويعتمدون في بعض مواقف التمثيل أن يهينوه ويستخفوا به ليقرروا بذلك أنه فقد كل سلطان كان له على رعاياه، فلا يعود إليه السلطان إلا بإذن جديد من (مردوخ) يتلقاه قبل ختام الرواية من يد حبر الأحبار.
قال آخر: ولم يؤثر عنهم في عهد الشمريين إيمان بعالم آخر أو بيوم للحساب والجزاء، فمن اجترأ على فعل محرم أو قصر في الصلوات والقرابين فالآلهة تجزيه على ذنبه بمرض يصيبه لا يشفيه منه غير كاهن المعبد بعد التوبة والتكفير، وإن لم يكن جزاؤه مرضا فهو خسارة في المال أو البنين أو ذوي القربى والأعزاء، وكل مصبية من هذه المصائب تنبيه إلى ذنب مقترف أو فريضة منسية، وحث على التذكير وطلب الغفران.
قال آخر: وهم يذكرون لتلك الأرباب غزوات وأخبارا قبل خلق هذه الدنيا كأنهم كائنات لا تحتاج إلى خالق، ولكنهم يذكرون أخبارا قبل تلك الأخبار يروونها عن (تيمات) ربة الغمر أو ربة الأغوار والظلمات، ولا يفهم من أخبارهم هذه أن تيمات أنشأت الأرباب بقدرة الخلق؛ لأنها عندهم ربة الفوضى والعماء، ولكنهم يحسبون أن الأرباب كانت تحوم في أغوارها كما تحوم الأشباح في الظلام، ويصورونها في إحدى أساطيرهم ـ كما يصورون البشر الأولين، فنصفها سمك ونصفها إنسان.
قال آخر: أما قصص الخلق عندهم فهي مناسبة لموقع البلاد البابلية واشتغال أهلها القديم برصد الكواكب ومراقبة الأنواء.. وفحواها بعد استخلاصها من الأوشاب الكثيرة أن الدنيا كانت قسمة بين تيمات ربة الأغمار أو ربة الماء الأجاج وبين (إيا) إله الماء العذب وعنصر الخير في الوجود، وموقع الأرض البابلية يجعلها في قبضة هذين الربين ويوحي إلى أهلها الإيمان بما عندهما من المخاوف والخيرات.. وقد انهزم (أنو) إله السماء أمام جحافل
ربوبيون وربانيون (1/208)
تيمات فلم ينتصر إلا بعد أن برز من الماء بطل وليد: هو مردوخ رب الجنود وسيد الحروب.. ثم عمد مردوخ إلى تيمات فشقها نصفين: صنع الأرض من أحدهما وصنع قبة الفضاء من النصف الآخر، ثم قيد أسراه في هذه القبة فهم لا يبرحونها إلا بإذنه، ورفع إلى السماء ما شاء من الأرباب.
قال آخر: وقد كشفت الألواح التي تضمنت شروح هذه القصة بالخط المسماري في أواخر القرن التاسع عشر، ونقلت إلى المتحف البريطاني بلندن حيث تحفظ الآن، وهي مقسومة إلى سبعة أقسام: كل قسم يتحدث عن يوم من أيام الخلق آخرها اليوم الذي خلق فيه الإنسان، وقد جاء في اللوح المخصص لشرح قصته أن (مردوخ) أفضى إلى (إيا) بأنه سيخلق الإنسان من دمه وعظمه، وأمر حاشيته أن تضرب عنقه ـ عنق الإله مردوخ ـ ففعلت، وسال الدم فنجم عنه الإنسان، ويظهر أن ضرب عنق الإله لا يقتله ولا يقضي عليه؛ لأن مردوخ كان يتصدر بروحه حشد الأرباب التي اجتمعت في السماء احتفالا بخلق أبي البشر، وسمع منها نشيد الفرح والثناء.
قال آخر: ويتمم البابليون قصة خلق الإنسان بقصة أخرى عن طموحه إلى الخلود واجتهاده في اختلاس سره من الآلهة، فيعاقب على ذلك بالموت، وتأبى الآلهة أن يشاركها أحد من الخلق في نعمة الحياة الباقية.
حكى الربوبي التائب هذه المشاهد، ثم قال: بعد أن تلقينا تلك المعلومات التفصيلية عن الأديان التي انتشرت، أو لا تزال تنتشر في الأرض، ازداد فرح أصدقائي بما آثروه لأنفسهم من الإنكار على الأديان والنبوات، وازدادوا يقينا بأنهم أهل الحق المجرد، لكني
ربوبيون وربانيون (1/209)
قلت لهم: نعم أنا وأنتم محقون في مواقفنا من الأديان.. لكنا لا نزال لم نحط علما بها بعد.. فلا تزال هناك الديانات المشهورة بكونها ديانات سماوية، وهي الأكثر انتشارا، وأهلها الأكثر التزاما.. لذلك لا يحق لنا الجزم بكوننا على الحقيقة المطلقة ما لم نطلع عليها جميعا.
قال أحدهم: صدقت.. فهذه الأمور لا يصح فيها استعمال الاستقراء الناقص، بل لابد من التام.. فقد يكون الحق مختفيا بينها جميعا.
طلبت حينها أن نذهب إلى ذلك المركز، لأن فيه جناحا مخصصا للأديان السماوية.. لكن بعض أصحابي رفض ذلك، وذكر أنه يعرف مركزا أكثر علمية وتطورا، وأنه يجمع بعض رجال الدين من المسيحية واليهودية والإسلام، والذين لم يقصدوه ليبشروا بأديانهم، وإنما ليذكروا انتقاداتهم لها، والتي جرتهم لاعتناق الربوبية، وإنكار جميع الأديان والنبوات.
وقد سر أصحابي ذلك كثيرا، لتصورهم أن الحقائق لا تُعرف إلا من الناقدين المناوئين، لا من الموالين المدافعين، والذين ينشغلون بالدفاع عن أنفسهم ومعارفهم أكثر من انشغالهم بالبيان الموضوعي المجرد للحقائق.
وقد كان أول لقاء لنا مع بعض علماء اليهود النافرين من اليهودية، وقد سألناهم عن تصورهم للإله، فقال أحدهم: لقد كانت تلك التصورات هي التي جعلتنا ننفر من اليهودية، ومن الخرافات الكثيرة التي تؤمن بها.. وهي التي جعلتنا نعتقد عدم علاقتها بالله الحقيقي الذي دلتنا عليه العقول.
وعندما طلبنا منهم ذكر أمثلة على ذلك، قال أحدهم (1): نحن لا ننكر أنه توجد
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: 5/ 67، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/210)
داخل المصادر اليهودية ما يدعو إلى الإيمان بالإله الواحد الذي لا جسد له ولا شبيه.. والذي لا تدركه الأبصار.. وتعتمد عليه المخلوقات كافة ولا يعتمد هو على أي منها إذ هو يتجاوزها جميعا ويسمو عليها.. وكل مظاهر الطبيعة والتاريخ ليست إلا تعبيرا عن قدرته، فهو روح الكون غير المنظورة، السارية فيه، والتي تمد الكون بالحياة؛ وتسمو عليه وتلازمه في آن واحد.. وقد استمر هذا التيار التوحيدي في مختلف فترات تاريخ اليهودية.. وتتضمن الصلوات اليهودية دعاء الشماع، أي شهادة التوحيد اليهودية وقصائد مثل (آني مأمين) (إني مؤمن) و(يجدال) (تنزه الرب) التي تؤكد فكرة التوحيد.
قال آخر: لكن هذا محدود جدا مقارنة بما يؤمن به اليهود بجماعاتهم المختلفة.. فالعهد القديم، كما يتضح في مصادره المتعددة، يطرح رؤى متناقضة للإله تتضمن درجات مختلفة من الحلول بعضها أبعد ما يكون عن التوحيد.. حيث تتبدى الحلولية في الإشارات العديدة إلى الإله، والتي تصفه ككائن يتصف بصفات البشر، فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي، غضوب متعطش للدماء، يحب ويبغض، متقلب الأطوار، يلحق العذاب بكل من ارتكب ذنبا سواء ارتكبه عن قصد أو ارتكبه عن غير قصد.
قال آخر: وهكذا نجد الكتاب المقدس يصف الله بأنه يأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل يحس بالندم ووخز الضمير [خروج 32/ 10 ـ 14]، وينسى ويتذكر [خروج 2/ 23 ـ 24].. وهو ليس عالما بكل شيء، ولذا فهو يطلب من أعضاء جماعة إسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ [خروج 12/ 13 ـ 14]
قال آخر: وهكذا نجد الكتاب المقدس يصف الله بأنه إله متجرد، لكنه في الوقت نفسه يأخذ أشكالا حسية محددة، فهو يطلب إلى اليهود (جماعة إسرائيل) أن يصنعوا له مكانا
ربوبيون وربانيون (1/211)
مقدسا ليسكن في وسطهم [خروج 25/ 8]، كما يسير أمام جماعة إسرائيل على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم [خروج 13/ 21/22]
قال آخر: وهكذا نجده يصف الله بأنه إله الحروب [خروج 15/ 3 ـ 4] يعلم يدي داود القتال [صمويل ثاني 22/ 30 ـ 35]، ويأمر اليهود بقتل الذكور، بل الأطفال والنساء [عدد 31/ 1 ـ 12]، وهو إله قوي الذراع يأمر شعبه بألا يرحم أحدا [تثنية 7/ 16 ـ 18]، وهو يعرف أن الأرض لا تنال إلا بحد السيف، ولذا، فهو يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد، أما سكان الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكورا كانوا أم إناثا أم أطفالا [تثنية 20/ 10 ـ 18] وذلك لأسباب سكانية عملية مفهومة.
قال آخر: وهكذا نجد المقاييس الأخلاقية لهذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولذا فهي تتغير بتغير الاعتبارات العملية، فهو يأمر اليهود (جماعة إسرائيل) بالسرقة ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة (ذهب وثيابا وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين) [خروج 3/ 22]
قال آخر: وهكذا، فإننا نجد منذ البداية، أن فكرة الإله الواحد المتسامي تتعايش مع أفكار أخرى متناقضة معها، مثل تشبيه الإله بالبشر، ومثل فكرة الشعب المختار، فهي أفكار تتناقض مع فكرة الوحدانية التي تطرح فكرة الإله باعتباره إله كل البشر الذي يسمو على العالمين.
قال آخر: وفي إطار هذه الرؤية للإله ليس من الغريب أن يسقط أعضاء جماعة إسرائيل في عبادة العجل الذهبي، ويتزعمها ـ كما يذكر الكتاب المقدس ـ هارون أخو
ربوبيون وربانيون (1/212)
موسى، وأن يقبل العهد القديم عناصر وثنية مثل الترافيم والإيفود (الأصنام)، وكلها تعبير عن رؤية حلولية مشركة لا تختلف كثيرا عما جاء في العهد القديم، وليس من الغريب أن نجد شعائر تدل على الثنوية في العبادة الإسرائيلية.
قال آخر: ورغم أن الإله، حسب بعض نصوص العهد القديم، يفصح عن نفسه في الطبيعة والتاريخ ويتجاوزهما، فهو مصدر النظام في الطبيعة، وهو أيضا الذي يجعل التاريخ في نظام الطبيعة وتناسقها، إلا أننا نجده يتحول من كونه حقيقة مطلقة تعلو على المادة الكونية الطبيعية أو التاريخية، ويصبح امتدادا لما هو نسبي، وامتدادا للشعب اليهودي على وجه الخصوص.
قال آخر: حيث نجد الكتاب المقدس يصف الإله بكونه إلها قوميا خاصا مقصورا على الشعب اليهودي وحده، بينما نجد أن للشعوب الأخرى آلهتها [خروج 6/ 7] حتى تصبح وحدانية الإله من وحدانية الشعب.. ولذا، نجد أن الشعب ككل، وليس الإنسان ذو الضمير الفردي، يشهد على وحدانية الإله في صلاة الشماع.. ويظهر الاتجاه نفسه في أفكار دينية مثل الاختيار والوعد الإلهي وأرض الميعاد التي تصبح مقدسة ومختارة تماما مثل الشعب، وتلاحم الإله بالأرض والشعب هو الثالوث الحلولي.
قال آخر: ولهذا، ظلت اليهودية دين الشعب اليهودي (جماعة إسرائيل) وحده، ونجد أن الغرض الإلهي يتركز في هذا الشعب دون سواه، فقد اختير من بين جميع الشعوب ليكون المستودع الخاص لعطف يهوه.. كما أن مجرى الطبيعة أو تاريخ البشر يدور بإرادة الإله حول حياة ومصير اليهود.
قال آخر: ويتضح هذا في مفهوم التاريخ اليهودي المقدس الذي لا يمكن فهم تاريخ الكون بدونه، كما يتبدى في رؤية آخر الأيام حيث ترتبط صورة الآخرة والنشور في كتب
ربوبيون وربانيون (1/213)
الرؤى (أبوكاليبس)، وفي بعض أجزاء العهد القديم، بسيادة اليهود على العالمين.. ثم يتعمق هذا الاتجاه مع ظهور اليهودية التلمودية الحاخامية، حيث نجد أن القداسة تتعمق في الحاخامات من خلال مفهوم الشريعة الشفوية حيث يتساوى الوحي الإلهي بالاجتهاد البشري ويصبح الحاخامات ذوي إرادة مستقلة يقارعون الإله الحجة بالحجة، وتجمع آراؤهم في التلمود الذي يصبح أكثر قداسة من التوراة التي يفترض أنها معادلة للإله وتحوي سر الكون.
قال آخر: وقد بلغ الحلول الإلهي درجة أن المشناه ـ والتي تضم تفسير الحاخامات ـ شبهت باللوجوس في اللاهوت المسيحي، أي أنها كلمة الإله المقدسة، كانت موجودة في عقله منذ الأزل.. وتستخدم كلمة (ابن الله) للإشارة إلى الشعب اليهودي، أي أنه هو أيضا اللوجوس.
قال آخر: ويخلع التلمود على الإله صفات بشرية بشكل عام، ويهودية بشكل خاص، وبشكل أكثر تطرفا من التوراة.. وقد جاء في التلمود أنه بعد وصول الماشيح، سيجلس الإله على عرشه يقهقه فرحا لعلو شأن شعبه، وهزيمة الشعوب الأخرى التي تحاول دون جدوى أن يكون لها نصيب في عملية الخلاص، أي أن الشعب اليهودي والتاريخ اليهودي يزدادان قداسة ومركزية في الدراما الكونية.
قال آخر: والتلمود يصف الإله بأنه يقضي وقته وهو يلعب مع حوت، ويبكي من أجل هدم الهيكل، ويندم على فعلته، وهو يلبس العمائم، ويجلس على عرشه، ويدرس التوراة ثلاث مرات يوميا.. وتنسب المصادر اليهودية إلى الإله صفات الحقد والتنافس، وهو يستشير الحاخامات في كثير من الأمور.
قال آخر: ويصل الحلول إلى منتهاه وإلى درجة وحدة الوجود في تراث القبالاه، فهو
ربوبيون وربانيون (1/214)
تراث يكاد يكون خاليا تماما من أي توحيد أو تجاوز أو علو للإله، وبحيث لا يصبح هناك فارق بين الجوهر الإلهي والجوهر اليهودي، ويصبح الفارق الأساسي هو بين الجوهر اليهودي المقدس وجوهر بقية البشر، ويصبح الفرق بين اليهود والأغيار فرقا ميتافيزيقيا، فاليهود قد خلقوا من مادة مقدسة حل فيها الإله بروحه مختلفة عن تلك المادة الوضيعة العادية التي خلقت منها بقية البشر.. ويكتسب الإله صفات بشرية، ولذا فهو يغازل الشعب اليهودي (بنت صهيون) ويدخل معه (أو معها) في علاقة عاطفية قوية ذات إيحاءات جنسية، وهي فكرة أصبحت أساسية في التراث القبالي.
قال آخر: وتتضح النزعة نفسها في قصة الخلق في التراث القبالي، فالإله لا يخلق العالم من العدم، وإنما صدرت عنه التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي تأخذ صورة آدم الأول أو القديم (آدم قدمون) أي أن صورة الإله هي صورة الإنسان، وتستقل التجليات العشرة تماما عن الخالق حتى أنه يتحدث مع الشخيناه (التجلي العاشر).. كما أن التجلي المذكر للإله يطارد التجلي المؤنث، وتصبح تلاوة الشماع، حسب الفكر القبالي، هي المحاولة التي يبذلها اليهود ليتوحد التجلي الذكوري بالتجلي الأنثوي، ويجتمعان معا بالمعنى الجنسي.
قال آخر: وفي داخل التراث القبالي، يصبح التجلي العاشر (شخيناه) الذات الإلهية والتعبير الأنثوي عن الإله، وهو نفسه جماعة إسرائيل، أي أن الزواج بين الخالق والشعب يصبح هنا توحدا كاملا.. ويقوم هذا الشعب بتوزيع رحمة الإله على العالمين، ثم تصل الحلولية إلى ذروتها والشرك إلى قمته، حين يصبح الإنسان اليهودي شريكا للإله في عملية الخلق نفسها، ويزداد الإله اعتمادا على الإنسان.
قال آخر: وبعد عملية السقوط، وتهشم الأوعية في القبالاه اللوريانية، تتفتت الذات الإلهية نفسها، وتتوزع الشرارات الإلهية، ولا يتأتى للإله أن يستعيد كماله ويحقق ذاته إلا
ربوبيون وربانيون (1/215)
من خلال شعبه اليهودي.. فاليهود، بآثامهم، يؤخرون عملية الخلاص التي تؤدي إلى خلاص العالم وإلى اكتمال الإله، وهم، بأفعالهم الخيرة، يعجلون بها.. ولذا، فالأغيار والإله يعتمدون على أفعال اليهود الذين يشغلون مكانة مركزية في العملية التاريخية والكونية للخلاص.. وعند هذه النقطة، يصبح من الصعب الحديث عن اليهودية باعتبارها ديانة توحيدية.
قال آخر: ويظهر هذا النزوع الحلولي المتطرف في أحد التعليقات القبالية في أحد كتب المدراش على إحدى فقرات سفر أشعياء [43/ 12]، حيث جاء فيها: (أنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله)، وهي فقرة تؤكد وحدانية الإله وتساميه، وهي وإن كانت تتحدث عن علاقة خاصة، فإنها مع هذا أبعد ما تكون عن الحلولية أو الشرك. ولكن كاتب المدراش الحاخامي يفرض الطبقة الحلولية على الطبقة التوحيدية فرضا فيفسرها بقوله: (حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فكأنني لست الإله)، وكأن كينونة الإله من كينونة الشعب وليس العكس.
قال آخر: بل إنهم يذكرون أن كمال الإله يتوقف على الشعب، إذ قال أحد الحاخامات: (حينما ينفذ اليهود إرادة الإله، فإنهم يضيفون إلى الإله في الأعالي، وحينما يعصي اليهود إرادة الإله، فهم كما لو أنهم يضعفون قوة الإله العظمى في الأعالي).. ورغم أن كاتب المدراش يستخدم دائما عبارة (كما لو أن) لتأكيد بعدها المجازي، فإن تكرارها وارتباطها بالمفاهيم الأخرى ينقلها من عالم المجاز إلى عالم العقائد الحرفية المباشرة التي لا تحتاج أي تفسير.
قال آخر: وعلى أي حال، فإن التيار التوحيدي ظل لمدة طويلة أساسيا في النسق الديني اليهودي بل كان يكتسب أحيانا قوة كما حدث من خلال التفاعل مع الفكر الديني
ربوبيون وربانيون (1/216)
الإسلامي، كما هو الحال مع كل من سعيد بن يوسف الفيومي وموسى بن ميمون.. وكثيرا ما حاول الحاخامات الوقوف ضد الاتجاه الحلولي الشعبي (الفلكلوري)، فحاولوا أن يفسروا الطبائع البشرية للإله بأنها مجرد محاولة لتبسيط الأمور حتى يفهمها العامة، بل يلاحظ أن عبارة (كما لو أن) كانت تضاف حتى في التفسيرات القبالية الحلولية الأولى لتأكيد الطابع المجازي للخطاب، ولكن هذا التحفظ تآكل بالتدريج وتغلغلت القبالاه ذات الأصول الشعبية في صفوف العامة ثم في صفوف المؤسسة الحاخامية نفسها وسيطر فكر حلولي حرفي متطرف.
قال آخر: ومع تغلغل القبالاه ذات الأصول الشعبية والغنوصية والتي اكتسبت أبعادا مسيحية، حدثت عملية تنصير لليهودية، حيث فقدت اليهودية هويتها واكتسبت هوية شبه مسيحية جديدة تستند إلى تشويه العقائد المسيحية.
قال آخر: ومع بدايات العصر الحديث، كانت الحسيدية أوسع المذاهب انتشارا، وهي شكل من أشكال الحلولية المتطرفة بكل ما تحمل من شرك وثنوية.. ويتضح هذا في الدور الذي يلعبه التساديك فإرادته معادلة لإرادة الإله، فهو الوسيط بين اليهود والخالق، وهو محل القداسة، وهو الإنسان التقي صاحب القدرة الذي يمكنه النطق باسم الإله والتحكم فيه والتأثير في قراراته.
قال آخر: وقد تبنى الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر رؤية حلولية للإله، فتحدث عن الحوار الدائر بين الشعب والإله باعتبار أنهما طرفان متساويان، وهذا تصور ممكن داخل إطار حلولي قومي.
قال آخر: كما نجد فرقا يهودية حديثة مثل اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية تبنيان تصوراتهما الدينية على أساس فكرة الشعب المقدس، مع إسقاط فكرة الإله تماما
ربوبيون وربانيون (1/217)
(حلولية موت الإله)، أو وضعها في مرتبة ثانوية (حلولية شحوب الإله).. ويصل الأمر إلى حد أن حاخاما إصلاحيا مثل إيوجين بوروفيتز يتحدث عن حرب عام 1967 باعتبار أنها لم تكن تهدد دولة إسرائيل فحسب، وإنما تهدد الإله نفسه باعتبار أن الإله والشعب والأرض يكونان جوهرا واحدا، فمن أصاب جزءا من هذا الجوهر بسوء (أرض دولة إسرائيل على سبيل المثال)، فقد أصاب الذات الإلهية نفسها.
قال آخر: بل إن بعض المفكرين الدينيين اليهود يتحدثون عن (لاهوت موت الإله)، وهي محاولة الوصول إلى نسق ديني خال تماما من أي جوهر إلهي مفارق، فهي حلولية بدون إله.
قال آخر: وقد تفرع من هذا (لاهوت الإبادة) أو (لاهوت ما بعد أوشفيتس) الذي يذهب دعاته إلى أن الإله شرير لأنه هجر الشعب اليهودي.. كما يذهبون إلى أن المطلق أو الركيزة النهائية هو الشعب اليهودي (دون الإله) وأن القيمة الأخلاقية المطلقة هي البقاء، وأن الآلية الأساسية لإنجاز ذلك هي الدولة الصهيونية، فكأن الدولة الصهيونية هي الإله أو اللوجوس في الحلولية الصهيونية بدون إله، ومن الصعب عند هذه النقطة الحديث عن اليهودية كديانة توحيدية، إذ أصبحت ديانة وثنية حلولية.
قال آخر: ومع هذا، عبرت الطبقة التوحيدية في اليهودية مؤخرا عن نفسها، في محاولة من جانب بعض المفكرين الدينيين اليهود من أعداء الصهيونية، لتخليص اليهودية من حلوليتها.. فدعاة لاهوت التحرر يرفضون أن تصبح الإبادة النازية ليهود أوربا أو قيام الدولة الصهيونية أو بقاء اليهود هو المطلق، بل يتحدثون عن إله يتجاوز المادة والتاريخ، نسقه الأخلاقي ملزم لكل البشر، ولذا فهو إله لا يوظف في خدمة اليهود أو المنظمة الصهيونية العالمية.. ومن ثم لا يرضى بذبح الأطفال على يد النازيين ولا بتكسير عظامهم
ربوبيون وربانيون (1/218)
على يد الصهاينة.
بعد ما سمعنا هذه الأحاديث وغيرها، والتي جعلت أصحابي يفرحون بما هم عليه، طلبنا الالتقاء بالنافرين من المسيحية، وحين التقينا بهم طلبنا منهم أن يخبرونا عن سر نفورهم منها قال أحدهم: بما أن المسيحية تشترك مع اليهودية في الكثير من مصادرها، فلذلك نجد نفس الانحرافات تسللت إلى المسيحيين، والذين زادوا عليها غيرها.. ولذلك لم يصعب عليهم أن يرسموه في الكنائس والمعابد بصورة رجل عجوز ذي لحية طويلة بيضاء يظهر عليه الشيب والعجز والتعب.
قال آخر: وقد كان لهذه الصورة سندها من الكتاب المقدس.. ففي الكتاب المقدس النصوص التي تصف الله بالعجز.. ففي [تكوين 32/ 24 ـ 28] نبأ مصارعة يعقوب لله: (فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر.. وقال: اطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا اطلقك إن لم تباركني).. وفي سفر القضاة لم يستطع الرب أن يطرد سكان الوادي، لأن مركباتهم حديدية.. ففي [القضاة 1/ 19]: (وكان الرب مع يهوذا فملك الجبل ولكن لم يطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يسكر.. ففي [المزمور 78/ 65]: (فاستيقظ الرب كنائم كجبار معيط من الخمر)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينام.. ففي [مزمور 35/ 22]: (قد رأيت يا رب لا تسكت يا سيد لا تبتعد عني استيقظ وانتبه الى حكمي يا الهي وسيدي الى دعواي)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يمشي على عكاز، ففي [مزمور 23
ربوبيون وربانيون (1/219)
/4]: (أيضا إذا سرت في وادي ظل الموت لا اخاف شرا لانك انت معي. عصاك وعكازك هما يعزيانني)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب جاهل.. ففي [رسالة بولس إلى أهل كرونثوس الأولى 1/ 25]: (لأن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوى من الناس)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب عنده خزانة، وفيها آلات الرجز.. ففي [إرميا 50/ 25]: (فتح الرب خزانته واخرج آلات رجزه لأن للسيد رب الجنود عملا في أرض الكلدانيين)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يسيئ.. ففي [1 ملوك 17/ 20]: (وصرخ إلي الرب وقال أيها الرب إلهي أيضا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينقض العهد.. ففي [زكريا 11/ 10]: (فأخذت عصاي نعمة وقصفتها لأنقض عهدي الذي قطعته مع كل الأسباط فنقض في ذلك اليوم وهكذا علم أذل الغنم المنتظرون لي أنها كلمة الرب)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يصيح كالوالدة وينخر ويخرب.. ففي [إشعياء 42/ 13 ـ 16]: (الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته، يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت.. كالوالدة أصيح.. أنفخ وأنخر معا أخرب الجبال والآكام وأجفف كل عشبها وأجعل الأنهار يبسا وأنشف الآجام وأسير العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروهأ امشيهم.. أجعل الظلمة أمامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الأمور أفعلها ولا أتركهم)
ربوبيون وربانيون (1/220)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينسى.. ففي [مزمور 13/ 1]: (إلى متى يا رب تنساني كل النسيان.. إلى متى تحجب وجهك عني)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب عمود سحاب نهارا وعمود نار ليلا.. ففي [خروج:13/ 21]: (وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق وليلا في عمود نار ليضيء لهم لكي يمشوا نهارا وليلا)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يصفر للذباب ويعمل حلاقا ويصفق.. ففي [إشعياء 7/ 18 ـ 20]: (ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب الذي في أقصى ترع مصر وللنحل الذي في أرض أشور فتأتي وتحل جميعها في الأودية الخربة وفي شقوق الصخور وفي كل غاب الشوك وفي كل المراعي. في ذلك اليوم يحلق السيد بموسى مستأجرة في عبر النهر بملك أشور الرأس وشعر الرجلين وتنزع اللحية أيضا)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يأمر الناس بسب الأنبياء.. ففي [صموئيل الثاني 16/ 10 ـ 11]: (فقال الملك ما لي ولكم يا بني صروية.. دعوه يسب لأن الرب قال له سب داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. وقال داود لابيشاي ولجميع عبيده هو ذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي فكم بالحري الآن بنياميني.. دعوه يسب لأن الرب قال له)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يحتاج علامة ليتذكر بها.. ففي [تكوين 9/ 15 ـ 16]: (إني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد.. فلا تكون أيضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقا أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض)
قال آخر: وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يولول ويبكي ويصرخ ويصوت..
ربوبيون وربانيون (1/221)
ففي [ميخا 1/ 8]: (من أجل ذلك أنوح وأولول.. أمشي حافيا وعريانا.. أصنع نحيبا كبنات آوى ونوحا كرعال النعام)
قال أحدنا: أكثر ما ذكرتم من النصوص مما يشترك اليهود والمسيحيون في الاعتقاد به.. فما الذي تميز به المسيحيون من عقائد؟
قال أحدهم (1): بما أن المسيحية تأخر تدوين كتبها، وكان معظمها مسطورا باللغة الإغريقية، فلا يطلع عليها سواد المسيحيين، وقد كانت جمهرة المسيحيين في أوائل الأمر من عامة الناس الذين يقنعون بالإيمان اليسير ولا يتعمقون في النصوص ولا في التأويلات، فلما آمن المتعلمون بالدين الجديد كان اختلافهم مقصورا على بيئات الدرس والثقافة، إلى أن قام في العالم المسيحي ملوك يجلسون على العروش، فخرج الخلاف المدرسي إلى معترك السياسة، ونجمت الفرق والمذاهب، وهي في أحضان الدولة تعتمد على بأس الملوك والأمراء من أحد الطرفين أو من كلا الطرفين أو من جميع الأطراف في بعض الأحوال.
قال آخر: ومع هذا كتب إنجيل يوحنا في أواخر القرن الأول للميلاد وفي صدره هذا التمهيد الذي يعتبره بعض الشراح توطئة للكتاب، ويعتبره بعضهم الآخر جملة أصيلة في الكتاب، وهو: (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان، فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه)
قال آخر: وكتب بولس الرسول رسائله بعد ذلك، وهي شاهد على امتزاج الأمثلة الدينية بصور الفلسفة، ولا سيما فلسفة الحلول، وكان يقول: إن المسيح جالس على يمين
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: الله، العقاد، ص 150، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/222)
الله، ويدعو لمن يطلب لهم الخير (أن تسكن فيهم كلمته)، ويسأل لهم الغفران منه، ويبشرهم بأنهم سيبلغون المجد متى عاد إلى الأرض، ويبدو من جملة كلامه أنه كان ينتظر معاده في زمن قريب، وكثيرا ما أشار إليه بقوله: (باسم ربنا يسوع المسيح) وسمى نفسه باسم (رسول يسوع المسيح بحسب أمر الله مخلصنا وربنا يسوع المسيح)
قال آخر: وكانت تعبيرات بولس الرسول وتعبيرات إنجيل يوحنا معا هي مثار البحث بين جماعة التفسير وجماعة النصوص حين بدأ الخلاف بينهم في أواخر القرن الثاني للميلاد.. وأقوى هؤلاء المفسرين وأبعدهم أثرا في تطور المسيحية الأولى هو أوريجين ابن الشهيد ليونيداس الذي ولد بالإسكندرية سنة (185) للميلاد، وتعلم على الفيلسوف آمون ساكاس ـ معلم أفلوطين ـ إمام الأفلاطونية الحديثة المشهورة.
قال آخر: وكان أوريجين من الغلاة في النسك والعبادة، لكنه تعلم الفلسفة وأدرك البدائة العقلية، فاضطره فرط الإيمان إلى التوفيق بينها وبين نصوص الكتب الدينية، ولا سيما النصوص التي تشير إلى بنوة السيد المسيح ودلالة الثالوث والتوحيد، فقال: (إن البنوة كناية عن القربى)
قال آخر: وفهم معنى الكلمة التي كانت في البدء فهم الرجل الذي اطلع على مذهب هيرقليطس ومذهب أفلاطون؛ لأن الأول يقول: إن الدنيا تتغير أبدا، فليس لها وجود حقيقي وراء هذه الظواهر غير وجود الكلمة المجردة أو العقل المجرد الذي لا ينقطع عن تدبيرها، ولأن أفلاطون يقول بسبق الصور المعقولة على الأجسام المحسوسة، فجاء أوريجين بعدهما ليقول: إن السيد المسيح هو مظهر العقل الخالد تجسم بالناسوت، وإن ظهوره في الدنيا حادث طبيعي من الحوادث التي يتجلى بها الإله في خلقه، واجتهد في تأويل النصوص، فجعل للكتب الدينية تفسيرين، أحدهما صوفي للخاصة والآخر حرفي لسائر
ربوبيون وربانيون (1/223)
الناس، وبشر بخلاص خلق الله جميعا في نهاية الأمر حتى الشياطين، ولم يكن ينكر الشياطين أو ينكر قدرة السحرة على تسخيرها.
قال آخر: لكنه ـ من عجب التناقض في الطبع الإنساني ـ كان يرى وهو منكر الحروف وداعية التفسير والتأويل أن الأسماء العبرية دون غيرها هي الأسماء التي تجدي في الاستدعاء والتسخير! وينسى أنه جعل هنا للأسماء والحروف سلطانا على الكون يقصر عنه سلطان المعاني والمسميات.
قال آخر: وخلف أوريجين تلميذان قويان: هما آريوس في الإسكندرية ونسطور في سورية، فمضيا في التأويل والتوفيق بين النصوص والمعاني، ولكنهما اختلفا بينهما أشد اختلاف يخلقه اللدد والشحناء، وتراميا كما ترامى أتباعهما زمنا بتهمة الكفر والجحود؛ لأن آريوس كان يقول بأن المسيح إنسان حادث، ونسطور كان يؤمن بالطبيعة الإلهية في المسيح ويأبى التسوية بينه وبين الله في الدرجة والقدم، ودخلت السياسة في هذا الخلاف فدفعت به إلى أقصى مداه.
قال آخر: على أن القرون الخمسة الأولى بعد المسيح لم تخل قط من خلاف محتدم بين المجامع والكنائس على تفسير المقصود من كلمات الأب والابن والروح القدس والكلمة وغيرها من الأوصاف الإلهية التي وردت في الأناجيل.
قال آخر: حيث اتفقوا جميعا على الوحدانية ولكنهم اختلفوا في أقانيم الثالوث: هل الابن مساو للأب؟ وهل هو ذو طبيعة واحدة أو ذو طبيعتين إلهية وإنسانية؟ وهل هو إله أو إنسان مفضل على سائر البشر؟ وهل يصدر الروح القدس من الأب وحده أو من الأب والابن معا؟ وهل المسيح هو الكلمة أو هو الابن فقط أو أن الكلمة والابن مترادفان؟ أو أن الكلمة هي الأب والإله؟
ربوبيون وربانيون (1/224)
قال آخر: والرأي الغالب عندهم في تفسير الأقانيم هو أن الأقانيم جوهر واحد، وأن الكلمة والأب وجود واحد، وأنك حين تقول الأب لا تدل على ذات منفصلة عن الابن أو عن الروح القدس، لأنه لا انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية، ولكنها تتجلى بالأبوة في معرض الإنعام وبالبنوة في معرض التلقي والقبول، ويوشك أن يكون الشأن في تعدد الأقانيم كالشأن في تعدد الصفات عند بعض المفسرين.
قال آخر: وقد استقر الرأي على ذلك مع خلاف بين الكنيستين الشرقية والغربية في موضوع الروح القدس وعلاقته بالأب والابن، فالكنيسة الشرقية تذكر أنه يصدر من الأب وحده والكنيسة الغربية تذكر أنه يصدر من الأب والابن على السواء.. ولم تفصل المجامع ـ كمجمع نيقية ومجمع إفسس ومجمع خلقدونية ـ كل الفصل في موضوع هذه التفسيرات.
قال آخر: وقد أعاد دعاة الإصلاح البحث في هذا الموضوع خلال القرن السادس عشر، حيث وقف الأكثرون منهم عند التعبيرات القديمة، وخالفهم سوسينس في مسألة الطبيعة الإلهية، فنفي عن المسيح كل إلهية، وتفرع على مذهبه مذهب الموحدين الذي نشأ في بولونية وقرر أن الإله لا يحل في البشر، وأن السيد المسيح إنسان كسائر الناس.
قال آخر: ومما لا خفاء به أن آباء الكنيسة الأولين ما كانوا لينظروا إلى مسألة الثالوث كأنها مشكلة تتطلب الحل لو لم يكن عصرهم كله عصر فلسفة وعصر اتجاه إلى التوحيد؛ لأن هذه المسألة بعينها لو عرضت للمتدينين قبل المسيح ببضعة قرون لقبلوا حرفها على ظاهره في جميع نصوصه، ولم يجدوا في معاني الثالوث بالنسبة إلى الآلهة حاجة إلى التأويل.
قال آخر: والكلام على الفكرة الإلهية في المسيحية لا يتم بغير الإشارة إلى عقيدة الخطيئة وعقيدة التكفير.
قال آخر: فالأديان القديمة قد عرفت الخطيئة من عهود الإنسانية الأولى؛ لأنها
ربوبيون وربانيون (1/225)
عرفت المحرم، وهو المحظور في العلاقات الجنسية أو في بعض المأكولات.. وقد عرف التكفير بعد ارتقاء الأديان، فقال الهنود والأورفيون وأتباع فيثاغورس بتناسخ الأرواح للتكفير والتطهير، وقال اليهود بالتكفير عن خطايا الشعب فسموه الخلاص، وهم يقصدون به خلاص الشعب من ربقة البابليين أو المصريين.
قال آخر: لكن المسيحية جعلت للخطيئة معنى آخر وسمتها الخطيئة الأصلية، وهي مخالفة آدم أمر ربه بالأكل من الشجرة المنهي عنها، وجعلت آلام السيد المسيح كفارة عن الجنس البشري كله لوقوع آدم في تلك الخطيئة، وازداد القول بذلك تواترا بعد عهد الإصلاح.
قال أحدنا: قد سمعنا عن تأثر المسيحية بالوثنيات والفلسفات المعاصرة لها.. فما مدى صحة ذلك؟
قال أحدهم (1): أجل.. ولعل قصة ذلك تبدأ من مدينة الإسكندرية ومدرستها، وفلسفتها والتي آوى إليها حينها فلاسفة اليونان، وتابعو الفلسفة اليونانية.
قال آخر: وقد بدأ ذلك مع شيخ المدرسة أمنيوس المتوفى سنة 242، الذي اعتنق في صدر حياته المسيحية، ثم ارتد عنها إلى وثنية اليونان الأقدمين، وجاء من بعده تلميذه أفلوطين المتوفى سنة 270 وقد تعلم في مدرسة الإسكندرية أولاً، ثم رحل إلى فارس والهند، وهناك استقى ينابيع الصوفية الهندية، واطلع على تعاليم بوذا وديانته، وبراهمة الهند وديانتهم، وعرف آراء البوذيين في بوذا، والبراهمة في كرشنة، وقد عاد بعد ذلك إلى الإسكندرية، وأخذ يلقي بآرائه على تلاميذه، وجلها يتجه إلى تعرف ما وراء الطبيعة،
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: محاضرات في النصرانية، ص 34، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/226)
ومنشئ الكون.
قال آخر: ويلخص اعتقاده في منشئ الكون في ثلاث أمور.. أولها أن الكون قد صدر عن منشئ أزلي دائم لا تدركه الأبصار، ولا تحده الأفكار، ولا تصل إلى معرفة كنهه الإفهام.. وثانيها أن جميع الأرواح شعب لروح واحد وتتصل بالمنشئ الأول بواسطة العقل.. وثالثها أن العالم في تدبيره وتكوينه خاضع لهذه الثلاثة، وهو تحت سلطانها، فإنه منشئ الأشياء وهو مصدر كل شيء، وإليه معاده لا يتصف بوصف من أوصاف الحوادث، فليس بجوهر ولا عرض، وليس فكراً كفكرنا، ولا إرادة كإرادتنا ولا وصف له، إلا أنه واجب الوجود، يتصف بكل كمال يليق به، يفيض على كل الأشياء بنعمة الوجود، ولا يحتاج هو إلى موجود.
قال آخر: وأول شيء صدر عن هذا المنشئ في نظر أفلوطين هو العقل المصدر عنه كأنه يتولد منه، ولهذا العقل قوة الإنتاج، ولكن ليس مكن تولد عنه، ومن العقل تنبثق الروح التي هي وحدة الأرواح، وعن هذا الثالوث يصدر كل شيء ومنه يتولد كل شيء.
قال آخر: وهذه هي فلسفة المعاصرين لنشأة الديانة المسيحية عندما أريد تحويلها، حيث ترى أن فلسفة الرومان ترمي إلى إيجاد ألفة بين الوثنية واليهودية ومسيحية المسيح، كما ترى أن فلسفة الإسكندرية ترجع العالم في تكوينه وتدبيره إلى ثلاثة عناصر أو إلى ثالوث مقدس هو المنشئ الأول، والعقل الذي تولد منه كما يتولد الولد من أبيه، والروح الذي يتصل بكل حي ومنه الحياة.. فإذا عبرنا عن المنشئ الأول بالأب، وعن العقل المتولد عنه بالابن، وعن الروح بروح القدس، كما هو ثالوث المسيحيين الذي أخذ ببعضه مجمع نيقية، وبكله المجامع التي جاءت من بعده، لما خرجنا في التسمية عن الصواب، وما كان فيها أي تسامح، فذلك الثالوث في معناه هو ثالوث المسيحيين، وإذا لم يختلف المسمى، فلماذا يختلف
ربوبيون وربانيون (1/227)
الاسم؟
قال أحدنا: فأيهما أستقر، وأيهما كان الينبوع؟ هل أخذت الأفلاطونية الحديثة من المسيحية، أم المسيحية الحاضرة هي التي أخذت عن الفلسفة؟
قال آخر (1): إن الجواب عن هذا يقتضي تعرف السابق منهما، فالسابق بلا ريب أستاذ اللاحق، والزمن هو الذي يحكم ويفصل، وقد ذكر المؤرخون أن مجمع نيقية هو الذي سار في تقرير هذا الثالوث، ووضع الأساس لمن بعده، أو بعبارة أدق قرر ألوهية الابن، وأن جوهره هو جوهر الأب، وقد جاء في قراره (إن الجامعة المقدسة، والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجوداً فيه، وإنه لم يوجد قبل أن يولد، وإنه وجد من لا شيء، أو من يقول أن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الأب، وكل من يؤمن إنه خلق، أو من يقول إنه قابل للتغير)
قال آخر: وهذا المجمع كان في سنة 325 بعد الميلاد، والمسيحيون قبله كانوا على اختلاف كبير جداً، ويكفي للدلالة على هذا الاختلاف أن الذين حضروا المجمع نيف وأربعون بعد الألفين، وهم على آراء مختلفة، ولم يجمع أعضاء هذا المجمع على نحلة واحدة، أما عقيدتهم في الابن وقولهم إنه تولد عن المنشئ من غير زمن بينهما كما يقول الفلاسفة، وإنه من جوهر أبيه، كما يقولون لم تسد إلا بعد ذلك المجمع.. وعلى ذلك يكون تثليث المسيحية كحقيقة مقررة متأخرا عن أفلوطين لأن أفلوطين توفى سنة 270 بعد الميلاد، والتثليث لم يتكامل إلا في آخر القرن الرابع، والمتقدم أستاذ المتأخر كما يرجح العقل وكما يوجبه الظن الذي لا يعد من الإثم.
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: محاضرات في النصرانية، ص 35، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/228)
قال آخر: ولذلك شكك بعضهم في حياة المسيح، وقالوا إنه شخص خرافي لم يوجد، أراد بعض فلاسفة الأفلاطونية الحديثة أن يفرضوه، ليجعلوا من آرائهم ديانة يعتنقها العامة، وتسود الكافة، وقد تم لهم ما أرادوا.
بعد ما سمعنا هذه الأحاديث وغيرها من العلماء النافرين من المسيحية، طلبنا الالتقاء بالنافرين من الإسلام، وحين تسنى لنا الالتقاء بهم سألناهم عن سر نفورهم منه، فقال أحدهم: حتى تعرفوا قيمة ما سنذكره لكم عليكم أن تعلموا أننا كنا نعيش في بلاد الحرمين.. وهي البلاد التي يطلق عليها بلاد التوحيد، وفيها كبار علماء المسلمين ومراجعهم.. وقد رأينا منهم ومن عقائدهم ما نجعل ننفر نفورا تاما من الإسلام.
قال آخر: لقد قلنا لأنفسنا: إن كان علماء هذه البلاد يذهبون هذه المذاهب، ويرددون هذه الأقوال، فكيف بغيرهم من البلاد؟
طلبنا منهم أن يذكروا لنا نماذج عن ذلك، فقال أحدهم: من الأمثلة على ذلك ما ورد في الحديث الذي يدل على تأثر المسلمين باليهود في عقائدهم التجسيمية، حيث ذكروا أن حبرا من الأحبار جاء إلى محمد، فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: (أنا الملك).. ثم يذكرون أن محمدا صدقه في ذلك، ثم قرأ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67] (1)
__________
(1) البخاري (7414، 7415، 7451)
ربوبيون وربانيون (1/229)
قال آخر: وعند عرضنا لهذا الحديث على العلم الحديث تبين لنا مدى ضحالة ما طرحه اليهودي من معان تجسيمية.. فقد ذكر أن الله تعالى (وضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع)، انطلاقا من أن السموات في حجمها ـ في تصوره ـ تساوي الأرض، ولذلك وضعت السموات جميعا بنجومها ومجراتها في أصبع، والأرض في أصبع أخرى.. وكأنها تساويها في الحجم أو الكتلة.. وهذا خلاف الحقائق العلمية التي تنص على أن الأرض لا تساوي شيئا أمام هذا الكون الواسع.
قال آخر: لكن المسلمين (1) ـ ولغرامهم باليهود ـ اعتبروا ما ذكره اليهودي عقيدة، وخالفوا بذلك العقل وكل حقائق الوجود.. بل أضافوا إلى تلك الرواية روايات أخرى رفعوها إلى نبيهم، وفسروا بها القرآن.. ومنها ما رواه أبو الشيخ في العظمة يرفعه إلى محمد: (يطوي الله عز وجل السموات السبع بما فيهن من الخلائق والأرضين بما فيهن من الخلائق يطوي كل ذلك بيمينه فلا ُيرى من عند الإبهام شيء ولا يرى من عند الخنصر شيء فيكون ذلك كله في كفه بمنزلة خردلة) (2)
قال آخر: والعجب أنهم ـ بما يروونه من خرافات وأساطير ـ صاروا يعتقدون أن الأرض تساوي السماوات في ضخامتها، ولهذا تجدهم يصححون الروايات التي تصور أن الله يضع الأرض في يد والسموات بما فيها من نجوم وكواكب وغيرها في يد أخرى، لقد قال أحد علمائهم الكبار، وهو ابن القيم يشرح ذلك، أو يصوره: (إذا كانت السموات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا، والأرضون السبع في يده الأخرى كذلك فكيف يقدره
__________
(1) هم يقصدون المجسمة من المسلمين.
(2) العظمة 2/ 445 (136)
ربوبيون وربانيون (1/230)
حق قدره من أنكر أن يكون له يدان فضلاً عن أن يقبض بهما شيئاً، فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة وإنما ذلك مجاز لا حقيقة له، وللجهمية والمعطلة من هذا الذم أوفر نصيب) (1)
قال آخر: وهكذا رأيناهم يكثرون عند حديثهم عن العظمة الحسية الجسمية لله، يتحدثون عن عظمة العرش، واعتباره محلا لجلوس الله، ولها نراهم يبالغون في وصف عظمة العرش.. ليبينوا من خلاله عظمة حجم الذي يقعد عليه، لكنهم لا يعلمون أن تلك الأرقام التي يوردونها لا تساوي شيئا أمام ما اكتشفه العلم الحديث من عظمة الكون.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما رووه عن بعض أصحاب نبيهم أنه قال: (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم) (2)
قال آخر: وهؤلاء الذين رووا هذا وصححوه، هم من أنفسهم صححوا حديثا آخر يعطي مسافات أخرى، فقد رووا عن نبيهم أنه قال: (تدرون كم بعد ما بين السماء والأراضين، قالوا: لا، قال: إما واحدة أو اثنتين أو ثلاث وسبعين سنة، ثم السماء فوق ذلك، حتى عد سبع سموات، ثم فوق السابعة بحر بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك كله ثمانية أملاك أوعال، ما بين أظلافهم إلى ركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهم العرش بين أعلاه وأسفله مثل ما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق
__________
(1) الصواعق المرسلة 4/ 1364
(2) رواه ابن خزيمة في التوحيد (ص 105)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 401).
ربوبيون وربانيون (1/231)
ذلك) (1)
قال آخر: وقد حل بعض علمائهم، وهو ابن القيم، الإشكال الذي يعرض من ناحية الاختلاف في الحساب بين الروايتين بطريقة مثيرة للسخرية، فقال: (.. فإن المسافة يختلف تقديرها بحسب اختلاف السير الواقع فيها، فسير البريد مثلاً يقطع بقدر سير ركاب الإبل سبع مرات، وهذا معلوم بالواقع فما تسيره الإبل سيراً قاصداً في عشرين يوماً يقطعه البريد في ثلاثة فحيث قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسبعين أراد به السير السريع سير البريد وحيث قدر بالخمسمائة أراد به السير الذي يعرفونه سير الإبل والركاب، فكل منهما يصدق الآخر ويشهد بصحته) (2)
قال آخر: وبناء على هذا يمكن للرياضيين أن يعتمدوا المسافة الأبعد، ليصلوا إلى التحديد الدقيق وفق الوحدات التي نستعملها في عصرنا الحاضر، وخاصة في علم الفلك الذي استغنى عن مسيرة الإنسان ومسيرة الراحلة بمسيرة الضوء.. وقد وجدنا عند حساب ذلك أن الأرقام الهزيلة التي وضعوها.. والتي تجعل الكون جميعا بعرشه وبفرشه لا يتجاوز المجموعة الشمسية في أحسن الأحوال.
قال أحدنا: عجيب أمر هؤلاء.. فكيف لم ينكر عليهم علماء الفلك.. أم تراهم لم يسمعوا بهذا العلم بعد؟
قال أحدهم: هؤلاء الذين ذكروا ذلك لا يؤمنون بعلم الفلك، ولا بعلمائه.. بل إن علماء الفلك تعرضوا للحرمان والتكفير مثلما حصل لعلماء الفلك الذين كفرتهم الكنيسة.
__________
(1) رواه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية: (1/ 69)، والإمام أحمد في مسنده: (1/ 257)، وأبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية: (5/ 93)، والدارمي في الرد على بشر المريسي: ص 448، والآجري في الشريعة: ص 292، واللالكائي في السنة: (3/ 390)
(2) حاشية ابن القيم 13/ 8.
ربوبيون وربانيون (1/232)
قال آخر: وكمثال على ذلك تلك الهجمة الشرسة التي ووجه بها من يقول بأن الأرض تدور حول الشمس، والذي وصل إلى حد التكفير، ذلك أن هذه المقولة تخالف ما يسمونه بأهم مسألة عقدية في تصورهم، وهي [علو الله تعالى على خلقه]، والذي يقتضي أن تكون الأرض ثابتة، والسموات السبع فوقها كالقبة عليها، ثم يكون العرش، ثم يكون الله تعالى بحسب تصورهم.. ودروان الأرض يقضي على ذلك كله.
قال آخر: وللأسف فإن هذه الهجمة لم تكن من لدن أناس عاديين بسطاء، بل كانت من أعلى الهيئات الدينية، ففي فتوى موجهة لهيئة العلماء برئاسة الشيخ ابن باز ـ وهو من كبار علماء المسلمين ـ ورده هذا السؤال: (أنا مدرس لمادة الجغرافيا، وحيث إنه قد ورد إلي موضوع يتعلق بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وحيث إنه قد سبق وأن قرأت كتابًا لسماحتكم بعنوان: (الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب، وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض) حيث كان هنالك تعارض بين ما ذكرتموه سماحتكم وبين الكتاب المدرسي؛ لذا أرجو من سماحتكم إفادتي عن هذا الموضوع)، فأجابه بقوله: (يجب على مدرس الجغرافيا إذا عرض على الطلاب نظرية الجغرافيين حول ثبوت الشمس ودوران الأرض عليها أن يبين أن هذه النظرية تتعارض مع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأن الواجب الأخذ بما دل عليه القرآن والسنة، ورفض ما خالف ذلك، ولا بأس بعرض نظرية الجغرافيين من أجل معرفتها والرد عليها كسائر المذاهب المخالفة، لا من أجل تصديقها والأخذ بها) (1)
قال آخر: وهكذا نجد الكتب الكثيرة التي ألفت في هذا المجال، ومنها كتاب (دوران
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة، 26/ 415.
ربوبيون وربانيون (1/233)
الأرض حقيقة أم خرافة) لعادل العشري، وكتاب (هداية الحيران في مسألة الدوران) لعبد الكريم بن صالح الحميد، وكتاب (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة) للشيخ التويجري، وغيرها من الكتب.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما قاله التويجري في كتابه (الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة) عند رده لما يقوله الفلكيون من أن (الأرض سابحة في الجو معلقة بسلاسل الجاذبية وقائمة بها)، فقد قال ردا عليهم: (ونقول أما قولهم إن الأرض سابحة في الجو فهذا باطل ترده الآيات والأحاديث الدالة على سكون الأرض وثباتها.. ويرده أيضاً إجماع المسلمين على ثبات الأرض وسكونها.. أما قولهم إنها معلقة بسلاسل الجاذبية فهذا باطل يرده قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: 41]، وقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم: 25]، فالسماء قائمة بأمر الله تعالى وإمساكه لها من غير عمد، والأرض قائمة بأمر الله تعالى وإمساكه لها من غير سلاسل) (1)
قال آخر: وقد وجدنا نفس هذه الخرافات أو ما يقرب منها عند بعض الصوفية الذين التجأنا إليهم بعد فرارنا من المدارس السلفية التي تمتلئ بها بلادنا.. لكنا سمعنا، وفي أول مجلس لنا بعض شيوخهم يقول: (وأما السماء الدنيا فإنها أشد بياضا من الفضة، خلقها اللّه تعالى من حقيقة الروح لتكون نسبتها للأرض نسبة الروح للجسد، وكذلك جعل فلك القمر فيها، لأنه تعالى جعل القمر مظهر اسمه الحيّ، وأدار فلكه في سماء البروج فيه حياة الوجود وعليه مدار الموهوم والمشهود، ثم جعل فلك الكوكب القمري هو المتولي تدبير
__________
(1) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة، ص 58.
ربوبيون وربانيون (1/234)
الأرض، كما أن الروح هي التي تتولى تدبير الجسد، فلو لم يخلق اللّه تعالى سماء الدنيا من حقيقة الروح لما كانت الحكمة تقتضي وجود الحيوان من الأرض، بل كانت محل الجمادات، ثم أسكن اللّه تعالى آدم في هذه السماء، لأن آدم روح العالم الدنيوي إذ به نظر اللّه إلى الموجودات فرحمها، وجعل لها حياة بحياة آدم فيها، فلم يزل العالم الدنيوي حيا ما دام هذا النوع الإنساني فيها، فإذا انتقل منها هلكت الدنيا والتحق بعضها ببعض، كما لو خرجت روح الحيوان من جسده، فيخرب الجسد ويلتحق بعضه ببعض، وزين اللّه هذه السماء بزينة الكواكب جميعها كما زين الروح بجميع ما حمله الهيكل الإنساني من اللطائف الظاهرة كالحواس الخمس، ومن اللطائف الباطنة كالسبع القوى التي هي العقل والهمة والفهم والوهم والقلب والفكر والخيال، فكما أن كواكب سماء الدنيا رجوم للشياطين، كذلك هذه القوى إذا حكم الإنسان بصحتها انتفت عنها شياطين الخواطر، فحفظ باطنه بهذه القوى كما حفظت بالنجوم الثواقب السماء الدنيا) (1)
قال آخر: وسمعنا آخر يقول (2): لقد تبين لنا من خلال الكشف الذي ذكره العارفون بالله أن للأرض سبع طبقات، مثلها مثل السماء.. أما الطبقة الأولى منها، فأول ما خلقها اللّه تعالى كانت أشد بياضا من اللبن وأطيب من رائحة المسك، فاغبرت لما مشى آدم عليه السلام عليها بعد أن عصى اللّه تعالى، وهذه الأرض أرض النفوس، ولهذا كانت يسكنها الحيوانات.. وهذه الأرض من أشرف الأراضي وأرفعها قدرا عند اللّه تعالى، لأنها محل النبيين والمرسلين والأولياء الصالحين، فلولا ما أخذ الناس من الغفلة عن معرفتها لكنت تراهم يتكلمون بالمغيبات ويتصرّفون في الأمور المعضلات، ويفعلون ما يشاؤن
__________
(1) الإنسان الكامل، ص 232.
(2) الإنسان الكامل، ص 231.
ربوبيون وربانيون (1/235)
بقدرة صانع البريات.
قال آخر (1): ثم راح يحدثناعن طولها وعرضها ومناخها وتضاريسها، فذكر لنا أن دور كرة الأرض مسيرة ألف ومائة عام وستة وستون عاما ومائتا يوم وأربعون يوما.. وقد غمر الماء منها ثلاثة أرباع بحكم الحيطة، فبقي الربع من وسط الأرض إلا ما يلي الجانب الشمالي، وأما الجانب الجنوبي فأجمعه بكليته مغمور تحت الماء من نصف الأرض، ثم ربعه من الجانب الشمالي تحت الماء، فما بقي إلا الربع وهذا الربع فالخراب منه ثلاثة أرباعه، ولم يبق إلا الربع من الربع، ثم هذا الربع المتبقى لم تكن مدته المسكونة منه إلا مسيرة أربعة وعشرين عاما وباقيها برار وقفار عامرة بالطرق ممكنة الذهاب والإياب.
قال آخر (2): وهكذا حدثنا آخر عن الطبقة الثانية من الأرض، وأن لونها كالزمردة الخضراء، وهي تسمى أرض العبادات، يسكنها مؤمنو الجن، ليلهم نهار الأرض الأولى، ونهارهم ليلها، لا يزال أهلها قاطنين فيها حتى تغيب الشمس عن أرض الدنيا، فيخرجون إلى ظاهر الأرض يتعشقون ببني آدم تعشق الحديد بالمغناطيس، ويخافون منهم أشد من خوف الفريسة للآساد.. ودورة كرة هذه الأرض ألفا سنة ومائتا سنة وأربعة أشهر، ولكن ليس فيها خراب، بل الجميع معمور بالسكنى، وأكثر مؤمني الجن يحسدون أهل الإرادات والمخالفات، فأكثر هلاك السالكين من جن هذه الأرض يأخذون الشخص من حيث لا يشعر بهم.
قال آخر: وهكذا سمعنا الكثير من أمثال هذه الأحاديث التي لم تطقها عقولنا.. ولذلك هربنا من الإسلام.. ومن الأديان إلى العلم والعقل.
__________
(1) الإنسان الكامل، ص 231.
(2) الإنسان الكامل، ص 243.
ربوبيون وربانيون (1/236)
حكى الربوبي التائب هذه المشاهد، ثم قال: بعد أن تلقينا تلك المعلومات التفصيلية عن الأديان السماوية، وما فيها من خرافات تتناقض مع العقل والعلم ازداد فرح أصدقائي بما آثروه لأنفسهم من الإنكار على الأديان والنبوات، وازدادوا يقينا بأنهم أهل الحق المجرد، لكني قلت لهم: مع أن كل ما سمعناه يؤيد ما ذهبنا إليه من إنكار الأديان، لكني لا أزال أشعر أننا ـ وفي هذه القضية الخطيرة ـ لم نطبق المنهج العلمي الصحيح، وبكامل خطواته.
قال أحدهم: كيف ذلك؟
قلت: من الأمثلة على ذلك أن هؤلاء الذين أخبرونا عن الأديان السماوية من اليهود والمسيحيين والمسلمين، أخبرونا عن البيئات التي عاشوا فيها، واصطدموا معها.. وما أدرانا أن هناك جهات أخرى، تعارض تلك الخرافات التي تلبست بها تلك الأديان.
قالوا: صدقت.. ولكن كيف لنا أن نصل إلى أهل الأديان بفرقهم وطوائفهم المختلفة.. لنميز بعد ذلك بين المحق والمبطل؟
قلت: أرى أن نرجع لذلك المركز الذي ذهبنا إليه أولا.. ففيه المراجع الكثيرة، والأساتذة المختصون الكثيرون.. فلعلهم يفسرون لنا سر ما نراه من خرافات وتناقضات بين الأديان.. ولعلنا نهتدي بعد ذلك إلى الحق الذي لا يصطدم مع عقولنا.
تردد أصحابي في البداية.. ولكنهم وافقوا على الذهاب.. وبشروط كثيرة قبلتها منهم جميعا.
وقد شاء الله أن نلتقي عند ذهابنا إليه، بذلك الشيخ الذي التقيت به في العيادة، والذي لم يتسن لي أن أسمع قصة تحوله إلى الربوبية إلى التدين.. وعندما رآني رحب بي كثيرا،
ربوبيون وربانيون (1/237)
وقال: ها قد جئت مع رفاقك لتسمع قصتي.. ويسرني ذلك.. فأعيروا أسماعكم لي، واصبروا.. فلعل في حديثي ما يفيدكم في بحثكم.
قلنا: أجل.. نحن في شوق كبير لسماع قصتك.. فحدثنا.
التفت الشيخ إلي، وقال: لقد ذكرت لك أني بدأت حياتي في بيئة دينية مملوءة بالخرافات والشعوذة والدجل.. وهذا ما جعلني أنفر منها.. لا إلى البحث عن الدين الحق، وإنما للإلحاد.. ثم وجدت بعد دراستي المفصلة للأدلة التي يستند إليها الملاحدة، أنها لا توافق عقلي.. فرحت أختار لنفسي ما اختاره الكثير من العلماء لأنفسهم من الإيمان بالله بعيدا عن خرافات الأديان.. وقد استمر الحال بي كذلك مدة من الزمن إلى أن أكرمني الله تعالى بزيارة بعض بلاد المسلمين، ممن جمعوا بين الحكمة والعلم والعقل.. وقد رأيت فيها ما أزال كل تلك التصورات الخاطئة التي كنت أحملها عنهم، وعن الأديان جميعا.
قلنا: كيف تم ذلك؟
قال الشيخ: لقد بدأ ذلك بمعرفتي من موقف الإسلام من الأديان المختلفة وتصوراتها لله تعالى، فقد رأيت أنه أعدل المواقف وأكملها وأكثرها توافقا مع العقول السليمة.. بل إن العقول لا يمكن إلا أن تسلم له في ذلك.. وطبعا لا يمكنني في هذا المجلس أن أحدثكم بكل ما سمعته مما يخص هذ الجانب.. ولذلك سأكتفي منه بخمسة مشاهد.
قلنا: فحدثنا عن المشهد الأول.
قال الشيخ: لقد كان أول ما سمعته أثناء دخولي إلى تلك المدينة المسلمة رجلين
ربوبيون وربانيون (1/238)
يتحدثان، قال أولهما: يحق لك أن تنكر على البوذيين والزرادشتيين واليهود والمسيحيين وحتى المسلمين.. ولكن لا يحق لك أن تنكر على الأنبياء الذين ينتسبون إليهم زورا وبهتانا.. فبوذا وزرادشت وموسى والمسيح ومحمد.. وغيرهم.. لم يأتوا إلا بالدين الحق.. لكن التجار من الكهنة هم الذين حرفوا ما جاءوا به، ليستعملوه وسيلة لأهوائهم.
قال الثاني: وكيف عرفت ذلك؟
قال الأول: عندما تُخير بين تصديق ما جاء به كوبرنيغ في علم الفلك، وبين ما ذكره السابقون عليه.. أيهم تختار؟
قال الثاني: لا شك أني أختار ما جاء به كوبرنيغ، فقد نبه إلى الأخطاء التي وقع فيها من سبقه، وجاء بأشياء جديدة، دلت عليها كل الأدلة.
قال الأول: فهل ألغى كوبرنيغ كل ما ذكره السابقون؟
قال الثاني: لا.. فهناك أشياء كثيرة صحيحة قالها القدامى لا يمكن رفضها.. ولذلك لم يجد مناصا من قبولها.
قال الأول: وهذا ما فعله القرآن الكريم، فقد أمر المؤمنين بالإيمان بجميع الأنبياء والرسل عليهم السلام، وعدم التفريق بينهم في ذلك، فقال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136]، وقال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]، وقال: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
ربوبيون وربانيون (1/239)
مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 84]، ولذلك، فإن القرآن الكريم لم ينكر الأديان السابقة إنكارا تاما، وإنما أنكر ما زيد فيها من خرافات وأباطل.
قال الثاني: هل تقصد أن أصل الدين واحد؟
قال الأول: أجل.. أصل الدين واحد، لأنه من عند الله الواحد.. لكن أتباع الأديان هم الذين انحرفوا بها عن وجهتها.. ولهذا اعتبر الله تعالى جميع الرسل عليهم السلام جاءوا بالإسلام، الذي يعني التسليم لله تعالى، والإذعان له وحده، لا لكل أولئك المنحرفين الظالمين المستبدين الذين جعلوا الدين وسيلة لتضليل الشعوب واستعبادها.
قال الثاني: فهلا ذكرت لي شواهد على ذلك من القرآن الكريم.
قال الأول: القرآن الكريم مليء بذكر ذلك، فلذلك هو يتناقض تماما مع ما يذكره تاريخ الأديان من أن الوثنية بدأت أولا.. بل هو يذكر أن التوحيد هو الأول، وإنما دخلت الوثنية والانحرافات إلى التوحيد بسبب التدليسات الخاطئة التي وضعها أتباع الأديان، ليخدموا مصالحهم بذلك.
قال الثاني: أجل.. لقد ذكرتني بآيات كثيرة في القرآن الكريم ذهبت عن خاطري، ولم أتذكرها إلا الآن.. منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [آل عمران: 19]
قال الأول: وقد وصف الله تعالى المتمسكين بدينه الحق بالإسلام سواء كانوا أنبياء أو أتباع الأنبياء، فقد أخبر الله تعالى أن إبراهيم ويعقوب أوصيا بالموت على الإسلام، وأن إبراهيم عليه السلام كان من المسلمين، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا
ربوبيون وربانيون (1/240)
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 131 ـ 132]
قال الثاني: وهكذا أخبر أن بني يعقوب عليه السلام أقروا على أنفسهم بالإسلام، فقال: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133]، وأخبر أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كانا يقولان في دعائهما: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: 128]
قال الأول: وقد وصف الله تعالى إبراهيم بالإسلام، ونفى عنه اليهودية والنصرانية، فقال: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67]، وأخبر أن سحرة فرعون بعد إسلامهم دعوا الله تعالى فقالوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [الأعراف: 126]، وأخبر أن نوحا عليه السلام قال في خطابه لقومه: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 72]
قال الثاني: وأخبر أن موسى عليه السلام قال في خطابه لبني إسرائيل: ﴿يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 84].. وأخبر أن سليمان عليه السلام قال في رسالته لسبأ: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 30 ـ 31]
قال الأول: ووصف الله تعالى بيت لوط عليه السلام بالإسلام، فقال فيهم: ﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: 36].. وأخبر أن الحواريين أشهدوا عيسى على إسلامهم، فقال: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 52]
ربوبيون وربانيون (1/241)
قال الثاني: وكل هذا يفسر المشتركات الموجودة في الأديان جميعا.. كما أنه يفسر التحريفات والتشويهات التي وقعت، والتي يرجعها الله تعالى إلى المضللين من الأتباع، كما قال تعالى مخبرا عن السامري، وكيف جر بني إسرائيل إلى عبادة العجل: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ [طه: 83 ـ 89]
قال الأول: وقد ذكر الله تعالى كذلك التحريفات التي وقع فيها المسيحيون بسبب إعراضهم عن الإسلام الذي جاء به المسيح، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 116 ـ 118]
قلنا: حدثتنا عن المشهد الأول.. فحدثنا عن الثاني.
قال الشيخ: في محل آخر من تلك المدينة المباركة، رأيت نفرا من الناس يتحدثون،
ربوبيون وربانيون (1/242)
قال أحدهم (1): لقد رأيت من خلال بحثي في الأديان السالفة قبل الإسلام أن الفساد قد تطرق إليها في أمر التوحيد لوجوه ثلاثة.. الأول التشبيه والتمثيل، أي أنهم قد شبهوا الله بغيره من خلقه.. والثاني: أنهم جعلوا صفات منفصلة عنه ومستقلة.. والثالث: أنهم اغتروا بكثرة المظاهر في العالم، وخُدعوا بضروب من مصنوعات الله، وآثار مقدوراته، فلما من الله على الإنسانية بالإسلام أزال به الأوهام، وكشف خفايا الشبهات، فانجلت عن البصائر غياهب التمثيل، والتشبيه.
قال آخر: أجل.. وقد وصلت إلى نفس النتائج.. وقد وجدت بالنسبة للأمر الأول أن أهل الملل والنحل من غير الإسلام اختاروا طرقا واتخذوا وسائل لمعرفة ما لله عز وجل من الصفات الجليلة، والصلة التي بينه وبين خلقه، فشبهوه جل جلاله بأجسام مختلفة، ومثلوا صفاته في ضروب من الصور والأشكال، فلما طال عليهم الأمد بقيت هذه الصور الممثل بها، وزال عن قلوب الناس اسم الله الذي لم يزل ولا يزال، فصارت المشبه بها أوثانا، وأصناما، وتماثيل، وطفق الناس يعبدونها، ويسجدون لها ظنا منهم بأنها مظاهر صفات الله، ومشاهد قدرته، وتفننوا في تصور صفات الله بهذه التماثيل المنحوتة، والأوثان المصنوعة.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أنهم جعلوا لحب الله عباده، ولرأفته بهم تمثالا من حجر أو غيره، والأمم الآرية اتخذت تمثال المرأة رمزا للحب الإلهي، فإنها عندهم مظهر الحنان والأمومة، وإلهة الحب والغرام، فعبروا عن حب الله بنوع من العبادة، وعن حنانه عليهم بحنان الأم على ولدها، فانقلب الإله عندهم أما حنونا، ونحتوا له صورة أم حنون، وأخذوا يعبدونها، ويسجدون لها..
__________
(1) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: الرسالة المحمدية، ص 200، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/243)
قال آخر: والطوائف الآخرى من الهنادك قد أظهروا هذا الحب الإلهي لعباده وحنانه عليهم بما بين الحليلة وزوجها من المودة والمحبة، فاختار لفيف من الرجال زي النساء وهيئتهن، وتأنثوا، وتخنثوا شكلا وأخلاقا، على زعم أن الله يحبهم كما يحب الزوج حليلته.. وهكذا ظهر الإله عند الروم والإغريق في صورة امرأة.
قال آخر: أما الأمم السامية فقد تمثل الإله عندها رجلا وأبا؛ إذ كان ذكر المرأة عندها على ملأ من الناس مخالفا للآداب السامية، وكان الأب هو رأس الأسرة وأصلها، ويدل عليه ما استخرج من بطون الأرض في بابل، وأثور، وديار الشام من تماثيل تصور الإله بصور الرجال، وكذلك بنو إسرائيل، يظهر أنهم في بدء أمرهم كانوا يتصورون الله بصورة الأب، ويحسبونه والدا، ويحسبون الملائكة وسائر الناس أولادا له، ثم ضاق نطاق تفكيرهم، فلم يبق للإله أولاد عندهم سوى بني إسرائيل..
قال آخر: صدقت.. حيث أنه يوجد في بعض صحف بني إسرائيل ما يدل على أن الرابطة كانت بين الإله وبني إسرائيل كالرابطة التي تكون بين الزوج وحليلته، وأن بني إسرائيل وأورشلم حلائل، والإله زوجهن، تعالى الله عما يقولون ويتصورون!
قال آخر: وقد أخطأ المنتسبون إلى المسيح عليه السلام، فجعلوا ما كان باداء بدء استعارة كأنه حقيقة ثابتة.. وانقلب تشبيه الإله بالأب لحنانه على نبيه عيسى عليه السلام، ورأفته به، فاعتبروه حقيقة، والإله الذي لم يلد ولم يولد اعتبروه والدا، وعيسى ولده.. وشبيه بذلك ما نجده عند قدماء العرب من ظنهم بالله أنه أب، والملائكة بنات له.
قال آخر: فلما بزغت شمس الإسلام انكشفت ظلمات التشبيه، والتمثيل كلها، وانجلى قتام الشرك، وأهمل استعمال جميع الكلمات التي تقضي إلى الإشراك بالله، منذ نادى رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الحقيقة، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
ربوبيون وربانيون (1/244)
[الشورى: 11]
قال آخر: ثم نزلت سورة من قصار سور القرآن محت الأوهام الباطلة كلها، والعقائد الفاسدة التي نسجها الناس حول وجود الله، وهي قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1 ـ 4] فكان الإسلام بذلك طاهرا من دنس الشرك، نقيا من كل شوائبه..
قال آخر: وكل ذلك مع أن الرسالة المحمدية لم تنف شيئا مما لله عز وجل من عظيم الرأفة، وواسع الرحمة بعباده، ولم تبطل ما لله في عباده من حنان، إنها لم تفعل ذلك، بل وثقت حبل الله الذي يسره لعباده وزادته قوة.
قال آخر: وإنما أبطلت ما زاد على ذلك من أوهام تفضي إلى تجسيم الله، أو تمثيله بشيء من خلقه، ومحت وسائل كاذبة تجر إلى الإشراك بالله مما اتخذته الأمم السالفة، فضلت به، وأضلت.
قال آخر: وفيما عدا ذلك فإن الإسلام أشاد بما بين الله وعباده من رابطة هي أشد، وأقوى من كل ما يمت به المخلوقون بعضهم إلى بعض من نسب، ورحم، وآصرة، ودم، فالإنسان الذي يعيش في طاعة الله أقرب إلى الله من قرابة الولد لوالده، وقرابة الزوجة من زوجها..
قال آخر: انظروا كيف أراد الله أن يعلم الصالحين من عباده بأنه يحبهم كما يحب الأب أولاده، فأمرهم أن يذكروه كما يذكرون آباءهم، أو أشد ذكرا.
قال آخر: فهو عز وجل لم يشبه نفسه بالأب، لكنه شبه حبه بحب الأب، واجتنب ما يدل على القرابة الواشجة، والرحم الماسة، فأبقى من هذه العلاقة ما يدل على الحب، ثم زاد الحث على أن يذكروه أشد، وأكثر مما يذكرون آباءهم بقوله: ﴿أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة:
ربوبيون وربانيون (1/245)
200]
قال آخر: لأن الصلة بين العبد وخالقه أشد، وأسمى من جميع ما يمت به المرء إلى أحد من ذوي قرابته، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165]
قال آخر: والإسلام لا يسمي الله أبا للناس، بل يدعوه (رب العالمين) لأن الرب أعلى مكانا من الأب، وإن الصلة بين الابن وأبيه عارض يفنى، والصلة بين المربوب وربه أثبت وأبقى؛ لأنها مستمرة من أول نشأة المخلوق إلى أن تنتهي حياته بلا انقطاع.
قال آخر: وهكذا، فإن الله ودود، رؤوف، حنان بأكثر مما في الرجال من الود لأولادهم، وما في الأب من الشفقة والرأفة نحو بنيه، وما في الأم من الحنان على أولادها، ومع ذلك فإنه سبحانه ليس بأب ولا أم، وهو منزه، ومقدس عن كل شائبة من شوائب البشرية.
قال آخر: أما الأمر الثاني الذي أفضى بالأديان القديمة إلى فساد العقائد في معنى التوحيد، فهو مرتبط بمسألة الصفات الإلهية.
قال آخر: ومنشأ ذلك أن أتباع الأديان الأخرى قد فصلوا صفات الله عن ذاته، وجعلوها مستقلة عنه، وبذلك تعددت الآلهة، وكثرت في جميع الفرق الهندوكية من الدين البرهمي؛ لأنهم اتخذوا من كل صفة إلهية إلها.
قال آخر: وجسموا تلك الصفة في صورة أو صاغوها في قالب.. ثم وسعوا نطاق الشرك، وطبقوه على جميع ما شبهت به صفات الإله من مختلف التشابيه، ومتنوع التماثيل، وصاغوا هذه الصفات، وما شبهت به في صور وتماثيل وأوثان، وبعد أن كان الله إلها واحدا لا إله غيره، صار لهم ثلاثون وثلاثمئة مليون من الآلهة.
قال آخر: وتفصيل ذلك أنهم أرادوا أن يعبروا عن قوة الله وقدرته، وظاهر أن اليد
ربوبيون وربانيون (1/246)
من مظاهر القوة والبطش، فنحتوا لله تعالى يدين قويتين من الحجر، بل سولت لهم أنفسهم أن ينحتوا له كثيرا من الأيدي.. وحاولوا أن يعبروا عن حكمته البالغة؛ فجعلوا له رأسين، واتخذوا له وثنا ذا رأسين.
قال آخر: وإذا تأملنا نحل الهنادك الكثيرة العدد؛ بدا لنا أنها لم تكثر هذه الكثرة الهائلة، ولم تفترق إلى فرق كثيرة، إلا لأجل تجسيمهم صفات الإله.
قال آخر: فإن الله عندهم ثلاث صفات عظيمات: الخلق، والقيام على المخلوق، والإماتة، وإن شئتم فلكم أن تعبروا عن هذه الصفات بالخالقية، والقيومية، والإماتة.
قال آخر: وقد جعلت الفرق من الهنادك هذه الصفات الثلاث أشخاصا مستبدين أطلقوا عليهم أسماء: برهما، ووشنو، وشيو.. فبرهما رمز للخالق، ووشنو هو القيوم، وشيو هو المميت.
قال آخر: ونجمت عن ذلك ثلاث نحل: نحلة يعبد أتباعها برهما، ونحلة إلهها وشنو، ونحلة معبودها شيو.. وقد انفصل بعض هذه الفرق عن بعض.
قال آخر: بل هناك فرقة منهم تعبد الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة؛ لأنهم تمثلوا بها صفة الخلق، وأرادوا أن يمثلوها بجسم، كما فعلوا في الصفات الأخرى، فهداهم سوء بصيرتهم إلى أن تلك الأعضاء من أكبر الأسباب للخلق في هذا الكون، فاتخذوا لها صورا، وأوثانا، وجعلوا يسجدون لها، ويتقربون إليها.
قال آخر: وفي النصرانية صفات إلهية ثلاث: الحياة، والعلم، والإرادة، تمثلوها ذواتا سموها الأقانيم الثلاثة.. فالأب رمز للحياة، وروح القدس رمز للعلم، والابن رمز للإرادة.. ونجد مثل ذلك في عالم الأصنام عند قدماء المصريين والإغريق والروم.
قال آخر: وبما أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بعث بتنفيذ آراء الأمم في صفات الله، فقد أظهر خطأ
ربوبيون وربانيون (1/247)
تلك المذاهب، وفسادها، وبين أن الله واحد، وأن صفاته الكثيرة ليست أشخاصا منفصلة عنه، وأن من جعل الله الواحد اثنين أو أكثر مغترا بتعدد أسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فقد ضل وغوى، وحاد عن سواء السبيل.
قال آخر: فالقرآن الكريم أعلمنا بأن الله ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29]، وأن ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [الروم: 27]، وأنه ﴿نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور: 35]
قال آخر: وكان نصارى العرب يدعون الخالق بالرحمن؛ لاتصافه بالرحمة، أما عامة المشركين فكانوا يدعونه (الله) ونزل القرآن تصديقا لهما ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110]، وقال: ﴿فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: 9]، وقال: ﴿أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الشورى: 5]، وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف: 84]، وقال: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الدخان: 6 ـ 8]
قال آخر: أما برهما بمعنى الخالق، ووشنو بمعنى القيوم، وشيو بمعنى المميت فمدلول الثلاثة كلها واحد هو الله الخالق القيوم المميت، والموصوف لا يتعدد مهما كثرت صفاته ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الجاثية: 36 ـ 37]، ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الحشر: 22 ـ 24]
قال آخر: فالله واحد وإن كثرت أسماؤه، وتعددت صفاته، وهذه الكثرة ليست في
ربوبيون وربانيون (1/248)
ذاته بل في صفاته، وإنما علمنا ذاته الواحدة الموصوفة بالصفات الكثيرة بسبب رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. أما الأديان الأخرى فقد جعل أتباعها الله الواحد آلهة متعددة بتعدد صفاته، فسبحان الله عما يشركون.
قال آخر: أما الأمر الثالث الذي أفضى بالأديان القديمة إلى فساد العقائد في معنى التوحيد، فهو مرتبط بكثرة أفعال الله، وتنوع شؤونه.
قال آخر: منشأ ذلك أن أتباع الأديان الأخرى حين رأوا أن الله تصدر عنه ضروب من الأعمال حسبوا أنها تصدر عن مصادر متعددة، وأن لها فاعلين كثيرين، فحملهم فساد رأيهم على أن جعلوا لكل عمل عاملا مستقلا، فاعتقدوا أن الذي يحيي غير الذي يميت، ومن يحب العباد غير الذي يبغضهم، فاتخذوا إلها للعلم، وإلها للثروة والرزق، فتعدد الواحد بذلك، وصارت الآلهة بعدد الأفعال، أما الإسلام؛ فقد أخبر بأن الأفعال وإن كانت كثيرة فإن الفعال هو الله الواحد، العزيز، المتعال.
قال آخر: ومن الأسباب كذلك استبعادهم أن يفعل الواحد فعلين متضادين، حيث ذهبوا إلى أن من يصدر عنه الخير لا يأتي منه ضده، فعبد أتباع زردشت إلهين اثنين أحدهما للخير، والآخر للشر، وسموا مسدي الخير (يزدان) ومصدر الشر (أهرمن)، وتصوروا أن هذا العالم ساحة حرب يعترك فيها هذان القرنان المتصارعان.
قال آخر: وما حملهم على هذا الفساد في العقيدة إلا خطؤهم في فهم الخير والشر.. والحق أنه ليس في الدنيا شيء يصح أن يطلق عليه اسم الشر، فالنار لا شك أنها تحرق، ولكن الإحراق في نفسه لا يعد خيرا ولا يسمى شرا، فإن أوقدتها لتنضج عليها غذاءك، أو لتقتبس منها قبسا تصطلي به من البرد فإن عملك هذا هو الذي يعد إحسانا، ويطلق عليه اسم الخير.. وإذا أضرمت النار لتحرق مأوى يأوي إليه فقير بائس لم يرتكب ذنبا فإن
ربوبيون وربانيون (1/249)
عملك هذا هو الذي يعد سيئة وشرا، بينما النار نفسها ليست بنفسها خيرا محضا لا شر فيه، أو شرا محضا لا خير فيه، وأنت الذي جعلتها بعملك خيرا أو شرا.
قال آخر: وهكذا، فإن السيف القاطع لا يعد خيرا، ولا شرا، بل أنت الذي تتخذ منه ذريعة للخير أو الشر.. والظلام لا يعد شرا لكنك إن تسترت به في جوف الليل لترتكب فيه السوء، فالشر هو عملك لا الظلام، وإن تواريت فيه لتعمل صالحا أو أويت فيه إلى الراحة، والدعة؛ فهو خير.
قال آخر: وهكذا، فإن العالم لا يضل ولا يغوي، ولا يرشد ولا يهدي، ولكن الإنسان هو الذي يهتدي بسليم فطرته، وسديد رأيه، وسلامة قلبه، أو يضل بسوء تفكيره، وخطل رأيه، وقبح تأمله.
قال آخر: ذلك أن العالم يهدي من يهتدي به، ويضل من يضل به.. وما أنزل الله من كتبه ـ التوراة، والإنجيل، والقرآن ـ يهدي الذين يحسنون تدبره، وتلاوته، فتطمئن قلوبهم إلى ما فيه من حق، ويؤمنون به، وآخرون يتلون ما أنزل الله من حق فيزدادون ريبا به، ولا تسكن نفوسهم إليه، فيجحدون، ويكفرون، مع أن الكلام واحد، إلا أن تأثيره في القلوب مختلف: فيخرج هذا منه مؤمنا به، ويخرج ذاك منه كافرا به، وكلاهما من خلق الله الواحد.
قال آخر: ولهذا، فإن الذي يستنتج من كثرة الأفعال، وتعددها، واختلافها كثرة الفاعلين؛ فقد أخطأ، ذلك أن بيد الله تعالى الخير والشر، والهداية، والضلال، وكل ما في الكون، وفي الناس من ضروب العجائب وأنواع الغرائب، فهي من بديع السموات والأرض وجميل صنعته وعظيم قدرته، فهو الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 26 ـ
ربوبيون وربانيون (1/250)
27]، ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 37]
قال آخر: فهذه الآيات تدل على أن الضلال والهدى يرجعان إليه عز وجل، لكن الإنسان هو الذي يختار باداء ذي بدء ما يفضي به إلى الضلال أو الهدى، فمن فسق عن أمر ربه، أو قطع الرحم، وأفسد في الأرض، وكفر، جاءه من الله الضلال، والضلال لا يتقدم الفسق، والقطيعة، والإفساد في الأرض، بل هو يعقب هذه الخلال، ويتلوها.
قال آخر: إن الله عز وجل خلق بني آدم، ودلهم على الخير والشر، وبصرهم بالحسن والسياء، ثم أمرهم بالخير، ونهاهم عن الشر، وهداهم الطريق المستقيم، وحذرهم سوء العقبى إذا عصوه، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: 3] وهو الذي قد خلق كل شيء خيره وشره ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [غافر: 62] ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96]، ثم بين لهم الخير من الشر، والحسن من السياء ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]
قال آخر: ولهذا، فإنه لا يوجد في الدنيا خير لذاته ولا شر لذاته، وإنما يكون الأمر خيرا أو شرا باختيار الإنسان، وبعمله، فإذا سلك الصراط المستقيم، كان بذلك راشدا واهتدى، وإذا سدر في الفساد والغي، وآثر بنيات الطريق على الطريق المستقيم ضل، وغوى، وإذا صح اختياره لما ينفع، ويسعد أصاب الخير، وأتى بالحسن، وإذا ارتكب الشطط في اختيار ما يضر أصاب الشر، وكان من المخطئين.
قال آخر: والذي يظن أن للكون إلهين اثنين؛ لأن في الكون خيرا وفيه شرا؛ فقد زاغت بصيرته، وأخطأ الحقيقة ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [فصلت: 6] والله وحده خالق كل شيء ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر: 3] والله قد بلغ رسالاته وأحكامه بألسنة أنبيائه ومرسليه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
ربوبيون وربانيون (1/251)
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر: 32].. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30].. ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 8 ـ 10]
قلنا: حدثتنا عن المشهد الثاني.. فحدثنا عن الثالث.
قال الشيخ: في محل آخر من تلك المدينة المباركة، رأيت نفرا من الناس يتحدثون، قال أحدهم: هلم نتذكر نعمة الله علينا بالقرآن الكريم الذي خلصنا من اليهودية، دين آبائنا وأجدادنا، كما خلصنا من الربوبية التي كنا نتوهم أنها البديل الوحيد عن الأديان وتحريفاتها.
قال أحدهم: أجل.. فنعمة الهداية أعظم نعمة.. وسأبدأ الحديث عن نفسي.. فقد انبهرت في تلك الفترة، وبعد اطلاعي على القرآن الكريم بما يذكره عن واقع الأديان، والانحرافات التي آلت إليه، وأسباب تلك الانحرافات، وقد وجدت أن تصويره لكل ذلك لا يتناقض مع العقل، ولا مع المنطق، بل ينسجم معهما انسجاما تاما.. ذلك أني رأيت أن موقف الربوبيين من أصحابي من الأديان وتحريفاتها هو نفس موقف القرآن الكريم.. لكن القرآن لا يلغي أصل الدين بسبب الانحراف الواقع.. وإنما يدعو إلى علاج الانحراف وتصحيحه.
قال آخر: صدقت.. لقد حصل لي نفس ما ذكرت.. فقد كان أول ما قرأته من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾
ربوبيون وربانيون (1/252)
[المائدة: 44]، وقد رأيت من خلال تأملي فيها أنها تشير إلى أن التوراة وكل الكتب المقدسة جاءت بالإسلام الذي يتوافق مع العقول، لكن اليهود ـ مثل جميع أهل الأديان ـ حرفوها لتتحول إلى ما هي عليه الآن، مملوءة بالخرافات والأكاذيب والدجل.
قال آخر: وقد ذكر القرآن الكريم الكثير من التفاصيل المرتبطة بتلك التحريفات، وكيفية تسربها إلى الأديان.. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره من اتخاذ اليهود من العجل معبودا من دون الله، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 51 ـ 54]
قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر به عن تجسيم اليهود لله، وتصورهم أنه يُرى كما ترى الأجسام، كما قال تعالى مخبرا عنهم وموبخا لهم: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [البقرة: 55 ـ 57]
قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر به عن تبديلهم لكلمات الله، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ [البقرة: 58 ـ 59]
قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر به عن عنادهم الشديد مع الله ورسله، مثلما حصل في
ربوبيون وربانيون (1/253)
قصة القتيل الذي اختصموا فيه وفيمن قتله، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 72 ـ 74]
قال آخر: ومثل ذلك قولهم لموسى عليه السلام عندما أمرهم الله تعالى بالسير لبيت المقدس: ﴿إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]
قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر به عن جرأتهم على الله تعالى، كقولهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181]، وقولهم: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: 64]
قال آخر: وقد قال تعالى ردا عليهم: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: 64]، وقال: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [آل عمران: 181]
قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر به عن أمانيهم وغرورهم، وقولهم على الله بغير علم، كما قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: 80]، وقال: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]
قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر به عن زعمهم أن الله تعالى تعب من خلق السماوات والأرض، فرد الله عليهم بقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ربوبيون وربانيون (1/254)
وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38] وذلك لكمال قوته وقدرته.
قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر به عن موقفهم من القرآن الكريم، حيث ادعوا أن الله لم ينزل شيئا، كما قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ [الأنعام: 91]
قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر به عن موقفهم من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 20]
قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر به عن موقفهم من الملائكة، حيث زعموا أن جبريل وميكائيل عليهما السلام من أعدائهم، وقد بين الله تعالى ذلك وتوعدهم، فقال: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 98]
قال آخر: ومثل ذلك ما أخبر به عن فساد عقيدتهم في اليوم الآخر، حيث أنهم يزعمون أنه لن يدخل الجنة إلا من كان من اليهود، وأن العاصي منهم مهما فعل من المعاصي والآثام فلن يدخل النار إلا أياما معدودات، وقد كذبهم الله تعالى بقوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]، وقال: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 80]
قلنا: حدثتنا عن المشهد الثالث.. فحدثنا عن الرابع.
ربوبيون وربانيون (1/255)
قال الشيخ: في محل آخر من تلك المدينة المباركة، رأيت نفرا من الناس يتحدثون، قال أحدهم: هلم نتذكر نعمة الله علينا بالقرآن الكريم الذي خلصنا من الانحرافات التي وقعت فيها المسيحية، دين آبائنا وأجدادنا، ومن غير أن تمس بسوء تلك المكانة العظيمة التي يحتلها المسيح عليه السلام أو أمه العذراء في قلوبنا، بل إنها زادت، وأصبحت أجمل وأكثر عقلانية، وكيف لا تكون كذلك، والقرآن الكريم تحدث عن المسيح عليه السلام بأفضل مما تحدثت عنه كل كتبنا المقدسة.
قال آخر: فقد نص القرآن الكريم على أن عقيدة المسيح عليه السلام هي التوحيد الكامل، التوحيد بكل شعبه، التوحيد في العبادة، فلا يُعبد إلا الله.. والتوحيد في الخلق والتدبير، فخالق السماء والأرض وما بينهما هو الله وحده لا شريك له.. والتوحيد في الذات والصفات فليست ذاته بمركبة، وهي منزهة عن مشابهة الحوادث سبحانه وتعالى.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 116 ـ 117]
قال آخر: وذكر القرآن الكريم أن الله تعالى أنزل على المسيح عليه السلام كتابا هو الإنجيل، وهو مصدق للتوراة، ومحي لشريعتها، ومؤيد للصحيح من أحكامها، وأنه مبشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، وهو مشتمل على هدى ونور وهو عظة للمتقين، وإنه كان على أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل فيه، ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47].
ربوبيون وربانيون (1/256)
قال آخر: وقد أخبر الله تعالى أن أصل دعوة المسيح عليه السلام تقوم على أساس أنه لا توسط بين الخالق والمخلوق، ولا بين العابد والمعبود، فالأخبار والرهبان لم تكن لهم الوساطة بين الله والناس، بل كل مسيحي يتصل بالله في عبادته بنفسه، من غير حاجة إلى توسط كاهن أو قسيس أو غيرهما، كما قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31]
قال آخر: وقد ورد في الحديث ما يدل على هذا، فعن عدي بن حاتم قال: وفدت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان في رقبتي صليب من الذهب، فقال لي: يا عدي ألق هذا الصنم عن رقبتك، ففعلت ذلك، ثم دنوت منه فسمعته يتلو الآية ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31]، فلما أتم الآية قلت له: نحن لا نتخذ أئمتنا أربابا أبدا، فقال: (ألم يحرموا حلال الله يحلوا حرامه فتتبعوهم؟ فقلت: بلى، فقال: فهذه عبادتهم) (1)
قال آخر: وبذلك، فالقرآن الكريم يعلمنا درسا مهما جدا، وهو أبرز مفاهيم التوحيد، وهو أنه لا يحق لأي مسلم طاعة إنسان آخر دون قيد أو شرط، لأن هذا الأمر مساو لعبادته، وجميع الطاعات يحب أن تكون في إطار طاعة الله، وانما يصح اتباع الإنسان نظيره متى كانت قوانينه غير مخالفة لقوانين الله، أيا كان ذلك الإنسان وفي أية مكانة أو منزلة، لأن الطاعة بلا قيد أو شرط مساوية للعبادة، أو هي شكل من أشكال الشرك والعبودية.
قال آخر: ولو أن المسيحيين واليهود وحتى المسلمين طبقوا هذه التعاليم الإلهية لما
__________
(1) الترمذي (3095)
ربوبيون وربانيون (1/257)
وقعوا أسرى في أيدي الدجالين والمحرفين الذين استبدلوا دين الله بأهوائهم وخرافاتهم ومصالحهم.
قال آخر (1): أجل، فهذا النوع من الشرك أو العبادة الوثنية أخطر بكثير من عبادة الأصنام في زمان الجاهلية، والسجود لها، لأن تلك الأصنام ليس فيها روح حتى تستعمر عبدتها، إلا أن الاصنام البشرية وبسبب غرورهم وعدوانهم يجرون أتباعهم إلى الوبال والذلة والشقاء والإنحطاط.
قال آخر: ولذلك، فإن الله تعالى يصف المسيح عليه السلام باعتباره بشرا كسائر البشر، وأن دوره تبليغ دين الله، وتمثيله في الواقع مثل سائر الأنبياء والرسل عليهم السلام، كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [آل عمران: 45 ـ 51]
قال آخر: هذا هو المسيح عليه السلام في القرآن الكريم، بشر خلقه الله بكلمته، كما
__________
(1) الأمثل، الشيرازي: (6/ 10).
ربوبيون وربانيون (1/258)
خلق من قبله آدم عليه السلام بكلمته، وهي قوله: (كن) وجعله الله سبحانه آية حيث خلقه في بطن أمه مريم بدون أن يكون لها زوج أو يمسها بشر، بل كانت أمة صالحة طاهرة مبرأة من الخبث والفساد.
قال آخر: وبين الله عز وجل لنا حقيقة دعوة المسيح عليه السلام، وأنه رسول دعا إلى عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، وقد وجه دعوته لبني جنسه، وهم بنو إسرائيل الذين كانوا في ذلك الوقت قد انحرفوا كثيرا عن دين موسى عليه السلام، إلا أن قومه كذبوه وسعوا إلى قتله، فأنجاه الله منهم.
قال آخر (1): وإذا نظرنا إلى الأناجيل الموجودة حاليا نجد أنها تتوافق مع ما ذكره القرآن الكريم حول المسيح عليه السلام والمسيحية، وهذا يدل على التحريفات التي طرأت على المسيحية على يد رجال الدين المنحرفين.. فقوله تعالى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [المائدة: 75] متوافق مع ما ورد في مواطن كثيرة في الأناجيل بأنه رسول من عند الله، وليس إلها، ولا أقنوما من إله.
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في إنجيل متى [10/ 40]: (من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني).. وفي إنجيل لوقا [4/ 43]: (فقال لهم: إنه ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر أيضا بملكوت الله؛ لأني لهذا أرسلت.. فكان يكرز في مجامع الجليل).. وكان يقول لتلاميذه الذين أرسلهم إلى المدن لدعوة الناس للإيمان به وبرسالته حسب قول لوقا [10/ 16]: (الذي يسمع منكم يسمع مني، والذي يرذلكم يرذلني، والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني).. وفي إنجيل يوحنا ذكر أنه رسول من الله في مواطن
__________
(1) انظر: دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف، ص 167، وما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/259)
كثيرة منها [4/ 34]: (قال لهم يسوع: طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني، وأتمم عمله).. وفي [17/ 3] يذكر عن المسيح أنه قال: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته)
قال آخر: ومثل ذلك نجد أنها تتوافق مع ما ورد في القرآن الكريم من كونه رسولا خاصا إلى بني إسرائيل، كما قال تعالى حاكيا عنه: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [آل عمران: 49]، وقد ورد في إنجيل متى [15/ 24] أن المسيح عليه السلام لحقته امرأة كنعانية تطلب منه شفاء ابنتها المجنونة، فقال المسيح: (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة). وكذلك في إنجيل متى [10/ 5] أن المسيح أرسل تلاميذه إلى القرى اليهودية، وقال لهم: (إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)
قال آخر: وهكذا نجدها تتوافق مع ما ورد في القرآن الكريم من دعوته لعبادة الله وحده، كما قال تعالى حاكيا عنه: ﴿إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [آل عمران: 51]، ففي إنجيل متى [4/ 10] عن المسيح أنه قال: (للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد)، وفي إنجيل مرقص [12/ 29] أن المسيح أجاب من سأله عن أول الوصايا والواجبات بقوله: (إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك)، وفي إنجيل لوقا [4/ 8] أن المسيح قال للشيطان لما طلب منه أن يسجد له: (اذهب يا شيطان، إنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد)، وفي إنجيل يوحنا [17/ 3] أن المسيح قال: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته)، وكذلك قال للمرأة التي رأته بعد القيامة في كلامهم في إنجيل يوحنا [20/ 17]: (قال لها يسوع: لا تلمسيني؛ لأني لم أصعد بعد إلى
ربوبيون وربانيون (1/260)
أبي، ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم)
قال آخر: وهكذا نجدها تتوافق مع ما ورد في القرآن الكريم من كونه لم يأت لينقض الشريعة الصحيحية لموسى عليه السلام، بل جاء مصححا ومكملا لها، كما قال تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: 50]، ففي إنجيل متى [5/ 17] عن المسيح أنه قال: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل)
قال آخر: وهكذا نجدها تتوافق مع ما ورد في القرآن الكريم من دعوته إلى التصحيح والتوبة، كما قال تعالى حكاية عنه: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [آل عمران: 50]، ففي إنجيل متى [9/ 13]: (لأني لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة). وفي إنجيل مرقص [1/ 14]: (وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل).
قال آخر: وهذه النصوص الواردة في الأناجيل، وغيرها تدل على بشرية المسيح عليه السلام، وأنه رسول دعا بني إسرائيل إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا يتفق تمام الاتفاق مع ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم عنه، ويتفق مع دعوة الأنبياء السابقين الذين ورد ذكرهم في القرآن، أو ذكرهم اليهود في كتبهم.. كما يتفق مع العقل وترتاح له النفس، بخلاف ما تدعيه الكنيسة وتزعمه من الأمور المناقضة للعقل والشرع.
قلنا: حدثتنا عن المشهد الرابع.. فحدثنا عن الخامس.
قال الشيخ: في محل آخر من تلك المدينة المباركة، رأيت نفرا من الناس يتحدثون، قال أحدهم: لقد كان من أعظم الحجب التي حالت بيني وبين دخول الإسلام، مع كوني
ربوبيون وربانيون (1/261)
تأثرت بالقرآن الكريم أيما تأثر، هو سماعي لبعض علماء المسلمين الذين يصورون الله تعالى بصورة لا تختلف كثيرا عن تلك الصور التي يصور بها الوثنيون أوثانهم.. لكن الله تفضل علي بأن أسمع علماء آخرين، ذكروا لي أن كل ما يذكره أولئك مجرد تحريفات لا علاقة لها بالدين، ولا بالقرآن، وإنما هي من تراث اليهود الذي تسلل للمسلمين.. وقد أطلعني على تراث عظيم عريض للمسلمين يرد على أولئك المحرفين، بل يعتبرهم امتدادا للوثنيات الجاهلية.
قال آخر: ومثلك أنا.. فقد رحت أبحث في تراث أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكثرهم فهما وتمسكا بدينه، فوجدتهم جميعا يذكرون العقيدة القرآنية التنزيهية التي يدل عليها العقل والفطرة.. ومن ذلك ما قرأته عن الإمام علي أنه قال في خطبة له: (إن كنت صادقا أيها المتكلف لوصف ربك، فصف جبريل وميكائيل، وجنود الملائكة المقربين، في حجرات القدس مرجحنين (1)، متولهة عقولهم، أن يحدوا أحسن الخالقين؛ فإنما يدرك بالصفات، ذوو الهيئات والأدوات، ومن ينقضي إذا بلغ أمد حده بالفناء، فلا إله إلا هو، أضاء بنوره كل ظلام، وأظلم بظلمته كل نور) (2)
قال آخر: ومثلك أنا.. فمما قرأته للإمام الحسين قوله في الر دعلى المشبهة: (أيها الناس اتقوا هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم، يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله ليس كمثله شي ء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضى المشيئة والإرادة والقدرة والعلم بما هو كائن، لا منازع له في شي ء من أمره، ولا كفو له يعادله، ولا ضد له
__________
(1) من ارجحن الشئ، إذا مال من ثقله وتحرك.
(2) نهج البلاغة: الخطبة رقم 182.
ربوبيون وربانيون (1/262)
ينازعه، ولا سمي له يشابهه، ولا مثل له يشاكله، لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث، ولا يقدر الواصفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوب مبلغ جبروته، لأنه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلا بالتحقيق إيقانا بالغيب، لأنه لا يوصف بشي ء من صفات المخلوقين، وهو الواحد الصمد، ما تصور في الأوهام فهو خلافه) (1)
قال آخر: ومثله قال الإمام الباقر في الرد على المجسمة: (ما أعظم فرية أهل الشام على الله عز وجل، يزعمون أن الله تبارك وتعالى حيث صعد إلى السماء وضع قدمه على صخرة بيت المقدس، ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على حجرة فأمرنا الله تبارك وتعالى أن نتخذه مصلى) (2).. وقال في وصف الله تعالى: (إن الله تبارك وتعالى لا نظير له ولا شبيه، تعالى عن صفة الواصفين، وجل عن أوهام المتوهمين، واحتجب عن أعين الناظرين، لا يزول مع الزائلين، ولا يأفل مع الآفلين، ليس كمثله شي ء وهو السميع العليم) (3)
قال آخر: وذكر للإمام الصادق أن بعض أصحابه يقول: (إن الله جسم صمدي نوري، معرفته ضرورة، يمن بها على من يشاء من خلقه)، فقال: (سبحان من لايعلم أحدٌ كيف هو إلا هو ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] لايحد، ولا يحس، ولا يجس، ولا تدركه الأبصار ولا الحواس، ولا يحيط به شي ء، ولا جسم ولا صورة، ولا تخطيط ولا تحديد) (4)
قال آخر: وذكر له قول من يزعم أن الله جسم، فقال: (ويحه، أما علم أن الجسم
__________
(1) تحف العقول 244 و245.
(2) التوحيد 179.
(3) التوحيد، ص 179.
(4) الكافي: 1/ 256.
ربوبيون وربانيون (1/263)
محدود متناه، والصورة محدودة متناهية؟ فإذا احتمل الحد، احتمل الزيادة والنقصان، وإذا احتمل الزيادة والنقصان، كان مخلوقا)، قيل له: فما أقول؟.. قال: (لا جسم ولا صورة، وهو مجسم الأجسام، ومصور الصور، لم يتجزأ، ولم يتناه، ولم يتزايد، ولم يتناقص، لو كان كما يقولون، لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق، ولا بين المنشئ والمنشإ، لكن هو المنشئ، فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه؛ إذ كان لايشبهه شي ء، ولا يشبه هو شيئا) (1)
قال آخر: وذكر للإمام الكاظم قول بعض المجسمة، فقال: (إن الله تعالى لايشبهه شي ء، أي فحش أو خنا أعظم من قول من يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة، أو بخلقة، أو بتحديد وأعضاء؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) (2)
قال آخر: وقيل له: (إن هشام بن الحكم زعم أن الله جسم ليس كمثله شي ء، عالم، سميع، بصير، قادر، متكلم، ناطق، والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد، ليس شي ء منها مخلوقا)، فقال: (قاتله الله، أ ما علم أن الجسم محدود، والكلام غير المتكلم؟ معاذ الله، وأبرأ إلى الله من هذا القول، لاجسم، ولا صورة، ولا تحديد، وكل شي ء سواه مخلوق، إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته، من غير كلام، ولا تردد في نفس، ولا نطق بلسان) (3)
قال آخر: ومثلهم جميعا قال الإمام الرضا: (إن لنا بالرسل أسوة كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، وكل جسم مغذو بهذا إلا الخالق الرازق، لأنه جسم الأجسام، وهو لم يجسم، ولم يجزأ بتناه، ولم يتزايد ولم يتناقص مبرأ من ذاته ما ركب في ذات من جسمه.. الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد منشئ
__________
(1) الكافي: 1/ 259.
(2) الكافي: 1/ 258.
(3) الكافي: 1/ 260.
ربوبيون وربانيون (1/264)
الأشياء، ومجسم الأجسام، وهو السميع العليم، اللطيف الخبير الرؤوف الرحيم تبارك وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.. لو كان كما يوصف لم يعرف الرب من المربوب ولا الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ، ولكنه فرق بينه وبين من جسمه، وشيأ الأشياء إذ كان، لا يشبهه شي ء يرى ولا يشبه شيئا) (1)
قلنا: حدثتنا عن المشهد الخامس.. فحدثنا عن السادس.
قال الشيخ: في محل آخر من تلك المدينة المباركة، رأيت معلما يجتمع لديه مجموعة من الشباب، وهو يسألهم، وهم يجيبونه، وكان من الأسئلة التي حضرتها قوله لهم: ما تقولون فيمن يزعم لكم بأن الرؤية الفلسفية القديمة لله، أكثر تنزيها من الرؤية الدينية؟
قال أحدهم: إن كنت تقصد الرؤية الدينية مطلقا من غير تحديد أي دين، فذلك قد يكون صحيحا بالنسبة للكثير من التحريفات التي تعرضت لها الأديان.. لكن إن أردت مقارنتها بما ذكره القرآن الكريم، فالبون حينها سيكون شاسعا جدا.. فشتان بين الرؤية الفلسفية والرؤية القرآنية.
قال آخر (2): فمن ذلك مثلا ما ذهب إليه أئمة الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، ذلك أن مذهبهم أقرب إلى الغيبوبة الصوفية منه إلى التفكير الجلي والمنطق المعقول، وطريقتهم في التنزيه أن يمعن في الزيادة على كل صفة يوصف بها الله، فلا يزال يتخطاها، ثم يتخطاها كلما استطاع الزيادة اللفظية حتى تنقطع الصلة بينها وبين جميع المدلولات المفهومة أو المظنونة.
__________
(1) كشف الغمة 2/ 386.
(2) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، العقاد، ص 7، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/265)
قال آخر: فمن ذلك أنه ينكر صفة الوجود ليقول: إن الله لا يوصف بأنه موجود، تنزيها له عن الصفة التي يقابلها العدم وتشترك فيها الموجودات أو الموجدات.
قال آخر: ومثل ذلك مذهب أرسطو في الإله؛ فهو يذكر أنه كائن أزلي أبدي مطلق الكمال لا أول له ولا آخر، ولا عمل له ولا إرادة، منذ كان العمل طلبا لشيء والله غني عن كل طلب، وقد كانت الإرادة اختيارا بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح الأفضل من كل كمال؛ فلا حاجة به إلى الاختيار بين صالح وغير صالح، ولا بين فاضل ومفضول.
قال آخر: وليس مما يناسب الإله في رأي أرسطو أن يبتدئ العمل في زمان؛ لأنه أبدي سرمدي لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلى العمل، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر ولا جديد ولا قديم.. وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها، ولا تخرج من نطاقها عناية تعنيه.
قال آخر: فالإله الكامل المطلق الكمال ـ عنده ـ لا يعنيه أن يخلق العالم أو يخلق مادته الأولى وهي (الهيولي)، ولكن لهذه (الهيولي) قابلية للوجود يخرجها من القوة إلى الفعل شوقها إلى الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلى الوجود، ثم يدفعها من النقص إلى الكمال المستطاع في حدودها؛ فتتحرك وتعمل بما فيها من الشوق والقابلية، ولا يقال عنها: إنها من خلقة الله، إلا أن تكون الخلقة على هذا الاعتبار.
قال آخر: وبذلك، فإن الله عنده كمال مطلق لا يعمل ولا يريد.. أو كمال مطلق يوشك أن يكون هو والعدم المطلق على حد السواء.
قال آخر: وقد كان إلى جانب هذا يتصور أن من كمال الكائنات العلوية ـ السماوية ـ أنها خالدة باقية لا تفنى؛ لأنها من نور، والنور بسيط لا يعرض له الفناء كما يعرض على التركيب.
ربوبيون وربانيون (1/266)
قال آخر: ولو أنه عاش حتى علم أن المادة الأرضية كلها من نور، وأن عناصر المادة كلها تؤول إلى الذرات والكهارب، وأن هذه الذرات والكهارب تنشق فتؤول إلى شعاع؛ لما ساقه الظن والقياس إلى ذلك الخطأ في التفرقة بين لوازم البقاء ولوازم الفناء، أو بين خصائص البساطة وخصائص التركيب.
قال آخر: ولعل إدراكه لذاك الخطأ في فهم لوازم البساطة والكمال، ولوازم البقاء والفناء؛ كان خليقا أن يهديه إلى فهم خطئه في تصور لوازم الكمال الإلهي؛ فلا يمتنع في عقله أن يجتمع الكمال الواحد من صفات عدة كالصفات الحسنى التي وُصف بها الإله في القرآن الكريم، ومنها الرحمة والكرم والقدرة والفعل والإرادة.
قال آخر: ولا يمتنع في عقله أن يكون لهذه الصفات لوازمها ومقتضياتها؛ إذ لا تكون قدرة بغير مقدور عليه، ولا يكون كرم بغير إعطاء، ولا تكون مشيئة بغير اختيار بين أمرين، وإذا اختار الله أمرا فهو لا يختاره لذاته ـ سبحانه وتعالى ـ بل يختاره لمخلوقاته التي تجوز عليها حالات شتى لا تجوز في حق الإله، وإذا خلق الله شيئا في الزمان فلا ننظر إلى الأبدية الإلهية، بل ينبغي أن ننظر إلى الشيء الموجود على المخلوق في زمانه، ثم لا مانع عقلا من أن تتعلق به إرادة الله الأبدية على أن يكون حيث كان في زمن من الأزمان.
قال آخر: لقد كان مفهوم البساطة في الأبدية الباقية عند أرسطو غير مفهومها الذي لمسناه اليوم لمسا في هذه الكائنات الأرضية السفلية؛ فلا جرم يكون مفهوم الكمال المطلق عندنا غير مفهومه الذي جعله أرسطو أشبه شيء بالعدم المطلق، غير عامل ولا مريد ولا عالم بسوى النعمة والسعادة، قانع بأنه منعم سعيد.
قال المعلم: فهل استطاع أرسطو بتجريده الفلسفي أن يسمو بالكمال الأعلى فوق مرتبته التي يستلهمها المسلم من عقيدة دينه؟
ربوبيون وربانيون (1/267)
قال أحد التلاميذ: كلا؛ فإن الله في الإسلام إله صمد لا أول له ولا آخر، وله المثل الأعلى؛ فليس كمثله شيء، وهو محيط بكل شيء.
قال المعلم: فهل تغض العقيدة الدينية من الفكرة الفلسفية في مذهب التنزيه؟
قال أحد التلاميذ: كلا، بل الدين هنا فلسفة أصح من الفلسفة إذا قيست بالقياس الفلسفي الصحيح؛ لأن صفات الإله التي تعددت في عقيدة الإسلام لا تعدو أن تكون نفيا للنقائص التي لا تجوز في حق الإله، وليس تعدد النقائص مما يقضي بتعدد الكمال المطلق الذي ينفرد ولا يتعدد؛ فإن الكمال المطلق واحد والنقائص كثيرة لا ينفيها جميعا ذلك الكمال الواحد.
قال آخر: ولذلك، فإن إيمان المسلم بأن الله عليم قدير فعال لما يريد كريم رحيم، إيمان بأنه ـ جل وعلا ـ قد تنزه عن نقائص الجهل والعجز والجحد والغشم؛ فهو كامل منزه عن جميع النقائص.
قال آخر: ومقتضى قدرته أن يعمل ويخلق ويريد لخلقه ما يشاء، ومقتضى عمله وخلقه أن يتنزه عن تلك (العزلة السعيدة) التي توهمها أرسطو مخطئا في التجريد والتنزيه، فهو سعيد بنعمة كماله سعيد بنعمة عطائه، كفايته لذاته العلية لا تأبى له أن يفيض على الخلق كفايتهم من الوجود في الزمان، أي من ذلك الوجود المحدود الذي لا يغض من وجود الله في الأبد بلا أول ولا آخر ولا شريك ولا مثيل.
قال آخر: ومن صفات الله في القرآن الكريم ما يعتبر ردا على فكرة الله في الفلسفة الأرسطية، كما يعتبر ردا على أصحاب التأويل في الأديان الكتابية وغير الكتابية.. فالله عند أرسطو يعقل ذاته ولا يعقل ما دونها، ويتنزه عن الإرادة؛ لأن الإرادة طلب في رأيه والله كمال لا يطلب شيئا غير ذاته، ويجل عن علم الكليات والجزئيات؛ لأنه يحسبها من علم
ربوبيون وربانيون (1/268)
العقول البشرية، ولا يعنى بالخلق رحمة ولا قسوة؛ لأن الخلق أحرى أن يطلب الكمال بالسعي إليه، ولكن الله في الإسلام عالم الغيب والشهادة: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾ [سبأ: 3]، ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 79]، ﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾ [المؤمنون: 17]، ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الأعراف: 89]، ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]، ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [الملك: 13]، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64]
قال آخر: وفي هذه الآية الكريمة الأخيرة رد على يهود العرب بمناسبة خاصة تتعلق بالزكاة والصدقات ـ كما جاء في أقوال بعض المفسرين ـ لكنها ترد على كل من يغلون إرادة الله على وجه من الوجوه، ولا يبعد أن يكون في يهود الجزيرة من يشير إلى رواية من روايات الفلسفة الأرسطية لذلك المقال.
قال آخر: وقد أشار القرآن الكريم إلى الخلاف بين الأديان المتعددة، فجاء فيه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [الحج: 17]، وأشار إلى الدهريين، فقال: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24]، فكانت فكرة الله في الإسلام هي الفكرة المتممة لأفكار كثيرة موزعة في هذه العقائد الدينية، وفي المذاهب الفلسفية التي تدور عليها.
قال آخر: ولهذا بلغت المثل الأعلى في صفات الذات الإلهية، وتضمنت تصحيحا للضمائر وتصحيحا للعقول في تقرير ما ينبغي لكمال الله، بقسطاس الإيمان وقسطاس النظر والقياس.
قال آخر: وبذلك، فإن الإسلام جاء بالقول الفصل في مسألة البقاء والفناء؛ فالعقل
ربوبيون وربانيون (1/269)
لا يتصور للوجود الدائم والوجود الفاني صورة أقرب إلى الفهم من صورتيهما في العقيدة الإسلامية.
قال آخر: لأن العقل لا يتصور وجودين سرمديين، كلاهما غير مخلوق، أحدهما مجرد والآخر مادة، وهذا وذاك ليس لهما ابتداء وليس لهما انتهاء.. ولكنه يتصور وجودا أبديا يخلق وجودا زمانيا، أو يتصور وجودا يدوم ووجودا يبتدئ وينتهي في الزمان، وقديما قال أفلاطون وأصاب فيما قال: (إن الزمان محاكاة للأبد.. لأنه مخلوق، والأبد غير مخلوق)
قال آخر: فبقاء المخلوقات بقاء في الزمن، وبقاء الخالق بقاء أبدي سرمدي لا يحده الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأنها كلها من حدود الحركة والانتقال في تصور أبناء الفناء، ولا تجوز في حق الخالق السرمدي حركة ولا انتقال.. فالله هو ﴿الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58]، ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [المؤمنون: 80]، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88]
قال آخر: وأيا كان المرتقى الذي ارتفع إليه تنزيه الفكرة الإلهية في مذهب أرسطو وغيره.. فهذا التنزيه الفلسفي قمة منبتة عن البيئة التي عاش فيها الفيلسوفان.
قال آخر: بل يكاد هذا التنزيه الفلسفي أن يكون خيالا جامحا بالنسبة إلى العقائد الإلهية التي كانت فاشية بين الكهان والمتعبدين من أبناء اليونان، فلا شك أن صورة (زيوس) رب الأرباب عندهم كانت أقرب إلى صورة الشيطان منها إلى صورة الأرباب المنزهين، ولو لم يبلغ وصف التنزيه عندهم نصيبا ملحوظا من الكمال.
قال آخر: ومثل الأمم القديمة كمثل اليونان في بعد الفارق بين صورة الإله في حكمة الفلاسفة وبين صورته في شعائر الكهان والمتعبدين.. فالهند القديمة كانت تطوي هياكلها ومعابدها على طوائف من الأرباب؛ منها ما يلحق بالحيوان وعناصر الطبيعة، ومنها ما
ربوبيون وربانيون (1/270)
يلحق بالأوثان والأنصاب، وكثير منها يتطلب سدنته أن يتقربوا بالبغاء المقدس وسفك الدماء.
قال آخر: وجملة الملاحظات على تنزيه الفكرة الإلهية عند الأقدمين أنه كان تنزيها خاصا مقصورا على الفئة القليلة من المفكرين والمطلعين على صفوة الأسرار الدينية.. ثم يلاحظ عليه بعد ذلك أنه تنزيه لم يسلم في كل آنة من ضعف يعيبه عقلا ويجعله غير صالح للأخذ به في ديانات الجماعة على الخصوص.
قال آخر: ففي الديانة المصرية لم تسلم فكرة التوحيد من شائبة الوثنية، ولم تزل عبادة الشمس ظاهرة الأثر في عبادة (آتون)
قال آخر: وديانة الهند لم تعلم الناس الإيمان ب (ذات إلهية) معروفة الصفات، وليس في معبوداتها أشرف من الكارما والنر?انا، وهما بالمعاني الذهنية أشبه منهما بالكائنات الحية، وإحداهما ـ وهي النر?انا ـ إلى الفناء أقرب منها إلى البقاء.
قال آخر: والتنزيه الفلسفي الذي ارتقت إليه حكمة اليونان في مذهب أرسطو يكاد يلحق الكمال المطلق بالعدم المطلق، ويخرج لنا صورة للإله لا تصلح للإيمان بها ولا للاقتناع بها على هدى من الفهم الصحيح.
قال آخر: وكل أولئك لا يبلغون بالتنزيه الإلهي مبلغه الذي جاء به الإسلام صالحا للإيمان به في العقيدة الدينية، وصالحا للأخذ به في مذاهب التفكير.
قال آخر: فالإسلام ـ كما هو معلوم ـ ثالث الديانات المشهورة باسم الديانات الكتابية، ومكانها في علم المقارنة بين الأديان مرتبط بمكان الديانتين الأخريين وهما الموسوية والمسيحية، وتجري المقارنة بين الإسلام وبينهما فعلا في كتابات الغربيين، فلا يتورع أكثرهم من حسبان الإسلام نسخة مشوهة أو محرفة من المسيحية أو الموسوية، مع أن المسألة
ربوبيون وربانيون (1/271)
لا تحتمل الجدل الطويل في ميزان النقد والمقارنة وإن احتملته في مجال الدعوة والخصومة العصبية، ولا حاجة في المقارنة بين هذه الديانات إلى أكثر من ذكر العقيدة الإلهية في كل منها، للعلم الصحيح بمكانها من التنزيه في حكم الدين وحكم المعرفة النظرية.
قال آخر: إن المراجع التي تلقينا منها عقائد العبريين ـ كما يدين بها أتباع الديانة الموسوية إلى يومنا هذا ـ مبسوطة بين أيدي جميع القادرين على مطالعتها في لغاتها الأصيلة أو لغاتها المترجمة، وأشهرها التوراة والتلمود.
قال آخر: فصورة الإله في هذه المراجع من أوائلها إلى أواخرها هي صورة (يهوا) إله شعب إسرائيل، وهي صورة بعيدة عن الوحدانية، يشترك معها آلهة كثيرون تعبدها الأمم التي جاورت العبريين في أوطان نشأتهم وأوطان هجرتهم، ولكن (يهوا) يغار منها ولا يريد من شعب إسرائيل أن يلتفت إليها؛ لأنه يريد أن يستأثر بشعب إسرائيل لنفسه بين سائر الشعوب، وأن يستأثر شعب إسرائيل به لأنفسهم بين سائر الآلهة.
قال آخر: ولهذا لم يكن العبريون ينكرون وجود الآلهة الكثيرين غير إلههم الذي يعبدونه تارة ويتركونه تارة أخرى، ولكنهم كانوا يحسبون الكفر به ضربا من خيانة الرعية لملكها واعترافهم بالطاعة لغيره من الملوك القائمين بالملك في أرض غير أرضه وبين رعية غير رعيته، وإذا تركوا (يهوا) حينا من الزمن ثم آثروا الرجعة إلى عبادته فإنما يرجعون إليه؛ لاعتقادهم بالتجربة المزعومة أنه أقدر على النكاية بهم، وأن الآلهة الأخرى عجزت عن حمايتهم من سخطه وانتقامه.
قال آخر: وقد وصفوه في كتبهم المقدسة فقالوا عنه مرة: إنه يحب ريح الشواء.. وقالوا عنه مرة أخرى: إنه يتمشى في ظلال الحديقة ليتبرد بهوائها.. وقالوا عنه ـ غير هذا وذاك: إنه يصارع عباده ويصارعونه، وإنه يخاف من مركبات الجبال كما يخافها جنوده،
ربوبيون وربانيون (1/272)
وغبروا ردحا من الدهر وهم يسوون بينه وبين عزازيل شيطان البرية فيتقربون إليه بذبيحة، ويتقربون إلى الشيطان بذبيحة مثلها.
قال آخر: ومن تتبع نعوت (يهوا) من أوائل أيام العبريين في أوطان نشأتهم وأوطان هجرتهم، إلى أواخرها قبل عصر الميلاد المسيحي؛ لم يتبين من تلك النعوت أنهم وسعوا أفق العبادة لهذا الإله، ولا أنهم وسعوا مجال الحظوة عنده، بل إنه ليتبين من نعوته السابقة واللاحقة أنهم كانوا يضيقون أفق عبادته، ويحصرون مجال الحظوة عنده جيلا بعد جيل؛ فكان شعبه المختار في مبدأ الأمر عاما شاملا لقوم إبراهيم، ثم أصبح بعد بضعة قرون محصورا مقصورا على قوم يعقوب بن إسحاق، ثم أصبح بعد ذلك محصورا مقصورا على قوم موسى، ثم على أبناء داود وعلى من يدينون لعرشه بالولاء.. ومن ذريته كان ينبغي أن يظهر المسيح المخلص لهم في آخر الزمان.
قال آخر: وهكذا، فإن العقيدة الإلهية ـ كما دان بها العبريون، وجمدوا عليها إلى عصر الميلاد ـ إنما هي عقيدة شعب مختار بين الشعوب في إله مختار بين الآلهة، وليس في هذه العقيدة إيمان بالتوحيد، ولا هي مما يتسع لديانة إنسانية، أو مما يصح أن يحسبه الباحث المنصف مقدمة للإيمان بالإله الذي يدعو إليه الإسلام.
قال آخر: ثم تطورت هذه العقيدة الإلهية بعد ظهور المسيحية، فانتقلت من الإيمان بالإله لأبناء إبراهيم في الجسد إلى الإله لأبناء إبراهيم في الروح، وانقضى عصر السيد المسيح وعصر بولس الرسول، واتصلت المسيحية بالأمم الأجنبية ـ وفي مقدمتها الأمة المصرية ـ فشاعت فيها على إثر ذلك عقيدة إلهية جديدة في مذهب العبريين، وهي عقيدة الثالوث المجتمع من الأب والابن والروح القدس، وفحواها أن المسيح المخلص هو ابن الله، وأن الله أرسله فداء لأبناء آدم وحواء، وكفارة عن الخطيئة التي وقعا فيها عندما أكلا من شجرة
ربوبيون وربانيون (1/273)
المعرفة في الجنة بعد أن نهاهما عن الاقتراب منها.
قال آخر: وظهر الإسلام وفحوى العقيدة الإلهية كما تطورت بها الديانة المسيحية أن الله الإله واحد من أقانيم ثلاثة، هي الأب والابن والروح القدس، وأن المسيح هو الابن من هذه الأقانيم، وهو ذو طبيعة إلهية واحدة في مذهب فريق من المسيحيين، وذو طبيعتين ـ إلهية وإنسانية ـ في مذهب فريق آخر.
قال آخر: ومن البديهي أن الباحث الذي يريد تطبيق علم المقارنة بين الأديان على المسيحية والإسلام مطالب بالرجوع إلى حالة الديانة المسيحية حيث ظهرت دعوة الإسلام في الجزيرة العربية؛ فلا يجوز لأحد من هؤلاء الباحثين أن يزعم أن الإسلام نسخة محرفة من المسيحية إلا إذا اعتقد أن نبي الإسلام قد أخذ من المسيحية كما عرفها في بيئته العربية، وفيما اتصل به من البيئات الأخرى حول جزيرة العرب.
قال آخر: ومهما يكن من تطور العقائد المسيحية في سائر البيئات ومختلف العصور، فالعقيدة المسيحية التي يجوز لصاحب المقارنة بين الأديان أن يجعلها قدوة للإسلام إنما هي عقيدة المسيحيين في الجزيرة العربية وما حولها، وقد وصف المؤرخون ذلك بتفصيل، حيث ذكروا أن كل الخرافات الموجودة في المسيحية كانت موجودة بينهم، وزيادة، حيث ظهر فيهم من يقول بألوهية العذراء مريم ويعبدونها كأنما هي الله، ويقربون لها أقراصا مضفورة من الرقاق يقال لها: كليرس، وبها سمي أصحاب هذه البدع كليريين.
قال آخر: ومن الواضح البين أن عقائد الفرق المسيحية على ذلك النحو لم تكن مما يغري بالإعجاب أو مما يدعو إلى الاقتداء، ومن الواضح البين أن موقف الإسلام كان موقف المصحح المتمم، ولم يكن موقف الناقل المستعير بغير فهم ولا دراية.
قال آخر: فقد جاء الإسلام بالدعوة إلى إله منزه عن لوثة الشرك، منزه عن جهالة
ربوبيون وربانيون (1/274)
العصبية وسلالة النسب، منزه عن التشبيه الذي تسرب من بقايا الوثنية إلى الأديان الكتابية.. فالله الذي يؤمن به المسلمون إله واحد لم يكن له شركاء ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31]، وما هو برب قبيلة ولا سلالة يؤثرها على سواها بغير مأثرة، ولكنه ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29]، خلق الناس جميعا ليتعارفوا ويتفاضلوا بالتقوى؛ فلا فضل بينهم لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وهو واحد أحد ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 3 ـ 4]
قال آخر: وهو إله لا يأخذ إنسانا بذنب إنسان، ولا يحاسب أمة خلفت بجريرة أمة سلفت، ولا يدين العالم كله بغير نذير: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الزمر: 7]، ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 141]، ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]
قال آخر: ودينه دين الرحمة والعدل، تفتتح كل سورة من كتابه ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: 30].. ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]، ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ [الحديد: 3]، ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الأعراف: 89]، ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 79]
قال آخر: وللباحث في مقارنات الأديان أن يقول ما يشاء عن هذا الإله الواحد الأحد، رب العالمين، ورب المشرقين والمغربين، إلا أن يقول إنه نسخة مستمدة من عقائد عرب الجاهلية، أو عقائد الفرق الكتابية التي خالطت عقائد الجاهليين.
قال آخر: ذلك أن العقيدة الإلهية التي تستمد من تراث الجاهليين لن تكون لها صبغة أغلب من صبغة العصبية، ولا مفخرة أظهر من مفاخر الأحساب، ولن تخلو من لوثة
ربوبيون وربانيون (1/275)
الشرك، ولا من عقابيل العبادات التي امتلأت بالخبائث وحلت فيها الرقى والتعاويذ محل الشعائر والصلوات.
قال آخر: ومعجزة المعجزات أن الإسلام لم يكن كذلك، بل كان نقيض ذلك في صراحة حاسمة جازمة لا تأذن بالهوادة ولا بالمساومة؛ فما من خلة كانت أبغض إليه من خلة العصبية الجاهلية والمفاخرة الجاهلية والتناجز الجاهلي على فوارق الأنساب والأحزاب.
قال آخر: فمن صميم بلاد العصبية خرج الدين الذي ينكر العصبية، ومن جوف بلاد القبائل والعشائر خرج الدين الذي يدعو إلى إله واحد رب العالمين ورب المشرق والمغرب، ورب الأمم الإنسانية جميعا، بغير فارق بينها غير فارق الصلاح والإيمان.
قال آخر: على أن الباحثين الذين يصطنعون سمت العلم من علماء المقارنة بين الأديان في الغرب؛ يطلقون نعوتهم على الإسلام سماعا فيما يظهر من مقرراتهم أو من مكرراتهم التقليدية التي لا يبدو منها، أنهم كلفوا عقولهم ـ جدا وحقا ـ أن تلم إلمامة واحدة بهذا الدين في جملة أو تفصيل.
قال آخر: ففي كتاب من أحدث الكتب عن أديان بني الإنسان ألفه أستاذ للفلسفة في جامعة كبيرة، يقول المؤلف المتخصص لهذه الدراسات بعد الإشارة إلى السيف والعنف والاقتباس من النصرانية والصابئية والمجوسية: (إن محمدا أسبغ على الله ـ ربه ـ ثوبا من الخلق العربي والشخصية العربية)، ويقول: (إن الحقيقة التي قررها هنا تتجلى للباحث كلما تقدم في دراسة هذا الدين العربي وهذه الشخصية الإلهية العربية).. بهذا النعت التقليدي ينعت المؤلف إله الإسلام بعد أن تقدم في دراساته على حد قوله، فماذا كان عساه قائلا لو أنه لم يسمع باسم الإسلام إلا على الإشاعة من بعيد!؟
ربوبيون وربانيون (1/276)
قال آخر: لعله لم يكن بحاجة إلى التقدم وراء البسملة في سورة الفاتحة ليعلم أن المسلم يدين برب العالمين، وأنه يصف ربه بالرحمة مرتين عند الابتداء بكل سورة من سور كتابه.
قال آخر: ولعله كان يحسب المقارنة جدا وحقا، لو أنه قنع بهذه الصفة من صفات إله الإسلام وقارن بينها وبين الصفات التي يختارها غير المسلمين؛ فلا يذكرون الله مفتتح دعواتهم بغير صفة القوة والجبروت.. فالله رب العالمين، ملك يوم الدين، لم يكن نسخة محرفة من صورة الله في عقيدة من العقائد الكتابية، بل كان هو الأصل الذي يثوب إليه من ينحرف عن العقيدة في الإله كأكمل ما كانت عليه، وكأكمل ما ينبغي أن يكون.
قال آخر: ومن ثم كانت هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصححة متممة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية.. فهي عقيدة كاملة صححت وتممت عقيدة الهند في الكارما والنر?انا؛ لأنها عقيدة في خواء أو فناء مسلوب الذات لا تجاوب بينه وبين أبناء الحياة.
قال آخر: وهي عقيدة كاملة صححت وتممت عقيدة المعلم الأول بين فلاسفة الغرب الأقدمين؛ لأنه كان على خطأ في فهم التجريد والتنزيه، ساقه هذا الخطأ إلى القول بكمال مطلق كالعدم المطلق في التجرد من العمل، والتجرد من الإرادة، والتجرد من الروح.
قال آخر: ودين يصحح العقائد الإلهية، ويتممها فيما سبقه من ديانات الأمم وحضاراتها ومذاهب فلاسفتها؛ تراه من أين أتى، ومن أي رسول كان مبعثه ومدعاه!؟.. من صحراء العرب!.. ومن الرسول الأمي بين الرسل المبعوثين بالكتب والعبادات!.. إن لم يكن هذا وحيا من الله، فكيف يكون الوحي من الله!؟
قال آخر: ليكن كيف كان في أخلاد المؤمنين بالوحي الإلهي حيث كان، فما يهتدي
ربوبيون وربانيون (1/277)
رجل (أمي) في أكناف الصحراء إلى إيمان أكمل من كل إيمان تقدم إلا أن يكون ذلك وحيا من الله، وإنه لحجر على البصائر والعقول أن تنكر الوحي على هذه المعجزة العليا؛ لأنه لا يصدق عليها في صورة من صور الحدس أو الخيال.
بعد أن حدثنا الشيخ عن هذه المشاهد الخمسة التي عرف فيها موقف الإسلام من الأديان المختلفة، والفرق بينه وبينها في العقيدة في الله، سألناه عما حصل له بعد ذلك، فقال: بعد أن سمعت كل ذلك وغيره، اشتاقت نفسي للتعرف على العقائد الحقيقية للإسلام، والواردة في مصادره المقدسة، لا تلك التي تعرضت للتحريف والتشويه.. وقد أتاح الله لي الكثير ممن دلني على ذلك، مما لا يمكن أن أتحدث عنه جميعا هنا، فلذلك سأكتفي لكم بأربعة مشاهد.
قلنا: فحدثنا عن المشهد الأول.
قال الشيخ: في محل مبارك من تلك المدينة الفاضلة، رأيت نفرا من الناس يتحدثون، قال أحدهم: مع اطلاعي على جميع الكتب المقدسة إلا أني لم أجد كتابا يهتم بالتعريف بالله وتنزيهه وتعظيمه كما اهتم القرآن الكريم.. فهو يتحدث عنه في كل المحال، بل لا تكاد تجد آية إلا وتذكر بعض صفاته، حتى ولو كانت الآية تتحدث عن الشرائع أو القصص وغيرها.
قال آخر: صدقت.. وقد كان هذا من أسباب ترجيحي للقرآن وللإسلام بعد اطلاعي على جميع الكتب المقدسة، والأديان المرتبطة بها.. ومن الأمثلة على ذلك سفر إستير، فهو يبدأ هكذا: (وحدث في أيام أحشويروش، الذي امتد حكمه من الهند إلى كوش،
ربوبيون وربانيون (1/278)
فملك على مئة وسبعة وعشرين إقليما، أنه جلس ذات يوم على عرش ملكه في شوشن القصر، في السنة الثالثة من عهده، وأقام مأدبة لجميع رؤساء جيش مادي وفارس وقادته، ومثل أمامه نبلاء المملكة وعظماؤها.. وظلت الولائم قائمة طوال مئة وثمانين يوما، أظهر فيها الملك كل بذخ من غنى ملكه وعزة جلال عظمته، وبعد أن انقضت هذه الأيام، صنع الملك وليمة لجميع الشعب المقيم في شوشن العاصمة، كبارهم وصغارهم، استمرت سبعة أيام في دار حديقة القصر، التي زينت بأنسجة بيضاء وخضراء وزرقاء، علقت بحبال كتانية ملونة في حلقات فضية وأعمدة رخامية وأرائك ذهبية وفضية، على أرضية مرصوفة بجزع من بهت ومرمر ودر ورخام أسود. وكانت الأقداح التي تقدم فيها الخمور من ذهب، وآنية الموائد مختلفة الأشكال، أما الخمور الملكية فكانت وفيرة بفضل كرم الملك، وأصدر الملك أمره إلى كبار رجال قصره أن يقدموا الخمور حسب رغبة كل مدعو من غير قيود، وأقامت وشتي الملكة وليمة أخرى للنساء في قصر الملك أحشويروش) [إستير:1/ 1 ـ 9].. ثم يمضي السفر كما تمضي حكايات ألف ليلة وليلة لا يتحدث عن الله ولا يعرف به، فكيف تعتبر هذا كتابا مقدسا؟
قال آخر: أجل.. ويتعلل الذين يقبلون إدراج ذلك السفر في الكتاب المقدس، باعتباره يتحدث عن جزء من تاريخ بني إسرائيل.. مع أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم مر بظروف خطيرة جدا.. لكننا لا نرى لها أي أثر في كتابه.
قال آخر: لقد ولد له ولد واحد بعد النبوة، كان هو الولد الوحيد الذكر، ومات الولد.. وحصل أن كسفت الشمس يوم موته حتى ظن الناس أنها كسفت بسبب موت ابنه.. لكنه لم يستغل الحادثة، ولم ينزل فيها أي قرآن.. بل قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه عن الحادثة: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا تخسفان لموت أحد، فإذا كان ذلك
ربوبيون وربانيون (1/279)
فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم) (1)
قال آخر: ولهذا لا نرى في القرآن الكريم ذكرا لتلك المآسي العظيمة التي حصلت للمسلمين، وهم يؤذون في مكة.. لقد ضُرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الطائف، فلم تنزل آية واحدة في سب أهل الطائف ولا في لعنتهم.. ومر مع عشيرته بسنين حوصروا فيها وجوعوا.. فلم تنزل آية واحدة تخبر عن ذلك الموقف الشديد، لأن القرآن للبشرية جميعا، لا لفئة محدودة.. وهو لذلك يهتم بالتعريف بالله وبيان سبيل السلوك إليه، ولا يهتم بالتواريخ القومية التي تفوح من الكتاب المقدس.
قال آخر (2): ولهذا نجد من البراهين القرآنية على إثبات وجود الله وعظمته، ما لا نجده في أي كتاب مقدس آخر.. فليس في التوراة ولا في الإنجيل أكثر من إشارات عارضة إلى الملحدين الذين ينكرون وجود الله، لأن أنبياء التوراة كانوا يخاطبون أناسًا يؤمنون بإله إسرائيل ولا يشكون في وجوده، فلم يكن همهم أن يقنعوا أحدًا من المرتابين أو المنكرين، وإنما كان همهم تحذير القوم من غضبه وتخويفهم من عاقبة الإيمان بغيره، وتذكيرهم بوعده ووعيده كلما نسوا هذا أو ذاك، في هجرتهم بين الغرباء الذين يعبدون إلهًا غير (ياهواه) إله إسرائيل دون غيرهم من الشعوب.
قال آخر: لهذا لم يشغل أنبياء التوراة السابقون بإثبات وجود الله أو بإثبات وجود الأرباب على الإجمال، وإنما كان شغلهم الأكبر أن يتجنبوا غيرة (ياهواه) وغضبه، وأن يدفعوا عن الشعب نقمته وعقابه، ولم يكن له عقاب أشد وأقسى من عقابه لأبناء إسرائيل كلما انحرفوا إلى عبادة إله آخر، من آلهة مصر أو بابل أو كنعان.
__________
(1) البخاري (1058)، ومسلم (901)
(2) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: الله، العقاد، ص 207، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/280)
قال آخر: ولما ظهرت المسيحية لم يكن بينها وبين المذاهب الإسرائيلية خلاف على وجود الله ولا على أنبياء التوراة، وإنما كان الخلاف الأكبر على نفاق الرؤساء والكهان في مظاهر العبادة واستغلالهم الشعائر المقدسة في كسب المال وجلب السلطان، وتغليبهم مطامع الدنيا على فرائض الإيمان.. ولهذا لم يشعر الدعاة المسيحيون بالحاجة إلى تمحيص القول في الربوبية إلا بعد عموم الدعوة في بلاد اليونان والرومان وغيرهم من أمم الحضارة في ذلك الحين، أي بعد كتابة الأناجيل بعهدٍ غير قصير.
قال آخر: وبخلاف ذلك ـ ولكونه يخاطب البشر جميعا ـ نجد القرآن الكريم يخاطب أقوامًا ينكرون، وأقوامًا يشركون، وأقوامًا يدينون بالتوراة والإنجيل ويختلفون في مذاهب الربوبية والعبادة، وكانت دعوته للناس كافة من أبناء العصر الذي نزل فيه وأبناء سائر العصور، ومن أمة العرب وسائر الأمم، فلزم فيه تمحيص القول في الربوبية عند كل خطاب، وقامت دعوته كلها على تحكيم العقل في التفرقة بين عبادة وعبادة، وبين الإله (الأحد) وتلك الآلهة التي كانت تُعبد يومئذ بغير برهان.
قال آخر: فقد كان فيمن خاطبهم القرآن أناس ينكرون وجود الله ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24].. وكان فيهم من يدينون للأوثان ولا يقبلون عبادة غير العبادة الوثنية كما توارثوها عن الأجداد والآباء.. وكان فيهم من يشوبون الوحدانية بالوثنية ومن يختصمون على تأويل الكتب المنزَّلة كما اختصمت طوائف اليهود وطوائف المسيحيين.
قال آخر: ولهذا نراه يخاطب العقل ليقنع المخالفين بالحجة التي تقبلها العقول الإنسانية، فجاء بكل برهان من البراهين التي استعملها بعد ذلك المتكلمون وغيرهم.
قال آخر: وهو يذكر أن آيات الله مكشوفة لمن يريدها ويستقيم إلى مغزاها، ولكنها
ربوبيون وربانيون (1/281)
وحدها لا تُقنِع من لا يريد ولا يستقيم، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الحجر: 14 ـ 15].. فحتى العيان لا يكفي لإقناع من صرف عقله عن سبيل الإقناع؛ لأنه يتهم بصره وسمعه فيما رأى بعينيه وسمع بأذنيه، وكل شيء في الأرض والسماء كاف لمن جرد عقله من أسباب الإنكار والإصرار.. ولهذا يشترط القرآن الكريم التعقل والتأمل والتفكر والاستبصار لمن يريد أن يعبر من آيات الله إلى الله، كما قال
قال آخر: ولهذا يذكر الله تعالى الأمثلة الكثيرة عن آياته في الآفاق والأنفس، ويدعو إلى التفكر فيها، للتعرف من خلالها على خالقها ومبدعها، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22]، وقال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ [النبأ: 6 ـ 16]، وقال: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: 4]
قال آخر: وقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ [الروم: 20]، وقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]، وقال: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ [يونس: 31]، وقال: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا
ربوبيون وربانيون (1/282)
تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78]، وقال: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: 14]
قال آخر: وليست هذه جميع الآيات التي وردت في القرآن الكريم بإقامة البرهان على وجود الله وعظمته، لكنها أمثلة منها تجمع أنواعها، ونرى منها أنها قد أحاطت بأهم البراهين التي استدل بها الحكماء على وجوده، وهي براهين الخلق والإبداع وبراهين القصد والنظام، وبراهين الكمال والاستعلاء والمثل الأعلى.
قلنا: حدثتنا عن المشهد الأول.. فحدثنا عن الثاني.
قال الشيخ: في محل آخر من تلك المدينة المباركة، رأيت نفرا من الناس يتحدثون، قال أحدهم: لقد كان أكبر ما اجتذبني إلى رياض الإسلام، وانتشلني من أوحال الربوبية، ما رأيته فيه من تعظيم الله وتنزيهه عن مشابهة مخلوقاته.. وهو ما لم أجده في جميع الديانات التي اطلعت عليها.. فما عرف الله من شبهه.. وما عرف الله من قاسه على خلقه.. أو قاس خلقه عليه.. وما عرف الله من وضع الله في قوالب صورها له عقله أو صورها له هواه.. فالله أعظم من أن يحاط به.
قال آخر: ومثلك أنا، فقد رأيت القرآن الكريم يصف الله تعالى بكونه (قدوسا).. قال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: 23]، وقال: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الجمعة: 1]
قال آخر: أجل.. والقرآن الكريم ينزه الله تعالى عن الشريك.. فالله واحد، قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [التغابن: 13]، وقال: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ
ربوبيون وربانيون (1/283)
لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1 ـ 4]
قال آخر: وينزهه عن الشبيه.. فالله لا يشبهه شيء، قال تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4]، وقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]
قال آخر: وينزهه عن الموت والنوم، قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58]
قال آخر: وينزهه أن يكون له زوجة أو ولد، قال تعالى إخبارا عن مقالة الجن: ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا﴾ [الجن: 3]، وقال: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ [البقرة: 116]
قال آخر: وينزهه عن الظلم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 40]
قال آخر: وينزهه عن الكذب.. فقوله الصدق وخبره الحق، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء: 87]
قال آخر: وينزهه عن الضلال والنسيان، قال تعالى مخبرا عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 52]
قال آخر: وينزهه عن الفناء، فالقدوس باق، قال تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88]
قال آخر: وينزهه عن كل العوراض التي لا تتناسب مع جلال الألوهية.. كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ
ربوبيون وربانيون (1/284)
الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]
قال آخر: وينزهه عن الفقر والبخل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]
قال آخر: وينزهه عن التعب والنصب.. قال تعالى: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]
قال آخر: وينزهه عن الحاجة إلى الآلات والأدوات وتقدم المادة والمدة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40]
قال آخر: وينزهه عن انتهاء القدرة وحصول الفقر، قال تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران: 181]
قال آخر: وينزهه عن الحاجة قال تعالى: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: 14] ﴿وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ [المؤمنون: 88]
قال آخر: وينزهه عن أن يخلق الباطل، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [ص: 27]، وقال حكاية عن المؤمنين: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191]
قال آخر: وينزهه عن أن يخلق للعب، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الدخان: 38 ـ 39]
قال آخر: وينزهه أن يخلق للعبث؛ قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 115 ـ 116]
قال آخر: وينزهه عن أن يرضى بالكفر، قال تعالى: ﴿وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: 7]
ربوبيون وربانيون (1/285)
قال آخر: وينزهه عن أن يريد الظلم، قال تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ [غافر: 31]
قال آخر: وينزهه عن أن يحب الفساد، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205]
قال آخر: وينزهه عن أن يعاقب من غير سابقة جرم، قال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ﴾ [النساء: 147]
قال آخر: وينزهه عن أن ينتفع بطاعات المطيعين أو يتضرر بمعاصي المذنبين، قال تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: 7]
قال آخر: وينزهه عن أن يعترض أحد على أفعاله وأحكامه، قال تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]، وقال: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: 16]
قال آخر: وينزهه عن أن يخلف وعده ووعيده، قال تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: 29]
قلنا: حدثتنا عن المشهد الثاني.. فحدثنا عن الثالث.
قال الشيخ: في محل آخر من تلك المدينة المباركة، رأيت معلما يقف بين مجموعة من الشباب، وهو يسألهم، وهم يجيبونه، ومما حضرته من أسئلته قوله لهم (1): فما تقولون في الآيات التي وردت في القرآن الكريم تصف الله تعالى بالمكر، كقوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 54]، وقوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]؟
__________
(1) لخصنا هنا ما ذكرناه في كتاب: الباحثون عن الله، ص 251، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/286)
قال أحدهم: المكر في اللغة وفي عرف الناس يراد به أمران.. أحدهما، وهو مستحيل على الله تعالى بدلائل النصوص المقدسة الكثيرة التي تنزه الله تعالى عن الضعف والعجز هو (التبييت بشيء خفي يضر الخصم).. فالذي يمكر ويبيت شيئا خفيا بالنسبة لعدوه ضعيف لا يملك القدرة على المواجهة، فلذلك يلجأ إلى أن يبيت من ورائه.. ولو كانت عنده قدرة على المواجهة فلن يمكر؛ لذلك لا يمارس المكر إلا الضعيف، لأن الضعيف إن أصاب فرصة استغلها حيث يظن أنه قد لا تتاح له فرصة ثانية؛ لذلك يندفع إلى قتل خصمه. أما القوي فهو يثق في نفسه وقدراته، ولذلك يعطي خصمه فرصة ثانية وثالثة، ثم يعاقب خصمه على قدر ما أساء إليه.
قال آخر: وأما المعنى الثاني، وهو صرف الغير عما يقصد خيرا كان أم شرا.. فلا حرج في نسبة ذلك لله.. وهذا ما أرادته الآيات الكريمة.. فالله تعالى في قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 54] يخبرنا أن أعداء المسيح عليه السلام الذين وضعوا الخطط الشيطانية للوقوف بوجه الدعوة التي جاء بها قد صرفوا عن غايتهم، وأن الله ـ لكي يحفظ حياة نبيه ويصون الدعوة ـ مكر أيضا فأحبط كل ما مكروه.
قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]، فهذه الآية تصور تلك الجهود التي بذلها المشركون للصد عن دين الله، وهم غافلون على ما يدبر لهم مما لا يعلمونه، ولا يستطيعون أن يعلموه.
قال آخر: وقد ورد التعبير عن هذا المعنى بلفظ آخر هو (الاستدراج)، كما قال تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القلم: 44] ومعناه أن يعطي الله عبده كل ما يريده في الدنيا بناء على رغبة العبد في ذلك، ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده، فيزداد بذلك كل
ربوبيون وربانيون (1/287)
يوم بعداً من الله.
قال آخر: وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الاستدراج بالمكر، كما قال تعالى: ﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: 99]
قال آخر: وعبر عنه بالخداع، كما قال تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: 142]
قال آخر: وعبر عنه بالإملاء، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]
قال آخر: فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات.
قال المعلم: ألا ترون أنكم بحديثكم هذا، أردتم أن تزيلوا شبهة، فوقعتم في أخرى؛ فقد يقول لكم قائل: كيف يملي الله لهؤلاء، ويمكن لهم؟.. أليس في ذلك إعانة لهم على الشر والضلالة؟
قال أحدهم: إن ذلك يستدعي فهم سر الابتلاء والتكليف.. فالله تعالى شاء بحكمته أن يمتحن عباده ليميز الطيب منهم عن الخبيب، وأن يقيم الحجة عليهم بذلك.. وذلك يقتضي لا محالة إمهالهم وأعطاء الفرص المختلفة لهم.. فلا يمكن أن يتحقق الامتحان من غير هذا.
قال المعلم: فما تقولون لمن يعترض عليكم بأن من الكفار من يعيش مرغدا ويموت مترفا لا يصيبه جرائر ذنوبه ولا تهلكه كثرة معاصيه.. فهل لهذا المتمرد من الوجاهة ما جعله بمنأى من عدالة الجزاء الإلهي؟
قال أحدهم: إن الجواب عن هذا الاعتراض هو أن عدالة الله المطلقة، ورحمته التامة
ربوبيون وربانيون (1/288)
الشاملة، والتي سبقت غضبه تتيح لهذا المتمرد من الفرص، وتبلغه من الحجج ما يكفي لعودته، فإن استمر على بغيه أخذ أخذ عزيز مقتدر بمجرد تسليم روحه.
قال آخر: ولذلك علل الله تعالى عدم تعجيله العقوبة للمخطئين من عباده بمغفرته ورحمته، فقال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا﴾ [الكهف: 58]، وأخبر أن كل القرى التي نزل عليها العذاب لم ينزل عليها إلا بعد الإمهال الكافي لإقامة الحجة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [الرعد: 32]، وقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [الحج: 48]
قال آخر: وقد ضرب تعالى الأمثلة على ذلك بالأمم التي أصابها العذاب، ولم يصبها إلا بعد فترة طويلة من الإمهال وإقامة الحجة، قال تعالى مسلياً نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في تكذيب من خالفه من قومه: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ [الحج: 42 ـ 44]
قال آخر: فالإمهال إذن رحمة من الله، أو هو فرصة ممنوحة من الله للظالمين، قد يستغلونها بالرجوع إلى الله، وقد ينتكسون بأن يضاعف لهم العذاب، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102]) (1)
قال آخر: والأمر الثاني أن امتحان الخلق يقتضي ستر أكثر ما يتعرضون له من الجزاء، لأن تعجيل الجزاء قد يجعل الخلق جميعا في صف واحد، صف الخير أو صف الشر بحسب
__________
(1) البخاري، (4686) ومسلم (2583)
ربوبيون وربانيون (1/289)
الجزاء، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ [الزخرف: 33] أي لولا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال لجعلنا للذين كفروا ذلك الترف الموصوف في الآية.
قال آخر: ولهذا ورد في النصوص الكثيرة الإخبار بأن ما أعطي الكفار من النعيم لا يدل على مرضاة الله، بل قد يدل على سخطه، قال تعالى مصححا فهوم الكفار الخاطئة: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55 ـ 56]، وقال: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]
قال آخر: ولهذا ورد بعد هذه الآية الإخبار بأن هذا الابتلاء هو الذي يميز الخبيث من الطيب، ويميز بين الراغب في الله، والراغب في المتاع الأدنى، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 179]، ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن تعجيل الجزاء قد يؤثر في الابتلاء، ولذلك قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ [آل عمران: 179]
قال آخر: ولهذا يرد في القرآن الكريم الإخبار بأن الجزاء الحقيقي هو الجزاء المعد في الآخرة، قال تعالى مخبرا عن جزاء المؤمنين: ﴿وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 35]
قال آخر: وقد ورد هذا المعنى عقب ذكر زخارف الحياة الدنيا التي يتهافت عليها الغافلون.. وفي نفس الوقت ينهى تعالى المؤمنين من الإعجاب بما أوتي الكفار من النعيم، قال تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
ربوبيون وربانيون (1/290)
وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 55]، فما أمهل به هؤلاء الغافلون ليس دليلا على أي تفضيل لهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء أبدا) (1)
قال آخر: فهذا الإمهال ـ إذن ـ كما ينطوي على معاني الرحمة والعدل، وينطوي على معاني الانتقام ممن لم يعرف للنعمة حقها ولا للإمهال حقه، ينطوي كذلك على سر الامتحان الذي يقتضي ستر الجزاء حتى لا يكون الناس أمة واحدة في الخير أو في الشر.
قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن تنزه الله عن الظلم.
قال أحدهم: لقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الآيات الكريمة التي تخبر عن تقديس الله تعالى عن الظلم، كما قال تعالى: ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ﴾ [غافر: 31]، وقال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]
قال آخر (2): وقد ورد في القرآن الكريم ما يبين تنزه الله عن جميع صور الظّلم ومظاهره المختلفة؛ كإضاعة ثواب المحسن، أو نقصه، أو مساواته بالمسيء، أو مواخذة العبد قبل قيام الحجّة عليه، أو بما لم يعمله، أو بجرم غيره، أو بزيادة على ذنبه، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 143]، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ [طه: 112]؛ والهضم الانتقاص من الحسنات.
قال آخر: ومن مظاهر تنزيه الله عن الظلم تنزيهه عن تكليف عباده بما لا يطاق، وعن
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة 13/ 225.
(2) استفدنا المادة العلمية هنا من كتاب: دلالة الأسماء الحسنى على التنزيه، ص 144، فما بعدها.
ربوبيون وربانيون (1/291)
المعاجلة بعقوبة العصاة، كما قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقال: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [النحل: 61]، وهذا من كمال عدله، ومن كمال رفقه ولطفه أيضا؛ فإن الله لطيف، رفيق يحب الرفق؛ فلا يكلف عباده ما لا يطيقون، أو يأخذهم بالتكاليف الشاقة دفعة واحدة، أو يعاجلهم بالعقوبة قبل وجود شرطها، وانتفاء مانعها؛ ولهذا يمهلهم، ويستأني بهم، ولا يهلك على الله إلا هالك.
قال المعلم: فما سر تنزه الله عن الظلم؟
قال أحدهم: لأن الظالم لم يظلم إلا لكونه محفوفا بأنواع من النقص كثيرة.. فهو محفوف بالفقر.. والبخل.. والجهل.. والجور.. والضعف.. والله تعالى قد تنزه عن كل ذلك، فلله تعالى كمال الغنى.
قال آخر: ولذلك هو لا يحتاج لأحد من خلقه حتى يضيع حقه، أو ينقصه شيئا منه، قال تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 108]، ثم قال بعدها: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [آل عمران: 109]، وهو يشير بذلك إلى أنه منزه الظلم؛ لكمال غناه عن خلقه؛ إذ كل ما في السموات والأرض ملكه وفي قبضته.
قال آخر: وقال في آية أخرى مشيرا إلى هذا المعنى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147]؛ أي لا منفعة له في عذابكم إن شكرتكم وآمنتم؛ فإن ذلك لا يزيد في ملكه، كما إن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه.
قال آخر: ولله تعالى كمال الكرم؛ فهو الكريم، الجواد، الوهاب، المجيد، الشكور، فلا يضيع عنده سعي العاملين لوجهه، بل يضاعفه بكرمه وجوده أضعافا مضاعفة، قال تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147]؛ أي يشكر عباده على طاعته؛ فيتقبل العمل القليل،
ربوبيون وربانيون (1/292)
ويعطي عليه الثواب الجزيل، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما غير محدودة.
قال آخر: ولله تعالى كمال العلم؛ فاسم العليم، والخبير، والسميع، والبصير، والحفيظ، والحسيب، ونظائرها تدل على كمال إحاطته تعالى بأعمال العباد علما وكتابة؛ لمجازاتهم بالعدل؛ فكل عامل مرتهن بعمله؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، قال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49]، وقال: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 215]؛ أي مهما صار منكم من فعل معروف فإنّ الله يعلمه، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، فإنّه لا يظلم أحدًا مثقال ذرّة.
قال آخر: ولله تعالى كمال العدل؛ فالله هو العدل، المقسط، المؤمن (1) لكمال عدله.. وهو الفتاح؛ أي القاضي بالحق؛ فلا يجور أبدا، ولا يضيع مثقال ذرة من خير أو شر، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [غافر: 20].. انظروا إلى الإشارة التي تحملها فاصلة النص.. فاسم السميع والبصير يدل بالنص والفحوى على مناط تفرد الرب بالحكم بين عباده؛ وهو كماله ونقص ما يدعى من دونه؛ فالله هو الكامل في سمعه وبصره؛ ولهذا كان هو الحكم وحده قدرا وشرعا، وجزاء.
قال آخر: ولله تعالى جميع الكمالات التي يفتقر إليها الظالم.. فهو العلي، والكبير، والجميل، والحميد، ولهذا يضع الأشياء في مواضعها؛ ولا يتصور أن يقع منه ظلم أبدا، قال
__________
(1) وهو في أحد التّفسيرين بمعنى الَّذي أمن عذابه من لا يستحقّه.
ربوبيون وربانيون (1/293)
تعالى: ﴿فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ [غافر: 12]
قال آخر: وهو الواسع الذي يوسع على عباده في أحكامه الدينية؛ فلا يكلفهم ما لا يطيقون، ويوسع عليهم في أحكامه القدرية؛ فلا يعاجلهم بالعقوبة، ويوسع عليهم في أحكامه الجزائية؛ فلا يؤاخذهم بكل معصية، بل يتجاوز، ويعفو، ويغفر؛ لأنه العفو، والغفور، والغفار، ولا بد أن تتحقق متعلقات هذه الأسماء، وتظهر آثارها.. وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) (1)
قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن تنزه الله عن البخل.
قال: البخل ينافي كمال غنى الرب وكرمه؛ ولهذا حين قال بعض اليهود لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن ربك بخيل لا ينفق) أنزل الله تعالى قوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: 64] (2)
قال آخر: وأسماء الله الحسنى تبطل تلك الظنون التي ظنوها يهود برب العالمين؛ فإن من أسمائه تعالى الغني، والجواد، والوهاب، والكريم، والواجد، والمجيد، والواسع، وهي كلها تدل على كمال غنى الرب وجوده، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾ [النساء: 131]، أي أن له الغنى التام من كل الوجوه؛ لكماله، ومن سعة غناه أن خزائن السموات والأرض بيديه، وأن جوده على خلقه متواصل في جميع اللحظات.
قال آخر: وجود الله تعالى على خلقه نوعان.. أولهما: الجود المطلق عن أي قيد؛ ولا
__________
(1) الطبراني (12794)
(2) تفسير ابن كثير 2/ 75..
ربوبيون وربانيون (1/294)
يخلو عنه مخلوق من المخلوقات؛ فإن الله وسع غناه كل فقر، وعم جوده جميع الكائنات، قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53]
قال آخر: وثانيهما الجود المقيد بسؤال السائلين؛ فمن سأل الله بصدق، وطهارة مما يمنع القبول أعطاه سؤاله، وأناله مطلوبه، دون أن ينقص ذلك مما عنده شيئا؛ لكمال غناه، وسعة خزائنه.
قال آخر: وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله تعالى: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم، وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) (1)
قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن تنزه الله عن الكذب والخلف بالوعد.
قال: إخلاف الوعد والوعيد يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عنه، فقال: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ [الأحقاف: 17]، وقال: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ [إبراهيم: 47]
قال المعلم: فما سر تنزه الله عن الخلف؟
قال أحدهم: تنزه الله عن ذلك لما في الخلف من العبث المنافي لحكمة الإله الحق؛ فإن أصل الحق المطابقة والموافقة.. وبما أن أفعال الرب مطابقة للحكمة، وأقواله مطابقة لما عليه الشيء في نفسه؛ لهذا كله كانت أفعاله تعالى وأقواله كلها حقا، ووعده ووعيده كله حقا وصدقا، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء: 122]
__________
(1) مسلم (4/ 1994)
ربوبيون وربانيون (1/295)
قال آخر: فصدق الله يقتضي تحقق وعده ووعيده، وعدم الخلف فيهما؛ لأنه الإله الحق؛ فلا يكون كلامه إلا حقا؛ أي مطابقا لما عليه الشيء في نفسه؛ ولهذا سمى نفسه بالمؤمن؛ فإنه في يدل في بعض معانيه على المصدق؛ أي المصدق لرسله بما يظهره لهم من آياته، ومصدق المؤمنين ما وعدهم من الثواب، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب.
قال آخر: ويدل على استحالة إخلافه تعالى لوعده ووعيده، أو تبديله لكلماته كثير من أسماء الله الحسنى.
قال آخر: منها العليم، والخبير، والشهيد، والمهيمن، والرقيب، والسميع، والبصير.. فإن هذه الأسماء تدل على علم الله تعالى التام المحيط بما دق أو جل من أعمال العباد، قال تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: 31]
قال آخر: ومنها القدير، والعزيز، والقهار، والمقيت، والمتين؛ فإنها تدل على تفرد الرب بالقدرة التامة؛ فلا شيء يمنعه من إنفاذ وعده ووعيده في المحل الذي تقتضيه حكمته.
قال آخر: ومنها الرحيم، والرؤوف، والغني، والبر، والشكور؛ فإن هذه الأسماء ونظائرها تقتضي إيصال الثواب الموعود لأهله وعدم إخلافه.
قال آخر: ومنها الحكيم، والحكم، والعدل، والمقسط، والفتاح؛ فإن عدل الله وحكمته يتضمنان وضع الأشياء في مواضعها؛ فلا يعاقب من لا يستحق العقاب، ولا يخلف من يستحق الثواب.
قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن تنزه الله عن الإهمال.
قال أحدهم: إهمال الله لعباده يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عنه، فقال: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: 36]، وقال: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
ربوبيون وربانيون (1/296)
الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 115 ـ 116]؛ أي تنزه وتقدس عن هذا الظن السيء؛ لأنه عبث وسفه ينافي حكمته.
قال آخر: ومثله في الدلالة قوله تعالى في تينك الآيتين الكريمتين: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 116]، فإن كونه ربا للعرش فما دونه يدل على تنزيهه عن إهمال العباد، وتركهم سدى، بلا أمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب.
قال آخر: ذلك أن اسم (الرب) إما أن يدل على صفة معنى، ويفسر بمعنى: المالك، والسيد، وإما أن يدل على صفة فعل، ويفسر بمعنى: المربي.. فإن فسر بالمعنى الأول، فمن آثار الملك والسؤدد أن الرب يأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويتصرف في مماليكه بأنواع التصرفات.. وإن فسر بالمعنى الثاني فالمربي هو المصلح، والمدبر، والجابر، والقائم؛ وهذا يتضمن التربية العامة والخاصة.
قال المعلم: فما الفرق بينهما؟
قال أحدهم: تربية الله لخلقه نوعان: عامة، وخاصة.. أما العامة، فهي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.. وأما الخاصة، فتربيته لأوليائه؛ فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكملهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه.. فحقيقة الربوبية تتضمن التنزيه عن إهمال العباد مطلقا؛ أي في جميع شؤون معاشهم ومعادهم.
قال المعلم: فما الأسماء الحسنى التي ترون أن لها علاقة بتنزيه الله عن الإهمال.
قال أحدهم: كل أسماء الله الحسنى تدل على ذلك.. ومن الأمثلة على ذلك اسمه تعالى (الحسيب)؛ فإنه يفسر بالكافي؛ وهو بالمعنى العام الذي يكفي العباد جميع ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم، فيوصل إليهم المنافع، ويدفع عنهم المضار.. وبالمعنى الأخص هو
ربوبيون وربانيون (1/297)
الذي يكفي من توكل عليه كفاية خاصة يصلح بها دينه ودنياه.
قال آخر: ومن ذلك اسمه تعالى (اللطيف)، فهو يطلق على من اجتمع له الرفق في الفعل، والعلم بدقائق المصالح، وإيصالها إلى من قدرها له من خلقه.. وعلى المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون.. ويختص أولياء الله بلطف خاص يتضمن أعلى درجات الإحسان والإصلاح؛ وهو أن ييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى، وقد يكون ذلك بشيء من الابتلاءات والمحن.
قال آخر: ومن ذلك اسمه تعالى (الجبار)؛ وهو الذي يصلح أحوال عباده؛ فيجبر الكسير والمصاب، ويغني الفقير، ويعز الذليل، وييسر على المعسر، ويجبر قلوب الخاضعين لجلاله جبرا خاصا بما يفيض عليها من معارف الإيمان وأحواله.. وهذا المعنى مستقر في قلوب عامة المؤمنين؛ ولهذا يسأل كل واحد منهم ربه الجبر كل صلاة، وهو إنما يريد هذا الجبر الذي حقيقته إصلاح العبد، ودفع المكاره عنه.
قال آخر: ومن ذلك اسمه تعالى (الحفيظ)؛ فإنه يفسر بمعنى الحافظ لعباده مما يكرهون.. وحفظه لخلقه نوعان؛ عام وخاص؛ فالعام حفظه لجميع المخلوقات بهدايتها لمصالحها، كما قال تعالى: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50].. والحفظ الخاص حفظ أوليائه في مصالح دنياهم وفي دينهم؛ فيحفظهم حال حياتهم من الشبهات والشهوات، ويحفظ عليهم دينهم عند الوفاة، فيتوفاهم على الإيمان. وهذا الحفظ متفاوت بين المؤمنين بحسب ما عند كل واحد منهم من محافظة على أمر الله ونهيه.
قال آخر: ومن ذلك اسمه تعالى (الرزاق)؛ أي كثير الرزق؛ فهو الذي يوصل لجميع خلقه كل ما يحتاجونه في معاشهم وقيامهم، ويوصل لأوليائه رزقا خاصا يتضمن رزق القلوب بالإيمان، والأبدان بالمال الحلال.
ربوبيون وربانيون (1/298)
قال آخر: فهذه الأسماء الحسنى جميعا وغيرها تدل على عناية الملك الحق بعباده، وتربيتهم تربية عامة وخاصة، يستحيل معها إهمالهم لا في أمور معادهم، ولا في أمور معاشهم.. وهذه المعارف تثمر في القلوب الحية محبة الله، والتأله له خوفا وطمعا؛ وهي أعظم مقامات الإيمان، وأصوله الكبرى التي يقوم عليها بناؤه.
قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن تنزه الله عن العبث.
قال أحدهم: العبث يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عنه، فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحج: 6]، وقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج: 62]
قال آخر: انظروا كيف سمى الله تعالى نفسه حقا.. ولهذا، فإنه تعالى لا ينسب إليه إلا الحق؛ فقوله حق، وفعله حق، ودينه حق، ولقاؤه حق، ووعده ووعيده حق؛ فكل شيء منه تعالى مطابق للحكمة البالغة المنافية للسفه، والعبث، والخلف.
قال آخر: وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر هذا المعنى لتستقيم النفوس على معرفة ربها، ولا تظن به السوء.. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 27 ـ 28]
قال آخر: وذلك لأن هذا الظن ينافي أسماء الرب تعالى؛ فالحكيم الحق منزه عن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها؛ لأن أفعاله حق؛ أي مطابقة للحكمة، ومفعولاته حق؛ أي متحققة وكائنة بعلم الله وحكمته؛ ولهذا كانت مشتملة على الحكمة، وآيلة لها.
قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
ربوبيون وربانيون (1/299)
بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 73].. فالحق سابق لخلقها، ومقارن له، وغاية له.
قال آخر: ولهذا أتى بالباء الدالة على هذا المعنى دون اللام المفيدة للغاية ليس غير؛ والحق السابق للخلق صدورها عن علم الله وحكمته؛ ولهذا كانت كلها حقا، أي متقنة، مطابقة للحكمة، لا نقص فيها ولا خلل.
قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88]، وقوله: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: 7]، وقوله: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: 3]
قال آخر: فهذا الإحكام والإتقان هو الحق المقارن للمخلوقات؛ ولهذا كانت أدلة وبراهين على أصول الإيمان؛ لتقود الناس للحق الغائي؛ وهو معرفة الرب وعبادته، وإنجاز وعد الله لمن أطاعه، وإنفاذ وعيده فيمن عصاه.
قال المعلم: فما الأسماء المشيرة إلى هذه المعاني التي ذكرتها؟
قال أحدهم: كل أسماء الله تشير إلى ذلك.. كاسم الحميد، والرشيد، والجميل.. فهذه الأسماء الثلاثة تدل على كمال ذات الرب وصفاته؛ وأن له من الأفعال أجملها، وأرشدها، وأحمدها، وهذا يحيل أن يكون في شيء من أفعال الله ـ تعالى ـ عبث أو سفه.. وكاسم الحق والحكيم ففيهما دلالة واضحة على نفي العبث في الخلق، واستحالته.
قال المعلم: أحسنتم.. فحدثونا عن تنزه الله عن الإضرار بخلقه.. وكيف ينسجم ذلك مع اسم الله (الضار)؟
قال أحدهم: الإضرار بالخلق يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله.. وأما الاسم الذي ذكرت فهو [الضار النافع].. لا الضار وحده.. ذلك أنه اسم مقترن بالنافع لا يجوز
ربوبيون وربانيون (1/300)
فصله عنه.. وقد ذكر العلماء أن الأسماء المقترنة أو المزدوجة لا يجوز أن تطلق على الرب مفردة؛ لأنها تجري مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض؛ فالمانع يجب أن يقرن بالمعطي، وهكذا الضار بالنافع، والمذل بالمعز، والمحيي بالمميت.
قال آخر: وذلك لأن هذه الأسماء لا تدل على الحسن والعلو المطلق إلا إذا قرن كل اسم بمقابله؛ وحينئذ تفيد الثناء على الرب بمعاني الربوبية، وكمال التصرف في الخلق؛ عطاء ومنعا، ونفعا وضرا، وإحياء وإماتة.
قال آخر: من أسماء الله تعالى ما يسمى به مطلقا من غير قيد، وهي الأسماء المشتقة الدالة على معاني الجلال والكمال والجمال والكمال مثل الرزاق والخالق والبارئ والمصور، وغيرها.. فهذه كلها أسماء تطلق على الله تعالى من غير قيد أو شرط.
قال آخر: أما النوع الثاني من الأسماء، فمايطلق على الله تعالى مقيدا، ومن القيود ما يسميه العلماء قيد المقابلة والجزاء، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]، فمكر الله تعالى بهم لما مكروا.. فلا يجوز أن يؤخذ منها أسماء مطلقة، فنقول: إن من أسماء الله تعالى الماكر أو المكَّار.. هذا ليس من أسماء الله تعالى ولا يجوز أن نسمي الله تعالى بشيء من ذلك.
قال آخر: ومثل ذلك الأسماء التي قد يتوهم فيها أو منها العجز أو النقص أو العيب فالله تعالى منزه عنها.. مثل قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأنفال: 71]، فلم يقل الله تعالى: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فخانهم الله)
قال آخر: لم يقل هذا، لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، والخيانة من صفات المنافقين والله تعالى يتنزه أن يصف نفسه بصفة من صفات المنافقين، ولا يسمي نفسه أبدا
ربوبيون وربانيون (1/301)
باسم من أسماء المنافقين.
قال المعلم: فما تقولون في اسم (المنتقم).. فنحن نجده في تعداد أسماء الله الحسنى؟
قال أحدهم: لا.. لم يصح اعتبار هذا اسما.. أما الرواية التي ورد فيها ذكر أسماء الله الحسنى، وفيها اسم المنتقم، فهي من إدراج بعض الرواة، وليست من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال الصنعاني في ذلك: (اتّفق الحفّاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة) (1)
قال آخر: أما قوله تعالى: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ [الروم: 47]، وقوله: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الزخرف: 55]، فالانتقام هنا بمعنى العقاب.. وقد قيده الله بهؤلاء المجرمين.. فلا يصح اعتباره اسما لأجل هذا.
قال المعلم: فما تقولون لمن يزعم أن الله تعالى خلق الشر؟
قال أحدهم: المؤمن يتأدب مع الله تعالى، فلا ينسب إليه الشر بحال من الأحوال.. فليس من الله إلا الخير، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لبيك وسعديك، والخير فى يديك، والشر ليس إليك) (2)، فهذا النفى يقتضى امتناع إضافة الشر إليه تعالى.. فلا يضاف إلى ذاته ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته تعالى منزهة عن كل شر، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك أبدا، وهو المحمود على ذلك كله فيستحيل إضافة الشر إليه (3).
قال آخر: ولهذا ينزه الله تعالى في الأسلوب القرآني من نسبة الشر إليه، فالطريقة
__________
(1) سبل السّلام 4/ 166..
(2) أحمد (5/ 191)
(3) انظر: طريق الهجرتين:166.
ربوبيون وربانيون (1/302)
المعهودة في القرآن الكريم هي نسبة أفعال الإحسان والرحمة والجود إلى الله تعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه، ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم:
قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]، فإنه تعالى ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضب حذف الفاعل، وبنى الفعل للمفعول، فقال: ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: 7]﴾، وقال في الإحسان: ﴿الَّذ