الكتاب: النبي الهادي
المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الثانية، 1437 هـ
عدد الصفحات: 519
ISBN: 978-620-2-34486-9
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
تحاول هذه الرواية ـ بقدر الطاقة ـ أن تصور بعض وظائف الهداية التي مارسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره رسول الله وواسطة الهداية بين الله وبين عباده.
وخلاصة أحداثها هي أن الراوي ـ وهو رجل دين مسيحي ـ يذهب إلى بعض الأدغال الإفريقية للتبشير.. وفجأة تتعطل سيارته في بعض الغابات الموحشة.. وهناك يجد شخصا يسمى محمد الهادي.. يدعوه إلى السير معه لهدايته للطريق، ويشرط عليه في كل مرحلة من المراحل أن يستمع لقصة من قصصه..
وفي الطريق يقص عليه هذه القصص العشرة التي ذكرناها في الرواية..
وفي الأخير يصل إلى محل النجاة.. وهناك تحدث أحداث أخرى.. ندعها للقارئ ليتعرف عليها.
النبي الهادي (9)
تحاول هذه الرواية ـ بقدر الطاقة ـ أن تصور بعض وظائف الهداية التي مارسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره رسول الله وواسطة الهداية بين الله وبين عباده.
وهدفنا الأول من ورائها هو تبيان السنن الحقيقية المرتبطة بهذه الناحية العظيمة، والتي نالها من التشويه ما نال غيرها، حيث أصبحت الدعوة إلى الله حجابا من الحجب التي تحول بين البشر والتعرف على دين الله الحقيقي.. وأصبح الداعية ذلك الذي يحمل سلاح التكفير والتبديع.. ويحمل معه جميع أسلحة العنف، ليرمي الخلق جميعا في سجون الحقد والكراهية التي تعمر قلبه.
وهدفنا منها كذلك التعريف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والورثة الذي تمثلوا هذا الجانب فيه.
وهدفنا منها قبل ذلك وبعده ـ كما هو هدف هذه السلسلة ـ البرهنة على أن هذا الرجل العظيم الذي اكتنزت حياته بكل كنوز الكمال، وكان مع ذلك هاديا مهديا، يستحيل أن يكون كاذبا أو مخادعا أو مضللا، بل يجب أن يكون واسطة الهداية الربانية الأعظم، وعنوان عنايته الأكبر.
وبما أنه يستحيل على أي كان أن يصور هذه الناحية العظيمة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد استعرنا لذلك مثلما فعلنا في الرواية السابقة مجموعة من الورثة، كل وارث تمثل جانبا من جوانب الهداية في شخصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وراح يبشر بها، ويستعملها في هداية خلق الله.
وهذه النواحي هي:
الحكيم: فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في غاية الحكمة في دعوته.. فقد كان يراعي المخاطبين في طباعهم وقدراتهم وتوجهاتهم وحاجاتهم وأعرافهم.. وكان ينزل الناس منازلهم في
النبي الهادي (10)
الخطاب.. وكان يستعمل كل الوسائل والأساليب، ويضعها في محالها الصحيحة.
الواعظ: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعظا مؤثرا، وقد أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا، ولو أن أي داعية اكتفى بمواعظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوجيهاته في دعوة الخلق لكفته.
المحاور: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يحاور بعلم وعقلانية من يدعوهم، وقد وضع لنا منهجا متكاملا للحوار الهادف الناجح.
المعلم: فقد وضع لنا صلى الله عليه وآله وسلم منهجا كاملا في التربية والتعليم، يمكنه أن ينهض بالمدرسة، ويحولها إلى محل لصياغة الإنسان الصالح الذي لا يكتفي بالمعرفة وحدها، بل يضم إليها جميع الآداب الإنسانية الرفيعة.
القدوة: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم قدوة في كل شيء.. ويمكن أن يستفيد منه كل أحد.
المربي: فقد وضع لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهجا متكاملا في الترقي الأخلاقي والعرفاني، يمكن لمن سلكه أن يرقى في معارج العرفان، ويتحقق بما تحقق به أولياء الله من الورثة.
الخطيب: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا مفوها، ويمكن لمن درس خطبه أن يستفيد منها كل ما يرقى بالخطابة لتؤدي دورها الإصلاحي والتوعوي.
المفتي: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيب من سأله، ويعلمه أحكام دينه، وقد ترك للمفتين منهجا لذلك يمكنهم توظيفه لهداية خلق الله إلى شريعة الله.
المحتسب: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، وعلمنا من الآداب والأخلاق ما يمكن أن ينهض بهذه الوظيفة الخطيرة من وظائف الدين لتؤدي دورها في الإصلاح في جميع مجالاته.
الشاهد: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاهدا على أمته جميعا.. وورث ورثته هذه المسؤولية الخطيرة، وهي تعني القيام بكل ما من شأنه أن يعرض الدين عرضا صحيحا متناسبا مع
النبي الهادي (11)
القيم الجميلة التي جاء بها، حتى يدخل الخلق في دين الله أفواجا، وحتى يظهر الإسلام على الدين كله.
هذه هي النواحي العشرة التي حاولنا في هذه الرواية أن نشرحها، ونبسطها قدر الإمكان، وقد استعملنا لذلك بعض الأحداث المشوقة الرمزية التي تجمع للقارئ بين المعلومة والفكرة والمتعة..
وخلاصة أحداثها هي أن الراوي ـ وهو رجل دين مسيحي ـ يذهب إلى بعض الأدغال الإفريقية للتبشير.. وفجأة تتعطل سيارته في بعض الغابات الموحشة.. وهناك يجد شخصا يسمى محمد الهادي.. يدعوه إلى السير معه لهدايته للطريق، ويشرط عليه في كل مرحلة من المراحل أن يستمع لقصة من قصصه..
وفي الطريق يقص عليه هذه القصص العشرة التي ذكرناها في الرواية..
وفي الأخير يصل إلى محل النجاة.. وهناك تحدث أحداث أخرى.. ندعها للقارئ ليتعرف عليها.
وننبه هنا ـ كما نبهنا سابقا ـ إلى أن ما نذكره من شخصيات وأماكن وأحداث وغيرها، لا علاقة لها بالواقع إلا علاقة الرمزية التي تقتضيها الأعمال الفنية.. وما كان من ذلك منطبقا مع الواقع أشرنا إليه في الهامش.
النبي الهادي (12)
في ذلك الصباح، نهضت فرحا مسرورا بعد أن سمعت تلك الأحاديث الجميلة عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ومن يمثله من الورثة الذين لم يرتضوا لذواتهم قالبا غير القالب الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم..
ولكن الألم عاد يعتصرني من جديد..
لقد قلت لنفسي: كم يمكن أن يكون في هذه الرقعة الكبيرة المباركة التي يستوطنها المسلمون من أولئك النماذج الراقية من ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟.. كم يمكن أن يكون هناك من جعفر وباقر وزين العابدين وأويس وبشر والنورسي والبغدادي والصالحي والسيد سليمان (1)؟.. كم يمكن أن يكون من أعداد هؤلاء، أو من يقاربهم، ولو بأن يكتفي بالسير على خطاهم؟
وبعد أن قلبت بصري وبصيرتي في الواقع وجدت أن أعداد أمثال هؤلاء لا تكاد تذكر.. فهم كالإكسير الأحمر قل من يظفر بهم.. وقل من يمكن أن يستفيد منهم.. وهم في حال وجودهم قد يغرقون في وديان النسيان، أو قد يتيهون في صحارى الإهمال واللامبالاة.. وبالتالي يصبح وجودهم في الناس كعدمهم.
ثم عدت ببصري وبصيرتي إلى ورثة الشياطين.. فوجدتهم يملأون الأرض سهلها وجبلها، وبرها وبحرها.. صياحا ونعيقا ولغوا:
وجدتهم يدخلون كل بيت عبر شاشات التلفزيون، والمذياع، والأشرطة المسموعة والمرئية، وعبر وسائل الإعلام الكثيرة التي تفنن أهل عصرنا في اختراعها، كما تفننوا في استغلالها.
ووجدتهم يستعملون كل الحيل، ويلتمسون كل السبل ليصلوا إلى قلوب الذين يستهلكون تلك الوسائل وعقولهم.. بل حتى أجسادهم.. فكم رأيت من شباب يضع السماعات على أذنه ليرقص معها بالحركات التي توحيها له الموسيقى التي أبدع ورثة الشياطين في التلاعب
__________
(1) هؤلاء هم أبطال الرواية السابقة [النبي الإنسان]، والذين يمثلون دور ورثة النبي (.
النبي الهادي (13)
بها؟
ووجدتهم لا يكتفون بكل ذلك مما يخص العامة البسطاء.. بل رأيتهم ببصري وبصيرتي يدخلون الجامعات ومراكز العلم والثقافة ليملأوها بما شاءت لهم أهواؤهم من أطروحات تلبس لباس العلم، لتجعله ذريعة لجهل مركب يستحيل محوه، ولو صبت عليه جميع بحار الدنيا.
ووجدتهم فوق ذلك كله يصرفون أموالا ضخمة.. لا مكاسب واضحة لها.. ولكن مكاسبها الخفية أعظم من كل المكاسب.. إن مكاسبها هي استعباد الإنسان نفسه، ليصبح لعبة بين يدي تلك الوسائل تملي عليه ما تشاء، فلا يجد نفسه إلا مسوقا للتحرك حسب رغبتها.
بعد أن امتلأت ألما بكل هذا.. رحت أبحث في واقعنا.. نحن المسلمين.. نحن الذين كلفوا بأن يحملوا رسالة أعظم الأنبياء ليبلغوها إلى الأرض، فيطهروها بذلك البلاغ من ورثة الشياطين، ومن رجس أذنابهم وذيولهم.. فازددت ألما على ألم، وحزنا على حزن:
لقد رأيت الخطيب الذي يصعد المنبر وحوله الألوف المؤلفة.. فلا يلتفت لهم، ولا يحاول أن يسمعهم رسالة ربهم، وهدي نبيهم، بل ينشغل بورقته يقرأ حروفها حرفا حرفا.. وأحيانا تتوقف به الحروف، فيقرأ ما لا يفهم، ويسمعهم ما لا يفهمون.. وتنصرف بعدها الألوف المؤلفة، وكأنها كانت تمثل تمثيلية ساخرة، ولم تكن تسمع كلام ربها أو هدي نبيها.
ورأيت الواعظ الذي ينشغل بالسجع والجناس والطباق والحروف التي لا نقط لها والجمل التي تقرأ من الجهتين عن التسلل إلى القلوب لمحو الران الذي يغشاها، والسموم التي تقتلها، والظلام الذي يسكنها.
ورأيت المفتي الذي يوزع الفتاوى بحسب هواه، يفتي في كل شيء، ولا يتورع عن شيء، ولا يجعل فتاواه سلما يعرج به العباد إلى ربهم، بل يجعل منها سما يشوه به الدين وحقائق الدين، ويجعل منها مهواة تنحدر بالمؤمنين إلى الهاوية التي تسكنها الأهواء.
ورأيت المعلم الذي يتعامل مع تلاميذه كما يتعامل السيد مع عبيده..
النبي الهادي (14)
ورأيت غير هؤلاء ممن يستلمون المناصب العالية.. ولكنهم بسلوكهم ينزلون بها إلى الحضيض الأسفل.
-\--\-
كانت أول مرة أسمع الغريب ينادني بذلك الإلحاح (1)، وأنا في غرفتي، فأسرعت أهرول إليه، وقلت: اعذرني حضرة الولي الصالح.. لقد شغلتني نفسي كما تعودت أن تشغلني.
قال: ألست مشتاقا إلى النبي الهادي؟
قلت: وكيف لا أشتاق.. ونحن ـ كما ترى ـ في واقع لا يتقن شيئا كما يتقن أساليب الإضلال والتمويه والتلاعب بالحقائق.
قال: فلن يصلح هذا الواقع إلا النبي الهادي.. والهدي الذي خلفه النبي الهادي.. وورثة النبي الهادي.
قلت: وأين هم؟.. نحن لا نرى إلا الأشباح التي لا تستطيع أن تصل إلى الأرواح، بل لا تفكر في الوصول إليها.. بل تعتبر الحديث معها وعنها لغوا وثرثرة.
قال: يستحيل على ركن خطير من أركان النبوة كهذا الركن أن يعدم من الأمة.. إن الله الرحمن الرحيم النور الهادي أرحم بعباده من أن يتركهم فرائس للشياطين وورثة الشياطين.
قلت: فهل التقيت ببعضهم؟.. حدثني عن ذلك.. فما أجمل أحاديث الورثة؟
قال: نعم.. لقد شرفني الله، فالتقيت ببعضهم.. وسيكون حديثنا عنه اليوم، كما كان حديثنا في الرحلة السابقة عن الوارث.
-\--\-
__________
(1) أشير بهذا إلى أن الداعية الوارث هو الذي يبدأ بدعوة الناس إلى الله، لا الذي يتنظر حتى يأتيه الناس، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (المائدة:67)
النبي الهادي (15)
اعتدل الغريب في جلسته وحمد الله وصلى وسلم على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مستغرقا في كل ذلك، ثم قال: بعد أن رأيت ما رأيت، وسمعت ما سمعت من حديث الوارث مما كنت قد ذكرته لك في رحلتي السابقة.. وبعد أن آنس مني قومي من الصدق والإخلاص والثبات ما أنسوا.. ترقيت في السلم الذي كنت أحلم به إلى درجات عالية لم أكن أتصورها، ولا أطمح لها.
وقد تثاقلت ـ بسبب تلك الكراسي الرفيعة، وما توفره من رغد عيش ـ إلى الدنيا مدة من الزمن إلى أن جاء ذلك اليوم العظيم الذي التقيت فيه الهادي الذي هداني الله به إلى النبي الهادي..
في ذلك اليوم كنت في أواسط إفريقيا في جولة هي أقرب إلى الجولة السياحية منها إلى الجولة التبشيرية.. كنت حينها أسير بسيارتي الفخمة ذات العجلات القوية مخترقا غاباتها العذراء، غير مبال بأي خطر قد ألقاه في طريقي، لأن ما زودت به السيارة من وسائل الأمان يكفي لحمايتها وصد أي خطر عنها أو عني.
ولكن الله شاء في ذلك اليوم أن أتعرض لخطر ربما لم أتعرض لمثله في حياتي..
لقد اصطدمت سيارتي بشيء لا أزال إلى الآن أجهله.. ربما يكون شيئا من الغيب، وربما يكون من الشهادة.. المهم أني إلى الآن لم أعرف ما هو.. لم أعرف إلا أنه أصاب سيارتي بما جعلها لا تطيق السير خطوة واحدة.. وقد أصابني ذلك بهلع شديد، فقد كنت في أدغال الغابات، وليس بين يدي إلا الحيوانات المفترسة.. والتقدم في تلك الغابة خطوة واحدة ليس له إلا معنى واحد هو الموت المؤكد.. فلم يخرج من تلك الغابات أحد من الناس سالما.
في ذلك المحل الذي كان برزخا بين الموت والحياة، وبين الدنيا والآخرة.. وصرت أشعر بجسدي فيه كعارية جاء مالكها ليستلمها.. في ذلك المحل ارتفع عني ذلك التثاقل إلى الأرض، وشعرت من جديد بتلك الأشواق إلى تلك الشمس التي دعتني العذراء للبحث عنها.
وبمجرد أن دب ذلك الشعور إلى نفسي رأيت صاحبك (معلم السلام)، وهو يسير نحوي كما يسير البرء إلى المريض، وكما تسير العافية إلى المبتلى.. وما إن لمحته حتى أسرعت مهرولا
النبي الهادي (16)
إليه، وقد رأيت فيه الحياة التي يئست منها، والعافية التي غادرتني، وكنت أتصور أنها لا ترجع.
استقبلني بابتسامته التي عهدتها منه، وقال: عجبا.. ما الذي جاء بك إلى هنا؟
قلت: سيارتي.. هذه السيارة التي ترى هي التي جاءت بي إلى هنا.
ابتسم، وقال: أأعطيتها عقلك وإرادتك لتقودك إلى هنا؟
قلت: لا.. عقلي لا يزال لدي.. وإرادتي كذلك.. وأنا لم آت إلا وفق ما أملاه علي عقلي، وما طلبته مني إرادتي.
قال: فعقلك وإرادتك هما اللذان جاءا بك إلى هنا.. لا هذه السيارة المسكينة المسخرة التي لا يمكنها إلا أن تطيع إرادتك، وتستجيب لعقلك.
قلت: ذلك صحيح..
ثم عقبت قائلا: وأنت.. ما الذي جاء بك إلى هنا، فأنا لا أرى معك سيارة ولا طائرة؟
قال: الذي خلق السيارة والطائرة يستطيع أن ينقلك بهما، ويستطيع أن ينقلك بغيرهما.
قلت: إن هذه الغابة خطيرة جدا، ولم يخرج منها أحد يسير على قدميه سالما، فكيف ظهر لك أن تسير فيها؟
قال: لي في الغابة حاجة، فأنا أبحث عنها..
ابتسمت وقلت: ليس في الغابة إلا الأسود المفترسة.. والغزلان المفتَرَسة.. لا يأتي مثل هذه الغابة إلا من يريد أن يَفترس، أو يريد أن يُفترس.
قال: هناك من يريد أن يفترس اللحوم، وهناك من يريد أن يفترس الحقائق.
قلت: الحقائق لا تفترس في الغابات؟
قال: لو لم تكن هناك حقائق تزين الغابات ما خلقها ربك.. فلكل خلق حقيقته التي إليها يرجع.. وسره الذي إليه يؤول.
قلت: ومن يعرفك بالأسرار في مثل هذه المجاهيل؟
النبي الهادي (17)
قال: الذي هدى النحل إلى صناعة العسل، وهدى الطير في أجواء السماء، وهدى النجوم في مساراتها.. لن يعجز أن يرسل لي من الهداة من يدلني على الحقائق، ومن يكشف لي عن الأسرار.
قلت: ألا تخاف أن تقع في يد من يضللك؟
قال: للهداة نور لا تطفئه الظلمات.. وللمضللين ظلمات لا يمكن لجميع أشعة الدنيا أن تنيرها.
قلت: فأين الهداة؟.. نحن في غابة ليس فيها إلا التضليل والتمويه.
قال: بل نحن في غابة ليس فيها إلا الهداية والدلالة.. ألا ترى أن أبسط طائر يمكنه أن يخرج من هذه الغابة من غير عناء؟
قلت: ذلك أنه يطير.. وهو يرى في السماء ما لا نراه نحن المتثاقلون إلى الأرض.
قال: فلنطر كما يطير، لنبصر ما يبصر، فلا ينتظر المتثاقل إلا الافتراس.. فهو إن لم تفترسه السباع افترسته نفسه التي زينت له أن يقع في أيدي السباع.
ما قال ذلك حتى رأى طيرا جميلا يترنم بألحان عذبة.. فأسرع إليه.. قلت: ما بالك.. أين تذهب وتتركني؟
قال: إن لهذا الطائر هو الذي جئت أبحث عنه.. إنه السيمرغ (1) الذي تحدث عنه الأولياء.. ألا تعرفه؟
قلت: أنا لا أعرف في هذه المفازة إلا البحث عن النجاة..
قال: لقد ذكرتها لك.. لا تتثاقل إلى الأرض.. اركب سيارتك، ولا تدعها تركبك.. قدها، ولا تدعها تقودك..
__________
(1) أشير به إلى (منطق الطير) لفريد الدين العطار، وأشير بالسيمرغ إلى الطيور التي كانت تبحث عن الملك، وتطير شوقا إليه، وكل ذلك من باب الكناية على أن طريق الهداية لا حدود له.
النبي الهادي (18)
قال ذلك، ثم انصرف مسرعا نحو ذلك الطائر العجيب الذي كان يرسل من الألحان ما يملأ القلوب بطرب لا يستطيع أي لسان في الدنيا تصويره ولا تفسيره.
بعد أن غاب عني عاد اليأس يدب إلى نفسي من جديد.. فامتطيت السيارة، ورحت أنتظر قدر الله..
أخذتني سنة من النوم.. لم أفطن بعدها إلا برجل هو أشبه الناس بالحكيم، وبمحمد الوارث.. فصحت: ها قد أرسلك الله إلي ـ يا محمد ـ لتنقذني؟
قال: أبشر.. فأنا ليس لي من دور في هذه الغابة إلا الإنقاذ.. كل من أطاعني أنقذته من الموت المحقق..
قلت: ومن هو الأحمق الذي يرفض أن تنقذه؟
قال: كثيرون هم.. وإن شئت أريتك من جثثهم ما يملؤك رعبا.
قلت: هؤلاء مجانين لا حمقى.
قال: ولكنهم يدعون أنهم أعقل الناس وأعلم الناس وأغنى الناس.. كلما جئت إليهم محذرا من السباع المتربصة والثعابين المتلهفة كلما أداروا رؤوسهم وصعروا خدودهم.. وقالوا: اذهب، فلسنا في حاجة إليك.
قلت: أما أنا فبحاجة إليك.. سر بي حيث شئت، واقطع بي أي واد، واصعد بي أي جبل.. فلن تجد مني إلا الطاعة والتسليم.
قال: أنت تعلم أن الطريق صعبة شاقة.
قلت: وأعلم ـ كذلك ـ أن الموت في هذه الغابة بين أنياب السباع أصعب وأشق.
قال: إن السير في هذه الغابة يحتاج إلى قوة وبصيرة وصبر.. فهل تملكها؟
قلت: إن لم أملكها في جميع حياتي، فسأملكها اليوم.
قال: أنت تعلم أن في كل خطوة في هذه الطريق شرك أو أحبولة أو حفرة يمكن أن تقع
النبي الهادي (19)
فيها.
قلت: أعلم ذلك.. ولولا ذلك لكنت قطعت الطريق بنفسي، وما احتجت إليك لتدلني.
قال: فما دمت قد تحققت بالإرادة، وتحليت بالهمة.. فما عليك إلا أن تتبعني.. فما أيسر السير على صاحب الإرادة، المتحلي بالهمة.
قلت: لقد سرت بالسيارة مسافة طويلة.. فكم يا ترى يمكن لأرجلنا الضعيفة أن تقطع تلك المسافة؟
قال: لا يهم الزمن في هذه المحال.. المهم هو أن نسير في الطريق الصحيح.. لأن خطأ واحدا سيضعنا في أفواه السباع.
قلت: وسيارتي!؟
قال: أراك تردد ما ردد أكثر من أريد أن أنقذهم.
قلت: أكانت لديهم سيارات؟
قال: لو لم تكن لديهم سيارات لنجوا.. لقد أهلكتهم سياراتهم.
قلت: كيف أهلكتهم مع أنها لم تصمم إلا للإنقاذ؟
قال: لقد تعلقوا بها، فلم يستطيعوا أن يسيروا ويتركوها.. فهلكوا وهلكت سياراتهم معهم.. وإن شئت أريتك من هياكلها ما يملؤها زهدا في سيارتك، ورغبة عن التعلق بها.
قلت: فأرني ذلك.. لعل همتي تترفع عن هذه السيارة التي التصقت بروحي.
لم يسر بي إلا قليلا حتى رأينا سيارة اخترقتها بعض القوارض، وحولتها مأوى لها..
قلت: أين صاحب هذه السيارة؟
قال: انظر إلى أسفلها.
نظرت فإذا هيكل عظمي ملأني بالرعب، فقال: هذا هو صاحبها.. لقد استعملت كل الأساليب لأنقذه، فلم يستجب.. وأبى.. بل تصورني لصا يريد أن يسرق سيارته.. فلما أكثرت
النبي الهادي (20)
من الإلحاح أخرج بندقية من سيارة وصوبها في وجهي، وقال: (إن لم تغادر أيها البدائي هذا المحل، فسأقتلك بسلاحي هذا)
قلت: فأنت الآن تشفي غيظك بالنظر إلى جثته.
قال: لقد حزنت عليه حزنا شديدا.. وعندما طردني بكيت..
قاطعته قائلا: عليه.. أم على نفسك؟
قال: بل عليه.. فأنا أعلم أن المصير الذي كان ينتظره هو هذا المصير.. لقد حاولت أن أستشفع له بدموعي لكنه ضحك ضحكة عالية، وقال: لا مكان هنا للعواطف.. هنا القوة.. القوة وحدها هي التي تحميك.
قلت: فأين ذهبت قوته؟
قال: كان المسكين يكذب على نفسه.. فليس هناك إلا قوة واحدة في هذا الوجود.. وكل ما عداها ضعف.. وليس هناك إلا حصن واحد.. وما عداه مفازة.
قلت: من أنت؟.. وما الذي جعلك تمارس هذه الوظيفة؟.. وما هي الأجور التي تتقاضاها؟
قال: أما أنا فرجل من أرض الله اسمه (محمد الهادي).. وأما وظيفتي فهداية من انقطعت به السبل، واحتارت به الطرق.. وأما الأجر الذي أناله فهو نجاة من نجا، وهداية من اهتدي.. يكفيني أن أرى من أنقذته يسير بعافية في وسط أهله وماله وولده.
قلت: إن أمرك عجيب.. لا بد أن لك قصة غريبة.. فحدثني حديثها.
قال: لك ذلك.. فلا تقطع مثل هذه الطريق الطويلة إلا بالأحاديث.
قلت: من أين تبدأ قصتك؟
قال: من الضلال تبدأ قصتي..
قلت: عجبا.. أقصة الهادي تبدأ من الضلال؟
النبي الهادي (21)
قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} (الضحى:7)
قلت: بلى.. هذه الآية قرأتها كثيرا في قرآن المسلمين.
قال: بل في قرآن رب العالمين الذي هو خطابه للناس أجمعين..
قلت: فكيف بدأ الضلال يتسرب لتحل محله الهداية؟
قال: لقد هداني الله إلى رجل من أهله من الصالحين من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان اسمه محمد الوارث..
قاطعته قائلا: أعرفه.. لقد زرته قبل سنوات.. وسمعت رحلته إلى محمد.
قال: لقد صحبته مدة من الزمن.. وقد امتلأت بالمعاني العظيمة التي كان ـ بسلوكه ـ يدعو إليها.
قلت: فما الذي جعلك ترغب عن صحبته.. وتسير إلى هذه البلاد، حيث لا تسمع إلا عواء الذئاب، وزئير الأسود؟
قال: لقد ذكرت ما كنت فيه من الضلال، فامتلأت هما وغما..
قلت: أخفت ألا يتوب الله عليك؟
قال: لا.. لقد أيقنت بأن الله قد تاب علي.. فيستحيل على الغفور الرحيم أن يستغفره عبده، ثم لا يغفر له.
قلت: فما الذي دعاك إلى الحزن إذن؟
قال: لقد حزنت على البشر التائه في صحراء نفسه، الغارق في أوحال شهواته، المصلوب على خشبة أهوائه.
قلت: وما تملك أن تفعل أنت له؟
قال: لقد قلت لنفسي: إن الرحمن الرحيم الذي ما أنزل داء يرتبط بالطين إلا أنزل له من الدواء ما يقاومه، لن يتخلى عن الروح التي هي الأصل.. فلذلك لن يكون في الروح داء إلا وينزل
النبي الهادي (22)
الله من الأدوية ما يقاومه.
قلت: فماذا فعلت؟
قال: لقد قعد بي العجز عن معرفة الدواء.. فلذلك ظللت مدة في تلك الأحزان إلى أن جاء اليوم الذي أرسل الله لي فيه رجلا لا أزال إلى الآن لا أعرف كيف جاء، ولا كيف ذهب.
قلت: ما اسمه؟
قال: لم أكن أناديه إلا بـ (معلم الهداية)
قلت: معلم الهداية..!؟
قال: أجل.. فلم يكن له حديث إلا عن الهداية.. وقد سألته أول ما زارني عن أسرار الهداية التي تقضي على كل ضلال، فقال: سر في الأرض.. فلن ينال الهداية ولا علوم الهداية إلا من سار في الأرض، وخبر البشر، وتعلم لغة الطير، وسلك مسالك النحل، وسكن قرى النمل.
قلت: إن هذا الرجل يلغز ولا يهدي..
قال: أحيانا تلبس الهداية لباس الألغاز.. وتحتاج العبارة إلى ثوب إشارة.
قلت: هل فهمت مراده؟
قال: أجل.. لقد فهمت مراده.. فقد وضح لي لغزه هذا بلغز أمكنني أن أبحث عنه.. وأعيش فترة من حياتي في البحث عنه.
قلت: فما قال؟
قال: لقد قال لي: ترياق الهداية يحتاج إلى عشرة أوصاف لن تنالها إلى في عشرة حضائر، ومن عشرة أفواه..
قلت له: فما الفم الأول؟
قال: الفم الذي يعرف للمراتب حقها.. فلا يتجاوز بها منازلها. (1)
__________
(1) أقصد به (الحكيم)، وهو الفصل الأول من هذه الرسالة.
النبي الهادي (23)
قلت له: فما الفم الثاني؟
قال: الفم الذي يسيل ما جف من الدموع، ويلين ما قسا من القلوب (1).
قلت: فما الفم الثالث؟
قال: الفم الذي يكشف عن الجواهر بالقيل والقال، والجواب والسؤال، لا بالمراء والجدل (2).
قلت: فما الفم الرابع؟
قال: الفم الذي طهر لسانه بماء الحقائق، وزين بمواثيق الرقائق، وعتق من سجون العلائق، فصار بين الناس كالبدر المتلألئ، تنشق له حجب الظلمات، وتندك له صروح الطغاة (3).
قلت: فما الفم الخامس؟
قال: الفم الذي ينطق من غير لسان.. ولكنه أبلغ من كل لسان (4).
قلت: فما الفم السادس؟
قال: الفم الذي يطهر أرض النفوس من الأدناس، ليرفعها إلى قدس الأقداس (5).
قلت: فما الفم السابع؟
قال: الفم الذي يرفع صوته، فتعلو برفعه الرايات، وتنتشر المكرمات (6).
قلت: فما الفم الثامن؟
قال: الفم الذي حلي بحلية الورع، وزين بزينة العلم والحلم، ونور بأنوار البصيرة..
__________
(1) أقصد به (الواعظ)، وهو الفصل الثاني من هذه الرسالة.
(2) أقصد به (المحاور)، وهو الفصل الثالث من هذه الرسالة.
(3) أقصد به (المعلم)، وهو الفصل الرابع من هذه الرسالة.
(4) أقصد به (القدوة)، وهو الفصل الخامس من هذه الرسالة.
(5) أقصد به (المربي)، وهو الفصل السادس من هذه الرسالة.
(6) أقصد به (الخطيب)، وهو الفصل السابع من هذه الرسالة.
النبي الهادي (24)
فأجاب عن كل سؤال، وحل كل إشكال، ورفع كل معضلة، وأزال كل مشكلة (1).
قلت له: فما الفم التاسع؟
قال: الفم الذي يثور على المحو، ليطفئ السراب، ويمحو الضباب (2).
قلت: فما الفم العاشر؟
قال: الفم الذي يسلك القفار، ويقطع البحار، لينشر الأنوار (3).
قلت: فهل بحثت عن هذه الأفواه؟
قال: أجل.. لقد ذكر لي أنها في عشرة حضائر من بلاد الإسلام.. فلذلك سرت في كل بلاد الإسلام أبحث عنها حتى وجدتها.
قلت: وجدتها جميعا؟
قال: أجل.. فلا تكمل الهداية إلا باجتماعها جميعا.. كما لا يمكن أن يكتمل الشعاع الأبيض إلا بجميع ألوانه.
قلت: فهل ستحدثني حديث رحلتك هذه؟
قال: يسرني ذلك.. فبيننا وبين الأمان عشر مراحل.. وسنقطع بكل واحد من هذه الأفواه مرحلة من المراحل.. على أن لا تنسى أننا في غابة.. وأنه يمكن في أي لحظة أن يهم بنا سبع، أو تلدغنا عقرب..
قلت: إن ذلك يمنعني من أن أعيش ما تقول..
قال: دع بصرك لجسدك.. وأرسل ببصيرتك إلي.. فلست أحتاج سوى بصيرتك.
قلت: فمن أين ابتدأت رحلتك؟
__________
(1) أقصد به (المفتي)، وهو الفصل الثامن من هذه الرسالة.
(2) أقصد به (المحتسب)، وهو الفصل التاسع من هذه الرسالة.
(3) أقصد به (الشاهد)، وهو الفصل العاشر من هذه الرسالة.
النبي الهادي (25)
أشار إلي أن نسير، ثم حمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مستغرقا في كل ذلك، ثم قال:
النبي الهادي (26)
بدأت رحلتي من بلاد العراق.. تلك البلاد التي بدأ بها التاريخ.. وفيها التقيت أول حامل لمشعل من مشاعل الهداية النبوية، وهو (مشعل الحكمة).. وفيها تعرفت على (النبي الحكيم).. سأقص عليك القصة من البداية:
كنت أسير في مدينة الموصل.. ثم بدا لي أن أدخل مكتبة من مكتباتها الضخمة.. وفيها التقيت رجلا أسود شديد السواد، كان الناس يطلقون عليه لقب لقمان الحكيم (1).. ولست أدري هل كان ذلك اسما سماه به أبوه، أم أنهم كانوا يشبهونه في حكمته بلقمان عليه السلام، فقد كانت الصلة بينه وبين لقمان عليه السلام شديدة جدا في كل شيء حتى لون البشرة وطول القامة وغير ذلك.. وأما شبهه به في الحكمة فقد تجلى لي من خلال حديثي معه.. والذي سأذكره لك.
عندما دخلت المكتبة ورأيته حسبته في البدء صاحب المكتبة، فقد رأيته يرتب كتبها، وينظمها باهتمام، وكأنه صاحبها.
أردت في تلك الأيام أن أنشغل بتعلم النحو، فقد رأيت أنه لا مناسبة أحسن من تلك المناسبة لتعلمه.. فطلبت منه أن يعطيني حاشية من الحواشي على الألفية، فقال لي، والابتسامة تشع من شفتيه: أتسمح لي أن أسألك سؤالا؟
قلت: سل ما بدا لك.
__________
(1) أشير به إلى لقمان الحكيم الذي ذُكر في القرآن الكريم، وأطلق اسمه على سورة لقمان، وقد ذكر المؤرخون أنه عاصر داود عليه السلام، وأنه لد وعاش في بلاد النوبة، وأنه كان عبدا حبشيا أسودا، وأنه أول من تحرر من عبوديته بدفع ثمنه بالمكاتبة، وكان خياطا او نجارا او راعيا، وأنه نزل بالموصل في قرية يقال لها (كومليس او كوماس) بالعراق وانه مات في الشام حيث قبره بها في قرية اسمها طبرية وهي مدينة بقرب دمشق.
وقد روي في الحديث: (ثلاثة من سادات أهل الجنة لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن) [المعجم الكبير للطبراني ج 11 ص 159]، وروى عن الامام علي أنه سئل عن سلمان الفارسي فقال (بخ بخ سلمان منا أهل البيت، ومن لكم بمثل لقمان الحكيم علم علم الأول والآخر) [الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 387].
النبي الهادي (27)
قال: هل أنت مبتدئ في تعلم النحو.. أم لك خبرة سابقة فيه؟
قلت: بل أنا مبتدئ.. وإن شئتُ قلتُ: أنا أجهل الناس بهذا العلم.. وقد دعتني الغربة إلى الانشغال بتعلمه.
قال: فأنصحك إذن أن تقرأ كتبا أيسر وأبسط.. ولدينا الكثير منها هنا.
قلت: لكني سمعت أن هذه الحاشية من أفضل ما كتب في النحو.
قال: الأفضل يتعدد.. فما صلح لزيد قد يضر عمرا، وما حسن لبكر قد يقبح بخالد.
قلت: لا بأس.. سأعمل بنصيحتك.. دلني على هذه الكتب التي نصحتني بها..
سار بي قليلا في أركان المكتبة.. وفي جناح من أجنحتها كتب على لوحه (نحوُ المبتدئين)، وكتب في الدرج الذي فوقه (نحوُ المتوسطين)، وفي درج فوقهم جميعا (نحوُ المحترفين)
قلت: هذه أول مرة في حياتي أرى الكتب ترتب بهذا الأسلوب؟
قال: ليست كتب النحو وحدها هي التي رتبت بهذا الأسلوب.. لقد من الله علي، فرتبت الجميع بحسب مراتبها..
قلت: أنت مهتم بمكتبك، وبزبائنك كثيرا؟
قال: هذه مكتبة أخ من إخواني في الله..
قلت: فأنت تعمل عنده؟
قال: أنا أعمل عند الله.. لقد رأيت هذه الكتب لا تراعي مراتب الناس، فأردت أن أرتبها، ليتيسر على كل طالب علم أن يجد بغيته من غير عناء.. وقد طلبت من صاحب المكتبة أن أفعل هذا.. في البداية رفض.. ولكنه عندما رأى نفور الناس من مكتبته، طلب مني أن أرتبها بحسب ما ذكرت له.. وهو الآن ـ بحمد الله ـ راض عما يجنيه منها، بل يعتقد أن الترتيب الذي وضعته هو السر في إقبال الزبائن عليها.
قلت: من أنت.. لكأني بك أحد الذين أبحث عنهم؟
النبي الهادي (28)
قال: أنا الذي أعرف للمراتب حقها.. فلا أتجاوز بها منازلها.
قلت: ففمك هو الفم الأول؟
قال: إن كانت الحكمة هي الفم الأول.. ففمي ـ بحمد الله ـ هو ذلك الفم.
قلت: لقد طلبت من صاحب هذه المكتبة أن ترتب كتبه لوجه الله.. فهل لك أن ترتب كتبي لوجه الله؟
قال: إن كنت الباحث عن الهادي.. فقد ظفرت ببغيتك عندي.
قلت: أنا ذلك الرجل..
قال: فاصبر معي لأعلمك حكمة الحكيم الذي يضع الأمور في مراتبها، ولا يتجاوز بها منازلها.
قلت: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} (الكهف: 69)
-\--\-
سرت معه إلى بيته.. وقد كان في غاية النظام والترتيب.. وغاية الجمال والتناسق، قلت له: أراك تهتم بالترتيب في كل شيء..
قال: من رأى النظام البديع الذي بنى الله به أكوانه، ورأى الترتيبات العجيبة التي رتبها لا يملك إلا أن يجعل من حياته كلها مرآة يتجلى فيها بديع الصنع الإلهي.
قلت: البعض يعتبر ذلك وسوسة.
قال: الوسوسة في الفوضى، لا في النظام.. والوسوسة في عالم النفس، لا في العوالم المرتبطة بالله.. ونحن بحمد الله لا نتحرك حركة إلا بنية تربطنا بالله.. فلذلك نرجو من الله أن يأجرنا عليها..
قلت: سواء كانت من الدنيا أو من الآخرة.
قال: ليس هناك دنيا ولا آخرة إلا في أعين المحجوبين.. أما الموصولون بالله، فهم عبيد لله
النبي الهادي (29)
مطلقا.. سواء كانوا في هذه الدار أو في تلك الدار.
شد انتباهي في مكتبة بيته أربعة سجلات ضخمة.. غلافها مفهرس بفهارس مختلفة، فقلت: أهذه كتب تكتبها؟
قال: بل هذه مشاريع لكتب أكتبها.
قلت: في أي مواضيع تكتب.. لا بد أنك تكتب في الشريعة؟
قال: أنا أكتب من يكتب في الشريعة.. أو من يعيش الشريعة.
قلت: لم أفهم.. ما الذي تقصد؟
قال: افتح دفترا منها، وسترى ما أكتب.
فتحت الدفتر الأول، وكان عنوانه (مراتب المخاطبين).. وقد زين غلافه بقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286).. وفوقها كتب قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق:7)، وبينهما قوله تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50)
قلت: لاشك أن هذا الكتاب في فقه الدعوة.. فإني أرى لك اهتماما بهذا النوع من الفقه.
قال: افتحه.. وستعرف موضوعه..
فتحته.. فتعجبت.. فلم أر فيه إلا جداول كثيرة ملئت بأسماء كثيرة.. وبجانب كل اسم وضعت بعض المعلومات المرتبطة به..
قلت، وقد أصابني بعض الفزع: أنت من المخابرات إذن؟
ضحك، وقال: تستطيع أن تقول ذلك.. ولكني من المخابرات الإلهية.. لا المخابرات الأرضية.
النبي الهادي (30)
قلت: فما الفرق بينهما؟
قال: المخابرات الأرضية تبحث عن أمن الأرض، وأمن أهل الأرض.. ومخابرات أهل الله تبحث في أمن النفس، وأمن عالم النفس..
قلت: وما حاجة عوالم النفس لهذه المعلومات؟
قال: ألا ترى الطبيب الحاذق الناصح الماهر كيف يسجل مرضاه.. ويسجل ما يرتبط بمرضهم من تواريخ ومن أدوية.. ونحوها؟
قلت: أجل.. رأيت بعض الأطباء يفعل ذلك؟
قال: لم؟
قلت: يفعل ذلك نصحا للمرضى.. وحتى لا يسقيهم دواء قد يصطدم مع بعض أدوائهم.
قال: وهكذا عالم النفس.. وعالم الروح.. وجميع العوالم الخفية التي يتكون منها بنيان الإنسان.. فقد يصطدم الخطاب مع بعضها مع الآخر.. وذلك قد يؤدي إلى تشنجات خطيرة لا يصبح بها الإنسان إنسانا.
قلت: فماذا فعلت حتى تتجنب هذا النوع من التشجنات؟
قال: سجلت أسماء جميع المرضى الذين رغبت في علاجهم.. ثم سجلت ما يرتبط بكل واحد منهم من طباع وعلل وحاجات مختلفة حتى أراعيها في حال خطابي لهم حتى لا أسقيهم من الشريعة ما ينفرهم عنها.
قلت: أراك وضعت أمام كل اسم ست خانات..
قال: أجل.. فقد رأيت أن كل إنسان يختلف عن غيره في طباعه وقدراته وتوجهاته وأحواله وحاجاته، وأحيانا يكون الشخص من عائلة معينة، وتكون لهم أعراف معينة.. فلذلك صارت الخانات ستا.
النبي الهادي (31)
قلت: من أي عالم نفس.. أو من أي عالم اجتماع.. استلهمت هذه المعاني؟
قال: من عالم العلماء، وإمام الأئمة، وهادي الهداة وحكيم الحكماء..
قلت: من؟
قال: ومن غير السراج المنير الذي أنار الله به عوالم الدين والدنيا!؟
قلت: محمد رسول الله!؟
قال: مبتدع أنا إن سرت خلف غيره.. ودني همة أنا إن اخترت لنفسي قالبا غير القالب الذي اختاره.
قلت: فحدثني عن شواهد استنانك.. فلا يمكن أن نثبت السنة إلا بالسنة.
قال: وبالقرآن.. ألم يكن خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو القرآن؟
قلت: بلى.. هكذا ذكر المحدثون.
قال: بل هكذا حدث القرآن وحدثت السنة وحدثت السيرة.. وحدث كل من شهده صلى الله عليه وآله وسلم وتشرف بصحبته.
قلت: فلنبدأ من الخانة الأولى.. ما الذي تريده بالطباع؟
قال: لقد تأملت الخلق، فرأيتهم متفاتين في طباعهم تفاوتا عجيبا، فرأيت منهم صاحب الحس المرهف، الذي يتأثر بالعاطفة، ويستجيب للموعظة بسهولة.. ورأيت منهم العقلاني الذي لا يناسبه إلا الطرح العقلي، والاستدلالات العقلية.. ورأيت منهم الذي يؤخذ بالترغيب.. ورأيت منهم الذي يتأثر بالترهيب.. ورأيت منهم المسالم المنصت.. ورأيت منهم المجادل العنيد.. ورأيت منهم المتعالم.. ورأيت منهم المتجاهل.. ورأيت منهم القوي.. ورأيت منهم الضعيف.
وقد رأيت من العبث ألا ألتفت إلى هذه الصفات المتنافرة.. لأني حينذاك لن أحصد إلا
النبي الهادي (32)
الفشل.. بل سأكون حينها كمن يزرع في الأرض الجافة النباتات التي تحتاج إلى الرطوبة.. فيقتلها بالجفاف، ولا يجني غير السراب.
قلت: لا شك أن التأمل هو الذي هداك لهذا؟
قال: لقد تغذى تأملي بالقرآن الكريم.. ولولا القرآن الكريم.. ولولا تدبره ما اهتديت إلى هذا.. لقد رأيت القرآن الكريم كيف يتغلغل إلى النفس، ليوحي إليها قدرة بارئها على معرفة ما يجري داخلها..
اسمع لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24).. وقوله: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ} (غافر: 19).. وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق: 16)
واسمع كيف تُشعرنا هذه الآيات بهيمنة الله على ملكوته؛ بالعلم والقدرة والسمع والبصر، وبمراقبة الله للعبد في كل حين، وفي كل قول وفعل.. {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير} (الأنعام:18)..
ألا ترى كيف تختم هذه الآية باسم (الخبير).. إن هذا الاسم يعني أن الله هو العالم بخفايا الأمور، والمطلع على دقائق الأشياء.. ولذلك يتعامل مع عباده على أساسها؟
لذلك يخبرنا الله تعالى في معرض الحديث عن أحكامه عن خبرته بأعمال خلقه، لأن العالم بذوات الخلق أعلم بأعمالهم (1):
ففي معرض ذكر الله تعالى لجواز تزين النساء بعد انتهاء إحدادهن، قال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة:234)
وهي تحمل عتابا مبطنا لمن ينكر عليهن، لأن في إنكاره تعديا على الله، فالله هو الخالق الخبير
__________
(1) ذكرنا المسألة بتفصيل في رسالة (أسرار الأقدار)
النبي الهادي (33)
بخلقه، وهو أعلم بما في نفوسهم وبواطنهم، وله وحده لذلك الحق في الإنكار أو عدمه.
وفي معرض ذكره للصدقات قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة:271)، فالله تعالى عقب على هذا السلوك الذي هو إظهار الصدقات أو إخفائها بكونه خبيرا، وكأنه يخبر من أظهر الصدقات بأن الله خبير يعلم نيته في إخراجه لها علانية... فالعلانية لا تدل بحد ذاتها على الإخلاص أو على الرياء، ولهذا فهي تحتاج إلى خبير يميز بينهما.
ومثل هذا يقال في قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (آل عمران:153)، وقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (آل عمران:180) وغيرها من آيات القرآن الكريم.
لقد كان لي صاحب من مصر.. كان اسمه سيد.. وقد حدثني مرة عن هذا، فقال ـ وهو يحدثني عن الأسلوب الذي تميز به القرآن المكي ـ: (كان هذا القرآن يُواجه به النفوس في مكة، ويروضها حتى تسلس قيادها، راغبة مختارة، ويرى أنه كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة، تنوعاً عجيباً.. تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر، من الدلائل الموحية، والمؤثرات الجارفة.. وتارة يواجهها، بما يشبه السياط اللاذعة تلهب الحس، فلا يطيق وقعها، ولا يصبر على لذعها! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة، والمسارَّة الودودة، التي تهولها المشاعر، وتأنس لها القلوب..! وتارة يواجهها بالهول المرعب، والصرخة المفزعة، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب..! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة، ونصاعة، لا تدع مجالاً للتلفت عنها، ولا الجدل فيها.. وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح، والأمل الندي، يهتف لها ويناجيها.. وتارة يتخلل مساربها، ودروبها ومنحنياتها، فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها، فترى ما يجري في داخلها
النبي الهادي (34)
رأي العين، وتخجل من بعضه، وتكره بعضه، وتتيقظ لحركاتها، وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها!.. ومئات من اللمسات، ومئات من اللفتات، ومئات من الهتافات، ومئات من المؤثرات.. يطلع عليها قارئ القرآن، وهو يتبع تلك المعركة الطويلة، وذلك العلاج البطيء، ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصيّة العنيدة) (1)
قلت: أعرف طريقة القرآن الكريم في هذا.. ولكن هذا كلام الله، والله هو اللطيف الخبير، العالم بما دق وما جل.. ولا يمكن لغير الله أن يفعل هذا؟
قال: الكامل هو الذي يتأسى بربه.. ويترقى ليتخلق بما تقتضيه أسماؤه الحسنى.. وقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو النموذج الأكمل لهذا التأسي وهذا الترقي.
أنت تعلم أن أبا ذر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكبار؟
قلت: أجل.. فقد كان من أوائل السابقين إلى الإسلام، أسلم في أول البعثة خامس خمسة، وكان رأسا في العلم والزهد والجهاد وصدق اللهجة والاخلاص.. وكان يوازي ابن مسعود في العلم.. وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر.. من سره أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر) (2)
قال: ومع هذا الفضل العظيم.. فقد نصحه صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يتولى الإمارة.. بل نَصَحَهُ أن لا يقترب منها..
قلت: ذلك صحيح، فقد حدث أبو ذرٍ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أبا ذرٍ إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيمٍ) (3)، وفي رواية عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: (يا أبا ذر إنك
__________
(1) في ظلال القرآن: 6/ 3692 - 3693.
(2) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى.. وانظر: سير أعلام النبلاء: 2/ 59.
(3) رواه مسلم.
النبي الهادي (35)
ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) (1)
قال: فقد لاحظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا طباع أبي ذر.. فأبو ذر صادق وزاهد.. ولكن طبعه الذي جبله الله عليه لا يسمح له بتولي الإمارة.
قلت: وعيت هذا..
قال: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يلاحظ الطباع في جميع ما يفعله، وما يتعامل به..
قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الأولى.. فما (القدرات) التي وضعتها في الخانة الثانية؟
قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها يختلفون كذلك في توجيههم للقدرات والملكات التي وهبهم الله.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف:32)
فبعضهم صرف هذه القدرات للعلم.. وبعضهم صرفها للتجارة.. وبعضهم صرفها للسياسة.. وبعضهم للصناعة.. وهكذا.. وليس من الحكمة أن يخاطب الجميع بنفس الأسلوب..
قلت: صحيح ما ذكرت.. وقد رأيت في الواقع من يسئ التصرف في مثل هذا.. فلا يجني من تصرفه إلا الشوك والحنضل..
قال: ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكيم الحكماء يراعي هذه النواحي في خطابه وفي تعامله:
ومما ورد في السنة من مراعاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأحوال المدعويين العلمية حديث ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد، وكشف عورته فيه، فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقعوا فيه.. لكن
__________
(1) رواه مسلم.
النبي الهادي (36)
سيد الحكماء صلى الله عليه وآله وسلم أدرك حاله من الجهل، وأدرك أنه ـ في ذلك الحين ـ كان في حالة خاصة، فعالجه بما يناسب حاله.. فعالج جهله بالتعليم.. وعالج الحالة الخاصة التي كان عليها بتأخيره حتى يفرغ من بوله، ولو كان في المسجد، ولو كان كاشف العورة، لأن مفسدة قطعه من بوله أعظم من مفسدة ما يفعل..
لقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله، ونهى الصحابة أن يتعرضوا له، بل منعهم من أن يقطعوا عليه بوله، فقال: (لا تُزرِمُوه)
ثم ما إن انتهت حاله هذه حتى بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله الأصلية، وهي الجهل، فبدأ يُعلِّمُهُ برِفق، حتى قال الأعرابي قولته المشهورة، التي أضحكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً) (1)
وقريب من هذا ما حدث به صحابي آخر، فقال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ـ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالا يأتون الكهان قال: فلا تأتهم قال: ومنا رجال يتطيرون قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنكم، قال: قلت ومنا رجال يخطون قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك) (2)
انظر.. لقد كان سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا الرجل المبتدئ في الإسلام سببا لأن يقول
__________
(1) رواه البخاري وغيره.
(2) رواه مسلم.
النبي الهادي (37)
هذه الشهادة التي ظلت الأجيال تحفظها: (ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني)
وانظر كيف ألان ذلك التعليم الرحيم قلب الرجل، فراح يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الأسئلة التي لم يتجرأ على سؤاله عنها لو أنه لم ير من رحمته ورفقه ما رأى.
وانظر في مقابل هذا كيف غضب من أسامة لما شفع في شأن المخزومية، فقد روي أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟)، ثم قام فاختطب، ثم قال: (إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وأيُمُ الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها) (1)
وجدت في بعض خانات هذا العمود كلمة (صاحب مكانة)، وأمامه كتب ملاحظة (يحتاج إلى عناية خاص)، فقلت: ما هذا؟.. ألم تقرأ سورة عبس (2)؟
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) اختلف المفسرون فيمَن هو المعاتب في الآيات الكريمة من أول سورة عبس على رأيين:
الأول: ما ذكرناه هنا، وهو المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم، وهو أنها نزلت في عبداللّه بن اُم مكتوم، إنّه أتى رسول اللّه (وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب واُبي واُميّة بن خلف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعم، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين)، فقال: يا رسول الّله، أقرئني وعلمني ممّا علمك اللّه، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآية.. وكان رسول اللّه (بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: (مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي)، ويقول له: (هل لك من حاجة).استخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين)
الثاني: ما روي عن الإمام الصادق: (إنّها نزلت في رجل من بني اُميّة، كان عند النّبي، فجاء ابن اُم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك، وأنكره عليه) (تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 437) وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.
وقد قال ناصر مكارم الشيرازي عن الرأي الأول: وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول، فإنّ فعل النّبي (والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة، وللأسباب التالية:
أوّلاً: على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش، فإنّه (بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق، وتحطيم صف أعدائه.
ثانياً: إنّ العبوس أو الإنبساط مع الأعمى سواء، لأنّه لا يدرك ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ (عبد اللّه بن اُم مكتوم) لم يراع آداب المجلس حينها، حيث أنّه قاطع النّبي (مراراً في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين، ولكن بما أنّ اللّه تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الإعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.
ويمثل هذا السياق دليلاً على عظمة شأن النّبي (، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى)، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبي (صادق فيه، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضاً) فلا داعي لإستعتاب نفسه...
ومن مكارم خلقه (كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد اللّه بن اُم مكتوم، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.
وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والإستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين (الأمثل: ج 19، ص 412)
النبي الهادي (38)
قال: بلى.. قرأتها.. فما علاقتها بهذا؟
قلت: لقد أبدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الاهتمام ببعض سادة قريش، فنهي عن ذلك.
قال: لم ينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اهتمامه بالقرشيين، وإنما نهي من التقصير في حق الأعمى.
قلت: كلا الأمرين سواء.
قال: لا.. النهي عن شيء لا يدل على النهي على غيره إلا بدليل..
قلت: ألا يكفي في الاستدلال قوله تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)} (عبس)؟
قال: هذه الآيات الكريمة تتحدث عن المستغني عن الله.. وهو يتحقق في الأغنياء كما يتحقق في الفقراء..
قلت: ولكن كيف بدا لك أن تضع أمامه تلك الملاحظة؟
قال: هذا لم يبدو لي.. بل هي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل هي سنة الأنبياء قبله جميعا.. لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم دعوة الأنبياء إلى الملأ من قومهم، وتلطفهم معهم..
لقد ذكر الله تعالى كيف أرسل موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ إلى فرعون، فقال: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ
النبي الهادي (39)
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} (طه).. انظر كيف أمرهما الله تعالى بدعوة فرعون بكلام رقيق لين سهل، ليكون أوقع في النفوس.. ذلك أن الكلام الذي فيه خشونة من أعظم أسباب النفرة، لا سيما إذا كان المدعو من الكبراء الذين تغلب عليهم صفة الكبر والتجبّر.
قلت: إن موقف موسى عليه السلام في هذا موقف خاص.. ولا يصح القياس عليه.
قال: لا بأس.. فلنعتبره موقفا خاصا.. ولنسر نحو النبي الحكيم لنرى كيف كان يتعامل مع هذا النوع من الناس.. فالسنة لا تتلقى إلا منه..
لقد وردت النصوص الكثيرة الدالة على حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إسلام هؤلاء.. ففي السيرة روي: اجتمع علية من أشراف قريش.. فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريعا، وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بدو، وكان حريصًا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم.
ومما يدل على هذا موقفه صلى الله عليه وآله وسلم مع عتبة بن ربيعة، وهو أحد سادات قريش (1)، فقد أظهر صلى الله عليه وآله وسلم من العناية به والتلطف في دعوته ما جعله يعود بغير الوجه الذي جاء به.
بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بعرض الدعوة على ذوي المكانة من الأشراف والسادة، قال ابن إسحاق: (لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم.. فدعاهم إلى الله) (2)
ثم لما عاد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة كان لا يسمع بقادم يقدمها من ذوي المكانة والشرف إلا تصدى له فدعاه إلى الله، وعرض عليه ما عنده، ثم بدأ يعرض دعوته على وفود العرب في موسم الحج وأسواق العرب، وكانت مناسبات هامة للالتقاء بذوي المكانة من رؤساء العرب.
وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم الحكمة في العناية بذوي المكانة بقوله: (لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن
__________
(1) ومما يدل على مكانته في قريش قولهم: إن صبأ أبو الوليد لتصبون قريش كلها (ابن هشام، السيرة النبوية 1/ 229)
(2) رواه ابن إسحق.
النبي الهادي (40)
اليهود) (1).. لقد علق ابن حجر على هذا الحديث بقوله: (والذي يظهر أنهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في اليهود ومن عداهم كان تبعًا لهم) (2)
وهذا هو الأسلوب الذي انتهجه ورثته مع أمثال هذا النوع:
فمصعب بن عمير وهو مبعوثه صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ليقوم بمهمة الدعوة والتعليم ـ أظهر عناية خاصة بذوي المكانة في المجتمع المدني، فقد استفاد من أسعد بن زرارة وهو من ذوي المكانة في قومه حيث نزل ضيفًا عليه، وأخذ يصطحبه في جولاته الدعوية ليقوم بمهمة تعريفه بذوي المكانة ليوليهم عناية خاصة في الدعوة، فحينما دخلا حائط بني عبد الأشهل، وأقبل عليهما أسيد بن حضير لزجرهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه.
وحينما أسلم أسيد بن حضير، قال لهما مبينًا مكانة سعد بن معاذ في قومه: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ.. فلما أقبل سعد قال أسعد لمصعب: (أي مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان) (3)
فكان لهذه العناية بهذين الرجلين الأثر البالغ حيث أسلم بإسلامهما جميع دور بني الأشهل.
قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الثانية.. فما (التوجهات) التي وضعتها في الخانة الثالثة؟
قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، يختلفون
__________
(1) رواه البخاري.
(2) فتح الباري: 7/ 695.
(3) سيرة ابن هشام: 2/ 59.
النبي الهادي (41)
كذلك في توجهاتهم.. فمنهم الملاحدة الذين لا يؤمنون برب، ولا رسول، ولا كتاب، ولا دين.. ومنهم المشركون الذين يعبدون الأصنام.. ومنهم أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله خالقاً، وبكثير من الرسل.. ومنهم المنافقون الذين يُظهِرون الإسلام، ويُبطِنون الكفر.. ومنهم العُصاة الذين طغت عليهم المعصية، حتى أصبحت تُلازِمهم، فلا يهتمون بدين، ولا يُفكرون بتوبة.. ومنهم المقتصدون الذين يأتون بالواجبات، ويجتنبون المحرمات، ولكنهم لا يسارعون في الخيرات، وإذا ما وقعوا في بعض الذنوب لم يصروا عليها، ويسارعون إلى التوبة.. ومنهم بعد ذلك كله الأخيار الذين أتوا بالواجبات على وجهها، وبمعظم النوافل، واجتنبوا محارم الله أو تابوا منها توبة نصوحاً.. وبين هؤلاء جميعا طبقات كثيرة لا يمكن حصرها.
فهل ترى من الحكمة أن يخاطب هؤلاء جميعا بأسلوب واحد وبمعاني واحدة؟
قلت: لا شك في أن ذلك لا يصح.. ومن فعل ذلك يكون كمن عالج مريض القلب بأدوية الزكام.. أو عالج المزكوم بأدوية أمراض القلب.
قال: ولهذا وضعت هذه المرتبة.. فلم أر من الحكمة أن أتكلم مع الملاحدة عن طاعة الله، ومحبة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والتمسك بالدين، وأحتج لهم بالآيات والأحاديث، وهم لا يؤمنون برب، ولا يقرون بدين.
ولم أر من الحكمة أن أتكلم مع أهل الكتاب عن أهمية الصلاة، أو أحكام الطلاق، وهم لا يُسلِّمون بالأصل.
قلت: فأين هذا في القرآن الكريم أو في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تستند للقرآن؟
قال: هذا كثير في القرآن.. فالقرآن الكريم يذكر اختلاف أصناف الناس.. ويذكر مدى تميزهم في توجهاتهم.. فالله تعالى يقول ـ مثلا ـ عن أصناف ورثة الكتاب: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32)
النبي الهادي (42)
وهو يخاطب الناس بحسب توجهاتهم.. فيخاطب الدهريين بإثبات وجود الخالق، فيقول: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيئٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (الطور: 35)، ويقول: {هَذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ} (لقمان: 11)، ويقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} (الروم: 20)
ويحاجَّ إبراهيمُ ـ عليه السلام ـ الدهريَّ بقوله: {فَإِنّ اللّهَ يَأْتِى بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} (البقرة: 258)
ويخاطب المشركين بما يناسبهم في اعتقاداتهم، فيقول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىَ يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61)، فألزمهم الله بمقتضى هذا الإيمان أن لا يشرك به.. لأن العبادة تصرف لخالق هذا الكون والمتصرف فيه، ولا تصرف لغيره.
وقال تعالى مخاطبا لهم: {إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الأعراف: 194)
وقال: {وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: 20، 21)
وقال: {وَمَنْ أَضَلّ مِمّن يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَن لاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ} (الأحقاف: 5)
ويخاطب أهل الكتاب بما يناسب معتقداتهم، فيقول: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64)، ويقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ
النبي الهادي (43)
لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء:171)، ويقول: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة:75)
بل يقول لهم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (المائدة:68)، فانظر كيف أمرهم باتباع ما يعتقدون صحته، ولم يأمرهم مباشرة باتباع القرآن، لأن اتباعهم للتوراة الصحيحة سيجعلهم ـ لا محالة ـ يؤمنون بالقرآن.
ومثل ذلك خطاب القرآن الكريم لعُصاة المسلمين، فقد خاطبهم بما يتناسب وإيمانهم، وتسليمهم لأمر ربهم، فتارة يُخاطبهم بما في قلوبهم من إيمان فيقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16)
وتارة يُخاطبهم بالترهيب كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة:278)، وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} (البقرة: 231)، وقوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (النور:17)، وقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 275)
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع مختلف أصناف.. فيعطي لكل شخص حقه من التوجيه والخطاب..
فقد خاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الكتاب بغير ما كان يخاطب به كفار قريش.. فخاطب اليهود ـ مثلا ـ بوجوب التزامهم التوراة الصحيحة، وعدم التحريف فيها، فلو أنهم التزموها لآمنوا، ومما وري في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاطب وفد نجران ـ وهم من المسيحيين ـ في إبراهيم
النبي الهادي (44)
عليه السلام بأنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً..
وكان قد كتب لهم قبل ذلك يقول: (بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران.. إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد..) (1)
فانظر كيف ذكر لهم الأنبياء وسماهم لهم لكونهم يؤمنون بهم..
وهكذا في خطابه صلى الله عليه وآله وسلم لملوك وسلاطين العالم، فقد كان يخاطبهم بحسب توجهاتهم الدينية، ولذلك كان خطابه لكسرى مختلفا عن خطابه للنجاشي.
قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الثالثة.. فما (الأحوال) التي وضعتها في الخانة الرابعة؟
قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، ويختلفون في توجهاتهم، يختلفون كذلك ـ وبشكل كبير ـ في الأحوال التي تمر بهم.. فقد ينتقل الإنسان من الثراء الفاحش إلى الفقر المدقع.. وقد ينتقل من الصحة والعافية إلى المرض والبلاء.. وليس من الحكمة أن يخاطب في جميع الأحوال بأسلوب واحد، وبمعاني واحدة..
قلت: ما ذكرته صحيح.. وهو عين الحكمة.. ولكن هل ورد في النصوص المقدسة ما يدل على مراعاة هذا؟
قال: جاهل أنا إن حكمت عقلي.. وهربت من النصوص المقدسة.. إن الغنى كل الغني في النصوص المقدسة..
ففي مراعاة هذه الناحية ورد قوله تعالى ـ مثلا ـ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
__________
(1) رواه البيهقي في الدلائل.
النبي الهادي (45)
قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:97)
انظر.. إن هذه الآية تحوي عتابا شديدا لهؤلاء المستضعفين باعتبار أنهم أطاقوا الهجرة، لكنهم لم يفعلوا.. بينما الآية التالية تستثني أصحاب الظروف الخاصة الذين قعدت بهم ظروفهم عن الهجرة، قال تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} (النساء:98)
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يراعي هذه الناحية.. والأمثلة كثيرة على ذلك..
من ذلك مثلا أن أبا ذر لما أسلم أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجع إلى قومه قائلا له: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري) (1)، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أمره أن يمكث في أهله، ولا يهاجر حتى ينتصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويتمكّن في الأرض.
قلت: كيف ذلك مع أن الهجرة كانت فرضا.. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (لأنفال:72)
قال: لأن ظروف أبي ذر كانت تختلف اختلافا كبيرا عن ظروف سائر الصحابة.. فلم يكن أبو ذر من أهل مكة، ولم يكن له ناصر منهم، فيؤذونه أذى كبيرًا، فلذلك طلب منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك.
قلت: وعيت هذا.. فاذكر لي أمثلة أخرى..
قال: من ذلك ـ مثلا ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بامرأة تبكي على ولدها، فقال: (اتقي الله واصبري)، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتت
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (46)
باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تجد عنده بَوَّابِين، فقالت: لم أعرفك، فقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) (1)
انظر.. لا شك أن كلمتها (إليكَ عني) كلمة كبيرة على أحدنا، فكيف إذا قيلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكيم الحكماء، أدرك ما كانت المرأة عليه من حالة خاصة، فضلاً عن أنها لم تعرفه.. فاكتفى بأن أعرض عنها، بل أعرض عن تعليمها، لأنها في حال لا يُمَكّنها من القبول والفهم، فلما جاءته وكانت في نفسية غير نفسيتها الأولى، أقبل عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعظها ويعلمها ولا يعاتبها.
ومثل ذلك ما روي أن شابا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه، فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم قال أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحَصِّن فَرْجَه قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (2).
انظر كيف أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حالته الخاصة، فلقد كان يتصارع في نفس الشاب شهوة عارمة، وإيمان صادق، ولم ير الشاب ـ وقتئذ ـ حلاً لهذا الصراع، وَفَضَّاً لهذا النزاع.. إلا إذناً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجاوز به حدود الشرع.. فأدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال الشاب، فلم يتوجه إليه بموعظة إيمانية، فضلاً عن أن يُعنِّفه أو يُوَبِّخه أو يطرده، بل راح يُذَكِّرُهُ بما في هذا العمل من مفسدة أخلاقية عظيمة.. تستبشعها الفطر السليمة، وتستقبحها النفوس العفيفة..
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه أحمد واللفظ له، والطبراني في الكبير وفي مسند الشاميين.
النبي الهادي (47)
قلت: ألا ترى أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) (1) مما يمكن أن يدخل هذا الباب؟
قال: بورك فيك.. أجل.. فهذ الحديث يدل على أنه إذا سقط من عُرِفَ عنه التُّقى، أو الوجاهة، في زلة أن يُعفى عنه، ويُغض الطرف عن زلته..
قلت: لقد ذكرتني بما ورد من إكرام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدي بن حاتم الطائي لما قدم إليه.. فقد قدم له وسادة إكراماً له، فهو ابن كريم مشهور (2).
قال: الأمثلة في هذا أكثر من أن تنحصر.. وقد أشار إلى قاعدتها وقاعدة هذا الباب جميعا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم) (3)
قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الرابعة.. فما (الحاجات) التي وضعتها في الخانة الخامسة؟
قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، ويختلفون في توجهاتهم، ويختلفون في أحوالهم، يختلفون كذلك في الحاجات التي تعرض لهم..
وليس من الحكمة أن يتجاهل الحكيم تلك الحاجات أثناء خطابه لهم..
قلت: ما هذه الحاجات؟
قال: الحاجات كثيرة.. فقد يكون المخاطب مريضا يحتاج إلى العلاج.. وقد يكون جائعا محتاجا إلى طعام.. وقد يكون ظمآن.. وهكذا.. ومما يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر الأئمة أن يخففوا من الصلاة، معللاً ذلك بقوله: (أيها الناس إنكم منفرون، فمن صلّى بالناس فليخفف، فإن
__________
(1) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي في السنن.
(2) رواه الترمذي وأحمد.
(3) ذكره مسلم في المقدمة، ورواه أبو داود.
النبي الهادي (48)
فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة) (1)
قلت: لقد فهمت.. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يأمرنا بأن نراعي الحاجات المختلفة، ونتعامل مع أصحابه على أساسها.
قال: صدقت.. فلا ينبغي للحكيم الداعية إلى الله أن يغفل عن حاجات الناس المختلفة.
قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الخامسة.. فما (الأعراف) التي وضعتها في الخانة السادسة؟
قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، ويختلفون في توجهاتهم، ويختلفون في أحوالهم، ويختلفون في الحاجات التي تعرض لهم، يختلفون كذلك في الأعراف التي تؤمن بها البيئات التي نشأوا فيها.. بل تذعن لها.
وليس من الحكمة أن يتجاهل الحكيم تلك الأعراف أثناء خطابه لهم..
قلت: ولكن الأعراف قد تكون أعراف سوء.. والداعية إلى الله السائر على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكلف بتطهير البيئات منها لا بإقرارها..
قال: لقد وضعت في هذه الخانة ثلاثة أنواع من الأعراف.. وكلها مما يحتاج الحكيم للتعرف عليه، ومعاملة المخاطبين على أساسه.
قلت: فما النوع الأول؟
قال: ما ذكرت من العادات السيئة والأعراف القبيحة..
قلت: فما العمل مع هذا النوع من الأعراف.. هل يقرهم الحكيم عليه؟
قال: لا.. الحكيم لا يقر حراما..
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (49)
قلت: إذن هو يسعى لتغييره.
قال: بما تقتضيه الحكمة.. لا بما يقتضيه الطيش.
قلت: فما الفرق بينهما؟
قال: الحكيم يتعامل مع مثل هذه الأدواء مثلما يتعامل الجراح الماهر مع ما يريد استئصاله من الأدواء.. فهو يتلمس لذلك كل سبل الحكمة.. بينما الطائش لا يبالي بما يفعل، وقد يقتل المريض بطيشه.
قلت: فهل يمكن أن تضرب لي أمثلة عن هذا النوع من الأعراف؟
قال: إن في بلادنا أعرافا كثيرة متوارثة.. ولها تحكم في الكثير من الناس.. ولم أر من الحكمة أن نستعجل بالإنكار عليها.. بل رأيت أن الأولى هو تقديم القناعات الكافية التي تجعل أصحاب هذا النوع من الأعراف يقلعون عنها من غير شعور.
قلت: أليس السكوت عن البيان وقت الحاجة لا يجوز؟
قال: لكل حاجة وقتها ومرتبتها.. ولا يصح أن نخترق المراحل.. أو نبدل الأوقات..
قلت: فهل لذلك دليل من السنة؟
قال: أدلة ذلك لا تحصى.. لقد جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيئة كانت ممتلئة بالعادات القبيحة.. أخبرني كيف كانت عقود الزواج في تلك البيئة التي جاءها النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
قلت: لقد كانت عقود الزواج فيها أكثرها عقود سفاح (1).
قال: فهل رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خلال ما ورد في السيرة.. أو من خلال ما ورد في القرآن المكي يتحدث عن هذه القضايا، ويركز عليها، ويجعلها محط اهتمامه؟
قلت: لا.. ولولا أن المحدثين ذكروها في أسباب نزول بعض آيات المدنية ما عرفنا ذلك.
قال: لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكيما في تعامله مع البيئة التي كلف بإصلاحها.. لقد بدأ بالمحرك
__________
(1) فقد ورد أن الزواج كان عندهم على أنواع: منها نكاح الاستبضاع.. وغيرها، رواه البخاري وغيره.
النبي الهادي (50)
الذي يتحرك من خلاله كل سلوك إنساني، فأصلحه.. فلما أصلحه صلح الإنسان جميعا..
قلت: فما النوع الثاني؟
قال: على عكس هذا.. عادات طيبة متوارثة.. كالكرم والمروءة، وإغاثة الملهوف، والتعاون في حاجات المجتمع، وما شابه ذلك.
قلت: لقد كفى هؤلاء شرهم.. فما حاجتهم للحكيم؟
قال: الحكيم هو الذي يعتني ببذور الخير الموجودة في هذه النفوس والمجتمعات ليخرج منها الثمار اليانعة الطيبة.
قلت: فهل ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى هذه؟
قال: أجل.. فنحن بحمد الله لا نستقي إلا من بحار النصوص المقدسة.
قلت: فاذكر لي أمثلة على ذلك.
قال: من أمثلة ذلك أن القرآن الكريم أثنى على بعض العادات الطيبة عند أهل الكتاب، فقال ـ مثلا ـ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران:75).. فهذه الآية تثني على الوفاء عند بعض من أهل الكتاب.. ولم يمنع كفرهم من الثناء عليهم.
قلت: وعيت هذا.. فهل ورد في السنة ما يشير إليه؟
قال: لقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثنى على بعض أفعال الجاهلية، ومن ذلك ثناؤه على التحالف الذي كانوا يفعلونه على عمل الصالحات، كحلف المطيَّبين (1)، وحلف
__________
(1) حلف المطيبين: وهو حلف عقد في أيام الجاهلية، وسمّي بهذا لأن المتحالفين طيّبوا الكعبة، وطيّبوا بعضهم، السيرة لابن هشام [1/ 150]
النبي الهادي (51)
الفَضول (1)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (شهدت حلف المطيَّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حُمْرَ النَّعَمِ، وأني أنكثه) (2)
قلت: فما النوع الثالث؟
قال: بين هذا وذاك.. عادات سكت عنها الشرع، فلم يحرمها ولم يوجبها.. وقد ترك الشرع هذه المساحة عفوا..
قلت: مثل ماذا؟
قال: مثل ما اعتاده الناس في أطعمتهم وألبستهم وولائمهم وأفراحهم، وأدويتهم، وطرق بنائهم، وما شابه ذلك..
قلت: وما حاجة الحكيم لهذا؟
قال: ألا تعرف المثل الذي يقول (إذا كنت في قوم فاحلب في إنائهم)؟
قلت: بلى.. أعرفه..
قال: فالحكيم هو الذي يطبقه مع مخاطبيه.. فهو يراعي أعرافهم ويحترمها ليكون ذلك سببا في إقبالهم عليه، وانفعالهم له.
قلت: فهل لذلك أمثلة؟
قال: بل ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك قاعدة لها تحكم في كثير من فروع الأحكام.. لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في هذا: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) (3)
__________
(1) الفضول: هو حلف عقد في الجاهلية، وقيل: سمّي بذلك لأن معظم المتحالفين كانت أسماؤهم (الفضل) السيرة لابن هشام [1/ 153]
(2) رواه أحمد والبيهقي في السنن الكبرى وصححه الحاكم ووافقه الذهبي..
(3) رواه مسلم.
النبي الهادي (52)
وضعت الدفتر الأول في محله، ثم فتحت الدفتر الثاني، وكان عنوانه (مراتب الخطاب).. وقد زين غلافه بقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177)،وتحتها قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (البقرة:189)
قلت: أهذا الدفتر ـ مثل الذي سبقه ـ وضعته لأسماء من تريد أن تخاطبهم؟
قال: لا.. لقد وضعت في هذا الدفتر المعاني التي أريد أن أخاطب بها من أرى نفسي ملزما بدعوتهم إلى الله.
قلت: الدعوة تشمل الإسلام جميعا بجميع ما ورد فيه من تفاصيل..
قال: والحكيم هو الذي يضع تفاصيل أحكام الإسلام في مراتبها الصحيحة.. فلا يتجاوز مرتبة قبل أن يحكم التي قبلها.
قلت: لم أفهم.
قال: بم وصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن؟
قلت: لقد قال له: (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ
النبي الهادي (53)
من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم) (1)
قال: ألا ترى كيف رتب صلى الله عليه وآله وسلم المواضيع التي أراد من معاذا أن يدعو إليها؟
قلت: ذلك صحيح..
قال: أرأيت لو أن معاذا خلط هذا الترتيب.. فبدأ بالزكاة.. كيف سيتصوره الناس حينها؟
قلت: سيرونه جابيا أو لصا.
قال: فلهذا أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعمق الإيمان في قلوبهم أولا، فإن هم آمنوا أمرهم بالصلاة التي هي عبادة محضة.. فإن هم فعلوا، وزينت قلوبهم بحلاوة العبادة أمرهم حينها بالزكاة والصدقات.
قلت: نعم.. هذا ما تقتضيه الحكمة..
فتحت الدفتر، وكان أول عبارة قابلتني فيه (الإيمان قبل العمل)، فسألته عنها، فقال: لقد تأملت ما ورد في النصوص حول مرتبتي الإيمان والعمل.. فوجدتها جميعا تنص على تقديم الإيمان على العمل.. فالله تعالى يقول ـ مثلا ـ: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} (النساء:39).. فقد قدم الله في هذه الآية الإيمان على النفقات..
قلت: أحفظ من ذلك الكثير.. فقد قدم الله تعالى الإيمان على الجهاد في قوله تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} (التوبة:86)
وقدمه على أدب الاستئذان في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (54)
وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور:62)
وقدمه على النفقات في قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (الحديد:7)
قال: وهكذا.. لقد وجدت القرآن في كل المناسبات يرتب الإيمان قبل العمل، فهو يخاطب المؤمنين بالتكاليف بحسب ما عندهم من الإيمان، فيقول ـ مثلا ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183)، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:208)
فهذا النداء المرتبط بالإيمان كأنه يقول للمخاطبين: ما دمتم قد تحققتم بالإيمان، وامتلأتم به، فإن ذلك يفرض عليكم أن تلتزموا بالسلوك الذي يقتضيه الإيمان.
وهكذا في تعليل أسباب دخول الكفار إلى جهنم، فقد قيد الإيمان على العمل، فقال تعالى: {إنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34} (الحاقة)
قلت: صدقت.. بل إن القرآن يحدد الإيمان كشرط لإمكانية التحقق بالعمل، كما قال تعالى ـ مثلا ـ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:232).. فكأن الله تعالى يقول في هذه الآية: إن من لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه لن يتأثر بموعظة، ولن يستجيب لطلب.. ويكون حاله في ذلك كحال الكافرين في قولهم لأنبيائهم: {قَالُوا سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْوَاعِظِينَ} (الشعراء: 136)
ومثل ذلك ما ورد في السنة كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان يؤمن باله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً
النبي الهادي (55)
أو ليسكت) (1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليسكت) (2)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً، أو ليصمت) (3)
فقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأحاديث الإيمان بالله واليوم الآخر هو الأساس الذي تنبني عليه تلك المكارم التي حض عليها.
قال: ولهذا.. فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكث في قومه ثلاث عشرة سنة، يدعوهم إلى الإيمان، ويُربِّيهم عليه، دون أن يتعرض لمعظم الأحكام، أو ينهى عن معظم المحرمات.. مع أنه كان من أصحابه في ذلك الوقت من يمارس ما عُدّ بعد ذلك من الكبائر، كالخمر، والميسر وما شابه ذلك، ولم ينههم عنها صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: أجل.. فمن المشهور أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا بعد ثلاث سنوات خَلَوْنَ من هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.
قال: ولذلك كان لذلك النهي تأثيره الكبير الذي لم يكن ليحدث لو لم تفرش تلك الأرضية الصحيحة من الإيمان..
قلت: لقد ورد في الحديث ما يدل على تأثير ذلك النهي في المسلمين، فقد حدث أنس قال: كان لنا خمر غير فَضِيخِكُم هذا الذي تسمونه الفَضِيخ (4)، فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وماذاك؟ قال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم بهذا اللفظ، وروى البخاري بعضه.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) الفضيخ: شراب يتخد من البسر (التمر قبل أن يصبح رطباً ويسمى بلحاً) وحده من غير أن تمسه النار. انظر لسان العرب (3/ 45)
النبي الهادي (56)
القلاس يا أنس، قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل (1).
قال: وهكذا استقبل النساء الأمر بالحجاب..
قلت: أجل.. لقد حدثت عائشة قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ} (النور: 31)، شققن مُرُوطَهُنَّ، فاختمرن بها) (2)
قال: أتدري ما الثمرة التي ينالها من قدم الدعوة إلى العمل على الإيمان؟
قلت: هو لن ينال أي ثمرة.. فيستحيل على من لم يؤمن أن يخضع للتكاليف.
قال: الأصل هو ما قلت.. ولكنه بنوع من الهمة والاجتهاد قد ينال بعض الثمار.. ولكنها ثمار مرة سامة.. لقد عبر الله عن تلك الثمار، فقال: {إِنّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوَا إِلَى الصّلاَةِ قَامُوا كُسالىََ يُرَآءُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَىَ هَؤُلآءِ وَلاَ إِلَى هََؤُلآءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء: 142 - 143)
قلت: تقصد النفاق؟
قال: هكذا سماه القرآن.. فالمنافق هو الذي يتحرك بالحركات الظاهرة.. ولكن باطنه المقصود بتلك الحركات خاو منها.. ولهذا ذكر الله تعالى أنهم يقومون كسالى لأداء أوامر ربهم، ثم هم لا يقصدون بأدائها إلا الرياء والسمعة.
قلت: فهمت سر الرياء.. فما سر الكسل؟
قال: أرأيت لو أن الكسول النائم المستحلي لنومه عرض في السرير الذي ينام عليه حريق.. هل تراه يبقى نائما، أم تراه يسرع فارا بنشاط وحيوية؟
قلت: بل أراه يسرع فارا بنشاط وحيوية.
قال: لم؟
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري.
النبي الهادي (57)
قلت: إن ما يراه من نار تريد أن تلتهمه يجعله يطير من غير جناحين.
قال: فإن لم ير النار في تلك الحال، ولكن ثقة أخبره بأن حريقا سينزل بتلك الدار على تلك الساعة التي ينام فيها.. أتراه يظل نائما؟
قلت: لا.. فالأمر في الحالين سواء.
قال: فالإيمان هو الذي جعله يتحرك إذن بذلك النشاط.. فلولا الإيمان ما حدثت حركة جادة في الوجود كله.. لا في عالم الإنسان وحده.
قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُم مّلاَقُوا رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 45 - 46)، فالله تعالى يخبرنا ـ في هاتين الآيتين ـ أن أداء الصلاة شاق على الذين لا يؤمنون بها، ولا يخشعون فيها، وذلك لفقدان الإيمان بالعبادة المؤداة.
قال: قارن بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (جُعلت قرّة عيني في الصلاة) (1)
قلت: وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول لبلال ـ إذا حان وقت الصلاة ـ: (أرحنا بها يا بلال) (2)
قال: وفوق هذا كله فإن الدعوة إلى الإيمان قبل الدعوة للأحكام نوع من مضيعة الوقت.. ذلك أن الإيمان شرطٌ لقبول العمل، فلا يصح عمل بلا إيمان، كما قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ} (الأنبياء: 94)
قلت: ولأجل هذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر بالإيمان في كل مناسبة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (3)، وقوله ـ للرجل الذي قال له: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك ـ: (قل آمنت بالله، ثم استقم) (4)
__________
(1) رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
(2) رواه أبو داوود والطبراني في الكبير.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه النسائي والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
النبي الهادي (58)
لقد أشار القرآن الكريم إلى معنى هذا الحديث، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (فصلت: 30 - 31)
رأيت مراتب كثيرة تحت (الإيمان).. وهي مرتبة بمراتب مختلفة، فقلت: ما هذه المراتب.. أحسب الإيمان شيئا واحدا، فكيف عددت مراتبه؟
قال: في قضايا الإيمان أصول وفروع.. وليس من الحكمة أن أبدأ بالفروع قبل الأصول.. وفي الإيمان متفق عليه ومختلف فيه.. وليس من الحكمة أن أبدأ بالمختلف فيه قبل المتفق عليه.
قلت: ألم تقوله تأصيل شرعي، أم هو مجرد اجتهاد؟
قال: ما كان لعقلي أن يجتهد في أمر خطير كهذا.. إن هذا ما تدل عليه النصوص الصريحة القطعية.. فالله تعالى رتب مراتب الإيمان وأصوله فقال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: 177)، وقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} (النساء:136)
وذكر صلى الله عليه وآله وسلم الأركان الأساسية للإيمان، فقال: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره) (1)
__________
(1) رواه النسائي، والطبراني في الكبير.
النبي الهادي (59)
قلت: ألهذا وضعت الإلهيات قبل النبوات، ووضعت النبوات قبل السمعيات؟
قال: أجل.. فلا يمكن أن ندعو إلى النبوة قبل أن نعرف بالله.. إن تعريف (رسول الله) لا يستقيم إلا بعد التعريف بالله.. والإيمان بالغيبيات لا يستقيم قبل إثبات النبوات.
قلت: الواو في اللغة لا تفيد الترتيب.. فكيف فهمت أنت منها الترتيب؟
قال: أنا أعلم أن كلام الله مفصل تفصيلا عجيبا.. فلذلك لا يقدم ولا يؤخر إلا لغرض.. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم مشيرا إلى هذا: (أبدأ بما بدأ الله به) (1)
بالإضافة إلى أني وجدت أن الدعوة للإيمان بالله وتوحيده هي أساس دعوة الرسل ـ عليهم السلام ـ، كما قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف:45)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:25)
وقد ذكر الله تعالى عن كل من الرسل ـ عليهم السلام ـ أنهم افتتحوا دعوتهم بتوحيد الله، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (لأعراف: 59)، وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} (لأعراف:65)، وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (لأعراف: 73)، وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (لأعراف: 85)
ولهذا كان التوحيد هو أول ما يُدخل به إلى الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) (2)
ولهذا كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التأذين في أذن المولود، ليكون أول ما يسمعه توحيد الله،
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أحمد وأبو داود والحاكم.
النبي الهادي (60)
وقد كانت أم سليم الرميصاء أم أنس بن مالك خادم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسلمت وكان أنس صغيراً، لم يفطم بعد، فجعلت تلقن أنساً قل: لا إله إلا الله، قل أشهد أن لا إله إلا الله، ففعل، فيقول لها أبوه: لا تفسدي على ابني فتقول: إني لا أفسده (1).
قلت: أراك وضعت قائمة بأسماء الله الحسنى، ومراتبها..
قال: أجل.. إن أسماء الله الحسنى هي المعارف التي أذن الله فيها لوسائل إدراكنا البسيطة أن تتعرف بها على كمالات الألوهية، وهي لذلك من الأهمية بحيث لا يمكن مقارنتها بأي معرفة من المعارف الأخرى، لأن كل ما في الكون أثر من آثار أسماء الله.
وهي لذلك أبواب علاقتنا بالله، لأن لكل اسم من أسماء الله دلالته الخاصة التي تتطلب عبوديته الخاصة.
ولهذا أمرنا الله تعالى أن ندعوه بأسمائه الحسنى، مستشفعين بها إليه، ومتوسطين بها لديه، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180)
قلت: صدقت في هذا.. فالدعاء ـ في أصله ـ مقتضى من مقتضيات المعرفة بالله، فالمعرفة بأسماء الله هي التي تدعو إلى الثقة فيه، وهي التي تدعو إلى سؤاله، وقد أشار ابن عقيل إلى سر الصلة بين الدعاء وأسماء الله الحسنى، فقال: (قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معانٍ: أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يُدعى، الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يُدعى، الثالث: السمع، فإن الأصم لا يُدعى، الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يُدعى، الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يُدعى، السادس: القدرة، فإن العاجز لا يُدعى)
قال: وهكذا لو ذهبنا نعد مع ابن عقيل لوجدنا أن أسماء الله تعالى تقتضي رفع أيدينا إليه بالسؤال، بل إفراده في هذا الرفع.. ولهذا نرى امتزاج أدعيته صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء الله..
قلت: أجل.. ومما أحفظه من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا ورجل يصلي، ثم دعا:
__________
(1) سير أعلام النبلاء 2/ 305.
النبي الهادي (61)
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد دعا الله باسمه العظيم) (1)
وقد علم صلى الله عليه وآله وسلم من أصابه هم أو حزن أن يقول: (اللهم إني عبدك، ابن عبدك ابن أمتك في قبضتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب غمي) (2)، ثم بين أثر ذلك في نفسه، فقال: (فما قالها عبد قط إلا أبدله الله بحزنه فرحا)
قال: إن تأثير الدعوة إلى هذه الأسماء ليس مقتصرا على الدعاء فقط.. بل إن لها تأثيرا تربويا عظيما.. إنها تغير الإنسان كله.
قلت: لقد ذكرتني بقول العز بن عبد السلام: (فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من: الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات) (3)
ويقول مفصلا أسباب ذلك: (ذكرُ الله بأوصاف الجمال موجب للرحمة، وبأوصاف الكمال موجب للمهابة، وبالتوّحد بالأفعال موجب للتوكل، وبسعة الرحمة موجب للرجاء، وبشدة النقمة موجب للخوف، وبالتفرّد بالإنعام موجب للشكر)
وقد اهتم الغزالي في كتابه الجليل (المقصد الأسنى) بالبعد التربوي لأسماء الله الحسنى، فكان يذكر عند نهاية شرح كل اسم حظ العبد السلوكي منه، فهو يعتبر ولكل صفة من صفات
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجة وغيرهم.
(2) رواه ابن السني وابن حبان عن ابن مسعود.
(3) شجرة المعارف والأحوال، ص 1.
النبي الهادي (62)
الله تعالى أو اسم من أسمائه أثره الخاص به، والذي لا يمكن للإنسان الحصول عليه إذا لم يستولي على قلبه معنى ذلك الاسم او تلك الصفة، وهو معنى الإحصاء الذي ورد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة) (1)
قلت: لم أرك تذكر في هذا الباب ما يطنب الكثير في الدعوة إليه من..
قال: دعنا من لغوهم.. فلسنا أعرف بالله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: ولكنهم يقتبسون ما يذكرونه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قال: بم أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ينبئ عباده؟
قلت: لقد قال له: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50} (الحجر)
قال: فهل في أسماء الله الحسنى (ذو الساق.. وذو اليد..)؟
قلت: لا.. ولا ينبغي أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه.. ولكنهم يعتبرون ذلك صفات ولا يعتبرونه أسماء.
قال: فأين كلمة (صفات الله) في القرآن الكريم أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: لا أحفظ نصا في ذلك.
قال: ولا يوجد نص في ذلك.. إن المعرفة التي طولبنا بها هي معرفة الله بأسمائه الحسنى.. أما ما عداها.. فعقولنا أعجز من أن تحيط به أو تدركه.. ولذلك نفوض لله علم ما لا نعلم، ولا نشغل عقول العوام الغارقة في التشبيه في مثله.
رأيته في المرتبة الكبرى الثانية من مراتب الإيمان يضع النبوات.. فسألته عنها، فقال: إن النبوات هي العنصر الثاني من الأركان الأساسية للإيمان، ولذلك امتلأت آيات القرآن الكريم
__________
(1) الترمذي وابن ماجة.
النبي الهادي (63)
بالثناء عليهم وذكر قصصهم وأحوالهم لتملأ القلوب محبة لهم وإجلالا، وتشحن الطاقات قدوة وسلوكا، فيعيش المؤمن في صحبتهم، ويترفع من خلالها إلى الآفاق العليا من الكمال الإنساني.
قال: ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبب الأنبياء ـ عليهم السلام ـ إلى أمته، ويقص عليهم قصصهم.. بل يصف لهم أحيانا صورهم لتقريب ما يصفه القرآن الكريم من أحوالهم، قال: (رأيت عيسى بن مريم وموسى وإبراهيم فأما عيسى فابيض جعد عريض الصدر وأما موسى فآدم جسيم قالوا فابراهيم قال انظروا إلى صاحبكم) (1)، وقال: (رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا كأنه من رجال شنؤة ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأي)
قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم التأثير التربوي العظيم الذي يحمله الإيمان بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.. لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90)
قلت: لقد ظللت دهرا أبحث عن سر هذا.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في منتهى الكمال، فكيف يؤمر بالاقتداء بالأنبياء ـ عليهم الصلاة ـ.. أيؤمر الفاضل بالاقتداء بالمفضول؟
قال: ليس في هذا الباب فاضل ولا مفضول.. فالسلوك الطيب يمثل معناه ولا يمثل شخص من سلكه.. فسلوك الكرم الذي اشتهر به حاتم كان داعية للكرم ولم يكن داعية لحاتم.
قلت: فلم لم يكتف بالأمر بالمعاني، بل رأينا الله تعالى يأمرنا بالاقتداء بمن تلبس بها؟
قال: ذلك يرجع إلى أن المعارف تظل أرواحا مجردة قد لا تجد من يلتفت إليها حتى تجد الأجساد الطاهرة التي تمثلها، فتخرج من عالم المثال إلى عالم الواقع.
وكمثال على ذلك تمثيل الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ لدور التجرد والإخلاص في التعامل مع الله، وهذا ما تبرهن عليه خطبهم لأقوامهم في القرآن الكريم، والتي يحرص القرآن
__________
(1) البخاري:4/ 22.
النبي الهادي (64)
الكريم على ذكرها وتكرارها لتصبح في محل نظر المقتدي، فلا يتيه بالحوادث عن مواضع القدوة، قال تعالى على ألسنتهم: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} (هود:51)
ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يردد أقوالهم، اقتداء بهم فقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57)
ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يستحضر مواقف الأنبياء ليعيد إحياءها من جديد، فكان يستحضر في المواقف المختلفة ما حصل لإخوانه من الأنبياء، عن عبد اللّه بن مسعود قال: قسم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم قسماً فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه اللّه، قال، فقلت: يا عدو اللّه أما لأخبرن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بما قلت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فاحمر وجهه ثم قال: (رحمة اللّه على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) (1)
وفي موقف آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أقول كما قال أخي يوسف: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف: 92)) (2)
وقد استدل ابن عباس بهذا على مشروعية سجدة سورة ص، فعن العوام قال: سألت مجاهداً عن سجدة (ص) فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال: أوما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَان} (الأنعام: 84)، {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90)؟ فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه الصلاة والسلام، فسجدها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم) (3)
قلت: إن بعضهم لا يذكر الأنبياء إلا ويذكر معهم من الخطايا ما يندى له الجبين.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد، واللفظ لأحمد.
(2) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب ابن السني في عمل يوم وليلة.
(3) البخاري.
النبي الهادي (65)
قال: أولئك حجب.. فلا تلتفت للحجب..
قلت: كيف تقول هذا.. وهذا قد ذكر في كتب التفسير والحديث.. بل اعتبر الكلام فيه من الكتاب والسنة.
قال: ذلك دين كعب الأحبار ووهب بن منبه.. لا دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فمن رغب في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعليه أن يصفي عقله وقلبه وروحه وسره من كل تأثير غير التأثير الذي دعاه إليه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: أرك وضعت الإيمان بعوالم الغيب في المرتبة الأخيرة..
قال: أجل.. لأنه لا يمكنك أن تدعو للإيمان بالملائكة قبل أن تدعو لله ولرسول الله.
قلت: وعيت أنه لا يمكن الدعوة للملائكة قبل الدعوة لله.. ولكن لم لم يمكن الدعوة للملائكة قبل الدعوة لرسل الله؟
قال: لأنه لولا رسل الله ما عرفنا الملائكة.. إن العلماء يسمون هذا الباب من العقائد (السمعيات).. ذلك أنه يكتفى فيها بالأدلة المعصومة، ويعزل العقل عن البت فيها بقول أو بدليل إلا دليل الإمكان.
قلت: أجل.. وقد قال تعالى بعد ذكر كثر من الأخبار والقصص: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران:44)، وقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود:49)، وقال: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:102)، وقال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} (الكهف: 26)
قال: ولهذا الإيمان تأثيره النفسي والتربوي الكبير على الإنسان.. إنه ينقله من عالم البهيمية
النبي الهادي (66)
الذي تلقيه فيه غرائزه وأهواؤه إلى عالم الإنسانية الرفيع..
قلت: إن بعض الناس يمزجون الحديث بعالم الغيب بقصص هي أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقائق (1)؟
قال: عالم الغيب هو العالم الذي وردت النصوص المعصومة بالإخبار عنه، أما ما عداه فعالم خرافة.
قلت: ولكن تفاصيله مبثوثة في كتب العقيدة والتفسير والحديث والفقه؟
قال: كتبة تلك الكتب بشر.. يخطئون ويصيبون.. فخذ بصوابهم، واحذر من خطئهم.
قلت: فكيف أميز صوابهم من خطئهم؟
قال: ما جاءك من المعصوم، فهو معصوم.. وما جاءك من غيره، فخذ منه ودع.
قلت: فما آخذ، وما أدع؟
قال: ما دل عليه العقل.. فخذه.. وما لم يدل عليه، فدعه.
قلت: أأقدم عقلي على دين الله.
قال: لقد خلق الله لنا العقول لنميز بها الطيب من الخبيث والحق من الباطل، ولم يخلقها لنا لنودعها سجون الإهمال.
__________
(1) والأمثلة على دخول الخرافة هذه العوالم الغيبية كثيرة، منها ـ مثلا ـ الخرافات التي نسجت حول الملائكة الموكلين بالعرش ـ عليهم السلام ـ والتي تلبست بلباس الحديث الشريف، فذكرت أنهم (ثمانية أملاك على صورة الأوعال)، وأن (لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس)، و(أن فوق السماء السابعة ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش)
وقد رويت هذه الأساطير ـ للأسف ـ في كتب التفسير المعتمدة، وهي مما يحرص العامة على مثله، وهي خرافات لا حظ لها من العلم، ولا حظ لراويها وملفقها من الذوق، وقد رد عليها ـ بحمد الله ـ الشيخ محمد زاهد الكوثري، برسالة سماها (فصل المقال في بحث الأوعال) أو (فصل المقال في تمحيص أحدوثة الأوعال)، فذكر المصادر التي أخرجت هذه النصوص وتتبع أقوالهم تمحيصا وتحليلا وانتهى إلى أنّها أقاصيص دخيلة لا أصل لها.
النبي الهادي (67)
بعد أن انتهيت من سرد مراتب الإيمان على لقمان الحكيم وشرحها لي.. وجدت مرتبة العمل، فسألته عنها، فقال: إذا باشر الإيمان القلب هان عليك أن تكلفه التكاليف.. بل إن المدعو نفسه هو الذي يرغب إليك في أن تعمله ما كلفه به ربه.. فيؤديه عن طواعية ومحبة.
رأيته وضع في المرتبة الأولى (العبادات).. فسألته عنها، فقال: إن أول ما يبدأ به الداعية إلى الله في تقريب العباد إلى الله هو الدعوة إلى عبادة الله.. فإنه لا يثبت الإيمان في القلوب كالعبادات..
قلت: والسلوك!؟
قال: كما أن الإيمان يمهد للعبادة.. فإن العبادة تمهد للسلوك.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45)، وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:103)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (صوم ثلاثة أيام من الشهر تذهب وحر الصدر) (1)
وقال: (الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن، أو تملأ مابين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) (2)
قلت: تعلمت أن أبدأ الدعوة للإيمان من الإيمان بالله، فمن أين أبدأ الدعوة للعبادات؟
قال: بم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نبدأ.. فقد علمنا سيد الحكماء كيف نرتب الأمور في مراتبها، وكيف لا نعدو بها منازلها.. لقد حدث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل
__________
(1) رواه أحمد والنسائي في السنن وفي الكبرى.
(2) رواه مسلم.
النبي الهادي (68)
حين بعثه إلى اليمن: (إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب) (1)
وما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم هو ما تدل عليه النصوص الكثيرة الدالة على أن أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تربية أصحابه هو تربيتهم على إقامة الصلاة.. ومن ذلك ما ورد في سورة المزمل ـ وهي من أوائل ما نزل من القرآن الكريم ـ من الأمر بالصلاة، ومن الإخبار بحرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة عليها، كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المزمل:20)
بعد مرتبة (العبادات) وجدت مرتبة (الأخلاق)، فسألته عنها، فقال: إن من عرفته بالله، وعلمته كيف يعبد الله لن يصعب عليك أن تدعوه لمكارم الأخلاق..
قلت: لم.. ولم لم نبدأ بالدعوة لمكارم الأخلاق؟
قال: إن الأخلاق بجميع فروعها تستدعي قوة إيمانية عالية.. لأنها تستدعي ثبات داعي الحق أمام داعي الهوى.. ولا يمكن لداعي الهوى أن يدحر ويهزم إلا إذا قاومه داعي الإيمان.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (69)
قلت: ولكني أرى على البعض ـ رغم عدم تدينه ـ من الأخلاق ما ليس للمتدينين؟
قال: صدقت.. هناك من فطر على كثير من الأخلاق الطيبة، أو ربي عليها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في هذا لبعض أصحابه: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) (1).. ومثل ذلك أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن معادن الناس، فقال: (تجدون الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهيةً، وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ، وهؤلاء بوجهٍ) (2)
قلت: إن هذه النصوص تقضي على ما ذكرت من الدعوة للأخلاق.. فالأخلاق شيء فطري لا يحتاج إلى التكلف للدعوة إليها؟
قال: إن قولك هذا يشبه قول من يقول: إن الصحة شيء فطري.. ولا حاجة للأطباء.. أترى هذا القول مستقيما؟
قلت: لا.. فقد يمرض الصحيح، وقد يصح المريض.
قال: فكذلك الأخلاق.. فقد ينحرف صاحب الخلق الطيب، وقد يعتدل صاحب الخلق الخبيث..
قلت: فما الذي يرجح الطيبة أو الخبث؟
قال: الدعوة.. الدعوة إلى السلوك الطيب تنشر الطيبة.. والدعوة إلى السلوك الخبيث تنشر الخبث..
قلت: أهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: أجل.. بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن من أساسيات دعوته الدعوة إلى مكارم الأخلاق،
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (70)
فقال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (1)..
وكان يربي أمته على هذا.. فهو صلى الله عليه وآله وسلم يعرف البر ـ الذي هو جامع خصال الخير ـ بأنه حسن الخلق، فقد روي أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البر والإثم فقال: (البر حسن الخلق، والإثم: ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) (2)
وبما أن كل مؤمن يود أن يثقل ميزان حسناته يوم القيامة، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه (ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذي) (3)
وبما أن كل مؤمن يود أن يدخل الجنة، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن دور الخلق الحسن في ذلك.. فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: الفم والفرج (4).
وبما أن كل مؤمن يود أن يكون أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثير حسن الخلق في ذلك، فقال: (إن أقربكم مني مجلسا أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون) (5)
وبما أن كل مؤمن يود أن يكون أكمل المؤمنين إيماناً، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثير حسن الخلق في ذلك، فقال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم) (6)
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصحح النظرة القاصرة التي تحصر الدين في العبادة المجردة، دون أن تجعل له
__________
(1) رواه أحمد والبيهقي والحاكم وصححه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(4) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(5) رواه الطبراني في مكارم الأخلاق من حديث جابر بسند ضعيف.
(6) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
النبي الهادي (71)
أي علاقة بالأخلاق.. فكان يقول: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) (1)
وروي أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة تكثر من الصلاة والصيام غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هي في النار) (2)
قلت: أعرف ما ورد في النصوص المقدسة من فضائل الخلق الحسن، وأنا لا أسألك عنه الآن، ولا أجادلك فيه.. ولكني أسألك عن مراتب الخطاب.. فكيف عرفت أن الدعوة للأخلاق مرتبة من المراتب السابقة؟
قال: لا شك أنك تعرف حديث جعفر مع النجاشي.
قلت: أجل.. كيف لا أعرف تلك الخطبة الجليلة التي هي من أعظم خطب الدعوة للإسلام.
قال: فماذا قال جعفر للنجاشي؟
قلت: لقد قال له: (: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصناما ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ويأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام).. فعدد عليه أمور الإسلام، ثم قال: (وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، فصدقناه وآمنا واتبعناه على ما جاء به من الله تعالى: فعبدنا الله تعالى وحده ولم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم الله علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه.
النبي الهادي (72)
نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا إلا نظلم عندك إيها الملك) (1)
قال: بورك في قراءتك للخطبة جميعا، فكلها تبين أهمية الخلق ومدى تأثيره.. ففيها أن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي جذب القلوب إليه.. وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو إلى الأخلاق.. وفيها أن أساس اختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحبشة لهجرة أصحابه هو ما كان ينعم به ملكها من حسن الخلق.
بعد مرتبة (الأخلاق) وجدت مرتبة (الشرائع)، فسألته عنها، فقال: إن من عرفته بالله، وعلمته كيف يعبد الله، ثم ملأته بالحنين للقيم الرفيعة والأخلاق النبيلة، لن يصعب عليه أن يتلقى الشرائع الإلهية.. بل إنه سيتلقاها بطيبة نفس ورحابة صدر.
قلت: فما سر ذلك؟
قال: لأن الشرائع هي التنفيذ العملي لما تتطلبه الأخلاق الكريمة.. ولذلك نحتاج إلى التوعية بقيمة الأخلاق قبل الدعوة للتنفيذ العملي لها.
قلت: اضرب لي مثالا يقرب هذا.
قال: سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله كلها تدل على هذا وتمثل له.. سأضرب لك مثالا عن شريعة مهمة وخطيرة من شرائع الإسلام، وهي شريعة (تحريم الخمر)، وهي الشريعة التي لم يطق أي دين من الأديان ولا قانون من القوانين تنفيذها..
قلت: أجل.. ولكن الإسلام استطاع أن يشرع التشريعات المناسبة لها.. بل قد روي أن المسلمين كانوا هم الذين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لهم في الخمر بيانا شافيا.
قال: لقد حصل ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بث عن طريق الدعوة إلى الأخلاق الحسنة وعيا عاما بضرورة وضع التشريعات التي تحمي الأخلاق، وتحفظها، وتؤسس لها.. ولذلك صار
__________
(1) رواه ابن إسحق وغيره.
النبي الهادي (73)
المخاطبون هم الذين يطالبون بالتشريعات.. لا التشريعات هي التي تريد أن تفرض نفسها على المخاطبين.
قلت: ألا تضرب لي مثالا يقرب لي هذا؟
قال: أرأيت لو أن مدرسا أراد أن يضيف ساعات دراسة لتلاميذه مع إعطاء الحرية لهم في الحضور وعدمه.. هل تراهم سيحضرون؟
قلت: أما تلاميذ هذا الجيل.. فلا شك أنهم يتمردون عليه.
قال: ولو أنه قدم لذلك بما يملأهم رغبة في العلم وحبا له.
قلت: حينها سيطالبون هم بالساعات الإضافية.
قال: فهكذا يفعل الحكيم.. فهو لا يهجم على الناس بالتشريعات.. بل يدع واقعهم الإيماني والأخلاقي هو الذي يطلب تلك التشريعات.
قلت: إن بعض قومي يركزون في دعوتهم للدين على الدعوة للشرائع.. ولا أراهم يبدأون إلا بالحدود.. حتى توهم البعض أن الإسلام لم يأت إلا ليقطع ويجلد..
قال: أولئك جهلة منفرون.. إن مثلهم مثل من وصف طبيبا حكيما، فقال من غير مقدمات تبين مهنته: هذا رجل لا هم له إلا إسالة دماء من يقصده، وتقطيع أوصالهم.. فهل ترى أحدا من الناس سيقبل عليه؟
قلت: وكيف يقبلون عليه، وقد نفروا منه.. بل خوفوا منه؟
قال: ولو قال لهم: هذا طبيب خبير يستأصل الأدواء، وينعم الله على من يصحبه بالشفاء.. وهو إن اضطر إلى إسالة الدماء، فإنه لا يسيلها إلا ليداوي بها العلل، ويبرئ بها من الأسقام.
قلت: حينذاك سيقبل الجميع عليه.. بل يتوددون له حتى يطهرهم.
قال: وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد بث من الوعي الإيمان والأخلاقي في المجتمع ما جعل المجتمع هو الذي يطالب بتطهيره وإقامة الشرائع عليه.
النبي الهادي (74)
قلت: وعيت كل ما ذكرته في مراتب الخطاب، ولكن اعتراضا يفرض نفسه..
قاطعني، وقال: تقصد قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3)؟
قلت: أجل.. فإن ما ذكرته قد يصلح مع من عاش الإسلام في مراحله الأولى.. أما نحن الآن فلسنا في العهد المكي.. ولذلك قد ينهار كل ما ذكرته من مراتب.
قال: لا أقصد بما ذكرته لك أني أريد إعادة إحياء العهد المكي بحروفه وسنواته، فإن ذلك لم يقل به أحد من الناس، ولكني أقصد بأن الأسلوب الذي تعامل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع من دعاهم سواء في المرحلة المكية أو المدنية كله يدل على هذا..
سأذكر لك نصين قد يقربان لك هذا، ويفتحان لك من الآفاق في هذا الباب ما كان منغلقا:
أما أولهما.. فما ورد في حديث وفد ثقيف، فعن وهب قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يقول: (سيتصدقون، ويجاهدون إذا أسلموا) (1)
أما الحديث الثاني، فما حدث به نصر بن عاصم عن رجل منهم: أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلم على أنه لا يصلي إلا صلاتين فقبل ذلك منه (2).
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في كلا الحديثين تنازل ـ في الظاهر ـ عن بعض الأحكام، ولكنه في الحقيقة يعلم أن من التزم ببعض أحكام الشريعة التزاما صادقا سيؤدي به ذلك على التزام سائر أحكامها.. فالشريعة سلسلة من سلاسل الرحمة يؤدي بعضها إلى بعض لا محالة.
قلت: إن ما ذكرته من الحديثين عظيم.. فهل يمكن القياس عليه؟
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي في دلائل النبوة.
(2) رواه أحمد وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني وأبو نعيم، واسناده صحيح، ورجاله ثقات.
النبي الهادي (75)
قال: قس عليه ما تشاء.. واعلم أن الموت على المعصية خير من الموت على الكفر.
قلت: صدقت.. لطالما كنت أحلم بنص يدلني على هذا.. فأنا ـ أحيانا ـ تأتيني المرأة الحريصة على الإسلام.. ولكنه لا يحول بينها وبين دعوتها إليه إلا ترددها في الحجاب، فهي لا تحب أن تتخلى على ما تعودته من زينة.. وأنا أخشى أن أعرض لها الإسلام من دون حجاب، فأكون كمن أنقص من شرائع الإسلام ما لم يؤذن له بإنقاصه.
قال: فإذا لقيت مثل هذه المرأة.. فلا تحدثها عن الحجاب.. ولا عن أي شريعة قد تحجبها عن ربها.. فإن حلاوة الإيمان وحدها كافية لتجعلها تأتيك ـ بعد ذلك ـ لتسألك عن أحكام شريعة ربها.. بل لعلها تأتيك، وفي قلبها من الورع ما لم يكن يخطر على بالك.
وضعت الدفتر الثاني في محله، ثم فتحت الدفتر الثالث، وكان عنوانه (مراتب الأساليب).. وقد زين غلافه بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل:125)
قلت: أهذا كتاب نحو، أم كتاب بلاغة؟
قال: هو كتاب نحو وكتاب بلاغة.. فهو يبحث في الأساليب.. والأساليب تحتاج إلى كلا العلمين.
فتحت الدفتر، فلم أجد فيه لا نحوا ولا بلاغة، فقلت: أتسخر مني.. وإنت الحكيم؟
قال: لم أسخر.. أنا لم أقل لك إلا الحقيقة.. أليس النحو هو التعرف على مراتب الكلمات، فلا توضع إلا في محالها الصحيحة؟
أليس اللحن في النحو هو خلط تلك المراتب، بنصب الفاعل أو رفع المفعول.. فتختلط
النبي الهادي (76)
المراتب؟
قلت: بلى.. ما تقوله صحيح..
قال: فمن خلط في كلامه لمن يريد أن يدعوهم بأن رفع ما ينبغي أن ينصب، أو نصب ما ينبغي أن يرفع كان لاحنا.. واللحن في هذا أخطر من اللحن في النحو؟
قلت: ذلك صحيح.. فكيف ذكرت أنه يبحث في البلاغة؟
قال: أليست البلاغة هي أن يكون الكلام متناسبا مع موضوعه، فلا يتحدث في الرثاء بأسلوب التهنئة؟
قلت: بلى.. ذلك صحيح..
قال: فلهذا كان هذا الدفتر دفترا لنحو الدعاة وبلاغتهم.
ابتسمت، وقلت: لقد عرفت كيف تتخلص.
قال: من العلوم الضرورية للدعاة أن يعرفوا كيف يتخلصوا.. وإلا فسيكونون حجابا لا دعاة.
قلت: التخلص يحتاج إلى الحيلة.. والمسلم أشرف من أن ينزل إلى حضيض الاحتيال.
قال: حيلة أهل الحق ليست بالكذب ولا التزوير.. إنها حيلة تحاول أن تتسلل إلى القلوب لتطهرها من رجسها وتدلها على ربها.. وهي لا تجد لذلك من سبيل إلا الصدق.. فلا يمكن أن تكون النجاة في غيره.
فتحت الدفتر، فوجدت أول كلمة فيه (الحكمة)، فقلت: أليست كل هذه الدفاتر تبحث في الحكمة؟
قال: بلى..
النبي الهادي (77)
قلت: فكيف يتحول الكل جزءا؟
قال: الحكمة نوعان: حكمة في المنهج.. وهي الكل الذي تنضم حوله كل ما رأيته من أجزاء.. وحكمة في الأسلوب.. وهو ما وضعت مراتبه هنا.
قلت: فما دليلك عليه؟
قال: الآية التي أذنت لي في أن أبحث في هذا..
قلت: الآية التي زينت بها مدخل الكتاب؟
قال: كتاب الله أعظم من أن نختصره في التزيين.. إن كل آية من كتاب الله بحر من بحار العلم.. ولا خير في علم لم يزين مدخله بكلام ربه.
قلت: فما الفرق بين هذه الأساليب الثلاث؟
قال: من خلال اطلاعي على علاقة المخاطبين بالحقائق وجدت ثلاثة أصناف كبرى، تنطوي تحتها أصناف كثيرة.. وقد وجدت أن هذه الآية الكريمة تعلمنا الأسلوب الذي نخاطب به هؤلاء الثلاثة.
قلت: فما أول هذه الأصناف، وبم يخاطبون؟
قال: أولهم هم أهل البحث عن الحقائق، والاستعداد لتقبلها، وهم من غلبوا عقولهم على نفوسهم.. وهؤلاء يخاطبون بأسلوب (الحكمة) التي هي عرض الحقائق مع براهينها الدالة عليها.
قلت: وما الصنف الثاني، وبم يخاطبون؟
قال: هم من أصحاب النفوس التي تمتلئ رغبة ورهبة..
قلت: إن هؤلاء محجوبون بنفوسهم عن عقولهم، فكيف يمكنك خطابهم، وبينك وبين عقولهم تلك الحجب الكثيفة؟
قال: بالموعظة التي دلنا عليها ربنا.. فالموعظة هي التي يمكن التسلل من خلالها إلى
النبي الهادي (78)
العقول والقلوب والأرواح وجميع اللطائف.
قلت: وما الصنف الثالث، وبم يخاطبون؟
قال: هم أصحاب عقول، وأصحاب نفوس.. فهم لم يتمحضوا لعقولهم، ولم يتمحضوا لنفوسهم..
قلت: إن خطاب مثل هؤلاء صعب.
قال: لقد أرشدنا الله إلى استعمال الجدال الحسن مع هؤلاء..
قلت: لم؟
قال: لنميز خطاب النفس من خطاب العقل، ولنتسلل من خلال ذلك إلى خطاب العقل والروح والسر وكل لطائف الإنسان.
قلت: أترى انحصار الطوائف في هذا؟
قال: أجل.. لقد استقرأت كل طوائف الناس، ونوع الأسلوب الذي يتناسب معهم، فوجدت أن الآية تعلمنا كيف نخاطبهم جميعا (1).
__________
(1) ذكر الفخر الرازي وجه الانحصار في هذه الأساليب، فذكر أن أهل العلم ثلاث طوائف:
1. الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالدلائل القطعية اليقينية وهي الحكمة.
2. الذين تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة لا طلب المعرفة الحقيقية والعلوم اليقينية، والمكالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التي تفيد الإفحام والإلزام، وهذان القسمان هما الطرفان. فالأول: هو طرف الكمال، والثاني: طرف النقصان.
3. الواسطة، وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالموعظة الحسنة.
ثم تحدث عن مراتب هذه الأساليب، فذكر أن أدناها المجادلة، وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققون، وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة، وفيهم الكثرة والغلبة، وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة. (انظر: التفسير الكبير)
وقريب من هذا ما ذكره الغزالي في (القسطاس المستقيم) حين سأله رفيق التعليم عن أصناف الخلق وكيفية علاجهم، فذكر أنهم ثلاثة: (عوام، وهم أهل السلامة، وخواص هم أهل البصيرة وخواص الذكاء، ويتولد بينهم طائفة هم (أهل الجدل والشغب)
قال الغزالي: (فأدعو هؤلاء [العوام] بالموعظة، وأهل البصيرة بالحكمة، وأدعو أهل الشغب بالمجادلة)
النبي الهادي (79)
قلت: فحدثني عن الأسلوب الأول.
قال: هذا الأسلوب هو أصل الأساليب، ومبدؤها، ولا مندوحة للداعية إلى الله من تحصيل العلوم الموصلة إليه.
قلت: أيحتاج هذا الأسلوب إلى علوم؟
قال: أجل.. كل أسلوب من الأساليب يحتاج علوما خاصة به.
قلت: فما الذي يحتاجه هذا الأسلوب من علوم؟
قال: يختلف ذلك باختلاف من تريد أن تخاطبهم.. فإن كنت تريد أن تخاطب فيلسوفا بالحكمة، فعليك أن تكون عارفا بفلسفته، ومنهج تفكيره لتتسلل إليه من خلاله.
وإن كنت تخاطب رجل دين.. أي دين.. فعليك أن تكون مطلعا على دينه، وعلى المنهج العقلي الذي ارتضاه لنفسه لتخاطبه من خلاله.. وهكذا.. فالحكمة أن تخاطب العقول بما تفهم.. وأن تنطلق من البديهيات والمسلمات إلى ما لم يسلم لك، وما لم يقبل منك.
قلت: إن الحكمة بذلك تحتاج قدرات كبيرة.
قال: أجل.. ولهذا، فإن الله تعالى أثنى على الحكمة وأهلها ثناء عظيما في القرآن (1).. قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو
__________
(1) خلافا للعلم، فقد ذكر في مواضع الثناء والذم جميعا.
النبي الهادي (80)
الْأَلْبَابِ} (البقرة:269) (1)
وقد اعتبر القرآن الكريم الحكمة نوعا من أنواع النعم التي من الله بها على عباده المؤمنين، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 231)
وهو يخبره عن فضله على الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ بإعطائهم الحكمة، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} (آل عمران: 81)، وقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} (النساء:54)، وقال: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} (البقرة: 251)، وقال: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} (آل عمران:48)، وقال: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (صّ:20)، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (الزخرف:63)
وهو يمن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله أنزل عليه الحكمة، فقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: 113)، وقال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (الاسراء:39)
__________
(1) قال القرطبي تعليقا على هذه الآية: (إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها، لأنه قال لأولئك: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء: 85)، وسمى هذا خيرا كثيرا، لأن هذا هو جوامع الكلم (القرطبي: 3/ 330)
النبي الهادي (81)
قلت: فهل في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على هذا الأسلوب؟
قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها تدل على هذا الأسلوب حتى أن من الناس من سمى السنة (حكمة) مستنبطا ذلك من قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة:151) وغيرها من الآيات (1).
قلت: فاذكر لي مثالا يقرب لي هذا.
قال: سأذكر لك أمثلة على ذلك.. ولعلك تلتقي من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يزودك بالكثير من الأمثلة على هذا.
لقد حدث ابن عباس أن ضمادًا قدم مكة وكان من أزد شنوءة وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه فقال: يا محمد: إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟ فقال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد..)، قال: فقال أعد كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس (2) البحر، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وعلى قومك)، قال: وعلى قومي (3).
__________
(1) كما قال الشافعي: (الحكمة سنة رسول الله () وهو قول قتادة، قال أصحاب الشافعي: (والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً وتعليمه ثانياً ثم عطف عليه الحكمة، فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب، وليس ذلك إلا سنة الرسول ()، قال ابن القيم: (وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر) (مدارج السالكين: 2/ 472)
(2) قاموس البحر: هو وسطه ولجته (النهاية في غريب الحديث والأثر: 5/ 81)
(3) رواه مسلم.
النبي الهادي (82)
انظر هذا الرجل كيف اكتفى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الكلمات الممتلئة بفيوضات الحكمة.. اكتفى بها من غير جدل، ولا مراء، ولا خصومة.. وقد عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما تنطوي عليه نفسه من خير، فلذلك بايعه على أن يدعو قومه لله.
وهكذا في دعوته صلى الله عليه وآله وسلم لرجل لم يحفظ التاريخ اسمه، ولكنه حفظ لنا حكمته، والأسلوب الذي خاطبه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فعن حرب بن سُريج قال: حدثني رجل من بلْعَدَوِيَّة، قال: حدثني جدِّي قال: انطلقت إلى المدينة فنزلت عند الوادي، فإذا رجلان بينهما عنز واحدة وإِذا المشتري يقول للبائع؛ أحسن مبايعتي، قال: فقلت في نفسي: هذا الهاشمي الذي قد أضلَّ الناس أهو هو؟ قال: فنظرت فإذا رجل حسن الجسم عظيم الجبهة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من ثُعْرة نحره إلى سُرّته مثل الخيط الأسود شعر أسود، وإِذ هو بين طِمْرين قال: فدنا منا فقال: السلام عليكم، فرددنا عليه، فلم ألبث أن دعا المشتري فقال: يا رسول الله، قل له: يحسن مبايعتي، فمدَّ يده وقال: (أموالكم تملكون، إنِّي أرجو أن ألقى الله عزّ وجلّ يوم القيامة لا يطلبني أحد منكم بشيء ظلمته في مال ولا في دم ولا عرض إلا بحقه، رحم الله أمرأ سهل البيع، سهل الشراء، سهل الأخذ، سهل العطاء، سهل القضاء، سهل التقاضي)، ثم مضى، فقلت: والله لأقضينَّ هذا فإنه حسن القول، فتبعته فقلت: يا محمد، فالتفت إليَّ بجميعه فقال: (ما تشاء؟)، فقلت: أنت الذي أضللتَ الناس وأهلكتَهم وصدَدتهم عمَّا كان يعبد آباؤهم؟ قال: (ذاك الله)، قال: ما تدعو إليه؟ قال: (أدعو عباد الله إلى الله)، قلت: ما تقول؟ قال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي محمد رسول الله، وتؤمن بما أنزله عليَّ، وتفكر باللات والعُزَّى، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة)، قلت: وما الزكاة؟ قال: (يردّ غنينا على فقيرنا)؛ قلت: نِعمَ الشيء تدعو إليه. قال: فلقد كان وما في الأرض أحد يتنفس أبغض إليّ منه، فما برح حتى كان أحب إليّ من ولدي ووالديَّ ومن الناس أجمعين، فقلت: قد عرفتُ؛ قال: (قد عرفتَ؟) قلت: نعم؛ قال: (تشهد أن لا إِله إِلا الله وأنِّي محمد رسول الله، وتؤمن بما أُنزل عليّ)، قلت: نعم، يا رسول الله، إنِّي أرد ماءً عليه كثير من الناس فأدعوهم إلى ما
النبي الهادي (83)
دعوتني إليه، فإنِّي أرجو أن يتَّبعوك، قال: نعم، فادعهم؛ فأسلم أهل ذلك الماء رجالهم ونساؤهم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه (1).
رأيت في المرتبة الثانية من مراتب الأساليب (مرتبة الموعظة)، فسألته عنها، فقال: هي كل أساليب التأثير التي تخاطب بها النفوس لتمتلئ بحقائق الإيمان.
قلت: فمن أصحاب هذه المرتبة؟
قال: لقد ذكرهم الرازي، فقال: (هم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية) (2)
قلت: فهم وحدهم المخصوصون بهذه المرتبة إذن؟
قال: لا.. كل المخاطبين قد يحتاجون إلى هذه المرتبة.. وما ذكره الرازي هو الأعم الأغلب.
قلت: ما تعني؟
قال: إن كل إنسان مهما بلغت به مرتبته من الكمال العقلي، فإنه لا محالة صاحب نفس، وهي لا محالة تؤثر فيه، وتؤثر عليه.. ولذلك كان من كمال الخطاب العقلي مزجه بخطاب النفس.
قلت: فبم تخاطب النفس؟
قال: النفس ترغب وترهب، وتحب وتبغض، وتشح وتحرص.. فلذلك يتسلل إليها العاقل مما تحب ليوجهها إلى عوالم الحكمة والحقائق.
قلت: كيف ذلك؟
__________
(1) رواه أبو يَعْلى قال الهيثمي وفيه: راوٍ لم يسمَّ، وبقية رجاله وُثِّقوا.
(2) التفسير الكبير:20/ 288.
النبي الهادي (84)
قال: أرأيت اللص الحريص على جمع المال من حله وحرامه؟
قلت: هو مجرم بفعله.
قال: أعلم ذلك.. وأنا لا يهمني أن أحكم عليه.. بل كل همي هو التفكير في كيفية تخليصه من اللصوصية والإجرام.
قلت: أحسن وسيلة هي أن يزج به في السجن مع المجرمين.
قال: أترى السجن رادعا له؟
قلت: لو حوى السجن من أساليب التعذيب ما يقهر نفسه لتاب من جرائمه.
قال: فأنا أفعل هذا معه.
قلت: ألك علاقة بالشرطة؟
قال: لي علاقة بالشرطة الإلهية.. فأنا كما ذكرت لك من المخابرات الإلهية.. لا من المخابرات الأرضية.
قلت: صرح، فأنا لا أطيق فهم التلميح.
قال: إن هذا الرجل الذي برمجت نفسه على الخوف من الألم، والحرص على الراحة والسعادة.. أطرق نفسه من هذه الأبواب لأخرجه من ظلمات نفسه إلى نور الإيمان والحكمة.
قلت: كيف؟
قال: بالموعظة الحسنة.
قلت: فما الموعظة الحسنة.. وما ضوابطها.. وما سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها؟
قال: لن أجيبك أنا عن هذا.. فأنا الحكيم ولست الواعظ.. ولا ينبغي لي أن أتحدث خارج تخصصي.
قلت: فمن يجيبني؟
قال: إن علم الله صدقك، فسيرسل لك من يعلمك الموعظة، كما أرسل لك من يعلمك
النبي الهادي (85)
الحكمة (1).
رأيت في المرتبة الثالثة من مراتب الأساليب (مرتبة الحوار)، فقلت له: لقد ذكر القرآن (الجدل)، فكيف وضعت أنت (الحوار)؟
قال: أنا لم أرغب عن المصطلح الذي وضعه القرآن الكريم، ولكني وجدت أن الحوار هو المصطلح المتعارف عليه للدلالة على (الجدال بالتي هي أحسن)، ولا مشاحة في الاصطلاح.
زيادة على أن هذا المصطلح استعمله القرآن الكريم، قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة:1)، ففي هذه الآية إخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل الحوار في إقناعه المرأة.
وفي آية أخرى أخبر الله أن بعض ورثة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ استعمله في دعوة صاحبه لله، قال تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} (الكهف:37)
قلت: فمن يخاطب بهذا الأسلوب؟
قال: اثنان من الناس: إما من فيهم فطانة ظاهرة ترقوا بها عن العوام ولكنها ناقصة.. أو كانت الفطرة كاملة، ولكن باطنهم مشحون بالخبث والعناد والتعصب والتقليد.
قلت: فما المجادلة الحسنة، وما أصولها؟
قال: أهم أصولها أخذ الأصول التي يسلم بها المجادل، واستنتاج الحق منها، مع الإبتعاد عن اللجاجة والمراء والجدال المنهي عنه..
قلت: هلا ضربت لي مثال اعلى ذلك.
__________
(1) سنتحدث عن الموعظة في فصل (الواعظ) من هذه الرسالة.
النبي الهادي (86)
قال: لقد ضرب الغزالي لها مثلا، فقال: (وليته كانت له أسوة حسنة بإبراهيم الخليل _ صلوات الله عليه _ حيث حاج خصمه، فقال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (البقرة: 258)، فلما رأى أن ذلك لا يناسبه، وليس حسنا عنده عدل إلى الأوفق بطبعه والأقرب لفهمه، فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} (البقرة: 258)
قلت: فاذكر لي أصول هذا الأساليب وآدابها، فإن من قومي من يبدأون بالحوار، وينتهون بالجدل، ومنهم يبدأون بالحوار، وينتهون بالشغب.
قال: لست المكلف بتعليمك علوم هذا.. وإن تك صادقا، فسيقيظ الله لك من يعلمك ما طلبته (1)..
وضعت الدفتر الثالث في محله، ثم فتحت الدفتر الرابع، وكان عنوانه (مراتب الوسائل)، وقد زين غلافه بقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)، وتحته قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (2)
قلت: ما الذي تقصد بالوسائل؟
قال: أقصد بها كل الأدوات التي يستخدمها الداعي إلى الله من أجل تبليغ رسالة الله.
قلت: ألهذه الأدوات المراتب؟.. قد كنت أحسب أن الداعي إلى الله هو الذي لا يدخر أي أداة في سبيل تبليغ رسالة ربه.
__________
(1) انظر فصل (المحاور) من هذه الرسالة.
(2) رواه مسلم.
النبي الهادي (87)
قال: لكل شيء في هذا الوجود مرتبته الخاصة به.. فمن حاد به عنها وقع في الانحراف والضلال والإضلال.
قلت: فما الإضلال الذي يمكن أن يقع في هذا الباب؟
قال: أكثر الإضلال يقع في هذا الباب.. فقد يستعمل بعضهم من الوسائل ما لم يسمح له باستعماله، وقد يقدم بعضهم من الوسائل ما ينبغي أن يؤخر، وقد يؤخر ما ينبغي أن يقدم.
قلبت صفحات الدفتر، فوجدت أربعة مراتب كبرى، هي (العيان، واللسان، والإحسان، والسنان)، فقلت: أهذه مراتب هذا الباب؟
قال: هذه بعض مراتب هذا الباب.. أو هي مجامع مراتب هذا الباب.
قلت: فما العيان؟
قال: الإنسان.
قلت: لم أفهم.. كيف يكون الإنسان وسيلة؟
قال: الإنسان هو أعظم الوسائل.. وليس في الدعوة إلى الله أعظم من الإنسان.
قلت: تقصد لسان الإنسان، أم جميع الإنسان؟
قال: لسان الإنسان بعض الإنسان.. وهو وسيلة من الوسائل.. وهو أقصر بكثير من وسيلة (الإنسان)
قلت: أنت تعلم صعوبة حلي للألغاز، فوضح لي ما ترمي إليه.
قال: أرأيت لو أن خطيبا مفوها جاء بخطبة طويلة عريضة يصف فيها سلعة من السلع.. ثم جاء آخر لم يتحدث كلمة واحدة، وإنما عرض السلعة، وأراهم من خلال سلوكها وفوائدها قيمتها.. أيهم أقوم قيلا، وأفصح لسانا؟
النبي الهادي (88)
قلت: لا شك أنه الثاني.. فـ (ليس الخبر كالعيان) (1)
قال: فهكذا في عرضنا للإسلام.. قد نعرضه في مقالات وخطب.. وتظل تلك المقالات والخطب مجرد كلمات قد تبث فيها الحياة، وقد تظل ميتة لا يهتم لها أحد، ولا يستفيد منها أحد.. لكنا لو عرضنا الإسلام عبر النماذج الإنسانية الراقية، وقلنا للعالم: (هذا هو الإنسان الذي لا يصنع إلا في مصنع الإسلام) حينها سيدخل الناس في دين الله أفواجا.
قلت: تقصد صناعة القدوة؟
قال: إن البشر بطبيعتهم التي جبلوا عليها لا تكفي في تغييرهم الأقوال، وهم لذلك يحتاجون إلى النماذج الراقية التي تبعث الحياة في أجساد الكلمات.
قلت: فما مجامع هذا، وما أصوله، وكيف نصل إليه؟
قال: ذلك علم من العلوم لم يؤذن لي أن أبثه لك.. وإن كنت صادقا، فسيقيض الله لك من يعلمك علومه (2).
قلت: فاذكر لي دليلا يدل عليه.
قال: قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)، فقد أشار الله تعالى في هذه الآية إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم داعية إلى الله بأفعاله وسلوكه وآدابه.
قلت: فكيف جعلت اللسان في المرتبة الثانية؟
قال: لأن الله تعالى جعل اللسان هو وسيلة الخطاب.. ولذلك فإن الداعية إلى الله يستثمره
__________
(1) رواه أحمد وابن منيع والطبراني والعسكري وابن حبان والحاكم موقوفا على ابن عباس.
(2) انظر فصل (القدوة) من هذه الرسالة.
النبي الهادي (89)
أعظم استثمار في الدعوة إلى ربه.. لقد ورد لفظ: (قل) الداعي إلى استعمال هذه الوسيلة في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثمائة آية.. وقد أثني الله تعالى على أقوال الدعاة إلى الله، فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33)
وقد أخبر الله تعالى أنه ما أرسل من رسول إلا بلسان قومه، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (ابراهيم:4)
قلت: فهل استثمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الوسيلة؟
قال: أعظم استثمار.. فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدع مناسبة من المناسبات، ولا فرصة من الفرص إلا ودعا فيها إلى ربه..
فحينما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف دعاهم إلى الله بالقول، يقول ابن إسحاق: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر ثقيف.. فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه.
وحينما أمره الله بعرض نفسه على القبائل، كان يدعوهم بالقول، يقول ابن إسحاق: فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الإسلام، ويعرض عليهم نفسه، وما جاء به من الهدى والرحمة.
وبالقول استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إقناع وفد الأنصار بدعوة الحق حين التقى بهم، فقد قال لهم ـ كما يروي ابن إسحاق ـ: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
وكان القول وسيلة مبعوثيه صلى الله عليه وآله وسلم في إقناع مدعويهم، فقد قال مصعب بن عمير وهو مبعوثه صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة لزعيمي بني عبد الأشهل: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟
فهذه النصوص وغيرها كثير تبين أن اللسان من أهم وسائل الدعوة إلى الله.
النبي الهادي (90)
قلت: فكيف نستثمر هذه الوسيلة؟
قال: بكل ما يمكن أن تستثمر به.. بالموعظة التي تدمع لها العيون.. والخطبة التي ترتجف لها القلوب.. والحوار الذي يصد عن الباطل ويهدي إلى الحق.. والمعلومة التي يقضى بها على الجهل.. وهكذا فميادين اللسان لا يمكن حصرها.
قلت: إن ذلك يستدعي علوما كثيرة.
قال: أجل.. ففاقد الشيء لا يعطيه.. وما اللسان إلا ثمرة لما غرس في الجنان.
قلت: فبأي لسان نتحدث.. فالألسنة كثيرة؟
قال: لقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (ابراهيم:4)
قلت: إن ذلك يستدعي تعلم لغات العالم.
قال: أجل.. فما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.
قلت: فما الإحسان، وكيف جعلته في المرتبة الثالثة؟
قال: ألا تعرف البيت الذي يقول:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
قلت: بلى.. أعرفه.. فهذا البيت أشهر من نار على علم.. يعرفه منا الصغير والكبير، والنساء والرجال.
قال: أتدري لم يحفظونه؟
قلت: أجل.. فهو يعبر عن حقيقة تمتلئ بها نفوسهم جبل عليهم طبعهم، فلا يستطيعون الانفكاك عنها.
النبي الهادي (91)
قال: أي طبيعة؟
قلت: الإنسان بطبعه يميل إلى من أحسن إليه، ويحبه، ويخضع له.
قال: ولذلك كان الداعية إلى الله السائر على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يستثمر هذه الطبيعة ليتسلل منها إلى القلوب ليملأها بأنوار الهداية (1).
قلت: ألا تخاف أن تنبت هذه الوسيلة المنافقين؟
قال: قد تنبت المنافقين.. ولكنها قد تنبت الصادقين.
قلت: فلم لم تسد الذريعة التي تنبت النفاق؟
قال: وكيف أسد الذريعة التي قد تنبت الصادقين؟
قلت: إن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.
قال: إن أعظم مفسدة هي الضلال.. والضلال يتحقق في كل ما يبعد عن الله سواء كان كفرا أو معصية أو نفاقا..
قلت: فهل في السنة ما يدل على هذا؟
قال: ألم تقرأ قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:60)؟
__________
(1) يثير المبشرون وغيرهم في كتبهم ومواقعهم التبشيرية بين الحين والآخر شبهة مفادها أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة عبارة عن رشوة تستقبحها الضمائر النزيهة وأنه من غير المعقول أن يدعو المسلمون غير المسلمين إلى دينهم عن طريق دفع الرشاوى، حتى وصلت جرأة أحدهم لأن يسأل في وقاحة: (أليست هذه رشوة؟ يعطي ثروة مهولة لقوم، لكي يدخلوا الاسلام، أليس هذا شراء للضمائر والذمم؟)، ويصيح آخر في هستيرية: (أليس هذا من أسوأ أنواع الرشوة؟ أليس هذا شراء لضمائر الناس؟ أيعجز محمد عن إثبات دينه بالمعجزات الربانية والخوارق فيلجأ إلى أرخص الوسائل وأسهلها وهي شراء الولاءات؟ فبماذا تختلف هذه الأفعال عن قولنا أن الغرب يشتري حكّام العرب؟ فهي تدفع لهم حتى يخدموا مصالحها)
وسنتحدث عن جواب هذه الشبهة هنا.
النبي الهادي (92)
قلت: بلى.. إن هذه الآية تذكر مصارف الزكاة.
قال: ألا ترى أن من مصارف الزكاة التي نصت عليها الآية مصرف (المؤلفة قلوبهم)؟
قلت: بلى.. ولكن هل طبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الوسيلة؟
قال: أجل.. فما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهتدي إلا بهدي القرآن الكريم..
قلت: فحدثني بما ورد في ذلك ليطمئن قلبي.
قال: لقد روى علماء السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد غزوة حنين ـ بدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس، فأعطى أبا سفيان بن حرب 40 أوقية من الفضة و100 من الإبل وكذا ابناه يزيد ومعاوية، وأعطى حكيم بن حزام 100 من الإبل، ثم سأله مئة أخرى فأعطاه إياها، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة 100 من الإبل، وكذا أسيد بن جارية الثقفي والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، وقيس بن عدي، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، والأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف.
وأعطى العباس بن مرداس 40 من الإبل فقال في ذلك شعراً فأعطاه 100 من الإبل، وأعطى مخرمة بن نوفل 50 بعير، وكذا العلاء بن حارثة وسعيد بن يربوع وعثمان بن وهب وهشام بن عمرو العامري، فبلغ ما أعطى ممن ذكروا 14850 من الإبل.
قلت: إن البعض قد يرى في تفضيل أمثال هؤلاء الذين كانوا حربا على الإسلام إسرافا لا مبرر له؟
قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم الناس حكمة.. لقد رأى أن أمثال هؤلاء لا يجذبهم شيء كما يجذبهم الإحسان، فلذلك راح يطوق أعناقهم به.
قلت: فهل أثر هذا العطاء فيهم؟
قال: لقد حدث صفوان بن أمية عن نفسه بعد أن أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عطاءه، فقال: (والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى
النبي الهادي (93)
إنه لأحب الناس إلي) (1)
وحدث أنس عن أثر ذلك العطاء، فقال: (إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها) (2)
قلت: ولكن.. ألم يهز ذلك أولئك المؤمنين البسطاء الذين قضوا حياتهم كلها جهادا وتضحية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: لقد وجد بعضهم من ذلك، لكنه ما إن بين لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سر ذلك التفضيل حتى راحوا يسلمون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصرفه..
قلت: وما قال لهم؟
قال: سأحدثك بالحديث من أوله.. لقد حدث جمع من الصحابة (3) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصاب غنائم حنين، وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، فوجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثر فيهم القالة حتى قال قائلهم: يغفر الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن هذا لهو العجب يعطي قريشا، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا، وددنا أنا نعلم ممن كان هذا، فإن كان من أمر الله تعالى صبرنا، وإن كان من رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعتبناه.
فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم، قال: (فيم؟)، قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)، فخرج سعد يصرخ فيهم
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه ابن إسحاق، وأحمد عن أبي سعيد الخدري، وأحمد، والبخاري ومسلم من طريق أنس بن مالك، وهما عن عبد الله بن يزيد بن عاصم.. بروايات مختلفة، وقد حاولنا الجمع بينها.
النبي الهادي (94)
حتى جمعهم في تلك الحظيرة، حتى إذا لم يبق أحد من الانصار إلا اجتمع له، أتاه فقال يا رسول الله: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن جمعهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (هل منكم أحد من غيركم؟) قالوا: لا يا رسول الله إلا ابن أختنا، قال: (ابن أخت القوم منهم)، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالا فهداكم الله تعالى وعالة فاغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم، ومتفرقين فالفكم الله؟)، قالوا: بلى يا رسول الله، الله ورسوله أمن وأفضل.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟)، قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وماذا نجيبك؟ المن لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فأمناك، ومخذولا فنصرناك، ومكذبا فصدقناك)، فقالوا: المن لله تعالى ورسوله، فقال: (وما حديث بلغني عنكم؟)، فسكنوا، فقال: (ما حديث بلغني عنكم؟) فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا يغفر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتالفهم، أوجدتم يا معشر الانصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله تعالى لكم من الاسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رحالكم تحوزونه إلى بيوتكم، فو الله لمن تنقلبون به خير مما ينقلبون به، فو الذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار.. أنتم الشعار والناس دثار.. الأنصار كرشي وعيبتي، ولولا أنها الهجرة لكنت امرأ من الانصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار)، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله حظا وقسما.
قلت: لقد نجح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التعامل مع الحدث.
النبي الهادي (95)
قال: بالصدق نجح في التعامل معه.. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم ما تمتلئ به قلوبهم من محبة الله ومحبة رسوله، فلذلك خاطبهم بهما (1).
قلت: أبالمال وحده يمكن الإحسان؟
قال: لا.. الإحسان أعم من أن يقتصر على المال، ألم تسمع قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة:263)؟
قلت: بلى..
قال: فقد أشار الله في هذه الآية إلى أن القول المعروف والمغفرة قد يكونان خيرا من الصدقة.
قلت: فهل أثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء.
قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستعمل كل الوسائل ليجذب القلوب إلى التعرف على الله وعبادته..
قلت: فحدثني عن المغفرة.
قال: المغفرة من الأخلاق التي أمر الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبر أن لها من التأثير ما جعل القلوب تلتف به صلى الله عليه وآله وسلم.. قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)
وفي موضع آخر قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (لأعراف:199)
__________
(1) ذكر محمد بن عمر أن رسول الله (أراد حين دعاهم أن يكتب بالبحرين لهم خاصة بعده دون الناس، وهي يومئذ أفضل ما فتح عليه من الارض، فقالوا: (لا حاجة لنا بالدنيا بعدك)، فقال رسول الله (: (إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)
النبي الهادي (96)
وقد أخبر الله تعالى عن تأثير العفو والمقابلة بالحسنى في المودة، فقال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34)
قلت: فهل ورد في السنة ما يدل على هذا؟
قال: ذلك كثير.. منه ما حدث به جابر بن عبد الله أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت سمرة، فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس)، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
وقد كانت نتيجة هذا العفو أن رجع الرجل إلى قومه، وقال: (جئتكم من عند خير الناس) (1)
ومنه ما حدث به الرواة من قصة ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وأسره.. فقد ورد في بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة ولا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي، أحسنوا اساره)، فربطوه بسارية من سواري المسجد (2).
وفي رواية أخر أن ثمامة كان رسول مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك وأراد اغتياله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه تبارك وتعالى أن يمكنه منه، فدخل المدينة معتمرا وهو مشرك فدخل المدينة حتى تحير فيها فأخذ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله فقال: (اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه)، وأمر بلقحته ان يغدى عليه بها ويراح، فجعل لا يقع من ثمامة موقعا ويأتيه رسول
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (97)
الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: (ما عندك يا ثمامة؟) فيقول: (إيها يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن ترد الفداء فسل منه ما شئت)، فتركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان الغد فقال: (ما عندك يا ثمامة؟) قال: عندي ما قلت لك، وذكر مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أطلقوا ثمامة)، فأطلقوه فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: (أشهد ألا اله الا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلى، والله ما كان من دين أبغض إلى من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلى، والله ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلى، وان خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟) فبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يعتمر.
قال ابن هشام: فبلغني أنه خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبى فكان أول من دخل مكة يلبي، فأخذته قريش فقالوا: لقد اجترأت علينا، فلما قدمو ه ليضربوا عنقه قال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى اليمامة لطعامكم فخلوه، وقالوا: أصبوت يا ثمامة؟ فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتبعت خير دين، دين محمد، ووالله لا تصل اليكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا منها شيئا إلى مكة حتى أكلت قريش العلهز.
فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا)، فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل، وأنزل الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (المؤمنون:76) (1)
ومنه الحديث الذي سارت به الركبان من عفوه صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل مكة بعد كل ما صدر منهم
__________
(1) رواه البيهقي عن ابن اسحاق.
النبي الهادي (98)
في حقه وفي حق أصحابه وفي حق دعوته.. لقد روى جمع من الصحابة (1) قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من البيت استكف له الناس، وأشرف على الناس وقد ليط بهم حول الكعبة ـ وهم جلوس ـ قام على بابه فقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده، يا معشر قريش ماذا تقولون؟ ماذا تظنون؟)، قالوا: نقول خيرا ونظن خيرا، نبي كريم، وأخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاني أقول كما قال أخي يوسف: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف: 92)، اذهبو فانتم الطلقاء)، فخرجوا كأنما نشروا من القبور، فدخلوا في الاسلام.
قلت: فما السنان، وكيف جعلته في المرتبة الرابعة؟
قال: السنان هو أداة السلطان.. و(الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) (2)
قلت: ما دام بيد السلطان، فكيف وضعته هنا؟
قال: لأعرف أهله، فأدل السلطان عليهم.
قلت: ألا تكون بذلك واشيا؟
قال: بل أكون داعيا.. لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (3)
قلت: لم يذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث السلطان، فكيف ذكرته؟
قال: كل من تولى شيئا كان له السلطة عليه، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كلكم راعٍ، وكلكم
__________
(1) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن عبد الله بن عمر والبخاري في صحيحه عن مجاهد، وابن أبي شيبة، وابن إسحاق عن صفية بنت شيبة، والبيهقي عن عبد الله بن عمر، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبيدة.
(2) روي عن عثمان موقوفا ونحوه عن عمر موقوفا.
(3) رواه مسلم.
النبي الهادي (99)
مسؤولٌ عن رعيته، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته؛ والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته) (1)
قلت: بلى.. وهذا الحديث أشهر من نار على علم.
قال: فلذلك لا تغير منكرا بيدك إلا إذا كانت لك سلطة عليه، أو إذن من السلطة.
قلت: فسر لي ذلك.
قال: انظر.. فقد وضعت لهذا خمس حالات.. ووضعت لكل حالة حلها.
نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الأولى: (أن يكون للمغيِّر ولاية خاصة على ذي المنكر)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟
قال: أقصد ما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم من الولاية الخاصة، كولاية الوالد على ولده، والزوج على زوجته.. فلهؤلاء الحق في تغيير ما يرونه منكرا ممن تولوهم.. لقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا النوع من الولاية بقوله: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر) (2)، فقد أذن صلى الله عليه وآله وسلم في استعمال هذه الأسلوب في تربية الأولاد، ولكن بعد ثلاث سنين تجرب فيها جميع الوسائل الأخرى.
وهكذا.. إذا رأى الزوج من زوجته منكرا، فإنه يجب عليه أن يغيره بيده..
قلت: فللأب أن يقيم الحدود على ابنه، وللزوج أن يقيم الحدود على زوجته.
قال: لا.. ذلك للإمام الأعلى..
قلت: فما التغيير باليد إذن؟
قال: التغيير باليد ذو صور ومراحل عديدة.. منها استخدام اليد في إفساد آلات المنكر، أو إذهاب عين المنكر، كتحطيم أدوات شرب الخمر وإراقتها، وتهديم حاناتها، إذا لم تكن تصلح إلا
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه أبو داود والحاكم.
النبي الهادي (100)
لذلك، أو غلق الطرق المؤدية إليها، أو قطع المياه وأدوات الإنارة عنها، أو إفساد آلات الغناء الماجن المحرم، وإفساد أماكن بيعه وتوزيعه، إذا لم تكن تلك الأماكن صالحة إلا لذلك..
قلت: فقد انحصر الأمر في إفساد آلة المنكر.. والضرب.
قال: أما إفساد آلة المنكر، فلا يفسدها إلا إذا كانت لمحض المنكر.. وأما الضرب، فله حدود وضوابط لابد من التزامها، وإلا كان التغيير نفسه منكرا (1).
نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الثانية: (أن يكون للمغيِّر ولاية عامة على ذي المنكر)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟
قال: الولاية العامة هي ولاية الحاكم على رعيته.. وبما أن هذا الحاكم مفوض من الرعية بإقامة العدل، وتوفير الأمن، فقد أعطاه الشرع حق استعمال الشدة في محلها، ولأهلها.
قلت: فلم لم يضع طرقا أكثر رحمة، وأميل إلى الرفق؟
قال: أرأيت لو أن مريضا من الأمراض أصابه ورم عجز كل علاج عن شفائه، فلم ير الطبيب حلا لذلك إلا استئصال الورم بعملية جراحية.. أكان في ذلك رحيما أم قاسيا؟
قلت: ما دام لم يجد أي علاج.. فما وصفه عين الرحمة؟
قال: وبهذا جاء الشرع الممتلئ بالحكمة.. لقد وضع منهجا متكاملا في التربية والإصلاح في كل المجالات.. ثم جعل بعد ذلك للحاكم من السلطة ما يفرض به قوانين العدالة والرحمة.
قلت: إن البعض يشنع في مثل هذا (2).
قال: دعهم يشنعون، فإنهم بذلك ينصرون المستكبرين المجرمين.. فلا يدافع عن المجرم إلا مجرم، أو من يحلم بأن يصير مجرما.
__________
(1) ذكرنا الضوابط الشرعية لاستعمال هذه الوسيلة في كتاب (الأساليب الشرعية لتربية الأولاد) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)
(2) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (عدالة للعالمين) من هذه السلسلة.
النبي الهادي (101)
اسمع هذه الآية الشديدة التي تتحدث عن الجزاء المرتبط بهؤلاء: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:33)
واسمع الآية الأخرى التي تأمر بإقامة حد الزنا، وعدم الالتفات لما تمليه العواطف في ذلك: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور:2)
ألا ترى أن في تعليق الحاكم لافتة بأمثال هذا في كل المحال، سيردع كل محارب، وسيقمع نفس كل مجرم؟
قلت: بلى.. ذلك صحيح.
قال: فلهذا ورد في الأثر: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)
نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الثالثة: (ألا يكون للمغيِّر أي ولاية على ذي المنكر)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟
قال: هذا هو الأعم الغالب.. فأكثر أفراد الرعية لا سلطان لبعضهم على غيره.
قلت: فكيف يتم الإنكار باليد هنا؟
قال: ليس لذلك إلا سبيل واحد.
قلت: ما هو؟
قال: إذا كان الحاكم عادلا، وناصحا، ومهتما بشأن رعيته، أو فوض من يقوم بذلك، فإن على المؤمن أن يسعى إلى هؤلاء طالبا منهم أن يقوموا بتغيير المنكر بما أوتوا من وسائل الحزم.
قلت: فإن لم يكن.
النبي الهادي (102)
قال: لم يبق حينها إلا الجهاد باللسان.. فلا يحق لمسلم أن ينشر الفتنة بتغيير المنكر بيده.. إنه بذلك يغير منكرا واحدا، ويحيي مناكر كثيرة.
قلت: الجهاد باللسان مع الحاكم المقصر، أم مع المحكوم؟
قال: مع كليهما.. فكلاهما في منكر.. أما الحاكم فبسكوته، وأما المحكوم فبفعله.
نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الرابعة: (أن يكون لذي المنكر ولاية خاصة على من يقوم بتغيير منكره)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟
قال: كأن يكون ذو المنكر والد المغيِّر أو زوجها..
قلت: فما عسى هؤلاء المستضعفين أن يفعلوا؟
قال: يفرق هنا بين نوع المنكر ودرجته.. فإن لم يترتب عن تغيير المنكر باليد أي إيذاء أو ضرر، فلهما ذلك.. أما إذا ترتب عنه ضرر، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها (1).
نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الخامسة: (أن يكون ذو المنكر ذا ولاية عامة على من يقوم بتغيير منكره)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟
قال: هذه الحالة أخطر حالات إنكار المنكر، وأدقها، وأصعبها.. فهي ترتبط بالإنكار على الحاكم.
قلت: فما مصدر الصعوبة فيها؟
قال: الحاكم في نظر الشريعة يمثل أمرين: العدل، والأمن.. والحاكم الكامل هو الذي جمع
__________
(1) ذهب الغزالي إلى أن للولد مع والده الواقع في المنكر، أن يغيره بالمنع، بالقهر، بطريق المباشرة، (بأن يكسر مثلاً عوده، ويريق خمره، ويحل الخيوط من ثيابه المنسوجة من الحرير، ويرد إلى الملاك، ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقه، أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين إذا كان صاحبه معيَّناً، ويبطل الصور المنقوشة على حيطانه، والمنقورة في خشب بيته، ويكسر أوان الذهب والفضة، فإنَّ فعله في هذه الأمور ليس يتعلق بذات الأب، بخلاف الضرب والسب، ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه إلا أنَّ فعل الولد حق وسخط الأب منشؤه حبه للباطل وللحرام، والأظهر في القياس أنه يثبت للولد ذلك بل يلزمه أن يفعل ذلك) (انظر: الإحياء: 2/ 318)
النبي الهادي (103)
بين الأمرين.. فلذلك إن لم يترتب عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إخلال بكلا الجانبين، وجب الإنكار.. أما إذا ترتب عنه الإخلال بهما، أو بأحدهما، وجب استعمال وسائل أخرى بديلة.
قلت: عرفت العدل.. فما الأمن؟
قال: أن تنتشر الفوضى التي هي مرتع الفتن ومنبعها..
قلت: فهل نسالم مثل هذا الإمام؟
قال: السلام الذي يزين بالنصيحة، لقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك..
قلت: أجل.. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الدين النصيحة، فقيل له: لمن؟ فقال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1).
قال: وقد صرح صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن قتال الأئمة الظالمين، ما داموا لم يتدخلوا في شؤون الدينية الأساسية، فقال: (إنه يُستعمل عليكم أُمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال لا، ما صلُّوا (2).
-\--\-
ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة الأولى من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب..
لقد كنت أتخيل نفسي في الهند.. ومع هذا الرجل الحكيم.. ومع ذلك النبي الحكيم الذي امتلأ العالم جميعا بلطائف حكمته، وأنوار هدايته.. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.
سألت صاحبي عن لقمان الحكيم وكيف تركه، فقال: لقد ظللت فترة مهمة من عمري في صحبته، إلى أن توفاه الله، وهو في طريق الله.. وقد كان موته ـ كحياته ـ لا يختلفان.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.
النبي الهادي (104)
قلت: كيف ذلك؟
قال: لقد كنت أسير معه في بادية من البوادي.. وكان فيها بعض الحاقدين عليه، وعلى الدين الذي يدعو إليه، وعلى السلام الذي تمتلئ به نفسه.. فلذلك استغل فرصة من فرص غفلتنا، فراح يطعنه بما امتلأت به نفسه من حقد.
قلت: فكيف عرفتم الجاني؟
قال: لقد أقر بجنايته..
قلت: عجبا.. كيف يقر بجنايته.. وهو لم يلحظه أحد؟
قال: عندما قدمنا، فوجدنا صاحبنا مضرجا في دمائه، والبسمة تملأ شفتيه، والأسارير الصافية تملأ وجهه، وجدنا بجانبه قاتله يبكي عليه كما يبكي على أعز الناس.
قلت: إن هذا لعجيب.. أمجنون من قتله؟
قال: بل عاقل.. ولكن حقده غلب على عقله، فقتله.
قلت: فكيف غلب عقله على حقده، فندم؟
قال: لقد كان لقمان الحكيم هو سبب توبته وندمه.. لقد ظل لقمان داعية إلى الله إلى آخر قطرة من عمره.
قلت: إن ما تقوله عجيب.. كيف وقد قتل؟
قال: لقد حكى لنا قاتله من أمره ما قفت له شعورنا، وعلمنا منه أنه كان لصاحبنا من الصدق والإخلاص ما لم نكن نتصوره.
قلت: فما حكى؟
قال: بعد أن طعنه، ونفذت الطعنة القاتلة فيه، نظر إليه والبسمة تملأ شفتيه، وقال له: يا أخي.. ما أنا سوى بشر بسيط.. وجسدي الذي طعنته بشفرتك لا يختلف كثيرا عن التراب الذي تسير عليه.. فلا تنشغل بي عن السير إلى ربك.. سر إلى الله، فإنك إن سرت ترى العجائب.
النبي الهادي (105)
ثم قال له: إن كان لي حق في قتلك لي.. فقد أسقطته.. وأرجو أن نلتقي عند ربنا أخوين لندخل جميعا جنة الرضوان.. تلك الجنة التي لا غل فيها ولا حقد ولا صراع..
قال ذلك، ثم ابتسم ابتسامة عريضة، وقال: أعوذ بك يا رب أن يشقى هذا المسكين بسببي.. فافتح له من أبواب رحمتك وفضلك وهدايتك ما تريد الشياطين أن تغلقه في وجهه.
قلت: إن هذا مشهد مؤثر.. فما فعل القاتل؟
قال: لقد أخبرنا بما نزل على قلبه من أشعة النور التي حولته فردا من أهل الله، وقد صحبنا زمانا، ورأينا من علامات صدق توبته ما جعلنا نؤمن بعظم المنهج الذي اختاره الحكيم في الدعوة إلى ربه.. منهج الحكمة الذي استفاده من النبي الحكيم.
النبي الهادي (106)
قلت: فحدثني عن رحلتك الثانية.
قال: في رحلتي الثانية.. سرت إلى الطائف.. إلى تلك البلدة التي تشرفت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وهو يحمل أعظم رسالة في الأرض.. بل أعظم رسالة في الكون جميعا.. رسالة التعريف بالله، والدعوة إلى عبادته.
كنت قبل ذلك قد تشرفت بأداء عمرة في مكة المكرمة، ثم منها سرت إلى الطائف، وقد حاولت أن أنهج نفس الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رحلته إليها، لأستشعر الجهد العظيم الذي ناله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يؤدي رسالة ربه.. فنالني من الجهد في تلك الطريق ما لم ينلني في حياتي جميعا.
في الطائف شد انتباهي رجل كانت سيما الدعاة إلى الله تتجلى على جبينه ولسانه وجميع حركاته، وكأنه يعد حركاته عدا، فلا يتحرك حركة إلا وخلط فيها من الدعوة إلى الله ما يملأك بالعجب..
سأقص عليك القصة من البداية:
كان أول ما ظهر لي عند زيارتي للطائف أن أزور مقبرتها، فليس هناك واعظ يمسح الجفاء عن القلوب مثل المقابر..
في المقبرة رأيت صاحبي الذي أرشدني إليه معلم الهداية، والذي كان الناس يطلقون عليه (الأمير) (1) ينشد مخاطبا نفسه بأبيات الحريري المعروفة، والتي ضمنها مقامته الساوية:
أيا من يدعي الفهم... الى كم يا أخا الوهم
تعبي الذنب والذم... وتخطي الخطأ الجم
أما بان لك العيب... أما أنذرك الشيب
وما في نصحه ريب... ولا سمعك قد صم
أما نادى بك الموت... أما أسمعك الصوت
أما تخشى من الفوت... فتحتاط وتهتم
فكم تسدر في السهو... وتختال من الزهو
وتنصب الى اللهو... كأن الموت ما عم
وحتام تجافيك... وإبطاء تلافيك
طباعا جمعت فيك... عيوبا شملها انضم
إذا أسخطت مولاك... فما تقلق من ذاك
وإن أخفق مسعاك... تلظيت من الهم
وإن لاح لك النقش... من الأصفر تهتش
وإن مر بك النعش... تغاممت ولا غم
تعاصي الناصح البر... وتعتاص وتزور
وتنقاد لمن غر... ومن مان ومن نم
وتسعى في هوى النفس... وتحتال على الفلس
وتنسى ظلمة الرمس... ولا تذكر ما ثم
ولو لاحظك الحظ... لما طاح بك اللحظ
ولا كنت إذا الوعظ... جلا الأحزان تغتم
ستذري الدم لا الدمع... إذا عاينت لا جمع
يقي في عرصة الجمع... ولا خال ولا عم
كأني بك تنحط... الى اللحد وتنغط
وقد أسلمك الرهط... الى أضيق من سم
هناك الجسم ممدود... ليستأكله الدود
الى أن ينخر العود... ويمسي العظم قد رم
ومن بعد فلا بد... من العرض إذا اعتد
صراط جسره مد... على النار لمن أم
فكم من مرشد ضل... ومن ذي عزة ذل
وكم من عالم زل... وقال الخطب قد طم
فبادر أيها الغمر... لما يحلو به المر
فقد كاد يهي العمر... وما أقلعت عن ذم
ولا تركن الى الدهر... وإن لان وإن سر
فتلفى كمن اغتر... بأفعى تنفث السم
وخفض من تراقيك... فإن الموت لاقيك
وسار في تراقيك... وما ينكل إن هم
وجانب صعر الخد... إذا ساعدك الجد
وزم اللفظ إن ند... فما أسعد من زم
ونفس عن أخي البث... وصدقه إذا نث
ورم العمل الرث... فقد أفلح من رم
ورش من ريشه انحص... بما عم وما خص
ولا تأس على النقص... ولا تحرص على اللم
وعاد الخلق الرذل... وعود كفك البذل
ولا تستمع العذل... ونزهها عن الضم
وزود نفسك الخير... ودع ما يعقب الضير
وهيئ مركب السير... وخف من لجة اليم
كان ينشد هذه الأبيات بلحن عذب، زاد في عذوبته امتزاجه بحشرجة الدموع.. وقد أسال من دموعي بإنشاده وخشوعه ما غسل بعض القسوة من قلبي.
بعد أن انتهى من إنشاده خرج من المقبرة، فسرت خلفه من غير أن يشعر بي..
كان أول ما صادفنا بعد المقبرة رجل يعرض سلعة في مدخل السوق، ما إن رأى (الأمير) حتى أقبل مسرعا إليه، وقال: يا طبيب القلوب.. جد لي بموعظة تلين ما قسا من قلبي.
نظر إليه (الأمير) نظرة ممتلئة بالرحمة، وقال: (يا ابن آدم إنما تغدو في كسب الأرباح، فاجعل نفسك فيما تكسبه، فإنك لم تكسب مثلها) (2)
عاد الرجل إلى محله، وقد امتلأ عزيمة وإرادة.. وكأنه في ذلك الموقف البسيط قد شحن قلبه بما يعيد له الحياة.
سرت خلفه.. فلقيه رجل آخر، وطلب منه ما طلب الأول، فقال (الأمير): (من امتطى الصبر قوي على العبادة، ومن أجمع اليأس استغنى عن الناس، ومن أهمته نفسه لم يول مرمتها غيره، ومن أحب الخير وفق له، ومن كره الشر جنبه، ومن رضي الدنيا من الآخرة حظا فقد أخطأ حظ نفسه)
__________
(1) أشير به إلى الإمام إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الحمزي الحسني الهاشمي المعروف بالأمير (1141 - 1213 ه = 1729 - 1799 م) وهو واعظ، ومفسر، من متصوفي الزيدية، نعته الشوكاني بكونه (عالم الدنيا وحافظها، وخطيب الأمة وواعظها)، ولد وتعلم في صنعاء، ورحل إلى مكة مرات ثم استقر إلى أن توفي فيها.. من كتبه (فتح الرحمن في تفسير القرآن بالقرآن)، و(فتح المتعال الفارق بين أهل الهدى والضلال) و(مجموع) ذكر فيه مؤلفات والده وشيوخه وتلاميذه وتراجم بعض معاصريه.. انظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن علي الشوكاني، وانظر: الأعلام للزركلي.
وقد اخترناه لسببين: أولاهما أنه واعظ جمع بين الوعظ والسلوك، ولا يكمل الوعظ إلا بالسلوك.
والثاني: أنا أردنا أن نشير من خلاله إلى طائفة من طوائف الأمة التي لا تزال تتمسك بهدي نبيها (وبهدي أهل بيته الطاهرين، وهي (الزيدية)، وهي طائفة تنسب إلى زيد بن علي بن الحسين (79 - 122 هـ)، وتتفق مع الاثني عشرية (والتي سنشير إلى علم من أعلامها البارزين في عصرنا، وهو القمي في الفصل الأخير) في ترتيب الأئمة حتى الإمام علي زين العابدين، ولكنها تقول بإمامة زيد بدلاً من محمد الباقر.. ومن أعلامها البارزين غير الأمير محمد بن إبراهيم بن الوزير (775 - 840 هـ)، ومحمد بن إسماعيل بن الأمير (1099 - 1182 هـ)، ومحمد بن علي الشوكاني (1173 - 1250 هـ)
(2) هذه الموعظة والمواعظ التي أضعها بين قوسين هي لابن السماك، كما في (صفة الصفوة)
النبي الهادي (107)
لقيه بعد ذلك رجل يظهر من مظهره أنه صاحب وظيفة دينية في تلك البلدة، فأسرع إليه (الأمير)، وقال: أخي.. أنت مثل نفسي.. فاسمح لي أن أخاطبك بما أخاطب به نفسي.
قال الرجل: قل ما بدا لك.. فلطالما أحييت قلوبنا الميتة، وأسلت عيوننا الجافة.
قال (الأمير): (أوصيك ـ أخي ـ بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك، فاجعله من بالك على حالك، وخفه بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك، واعلم أن الذنب من العاقل أعظم من الأحمق، ومن العالم أعظم من الجاهل، وقد أصبحنا أدلاء بزعمنا والدليل لا ينام في البحر)
ثم سكت قليلا، وقال: لقد كان المسيح عليه السلام يقصدنا حين قال: (حتى متى تصفون الطريق للدالجين وأنتم مقيمون في محلة المتحيرين؟ تصفون البعوض من شرابكم وتسترطون الجمال بأجمالها) أي أخي كم من مذكر بالله ناس لله، وكم من مخوف بالله جريء على الله وكم من داع إلى الله فار من الله. وكم تال لكتاب الله منسلخ من آيات الله)
قال ذلك، ثم انصرف تاركا الرجل لدموعه.. سرت خلفه، فرأيته قصد جمعا يبدو أن الخلاف دب بين بعضهم، فما إن رأوه حتى فتحوا له الطريق، فقال: (إن استطعتم أن تكونوا كرجل ذاق الموت وعاش ما بعده، فسأل الرجعة، فأسعف بطلبه، وأعطي حاجته فهو متأهب مبادر، فافعلوا، فإن المغبون من لم يقدم من ماله شيئا ومن نفسه لنفسه)
قال ذلك، ثم انصرف عنهم، وقد عالج ما حل بهم من غير خطبة ولا قضاء.
سرت خلفه، فلقيه رجل في موكب كمواكب الملوك والأمراء.. فلما رآه (الأمير) أسرع، وكأنه يفر بنفسه، فأسرع خلفه بعض من كان في ذلك الموكب، وقال له: إن الأمير يطلبك..
قال (الأمير): وما يريد من فقير مثلي؟
قال: يريد أن تلين من قلبه ما قسا، وتسيل من دموعه ما جف.
النبي الهادي (108)
ذهب (الأمير) معه، وحدثه، ولم أسمع من حديثه إلا قوله له: (يا أمير المؤمنين إن لك بين يدي الله تعالى مقاما وإن لك من مقامك منصرفا، فانظر إلى أين منصرفك، إلى الجنة أم إلى النار؟)
قال له: زدني
فقال: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ولدا، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك.
بكى الأمير بكاء شديدا، حتى قال بعض رفقاء الأمير مخاطبا (الأمير): (ارفق بأمير المؤمنين) فقال: (يا فلان.. تقتله أنت وأصحابك وارفق به أنا)
فقال الأمير: لا تسمع إليه.. زدني رحمك الله.
قال (الأمير): يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من اصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة) (1)
فبكى الأمير، وقال له: عليك دين.
قال (الأمير): نعم، دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي.
قال الأمير: إنما أعني دين العباد.
قال (الأمير): إن ربي لم يأمرني بهذا، أمر ربي أن أوحده وأطيع أمره، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذريات:56 ـ 58)
قال الأمير: هذه ألف دينار، خذها، فأنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادتك.
قال (الأمير): سبحان الله، أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك
__________
(1) رواه ابن سعد وابن عساكر.
النبي الهادي (109)
الله ووفقك.
قال (الأمير) هذا، ثم انصرف تاركا الأمير لدموعه..
ظللت طيلة النهار أسير خلف (الأمير) من غير أن يشعر بي، وقد رأيته لا يترك أحدا إلا وعظه ودعاه.
بعد أن رأيت كل ذلك اقتربت منه، وقلت: لكأني بك أحد الذين أبحث عنهم.
نظر إلي، وقال: إن كنت تبحث عن الذي يسيل ما جف من الدموع، ويلين ما قسا من القلوب (1)، فقد ظفرت بحاجتك، وأنا ذلك الرجل.
قلت: ففمك هو الفم الثاني.
قال: إن كان الفم الثاني هو فم الواعظ، ففمي هو فم ذلك الفم.
قلت: فهل تأذن لي في صحبتك لأتعلم على يديك من فنون الهداية ما يجعلني وارثا من ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: ذلك لك لا لي.. فما كان لي أن أرد من قصدني.
قلت: كيف يكون ذلك لي، وأنا الذي أضع نفسي بين يديك لتعلمني مما علمك الله؟
قال: إن تحليت بحلة أهل العلم، وتأدبت بآداب أهل الورع، كنت صالحا لتلقي هذه العلوم، وإلا فإن في هذه العلوم فتنة، فلا تكفر.
قلت: فتنة.. أي فتنة؟.. هل الدعوة إلى الله فتنة؟
قال: ليست الدعوة إلى الله هي الفتنة.. ولكن الفتنة قد تعرض للداعية إلى الله بما يراه من إقبال الناس عليه، فيتخذهم إلها من دون الله.
__________
(1) أشير إلى الحديث المعروف: وعطنا رسول الله (موعظةً بليغةً وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودعٍ فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبدٌ حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ (رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح)
النبي الهادي (110)
قلت: فما المخرج من ذلك؟
قال: أن لا تدعو إلا نفسك، وأن لا تعظ إلا نفسك.
قلت: إنما قصدتك ليجعل الله مني نورا من أنوار الهداية، فكيف أكتفي بنفسي؟
قال: إذا وعظت غيرك، فكن في موعظتك لغيرك واعظا لنفسك، فلا خير فيمن يعظ ولا يوعظ.
قلت: أكل ما سمعته منك كان مواعظ لنفسك؟
قال: أجل.. ولولا ذلك ما خشعت القلوب، ولا سالت الدموع؟.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا إلى ذلك: (أوحى الله إلى عيسى ابن مريم: عظ نفسك بحكمتي، فان انتفعت فعظ الناس، وإلا فاستحي مني) (1)
-\--\-
لم أصحب هذا الرجل الفاضل إلا أربعة أيام فقط.. ولكنها كانت ـ بالنسبة لثمراتها وعلومها ـ كأربعة أعوام.. لقد كانت ـ كما قال ابن عطاء الله في حكمه ـ: (رب عمر اتسعت آماده وقلت أمداده، ورب عمر قليلة آماده كثيرة أمداده)
في مساء اليوم الأول سرت معه إلى مجلس من المجالس، وكان ذلك المجلس مكتظا بالحضور، وكلهم شوق ولهفة لسماعه.
صعد (الأمير) منصة متواضعة، وقال: سلوني.. ولا تسألوني إلا ما ينفعكم..
__________
(1) رواه الديلمي.
النبي الهادي (111)
قام رجل تبدو عليه آثار النعمة، وقال: أصدقك القول.. أنا رجل من أثرياء هذه المدينة.. وهم في سائر المناطق ـ ماعدا هذه المدينة ـ يسمونني (رجل أعمال).. وأنا ألقى الاحترام حيث حللت.. ولكني في هذه المدينة لا أجد من الاحترام ما أجد في تلك المناطق.
نظر إليه (الأمير)، وقال: ما حاجتك؟
قال الرجل: أريد منك أن تعظ هؤلاء في هذا.. ألم يأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإنزال الناس منازلهم؟.. فأريد منك أن تعظهم في هذا.
قال (الأمير): أهذه هي حاجتك؟
قال الرجل: أجل.. هذه أول مرة أحضر مجلسك هذا.. وقد علمت مدى تأثيرك.. فلذا طلبت منك ما طلبت.. ولك عندي من الجزاء بعدها ما تريد.
قال (الأمير): فاسمع مني هذه القصة التي رواها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته.. واعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يروها لنا لنتسلى، وإنما رواها لنتأدب ونتعظ.
قال الرجل: هات نسمع.. فما أحلى القصص.. أنا أسافر من أجل القصص المسافات الطويلة.. وأصرف الأموال الكثيرة.
قال (الأمير): لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ثلاثةً من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص فقال: أي شيءٍ أحب إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ، وجلدٌ حسنٌ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس؛ فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لوناً حسناً. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، فأعطي ناقةً عشراء، فقال: بارك الله لك فيها.
فأتى الأقرع فقال: أي شيءٍ أحب إليك؟ قال: شعرٌ حسنٌ، ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس: فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعراً حسناً. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرةً حاملاً، وقال: بارك الله لك فيها.
فأتى الأعمى فقال: أي شيءٍ أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر الناس،
النبي الهادي (112)
فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاةً والداً.
فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم.
ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكينٌ قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيراً أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرةٌ. فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيراً، فأعطاك الله!؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكينٌ وابن سبيلٍ انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري؟ فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيءٍ أخذته لله عز وجل. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك (1).
صاح الرجل: حسبك.. حسبك.. والله لكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عني.. لقد كنت فقيرا، فأغناني الله.. وكنت مبتلى فعافاني الله.. وأنا أعوذ بالله من أن أسقط في الاختبار.. وإني أشهدك وأشهد هذا الجمع المبارك أن بابي مفتوح لمن يريد، وأناشد كل من رددته أو صددت دونه بابي أن يأتي إلي ليأخذ ما يريد، ويدع ما يريد.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (113)
قام آخر، وقال: أنا تاجر.. والتاجر ـ كما تعلم ـ يتعامل مع أموال الناس.. وأنا ـ أحيانا ـ يأتيني الرجل بسلعة من سلعه لأبيعها له.. ثم يغيب عني، فلا أراه.
قال (الأمير): فما تفعل في المال الذي تستفيده منها؟
قال الرجل: أنتفع به.. ليس لي إلا ذلك.. لقد ذكرت لك أن الرجل يضع سلعته عندي، ثم لا أراه بعدها.
قال (الأمير): اصدقني.. هل تسر لمجيئه إن جاء؟
قال الرجل: لولا أني في هذا المجلس، وأمامك، ما صدقتك.. أنا لا أسر لمجيئه، بل أحيانا أدعو الله أن يضل عن محلي، فلا يراه ولا يدله أحد عليه.. وأحسب أن كل إنسان في محلي يتخذ نفس الموقف.
قال (الأمير): فاسمع هذه القصة التي قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وحاول أن تطبقها على نفسك.. لقد ذكر رسول الله أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا، قال: فائتني بالكفيل، فقال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني تسلفت من فلان ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضى بك، وسألني شهيدا فقلت: كفى بالله شهيدا، فرضى بك، وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أجد، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا، فلما نظرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بألف دينار وقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي
النبي الهادي (114)
أتيت فيه! قال: هل كنت بعثت إلي شيئا؟ قال: أخبرتك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه، قال: فان الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بألف دينار راشدا) (1)
قال الرجل: فهمت القصة.. وعلمت أمانة هذا الرجل.. ولكن هل ترى من الحكمة أن أرمي المال في الشارع، ثم أقول له: (اذهب إلى فلان)
قال (الأمير): رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد هذا.. إن القصة لا تؤخذ بحروفها، بل بمعانيها.
قال الرجل: فكيف أطبقها علي.. أو: كيف أستفيد منها في وضعي.
قال (الأمير): إذا جاءك الرجل، فسجل كل ما يرتبط به من معلومات.. فإذا وفقك الله وبعت سلعته، فاكتف بحقك منها، وأرسل إليه ليأخذ حقه.
قال الرجل: أحيانا تكون السلع بسيطة.. فهل أتكلف كل هذا التكلف لأجلها.
قال (الأمير): ليس في الأمانة صغير ولا كبير.. ألم تسمع قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران:75)؟
أترضى ـ وأنت المنتسب إلى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن تكون أدنى من ذاك الإسرائيلي؟
قال الرجل: لا.. لا أرضى.. وبورك فيك.. وأعاهدك وأعاهد هذا الجمع المبارك أني سأبحث عن كل صاحب أمانة لأرد له أمانته.. فما كان لهمتي أن تكون أقصر من همة ذلك الإسرائيلي (2).
__________
(1) رواه البخاري.
(2) لم نقصد بهذا احتقار الإسرائيلي، فالمسلم يعتقد أن كل المسلمين في جميع الأزمنة والأمكنة أمة واحدة.. وإنما أردنا من هذا أن الهمة تستثار بذكر أعمال الصالحين.
النبي الهادي (115)
قام رجل آخر، وقال: اسمح لي يا طبيب القلوب.. واسمحوا لي أيها الجمع المبارك أن أبث إليكم شكواي.. أنا رجل كنت في رغد من الدنيا، وفي وافر من الصحة، وفي رفيع من المناصب.. لكن كل ذلك ولى وجهه عني.. ولست أدري لم.. ولست أدري ما المخرج.. أنا الآن أشعر كأني داخل كهف مظلم لا يتسرب إلي من خلاله أي شعاع من أشعة الأمل.
قال ذلك، ثم جلس، فقال (الأمير): سأقص عليك قصة رواها لنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.. حاول أن ترتقي لتفهمها، وتطبقها على حالك.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (انطلق ثلاثة نفرٍ ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرت صخرةٌ من الجبل، فسدت عليهم الغار؛ فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
قال رجلٌ منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً. فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقضهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت ـ والقدح علي يدي ـ أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي ـ فاستيقظا فشربا غبوقهما.. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.
قال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عمٍ كانت أحب الناس إلي، فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنةٌ من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينارٍ على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، قالت: اتق الله، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها.. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجلٍ واحدٍ ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري،
النبي الهادي (116)
فقلت: كل ما ترى من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزيء بي؟! فقلت: لا أستهزيء بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون (1).
قال الرجل: بورك فيك.. لقد دللتني على المخرج.. لكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث معي، ويبشرني.. فجزاك الله عني كل خير.
قام شاب من الجمع، وقال: أنا ـ في الحقيقة ـ أمثل مجموعة شباب من هذه المدينة.. نحن طلبة بالجامعة الأمريكية بلبنان.. نحن ملتزمون باطنا.. ولكنا ـ في الظاهر ـ نستحيي من إظهار انتسابنا للإسلام.. فلذلك نحاول إخفاءه قدر ما استطعنا.. حتى أنا ـ إذا كنا في الجامعة ـ لا نلقي السلام الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل نلقي التحية التي تعارف عليها طلبة هذه الجامعة..
قال (الأمير): أتخشون من إدارة الجامعة أن تطردكم منها إن أظهرتم التزامكم بالإسلام؟
قال الشاب: لا.. الإدارة تسمح بالحرية الدينية..
قال (الأمير): فلا يمنعكم من الالتزام الظاهر بآداب الدين إلا ما ترونه من سخرية زملائكم؟
قال الشاب: أجل.. لقد جربنا أن نفعل ذلك.. فضحكوا علينا.. بل سمونا (رجعيين)، وبعضهم سمانا (إرهابيين)
قال (الأمير): فاسمع مني هذه القصة التي قصها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في وقت كانوا يجدون أكثر مما تجدون.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحرٌ، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلاماً يعلمه، وكان في
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (117)
طريقه إذا سلك راهبٌ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابةٍ عظيمةٍ قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره. فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي؛ وكان الغلام يبريء الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء.
فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرةٍ فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك، فآمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك ربٌ غيري؟! قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبريء الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب؛ فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في
النبي الهادي (118)
قرقورٍ (1) وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك. فقال له الملك: ما فعل بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحدٍ، وتصلبني على جذعٍ، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيدٍ واحدٍ، وصلبه على جذعٍ، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك. قد آمن الناس. فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌ لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق (2).
بكى الشاب، وقال: ما أعظم التضحية التي قدمها هؤلاء..
قال (الأمير): لقد حدث خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم
__________
(1) القرقور بضم القافين: نوعٌ من السفن.
(2) رواه مسلم.
النبي الهادي (119)
تستعجلون) (1)
بكى الشاب، وقال: لو ذكرت هذا لزملائي لامتلأوا حياء من أنفسهم.
قال (الأمير): لقد حدث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لما كانت الليلة التي أسرى بي فيها وجدت رائحة طيبة فقلت: ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها، قلت: ما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت بنت فرعون: أبي؟ فقالت: لا ولكن ربي وربك ورب أبيك الله، قالت: وإن لك ربا غير أبي؟ قالت: نعم، قالت: فأعلمه بذلك؟ قالت: نعم، فأعلمته، فدعا بها فقال: يا فلانة! ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله، فأمر ببقرة من نحاس، فأحميت ثم أخذ أولادها يلقون فيها واحدا بعد واحد، فقالت: إن لي إليك حاجة! قال: وما هي؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد فتدفننا جميعا! قال: ذلك لك لما لك علينا من الحق، فلم يزل أولادها يلقون في البقرة حتى انتهى إلى ابن لها رضيع فكأنما تقاعست من أجله فقال لها: يا أمه! اقتحمي، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ثم ألقيت مع ولدها، وتكلم أربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم) (2)
قام رجل من الجمع، وقال: أنا رجل حبب الله إلي الصلاة.. وأحيانا يأتيني من يزعجني عنها.. فأرفع صوتي غضبا عليه.. فهل ترى في هذا ما يتنافى مع آداب الشريعة؟
سكت (الأمير)، حتى بدا للجمع أنه لا يريد إجابته.. فقام آخر، وقال: أصارحك.. أنا رجل أحب المظاهر.. وأعظم كل صاحب مظهر.. وأمتلئ بالاحتقار لكل متواضع.. حتى أن
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي.
النبي الهادي (120)
التواضع صار بالنسبة لي مرادفا للذلة.
التفت (الأمير) إلى الرجلين، وقال: لقد روى لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصة.. اسمعوها مني.. وحاولوا أن ترتقوا لتسمعوها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلا خير فيمن لم يسمع من رسول الله.. قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثةٌ: عيسى ابن مريم، وصاحب جريجٍ، وكان جريجٌ رجلاً عابداً، فاتخذ صومعةً فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأةٌ بغيٌ يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها. فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريجٍ، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك. قال: أين الصبي؟ فجاؤوا به فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلانٌ الراعي، فأقبلوا على جريجٍ يقبلونه ويتمسحون به وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهبٍ، قال: لا، أعيدوها من طينٍ كما كانت، ففعلوا.
وبينا صبيٌ يرضع من أمه، فمر رجلٌ راكبٌ على دابةٍ فارهةٍ وشارةٍ حسنةٍ، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع، ـ قال الراوي: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فيه، فجعل يمصها ـ قال: ومروا بجاريةٍ وهم يضربونها، ويقولون: زنيت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل. فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهنالك تراجعا الحديث فقالت: مر رجلٌ حسن الهيئة فقلت: اللهم
النبي الهادي (121)
اجعل ابني مثله فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت: اللهم اجعلني مثلها؟! قال: إن ذلك الرجل كان جباراً فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها زنيت، ولم تزن وسرقت، ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها) (1)
قام رجل، وقال: أحيانا تأتيني فرص عظيمة.. ومن ناس بسطاء.. لو أتيحت لهم لخرجوا من الوضع الذي هم فيه إلى وضع أحسن وأكمل..
سأضرب لك مثالا على ذلك.. في الأسبوع الماضي اشتريت سلعة بألف دينار.. ولم يمض يوم على شرائي لها حتى ارتفع سعرها في الأسواق العالمية عشرات الأضعاف.. فرحت لذلك فرحا كثيرا.. ولكني ما إن رأيت بائعها، وهو يعض أصابع الندم، حتى امتلأت حسرة، وتصورت أني في موقفه.. فما تراني أفعل في مثل هذه المواقف؟
قال: سأقص عليك قصة قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وافهم منها ما بدا لك.. لقد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمن قبلنا من الأمم، فقال: اشترى رجل من رجل عقارا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة يها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر لي جارية فقال: أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقوا (2).
قال الرجل: وعيت القصة.. ولكني لم أقدر على تنزيلها على حالتي.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (122)
قال (الأمير): النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه القصة يحضنا على الأمانة والرحمة والعدالة.. فلا ينبغي للكريم السمح أن يكون أنانيا حريصا.. بل يحاول أن يشرك غيره..
وأنا أرى أن تشرك هؤلاء في بعض ما يرزقك الله به من المكاسب..
قال الرجل: بورك فيك.. نعم.. لا ينبغي لي أن أكون أنانيا.. ولا حريصا.. لقد استفتيت الفقهاء، فأفتوني.. ولكن قلبي لم يطمئن.. فلذلك سآخذ بما ذكرت.
قام رجل من الجمع، وقال: أنا رجل حبب الله إلي العلم.. فأنا أنهل منه، ولا أكاد أشبع.. ولكي ـ أحيانا ـ أشعر، وكأني قد التهمت جميع العلوم.. وأحيانا ـ وبكل صراحة ـ أشعر أني أعلم أهل الأرض.. وأنه لا أحد يضاهيني في المعارف التي كتب لي أن أتعلمها.
نظر إليه (الأمير)، وقال: لقد قص علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصة، فاسمعها، وارتق لتسمعها منه صلى الله عليه وآله وسلم.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى: يا رب، وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا، تجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم.
فأخذ حوتا، فجعله بمكتل، ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون ـ عليهما السلام ـ حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق. فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} (الكهف: 62)، ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمره الله به.
النبي الهادي (123)
قال له فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} (الكهف: 63)، قال: فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا، فقال: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} (الكهف: 64)
فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام!. قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا، قال: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} (الكهف: 67)، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. فقال موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} (الكهف: 69)، قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} (الكهف: 70)
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة، فكلموهم أن يحملوهما، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قد حملونا بغير نول، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)} (الكهف)، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كانت الأولى من موسى نسيانا)
وجاء عصفور فنزل على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فقتله، فقال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)} (الكهف)، قال: (وهذه أشد من الأولى)، {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} (الكهف:76)
النبي الهادي (124)
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض قال: مائل. فقال الخضر بيده، فأقامه، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)} (الكهف)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما) (1)
قام رجل من الجمع، وقال: أنا عضو في بعض جمعيات الرفق بالحيوان.. وقد عاتبني البعض في انتمائي لمثل هذه الجمعيات.. فهل ترى علي من بأس في ذلك؟
نظر إليه (الأمير)، وقال: لقد حكى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه القصة.. قال: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها وشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي! فنزل البئر فملا خفه ماء ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال في كل ذات كبد رطبة أجر) (2)
وحكى لنا قصة أخرى، فقال: (غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي (3) كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لهذا بذلك) (4)
وحكى لنا قصة أخرى، فقال: (دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) ركي: الركي جنى للركية، وهي البئر، وجمعها ركايا. (النهاية:2/ 261).
(4) رواه البخاري.
النبي الهادي (125)
تأكل من خشاش (1) الأرض حتى ماتت) (2)
وحكى لنا قصة أخرى، فقال: (مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق فقال: والله لانحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فأدخل الجنة) (3)
-\--\-
بعد أن عدنا إلى البيت في ذلك المساء قلت له: يا إمام.. كيف اكتفيت في ذلك المجلس بتلك القصص، ولم تعدها إلى المواعظ التي تعود الوعاظ إلقاءها.
قال: من آداب الواعظ أن يغير أسلوب موعظته حتى لا يصيب الناس السأم والملل.. فالملل هو أخطر ما يصيب المستمعين، ولذلك فإن الواعظ المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يحرص على أن لا يجر مستمعيه إليه.. فعن ابن مسعود قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهية السآمة علينا) (4)
قلت: فلم اخترت القصص بالذات؟
قال: لم يكن لي خيار في ذلك.. لقد كانت حال المستمعين وأسئلتهم تستدعي أن أذكر لهم من القصص ما سمعت، فقصصت عليهم.
قلت: أترى أن للقصص من التأثير ما يمكن أن يؤثر في المستمعين؟
قال: أجل.. ولولا ذلك ما أمرنا الله تعالى باستعمال هذا الأسلوب، فقال: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (لأعراف: من الآية 176).. ولولا ذلك ما قص علينا ربنا، ولا قص علينا نبينا.. إن كلام ربنا، وهدي نبينا {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
__________
(1) خشاش: الخشاش: حشرات الارض، والطير ونحوها، الواحدة خشاشة. (المعجم الوسيط:1/ 235)
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه أحمد ومسلم.
(4) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (126)
حَمِيدٍ} (فصلت:42)
قلت: فما وجه هذا التأثير؟
قال: لقد أخبر القرآن الكريم عن بعض تأثير القصص في نفس المتلقي، فقال: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود: 120)، ففي هذه الآية الكريمة إخبار عن نوع من أنواع تأثير القصص القرآني في النفس، وهو تثبيت المؤمن على دين الله، وأخذه بالعزيمة في ذلك.
قلت: فما سر ذلك؟
قال: إن القاص ـ الذي يعرف كيف يتسلل إلى قلوب مستمعيه ـ ينشئ في نفس المستمع إلى القصة حب تقمص شخصية البطل، وهو ما يدعوه إلى التأسي به والاعتبار بمواقفه.
فمن يعجب مثلا بموقف إبراهيم عليه السلام مع قومه، وعدم خوفه من أذاهم، وتعرضه للفتن بسبب ذلك، يمتلئ إعجابا وحبا لإبراهيم عليه السلام، وهو ما يدعوه بتلقائية لأن يتقمص الأدوار التي أداها إبراهيم عليه السلام تقمصا لروح القصة لا لحقيقتها.
فقصة إبراهيم عليه السلام مع ابنه مثلا، وكيف هم بذبحه طاعة لله في ذلك ينشئ في نفس المؤمن الاستسلام المطلق لله بغض الظر عن أن يكون ذلك بنفس الطريقة التي حصل بها إسلام إبراهيم عليه السلام.
قلت: ولكن البعض ينحرف بالقصص انحرافات خطيرة (1)؟
قال: في كل مجال هناك المستن، وهناك المبتدع.. ولا ينبغي أن نترك السنة لأجل الخوف من البدعة.
قلت: ألا يمكن أن نسد ذرائع البدع؟
__________
(1) وذلك مثل القصص الكثيرة التي تمتلئ بها كتب التفسير، والمتلقاة عن اليهود الذين أسلموا، وهي قصص أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقائق.
النبي الهادي (127)
قال: إذا سددنا ذرائع البدع بإماتة السنن، يكون ذلك من أعظم البدع.. ونكون قد حققنا أغراض البدع، لأنه لا غرض للبدعة إلا إماتة السنة.
قلت: لكني سمعت نهي بعض الصالحين عن الجلوس إلى القصاصين؟
قال: هم لم يقصدوا كل القصاص.. وإنما قصدوا الكذابين منهم..
قلت: إن كل ما ذكرته من القصص مما ورد في السنة.. فهل تعني بذلك عدم جواز القص بما ورد في غيرها؟
قال: لا.. ومعاذ الله أن أضيق ما وسع الله..
قلت: فهل يمكن وضع القصص كما يفعل الروائيون؟
قال: أجل.. ولابد من ذلك.. فلا يحق لمسلم يجد وسيلة يدعو بها إلى ربه، ثم يفرط فيها.
قلت: ولكنه يكذب بذلك.. لأنه يحكي شيئا لم يوجد.
قال: لو حكاه باعتباره وقع بالفعل كان كاذبا.. لكنه إن حكاه باعتباره حكاية موضوعة فلا حرج عليه في ذلك.
قلت: لقد نظر البعض إلى القصص التي ذكرها القرآن الكريم بهذا الاعتبار، فتصوروا أنها مجرد حكايات موضوعة للتربية ولا حظ لها من الوجود الواقعي.
قال: كذبوا.. ألم يقرأوا قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} (الكهف: 13)؟
ألم يقرأوا قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران:44)؟
ألم يقرأوا قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود:49)؟
ألم يقرأوا قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:102)؟
النبي الهادي (128)
في اليوم الثاني سرت مع الأمير إلى مجلس من المجالس، وكان ذلك المجلس ـ كسابقه ـ مكتظا بالحضور، وكلهم ـ مثل من قبلهم ـ شوق ولهفة لسماعه.. ولكن الفرق بين هؤلاء وأولئك هو أن هؤلاء كانوا من خلال مظهرهم وأسئلتهم على مستوى عال من الثقافة، فلذلك كانت أسئلتهم تختلف كثيرا عن أسئلة من قبلهم، وكانت أجوبة الأمير تميل إلى العلمية في هذا المحل أكثر منها إلا الوعظية.
صعد (الأمير) منصة متواضعة، وقال: عم تريدون أن أحدثكم.
قال رجل منهم: نريد أن تحدثنا عن سر قوله تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (ابراهيم: 25)، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43)
قال الأمير: في هذه الآيات وغيرها يخبرنا القرآن الكريم عن مسلك من المسالك التي تنفذ منها المواعظ إلى القلوب، وهو مسلك الأمثال.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} (الاسراء:89)، وقال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف:54).. فتصريف الآيات يشمل تنويع الحجج والبراهين على قضية واحدة، فيؤتى للقضية الواحدة بأكثر من دليل وبرهان، فتتابع على عقولهم الحجج وتُصرَّف لها الأمثال والعبر.
انظروا القرآن الكريم، فسترونه ينوع الأساليب، فيؤتى بالدليل الواحد بأكثر من أسلوب: فتارة بالخبر، وتارة بالاستفهام، وأخرى بالنفي والإثبات، وأحيانا بضرب الأمثال أو القصص، ونحوها.
قالوا: فما الأمثال؟
قال: هي ادعاء التماثل الجزئي أو الكلي بين شيئين أو حالين طلباً لإثبات أو إيضاح أحدهما
النبي الهادي (129)
اعتماداً على ثبوت أو وضوح الثاني.. وهي لذلك تستخدم في تقريب المعنى وإيضاحه والإقناع به والحث على الفعل ونحو ذلك.
قالوا: فاضرب لنا مثلا يقرب ذلك.
قال: انظروا كيف عبر لقمان عليه السلام عن لطف الله وخبرته، وهي قضية عقدية، ترتبط بها ناحية سلوكية، وهي تأثير هذه المعرفة في الحذر من المعاصي، والحرص على الطاعة، فجاء بصورة حسية تقرب هذه المعاني جميعا، فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لقمان:16)
إن هذه الصورة هي أن المظلمة أو الخطيئة أو الطاعة لو كانت مثقال حبة خردل، وكانت مخفية في السماوات أو في الأرض، فإن الله يحضرها يوم القيامة حين يضع الموازين القسط، ويجازي عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، حتى لو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء، أو ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض، فإن اللّه يأتي بها لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي لطيف العلم فلا تخفى عليه الأشياء، وإن دقّت ولطفت وتضاءلت، خبير لا تعزب عنه الأخبار الباطنة فلا يجري في الملك والملكوت شيء ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبرها.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى بغير هذه الصيغة كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الانبياء:47)
ولكن للصيغة التي ذكرها لقمان عليه السلام، وفي المحل الذي ذكرها فيه تأثيرها الخاص، وهي تتناسب مع ميل الإنسان بطبعه إلى توظيف الخيال في توضيح الحقائق.
النبي الهادي (130)
قالوا: وعينا ما ذكرت، فاضرب لنا من أمثال القرآن الكريم ما يؤكد ذلك ويحققه.
قال: لقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الأمثال التي خصت بالبحث فيها المصنفات.. بل ورد في الحديث اعتبار الأمثال قسما من أقسام القرآن الكريم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال) (1)
ومن الأمثال التي ورد بها القرآن الكريم قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (النحل:75)، فهذا المثل يشبه المشركين بعبد مملوك لا يستطيع القيام بأية خدمة لمولاه، ويشبه المؤمنين بإِنسان غني، يستفيد الجميع من إِمكانياته.. والعبد ليس له قدرة تكوينية لأنّه أسير بين قبضة مولاه ومحدود الحال في كل شيء، وليس له قدرة تشريعية أيضاً لأنّ حق التصرف بأمواله (إِنْ كان له مال) وكل ما يتعلق به هو بيد مولاه، وبعبارة أُخرى إنّه: عبد للمخلوق، ولا يعني ذلك إِلاّ الأسر والمحدودية في كل شيء.
أمّا ما يقابل ذلك فالانسان المؤمن الذي يتمتع بانواع المواهب والرزق الحسن: (ومَنْ رزقناه منّا رزقاً حسناً) والإِنسان الحر مع ما له من إِمكانيات واسعة (وهو ينفق منه سراً وجهراً) فاحكموا: (هل يستوون).. قطعاً، لا.. فإِذِنْ: (الحمد لله)
اللّه الذي يكون عبده حُرّ وقادر ومنفق، وليس الاصنام التي عبادها أسرى وعديمو القدرة ومحددون (بل أكثرهم لا يعلمون) (2)
ومن الأمثال القرآنية قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً
__________
(1) رواه البيهقي.
(2) الأمثل للشيرازي: 8/ 264..
النبي الهادي (131)
تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُم} (النحل: 92)
فالله تعالى يصور لنا في هذا المثال حال من ينقض المواثيق والأيمان بعد توكيدها، فضرب مثلا بامرأة خرقاء كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه.. لقد قال سيد مبينا التأثير التربوي لهذا المثل: (فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها ثم تنقضه وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة ومحلولة! وكل جزيئة من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب. وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب. وهو المقصود وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه) (1)
ومن الأمثال القرآنية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (ابراهيم:24 ـ 25)، وفي مقابلها: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} (ابراهيم:26)
فهذا المثال يصور الكلمة الطيبة بصورة الشجرة الطيبة الثابتة التي تؤتي ثمرها كل حين، وتصور الكلمة الخبيثة بصورة الشجرة الخبيثة التي لا قرار لها، ولا ثمر ينتفع به، وقد قال سيد مبينا بعض أبعاد هذا المثل: (إن الكلمة الطيبة - كلمة الحق - لكالشجرة الطيبة. ثابتة سامقة مثمرة.. ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل؛ ولا تقوى عليها معاول الطغيان - وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان - سامقة متعالية، تطل على الشر والظلم والطغيان من عل - وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء - مثمرة لا ينقطع ثمرها، لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن)
__________
(1) الظلال.
النبي الهادي (132)
وبالمقابل فإن (الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - لكالشجرة الخبيثة؛ قد تهيج وتتعالى وتتشابك؛ ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى. ولكنها تظل نافشة هشة، وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض.. وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض، فلا قرار لها ولا بقاء) (1)
ومن الأمثال القرآنية هذا المثال الذي يصور عاقبة الصدقة في سبيل الله، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261)
فالله تعالى في هذه الآية يضرب مثلا لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فجاء بمثل يحوي القضية ودليلها، ليكون أكثر إقناعا وتأثيرا.
ومن الأمثال القرآنية ما نص عليه قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20} (البقرة)
ففي هذه الآيات الكريمة نجد مثالين للمنافقين:
يصور أولهما بدقّة عمل المنافقين على ساحة الحياة الإنسانية. فهذه الحياة مملوءة بطرق الإنحراف والضلال، وليس فيها سوى طريق مستقيم واحد للهداية، وهذا الطريق مليء بالمزالق
__________
(1) الظلال.
النبي الهادي (133)
والأعاصير. ولا يستطيع الفرد أن يهتدي من بين الطرق الملتوية إلى الصراط المستقيم، كما لا يستطيع أن يتجنب المزالق ويقاوم أمام الأعاصير، إلاّ بنور العقل والإيمان، وبمصباح الوحي الوهّاج.
وهل تستطيع الشعلة المحدودة المؤقتة التي يضيئها الإنسان، أن تهدي الكائن البشري في هذا الطريق الشائك الطويل؟!
هؤلاء الذين سلكوا طريق النفاق، ظنوا أنّهم قادرون بذلك أن يحافظوا على مكانتهم ومصالحهم لدى المؤمنين والكافرين. وأن ينضمّوا إلى الفئة الغالبة بعد نهاية المعركة. كانوا يخالون أن عملهم هذا ذكاء وحنكة. وأرادوا أن يستفيدوا من هذا الذكاء وهذه الحنكة، كضوء يشقّ لهم طريق الحياة ويوصلهم إلى مآربهم. لكن الله سبحانه ذهب بنورهم وفضحهم.
وأما المثال الثاني، فيصوّر حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة خطرة، يهطل فيها مطر غزير، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف الأبصار، ويملأ الجوّ صوت مهيب مرعب يكاد يمزّق الآذان. وفي هذا المناخ القلق ضلّ مسافر طريقه، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ، لا يستطيع أن يحتمي من المطر الغزير، ولا من الرعد والبرق، ولا يهتدي إلى طريق لشدّة الظلام (1).
قال بعض القوم: لكن المثل الواحد قد تفهم منه معاني مختلفة، ألا يحدث ذلك تلبيسا؟
قال: لا.. ذلك يثري المثل، ويجعله مادة تربوية غنية بالمعاني..
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الأمثال التي نطق بها حبيب القلوب، ومحيي النفوس سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) انظر: الأمثل: 1/ 105.
النبي الهادي (134)
قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على اتباع سنة القرآن الكريم في ضرب الأمثال.. ولذلك كان من سنته ضربها للتعليم والموعظة.
قالوا: فحدثنا عن أمثاله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم يحكي عن انتهاج الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لضرب الأمثال في المواعظ: (إن الله تعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكأنه أبطأ بهن فأوحى الله تعالى إلى عيسى: إما أن يبلغهن أو تبلغهن! فأتاه عيسى فقال له: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وأن تأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فاما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن! فقال له: يا روح الله! إني أخشى أن سبقتني أو أن أعذب أو يخسف بي!
فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرفات، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله تعالى أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فان مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق ثم أسكنه دارا فقال: اعمل وارفع إلي! فجعل العبد يعمل ويرفع إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك! وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأمركم بالصلاة، وإذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فان الله عزوجل يقبل بوجهه إلى عبده ما لم يلتفت، وأمركم بالصيام، ومثل ذلك كمثل رجل معه صرة مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأمركم بالصدقة، ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم! فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه، وأمركم بذكر الله كثيرا، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في اثره فأتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصين ما يكون من الشيطان إذا ان في ذكر الله تعالى وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن: الجماعة والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فانه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلق ربقة
النبي الهادي (135)
الاسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فادعو بدعوى الله الذي سماكم المسلمين والمؤمنين عباد الله) (1)
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه، والصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة: محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله تعالى، والداعي فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم) (2)
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يربط الأمثلة أحيانا بأمور حسية ليبقى أثرها في نفس المتلقي، ومن ذلك ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ غصناً، فنفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فانتفض، فقال: (إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ينفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها)
ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يستعمل حركات معينة لتقرير المعاني وتشبيهها، ومما روي عنه في ذلك في مواضع مختلفة التشبيك بين أصابعه الشريفة للكناية عن القوة والتماسك حينًا، وللتداخل بين شيئين حينًا آخر، وللاختلاط والاختلاف أحيانا أخرى.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه) (3)
ومنها قوله: (كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي، يغربل (4) الناس فيه غربلة، تبقى حثالة
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم والبخاري في التاريخ عن الحارث بن الحارث الاشعري.
(2) رواه أحمد والترمذي والنسائي.
(3) رواه البخاري.
(4) أي يذهب خيارهم ويبقى أرذالهم.
النبي الهادي (136)
من الناس، قد مرجت (1) عهودهم وأماناتهم واختلفوا، وكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه) (2)
في اليوم الثالث، سرت مع الأمير إلى مدرسة من المدارس التقنية، وقد تعجبت من مسيره إليها، وقلت: ما عسى الرجل يتحدث في هذا المحل.. وهو محل لا يتحدث إلا عن الصنائع والأكوان؟
أحسست أنه قرأ ما في خاطري، فقال: لقد تحول هذا المحل ـ بحمد الله ـ وبفضل التوجيه الصادق إلى محراب من محاريب العبادة.. لقد صارت المخابر منابر.. وصارت المراقب والمراصد مجالي للتأمل في خلق الله وعبودية الله من خلال النظر إلى أكوانه.. وصارت الآلات التي انشغل بها الكثير عن الله مسابح يذكر الله عند كل حركة من حركاتها.
قلت: كيف ذلك؟
قال: تعال معي لأدلك على منهج ذلك.
سرت معه إلى داخل تلك المدرسة التي ما إن رآه أهلها حتى هبوا مسرعين إليه، وكأنهم معه على ميعاد، وقد رأيت في عيونهم من الأشواق لحديثه ما رأيت في سابقيهم.
في بداية حديثه أخذ يرتل بصوت عذب قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} (الأنبياء:32)، وقوله تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت: 12)
ثم قال لرجل كان يستمع إليه بشوق عظيم: حدثنا يا فلان عما ورد في العلم من حفظ الله للأرض من كل ما يؤذيها.
__________
(1) أي اختلطت وفسدت.
(2) رواه ابن ماجة.
النبي الهادي (137)
أخذ الرجل يقول: إن هذه الآية تتحدث عن خاصية مهمة لبناء السماء أثبتتها الأبحاث العلمية الحديثة.. لا يمكنني أن أتحدث عنها هنا بالتفصيل.. ولكني سأحدثكم فقط على ناحية منها لها علاقة بالأرض التي نعيش فيها.. فالأرض تحاط بغلاف جوي يؤدي وظائف ضرورية لاستمرار الحياة، فهو يدمر الكثير من النيازك الكبيرة والصغيرة، ويمنعها من السقوط على سطح الأرض وإيذاء الكائنات الحية.
فلولا وجود الغلاف الجوي لسقطت ملايين النيازك على الأرض جاعلة منها مكاناً غير قابل للعيش، ولكن خاصية الحماية التي يتمتع بها هذا الغلاف سمحت للكائنات بالبقاء آمنة على قيد الحياة.
ليس ذلك فقط.. فالغلاف الجوي يصفي شعاع الضوء الآتي من الفضاء المؤذي للكائنات الحية.
والملفت للنظر، والجالب للدهشة أن الغلاف الجوي لا يسمح إلا للإشعاعات غير الضارة مثل الضوء المرئي والأشعة فوق البنفسجية، وموجات الراديوا بالمرور.. وكل هذه الإشعاعات أساسية للحياة.
فالأشعة فوق البنفسجية التي يسمح بمرورها بشكل جزئي فقط عبر الغلاف الجوي ضرورية جداً لعملية التمثيل في النباتات، ولبقاء الكائنات الحية على قيد الحياة.
أما غالبية الإشعاعات فوق البنفسجية المركزة، فيتم تصفيتها من خلال طبقة الأوزون في الغلاف الجوي، ولا تصل إلا كمية محدودة وضرورية من الطيف فوق البنفسجي إلى الأرض.
وهذه الوظيفة الوقائية للغلاف الجوي لا تقف عند هذا الحد، بل إن الغلاف الجوي يحمي الأرض من برد الفضاء المجمد الذي يصل إلى 270 درجة مئوية تحت الصفر.
قال ذلك، ثم التفت إلى الأمير، وقال: هذا بعض ما أعرفه من تفسير تلك الآيات التي قرأتها.
النبي الهادي (138)
أشار الأمير إلى رجل آخر، وقال: حدثنا عن تفسير ما ورد في النصوص المقدسة في مواضع كثيرة من الإخبار عن دقة الصنع الإلهي للكون، وأنه مبني على حسابات دقيقة، كما قال تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يّس:40)، وقال تعالى يعبر عن الموازين التي تضبط الكون، لئلا يختل اتزانه، فيقول: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (الرحمن:7)
أخذ الرجل يتحدث بكلام مسهب مفصل عن دقائق الصنع الإلهي، ودقة الموازين التي ضبط بها الكون (1).
وبعد أن أنهى حديثه أشار الأمير إلى رجل آخر، وقال: حدثنا عما ورد في العلوم من تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (فاطر:41)، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحج:65)، وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (لقمان:10)، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد:2)
أخذ الرجل يتحدث بمثل ما تحدث من قبله بكلام مسهب مفصل فيما قاله العلم الحديث في آخر أبحاثه في هذه المسائل.
ظللنا طول يومنا نسمع قرآنا وعلوما.. وقد رأيت دموع الحاضرين تنهمر بقوة، وهي تسمع تلك الأحاديث العذبة التي تفسر القرآن الكريم خير تفسير وأبين تفسير.. وقد رأيت
__________
(1) انظر تفاصيل ما ورد في هذا من كلام الخبراء في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.
النبي الهادي (139)
بعضهم يصيح تائبا لله ومستغفرا له.
وقد عجبت من ذلك عجبا شديدا، فلم أر من الأمير إلا قراءته القرآن، ودعوته العلماء والمختصين للحديث، وقد سألته عن سر ذلك التأثير، فقال: إن أعظم حجاب بين الإنسان وبين الإيمان، وما يقتضيه الإيمان هو غفلته عن الله، وعن عظمة الله، ولذلك، فإن خير ما يعيد للقلب يقظته هو نظره في الكون، وعبادته الله من خلال ذلك النظر.
ولهذا يتكرر في القرآن الكريم الدعوة إلى النظر، والدعوة إلى العلم، بل إن القرآن الكريم أخبر بأن الخشية محصورة في العلماء.. فلا يعرف الله من لا يعرف أكوانه.
اسمع قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164).. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران:190)
بل إن القرآن الكريم دعا أولي العقول إلى إعمال فكرهم في السماء.. ليعرفوا الله من خلالها، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} (الروم:8)
وأخبر الجاحدين الذين يجحدون قدرة الله على بعث مخلوقاته بعظمة خلق الكون، فقال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (غافر:57)
في اليوم الرابع سرت مع الأمير إلى محال مختلفة، ومن العجيب أني لم أره في تلك المحال
النبي الهادي (140)
جميعا ينطق بشيء إلا بما ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جوامع الحكمة.
سأكتفي بأن أذكر لك بعض ما قاله باختصار (1) لترى مدى عظمة الهدي الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم:
رأى رجلا، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اعزل الاذى عن طريق المسلمين) (2)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغالبيق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه) (3)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى محسن فأحسنوا) (4)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى يحب أن يعمل بفرائضه) (5)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى يحب معالى الامور وأشرافها، ويكره سفسافها) (6)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى يقول يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملا صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملات يديك شغلا ولم أسد فقرك) (7)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أفضل الاعمال إدخال السرور على المؤمن، تقضي عنه
__________
(1) حاولنا أن نجمع هنا أكبر قدر من النصوص في جوامع كلمه (، والتي تصنف في أبواب الحكم، وقد اكتفينا بذكرها دون شرحها، لأن لكل منها محله الخاص به.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه ابن ماجة.
(4) رواه ابن عدي.
(5) رواه ابن عدي.
(6) رواه الطبراني في الكبير.
(7) رواه أحمد والترمذي والحاكم.
النبي الهادي (141)
دينا، تقضي له حاجة، تنفس له كربة) (1)
وورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم) (2)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبركم بخيركم من شركم! خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره) (3)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس! إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله تعالى عزوجل على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدميه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا يقرأ كتاب الله ولا يرعوي (4) إلى شئ منه) (5)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس) (6)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تكونوا إمعة (7) تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن أساؤا أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا أن تحسنوا، وإن أساؤا أن لا تظلموا) (8)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فان كان صيته في
__________
(1) رواه البيهقي عن ابن المنكدر مرسلا.
(2) رواه الطبراني في الكبير.
(3) رواه أحمد والترمذي وابن حبان.
(4) يرعوي: أي لا ينكف ولا ينزجر، من رعا يرعو إذا كف عن الامور (النهاية:2/ 236)
(5) رواه أحمد والنسائي والحاكم.
(6) رواه الترمذي.
(7) إمعة: الامعة بكسر الهمزة وتشديد الميم: الذي لو رأى له، فهو يتابع كل أحد على رأيه، والهاء فيه للمبالغة، ويقال فيه إمع أيضا، (النهاية:1/ 67)
(8) رواه البخاري.
النبي الهادي (142)
السماء حسنا وضع في الأرض، وإن كان صيته في السماء سيئا وضع في الأرض) (1)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها) (2)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) (3)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ذهب في حاجة أخيه المسلم فقضيت حاجته تكتب له حجة وعمرة، فان لم تقض كتبت له عمرة) (4)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا مؤودة من قبرها) (5)، وورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة) (6)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما مسلم كسا مسلما ثوبا كان في حفظ الله تعالى ما بقيت عليه منه رقعة) (7)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من عال أهل بيت من المسلمين يومهم وليلتهم غفر الله له ذنوبه) (8)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يتوكل لي ما بين لحييه وما بين رجليه أتوكل له بالجنة) (9)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق، قيل: ما
__________
(1) رواه البزار.
(2) رواه الترمذي.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
(4) رواه البيهقي.
(5) رواه البخاري في الأدب وأبو داود والحاكم.
(6) رواه أحمد.
(7) رواه الطبراني في الكبير.
(8) رواه ابن عساكر.
(9) رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن حبان.
النبي الهادي (143)
القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن) (1)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ألطف مؤمنا أو خف له في شئ من حوائجه صغر أو كبر كان حقا على الله أن يخدمه من خدم الجنة) (2)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟.. تقوى الله وحسن الخلق، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار؟.. الأجوفان: الفم والفرج) (3)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حفرماء لم يشرب منه كبد حرى من إنس وجن ولا سبع ولا طاهر إلا آجره الله يو القيامة، ومن بنى مسجدا كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة) (4)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) (5)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه ستر الله تعالى عليه كنفه وأدخله جنته: رفق بالضعيف، وشفقة على الوالدين، والاحسان إلى الملوك) (6)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه آواه الله في كنفه ونشر عليه رحمته وأدخله
__________
(1) رواه ابن ماجة.
(2) رواه البزار.
(3) رواه أبو الشيخ في الثواب، والخرائطي في مكارم الاخلاق.
(4) رواه ابن خزيمة والشاشي وسمويه.
(5) رواه البخاري ومسلم.
(6) رواه الترمذي.
النبي الهادي (144)
جنته: من إذا أعطي شكر، وإذا قدر غفر، وإذا غضب فتر) (1)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته: تعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك) (2)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه فإن الله يغفر له ما سوى ذلك: من مات لا يشرك بالله شيئا، ولم يكن ساحرا يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه) (3)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه استوجب الثواب واستكمل الايمان: خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحلم يرده عن جهل الجاهل) (4)
ورأى آخر، فحدثه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه أظله الله تحت عرشه يوم لاظل إلا ظله: الوضوء على المكاره، والمشي إلى المساجد في الظلم، وإطعام الجائع) (5)
-\--\-
لم أمكث في الطائف إلا تلك الأيام الأربعة التي تشرفت فيها بصحبة (الأمير).. لقد كانت تلك الأيام من أكثر الأيام بركة في حياتي..
لقد شعرت ـ وأنا أسير في الطائف بصحبة (الأمير) ـ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يتجول في شوارع المدينة وأسواقها يدعوها لربها ويهديها لسبيله.. بل شعرت، وكأن أحفاد أهل الطائف يكفرون عن ذنب أسلافهم في مقابلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما قابلوه به، بذلك الإكرام وتلك الحفاوة التي أفاضوها على وريثه (الأمير)
وشعرت في نفس الوقت بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد الوعاظ، ومعلمهم، وأن من لم يتعلم
__________
(1) رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس.
(2) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب، والطبراني في الأوسط والحاكم عن أبي هريرة.
(3) رواه البخاري في الأدب والطبراني في الكبير عن ابن عباس.
(4) رواه البزار عن أنس.
(5) رواه أبو الشيخ في الثواب، والاصبهاني في الترغيب عن جابر.
النبي الهادي (145)
الوعظ على يديه، فسيتيه في أودية الهوى، وسيغرق من يعظه وديان الردى.
سألت صاحبي عن سبب تركه للأمير بعد جميل صحبته له، فقال: لقد كان الأمير رجلا رحالة.. لقد كان يشعر أنه كالطبيب الذي يبحث عن الأمراض ليعالجها..
فلذلك نهض ذلك اليوم باكرا، وحزم أمتعته، فسألته عن قصده، فقال: أنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك سوقا، ولا قبيلة، ولا مجتمعا، ولا أفرادا إلا وبث فيهم من أنوار الهداية ما يقيم به عليهم الحجة، ويدلهم على المحجة.
قلت: ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: ولا خير فيمن لم يحمل من الهم ما كان يحمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. إن الوارث لن يناله حظه من وراثة نبيه إلا بعد أن يمتلئ قلبه ألما لكل معصية، وحزنا على كل عاص.
قلت: ما جاء ديننا إلا بالرحمة، فكيف تدعوني إلى الألم؟
قال: الرحمة هي التي تدعو إلى الألم.
قلت: كيف تقول هذا؟
قال: ألا تتألم عندما ترى الفقير الجائع، واليتيم الضائع؟
قلت: بلى.. الكل ينشق قلبه لهذه المرائي.
قال: والورثة يرون في الناس ما ترون.
قلت: ليس كل الناس لهم من الفقر واليتم ما ذكرت.
قال: أعظم الفقر أن تكون فقيرا من ربك، مستغنيا عنه، وأعظم اليتم أن تكون بعيدا عن مولاك الذي لا خير إلا منه.
قلت: فأولياء الله يرون عباد الله بهذا المنظار؟
قال: أجل.. وقد ورثوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فلذلك لا ترى لهم سرورا إلا في إقبال الخلق على الله، واهتدائهم بهدي الله.
النبي الهادي (146)
-\--\-
ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة الثانية من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب..
لقد كان خيالي منصرفا تمام الانصراف لما يتحدث به صاحبي.. وكأني مع ذلك النبي الواعظ الذي امتلأ العالم جميعا بأنوار عظاته، وتقوت بجمال كلماته.. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.
لقد نزلت علي بمجرد قطعي لتلك المرحلة أنوار جديدة.. اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
النبي الهادي (147)
قلت: فحدثني عن رحلتك الثالثة.
قال: في رحلتي الثالثة، سرت إلى طوس.. تلك البلدة العريقة من بلاد فارس.. البلاد التي تشرفت بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجل من أبناء فارس حتى يتناوله) (1)
خطر على بالي، وأنا أتجول في بعض شوارعها العتيقة هذا الحديث.. وخطر على بالي بعدها الجموع الكثيرة من العلماء والأولياء والربانيين من الفرس الذين ورثوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل وراثة، وأحسن وراثة..
ولست أدري كيف خطر على بالي فجأة أبا حامد الغزالي.. وخطر على بالي ـ بالتحديد ـ المدرسة والخانقاه اللذين أسسهما بعد عودته من الخلوة ليكونا رمزا لإحياء علوم الدين (2)..
ما خطر ذلك الخاطر على خاطري حتى رحت أسأل بعض المارة عن آثار المدرسة الغزالية، فابتسم، وقال: ولماذا تبحث عن آثارها؟
قلت: أنا سائح.. وأهتم بالآثار.. ولذلك أحببت أن أراها.. فهل بقي لها وجود بعد تلك القرون الطوال؟
ابتسم، وقال: ما أسس على التقوى لا يهدم.. وما رفع بنيانه على ذكر الله حفظ بالله.. وما حفظ بالله لا يصيبه البلى.
قلت: أتقصد أن آثار المدرسة لا تزال موجودة؟
قال: بل المدرسة نفسها لا تزال موجودة.. وأنا الذي تراني أمامك طالب من طلبتها.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) وذلك لما روي أن الغزالي لما رجع إلى مسقط رأسه مدينة طوس بعد فترة الخلوة (اتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية، ووزع أوقاته على وظائف من ختم القرآن ومجالسة أرباب القلوب والتدريس لطلبة العلم وإدامة الصلاة والصيام وسائر العبادات إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى)
النبي الهادي (148)
قلت: فمن أستاذها؟
قال: الغزالي (1)..
قلت: ما بك يا رجل.. الغزالي طوت جسده السنون..؟
قال: ولكن علمه وما تركه لم تطوه السنون.. هو لا يزال حيا نابضا بالحياة.
قلت: فأنت تتملذ على كتبه؟
قال: أنا أتتلمذ على رجل من أحفاده.. لكأنه الغزالي نفسه عاد للحياة من جديد.
قلت: فأسرع بي إليه.. فما أشد شوقي لأن أجلس بين يدي الغزالي، وأتعلم منه.
سار بي الرجل إلى مدرسة جمعت بين القديم والحديث.. وبين الأصالة والمعاصرة.. لست أدري هل كانت عتيقة، فرممت، فصارت حديثة بترميمها، أم أنها أنها حديثة طليت ببعض مظاهر القديم.. فصارت تجمع بين القديم والحديث؟
دخلت إليه، فاستقبلنا رجل عليه سيما الورثة، قال لي صاحبي: هذا هو الغزالي..
لم أدر إلا وأنا أسرع إليه، وأقبل يديه، فابتسم، وقال: هل جئت لتتعلم الحوار؟
قلت: أنا جئت لأتلقى، لا لأجادل.. فمن جلس أمام الغزالي لم يصلحه إلا الصمت.
قال: بل لن يصلحه إلا الحوار.. فالحوار هو الكشاف الذي تكشف به الجواهر عن معدنها، ولا يمكن التعامل مع الجواهر قبل التعرف على معدنها.
__________
(1) نشير به إلى أبي حامد الغزالي (450 - 505 هـ، 1058 - 1111 م) الملقب بحجة الإسلام، وهو محمد بن محمد بن محمد، أبو حامد الغزاليّ وُلِدَ في طُوس، وفقد أباه صبيًّا، فرباه وصيٌّ صوفي فترة من الزمن، ثم وضعه في مدرسة خيرية يعيش ويتعلم. أتى نيسابورَ، وتعلَّم التصوف على الفرامدي، والفقه والكلام على إمام الحرمين، ثم أتى مجلس نظام المُلك، حيث أقام ست سنوات، عيّنه بعدها الوزير أستاذًا في نظامية بغداد. درّس في بغداد أربع سنوات (484 - 488 هـ) مرّ أثناءها بشكوك وألف كتابين هما: مقاصد الفلاسفة؛ حيث عرض فلسفة الفارابي وابن سينا، وتهافت الفلاسفة، حيث انتقد هذه الفلسفة. ترك بغداد، وتفرغ للخلوة عشر سنوات، عاد بعدها إلى التعليم في نيسابور. اعتزل التعليم بعد سنة 500 هـ، 1106 م وأسس مدرسة وخانقاه.
وقد اخترناه لهذا الفصل باعتباره من أئمة الحوار الكبار وأعلامه والدعاة إليه.
النبي الهادي (149)
قلت: إذن أفتضح؟
قال: لا يصلح إلا من افتضح.. ألا ترى أن المريض لا يتعرف الطبيب على دوائه إلا بعد أن يفضح داءه؟
قلت: صحيح ذلك..
قال: فلذلك نحن نكشف عن الجواهر بالقيل والقال، والجواب والسؤال، لا بالمراء والجدل.
قلت: إن هذا ما ذكره لي معلم الهداية.. فهل فمك هو الفم الثالث؟
قال: إن كان الفم الثالث هو فم المحاور، ففمي هو ذلك الفم.
قلت: فهل تأذن لي أن أصحبك لأتعلم منك هذا الفم؟
قال: آذن لك في أن تتعلم في هذه المدرسة.. فهذه المدرسة مدرسة الحوار.. أسستها بعد جدي لأعلم الدعاة إلى الله السائرين على قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف يحاورون، وفيم يحاورون، ولم يحاورون.
قلت: فما شروط التسجيل فيها.. فأنا لست من هذه البلاد؟
قال: الصدق والطهارة والهمة العالية.
قلت: فما الشهادة التي تسلم لطلبة هذه المدرسة؟
قال: وراثة النبوة في فنون الحوار.
قلت: ما أعظمها من شهادة.. وأنا ـ من الآن ـ أتشرف بأن أنضم إلى هذه المدرسة.. فما أقسامها؟
قال: أربعة.. لا يمكن للأقسام إلا أن تكون أربعة.. ألم تر أن جدي أبا حامد أسس إحياءه على أربع؟
قلت: أجل.. فما الأربع التي أسست عليها مدرستك؟
النبي الهادي (150)
قال: الطهارة، والخبرة، والأدب، والسعة.
قلت: فما الطهارة؟
قال: لا يمكن للمحاور أن ينجح في حواره، وقلبه ممتلئ بالخبائث، ولا يمكن له أن ينجح في حواره وهمته متوجهة إلى نفسه، لا إلى الحق الذي يدعو إليه.
قلت: إن هذا يستدعي مدرسة تربوية.. لا مدرسة علمية..
قال: لا خير في علم لا يربي صاحبه..
قلت: فما الخبرة؟
قلت: لا يمكن للمحاور أن يحاور إلا فيما له خبرة فيه.
قلت: الخبرة أعمق من العلم.
قال: ولهذا سمينا هذا القسم قسم الخبرة، لا قسم العلم.
قلت: فما الأدب؟
قال: لا يمكن للحوار أن ينجح إلا في ظلال الأدب.. فالأدب هو فراش الحوار ودثاره.. ومن لم يتأدب مع من يحاوره لن يزيده حواره معه إلا بعدا.
قلت: فما السعة؟
قال: المحاور السائر على قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يحاور الكل وفي الكل.. ولا يتكبر على أحد من الناس كما لا يتكبر الطبيب على أي مرض، ولا على أي مريض.
كان أول قسم دخلته بعد التحاقي يالمدرسة الغزالية للحوار.. هو قسم (الطهارة).. كان ممتلئا بالطلاب.. سأحكي لك باختصار عن بعض ما جرى في اليوم الأول من دراستي فيه.. فلم تكن لدراستنا في سائر الأيام في ذلك القسم من قصد إلا تعميق ما درسناه في ذلك الدرس.
النبي الهادي (151)
بدأ الدرس بسؤال لأحد الطلبة قال فيه: يا إمام.. لم اعتبرت الطهارة شرطا من شروط الحوار، وأصلا من أصوله؟
قال الغزالي: قياسا لها على الصلاة.. أليست الصلاة هي حوار بين العبد وربه؟
قال الطالب: أجل.. وقد ورد في الحديث القدسي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله عز وجل: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 2)، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 3)، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4)، قال: مجدني عبدي فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6، 7)، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) (1)
قال الغزالي: ألا ترى أنه يشترط لصحة الصلاة تحقق الطهارة؟
قال الطالب: أجل.. وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) (2)
قال الغزالي: فهكذا الحوار بين العبد والعبد لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا إذا تقدمته الطهارة.
قال الطالب: لم أسمع بهذا.. هل يشترط على المتحاورين أن يقصدوا دورات المياه قبل ابتداء حوارهم؟
قال الغزالي: ألم تقرأ ما قاله جدي أبو حامد في أول وظائف طالب العلم؟
قال الطالب: بلى.. لقد ذكر أول وظيفة من وظائف طالب العلم، فقال: (تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (152)
وعلل ذلك بقوله: (إذ العلم عبادة القلب وصلاة السر وقربة الباطن إلى الله تعالى؛ وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث، فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق وأنجاس الأوصاف)
ثم استدل لذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة: 28) ففي هذه الآية (تنبيه للعقول على أن الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظواهر بالحس، فالمشرك قد يكون نظيف الثوب مغسول البدن، ولكنه نجس الجوهر أي باطنه ملطخ بالخبائث، والنجاسة عبارة عما يجتنب ويطلب البعد منه، وخبائث صفات الباطن أهم بالاجتناب فإنها مع خبثها في الحال مهلكات في المآل)
واستدل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب) (1) وعلق عليه بقوله: (والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم؛ والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى:51)، وهكذا ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولاها الملائكة الموكلون بها، وهم المقدسون المطهرون المبرؤون عن الصفات المذمومات، فلا يلحظون إلا طيباً ولا يعمرون بما عندهم من خزائن رحمة الله إلا طيباً طاهراً)
التفت الغزالي إلى تلاميذه، ثم قال: إذا وعيتم هذا، فاعلموا أن أول شرط من شروط الحوار هو تصفية النفس بمياه التوبة والإنابة والتسليم لله.. فلا يمكن أن تحاور من تحاوره إلا وأنت صاحب قلب نقي صاف سليم من كل درن.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (153)
قال أحد الطلبة: إن ذلك يقلل أهل الحوار.
قال الغزالي: ولكن الحوار لن يؤتي ثماره إلا بذلك.. فلا يمكن للكدورات أن تثمر إلا الكدورات.
قال الطالب: لم ذلك؟
قال الغزالي: لقد ذكر جدي أبو حامد في (الإحياء) وفي جميع كتبه أن أكبر الآفات التي تفسد المناظرات وأخطرها هي الآفات النفسية، فهي السبب الأكبر في فشل الحوار وعدم إتيانه ثماره، بل إن ثماره تصبح عكسية، تزيد الطين بلة.
وقد قام بتحليل نفسي رائع لنفسيات المتحاورين التي لم تتأدب بآداب الشرع، فذكر الآفات النفسية الكثيرة التي تسببها المناظرات العلمية ـ والتي هي نوع من أنواع الحوار ـ ويعتبرها منبع جميع الأخلاق المذمومة، بل يقيسها على كبائر الفواحش الظاهرة، باعتبارها لا تختلف عنها، وقد قال في فصل عقده بعنوان (بيان آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق): (اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدّق عند الناس، وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله المحمودة عند عدوّ الله إبليس) (1)
ويتفرع عن هذه الخصال خصال أخرى كثيرة، قال الغزالي: (ثم يتشعب من كل واحدة من هذه الخصال العشر عشر أخرى من الرذائل لم نطول بذكرها وتفصيل آحادها مثل: الأنفة، والغضب، والبغضاء، والطمع، وحب طلب المال، والجاه للتمكن من الغلبة، والمباهاة، والأشر، والبطر، وتعظيم الأغنياء والسلاطين والتردد إليهم والأخذ من حرامهم، والتجمل بالخيول والمراكب والثياب المحظورة، والاستحقار للناس بالفخر والخيلاء، والخوض فيما لا يعني، وكثرة الكلام، وخروج الخشية والخوف والرحمة من القلب، واستيلاء الغفلة عليه لا يدري المصلي منهم
__________
(1) الإحياء: 1/ 45.
النبي الهادي (154)
في صلاته ما صلى، وما الذي يقرأ، ومن الذي يناجيه؟ ولا يحس بالخشوع من قلبه مع استغراق العمر في العلوم التي تعين في المناظرة مع أنها لا تنفع في الآخرة: من تحسين العبارة وتسجيع اللفظ وحفظ النوادر إلى غير ذلك من أمور لا تحصى. والمناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم ولهم درجات شتى ولا ينفك أعظمهم ديناً وأكثرهم عقلاً عن جمل من مواد هذه الأخلاق وإنما غايته إخفاؤها ومجاهدة النفس بها) (1)
والغزالي يقيس هذه المنكرات الباطنة على الكبائر من الفواحش الظاهرة، فيقول: (ونسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر والعجب والحسد والمنافسة وتزكية النفس وحب الجاه وغيرها كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا والقذف والقتل والسرقة)
ويستدل على ذلك بعلة جامعة ينص عليها بقوله: (كما أن الذي خير بين الشرب وسائر الفواحش استصغر الشرب فأقدم عليه فدعاه ذلك إلى ارتكاب بقية الفواحش في سكره، فكذلك من غلب عليه حب الإفحام والغلبة في المناظرة وطلب الجاه والمباهاة دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها في النفس وهيج فيه جميع الأخلاق المذمومة)
بل يذكر أن هذه الفواحش الباطنة مما يقع فيه المتماسكون أما غيرهم، فيقع منهم (من الخصام المؤدي إلى الضرب واللكم واللطم وتمزيق الثياب والأخذ باللحى وسب الوالدين وشتم الأستاذين والقذف الصريح)
قال أحد الطلبة: لقد صدق الغزالي فيما ذكره من ذلك.. ونحن نرى في وسائل الإعلام الكثير مما يؤكد قوله هذا.. فهل بحث عن أسبابه؟
قال الغزالي: أجل.. فلا يمكن وصف الدواء قبل تشخيص الداء.
قال الطالب: فما الذي ذكره من أسباب ذلك الدنس الذي تمتلئ به نفوس المتحاورين، والذي يحيل حوارهم وقودا لا يزيد نيران العلاقات إلا اشتعالا.
__________
(1) الإحياء: 1/ 45..
النبي الهادي (155)
قال الغزالي: لقد رأيت أن فروع تلك الخبائث التي تملأ نفوس المتحاورين تنطلق من أربعة أمراض كبرى.. الحسد، والكبر، والرياء، والبغي.. وكلها ذكرها جدي أبو حامد، بحمد الله.
قال الطالب: فما منبع الحسد، وما علاقته بالحوار.. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: لقد ذكر أبو حامد الحسد باعتباره الآفة الكبرى التي تنخر العلاقات.. كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) (1).. فكل الحسنات التي تنبت من العلاقات الطيبة بين المتحاورين تأكلها نار الحسد.
قال الطالب: فما العلة النفسية لذلك؟
قال الغزالي: أنت تعلم أن المحاور تارة يغلب وتارة يُغلب، وتارة يحمد كلامه وأخرى يحمد كلام غيره.. وهو لذلك إن حمد كلامه امتلأ إعجابا بنفسه.. وإن حمد كلام غيره امتلأ حسدا وحقدا.. فهو لذلك يتمنى زوال النعم عنه وانصراف القلوب والوجوه عنه إليه، ولهذا قال ابن عباس: (خذوا العلم حيث وجدتموه، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس في الزريبة)
قال الطالب: فما منبع الكبر، وما علاقته بالحوار.. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: لقد ذكر أبو حامد ما ينشئه اعتقاد المحاور لغلبته وتفضله على مخالفه، فقال: (ولا ينفك المناظر عن التكبر على الأقران والأمثال والترفع إلى فوق قدره حتى إنهم ليتقاتلون على مجلس من المجالس يتنافسون فيه في الارتفاع والانخفاض والقرب من وسادة الصدر والبعد منها والتقدّم في الدخول عند مضايق الطرق، وربما يتعلل الغبي والمكار الخداع منهم بأنه يبغي صيانة عز العلم، وأن المؤمن منهيٌّ عن الإذلال لنفسه، فيعبر عن التواضع الذي أثنى الله عليه وسائر أنبيائه بالذل، وعن التكبر الممقوت عند الله بعز الدين تحريفاً للاسم وإضلالاً للخلق به)
__________
(1) رواه ابن ماجة.
النبي الهادي (156)
ولهذا ورد التحذير في النصوص من الكبر، وأمر بالتواضع، وربط كل ذلك بالاهتداء إلى الحق.. ففي الحديث أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يانبي الله إنه ليعجبني الجمال حتى أود أن علاقة سوطي وقبالة نعلي حسن، فهل ترهب علي الكبر؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كيف تجد قلبك؟) قال: أجده عارفا للحق مطمئنا إليه، قال: (فليس ذاك بالكبر، ولكن الكبر أن تبطر الحق، وتغمص الناس فلا ترى أحدا أفضل منك وتغمص الحق فتجاوزه إلى غيره) (1)
انظروا.. ألا ترون (أن أبغض شيء إلى المناظر أن يظهر على لسان خصمه الحق، ومهما ظهر تشمر لجحده وإنكاره بأقصى جهده وبذل غاية إمكانه في المخادعة والمكر والحيلة لدفعه حتى تصير المماراة فيه عادة طبيعية، فلا يسمع كلاماً إلا وينبعث من طبعه داعية الاعتراض عليه حتى يغلب ذلك على قلبه)؟
قال الطلبة جميعا بلسان واحد: بلى..
قال الغزالي: فلذلك تبدأ مدرستنا بتربية المتحاورين على التواضع، وعلى تقبل الحق من أي كان.. فلا يمكن أن ندنس سنة الحوار التي سنها لنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بما تمتلئ به نفوسنا من أمراض.
قال الطالب: فما منبع الرياء، وما علاقته بالحوار.. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: الرياء هو أن تنشغل النفس برؤية نفسها عن رؤية الحق أو الدفاع عنه أو الدعوة إليه.. ومحال أن يتجلى الحق والنفس في مرآة واحدة.
قال الطالب: فكيف تطهر النفس من الرياء؟
قال الغزالي: بتحقيق التوحيد والإخلاص، فلا يقصد المحاور إلا نصرة الحق.. لا يهمه في ذلك إن ظهر على لسانه أو ظهر على لسان غيره.
لقد كان الشافعي يصيح بهذا، ويخبره عن نفسه به.. كان يقول: (ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ).. وكان يقول: (ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون
__________
(1) رواه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
النبي الهادي (157)
عليه رعاية من الله تعالى، وما كلمت أحداً قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه).. وكان يقول: (ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت محبته، ولا كابرني أحد على الحق ودافع الحجة إلا سقط من عيني ورفضته)
قال الطالب: فما منبع البغي، وما علاقته بالحوار.. وما تأثيره فيه؟
قال الغزالي: من امتلأت نفسه بالحسد والكبر والإعجاب بالنفس والتباهي بها لن ينظر إلى غيره إلا بعين البغي والظلم والعدوان.. فلذلك تجده في حواره كسبع ضار ليس له من هم إلا افتراس فريسته.
لقد ذكر الغزالي بعض ما كان في عصره من مظاهر البغي، فقال: (المناظر لا ينفك عن طلب عثرات أقرانه وتتبع عورات خصومه حتى إنه ليخبر بورود مناظر إلى بلده، فيطلب من يخبر بواطن أحواله ويستخرج بالسؤال مقابحه حتى يعدها ذخيرة لنفسه في إفضاحه وتخجيله إذا مست إليه حاجة، حتى إنه ليستكشف عن أحوال صباه وعن عيوب بدنه فعساه يعثر على هفوة أو على عيب به من قرع أو غيره، ثم إذا أحس بأدنى غلبة من جهته عرّض به إن كان متماسكاً، ويستحسن ذلك منه، ويعد من لطائف التسبب، ولا يمتنع عن الإفصاح به إن كان متبجحاً بالسفاهة والاستهزاء، كما حكي عن قوم من أكابر المناظرين المعدودين من فحولهم)
لقد ذكر القرآن الكريم كيف يقف البغي والظلم حجابا دون الحق، فقال: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33)
لقد أخبر الله في هذه الآية الكريمة أن الظلم هو السبب في جحود الظالمين لآيات الله، لا كون الآيات في نفسها تستحق أن تكذب.
قال أحد الطلبة: أهذه هي الآفات التي يتم التكوين فيها في هذا القسم؟
قال الغزالي: أجل.. نحن في هذا القسم نحاول أن نعلم الطلبة كيف يتخلصون من هذه الآفات الخطيرة، وكيف تمتلئ نفوسهم بالصفاء.. ليتمكنوا بعدها من إجراء حوار ناجح يؤتي
النبي الهادي (158)
الثمار التي يطلبونها.
بعد أن مكثت ما شاء الله أن أمكث في القسم الأول أذن لي مع بعض رفاقي أن ننتقل إلى القسم الثاني، وهو قسم (الخبرة).. لقد كان مكتوبا في مدخل ذلك القسم قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (الحج:8)، وبجانبها قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (آل عمران:66)
وقد رأينا في مدخل ذلك القسم أربعة فروع..
بدأنا بالفرع الأول، وكان اسمه (الوجهة)، وقد علق على بابه قوله تعالى: {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: 148).. قابلنا الغزالي في ذلك الفرع، وهو يقول: مبارك لكم تخرجكم من القسم الأول، فقلما يتخرج منه المتخرجون إلا بعد عناء وتعب.
قال أحد رفاقي: لقد وفقني الله في أوائل حياتي، فصحبت رجلا من أهل الله اسمه (محمد الوارث).. فإن يكن هناك من سبب لنجاحي في ذلك القسم، فلا أراه يعود إلا إليه.
صحت: أنا كذلك.. وفقني الله لصحبته فترة من الزمن..
صاح جميع أصحابي بذلك..
قال الغزالي: كلنا صحب ذلك الرجل.. وبركات ذلك الرجل لا نزال ننهل منها بحمد الله.
قلت: فما الذي سنتعلمه في هذا القسم؟
قال: تفسير ما قرأته في مدخل باب هذا القسم.
النبي الهادي (159)
قلت: أتقصد قوله تعالى: {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: 148)
قال: أجل.. فهذه الآية هي عنوان دراستكم في هذا الفرع.
قال بعض رفاقي: أتقصد أنا سنبحث عن أنواع الوجهات التي تتوجه إليها الأديان في شعائرها؟
قال: سنبحث في هذا الفرع عن أنواع الوجهات التي تتوجه لها العقول والقلوب والأرواح والأسرار في شعائرها وفي حياتها.
قلت: إن ذلك سيستفرع منا جهدا كبيرا.
قال: هو جهد لابد منه.. فلا يمكن لمن يريد أن يحاور جهة من الجهات ليهديها إلى الله إلا أن يتعرف على ما تعتقده تلك الجهة، وما تستدل به على اعتقادها.. ليخاطبها بالعلم لا بالجهل، وبالحقائق لا بالأباطيل..
عندما لاح لجدي أبي حامد أن ينتقد الفلسفة اليونانية، وما كانت تحمله من أنواع الضلال، لم يكتف بأن يكتب قصيدة أو خطبة يملؤها سبابا وشتائم.. وإنما راح لكتب الفلسفة يقرؤها بتمعن وتمحيص وتدقيق..
لقد ذكر سر ذلك، فقال: (ثم إني ابتدأت - بعد الفراغ من علم الكلام - بعلم الفلسفة، وعلمت يقيناً: أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه، ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم، من غوره وغائله، وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقاً، ولم أر أحداً من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم ـ حيث اشتغلوا بالرد عليهم ـ إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد، لا يظن الاغترار بها بعاقل عامي، فضلاً عمن يدعي دقائق العلم، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنه رمى في عماية.
النبي الهادي (160)
فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب، بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية، وأنا ممنو بالتدريس والإفادة لثلاثمائة نفس من الطلبة ببغداد، فأطلعني الله سبحانه وتعالى بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة، على منتهى علومهم في أقل من سنتين، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره، حتى اطَّلعت على ما فيه من خداع، وتلبيس وتحقيق وتخييل، واطلاعاً لم أشك فيه) (1)
وهكذا.. فلا ينبغي لمن يريد محاورة أي جهة من الجهات إلا أن يكون له القدرة على فهمها واستيعاب ما تطرحه من أفكار.
قال أحد رفاقي: فإن لم يكن له القدرة على ذلك؟
قال: من لم تكن له القدرة.. فليلزم الصمت.. فلا يمكن للجاهل أن يكون معلما..
قال الطالب: إن ذلك يقلل الدعاة إلى الله.
قال: للدعوة إلى الله أساليب كثيرة.. والحوار العلمي أسلوب من أساليبها.. ولا يمكن أن يمارس هذا الأسلوب جاهل.. لأنه لا يزيد طين الحوار إلا بلة.
قلت: إن من قومي من يدعو المسيحيين إلى مناظرات علمية.. وهو لا يعرف حتى فصول الكتاب المقدس.
قال: ذلك مغرور.. فانهره.. وأخبره بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (الحج:8)
قلت: إن هذه الآية تتحدث عن الكفار.. لا عن المسلمين.
قال: الآية تتحدث عن المجادل بغير علم.. ويستوي في ذلك المسلم وغير المسلم.
قلت: فهل في النصوص المقدسة ما يدل على مراعاة هذا في الحوار؟
__________
(1) المنقذ من الضلال.
النبي الهادي (161)
قال: أجل.. وما كان لنا أن نتخطى النصوص المقدسة، أو نتجاهلها..
قلت: أين ذلك؟
قال: ألست تقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة:113)، وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة: 18)، وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (المائدة: 64)، وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة:30)؟
قلت: بلى.. وفي القرآن الكريم الكثير من هذا.
قال: إن القرآن الكريم في هذه الآيات الكريمة يذكر لنا وجهات اليهود والنصارى ومعتقداتهم ليخاطبهم على أساسها.. وهو ـ بذلك ـ يدعونا أن نتعرف على الوجهات المختلفة قبل التعامل معها.
قلت: ولكن الحوار قد لا يكون في تلك الوجهات بذاتها.. أي أن حوارنا مع النصارى مثلا لا يرتبط بما يقولونه عن المسيح عليه السلام.
قال: ولو.. إن الأفكار والمعتقدات سلسلة واحدة.. ولا يمكنك أن تتعامل مع حلقة من حلقات السلسلة، وأنت تجهل السلسلة جميعا.
قلت: ولكن الوجهات كثيرة جدا..
قال: كل من أراد أن يحاور جهة.. فعليه أن يتعرف على القبلة التي تتوجه إليها..
قلت: أتقصد أنا لن ندرس في هذا الفرع كل الوجهات؟
قال: لو فعلنا ذلك.. فلن تخرجوا من هنا.. لقد عرفت كيف استمر جدي أبو حامد أكثر
النبي الهادي (162)
من سنتين في دراسة الفلسفة اليونانية وحدها.
قلت: فماذا سندرس في هذا الفرع إذن؟
قال: سنتعرف على الوجهات العامة للملل والنحل.. ونتعرف على المصادر التي يمكن أن تكون مرجعا لنا إذا أردنا العلم التفصيلي عنها.
قلت: لم نكتف بهذا؟
قال: لأن العلم بالملل والنحل وحصرها وتصنيفها من العلوم التي استفدناها من نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. ألم تسمع حديثه في افتراق الملل والنحل؟
قلت: بلى.. فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) (1)
قال: ألا ترى كيف حصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصناف الفرق المتفرعة عن اليهودية، وعن النصرانية، وذكر ما سيصل إليه المسلمون من تفرق.
قلت: بلى.. ولكن من قومي من يتخذ من هذا الحديث مطية للتفريق بين المسلمين، وزرع الأحقاد بينهم.
قال: أولئك جهلة أو غافلون.. وهم لا يفهمون من النصوص المقدسة إلا ما توحي لهم به نفوسهم المدنسة بالحقد والتعصب والكبرياء.
قلت: فما تفهم أنت؟
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم الناصحين.. وهو يدلنا على التعرف على مقولات الفرق والملل والنحل.. لا لنصب عليها نيران أحقادنا، وإنما لنصيبها ببلسم شفائنا.. ألا ترى كيف يصنف الأطباء المرض الواحد إلى أنواع مختلفة.. تحت كل نوع منها أنواع أخرى.. وهكذا؟
قلت: بلى.. وقد مارست الطب زمنا، وعرفت من علوم ذلك ما وفقني الله لمعرفته.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم.
النبي الهادي (163)
قال: فاعبر من طب الأجساد إلى طب الأرواح.. واعبر من طب الأفراد إلى طب المجتمعات.
قلت: لقد ذكرني حديثك هذا بجدك أبي حامد.. فقد كان رجلا حكيما.. لقد قال بعد أن ذكر ما تعلمه من علوم الفلاسفة: (اعلم أنهم ـ على كثرة فرقهم، واختلاف مذاهبهم ـ ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الدهريون، والطبيعيون، والإلهيون)
ثم ذكر مقولات كل طائفة، وما تميزت به عن غيرها، فذكر أن الدهريين (هم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر، العالم القادر، وزعموا: أن العالم لم يزل موجوداً كذلك بنفسه، وبلا صانع، ولم يزل الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، كذلك كان، وكذلك يكون أبداً وهؤلاء هم الزنادقة)
وذكر أن الطبيعيين (هم قوم أكثروا بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات، وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات، فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى، وبدائع حكمته، مما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم، مطلع على غايات الأمور ومقاصدها، ولا يطالع التشريح، وعجائب منافع الأعضاء مطالع إلا ويحصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبير الباني لبنية الحيوان، لا سيما بنية الإنسان..! إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر عندهم ـ لاعتدال المزاج ـ تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به، فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضاً، وأنها تبطل ببطلان مزاجه فينعدم، ثم إذا انعدم فلا يعقل إعادة المعدوم، كما زعموا، فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة، وأنكروا الجنة والنار، والحشر والنشر، والقيامة، والحساب، فلم يبق عندهم للطاعة ثواب، ولا للمعصية عقاب، فانحل عنهم اللجام، وانهمكوا إنهماك الأنعام. وهؤلاء أيضاً زنادقة، لأن أصل الإيمان هو: الإيمان بالله واليوم الآخر، وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر، وإن آمنوا بالله وصفاته)
وذكر أن الإلهيين (وهم المتأخرون منهم مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون وأفلاطون
النبي الهادي (164)
أستاذ أرسطاطاليس وأرسطاطاليس هو الذي رتب لهم المنطق، وهذَّب لهم العلوم، وحرر لهم ما لم يكن محرراً من قبل، وأنضج لهم ما كان فجاً من علومهم ـ وهم بجملتهم، ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية، والطبيعية، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (الأحزاب: 25) بتقاتلهم، ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبلهم من الإلهيين، رداً لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم) (1)
قال: انظر.. إن ما قرأته من هذا النص يدل على منهج حكيم للمحاور الحكيم.. وهو منهج أشار إليه قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة:113)
قلت: ما تعني؟
قال: إن الآية الكريمة تشير إلى العداوة المستفحلة بين اليهود والنصارى.. وهي عداوة يمكن للمحاور الحكيم أن يستثمرها.. فيغني نفسه عن جهد كبير قد لا يكون بحاجة إليه.
قلت: نعم.. لقد ذكر جدك أبو حامد أنه استثمر العداوة فيما بين الفلاسفة، والصراع الذي كان بينهم.
قال: وهكذا الحكيم يستثمر الصراع بين الفلسفات المختلفة.. فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها، فهو أحق بها.
سكت قليلا، ثم قال: سأضرب لك مثالا..
قاطعه بعض رفاقي قائلا ـ وهو يبتسم ـ: هو لجدك أم لك.
ابتسم، وقال: ليس جدي سواي.. ولست سوى جدي.. لقد امتلأت حبا له، ففنيت فيه.. فلا تراني أتحدث إلا عنه.. فاعذروني..
__________
(1) المنقذ من الضلال.
النبي الهادي (165)
أما هذا المثال.. فأنا الذي اكتشفته بحمد الله.. ولو أن لجدي سبب في اكتشافه..
لقد أردت مرة أن أحاور بعض أهل الكتاب في التحريف الذي طال كتبهم، ولم يكن لدي الوقت الكافي للبحث في المخطوطات والتراجم والنسخ المختلفة.. وقد سمعت حينها أن اسبينوزا.. الفيلسوف اليهودي المعروف.. كان قد كتب رسالة في اللاهوت والسياسة، وهو أساساً نقد للعهد القديم ولأسفار موسى الخمسة.. وقرأت أنه من أوائل المفكرين الذين وضعوا دعائم العلم الذي يُسمَّى (نقد العهد القديم)، أو (النقد التاريخي للكُتب المقدَّسة).. فرحت أستثمر كل ما قاله في ذلك.
قلت: وماذا لو كان اسبينوزا أخطأ في استنتاجاته؟
قال: أنا لا تهمني الاستنتاجات.. ولم أكن أطلب الاستنتاجات.. بل كنت أطلب الحقائق، والتوثيقات المرتبطة بها.. أما النتائج.. فيمكنك أن تستثمرها في أي محل.. ألست ترى من الناس من يأكل التفاح ناضجا، ومنهم من يأكله مربى، ومنهم من يأكله مطبوخا؟
قلت: المهم أنه أكل تفاحا..
قال: وهكذا فعلت.. لقد كنت أبحث عن تفاح الحقائق من جميع أنواع البساتين لأطبخ منه بعد ذلك ما أراه صالحا للمعد المختلفة.
بعد أن مكثنا فترة في الفرع الأول.. انتقلت مع بعض رفاقي إلى الفرع الثاني من قسم (الخبرة).. وقد كتب على بابه قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)
وقد قابلنا في مدخل هذا الفرع الغزالي مبتسما مهنئا، فسألناه عن سر وضع الآية في مدخل
النبي الهادي (166)
هذا الفرع، فقال: هنا نبحث في المسائل المهمة التي نحتاج إلى الحوار فيها.
قلت: كنت أتصور أن الحوار يمكن أن يكون في كل شيء؟
قال: أجل.. ولكنا في هذه المدرسة خصوصا آلينا على أنفسنا أن نبتعد عن كل لغو.. فلذلك جعلنا هذا القسم مركز أبحاث في المسائل المهمة التي ينبغي الحوار فيها.
قلت: فما علاقة ذلك بالآية؟
قال: الآية الكريمة هي التي هدتنا إلى ذلك.. فالله تعالى يخاطب أهل الكتاب داعيا لهم إلى الاجتماع مع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حول القضايا العقدية الكبرى.. والتي هي إفراد العبودية لله، وترك الخلافات الجانبية..
قلت: أهناك خلافات جانبية؟
قال: هي كثيرة جدا.. وأكثرها مما يستنفذ الجهود.. وأكثرها مما ينفخ فيه الشيطان.
قلت: فهل وجدتم ما تخمدون به نيران الشياطين؟
قال: أجل.. وجدنا ـ بحمد الله ـ الكثير.. ونحن نتدارس ذلك في هذا الفرع.
بعد أن مكثنا فترة في الفرع الثاني.. انتقلت مع بعض رفاقي إلى الفرع الثالث من قسم (الخبرة).. وقد كتب على بابه قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111)، وقد لاقانا الغزالي كعهدنا به في بداية الدخول إلى كل فرع، وبعد أن هنأنا بتخرجنا من الفرع السابق، قال: مرحبا بكم في القسم الثالث من أقسام الخبرة.. إنه القسم الذي ترثون به سنة البراهين من إرث الحوار النبوي.
قال بعض رفاقي: عهدنا بالبراهين تدرس في العلوم العقلية، لا في العلوم النقلية.. فكيف تعتبر البراهين العقلية إرثا من إرث النبوة؟
النبي الهادي (167)
قال: لأنه لم يكتمل تطبيق البراهين العقلية لأحد من الناس كما اكتمل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولإخوانه من الأنبياء الكرام..
قلت: نحن نعرف أن أرسطو هو واضع البراهين العقلية.. فكيف تنسب ذلك للأنبياء؟
قال: ألا تعرف الخليل بن أحمد؟
قلت: وكيف لا أعرفه؟.. إنه واضع علم العروض، فهو مكتشف أوزان البحور الشعرية المعروفة وواضع تفعيلاتها.
قال: أمعلقته أجمل، أم معلقة زهير بن أبي سلمي؟
ضحكت، وقلت: ما بالك؟.. لا شك أن بضاعتك مزجاة في الشعر.. كيف تقارن بين رجل باحث لا علاقة له بالشعر بأولئك الفحول الكبار من الشعراء؟
قال: فعلم من ذكرت من الفحول بالعروض أكبر أم علم الخليل؟
قلت: بل علم الخليل.. فلم يكن في الجاهلية من يعرف بحور الشعر.
قال: وهكذا البراهين العقلية.. فرق كبير بين أن تعرف المقدمات والمقاييس وبين أن تطبقها.. نعم ربما يكون أرسطو أعلم بمصطلحات المنطق.. لكن التطبيق المثالي للمنطق لم يتحقق بكماله لغير الأنبياء وورثة الأنبياء.
قلت: ألست تحجر واسعا؟
قال: لا.. لم أحجر واسعا.. إن الأحكام العقلية تقتضي عقلا سليما لا تؤثر فيه أي شهوة أو شبهة.. فلا يمكن أن يكون الاستنتاج العقلي سليما، وهو محاط بأكوام الشهوات والشبهات.
قلت: أكوام الشبهات والشهوات!؟
قال: أجل.. ونحن في هذا الفرع من هذا القسم نبحث في هذه الأكوام لنطهر العقل منها، فلا يمكن للعقل الملطخ بذلك الدنس أن يصدر منه إلا الدنس.
قلت: اضرب لي أمثلة عنها..
النبي الهادي (168)
قال: منها الكبر الذي تمتلئ به تلك العقول عن سماع غيرها.. لقد ذكر بعض هؤلاء، فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة:171).. إن في هذه الآية تشبيها بليغا للمؤمن الذي قد يكون محدود الثقافة، ومع ذلك يخاطب الكفار الذين قد يكون منهم العلماء والباحثون وأهل الفكر فلا يسمعون منه إلا صوته، ولا يفهمون ما يقول، أو قد يضحكون مما يقول، فهم كالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفهم ما يقول، لأن موجات الحديث مختلفة، وطريقة التفكير مختلفة، وبعد النظر متفاوت.
قال بعض رفاقي: صدقت.. فكثيرا ما نرى عقلا رياضيا جبارا يحل أعقد المعضلات الرياضية، أو عقل اقتصادي يحل أفتك أزمات مجاعة، أو عقل فيلسوف يقسم الشعرة بذكائه، ولكنه إذا ما حدث عن أبسط القضايا الإيمانية صعر خده ولوى عنقه، وقال: هذه قضايا هامشية، أو مسائل غير مطروحة، ويرضي ـ بعد ذلك ـ بأن يموت على إلحاد أو على إيمان لا وجود لأي أثر له في حياته.
قال: لقد شبه الله أمثال هؤلاء بالأنعام تشبيها صريحا في القرآن وفي مواضع كثيرة، بل يزيد في تفضيل الأنعام عليهم، قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (المائدة:22)، وقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان:44)
قلت: صدق الله العظيم.. إن هؤلاء الذين يتيهون بمعارفهم وصنائعهم الدنيوية البسيطة يوجد ما يماثلها في الحيوانات التي لم تدرس في الجامعات، ولم تقرأ الكتب، ولم تتلق أي تدريبات، فإن أي عنكبوت يتحدى أبرع مهندس، وأي نملة تتحدى وزارة تموين، وأي نحلة تفوز على جميع خبراء التغذية، بل أي نبات يفقه أسرار الجو كما لا يفقهه خبراء الإرصاد فيلبس لكل مناخ لبوسه.
النبي الهادي (169)
قال بعض رفاقي: فهل هناك غير الكبر من حجب العقل؟
قال: كل ما درستموه في القسم الأول هو حجب من حجب العقل.. فالعقل الذي امتلأ صاحبه بالحسد والحقد لن يفكر إلا فيما يرضي سموم الحسد والحقد التي تمتلئ بها نفسه.
لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:109).. لقد ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن الحسد هو الذي حال بين هؤلاء وبين التسليم للحق..
قلت: ولكن مع ذلك.. فإن المقاييس العقلية يمكنها أن تطهر العقل من ران هذه الأكوام..
قال: ذلك صحيح.. إذا استطاع صاحب العقل أن يعمل عقله.. ويلغي ما تطلبه نفسه من نوازع الشر.
قلت: أي منطق تعتمدون في هذه المدرسة.. فإن للمنطق مدارس مختلفة.
قال: هو باختلاف مدارسه يؤول إلى شيء واحد.. ونحن نعتمد كل ما ورد في ذلك..
بعد أن مكثنا فترة في الفرع الثالث.. انتقلت مع بعض رفاقي إلى الفرع الرابع والأخير من قسم (الخبرة).. وقد كتب على بابه قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189)، وقد لاقانا الغزالي كعهدنا به في بداية الدخول إلى كل فرع، وقد كان أول ما سألته هو عن سر وضع آية الأهلة في مدخل الفرع، فقال: هذه الآية تشير إلى العلم الذي ستدرسونه في هذا الفرع.
قلت: أي علم؟
قال: علم التسيير.
النبي الهادي (170)
قلت: عهدي بالتسيير يدرس في الاقتصاد والسياسة.
قال: ونحن نستثمر التسيير في الاقتصاد والسياسة لنحفظ به الحوار من أن يتحول إلى جدل.. أو نحفظ به الجدل من أن يتحول إلى الجدال بالتي هي أسوأ، لأنا أمرنا أن لا نجادل إلا بالتي هي أحسن.
قلت: فما علاقة الآية بذلك؟
قال: لقد ورد في سبب نزولها أن بعض الصحابة قالوا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت (1).
قلت: أعرف سبب نزول الآية.. وأنا لم أسأل عن ذلك، وإنما أسأل عن الحكمة من وضع هذه الآية في هذا المحل.
قال: إن الله تعالى في هذا الجواب يعلمنا كيف نجيب، وكيف نحاور.. لقد سأل هؤلاء عن مسألة ترتبط بعلم الفلك، وهي فوق ذلك ترتبط بعلوم لا قبل لهم بها في ذلك الحين.. فصرفوا عنها صرفا حسنا إلى ما ينفعهم.
قلت: إن ذلك يشبه ما ورد في الحديث من أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أعددتَ لها؟)، قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: (أنت مع من أحببت) (2)
قال: أحسنت بذكر هذا المثال، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صرف السائل عما لا ينفعه إلى ما ينفعه.. دون أن يشعر السائل.. فلو قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أعلم متى يوم القيامة)، فربما يقع في نفس الأعرابي ما يقع، لقرب عهده بالجاهلية، أو لجهله.. بالإضافة إلى أن ذلك لا يفيده أي فائدة
__________
(1) رواه ابن عساكر.
(2) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (171)
جديدة.. ولهذا كان من حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صرفه عن سؤاله الذي لا ينفعه جوابه، إلى جواب ينفعه في دينه وآخرته، وينفع الأمة من بعده، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (وما أعددتَ لها؟)، فانصرف الأعرابي عن سؤاله.. وانشغل بما ينفعه عما لا ينفعه.
قلت: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا أيضا في قوله تعالى مخبرا عن الحوار الذي جرى بين موسى عليه السلام وفرعون، كما قال: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)} (الشعراء)
قال: في هذه المحاورة فوائد جليلة، ونكت بديعة، ونحن نستثمرها هنا خير استثمار..
فمنها أن موسى عليه السلام بدأ محاورته بالبيان، وأنه وأخاه رسولا رب العالمين.. وهذا توجيه للحوار، وتحكم في موضوعه حتى لا يصرفه فرعون إلى أي موضوع آخر..
ومنها عدم انسياق موسى عليه السلام وراء ما يثيره فرعون، مما ليس هو محل المحاروة، فقد اعترض عليهما فرعون بقوله: {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (الشعراء:18) إشغالاً لهما عن نقطة البحث، وهي إثبات الربوبية لله.
ثم ذكّره بقتل الرجل..: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
النبي الهادي (172)
(الشعراء:19)
فتنبه موسى عليه السلام إلى ما يريده فرعون من صرف الحوار عن موضوعه الحقيقي، فبادره بالاعتراف، حتى لا يضيع الوقت في ذلك، فالوقت ثمين، والموقف لا يسمح بضياع شيء منه، {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَا مِنَ الضّالّينَ} (الشعراء:20)
فقطع موسى عليه السلام بذلك الطريق على فرعون، كي لا يخرج عن الموضوع، وحتى لا يحول المحاورة إلى قضايا شخصية.
ثم رد على شبهته في مسألة تربيته باختصار رابطا لها بالموضوع الذي جاء من أجله، والذي هو تحرير بني إسرائيل: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّهَا عَلَيّ أَنْ عَبّدتّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء:22)، أي: هل تعادل نعمة تربيتك لي، بالإساءات والأذيات لبني إسرائيل، أوَ تريد أن تستر ظلمك، وتعبيدك بني إسرائيل، بتربيتك لي، وبعبارة أخرى: أتذكر وتمن علي بتربيتك لي، وتتناسى ظلمك واستعبادك لبني إسرائيل.
فلما فشل فرعون في إشغال موسى عليه السلام والحضور بإثارة الماضي، لجأ إلى الاتهام المباشر، وحاول السخرية من موسى واتهامه بالجنون، فلم يعبأ موسى عليه السلام بمثل هذه الاتهامات، لأن فرعون أُسقط في يديه، فلا حاجة بعد ذلك للرد على الأمور الشخصية، فالقضية أكبر، والوقت أثمن.
لقد استمر موسى عليه السلام في بيانه، وفي عرض أدلته.. فلما استهزأ فرعون به قائلاً: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء:23) كان جواب موسى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} (الشعراء: 24)
ولما قال فرعون للملأ حوله: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} (الشعراء:25)، قال موسى عليه السلام ردا عليه: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} (الشعراء: 26)
ولما اتهمه فرعون بتهمة الجنون، أجابه موسى عليه السلام في غير مبالاة بما يمس شخصه: {رَبّ
النبي الهادي (173)
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (الشعراء:28)
وهكذا لم يلتفت موسى عليه السلام لكل ما يرتبط بشخصه، بل بقي مصرا على الموضوع الذي جاء من أجله إلى آخر لحظة.
بعد أن مكثت ما شاء الله أن أمكث في القسم الثاني بفروعه الأربع، أذن لي مع بعض رفاقي أن ننتقل إلى القسم الثالث، وهو قسم (الأدب).. لقد كان مكتوبا في مدخل ذلك القسم قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)، وقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125)
وقد رأينا في ذلك القسم الذي يشبه المسجد حلقات كثيرة، أمامها مصنفات قديمة، سألنا الغزالي الذي كان في استقبالنا عن هذه الحلقات، فقال: هؤلاء أساتذة جاءوا من أصقاع الأرض يتدارسون ما ورد في السنة والسيرة المطهرة من آداب الحوار (1)..
قلت: لم يفعلون ذلك؟
قال: هم يعلمون أن الكمال مرتبط بسلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يصدر عن الإنسان الكامل إلا الكمال.. فلذلك راحوا يبحثون في هديه عن آداب الحوار..
قلت: أهذه الآداب سنن وفضائل.. أم مباحات وجائزات.. أم واجبات وفرائض؟
قال: السائر على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يفرق في هذا بين واجب ومستحب ومباح.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هو رمز الكمال، وهو الذي أدبه ربه، فأحسن تأديبه.. وما على من يريد الكمال إلا أن يسير على هديه من غير أن يتيه في الجدل أو يغرق في أوحال التكلف والفضول.
__________
(1) استفدنا في هذا المبحث خصوصا من البحوث المقدمة في (مؤتمر الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي) المقام في مدينة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة في الفترة من 28 – 30/ 3/1428 هـ..
النبي الهادي (174)
قلت: فكيف نتعلم في هذه الحلقات الكثيرة؟
قال: طوفوا عليها كما يطوف النحل على الأزهار.. ففي كل زهرة من الرحيق ما ليس في غيرها.
كانت أول حلقة بدأت بها جلس فيها قوم من البدو.. يبدو أنهم قدموا من جزيرة العرب.. فقد كانوا يرتدون ما يرتديه أهل تلك المناطق من ثياب..
قرأ قارئهم من الكتاب الضخم الذي كان بين يديه ما حدث به ابن عباس قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214) صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟!.. فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد:1) (1)
بعد أن أنهى المحدث حديثه التفت إلى المحيطين به، وقال: ما الذي يمكن استثماره من هذا الحديث من الهدي النبوي في الحوار؟
قال أحدهم: الجهر بالحوار.. أحيانا لا بد من الجهر بالحوار لينتفع به الجميع، ولهذا ترون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ حديثه حتى اجتمعت الجموع حوله.
قال آخر: اختيار المكان والزمان المناسبين.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم اختار مكانا عاليا متوسطا يعرفه كل الناس، وهو جبل الصفا.
قال آخر: حسن الاستهلال.. ففي الحديث إشارة مهمة إلى أهميته في بدء الحوار.. وذلك لشد انتباه السامعين.
__________
(1) رواه البخاري.
النبي الهادي (175)
قال آخر: في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟) إلزام للمحاور.. حيث مهّد صلى الله عليه وآله وسلم لخطابه معهم بجعلهم يُقرّون له بالصدق والأمانة، مما يلزمهم التصديق بما يقول خاصة في قوله على الله تعالى، فما كان ليترك الكذب على الناس ثم يكذب على الله تعالى.
قال آخر: في الحديث نرى ـ أيضا ـ ما كان عليه صلى الله عليه وآله وسلم من الصبر على رد الطرف المخالف، ولو أساء الأدب.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد على أبي لهب إساءته، إنما تولى الله تعالى الرد، وذلك ليكون عبرة لمن يعتبر.
فالمطلوب منا هو التحمل والصبر، ولا نغضب لأنفسنا، لعل الطرف الآخر يرعوي أو يشعر بسوء تصرفه فيندم ويكون سبا في تراجعه عن مذهبه السيئ، كما قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34)
انتقلت إلى حلقة أخرى.. سمعت القارئ فيها يقرأ ما حدث به ابن اسحق من أن عتبة بن ربيعة ـ وكان سيدا ـ قال يوما ـ وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد وحده ـ: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنّا؟ ـ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيدون ويكثرون ـ فقالوا: يا أبا الوليد قُم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: (يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها)
قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت َ تريد به شرفا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه
النبي الهادي (176)
لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه...
حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني؟ قال: أفعل، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)} (فصلت)، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما، يسمع منه، ثم انتهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك)
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
وفي روايات أخرى: أن عتبة استمع حتى إذا بلغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13) قال: حسبك، حسبك، ووضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وناشده بالرحم أن يكف، وذلك مخافة أن يقع النذير، ثم قام إلى القوم فقال ما قال.
التفت القارئ إلى المحيطين به، وقال: ما ترون في هذا الحديث من آداب الحوار وسننه؟
قال أحدهم: الإنصات.. بل الإنصات الكامل حتى يفرغ الطرف الآخر دون مقاطعة، بل إتاحة المجال له إن أمكن لإضافة ما يريده إن كان غفل عن شيء أو نسيه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أقد
النبي الهادي (177)
فرغت يا أبا الوليد)، وهذا غاية في الإنصاف ونهاية في الذوق الرفيع.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم استمع لوجهة نظر الخصم بصدر رحب، مع أنها وجهة نظر مرفوضة، وذلك لضمان استماع الطرف الآخر لوجهة نظره.
قال آخر: عدم إظهار الاشمئزاز من الطرف الآخر مهما بلغت به الخصومة.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعنف عتبة، ولم يسخر منه.. وحاشاه من كل ذلك.
قال آخر: بل فوق ذلك نرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى الطرف الآخر حقه من الاحترام اللائق به في المخاطبة، والكلام معه بأدب وتقدير، ويظهر ذلك من مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعتبة بكنيته: {أفرغت يا أبا الوليد)
قال آخر: مما يتجلى في الحديث من هديه صلى الله عليه وآله وسلم في الحوار أهمية الاستعانة بالقرآن الكريم وما فيه من مواعظ، خاصة إذا كان الطرف الآخر ممن يفهم ذلك ويُحسن تدبره، وقد اختار النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم آيات من أول سورة فصلت تناولت موقف المشركين من الإسلام وتعرضت لعقيدة التوحيد وقدرة الله تعالى الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
وقد كان لهذه الآيات وقع شديد على نفس عتبة بن الوليد حيث أثرت فيه تأثيرا شديدا، حتى جاء قومه وقال: (سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم)
انتقلت إلى حلقة أخرى.. سمعت القارئ فيها يقرأ ما حدث به ابن اسحق عن عبد الله بن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، أخو بني عبد الدار، وأبو البَختري بن هشام، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود... قال: اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظَهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد
النبي الهادي (178)
فكلموه وخاصموه حتى تُعذِروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشارف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهم فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصا يحب رُشدهم ويَعزّ عليه عنَتَهُم، حتى جلس إليهم، فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا إليك لنكلمك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة، وسفّهت الأحلام وفرّقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح قد جِئته فيما بيننا وبينك ـ أو كما قالوا له ـ فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئيا تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يُسمون التابع من الجن رِئيا ـ فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نُبرئك منه، أو نُعذر فيك.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ـ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ
قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماءً ولا أشد عيشا منا، فسلْ لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت علينا، ليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن لنا منهم قُصي بن كلاب، فإنه كان شيخَ صِدْق، فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألنا صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بهذا بُعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم
النبي الهادي (179)
ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخُذ لنفسك، سلْ ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جِنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يُغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا ـ أو كما قال ـ فإن تقبلوا ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله بيني وبينكم.
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك إلى الله، إن يفعله بكم فعل.
قالوا: يا محمد، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تُراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به، إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نُهلكك أو تُهلكنا؟
فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام عنهم.
التفت القارئ إلى المحيطين به، وقال: هذا هو نص هذه الرواية.. فالتمسوا منها بدائع الأدب، وغرائب الحكمة.. فلا أدب أرفع من أدب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا حكمة أحكم من حكمته.
قال أحدهم: من الملاحظات المهمة المرتبطة بهذا الحديث أن قريشا هي التي طلبت إجراء الحوار، فبادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى إجابتها على الرغم مما كانوا عليه من العناد والمكابرة.. وهذا يدل
النبي الهادي (180)
على أن الواجب يحتم على الدعاة وأهل العلم اقتناص كل فرصة فيها حوار، لعلها تكون مفتاحا لهداية الآخرين، ولأن ذلك فرصة ثمينة لعرض ما عندنا من الحق والخير واستماع وجهة نظر الآخر لمعرفة طريقة تفكيرهم وما هي بواعثهم وأهدافهم.
قال آخر: ومن الملاحظات المهمة ـ كذلك ـ أن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قد استمع لمطالبهم حتى انتهوا من ذلك دون أن يقاطعهم، وهذا يذكرنا بأهم أدب من آداب الحوار، وهو حسن الاصغاء للآخر حتى ينتهي، لأن المقاطعة توغر الصدور وتشتت الأفكار، وتُعكّر الحوار.
قال آخر: ومنها أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعرض لهم في هذا الحوار بتسخيف أو تعنيف أو شتم، مع أنهم تفننوا في تقبيح ما جاء به والتشنيع عليه في ذلك، حتى أنهم لم يستبعدوا كونه مريضا أو أنه يتلقى تعليمه من شخص آخر، ونحو ذلك مما يسيء له.. وذلك لأن الحرص على هداية الناس وإقناعهم بالحق يحتاج جواً من المودة والتسامح وإبداء التغاضي دون أي تشنج.
قال آخر: ومنها أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بادر بإيضاح موقفه عندما قال لهم: (ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا..)، وهذا الجواب الصريح ضروري ليقطع عليهم وساوسهم وأمنياتهم بتخذيله ومحاولة ثنيه عن هدفه، فالجواب الحازم فيما يتعلق بالمبادئ والثوابت أمر في غاية الأهمية، وذلك لإدراك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن الطرف الآخر عندما يشتد عليه الضغط ويخشى من عواقب ظهور أصحاب الحق يلجا إلى العروض المغرية من منصب أو جاه أو مال.
قال آخر: ومنها أهمية إظهار الصبر قولا وعملا، لأن الصبر دليل على الإيمان العميق بالفكرة، وبرهان على الصدق في المضي بها إلى آخر المطاف مهما كانت النتائج، ولهذا كان في جوابه صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم..)، وإظهار الصبر أحد عوامل اقتناع الطرف الآخر بصدق المحاور وأنه صاحب هدف نبيل يضحي من أجله.
النبي الهادي (181)
قال آخر: ومنها عدم انسياق المحاور وراء رغبات وتعجيزات الطرف الآخر، لأن الدعوات إنما تقوم على العقيدة التي قامت البراهين على صدقها، ثم إن طلبات التعجيز لا تنتهي لأن الهدف منها إضاعة الوقت أو جر الداعية إلى سلسلة من الطلبات غير الواقعية.
قال القارئ: لقد ذكر المؤرخون ما أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم جوابا على ما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى.. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (الرعد:31)، أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت.
ومنها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} (الفرقان:20)، أي جعلت بعضكم لبعض بلاءً لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رُسلي فلا يُخالفوا لفعلت.
ومنها قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} (الإسراء)
وأنزل الله تعالى عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سبأ:47)
انتقلت إلى حلقة أخرى، فسمعت القارئ يقرأ فيها ما حدث به ابن إسحق عن ابن عباس من أن أشراف قريش مشوا إلى أبي طالب عندما علموا بأنه على فراش الموت، فقالوا له: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا
النبي الهادي (182)
وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا، ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه.
فبعث إليه أبو طالب فجاءه، فقال: يا ابن أخي.. هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك، ليعطوك وليأخذوا منك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، كلمة واحدة تُعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم.
فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات.
قال: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه.
فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا، إن أمرك لعجب!
ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا عل دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، قال: ثم تفرقوا.
فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططا.
التفت القارئ إلى الجمع، وقال: ما ترون في هذا الحديث؟
قال أحدهم: لقد حدد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلبه بدقة، فلا يحق لمن دخل في حوار أن يكون جاهلا بمطالبه، ولا مطالب خصمه.
قال آخر: انظروا كيف لم يتأثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك الاستهزاء الذي أبدوه عندما صفقوا.
تركتهم يستنبطون من الحديث وجوه الآداب والحكمة، وانتقلت إلى حلقة أخرى كان قارئها يروي ما حدث به ابن إسحق عن حوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع نفر من الخزرج، قال: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: من أنتم؟
قالوا: نفر من الخزرج
قال: أمن موالي اليهود؟
النبي الهادي (183)
قالوا: نعم.
قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟
قالوا: بلى.
فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام، أن يهودا كانوا معهم في بلادهم... فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدَكم به يهود، فلا تسبقَنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام (1).
التفت القارئ إلى الجالسين، وقال: ما تقولون في هذا الحوار؟
قال أحدهم: أرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استفاد في هذا الحوار من المناخ النفسي والظروف المحيطة بالطرف الآخر، فالطرف الآخر هنا ـ وهم الخزرج من أهل المدينة ـ يجاورهم اليهود وهم أهل كتاب، فلم يكن غريبا على أذهانهم الحديث عن الله تعالى وكتبه ورسله فيما يسمعونه دائما من اليهود، وكانوا مهيئين نفسيا لسماع حديث الإسلام، فقد كانوا يحسون دائما بالحسرة أمام اليهود، فهم أميون ليس عندهم رصيد يواجهون به اليهود الذين يشعرون بتفوقهم العلمي وأفضليتهم على غيرهم، لأنهم أهل كتاب، ثم إن الحديث عن النبي المرسل كان يملأ جو يثرب، بل يهددهم اليهود به، فما إن تناهى إلى سمع الخزرج حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى قالوا: (والله إنه للنبي الذي توعدَكم يهود فلا يسبقُنكم إليه)
قال آخر: وأرى كذلك ذلك الثبات والهدوء الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخاطبهم.. إن ذلك السمت وحده كاف للتأثير في القلوب والعقول.
-\--\-
__________
(1) رواه ابن إسحق.
النبي الهادي (184)
ظللت فترة من الزمن أتردد على تلك الحلقات أستمع فيها إلى هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحوار، وآدابه فيه، وقد ملأني بالغرابة ما أراه من قوم يدعون أنهم يحتكرون السنة، وهم أبعد الناس عن تلك الآداب الراقية التي لم يكن يبديها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع من معه من المسلمين فقط، بل كان يبديها مع ألد أعداء الإسلام، وأشنع خصومه حتى لم يجدوا إلا أن يسلموا له، ويسلموا على يديه.
بعد أن مضت تلك المدة التي تشرفت فيها بدراسة ما ورد في السنة المطهرة والسيرة العطرة من مجالس الحوار التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أصناف الناس، انتقلت مع بعض رفاقي إلى القسم الرابع من أقسام الحوار، وقد وجدنا على بابه مكتوبا قصة حوار الله تعالى مع إبليس، وقد تعجبنا من وضع تلك القصة في ذلك المحل، ولذلك ما إن لاقانا الغزالي في مدخل ذلك القسم ـ كعادتنا به ـ حتى رحنا نسأله عن سر وضع تلك القصة في ذلك المحل، فقال: أتعرفون إبليس؟
ابتسمنا، وقلنا: ومن لا يعرفه؟.. ذلك الذي راح يتحدى ربه، لا يمكن أن يجهله أحد.
قال: ألا ترون كيف حاوره الله تعالى (1)، فبدأ بسؤاله عن سر تصرفه، ثم لما طلب منه النظرة أمهله؟
قلنا: أجل.. ذلك واضح.
قال: أرأيتم لو أن إبليس بدل أن يقول: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (لأعراف: 12)، قال: (يا رب.. لقد عظم علي أن أسجد لغيرك، فاغفر لي إن كنت قد
__________
(1) اعتبر العلماء حوار الله تعالى مع إبليس مناظرة، قال الرازي: (دلّت المناظرات المذكورة في القرآن بين الله تعالى وبين إبليس على أنه تعالى كان يتكلم مع إبليس من غير واسطة، فذلك هل يسمى وحياً من الله تعالى إلى إبليس أو لا، الأظهر منعه، ولا بد في هذا الموضع من بحث غامض كامل) التفسير الكبير: 27/ 619.
النبي الهادي (185)
أخطأت) (1)
قلنا: لو قال ذلك ما كان إبليس إبليسا.
قال: أتقصدون أنه لو قال ذلك لم يطرد من رحمة الله.
قلت: أجل.. وفي السنة ما يدل على ذلك.. ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن عبدا من عباد الله آتاه الله مالا وولدا، فذهب من عمره عمر وبقي عمر، فقال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: إني والله ما أنا بتارك عند أحد مالا كان مني إليه إلا أخذته أو تفعلون بي ما أقول لكم، فأخذ منهم ميثاقا، قال: أما الأول، فانظروا إذا أنا مت، فأحرقوني بالنار، ثم اسحقوني، ثم انظروا يوما ذا ريح، فأذروني لعلي أضل الله، فدعي واجتمع، فقيل: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشية عذابك، قال: استقل ذاهبا فتيب عليه (2).
فإن هذا الرجل تصور أنه قادر على إضلال الله، ولكنه في حواره مع الله تأدب، وأبدى حجته في تواضع وعبودية، فغفر له.
قال أحد رفاقي: بل في القرآن الكريم ما يدل على ذلك.. فإن القرآن كما ذكر ما وقع فيه إبلس، ذكر ما وقع فيه آدم عليه السلام.. ولكن الفرق بينهما أن إبليس تعنت واستكبر، وآدم عليه السلام تواضع، وقال مخاطبا ربه ـ ومعه زوجه ـ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (لأعراف: 23)
قال الغزالي: فقد عرفتم سر ما كتب في الباب من قصة إبليس وحواره مع ربه.
قلنا: لا.. لم نفهم.. نحن نعرف القصة من قبل.
قال: ألا ترون أن الله تعالى.. مع تعاليه وعظمته.. يحاور إبليس، وهو الذي عصاه، بل
__________
(1) روي أن إبليس استشفع بموسى - عليه السلام - إلى ربه أن يتوب عليه فشفع، فقال: يا موسى إن سجد لقبر آدم، فأعلمه، فقال بعد أن أظهر الغضب: لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا.
(2) رواه أحمد والحكيم والطبراني في الكبير عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
النبي الهادي (186)
يعطيه فوق ذلك ما يطلبه من الإنظار؟
قلنا: ذلك صحيح.
قال: فهل هناك من هو شر من إبليس؟
قلنا: لا نعلم أحدا شرا منه.. فكل شر يحصل في الأرض له نصيب منه.
قال: فهل هناك من هو أعظم من الله؟
قلنا: ما تقول؟.. لو قلنا: نعم لكفرنا.
قال: فاعلموا إذن بأن الله تعالى في قدسه حاور شر خلقه، وأعدى أعدائه، فمن تكبر على أي شخص يريد أن يحاوره ـ مهما كان ـ فقد وضع نفسه في مرتبة أعظم من مرتبة الله، أو وضع من طلب محاورته في محل أخطر من المحل الذي جعل الله فيه إبليس.
رأينا فروعا كثيرة في ذلك القسم، فقلنا: ما هذه الفروع؟
قال: هذه الفروع تستن بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم) (1)
قلنا: إن هذا الحديث ينزل كل منزل، فما منزله هنا؟
قال: المحاور الذي كلف بأن يخاطب الكل يعرف الأساليب التي يتعامل بها مع كل صنف، فلكل أسلوبه الخاص، ولكل منافذه الخاصة.
قلنا: فهل ننزل بهذه الفروع لنتعلم من أهلها؟
قال: أجل.. فلا يمكن لمن يريد أن يستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحوار أن يجهل هذا.
-\--\-
بعد أن درسنا بالتفصيل ما يرتبط بمناهج الحوار مع الملأ والعامة، وكيفية إجابتهم على ما ينتشر بينهم من شبهات، انتقلنا إلى فرع من فروع قسم السعة، وهو الفرع المسمى (الأحبار)، وقد كتب على باب هذا الفرع قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ
__________
(1) رواه أبو داود.
النبي الهادي (187)
ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46)
وقد كان هذا الفرع من أهم الفروع الدراسية في هذه المدرسة، وقد استفدنا منه مناهج كثيرة في التعامل مع أحبار الأديان المختلفة..
لا يمكنني أن أذكر لك كل ذلك، ولكني سأذكر لك حادثة وقعت بين بعض زوار هذه المدرسة والغزالي.. سأحكيها لك بحروفها.. فقد كانت هذه الحادثة من أهم ما رغبنا في الدراسة في هذا الفرع.
بمجرد أن دخلنا إلى هذا الفرع، رأينا رجلا جسيما صاحب لحية طويلة، يمسك بالغزالي بشدة، ويقول: اتق الله يا رجل.. ما الذي تريد أن تفعل بالمسلمين؟.. ألم ترتدع وقد حرق سلفنا كتب جدك؟
ابتسم الغزالي، ولم يرد عليه.. أردنا أن نتدخل، فنهرنا.. ثم قال للرجل الذي لا يزال يمسك بتلابيبه: رويدك ـ يا أخي ـ فلا يمكنني أن أنتصح لما لم أنصح به.. انصحني ـ أولا ـ ثم عنفني كما تشاء.
أطلق الرجل الغزالي، ثم قال: لك الحق في هذا.. لقد استفزني الغضب لله، ولرسول الله، فرحت ـ من غير شعور ـ أفعل ما أفعل.
قال الغزالي: تعال نجلس.. ولتذكر حجتك بتفاصيلها.. وليكن هؤلاء شهودا على ما نقول.. ألسنا في مدرسة حوار؟
جلس الغزالي مع الرجل، وجلسنا في محل قريب منهما نسمع ما يقولان:
قال الرجل: لقد مررت على جمع هنا يقول كلاما تنهد له الجبال.
قال الغزالي: وما يقولون؟
قال الرجل: كله كفر وضلال.. فكيف أردده عليك؟
النبي الهادي (188)
قال الغزالي: ألك حجة على إنكار ذلك؟
قال الرجل: بل لدي حجج كثيرة.. منها ما يرتبط بمصادرنا المقدسة، ومنها ما يرتبط بواقعنا.
قال الغزالي: يسرنا أن نسمعها منك، فحدثنا.. وابدأ بالدين.. فالدين مقدم على الواقع.. فلا اجتهاد مع نص.
قال الرجل: أول ذلك، وأبلغه قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)، وقوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي} (آل عمران:20)، وقوله تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحج: 68)، فهذه الآيات الكريمة وأمثالها تغلق الباب أمام الحوار في العقائد، حيث أنها تحث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال المجادلة على تفويض الأمر إلى الله، وعدم الخوض في الحوار الكلامي مع الآخرين.
هذا زيادة على أن قضايا العقيدة الإيمانية، يتعذر إخضاعها للمحاجة والجدل، ومن ثم ينبغي أن يترك شأنها لرب القلوب والضمائر.
قال الغزالي: فما تقول في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46)
قال الرجل: هذه الآية تتعلق بالأمور الدنيوية المتصلة بالمعاملات الدائرة في إطار التعايش في علاقة المسلمين بغيرهم، فالخلاف حول العقائد يتعذر تجاوزه أو حتى الوصول فيه الى حل وسط، بل إن الحوار في مثل هذه الأمور العقدية قد يبعد ولا يقرب، ويورث المرارة ولا يبددها.
قال الغزالي: هذه حجتك الدينية، فما حجتك الواقعية؟
قال الرجل: لقد رأيت أن الحوار ما هو إلا وسيلة أراد القائمون عليه من خلالها
النبي الهادي (189)
اختراق عقول صفوة المفكرين المسلمين بهدف تحييدهم واخراجهم من دائرة الحوار الحقيقي، وذلك بإضفاء صفات السماحة والعصرية والتحضر والمرونة والتنوير وغير ذلك من المصطلحات التي تطلق على بعض المشاركين في هذه المؤتمرات.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هدف مؤتمرات الحوار مع الأحبار تذويب الاسلام عن طريق الإخاء الديني والحوار بين الأديان في ظل الدعوة الابراهيمية، ومثل هذه الدعوات دعوات خطيرة وخبيثة تستهدف عقيدة التوحيد عند المسلمين تحت شعار الوحدة بين الأديان، وما تفرع عن ذلك من محاولة طبع القرآن والتوراة والانجيل في غلاف واحد، وبناء مسجد وكنيسة وبيعة في محيط واحد.
ولخطورة هذه الدعوة أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بالسعودية فتوى جاء فيها: (لا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد نبياً ورسولاً الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة والتشجيع عليها وتسليكها بين المسلمين، فضلاً عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها)
سكت الرجل، فقال الغزالي: هل فرغت ـ يا أخي ـ من ذكر حججك؟
قال الرجل: وهل ترى أن مثل هذه الحجج يمكن أن تقاوم.. إنها الصارم المسلول المجهز على كل محاور مشلول؟
قال الغزالي: فهل تأذن لي في أن أدلي بحججي؟
قال الرجل: تحدث كما تشاء.. ولكن إياك وبديهيات الدين.. فلا ينبغي أن يناقش أحد في البديهيات.
قال الغزالي: سأكتفي بشاهدين.. وستجد فيهما الجواب المفصل على ما ذكرته، فلا تقاطعني حتى أكملهما لك.
قال الرجل: فما أولهما؟
النبي الهادي (190)
قال الغزالي: القرآن الكريم.. اذهب، وافتح القرآن الكريم، فستجده يقرر في مواضع كثيرة مبدأ الحوار مع أهل الكتاب وغيرهم، بل يضع ضوابط الحوار معهم، ويدعو إلى استخدام أرقى أنواع الخطاب وألطف العبارات في الحوار.
بل إنه فوق ذلك يقدم العديد من النماذج لأنواع من الحوار..
بل إنك في قراءتك للقرآن الكريم تجد كل شيء قابلا للحوار، فلا مقدسات ولا محرمات في الحوار، حتى في وجود الله تعالى وشخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنحن نعلم أن القرآن الكريم بسط كل هذه الموضوعات للحوار مع أهل الشرك والإلحاد فقد عرض لكل المفردات التي اتهم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شخصه وفي رسالته: هل هو مجنون أم عاقل؟ ساحر أم نبي؟ كاذب أم صادق؟ قرآنه بشري أم إلهي؟.. ثم عالج القرآن كل هذه المسائل بكل موضوعية وعلمية.
بل إن الله تعالى مع عظمته وقدسيته حاور إبليس، قال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (لأعراف:12)
وذكر القرآن الكريم حواره تعالى مع ملائكته، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)
ويذكر القرآن الكريم أن إبراهيم عليه السلام حاور الملائكة، بل اعترض عليهم، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)} (العنكبوت)، بل إن الله سمى حواره للملائكة جدالا، وهو دليلا على تكرر مراجعته لهم، قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)} (هود)
النبي الهادي (191)
وفوق هذا كله، فإن القرآن الكريم يحاور أهل الكتاب في قضايا دينهم، لا يترك في ذلك قضية من القضايا الكبرى إلا طرحها.
بل إنه ـ فوق ذلك كله ـ أمرنا بحوارهم دون أن يستثني عقيدة أو غيرها، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46)
فهذه الآية الكريمة ـ فضلاً عن مطالبتها بالجدال بالتي هي أحسن ـ كأنها تقول للمسلمين: إذا لم يكن في جعبتكم الأسلوب الأحسن في الجدال فلا تجادلوا أهل الكتاب.
وهي دعوة صريحة للحوار مع أهل الكتاب، حوار يركز على الانطلاق من مواطن اللقاء في الفكر والرسالة، والقواسم المشتركة مع أهل الكتاب، وعلى هذا الأساس كانت الدعوة إلى بدء الحوار من قاعدة مشتركة في قضية الإيمان التي يمكن أن توحي بإمكانية اللقاء في القضايا الأخرى..
قاطعه الرجل قائلا: ولكن الولاء والبراء (1)..
قال الغزالي: ألم أطلب منك أن تمهلني إلى أن أكمل حججي الأربع؟
قال: لا بأس.. قد وعيت الشاهد الأول.. فاذكر لي الثاني.
قال الغزالي: الثاني هو السنة المطهرة.. ففي السنة المطهرة الكثير من النصوص الدالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاور من جاءه من أهل الكتاب سواء كانوا من اليهود أو النصارى..
لاشك أنك تعرف كيف قابل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصارى نجران وإحسانه وفادتهم وسماحه لهم بالصلاة في مسجده، وفوق ذلط محاورتهم في أمور الدين.. وهكذا وحواره صلى الله عليه وآله وسلم مع اليهود، ودعوتهم للإسلام.
__________
(1) ذلك أن من ذرائع المعارضين للحوار اعتبارهم الحوارتنازلاً عن مبادئ الإسلام وهدماً لقاعدة الولاء والبراء.. وما أكثر ما جني على الإسلام تحت ذريعة الولاء والبراء، وسوء الفهم للولاء والبراء.
النبي الهادي (192)
وهكذا فعل صحابته في عهده، فأقرهم.. لاشك أنك تعرف ما جرى في مجلس النجاشي بأرض الحبشة بين مهاجري المسلمين والوفد القرشي الذي ذهب لردهم، حيث تلى جعفر بن أبي طالب قدرا من سورة مريم يخبر عن المسيح وأمه مريم، وانتهى الحوار بمناصرة النجاشي للمسلمين على وفد قريش، والإذن لهم بالاقامة في الحبشة ما شاءوا معززين مكرمين.
ولاشك أنك تعرف ما وقع في مجلس هرقل ملك الروم، بإيلياء (بيت المقدس)، وتولى عرض الإسلام دحية الكلبي الذي كان رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل، وانتهي الحوار بقبول هرقل لرسالة النبي إليه (1).
ولاشك أنك تعرف ما وقع في المدينة المنورة بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين وفد نجران الذي جاء محتجاَ على وصف عيسى بن مريم عليه السلام بأنه بشر وليس إلهاَ ولا ابن إله، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم إنه أخي وإنه عبد الله ورسوله، وأن الله تعالى لم يلد ولم يولد، ودعاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام، فأبوا فدعاهم الرسول إلى المباهلة، فرفضوا وقبلوا الجزية، وأعطاهم الرسول عهد الأمان مؤكدا فيه الالتزام التام بحمايتهم والدفاع عنهم، وحماية دور عبادتهم ضامناً لهم الحرية في العبادة وممارسة شعائرهم (2).
التفت الغزالي إلى الرجل، وقال: هذه بعض حججي، فما تقول فيها؟
قال الرجل: ولكن.. سد الذرائع.. ألا تعلم أن المفسدة مقدمة على جلب المصلحة؟
قال الغزالي: أنت تخاف على المسلمين أن ينحرفوا إلى غير الإسلام.
قال الرجل: أجل.. أليس هذا الخوف معتبرا؟
قال الغزالي: أجل هو معتبر.. ولكن.. ألا تخاف على هذه البشرية التائهة عن الإسلام أن تموت على غيره؟
__________
(1) سنذكر التفاصيل المرتبطة بهذه الرسائل في فصل (الشاهد) من هذه الرسالة.
(2) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في فصل (الشاهد) من هذه الرسالة.
النبي الهادي (193)
قال الرجل: هي تائهة لا محالة.
قال الغزالي: ولكنا مسؤولون عن تيههم.. إذا جاءوا يوم القيامة، وقالوا: يا رب.. إن هؤلاء قاطعونا، وحرمونا من النور الذي أنزلته، واستأثروا به دوننا، فما عسانا نجيب ربنا؟
قال الرجل: نقول: يا رب.. إنهم أسمعونا كلاما عظيما.
قال الغزالي: ألا تعلم أن الحوار هو الذي يكشف عن الجواهر، أم أنك تريد منهم أن ينافقوك، فيظهروا خلاف ما يبطنون.
سكت الرجل قليلا، ثم قال: صدقت.. لا أجد ما أجيبك به إلا أن أطلب منك أن تسمح لي أن أنضم إلى هذه المدرسة، فعسى الله أن يفتح علي فيها من العلم ما أتمكن به من إنقاذ أخ من إخواني في الإنسانية من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام.
قال الغزالي: بورك لك هذه الهمة.. وأبشر بما بشر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يهتم بهمتك، فقال مخاطبا عليا: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) (1)
-\--\-
مكثت في ذلك الفرع برهة طويلة من الزمن درست خلالها كل ما جادت به قريحة علماء المسلمين في الحوار بينهم وبين سائر الملل والنحل.
وقد عرفت من تلك الدراسة المفصلة العميقة.. أنها جميعا لم تكن تنهل إلا من بحار القرآن الكريم، وبحار الرسول الهادي الذي جعله الله نورا للعالمين، كما جعله رحمة لهم.
قلت: فما حال تلك المدرسة، وكيف تركتها؟
قال: لقد تركتها بخير.. ولكنها تحولت إلى شر.
قلت: ما هذا؟.. وهل يتحول الخير إلى شر؟
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (194)
قال: ليست المدارس بجدرانها.. ولكنها بأصحابها.. لقد كان الغزالي هو مدير تلك المدرسة وأستاذها، وكان النبي المحاور هو روح تلك المدرسة وسر حياتها..
قلت: فما حصل لهما؟
قال: أما الغزالي، فقد طعنه بعض الحاقدين الذين أحرقوا كتب جده.. وأما النبي المحاور، فقد راح أولئك الحاقدون يصورونه بصورة لا أستطيع أن أذكرها لك.
قلت: ما هي؟
قال: صورة نفوسهم المملوءة بالأحقاد، فهم لا يسمعون إلا أنفسهم وأهواءهم.. فلذلك راحوا يصفون الحوار بالهرطقة، والمحاورين بالمبتدعة.
قلت: فما وضعوا بدل الحوار؟
قال: السيف بنوعيه.
قلت: أللسيف نوعان؟
قال: نعم.. أما أحدهما، فالسيف الذي تعرفه، وقد انتدبت له طائفة منهم.. وأما الثاني، فسيف الحرمان؟
قلت: ما سيف الحرمان؟
قال: أنت أدرى الناس به.. ألا تعلم أن الكنيسة تعاقب من تنتقم عليه بحرمانه من بركات الكنيسة، والمسيحية؟
قلت: بلى.. أعلم ذلك.
قال: فقد راح هؤلاء يسلطون هذا السيف على كل الناس.. يرمونهم بما شاءت لهم أهواؤهم أن يرموهم به.
قلت: والمدرسة.. كيف حالها؟
قال: أما بنيانها، فباق.. ويوشك أن يقيض الله لها حفيدا من أحفاد الغزالي ليعيد لها الحياة.
النبي الهادي (195)
-\--\-
ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة الثالثة من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب.. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.
لقد تنزلت علي بمجرد قطعي لتلك المرحلة أشعة جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
النبي الهادي (196)
قلت: فحدثني عن رحلتك الرابعة.
قال: كانت الحاضرة الرابعة من حواضر الإسلام التي قدر لي أن ألتقي فيها بوارث الهدي النبوي في مجال التعليم مدينة (شنقيط)..
وقد بدأت قصة التقائي بورثة هذا الهدي العظيم في صحراء قريبة منها..
كنت أسير في تلك الصحراء التي امتلأت حرا وجفافا، وأتعجب كيف استطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج من مثل هذه الصحراء أساتذة لا تزال جامعات العالم ومدارسه تنهل من علومهم، وتستفيد من حكمتهم، وتطمح لأن يكون لها من اتقاد الذهن، وحدة الذكاء، وصفاء الذاكرة ما كان لهم.
وبالرغم من أن هذه الخواطر كانت تملؤني بالأشواق الجميلة إلا أني مع ذلك كنت أشعر بألم عظيم.. لقد قلت لنفسي: كيف قصرت الأمة في حق هدي نبيها حتى جفت تلك الآبار التي حفرها لنا، فصرنا لا نجد ما نروي به العالم المتعطش إلى أكمل هدي، وأعظم هدي، وأنبل هدي؟
لقد صارت مدارسنا لا تخرج أمثال من تربوا في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وتعلموا فيها.. بل صارت تخرج المشاغبين والمشردين ومشتتي الذهن، وممن يستعملون علومهم لاقتناص الدنيا..
صارت تخرج أمثال بلعم بن باعوراء.. وأمثال أولئك الذين شبههم الله بالحمير التي تحمل أسفارا.
بينما أنا كذلك تتنازعني خواطر مسرة، وخواطر حزن، إذا بي أسمع صوتا عذبا يترنم بلامية الشنفرى الممتلئة بالغريب، ومما سمعته منها قوله:
أقيموا بني أمي، صدورَ مَطِيكم... فإني، إلى قومٍ سِواكم لأميلُ!
فقد حمت الحاجاتُ، والليلُ مقمرٌ... وشُدت، لِطياتٍ، مطايا وأرحُلُ؛
وفي الأرض مَنْأىً للكريم، عن الأذى... وفيها، لمن خاف القِلى، مُتعزَّلُ
لَعَمْرُكَ، ما بالأرض ضيقٌ على أمرئٍ... سَرَى راغباً أو راهباً، وهو يعقلُ
ولي، دونكم، أهلونَ: سِيْدٌ عَمَلَّسٌ... وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ
هم الأهلُ. لا مستودعُ السرِّ ذائعٌ... لديهم، ولا الجاني بما جَرَّ، يُخْذَلُ
وكلٌّ أبيٌّ، باسلٌ. غير أنني... إذا عرضت أولى الطرائدِ أبسلُ
وإن مدتْ الأيدي إلى الزاد لم أكن... بأعجلهم، إذ أجْشَعُ القومِ أعجل
وماذاك إلا بَسْطَةٌ عن تفضلٍ... عَلَيهِم، وكان الأفضلَ المتفضِّلُ
وإني كفاني فَقْدُ من ليس جازياً... بِحُسنى، ولا في قربه مُتَعَلَّلُ
ثلاثةُ أصحابٍ: فؤادٌ مشيعٌ،... وأبيضُ إصليتٌ، وصفراءُ عيطلُ
اقتربت من صاحب الصوت، فوجدته راعيا قد استلقى على رمال تلك الصحراء.. وهو يترنم بتلك الأببات بلذة لا تعدلها لذة، وكأنه يتوهم نفسه في محفل كبير، وقد طرح جلابيب الرعاة، ليرتدي طيالسة الأدباء والبلغاء والعلماء..
حييته، فلم يشعر بتحيتي، فحركته بيدي، وقلت: مرحبا بصديقنا الشنفرى.. هل رضي الشنفرى من حياته بعد عودته بأن يصير راعيا؟
ابتسم، وقال: وهل يمكن أن يتكبر على الرعي أحد بعد رعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
ثم أردف يقول: لو أن الشنفرى سمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم)، فقيل له: وأنت يا رسول الله؟ قال: (وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط) (1)
وسمع ما حدث به جابر بن عبد الله من قوله: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجني الكباث، فقال: عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه فإني كنت أجنيه إذ كنت أرعى الغنم، قلنا: وكنت ترعى الغنم يا
__________
(1) رواه ابن سعد والبخاري وابن ماجه.
النبي الهادي (197)
رسول الله؟ قال: (نعم، وما من نبي إلا وقد رعاها) (1)
وسمع ما حدث به أبو سعيد قال: افتخر أهل الإبل والشاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم لأهلي بأجياد) (2)
لو أن سمع كل هؤلاء الشهود لترك رماحه وسيوفه وجلس مع غنماته كما أجلس أنا الآن معها.. وقد كفى العالم من شره، وكفاه العالم شره.
قلت: كيف رضيت لنفسك ـ مع ما منحته من قدرة على التعلم ـ على الجلوس بين الغنم.. ألم يكن الأجدى بك أن تجلس بين يدي تلاميذك، يقبل هذا يدك، ويسعى ذاك لخدمتك، وفوق ذلك تنال من الأجور ما لا تناله من هذه المهنة؟
قال: ومن لهذه الغنم المسكينة يرويها ويطعمها.. ومن للبشر الذين ينتظرون صوفها ولبنها ولحمها..؟
قلت: لكل حرفته التي تصلح له.. وأنا لا أرى هذه الحرفة تصلح لك.
قال: إن كل من تراه في هذه الصحارى مثلي يحفظون ما أحفظ.. ويعلمون ما أعلم.. فهل نترك حرفنا ووظائفنا لنجلس جميعا معلمين وأساتذة؟
قلت: فهل تعلمتم إذن لتصيروا رعاة؟
قال: العلم شيء.. والحرفة شيء آخر.. نحن نتعلم لوجه الله، وابتغاء مرضاة الله، ثم نكل إلى الله أحوالنا.. فإن شاء أن يجعلنا في زمر الأساتذة حمدنا الله على ذلك مع اعتقادنا بعظم المسؤولية المنوطة بنا.. وإن شاء أن يجعلنا رعاة غنم حمدنا الله، واعتقدنا فضل ما نحن فيه.. فلسنا أشرف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أشرف من الأنبياء.
قلت: متى توقفت عن طلب العلم؟
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه أبو داود الطيالسي والبغوي وابن منده وأبو نعيم.
النبي الهادي (198)
ابتسم، وقال: ومتى توقفت أنت عن أداء الصلاة؟
قلت: كيف تقول هذا؟.. لقد كنت أحسبك ذا علم وذا عقل.. هل يجوز للمسلم أن يتوقف عن أداء الصلاة؟.. إن الصلاة مفروضة في جميع الأحوال، ولو أن تؤديها بالإيماء.
قال: ومثلها العلم.. كلاهما فريضة من فرائض الله.. وكلاهما مما لا يجوز التوقف عن طلبه.. ألم تسمع قوله تعالى مخبرا عن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَقُل رَبِّ زِدْني عِلْماً} (طه: 114)، وقوله تعالى وهو يبين رفعة أهل العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)، وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11)، وقوله تعالى وهو يحصر الخشية في أهل العلم: {إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28)؟
وفوق ذلك.. فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن العلم نوع من أنواع العبادة، بل هو من أفضلها، فقال: (أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع) (1)، وصرح صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال: (فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع) (2)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر: (قليل العلم خير من كثير العبادة، وكفى بالمرء فقها إذا عبد الله، وكفى بالمرء جهلا إذا أعجب برأيه) (3)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في دين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه) (4)
قلت: أراك تحفظ الكثير مما ورد في فضل العلم؟
قال: إن هذه الأحاديث وغيرها هي المحرك الذي حرك هممنا وحرك همم الأجيال الكثيرة من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لطلب العلم.. فكيف لا أحفظها؟
__________
(1) رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة.
(2) رواه الطبراني في الأوسط، والبزار بإسناد حسن.
(3) رواه الطبراني في الأوسط.
(4) رواه الدارقطني والبيهقي.
النبي الهادي (199)
قلت: من رواها لك.. أأخذتها من الثقاة العدول.. أم تراك أخذتها من المدلسين والضعفاء؟
نظر إلي بغضب، وقال: أتتهمني في ديني؟.. كيف أرضى أن آخذ علم ديني وأقوال نبيي من المدلسين والضعفاء.. إن كل ما أرويه لدي أسانيده العالية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولولا خشية الإطالة عليك لذكرتها لك سندا سندا.. وعرفتك برجالها رجلا رجلا..
قلت: أنت محدث إذن.. فكيف ترضى بالرعي؟
قال: أراك تعود إلى ما بتتنا فيه.. أنا عبد لله.. وعبد الله لا يختار إلا ما اختار الله له.. ثم إن كل من تلاقيه من الرعاة والتجار والبنائين والخياطين يعلم ما أعلم، أو يعلم أكثر مما أعلم.. فهل يتركون حرفهم جميعا؟
قال ذلك، ثم انتبه إلى بعض نعجاته، وقد ابتعدت عن صواحبها، فأسرع إليها، وهو يحدو بقول الحافظ العراقي في ألفية السيرة:
مَرُّوا على خَيمَةِ أمِ مَعبَدِ... وهْيَ علَى طريقِهِمْ بمَرْصَد
وعندَها شَاةٌ أضرَّ الجَهْدُ... بِها وما بِها قوًى تَشتَدُّ
فَمَسَحَ النبيُّ منها الضَرْعَا... فَحَلبَتْ ما قدْ كفَاهُمْ وُسعَا
وَحَلَبَتْ بعدُ إناءً ءاخرَا... تركَ ذاكَ عندَها وَسَافَرَا
جزى الله ربُّ الناس خيرَ جزائه... رفيقين حَلاّ خيمتَي أم معبد
هما نزلاها بالهدى فاهتدت به... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فما حملت من ناقة فوق رَحْلِها... أبرّ وأوفى ذمة من محمد
عادت الشاة إلى حيث صواحبها، فاقتربت منه، وقلت: أرى الشاة قد أطاعتك، أترى فهمت ما كنت تقرؤه عليها؟
قال: وما يمنعها أن تفهم.. إن لله في خلقه من الأسرار ما لا تطيق عقولنا أن تحيط به.
النبي الهادي (200)
قلت: لقد كنت تقرأ من ألفية العراقي في السيرة.. فما تحفظ منها؟
ابتسم، وقال: أحفظها ـ بحمد الله ـ جميعا..
صحت متعجبا: أتحفظ ألف بيت كاملة؟
ابتسم، وقال: وما ألف بيت.. إنها أيسر علينا بحمد الله من شربة ماء..
قال ذلك، ثم نظر إلي، وقال: إن الذي تراه أمامك يحفظ عشرات الآلاف من أبيات الشعر والنظم.. وأذكر أن أمي كانت تسكتني في صباي بألفية ابن مالك؟
قلت: أأمك تحفظها؟
قال: وكيف لا تحفظها؟.. وما لها لا تحفظها؟.. ألم تحفظ لنا الألفية النحو الذي نطق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قلت: بلى..
قال: فلذلك ترى الجميع يحفظها هنا.
قلت: أراكم انشغلتم بعلوم الآلات عن علوم المقاصد؟
قال: وما علوم المقاصد؟
قلت: حفظ القرآن الكريم مثلا.. أليس الأجدر بكم بذل الجهد في حفظه بدل حفظ الأشعار التي لا تصلح إلا للأسمار.
قال: نحن لا نتحدث عن حفظ القرآن..
قلت: لم؟.. لقد يسره الله للذكر، فكيف عسر عليكم؟
قال: أرأيت لو أن من أهل بلدك من راح يعدد في محفوظاته سورة الفاتحة، ويفخر بها.. ما ترى موقف الناس منه؟
قلت: سيضحكون من بلاهته.
قال: فهكذا الأمر عندنا.. لو راح أحدنا يذكر حفظه للقرآن لأضحك الناس عليه.
النبي الهادي (201)
قلت: أبلغ بهم احتقار القرآن الكريم إلى هذه الدرجة؟
قال: لا.. هذا من تعظيم القرآن لا من احتقاره.. هم يعتقدون أن حفظه فريضة لا نافلة، ولا يحق لأحد أن يزهو بأدائه الفريضة.
قلت: ما سر هذه الذاكرة العجيبة التي أوتيتموها من دون الناس؟
قال: نحن بحمد الله أخلصنا لله، وسلمنا أمورنا له.. ثم جلسنا بين أيدي ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نتأدب على أيديهم، وننهل من علومهم، وكأنا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرزقنا الله من الفتوح على أيديهم ما لم نكن نحلم به.
قلت: فدلني عليهم.. فأنا لا همة لي في حياتي إلا البحث عن ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: هم كثيرون، فأيهم تطلب؟
قلت: لقد ذكر لي معلم الهداية فما لعل هذه الحاضرة هي بلده.. ولعل ورثتها هم حملة مشعله.
قال: إن كان قد ذكر لك الفم الذي طهر لسانه بماء الحقائق، وزين بمواثيق الرقائق، وعتق من سجون العلائق، فصار بين الناس كالبدر المتلألئ، تنشق له حجب الظلمات، وتندك له صروح الطغاة.. فهذه البلاد هي بلاده، وهذه الأرض هي أرضه، وهذه الحاضرة هي حاضرته.
قلت: بلى.. لقد ذكر لي هذا.. إنك تحفظ ما قاله حرفا حرفا.. فهل التقيت بمعلم الهداية؟
قال: دعك من الفضول، فما وصل للأصول من تعلق بالفضول.
قلت: فأين أجد حامل هذا المشعل من مشاعل الهداية النبوية؟
قال: اذهب إلى مركز هذه المدينة.. وزر أي محضرة من محاضرها.. وستجد كل واحد منهم فمه هو ذلك الفم.. ووظيفته هي تلك الوظيفة.
-\--\-
سرت إلى حيث أرشدني الراعي، وأنا ممتلئ عجبا وإعجابا.. لقد أزاح ذلك الراعي ما
النبي الهادي (202)
تراكم على نفسي من الهموم والأحزان.. بل جعلني أشعر بأن البئر التي تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل الآبار التي تركها.. لا تزال ممتلئة بالمياه العذبة التي يمكن أن تسقي كل من يفد إليها ليرتوي من ينابيعها.
لا يمكنني أن أحدثك عن كل من لاقيته من الأساتذة والطلبة.. ولكني سأكتفي برجلين من الورثة.. أما أحدهما، فعرفت من صحبتي له قيمة الأدب وارتباط العلم بالأدب والأخلاق والروحانية.
وأما الثاني، فعرفت من صحبتي له أنواع المعارف وقيمتها وعلاقتها بالهدي النبوي.
أما أول الرجلين، فقد كان اسمه محمد الأمين.. وكان رجلا ممتلئا بالحكمة والأدب والالتزام التام بالهدي النبوي..
لقد كان أول رجل لاقيته عندما دخلت حاضرة (شنقيط).. فقد دخلت أول محضرة من محاضر العلم فيها.. وقد كتب على بابها قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران:79)
في مدخلها التقيته، وقد كان عليه سيما المتوسمين، ونور ورثة النبيين.. سلمت عليه، وقد أصابني من هيبته ما منعنى من الاقتراب منه أو الحديث معه مع ما كان يظهر عليه من التواضع والبساطة.
لكنه دعاني، وقال: مرحبا بك في بلدك، وأمام أهلك.. ومبارك لك تخرجك من مدرسة الحوار الغزالية، فقل من يتخرج من تلك المدرسة هذه الأيام.
قلت: كيف عرفت ذلك؟.. أنا لم أر أحدا لأخبره.
النبي الهادي (203)
قال: ألم ينبهك الراعي إلى أن لا تسأل مثل هذه الأسئلة؟
قلت: أجل.. وأعتذر إليك.. لاشك أنك صاحبي الرابع الذي أرشدني إليه معلم الهداية.
قال: أنا أحدهم.. فكل من تراه في هذه المدينة ورثة من ورثة الهدي النبوي في التعليم.. ولذلك ترى بركاته علينا معشر الشناقطة.
قلت: بمن أبدأ منكم.. فإني الآن في متاهة..
قال: بي تبدأ.. وبي يبدأ كل طلبة العلم في هذه الحاضرة من حواضر الإسلام.
قلت: لم؟
قال: أنا الذي أكسو الطلبة حلة أهل العلم.. ولا يمكن للطالب الذي لم يكتس بهذه الحلة أن يقبله أي معلم في هذه المدينة.
قلت: أعمامة هي تلك الحلة، أم قميص؟.. وهل تشبه حلة الأزهر، أم تشبه حلة القرويين؟.. أم تراها تشبه تلك الحلة التي أهداها الصالحي لمحمد الوارث (1)؟
قال: هذه الحلة هي حلة سيد المرسلين.. فلا يمكننا أن نلقن طالبا أي علم من العلوم ما لم يتحل بتلك الحلة المباركة.
قلت: فأين وجدتموها؟
قال: في هديه صلى الله عليه وآله وسلم.. وفي هدي ورثته من بعده.. فنحن ننهل منهما، ونربي عليهما، ونبدأ بهما.
قلت: فما أثواب هذه الحلة؟
قال: أربع.. ولا تكتمل الحلة إلا بها.
قلت: فما هي؟
__________
(1) ذكرناها في رسالة [النبي الإنسان]
النبي الهادي (204)
قال: العبودية.. والمجاهدة.. والسمت.. والإفادة (1).
قلت: أهذه سنة سننتموها في هذه الحاضرة من حواضر الإسلام، أم هي هدي تلقاه سلفكم عن خلفكم؟
قال: بل هي هدي تلقاه سلفنا عن خلفنا.. لقد كانت الأمة جميعا، وإلى فترة قريبة لا تعرف في العلم إلا هذا الهدي (2) إلى أن غزتها شلة المراهقين، فحولت مدارسها إلى مدارس المشاغبين.
قلت: ولكني أرى أن مدراس المشاغبين أكثر تطورا من هذه المحاضر التي أراها في هذه المدينة؟
قال: نعم هي أكثر منها تطورا في العمران.. ولكنها أعظم انحدارا في الإنسان.
قلت: فلم لم تجعلوها متفوقة في العمران؟
قال: لقد قعدت بنا الفاقة دون ذلك.. ثم إنا رأينا أن أكثر ما في ذلك العمران ترف، ولا يمكن للطالب أن يجمع بين الحقائق والترف.
قلت: فهل تسمح لي أن أستفيد منك ما ذكرته من حلة طلاب العلم النبوية؟
قال: ذلك واجب علي وعليك.. على أن تلتحق بطلبة هذه المحضرة.. لتنهل من آدابها ما يؤهلك لسائر المحاضر.
كان أول فرع من فروع الآداب بدأنا به دراستنا في محضرة الآداب هو فرع (العبودية)،
__________
(1) استفدنا الكثير من الآداب التي نذكرها من كتاب (آداب العلماء والمتعلمين)، الحسين ابن المنصور اليمني، وغيرها من المراجع الكثيرة في هذا الباب.
(2) ويدل لهذا كثرة ما ألف في هذا الباب من متون وشروح ومؤلفات، ومن بينها (الجامع) و(الفقيه والمتفقه) كلاهما للخطيب البغدادي، و(تعليم المتعلم طريق التعليم) للزرنوجي، و(آداب الطلب) للشوكايى، و(أخلاق العلماء) للآجري، و(آداب المتعلمين) لسحنون، و(الرسالة المفصلة لأحكام المتعلمين) للقابسي، و(تذكرة السامع والمتكلم) لابن جماعة.. وغيرها كثير.
النبي الهادي (205)
وقد سألت الشنقيطي عن سر البدء بالعبودية، فقال: لقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1).. فلا يمكن أن يتعلم من يتعلم إلا بتعليم الله.. ولا يحق لمن تعلم بتعليم الله أن يغفل عن الله، أويحاد الله، أو ينشغل بعلمه عن الله.
قلت: فما أركان العبودية التي سنتعلم آدباها في هذا القسم؟
قال: اثنان: التجرد، والعمل.. فلا تتحقق العبودية إلا لمن تجرد بعلمه لله، ثم عمل بما يقتضيه علمه لوجه الله.
قلت: فهل ستعلمني علوم ذلك؟
قال: اجلس مع زملائك من طلبة العلم، وستتعلم معهم أسرار هذين الركنين.
جلست مع زملائي في حلقة العلم، وقد بدا لي أنهم كلهم جدد، فلم يكن أحد منهم يعرف الآخر.. لم نلبث إلا قليلا، حتى جاء الشنقيطي، وسلم علينا بأدب وتواضع، ثم راح يردد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريءٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (1)
ثم قال: إن هذا الحديث الذي دأب أهل العلم على استفتاح مجالسهم ومصنفاتهم به هو الأساس الذي ينبغي أن تبدأ حياتكم به.. فلا يمكن للعالم ولطالب العلم أن يتحقق بعبودية العلماء حتى يعيشه ويتذوقه وتسير عليه حياته جميعا.
لقد ورد عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الأحاديث الكثيرة المنبئة عن خطر قصد غير الله بطلب العلم، ففي الحديث الصحيح يصور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشهدا من مشاهد الآخرة، فيقول: (إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبك ولكنك قاتلت ليقال فلان جريء، فقد قيل ثم أمر ثم أمر به
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (206)
فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فرفعها قال: قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته ومن قرآت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر بن فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر فسحب على وجهه حتى ألقي في النار) (1)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة مهلكون عند الحساب: جواد وشجاع وعالم) (2)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عنده فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك) (3)
وفي الحديث القدسي يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، إذا كان يوم القيامة أتي بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى، فيقول الله لملائكته: اقبلوا هذا وألقوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك ما رأينا إلا خيرا، فيقول: نعم لكن كان لغيري ولا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي) (4)
وفي رواية أخرى: (إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف مختمة، فيقول الله ـ عز وجل ـ: اقبلوا هذا وردوا هذا، فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل، فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي)
وفي رواية أخرى: (إن الملائكة يرفعون عمل العبد من عباد الله يستكثرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه فيوحي الله إليهم: إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه الحاكم.
(3) رواه وأحمد والترمذي وابن ماجه.
(4) رواه مسلم وابن ماجه.
النبي الهادي (207)
في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي في عمله فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه فيوحي إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على نفسه، إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين) (1)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة) (2)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تعوذوا بالله من جب الحزن واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة يدخله القراء المراءون بأعمالهم، وإن أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء) (3)
قال بعض الطلبة: فكيف نتقي هذا الخطر العظيم الذي يهدد أهل العلم؟
قال: لا يتحقق ذلك إلا بأن تتجردوا لله، فلا تقصدوا بعلمكم أي غرض دنيوي، من تحصيل مال أو جاه أو شهرة أو سمعة أو تميز عن الأقران.. وغير ذلك مما تشتهيه النفوس..
قلت: ألا ترى ـ يا شيخنا الجليل ـ أن ذلك قد يقف بعجلة العلم؟
قال: ولم؟
قلت: نحن نرى في واقعنا أن طللبة العلم لا يستحثهم إلا الجاه، والشهادات العالية، والمناصب الرفيعة، والأموال التي تدر عليهم من كل محل.. وفوق ذلك كله نيلهم الجوائز العالمية الكبرى التي يسيل لها لعاب الحريصين.
قال: لا حرج أن يسلم الطالب المجد، والعالم الفحل كل تلك الجوائز.. ولكن الخطر الكبير في أن يقصدها.
__________
(1) رواها ابن المبارك.
(2) رواه ابن ماجه.
(3) رواه البخاري في التاريخ، والترمذي وابن ماجه.
النبي الهادي (208)
قلت: ما الفرق بينهما؟
قال: لقد فرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما عندما قيل له: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) (1)
قلت: فما سر هذا التفريق؟
قال: عندما تقصد شيئا، وتجعله هدفا بين عينيك، فإنك لن تتحرك إلا من خلاله، وذاك يحجزك عن خير كثير.. وقد يضعك بين يدي شر كثير.
قلت: فاضرب لي مثالا على ذلك.
قال: لقد كنت في المدرسة الغزالية.. ولعلك سمعت الغزالي، وهو يقول: (كم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة، ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه، ثم لا نرى أحداً يشتغل به، ويتهاترون على علم الفقه لاسيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع؛ فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به؟ هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء؟) (2)
قلت: بلى.. سمعت هذا.
قال: أرأيت لو أن هؤلاء الطلبة الذين انشغلوا بما كفوا.. وضعوا بين أعينهم طاعة الله، فراحوا يبحثون في فروض الأعيان والكفاية ما يحققها.. هل ترى مثل هؤلاء يتركون لأهل الذمة الانشغال بهذه العلوم دونهم؟
قلت: لا.. لا أحسبهم يفعلون ذلك..
__________
(1) رواه مسلم.
(2) إحياء علوم الدين:1/ 21.
النبي الهادي (209)
قال: وحينذاك ستكفى الأمة هذه الناحية كما تكفى غيرها من النواحي، ولا يتحقق ذلك إلا ببركة الإخلاص والتجرد.
قلت: صحيح ما ذكرت.. ولو أنهم فعلوا ذلك لكنا الآن أحسن حالا.. ولكن الوضع الآن مختلف.
قال: لا.. الوضع واحد.. الإنسان واحد في جميع الأزمان.
قلت: كيف ذلك.. ونحن نرى أن أكثر ما وصلنا إليه من تطور لم نصل إليه إلا ببركات حب الجاه والمال والشهرة؟
قال: ولكن شؤم حب المال والجاه والشهرة جعل هذا التطور الذي تفخر به البشرية تطورا ممحوق البركة.. ولو أنها رعته بالإخلاص والتجرد لكان شأنها الآن مختلفا تماما.
قلت: كيف ذلك؟
قال: نحن ننظر إلى ما أوتينا، ولم ننظر إلى ما لم نؤت.. فانشغلنا بما أوتينا، وتصورنا أنه النهاية.. ولو فكرنا فيما لم نؤت مع قدرتنا على أن يكون لنا لاعتبرنا أنفسنا متخلفين لا متقدمين، وفقراء لا أغنياء، وجهلة لا متعلمين.
قلت: كيف ذلك؟
قال: سأضرب لك مثالا على ذلك.. ألا ترى أن الشركات والأفراد.. وكل مراكز البحث تحتكر الكثير من بحوثها.. بل تشح به حتى يبقى غيرها تابعا لها.. وحتى تنسب براءات الاكتشاف والاختراع إليها لا إلى غيرها.
قلت: أجل.. أرى ذلك.
قال: ألا ترى أن ذلك يقف في وجه البحث العلمي؟
قلت: بلى..
قال: وكيف يكون الحال لو أن هذه الجهات تحلت بالإخلاص، فراحت تنشر بصدق كل
النبي الهادي (210)
ما توصلت إليه من علم، لا يهمها هل نسب إليها أم لم ينسب؟
قلت: حينها يختلف الوضع تماما.. حينها ستتحول الأرض جميعا إلى مركز أبحاث موحد.. وحينها سيكون الإنتاج العلمي مضاعفا.
قال: ذلك بعض بركات الإخلاص..
قلت: وما جميع بركاته؟
قال: الإخلاص يحول بين العلماء وطلبه العلم وبين الأهواء.. فلذلك سيخدم العلم الحاجات التي تتطلبها الحكمة، لا الحاجات التي يتطلبها الهوى.
قلت: وحينها ماذا سيحصل؟
قال: حينها لن تكون هناك قنابل نووية، ولا تلوت بيئة، ولا انحراف إنترنت، ولا قنوات ماجنة، ولا صحف فضائح..
قلت: تقصد أن يمتلئ العالم بالسلام.
قال: أجل.. حينها يعم السلام الذي جاء به الإسلام العالم.. فلن تشعر البشرية بلذة السلام إلا في رحاب الإسلام.
قلت: كل ما ذكرته جميل.. ولكن.. ألم تقرأ ما ذكر الغزالي من أن الجاه محبوب بالطبع؟
قال: بلى.. قرأت ذلك.
قلت: أتريد منا أن نقهر طبعنا، أم تريد من البشرية أن تتمرد على الفطرة التي فطرت عليها.
قال: لقد ذكر لنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ما نملأ به هذه الفطرة.. وبما هو أكمل وأعظم من كل جاه ومنصب.
قلت: فحدثني حديث ذلك.
قال: من ذلك ما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عنه وهو يعدد فضل طالب العلم، فقال: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما
النبي الهادي (211)
يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السم؟ وات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) (1)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من رجل تعلم كلمة، أو كلمتين، أو ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا مما فرض الله عز وجل فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة) (2)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض صور التكريم التي يقابل بها الملأ الأعلى أهل العلم، فقال مخاطبا من جاءه يطلب العلم: (مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب) (3)
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن درجة أهل العلم تداني درجة الأنبياء، فقال: (من جاءه أجله وهو يطلب العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة) (4)
وأخبر أنه يوازي درجة الشهداء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا جاء الموت لطالب العلم وهو على هذه الحالة مات وهو شهيد) (5)
أما الأجور المعدة لأهل العلم، فإنها أضعاف مضاعفة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من طلب علما فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر، ومن طلب علما فلم يدركه كتب الله له كفلا من الأجر) (6)
ومن أكبر ميزات أجر العلم أن أجره غير منقطع، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
(2) رواه أبو نعيم.
(3) رواه أحمد والطبراني.
(4) رواه الطبراني في الأوسط.
(5) رواه الطبراني في الكبير.
(6) رواه الطبراني في الكبير.
النبي الهادي (212)
إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (1)
بقينا فترة مع الشنقيطي نتعلم أسرار التجرد لطلب العلم حتى شعرنا بأنفسنا ترق، وبعقولنا تتقدس، وبأرواحنا تطمح إلى ما طمحت إليه أرواح الهمم العالية..
بعد أن رأى الشنقيطي منا ذلك، قال في حلقة من الحلقات، بعد أن أجرى لنا بعض الاختبارات: مبارك لكم فهمكم لسر الإخلاص والتجرد.. فهلموا إلى العمل.. فلا ينفع الإخلاص من دون عمل.
لقد ورد في النصوص الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتبار العمل ركنا من أركان العلم النافع.. فلا يكمل العلم إلا بالعمل، كما لا يصلح العمل إلا بالعلم.
ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يستعيذ من العلم الذي لا ينفع، وهو العلم الذي لا يستفيد منه صاحبه عملا صالحا يقربه إلى ربه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها) (2)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض مشاهد المعاناة التي يجدها من لم يعمل بعلمه، فقال: (يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: يا فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه) (3)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الزبانية أسرع إلى فسقة القراء منهم إلى عبدة الأوثان، فيقولون: يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيقال: لهم ليس من يعلم كمن لا يعلم) (4)
__________
(1) رواه مسلم وغيره.
(2) رواه مسلم وغيره.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه الطبراني وأبو نعيم.
النبي الهادي (213)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أناسا من أهل الجنة ينطلقون إلى أناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار، فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم؟ فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل) (1)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (كل علم وبال على صاحبه إلا من عمل به) (2)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه) (3)
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن من الأسئلة الخطيرة التي يسأل عنها العبد يوم القيامة، وعلى أساسها يقرر مصيره، سؤاله عن علمه فيما عمل فيه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه) (4)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم) (5)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من عبد يخطب خطبة إلا الله عز وجل سائله عنها ما أراد بها) (6)
ولهذا اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم من لم يعمل بعلمه شر الناس، فقد سئل صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله أي الناس شر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم اغفر، سل عن الخير ولا تسل عن الشر، شرار الناس شرار العلماء) (7)
وفي الحديث عن عمار بن ياسر قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حي من قيس أعلمهم شرائع الإسلام، قال: فإذا هم قوم كأنهم الإبل الوحشية طامحة أبصارهم ليس لهم هم إلا شاة أو بعير،
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير.
(2) رواه ابن حبان.
(3) رواه الطبراني والبيهقي.
(4) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
(5) رواه الترمذي بسند حسن في المتابعات.
(6) رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي.
(7) رواه البزار، وهو غريب.
النبي الهادي (214)
فانصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عمار ما عملت؟ فقصصت عليه قصة القوم وأخبرته بما فيهم من السهوة، فقال: (يا عمار ألا أخبرك بأعجب منهم؟ قوم علموا بما جهل أولئك، ثم سهوا كسهوهم) (1)
وشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يعلم الناس الخير، وينسى نفسه بالسراج الذي يضيء لغيره، وهو يحرق نفسه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه..) (2)
بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم ـ وفق ذلك كله ـ سماه منافقا، فقال: (إني لا أتخوف على أمتي مؤمنا ولا مشركا، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليكم منافقا عليم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون) (3)
وفي حديث آخر نفى صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان على من لم يجمع بين العلم والعمل، فقال: (ما آمن بالقرآن من استحل محارمه) (4)
وهكذا حذر جميع الأنبياء عليهم السلام، كما وردت الآثار عنهم بذلك، فمما روي عن عيسى عليه السلام قوله: (مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع، ومثل علماء السوء مثل قناة الحش ظاهرها جص وباطنها نتن، ومثل القبور ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى)
وقال: (كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته، وهو مقبل على طريق دنياه، وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به؟)
وقال: (مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملت فظهر
__________
(1) رواه البزار والطبراني.
(2) رواه الطبراني بسند حسن.
(3) رواه الطبراني بسند فيه الأعور، وثقه ابن حبان وغيره.
(4) رواه الترمذي وقال: إسناده ليس بالقوي.
النبي الهادي (215)
حملها، فافتضحت فكذلك من لا يعمل بعلمه يفضحه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد)
وفي أخبار داود عليه السلام حكاية عن الله تعالى: (إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي، يا داود لا تسأل عني عالماً قد أسكرته الدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، أولئك قطاع الطريق على عبادي، يا داود إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً؛ يا داود من رد إلي هارباً كتبته جهبذاً، ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً)
وذكر لنا أن رجلاً كان يخدم موسى عليه السلام، فجعل يقول: حدثني موسى صفي الله، حدثني موسى نجي الله، حدثني موسى كليم الله، حتى أثرى وكثر ماله، ففقده موسى عليه السلام فجعل يسأل عنه، ولا يحس له خبراً حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود، فقال له موسى عليه السلام: أتعرف فلاناً؟ قال: نعم، قال: هو هذا الخنزير، فقال موسى: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله بم أصابه هذا؟ فأوحى الله عز وجل إليه: لو دعوتني بالذي دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه، ولكن أخبرك لم صنعت هذا به؟ لأنه كان يطلب الدنيا بالدين.
التفت إلينا الشنقيطي، وقال: أتدرون سر كل هذه التشديدات؟
قلنا: ما سرها؟
قال: شيئان: أما أحدهما، فيرتبط بالعالم الذي انشغل بالعلم عن العمل، وأما الثاني، فبالذين يرون العالم، ويسمعون منه.
قلنا: فحدثنا عن الأول.
قال: لقد ضرب الله تعالى لذلك مثلين، فقال في أولهما: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (لأعراف:175 ـ 176)، فهو مثال على من تبحر في علوم كثيرة، ربما نال منها ثمرات غيرت مسار حياته المادية، ولكنه لم يلتفت إلى حقيقته التي تحولت كلبا
النبي الهادي (216)
إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، انسلخ من إنسانيته لأنه انسلخ قبل ذلك من آيات ربه.
ولذلك ورد في الآثار تشبيهه بالسراج الذي يضيئ لغيره، بينما هو يحترق.
أما الثاني، فقوله تعالى عن بني إسرائيل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة:5)، فبنو إسرائيل حملوا كتبهم وعرفوا ما فيها، ولكنهم نسوا ما فيها من الهدي، ولم يشتغلوا بما يخرج حقيقتهم عن البهيمية التي أوقعتها فيها شهواتهم.
قلت: فكيف تطبق هذين المثلين على ما ورد في النصوص المقدسة من عقوبة الذي لم يعمل بعلمه؟
قال: إن القرآن الكريم يخبرنا عن الحقيقة من منبعها الصافي.. هو لا يستعمل ألوان الطلاء التي نملأ بها حياتنا خداعا وغرورا.. إنه يواجهنا بالحقيقة.. إنه يقول بصراحة لمن تعلم العلوم الكثيرة، واجتهد في أن يقرأ المجلدات الضخمة: تريث قليلا، وانظر إلى نفسك في مرآة الحقائق، واقرأها.. ولا تنشغل بالقراءة عنها، فلعلك تجد فيها من الأدواء ما يعيد لها استقامتها وصحتها وعافيتها.
قلت: ولكن القرآن الكريم يشبه هذا الذي يصيح فيه بهذا بالحمار والكلب؟
قال: أجل.. إنه يقول له: إن لم تفعل ذلك، فلا فرق بينك وبين الحمار والكلب.. فالحمار يحمل العلوم لكنه لا يستوعبها، ولا يعيشها.. والكلب ليس له من هم إلا اللهث، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث.
وهكذا طالب العلم الذي يظل يلهث وراء العلوم غافلا عن التحقق بها، أو لاهثا وراء مكاسب العلوم المرتبطة بالطين، غافلا عن مكاسب العلوم المرتبطة بحقيقته.
قلت: ولكن كيف يهان العالم وطالب العلم كل هذه الإهانة؟
قال: هو الذي أهان نفسه..
النبي الهادي (217)
قلت: كيف ذلك؟
قال: أرأيت لو لقنا آلة جميع المعارف والعلوم.. ووهبنا لها من الذكاء الصناعي ما يجعلها تستطيع أن تقوم بأي عمل.. هل يخرجها ذلك من كونها آلة؟
قلت: لا.. نعم هي آلة ثمينة.. ولكنها تظل آلة.. ولو عرضت نفسها على المرآة، فلن ترى غير آلة.
قال: فهكذا العالم الذي لم يعمل بعلمه.. إنه كسائر الناس.. له شهواتهم وأهواؤهم ومطامحهم، هو في الظاهر اختلف عنهم بعلمه، لكنه في الحقيقة بقي هو هو.. بل ربما يكون قد غذى لطائفه بالكبر والخداع والغش، فزاد في انحرافه على انحراف العوام.. ولذلك إذا ذهب إلى محكمة الله، فإنه لن يرى في مرآتها إلا حقيقته التي سترها بالألفاظ التي أجاد استعمالها والتلاعب بها.
قلنا: وعينا هذا.. وأدركنا خطره.. فحدثنا عن السر الثاني المرتبط بالذين يرون العالم، ويسمعون منه.
قال: هذا مما يزيد طين العالم بلة.. إن العالم في هذا المحل كاللص، بل هو أخطر من ذلك.. هو كالمجرم.. لا.. بل هو كالمحارب.. بل هو أعظم من ذلك بكثير.
قلنا: كيف ذلك؟
قال: لقد عبر بعضهم عن ذلك فقال: (احذروا زلة العالم لأن قدره عند الخلق عظيم فيتبعونه على زلته)
قلت: زلة العالم هي خطؤه في علمه.. وخطؤه لا علاقة له بسلوكه.. ففرق بين الخطأ والخطيئة.
قال: الزلة زلتان: زلة الخطأ وزلة الخطيئة، وكلاهما مما لا ينجو منهما من لم يعمل بعلمه..
لقد أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ
النبي الهادي (218)
مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16)
وبين في موضع آخر سبب قسوة قلوبهم، فقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة:13)
لقد ذكر الله في هاتين الآيتين أن أول ما يصيب العالم قسوة القلب.. ذلك أن مقصد العلوم تهذيب الطباع وتليين القلوب.. فمن لم يلن قلبه مع أدوية العلوم، فلن يلين أبدا.
قلت: عرفت قسوة القلب.. وهي الخطيئة.. فأين زلة الخطأ؟
قال: لقد ذكرت الآية الثانية ذلك.. لقد ذكرت أن قسوة القلب أورثت فيهم خصلتين مذمومتين: أما إحداهما، فتحريف الكلم من بعد مواضعه.. وأما الثانية، فنسيانهم حظاً مما ذكروا به.
قلت: كيف ذلك؟
قال: العالم الذي لم يعمل بعلمه، سيجعل من علمه شباكا تصيد له ما يطلبه هواه، فلذلك قد يكتم ما أمر بنشره، وقد يحرف ما أمر بحفظه.
قلت: تقصد الفتاوى الضالة؟
قال: وأقصد الخطب الضالة والمواعظ الضالة والاحتساب الضال.. إن الانحراف يدخل على كل مشاعل الهداية إذا انحرف صاحبها.
قلت: أهذه فقط زلة الخطأ؟
قال: هناك زلة أخطر وأعمق.. إن الناس لا يسمعون بقدر ما يرون.. فلذلك تجدهم يتأثرون بسلوك العالم أكثر من تأثرهم بكلماته.. ومثل هذا العالم لن ينتج إلا المنحرفين.
وهناك صنف أخطر وأعظم يحول من العالم المنحرف معولا يهدم به الحقائق.
النبي الهادي (219)
قلت: كيف ذلك؟
قال: ألا ترى كيف تنهار الأحزاب الكبرى نتيجة للفضائح التي يقع فيها رؤساؤها؟
قلت: ذلك صحيح.
قال: فالعالم ـ في أذهان الناس ـ ممثل للدين وللقيم، فإذا انحرف كان ذلك فرصة لمن يريد ضرب الدين أو تشويهه.
قال بعض الطلبة: لقد روي في هذا أن رجلا قال لابن عباس: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال: (إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل، وإلا فابدأ بنفسك، ثم تلا: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة:44)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} (الصف)، وقوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (هود: 88)
قال بعض الطلبة: وعينا ـ يا شيخنا ـ كل ما ذكرته من ضرورة مزج العلم بالعمل، وقد ملأتنا شوقا إلى العمل، كما ملأتنا رهبة من تركه.. فما الذي ييسر علينا العمل الذي يجعلنا نتحقق بالعبودية؟
قال: ستدرسون هنا عشرة علوم.. كلها علوم عمل.. ولن تخرجوا من هذا القسم حتى تتقنوها جميعا.
قلت: فما أولها؟
قال: أن يشغلكم علم العمل عن علم الجدل.. لقد ضرب الغزالي لذلك مثالا، فقال: (فمثال من يعرض عن علم الأعمال، ويشتغل بالجدال مثل رجل مريض به علل كثيرة، وقد صادف طبيباً حاذقاً في وقت ضيق يخشى فواته، فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير
النبي الهادي (220)
والأدوية وغرائب الطب، وترك مهمه الذي هو مؤاخذ به، وذلك محض السفه) (1)
وفي هذا روي أن رجلاً جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: علمني من غرائب العلم، فقال له: ما صنعت في رأس العلم؟ فقال: وما رأس العلم؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هل عرفت الرب تعالى؟) قال: نعم، قال: (فما صنعت في حقه؟) قال: ما شاء الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هل عرفت الموت؟) قال نعم، قال: (فما أعددت له؟) قال: ما شاء الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذهب فأحكم ما هناك، ثم تعال نعلمك من غرائب العلم) (2)
قال آخر: فما الثاني؟
قال: أن لا تشينوا العلم بشيء من الطمع.. فلا أضيع للعلم من الطمع..
قال آخر: فما الثالث؟
قال: أن تتعلموا المداومة على مراقبة الله تعالى في السر والعلانية، والمحافظة على خوفه في جميع الحركات والسكنات والأقوال والأفعال.. فإن العلم أمانة، وقد قال تعالى آمرا هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (لأنفال:27)، وقال مخبرا عن علماء بني إسرائيل ضاربا لنا المثل بهم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة:44)..
قال آخر: فما الرابع؟
قال: أن تتعلموا المحافظة على القيام بشعائر الإسلام، وظواهر الأحكام، كإقامة الصلوات في مساجد الجماعات، وإفشاء السلام للخواص والعوام، والأمر بالمعروف، والنهي
__________
(1) الإحياء: 1/ 65.
(2) رواه ابن السني وأبو نعيم في كتاب الرياضة لهما.
النبي الهادي (221)
عن المنكر، والصبر على الأذى بسبب ذلك، صادعين بالحق عند السلاطين، باذلين أنفسكم لله لا تخافون فيه لومة لائم، ذاكرين قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان:17)، ذاكرين ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من الصبر على الأذى، وما كانوا يتحملونه في الله تعالى حتى كان لهم العقبى.
قال آخر: فما الخامس؟
قال: أن تتعلموا القيام بإظهار السنن، وإخماد البدع، والقيام لله في أمور الدين، وما فيه من مصالح المسلمين على الطريق المشروع، والمسلك المطبوع، لا ترضون من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل تأخذون أنفسكم بأحسنها وأكملها، فإن العلماء هم القدوة..
قال آخر: فما السادس؟
قال: أن تكثروا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه، فإن محبته وإجلاله وتعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم واجب، والأدب عند سماع اسمه وذكر سنته مطلوب وسنة.
قال آخر: فما السابع؟
قال: أن تلازموا تلاوة القرآن الكريم، وأن تتعلموا الفكر في معانيه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، والوقوف عند حدوده.
قال آخر: فما الثامن؟
قال: أن تتعلموا كيف تستعملون الرخص في محالها وعند الحاجة إليها، ووجود سببها ليقتدي به نجيها، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
قال آخر: فما التاسع؟
قال: أن تطهروا قلوبكم من كل غش، ودنس، وغل، وحسد، وسوء عقيدة وخلق، ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإن العلم كما
النبي الهادي (222)
قال بعضهم: صلاة السر، وعبادة القلب، وقربة الباطن، فكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديها..
قال آخر: فما العاشر؟
قال: أن تأخذوا أنفسكم بالورع في جميع شؤونكم، وتتحروا الحلال في الطعام والشراب واللباس والمسكن، وفي جميع ما تحتاجون إليه لتستنير قلوبكم، وتصلح لقبول العلم ونوره، والنفع به.
بعد أن مكثنا مدة في الفرع الأول نتعلم علومه، ونتدرب على آدابه، انتقلنا إلى الفرع الثاني، وهو فرع المجاهدة، وقد سألنا ـ ونحن في الركن المرتبط بهذا من محضرة الآداب ـ شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عن سر اعتبار المجاهدة ركنا من أركان آداب طلبة العلم وأهله، فقرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69)
ثم قال: هذه الآية تجيبكم على سؤالكم.. لقد وعد الله المجاهدين فيه أن يهديهم لسبيله.. فلذلك لا يمكن لطالب العلم أن يهتدي لسبل الله ما لم يجاهد نفسه في ذات الله.
ألستم ترون أن أول ما فعل جبريل عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أول لقاء له به أن غطه ثلاث مرات حتى بلغ منه الجهد (1)؟
قلنا: بلى.
قال: وكان بالإمكان في أول مرة أن يقول له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1)؟
قلنا: بلى.
__________
(1) رواه البخاري وغيره.
النبي الهادي (223)
قال: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل عليه السلام بالوحي يتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، فإذا كان على ناقة جثت الناقة، وأصاب عنقها الأرض من شدة ما يناله صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الوحي؟
قلنا: بلى.. ذلك كذلك.. فما سره؟ وما علاقته بالمجاهدة؟
قال: العلم ثقيل، فلا ينبغي أن يستخف به، ورسالة عظمى، فلا ينبغي إهانتها.
قلنا: وكيف يستخف به؟ وكيف تهان؟
قال: إذا لم يعطه طالبه حقه من الجهد والبحث والنظر والمعاناة كان مستخفا به، وكان مستهينا بالرسالة التي يحملها.
قلت: فما حقه من الجهد؟
قال: لقد جعل الله لكل مسألة من مسائل العلم مفتاحها من المجاهدة، فمن لم تبلغ مجاهدته حق مفتاحها، فإنه لن يظفر من ذلك العلم إلا بالظواهر التي تملؤه بالغفلة، وتملأ نفسه بالغرور.
قلت: ألهذا سمى العلماء الباحث في مسائل العلم مجتهدا؟
قال: أجل.. ولم يطلقوا عليه هذه اللقب العظيم إلا بعد أن عانى الأمرين في البحث عن حقيقة العلم الذي صار مجتهدا فيه.
قلت: ما نوع هذا الجهد؟
قال: يختلف باختلاف المسائل: قد يكون رحلة تحقيق، وقد يكون اجتهاد تحصيل ومراجعة ومطالعة، وقد يكون معاناة تأمل، وقد يكون معاناة حفظ.
قلت: فحدثنا عن الرحلة.. هل هي شرط في المجاهدة؟
قال: قد تكون شرطا.. فمن لم يظفر بالعلم في أرضه، فعليه أن يرحل إلى غيرها.. إن طالب
النبي الهادي (224)
العلم كتلك الشياه التي رأيتها في الصحراء، إذا لم نجد لها كلأ في محل بحثنا لها عن كلأ في غيره.
قلت: فهل في السنة ما يدل على ذلك؟
قال: كل السنة تدل على ذلك.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم) (1)، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يأمرنا بالرحلة، ولو إلى الصين.. فكل مكان يمكن أن ننال منه من العلم ما لم نكن نحلم بالتعرف عليه.
وقال في حديث آخر: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة) (2)
قلت: لقد ذكرتني برحلة موسى عليه السلام الطويلة من أجل البحث عن بعض مسائل العلم.. لقد مشي على قدميه إلى مجمع البحرين قاصداً الخضر عليه السلام حتى بلغ منه الجهد، ومع ذلك لم يستقر، ولم يهدأ له بال حتى بلغ مكان العالم الذي ذكره الله له.
قال أحد الطلبة: وقد ذكر الله تعالى رحلة ذي القرنين الطويلة، وهي ممتلئة بالبحث عن العلم وأسبابه (3)، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)} (الكهف)
__________
(1) رواه ابن عدي البيهقي وابن عبد البر في العلم.
(2) رواه الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(3) ذكرنا أدلة هذا، وما يمكن أن يستنبط منه أهل العلم في رسالة (مفاتيح المدائن)
النبي الهادي (225)
قال آخر: هذه رحلة موسى ورحلة ذي القرنين عليهما السلام.. فهل رحل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طلب العلم؟
قال: أجل.. ألم يتلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رحلة الإسراء والمعراج من العلوم ما لم يتلق مثله في مكة المكرمة؟
قلنا: بلى.. وقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال عن الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الاسراء:1)، فاعتبر علة إسرائه هو أن يريه من آيات الله، وكل العلوم آيات الله.
وقال عن المعراج: {النَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} (النجم)، فاعتبر رؤية آيات ربه الكبرى من مقاصد رحلته إلى السموات العلى.
قال: وهكذا وردت الآثار الكثيرة من هدي أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد أجمعوا على أنه لن ينال العلم من اكتفى بالراحة دون الرحلة إلى أهل العلم.
قلت: عرفنا الرحلة.. فحدثنا عن التحصيل والمراجعة.. وهل هي شرط في المجاهدة؟
قال: أجل.. هي شرط لا مناص منه لطالب العلم.. لقد أشار القرآن الكريم إليها، فقال تعالى مخبرا عن حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا ينسى حرفا واحدا مما يوحى إليه: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114)، وقال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ
النبي الهادي (226)
لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} (القيامة)
وبمثل هذا وردت الأسانيد، فعن ابن عباس قال: كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي جمعه في صدرك، ثم تقرأه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فاستمع له وأنصت، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه (1).
قلت: ولكن الله طمأن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنه لن ينسى حرفا مما قرأه، فقال مبشرا نبيه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} (الأعلى:6)
قال: ولكن الله تعالى لم يبشرنا بما بشر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. فلذلك لا ينبغي أن يفتر طالب العلم لحظة عن علمه.. لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك، فقال: (إن مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت) (2)، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تعاهدوا القرآن، فوالذى نفسي بيده لهو أشد تفصيا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها) (3)
قلت: فما الذي يعيننا على تحقيق هذا؟
قال: سبعة أمور إن فعلتموها يسر الله لكم ذلك.
قلت: فما أولها؟
قال: أن يبادر طالب العلم شبابه وأوقات عمره فيصرفها إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأمل، فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض عنها.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (227)
لقد حكى عن ثعلب: أنه كان لا يفارفه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوة شرط عليه أن يوسع له مقدار سورة يضع فيها كتاب ويقرأ.
وكان أبو بكر الخياط النحوي يدرس جميع أوقاته حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة.
وكان بعضهم إذا دخل الحمام يجعل من خارجه قارئاً يقرأ عليه.
قلت: فما الثاني؟
قال: أن يقطع طالب العلم ما يقدر على قطعه من العلائق الشاغلة والعوائق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل، فإنها كقواطع الطريق، ولذلك استحب الورثة التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن تقليلاً للشواغل، لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، ولذلك يقال: (العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك)
قلت: فما الثالث؟
قال: أن يقنع من القوت بما تيسر، وإن كان يسيراً، ومن اللباس بما ستر مثله، وإن كان خلقاً.. فبالصبر على ضيق العيش، ينال سعة العلم، ويجمع شمل القلب عن متفرقات الآمال، فتفجر فيه ينابيع الحكم.
قلت: فما الرابع؟
قال: أن يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، فإن بقية العمر لا قيمة لها، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل، وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود الأماكن للحفظ كل مكان بعيد عن الملهيات، كالنبات، والخضرة، والأنهار، وقوارع الطرق، وضجيج الأصوات، لأنها تمنع من خلو القلب غالباً.
النبي الهادي (228)
قلت: فما الخامس؟
قال: أكل القدر اليسير من الحلال، لأن كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب، وكثرته جالبة للنوم والبلادة، وقصور الذهن، وفتور الحواس، وكسل الجسم.
والأولى أن يكون أكثر ما يؤخذ من الطعام ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه) (1)، فإن زاد فهو إسراف، وقد قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (لأعراف:31)
قلت: فما السادس؟
قال: أن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة عِلى ثمان ساعات، وهي ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل من ذلك فعل.
ضحك بعض أصحابي، وقال: لقد ذكرتني برجل قال لخالد بن صفوان: مالي إذا رأيتكم تذاكرون الأخبار وتدارسون الآثار وتناشدون الأشعار وقع عليَّ النوم؟ فقال: لأنك حمار في مسلاخ إنسان.
وذكر عن سليمان الداري قال: إذا رأيت الرجل ينام عند الحديث، فأعلم أنه لا يشتهيه، فإن كان يشتهيه طار نعاسه.
قال: ومع ذلك ينبغي لطالب العلم أن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره بتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى حاله، ولا يضيع عليه زمانه، فقد كان بعض أكابر العلماء يجمع أصحابه في بعض أماكن التنزه في بعض أيام السنة، ويتمازحون بما لا يضرهم في دين ولا عرض.
وينبغي أن يتجنب ما يعاب من الهزل والبسط بالفعل وفرط التمطي، والتمايل على الجنب والقفا والضحك الفاحش بالقهقهة.
__________
(1) رواه الترمذي.
النبي الهادي (229)
قلت: فما السابع؟
قال: أن يترك كثرة المخالطة، فإن تركها من أهم ما ينبغي لطلب العلم، وخصوصاً لمن كثر لعبه وقلت فكرته، فإن الطباع شر آفة، وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة، وذهاب المال والعرض إن كانت لغير أهل، وذهاب الدين إن كانت لغير أهله.
والذي ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيد أو يستفيد منه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا ولا تكن الخامس فتهلك) (1)
فإن احتاج إلى من يصحبه فليكن صالحاً، ديناً، تقياً، ورعا، كثير الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، فإن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، أو ضجر صبره.
قلت: عرفنا ضرورة بذل الجهد للتحصيل.. فحدثنا عن التأمل.. وما مرادك منه؟ وهل هو شرط في المجاهدة؟
قال: أجل.. فلا ينبغي لطالب العلم أن يشغل جسده، ويترك عقله كسولا لا يبحث ولا يتأمل ولا يفكر.
قلت: فهل لهذا من دليل؟
قال: كل الأدلة مع هذا.. إن القرآن الكريم لا يحض على شيء كما يحض على استعمال العقل والتأمل، لقد قال تعالى مبينا الغرض من نزول القرآن الكريم: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (صّ:29)
فلآلئ الحقائق وجواهرها لا يمكن أن ينالها من قعد به عقله عن التفكير والتأمل، التفكر الذي لا ينشغل بالظواهر عن البواطن، أو ينشغل بالطلاء على الحقيقة.
ألم تسمع إلى الغزالي، وهو يقول في (جواهر القرآن): (إني أنبهك على رقدتك أيها
__________
(1) رواه البزار والطبراني في الأوسط.
النبي الهادي (230)
المسترسل في تلاوتك، المتخذ دراسة القرآن عملا، المتلقف من معانيه ظواهر وجملا، إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها، أو ما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها، وتسافر إلى جزائرها لاجتناء أطايبها، وتغوص في عمقها، فتستغني بنيل جواهرها، أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها) (1)
قلت: بلى.. وقد سمعته ينقل عن بعضهم قوله: (من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله، وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه)
قال: لا تحسبن هؤلاء الورثة مبتدعين في هذا، فإن القرآن كلام الله، وكلام الله لا يمكن لأحد أن يحصي أغراضه..
ولكن تحصيل كل هذا يحتاج إلى التأمل والتدبر والمعاناة.. فلا يمكن لعقول كسول أن يخرج بالقرآن عن كسوة الألفاظ التي جاء بها.. ولهذا، فإن المعلم الكامل هو الذي يربي تلاميذه على استعمال عقولهم، لا الذي يحضهم على التقليد.
ولهذا يعقب الله تعالى على القضايا التي لا يمكن للعقل أن يعرفها بادئ الرأي بكونها من اختصاص أولي الألباب.
ولهذا، فإن الأستاذ الماهر المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي لا يكتفي بأن يعطي تلاميذه المعلومة جاهزة من دون أن يمنحهم فرصة للتأمل والاجتهاد للوصول إليها، بل يدع لعقولهم فرصا كثيرة للنظر والبحث والتأمل.
قال بعض الطلبة: لقد ذكرتني بحديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه السلام قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسلم عليه، فقال رسول
__________
(1) جواهر القرآن:21.
النبي الهادي (231)
الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وعليك السلام) ثم قال: (ارجع فصل فإنك لم تصل) حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق! ما أحسن غير هذا علمني، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) (1)
فقد علم صلى الله عليه وآله وسلم هذا الرجل الذي أساء في صلاته، ولم يحسن فيها بأسلوب عملي يجعل المتعلم يكتشف الخطأ الذي وقع فيه بنفسه.
قلت: عرفنا التأمل.. فحدثنا عن الحفظ، ولم كان شرطا في المجاهدة؟
قال: إن طالب العلم المتفرغ له هو الذي يستعمل جميع ما وهبه الله من طاقات في خدمة العلم الذي يطلبه.. وبما أن الذاكرة من طاقات الإنسان، فإن طالب العلم يستثمرها أعظم استثمار.
فالعالم يحتاج إلى إحضار المعارف المختلفة في كل حين ليستنتج منها معارف جديدة، أو ليخدم بها من يريد أن يخدمه، وما لم تكن هذه المعارف حاضرة في ذهنه، فإنه لا يمكن أن يفيد بها أحدا، بل لا يمكن أن يستفيد هو نفسه منها.
قلت: فهل ورد في النصوص المقدسة ما يدل على ذلك؟
قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (العنكبوت:49)؟
قلت: بلى..
قال: إن هذه الآية تحمل دعوة عظيمة للحفظ، فلا يمكن أن يتعلم من لم يحفظ.. ولهذا ربطت الآية بين الحفظ في الصدور، وبين أهل العلم، وكأنها تقول لطالب العلم: إن أردت أن
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (232)
تصير من أهله، فاشحذ ذاكرتك، ووسع صدرك ليصبح مخزنا للعلوم.
قلت: هذا في القرآن.. فهل ورد في السنة ما يدل عليه؟
قال: السنة تمتلئ بذلك.. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ـ تشجيعا على الحفظ ـ يقدم حافظ القرآن على غيره في الإمامة وغيرها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلما (1)، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) (2)
وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: أيهما اكثر أخذا للقرآن؟ فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد (3).
قلت: هذا في حفظ القرآن الكريم.. فهل ورد في النصوص ما يدل على حفظ غيره؟
قال: كل ما ذكر في حفظ القرآن يدل على حفظ غيره، فلا يمكن أن يصير العالم عالما، وهو ناس لما تعلمه.
عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقاما ما ترك شيئا، يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه) (4)
قلت: كل ما ذكرته لا يمكن لأحد أن يجادل فيه.. لكني أرى البعض يتهمون من يحفظ.. ويعتبرونه مجرد وعاء.. وأن الكامل من يفهم، لا من يحفظ.
قال: والأكمل من يجمع بينهما، فيحفظ، ويفهم.. بل إنه لا يعين على الفهم شيء كما يعين عليه الحفظ.. فالحافظ الذي يردد بلسانه ما يحفظه لا محالة سيردده في عقله وقلبه، فيفهمه
__________
(1) قال الأشج في روايته: مكان سلما (سنا)
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري.
(4) رواه مسلم.
النبي الهادي (233)
ويستوعبه، فيجمع بين الحسنيين.
بالإضافة إلى أن الذي لا يحفظ لا يطيق أن يفيد بعلمه كل حين، فهو معلق بكراريسه وكتبه إن حضرت أجاب، وإلا لم يطق جوابا.
قال بعض الطلبة: لقد ذكرتني بحادثة حصلت للغزالي كانت سببا في لجوئه إلى الحفظ، قال يحكي عن نفسه: قطعت علينا الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتبعتهم، فالتفت إلى مقدمهم، وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت، فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد على تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة، هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها، فضحك، وقال: كيف تدعي أنك عرفت علمها وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها، وبقيت بلا علم، ثم أمر بعض أصحابه، فسلم إلى المخلاة.
قال الغزالي: فقلت: هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع على الطريق لم أتجرد من علمي (1).
قال آخر: وقد قال بعضهم في هذا: (كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فلا تعده علماً)
قلت: ولكن العلوم كثيرة.. بل هي أكثر من أن تنحصر.. فكيف يمكن حفظ كل ذلك؟
قال: إن الله تعالى بحكمته ورحمته زود الإنسان بطاقات عظيمة لا يمكن تصورها أو حدها.. نحن فقط بكسلنا وضعفنا وقصورنا نتوهم أن الله أعطانا القليل، فلذلك نستسلم للعجز، ونتعلل بالطاقة المحدودة.
لقد قال بعضهم يذكر هذا: إن الرجل ليطلب العلم وقلبه شِعْبٌ من الشِّعَاب، ثم لا يلبث أن يصير واديًا، لا يوضع فيه شيء إلا التهمه.
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى: 6/ 85.
النبي الهادي (234)
وقال آخر: كان العلماء يقولون: (كل وعاء أفرغت فيه شيئا فإنه يضيق إلا القلب، فإنه كلما أفرغ فيه أتسع)
قلت: سلمت لك في هذا.. وفي تاريخنا ما يدل عليه.. فما أكثر حفاظ الإسلام.. لكن ما سر ذلك؟
قال: الهمة والصدق والصفاء.. ألا ترى كيف يحفظ قومك الأفلام، فيوردونها مشهدا مشهدا ولقطة لقطة؟
قلت: بلى.. أرى ذلك.
قال: فكم مجلدا هي تلك اللقطات المحفوظة؟
قلت: هي مجلدات كثيرة لا يمكن حصرها.
قال: فأفلام أهل العلم هي تلك الكتب.. لقد ترفعت همتهم عن السفاسف، ففتح الله عليهم من العلوم ومن حفظ العلوم ما ملأ غيرهم بالعجب.
قلت: رغبتنا في الحفظ.. فما الذي يعين عليه؟
قال: أوله الصفاء.. فلا يمكن أن تكتب في أوراق مكتوبة.. قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة:151).. انظر كيف قدم الله تعالى التزكية على العلم.. فلا يمكن لمن تلطخ بالأوزار أن يستوعب الأسرار.
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 282).. انظر كيف قرن الله التقوى بالعلم.. فلا يتعلم حقيقة العلم إلا من اتقى الله حق التقوى.
قلت: هذا الأول.. فما الثاني؟
قال: تكرير ما تريد حفظه على قلبك.. فلا يثبت الحفظ مثل التكرار.. فعن علي قال: تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يدرس.
النبي الهادي (235)
قلت: هذا الثاني.. فما الثالث؟
قال: المذاكرة.. مذاكرة ما تحفظ مع غيرك.. ليضبط لك ما لم تضبطه، ويفتح عليك ما نسيته، ويضيف لك جديدا إن كان عنده.. حدث سعيد بن جبير أن ابن عباس كان يقول: يا سعيد اخرج بنا إلي النخل، ويقول: يا سعيد، حدث، قلت: أحدَّث وأنت شاهد؟ قال: إن أخطأت فتحت عليك.
قلت: هذا الثالث.. فما الرابع؟
قال: تعليم الناس ما تحفظ.. فليس شيء أكثر ترسيخا للعلم في الذهن من إنفاقه.. فعن بعضهم قال: من سره أن يحفظ الحديث فليحدث به، ولو أن يحدث به من لا يشتهيه، فإنه إذا فعل ذلك كان كالكتاب في صدره.
بعد أن انتهينا من دراسة ما يتطلبه الفرع الثاني من علوم وآداب، انتقلنا إلى الفرع الثالث، وهو فرع (السمت)
وقد سألنا ـ ونحن في الركن المرتبط بهذا من محضرة الآداب ـ شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عن معنى السمت، وضرورته لطالب العلم، فقال: السمت الحسن هو التزام هيئة الصالحين في أحوالهم جميعا من كلام وفعال ومعاملات وهيئات وحركات وسكنات وغيرها.. فلا يمكن لطالب العلم إلا أن يميز عن غيره ليستفيدوا منه.
قلت: أليس قد أمرنا أن نكون كالناس؟.. فكيف تعتبر التميز شعارا للصالحين؟
قال: التميز نوعان: نوع هو محض كبر وسمعة ورياء.. وهذا قد حذر منه الصالحون.. قال علي: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم به.
النبي الهادي (236)
قلت: هذا السمت الأول.. وهو السمت المذموم، وهو الذي كنت أعنيه، فما الثاني؟
قال: هو في ظاهره كالسمت الأول.. ولكن صاحبه ابتدأ بسمت الباطن، فحسنه وجمله وزينه.. فلما اعتدل باطنه بالطاعات زين الله ظاهره بما يملأ الله القلوب هيبة منه وتوقيرا له.
ولهذا اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم هذا النوع من السمت من النبوة، فقال: (الهَدْي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة) (1)
وهذا يبين لنا أن الذي يتحلى بالسمت الصالح والهدي الصالح يُقتدى به ويحاكي بعض صفات النبوة، وكفى بذلك شرفاً.
قلت: أفي القرآن الكريم ما يشير إلى هذا؟
قال: يستحيل على الكتاب الذي فيه بيان كل شيء ألا يكون فيه مثل هذا.
قلت: فأين هو فيه؟
قال: فيه جميعا.. فكل آية في القرآن الكريم تحمل أدبا يزين به الباطن، ليبرز أثره بعد ذلك إلى الظاهر.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) (2)
قلت: بلى.. فاذكر لي نموذجا ييسر لي فهم ذلك.
قال: اقرأ ما ورد في صفات (عباد الرحمن) في القرآن الكريم.
أخذت أقرأ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان:63)
قال: حسبك.. ألا ترى أن الآية بدأت وصف عباد الرحمن بكونهم يمشون؟
قلت: بلى.. ولكنها لو اكتفت بمشيهم فقط لما كان لعباد الرحمن في هذا أي ميزة.
قال: فبم وصفت مشيتهم؟
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس.
(2) رواه أبو سعد بن السمعاني في أدب الإملاء.
النبي الهادي (237)
قلت: بالهون.. إنها ذكرت أنهم {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً}
قال: فهذا هو السمت الحسن الصالح.. والذي هو جزء من النبوة.. والذي نحرص على تعليمه هنا في هذه المحضرة.
قلت: أهو مرتبط بالمشي فقط؟
قال: بكل سلوك من سلوكيات الحياة.. فلكل سلوك هونه الخاص به.
قلت: فما سر بدئكم به قبل التعليم؟
قال: لأنه لا يمكن أن يتعلم من لم يكن له سمت أهل العلم.. فالمدارس المستنة بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخرج المتأدبين لا المشاغبين.
قلت: أللسمت الحسن تأثيره في التحصيل؟
قال: لو لم يكن له تأثيره في التحصيل لم نبدأ به.. لقد صحبت الوارث.. ولعله أخبرك عن مجالس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فحدثنا عما رواه لك من أحاديث في هذا.
قلت: أجل.. لقد حدثنا عن بعضهم قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يتكلم منا متكلم، كأن على رؤوسنا الطير (1).
وفي رواية: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه حوله، وعليهم السكينة، كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت، ثم قعدت، وذكر الحديث (2).
وحدثنا عن آخر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير (3).
وحدثنا عن آخر قال: كنا إذا قعدنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ترتفع رؤوسنا إليه إعظاما له (4).
__________
(1) رواه ابن حبان والحاكم، والذهبي، وأقره، ورواه الطبراني بسند صحيح.
(2) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه.
(3) رواه الطيالسي بسند صحيح، وابن أبي شيبة، وأحمد بن منيع.
(4) رواه ابن حبان، والحاكم، وصححه الذهبي، وأقره.
النبي الهادي (238)
قال: هل كان يمكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلم أصحابه، ويستفيد أصحابه من أحاديثه وتعليمه في مجلس ترتفع فيه الأصوات، ولا يرعى بعضهم حرمة بعض؟
قلت: لا.. لا يمكن ذلك.
قال: ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بالأدب قبل التعليم.. بل إن القرآن الكريم حض عليه وأمر به، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (الحجرات:4)
قال بعض الطلبة: فما الذي سنتعلمه في هذا الفرع؟
قال: أربعة أنواع من السمت لابد لطالب العلم الذي يريد أن يستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، ليبارك له في علمه، وليحصل في أقل مدة ما لا يحصل غيره في أكثر منها.
قلنا: فما هي؟
قال: سمت مرتبط بنفسه، وسمت مرتبط بعلمه، وسمت مرتبط بدرسه، وسمت مرتبط بمعلمه.
كان أول ما بدأنا به دراستنا في فرع (السمت) السمت المرتبط بنا، وبسلوكنا تجاه أنفسنا، وكان أول درس جمعنا بشيخنا الشنقيطي قرأ لنا فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب) (1)
ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يدعونا إلى أن نقدم التخلص من الخنزيرية قبل التعلم.. ألا ترون كيف أمرنا بطلب العلم، ثم نهى أن يوضع العلم عند غير أهله، وشبه من يفعل ذلك بمن يقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب؟
قلنا: ذلك صحيح.. فما المخرج من الخنزيرية؟
قال: لقد حفظ سلفنا عن سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك أربعة سنن، وستتعلمون
__________
(1) رواه ابن ماجه وغيره.
النبي الهادي (239)
أصولها وأركانها في هذا الفرع.
قلنا: فما أولها؟
قال: أن يتخلق طالب العلم بما حث الشرع عليه من الزهد في الدنيا، والتقلل منها بقدر الإمكان، فإن ما يحتاج إليه منها على الوجه المعتدل من القناعة لا يعد من الدنيا..
قلت: فما سر احتياج الطالب للزهد (1)؟
قال: لأن الطالب الذي امتلأ قلبه بالشهوات والأهواء والرغبات لن يبقى فيه محل للاستفادة من العلم.. وكيف يستفيد وآلة العلم هي مرآة القلب.. ومرآة القلب منصرفة إلى الرغبات.
قلنا: فما الثاني؟
قال: أن يتجنب كل خوارم المروءة من دنيء المكاسب ورذيلها، ويتجنب مواضع التهم وإن بعدت، ولا يقيل شيئاً يتضمن نقص مروءة، وما يستنكر ظاهراً، وإن كان جائزاً باطناً، فإنه يعرض نفسه بذلك للتهمة، ويوقع الناس في الظنون المكروهة، فإن اتفق وقوع شيء من ذلك منه لحاجة أو نحوها، أخبر من شاهده بحكمه، وبعذره ومقصوده، كيلا يأثم من رآه بسببه، أو ينفر عِنه، فلا ينتفع بعلمه ولا يستفيد بذلك الجاهل به، ففي الحديث عن أم المؤمنين صفية بنت حييٍ قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرعا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (على رسلكما، إنها صفية بنت حييٍ)، فقالا: سبحان الله يا رسول الله؟ فقال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً) (2)
قلنا: فما الثالث؟
__________
(1) ذكرنا بتفصيل مفهوم الزهد وآثاره السلوكية في رسالة (كنوز الفقراء)
(2) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (240)
قال: أن يطهر باطنه وظاهره من الأخلاق الردية، كالغل، والحسد، والبغي، والغضب لغير الله تعالى، والغش، والكبر، والرياء والعجب، والسمعة، والبخل، والجبن والبطر والطمع، والفخر، والخيلاء، والتنافس في الدنيا، والمباهاة فيها، والمداهنَة والتزين للناس، وحب المدح بما لم يفعل، والعمى عن عيوب النفس، والاشتغال عنها بعيوب الخلق، والحمية، والعصبية لغير الله، والرغبة والرهبة لغيره، والغيبة، والنميمة، والبهتان، والكذب، والفحش في القول، واحتقار الناس ولو كانوا دونه، وغيرها من الصفات الخبيثة، والأخلاق الرذيلة، فإنها باب كل شر، بل هي الشر كله.
قلنا: فما المخرج من هذه الرذائل، وهي لا يكاد تنجو منها نفس؟
قال: لكل علاجه الذي به يعالج.. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى حيث خلق الداء خلق الدواء فتدواوا) (1)
قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر في هذا الحديث دواء الأجساد.
قال: بل هو يذكر كل الأدوية.. فلا فرق بين مرض الروح ومرض الجسد.
قلنا: فما الرابع؟
قال: أن يعمر باطنه بالأخلاق المرضية، كدوام التوبة، والإخلاص، واليقين، والتقوى، والصبر، والرضى، والقناعة، والزهد، والتوكل، والتفويض، وسلامة الباطن، وحسن الظن، والتجاوز، وحسن الخلق، ورؤية الإحسان، وشكر النعمة، والشفقة على خلق الله والحياء من الله ومن الناس، ومحبة الله تعالى، هي الخصلة الجامعة لمحاسن الصفات.
وكل ذلك لا يتحقق إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران:31)
__________
(1) رواه أحمد، وللحديث روايات أخرى كثيرة لغير أحمد.
النبي الهادي (241)
بعد أن درسنا وتدربنا على الآداب المرتبطة بالسمت مع النفس مدة، انتقلنا إلى الفرع الثاني للسمت، وهو السمت مع العلم، وقد بدأ الشنقيطي حديثه عن هذا النوع من السمت بقراءة عشر آيات من القرآن الكريم، يكرر كل واحدة منها مرات كثيرة، وقد سألناه عن سر قراءتها وتكراراها، فقال: لابد لمن يريد أن يدرس هذا النوع من السمت أن يقرأ هذه الآيات، ويكررها على نفسه، ويتدبرها، ويمعن في تدبيرها.
قلنا: لم؟
قال: لأنها الأساس الذي يبنى عليه السمت مع العلم.
قلنا: فما الذي يفهمه طالب العلم من الآية الأولى؟
قال: الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (البقرة: 120)، وهي تبين أن للعلم من المكانة ما يجعل صاحبه مترفعا عن اتباع غيره، فالعلم يُتبع ولا يتبع.. والعالم يُطلب ولا يطلب.
قلنا: فما الذي يستفيد من الثانية؟
قال: الثانية.. وهي قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:247) تثني على ما آتى الله لوطا من سعة العلم.. وكيف ـ في المقابل ـ احتقره بنو إسرائيل لأنه لم يؤت سعة من المال؟
قلنا: بلى.. ذلك واضح في الآية.
قال: فمن احتقر العلم، وعظم المال، أو جعل العلم وسيلة للمال، فقد سلك سلوك بني إسرائيل في هذا.
قلت: ولكن المال لابد منه، وقد قال الله تعالى تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي
النبي الهادي (242)
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5)، فقد أخبر الله تعالى أن بالمال تقوم حياة الناس.
قال: فرق بين أن تستعمل المال، وبين أن تعظم المال.. من استعمل المال جعله خادما له، وانتفع بخدمته.. ومن عظم المال استعبده ماله، فصار خادما لماله.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} (الهمزة).. وقد أخبر الله تعالى عن مصير من هذا حاله، فقال: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} (الهمزة)
قلت: هذا جزاؤه في الآخرة.
قال: وهناك جزاء في الدنيا لمن انشغل بماله عن علمه.. وهو جزاء يكاد يشبه ما ذكره الله تعالى من جزاء الآخرة..
قلنا: فما هو؟
قال: إن هذا الذي استعبده ماله ستحطم إنسانيته بماله، وسيسجن في سجون ماله، وسيحرق بلهب ماله..
لقد اتفق على هذا جميع أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولهذا تراهم يحضون على تعظيم العلم واحترامه وعدم الوقوع فيما وقع فيه بنو إسرائيل عندما قدموا المال على العلم.
قال بعض الطلبة: أروي في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب لتلميذه النجيب كميل، فقد قال له: (يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق)
قال آخر: وأروي عن أبي الأسود قوله: (ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك)
قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الثانية، فما الذي يستفيد من الثالثة، وهي قوله
النبي الهادي (243)
تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18)؟
قال: ألا ترون كيف عطف الله تعالى أهل العلم على نفسه، وعلى ملائكته؟
قلنا: بلى.. ذلك واضح.
قال: أفترون من شرف بالجلوس في ذلك المجلس الرفيع، وأحل في تلك المكانة الشريفة يرضى بالسفاسف، أو يرى أن هناك مجلسا أفضل من مجلسه، أو محلا أعلى من محله؟
قلنا: لا..
قال: فطالب العلم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه أن يشهد هذا.. فلا يرى أحدا أفضل منه مجلسا، ولا مكانة..
قلت: ولا الوزراء.. والأمراء.. والمدراء..
قال: وماذا يساوي الوزراء والأمراء والمدراء أمام الله.. إنهم كهباءة.. أو كقلامة.. أو كلا شيء..
وماذا يساوي الوزراء والأمراء والمدراء أمام الملائكة الذين هم رسل الله والمدبرات أمرا والمصطفين الأخيار.
قلت: فهذه الآية تعالج الجاه إذن؟
قال: أجل.. فجاه أهل العلم هو العلم.
قال بعض الطلبة: أروي في ذلك عن سالم بن أبي الجعد قوله: اشتراني مولاي بثلثمائة درهم وأعتقني، فقلت: بأي شيء أحترف؟ فاحترفت بالعلم، فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائراً، فلم آذن له.
قال الشنقيطي: بهؤلاء العلماء ارتفعت منارة العلم والدين.. لا الذين يحتبون على أبواب الملوك والأمراء يستجدونهم ويكتبون المعلقات الطوال في مدحهم.
النبي الهادي (244)
قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الثالثة، فما الذي يستفيد من الرابعة، وهي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} (الرعد:37)؟
قال: ألا ترون كيف نفى الله ولايته ووقايته على من اتبع ما يتطلبه الهوى، وغفل عما يتطلبه العلم؟
قلنا: أجل.. ذلك واضح.
قال: فالعلم الذي ترفع على المال وترفع على السلطان لا ينبغي أن يذل أمام الهوى، فقد ذم الله تعالى طالب العلم الذي يقع أسير هواه، فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} (الأعراف)
قال بعض الطلبة: بل إن الله تعالى اعتبر الهوى صنما من الأصنام التي تعبد من دون الله، فقال: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (43)} (الفرقان)
قال آخر: وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع) (1)
قال الشنقيطي: وذلك لأن صاحب الهوى لن ينتقل من الخطأ إلى الصواب، أو من الصلاح إلى الفساد.. بل هو أسير هواه إن تراجع عن خطأ، فلن يقع إلا في غيره، وإن تاب عن معصية، فلن يقع إلا في غيرها.
__________
(1) رواه الطبراني.
النبي الهادي (245)
قال بعض الطلبة: لقد روي في هذا عن ابن عباس قوله: (كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زماناً من الدهر في الجاهلية، فإذا وجد حجراً أحسن منه رمى به وعبد الآخر) (1)
قال: وهكذا عباد الهوى من العلماء: يتوب من صنم الشيوعية ليقع في صنم الليبرالية.. ويتوب من عبودية الحاكم ليقع في عبودية الوزير.. ويتوب من عبودية المال ليقع في عبودية الجاه.. وهكذا يظل يتردد بين عبودية وعبودية.
قلت: فمتى يتحرر؟
قال: إذا طلق الهوى، وكفر به.. وجعل الحقيقة هدفه.. حينذاك فقط سيتحرر.
قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الرابعة، فما الذي يستفيد من الخامسة، وهي قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} (الاسراء:107)؟
قال: ألا ترون كيف وصف الله أهل العلم من الذين تحرروا من إسار الهوى؟
قلنا: أجل.. لقد وصفهم بالسجود.
قال: فأي علم لا يدلك على السجود، فهو جهل.. وأي علم لم يملأك بالعبودية فالجهل خير منه.
قلت: ولكن العلم أوسع من أن يختصر في هذا.. فالعلوم كثيرة؟
قال: ألم تسمع قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} (الروم)؟
قلت: بلى.. فما فيها من العلم؟
قال: ألا ترى كيف نفى الله تعالى العلم عن أكثر الناس.. أي وصفهم بالجهل.. ولكنه استدرك على من يتصور أن ما لديهم من رسوم علما.. فذكر أنه مجرد ظواهر لا تحمل اسم العلم
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه.
النبي الهادي (246)
الحقيقي؟
قلت: كيف لا تحمل اسم العلم الحقيقي؟
قال: لأن العلم الذي لا يثبت، ولا يسير مع صاحبه هو إلى الجهل أقرب منه إلى العلم.
قلت: لم أفهم.. فالعلم يظل علما.. ولن يصير جهلا أبدا.
قال: الصبي في صباه له علوم كثيرة.. فهو يظن أن السماء تنتهي حيث انتهى بصره.. وأن لعبته أفضل من تيجان الملوك..
قلت: وهل هذا يسمى علما؟
قال: بالنسبة له هو علم..
قلت: نحن لا نسميها علوما.
قال: فهكذا الأمر بالنسبة للحقائق الأزلية.. فأكثر المعارف التي يزهو بها العلماء لا تختلف كثيرا عن تلك المعارف التي يزهو بها الصبيان.
قلت: فهمت هذا.. فقربه لي.. فإني من قوم عبدوا علومهم، وصار يصعب عليهم فهم مثل هذا؟
قال: أرأيت لو أن البشرية استطاعت في يوم من الأيام أن تنفذ من أقطار السماء.. كيف يصبح ـ حينها ـ صعودها إلى القمر؟
قلت: يصبح مجرد لعبة.. فالبشرية لو وصلت إلى هذا، فإن القمر حينها يصبح جزيرة لا كوكبا.. بل لعل الصبيان ـ حينها ـ يمتطون دراجاتهم للصعود إليه.
قال: فما ورد في النصوص المقدسة من الحقائق عن الكون يجعل من كل ما نراه شيئا هينا لا يكاد يذكر..
قلت: فكيف يدل العلم على السجود؟
قال: من وعى هذا سجد لله لا محالة.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك: {وَمِنَ النَّاسِ
النبي الهادي (247)
وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:28)
قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الخامسة، فما الذي يستفيد من السادسة، وهي قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} (مريم:43)؟
قال: أليس الابن تابعا لأبيه؟
قلنا: بلى.. وقد حدث جابر أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي مالا وعيالا، وأنه يريد أن يأخذ من مالي إلى ماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت ومالك لأبيك) (1)
قال: وفي العلم.. هل يجوز للعالم أن يترك ما هداه إليه علمه في مسألة لأن أباه يقول بها؟
قال بعض الطلبة: لو فعل ذلك لصدق عليه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (البقرة:170)
قال: فكما تحرر العالم من سلطان المال والجاه والهوى.. ينبغي أن يتحرر من سلاطين الآباء والأجداد والجذور.. فليس للعالم من سلطان غير سلطان علمه.
قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من السادسة، فما الذي يستفيد من السابعة، وهي قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الحج:54)؟
قال: ألا ترون كيف وصف الله أهل العلم بالإخبات؟
قلنا: أجل.. ونحن نعلم أن الإخبات هو الخضوع.
قال: متى وصفهم بذلك؟
قلنا: بعد علمهم بأنه الحق.
قال: فالعالم الذي وصف بأنه تخلص من إسار الهوى والسلطان والمال والجذور وصف
__________
(1) رواه ابن ماجه باختصار، ورواه الطبراني في الأوسط.
النبي الهادي (248)
بالخضوع للحق.
قلنا: ذلك صحيح.
قال: وما كان جزاء من أخبت للحق؟
قلنا: لقد ذكر الله ذلك، فقال: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
قال: فهذا وعد من الله تعالى لمن لم يخضع إلا لما يطلبه الحق بأن يهديه إلى الصراط المستقيم.
قلنا: ذلك صحيح.
قال: وهذا يعني أن من تكبر على الحق، أو كتم الحق بعد أن علمه، أو لم يسلك السبيل الصحيح التي تهديه إلى الحق، فلن يهتدى سواء السبيل.
قلنا: ذلك كذلك.
قال: فهذه الآية ترسم لنا المنهج الموضوعي في العلم.. وهو المنهج المتحرر من كل قيد سوى قيد البحث عن الحقيقة.. وطالب العلم الذي لم يمتلئ بهذا، لن يزيده علمه إلا نفورا من الحق وإعراضا عنه.
قلت: ولكن المعلمين عندنا يربون تلاميذهم على التقليد؟
قال: من ربى تلاميذه على التقليد، فقد أحدث، ومن أحدث فقد ابتدع، ولا يبتدع إلا ضال.
قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من السابعة، فما الذي يستفيده من الثامنة، وهي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (القصص:80)؟
قال: ألا ترون كيف تحرر أهل العلم من إسار مجتمعاتهم، فراحوا يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر لا يبالون في ذلك لومة لائم.
قلنا: أجل.. فقد حكى الله تعالى عن موقف مجتمع هؤلاء لما عاينوا زينة قارون، فقال: {
النبي الهادي (249)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص:79)
قال: وذكر في نفس الوقت موقف أهل العلم المترفع الناصح.
قلنا: أجل..
قال: فالعالم هو الذي لا يستسلم للتقاليد والأعراف، فلا يخضع لسلطانها، ولا تستعبده بأهوائها، بل تكون له السلطة عليها.. فالعالم مؤثر لا متأثر، وفاعل لا مفعول، ومغير لا متغير.
قال بعض الطلبة: صدقت.. وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض علماء بني إسرائيل، فقال: (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة: 78)، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكئًا فجلس فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا) (1)
قال آخر: وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة:78)، ثم قال: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتَنهون عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد الظالم، ولَتَأطرنَّه على الحق أطْرا أو تقصرنه على الحق قصرًا) (2)
قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من الثامنة، فما الذي يستفيد من التاسعة، وهي قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
__________
(1) رواه أحمد.
(2) رواه الترمذي وابن ماجه.
النبي الهادي (250)
الْحَمِيدِ} (سبأ:6)؟
قال: ألا ترون كيف وصف الله النهاية التي يبلغها أهل العلم.. أو النتيجة التي يصلون إليها؟
قلنا: أجل.. لقد ذكر الله أن النتيجة النهائية التي يصل إليها أهل العلم هي أن يعلموا أن {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}
قال: فالعالم هو الذي لا يغفل عن هذا النوع من العلم.. لأنه لن يصل إلى لباب العلم به.
قلنا: فأين نجد هذا العلم؟
قال: العلوم صنفان: علوم حقائق.. وهي تدلك على أن كل ما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه.. وعلوم سياسات.. وهي تدلك على أن كل ما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الصراط المستقيم الذي يتوافق مع الفطرة، ولا يصلح الإنسان إلا به.
قلت: فما فائدة هذا لطالب العلم؟
قال: أن لا يقتنع طالب العلم بأي نهاية حتى يصل إلى هذه النهاية.. وهذه النهاية لا حد لها.. فلذلك يظل طول عمره باحثا سالكا سائرا.
قلنا: عرفنا ما يفهمه طالب العلم من التاسعة، فما الذي يستفيد من العاشرة، وهي قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 7)؟
قال: ألا ترون كيف وصف الله أهل العلم الراسخين فيه بالتسليم المطلق لله؟
قلنا: بلى.
قال: فطالب العلم لن يرسخ في العلم حتى يسلم هو وعلمه لله.
قلنا: عرفنا إسلام العبد لله.. فكيف يسلم علمه؟
قال: إذا عرف العلم قدره، فلم يتجاوز حدود ما أمر بعلمه، كان مسلما.. ألا ترون كيف
النبي الهادي (251)
سلم الراسخون لله في الحين الذي راح فيه المشاغبون يبحثون عن المتشابه ليجادلوا في دين الله.
قلنا: ذلك صحيح.
قال: فلن يصل طالب العلم للرسوخ في العلم حتى يكون هذا حاله..
بعد أن درسنا وتدربنا على الآداب المرتبطة بالسمت مع العلم مدة، انتقلنا إلى الفرع الثالث للسمت، وهو السمت مع الدرس، وقد بدأ الشنقيطي حديثه عن هذا النوع بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) (1)
وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما مجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، ونحمده لما هدانا للإسلام، ومن علينا به، فقال: (أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة) (2)
وحدثنا أنه بينما كان رسول الله جالسا في المسجد، والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفرٍ، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذهب واحدٌ، فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأما أحدهما، فرأى فرجةً في الحلقة، فجلس فيها وأما الآخر، فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة: أما أحدهم، فأوى إلى الله، فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر، فأعرض، فأعرض الله عنه) (3)
قلنا: ما سر إيرادك لهذه الأحاديث، وما علاقتها بسمت أهل العلم مع دروسهم؟
قال: هذه الأحاديث هي المنبع الذي منه يستقي طالب العلم ومعلمه ما ينشر فيهما سمت
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود.
(2) رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(3) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (252)
أهل العلم مع دروسهم.
قلنا: كيف ذلك؟
قال: لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن مجلس العلم مجلس يأوي فيه طلبة العلم إلى الله، فيكونون بجلوسهم فيه ضيوفا على الله.. وأخبر أنه مجلس تحضره الملائكة.. وأخبر أنه مجلس تستجاب فيه الدعوات، وتلبى فيه الطلبات.. ومثل هذا المجلس الذي شرف هذا التشريف ينبغي أن لا تقل هيبته عن هيبة الصلاة.
قلنا: نحن نعرف أركان الصلاة وفضائلها وموانعها ونواقضها.. فهل أثر عن سلفكم من أهل العلم ما يرتبط بمجلس العلم من أحكام؟
قال: أجل.. لقد اتفق جميع أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن لمجلس العلم من الحرمة ما لا يقل عن حرمة الصلاة.. فلذلك سنوا فيه من الآداب ما يحفظ حرمته، ويعطيه حقه من التعظيم.
قلنا: فحدثنا عن ذلك.
قال: سأحدثكم عن عشر تجمع أصول ذلك.. أما فروعه فستتدربون عليها في هذا المجلس حتى لا تطردوا من حلق العلم.
قلت: وهل يمكن لمعلم أن يطرد من يتعلم على يديه؟
قال: لقد كان ذلك سنة السلف الصالح.. كانوا لا يرون أحدا يعكر مجلس العلم بالجدال وسوء الأدب إلا طردوه.
قلت: ألا ترى أنهم يقسون عليه بذلك؟
قال: رب قسوة تحمل من الرحمة ما لا تحمله أي رحمة، ألم تسمع الشاعر الحكيم، وهو يقول:
وقسا ليزدجروا ومن يك راحما... فليقس أحيانا على من يرحم
النبي الهادي (253)
قلنا: بلى.. فحدثنا عن الأول.
قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم من أهل العلم أن من آداب الطالب والأستاذ إذا عزم على الجلوس مجلس التدريس أن يتطهر من الحدث، وينظف، ويتطيب، ويلبس من أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل زمانه، قاصداً بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة.
قلنا: فحدثنا عن الثاني.
قال: أنتم تعرفون صلاة الاستخارة؟
قلنا: وما علاقتها بهذا؟
قال: لقد كان من سلفنا من يقدم على مجلسه هذه الصلاة.
قلنا: لم؟
قال: حتى يكون تحركه للعلم والتعليم بتحريك الله لا بتحريكه.. ثم إن في العلم مجاهيل، فهو يحتاج من الله أن يوفقه لسلوك متاهاتها.. ثم إن في العلم فروعا كثيرة، فهو يحتاج لأن يخير الله له خيرها، وأوفقها بالنسبة له.
قلنا: فحدثنا عن الثالث.
قال: أن ينوي بطلب العلم أو نشره تبليغ أحكام الله تعالى التي ائتمن عليها، وأمر ببيانها والازدياد من العلم، وإظهار الصواب، والرجوع إلى الحق والاجتماع على ذكر الله تعالى والسلام على إخوانه من المسلمين والدعاء للسلف الصالحين.
يحكى عن بعضهم أنه كان يكتب حتى تكل يده، فيضع القلم ثم ينشد من باب الإشارة:
لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً... على غير ليلى فهو دمع مضيع
قلت: حقيق بطالب العلم ومعلمه أن يفرح، فكيف يبكي هذا؟.. ألم يبلغه فضل أهل العلم؟
النبي الهادي (254)
قال: ألم تسمع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} (المؤمنون)؟
قلت: بلى.. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها، فقيل له: أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال: (لا، ولكن الرجل يصوم ويتصدق ويصلي، وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه) (1)
قال: فأهل العلم هم أولى بالخشية من غيرهم.. ألم تسمع قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28)
قلت: بلى..
قال: فأعظم الخشية هو أن يخاف المؤمن ألا يقبل منه.. لقد قال بعضهم يعبر عن ذلك: (الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم)
قلنا: فحدثنا عن الرابع.
قال: من آداب طالب العلم ألا يتحرك في طريقه إلى مجلس العلم إلا بصحبة ذكر.. فإذا وصل إليه سلم على من حضر وصلى ركعتين، فإن كان مسجداً تأكدت مطلقاً، ثم يدعو الله تعالى بالتوفيق والإعانة والعصمة، ويجلس مستقبلاً القبلة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أكرم المجالس ما استقبل القبلة) (2)
ويكون جلوسه بسكينة، ووقار، وتواضع، وخشوع، متربعاً، أو غير ذلك مما لا يكره من الجلسات، ولا يجلس مقعياً، ولا مستفزاً، ولا رافعاً إحدى رجليه على الأخرى، ولا ماداً رجليه أو إحداهما من غير عذر، ولا متكئاً على يديه إلى جنبه أو وراء ظهره، وليصن بدنه عن
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.
(2) رواه أبو يعلي والطبراني في الأوسط، عن ابن عمر مرفوعاً والطبراني في الكبير عن ابن عباس نحوه مرفوعاً.
النبي الهادي (255)
الزحف، والتنقل عن مكانه، ويديه عن العبث والتشبيك بهما، وعينيه عن تفريق النظر من غير حاجة، ويتقي المزاح وكثرة الضحك، لأنه يقلل الهيبة، ويسقط الحشمة.
قلت: فهل ورد في السنة ما يدل على كل هذا؟
قال: أجل.. ألم تسمع حديث جبريل عليه السلام الذي جاء يعلمنا فيه ديننا (1)؟
قلت: بلى.. بل أحفظه.
قال: إن هذا الحديث أصل من أصول أدب طالب العلم في درسه.. انظر كيف جلس، وكيف سأل، وكيف سمع، وكيف أجاب.. إن جبريل عليه السلام لم يعلمنا فقط أصول ديننا، بل علمنا مع ذلك السمت الذي نطلب به علوم ديننا.. فلا يمكن أن نتعلم الدين في مدارس المشاغبين.
قلنا: فحدثنا عن الخامس.
قال: أن يقطع طالب العلم كل ما يحول بينه وبين التفرغ للعلم والتنصت له والتأمل فيه.. فلا يدرس وقت جوعه، أو عطشه، أو همه، أو غضبه، أو نعاسه، أو قلقه، ولا في حال برده المؤلم، أو حره المزعج، فربما سمع ما لم يتحقق من سماعه، أو فهم ما لا يصح أن يفهمه.. وإن كان أستاذا ربما أجاب أو أفتى بغير الصواب، لأنه لا يتمكن من استيفاء النظر.
قلت: أهذا قياس على ما ورد في الحديث من نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الحاقن (2).. ونهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الحازق (3)، وهو صاحب الخف الضيق.
قال: ليس ذلك قياسا.. بل العلم لا يختلف عن الصلاة.. فكما أن هذه الشواغل تصرف عن الصلاة، وتؤثر في خشوعها، فهي كذلك تصرف عن العلم، وتؤثر على معايشة الطالب ما يتعلمه.. وذلك يحول بينه وبين الاستفادة منه.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه ابن ماجه والدار قطني.
(3) عزاه رزين إلى الترمذي.
النبي الهادي (256)
قلنا: فحدثنا عن السادس.
قال: أن يعطي لمجلس العلم حقه من الأدب.. لقد قال الله تعالى يشير إلى مجامع ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة:11).. انظروا كيف ربط الله تعالى بين المجالس والعلم.. وانظروا كيف أمر الله تعالى الجالسين بالطاعة المطلقة لمن يريد أن ينظم مجلسهم، فإذا أمرهم بالفسح فسحوا، وإذا أمرهم بالنشوز نشزوا؟
قلنا: فما هي آداب المجالس التي يجب على طالب العلم أن يراعيها؟
قال: أولها.. أن يجلس حيث انتهى به المجلس، فلا يتخير محلا دون غيره إلا لغرض، ولا ينبغي أن يزاحم من هو أولى منه على مجلسه.. لقد روي في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس.. وورد فيه كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (لِيَليني منكم أولوا الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (1)
قلت: ألا يحمل هذا التقديم نوعا من الجور؟
قال: يستحيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقع في الجور.. بل هذا عين العدل.. أليس العدل هو أن تضع كل شيء في موضعه الذي وضعه الله فيه؟
قلنا: بلى..
قال: فالمجالس كذلك.. إن مجالس العلم قد تحتاج حوارا ومراجعات، ولا يصلح لهذا غير أولي الأحلام والنهى..
إن مجالس العلم كصفوف الصلاة تماما، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
__________
(1) رواه مسلم.
النبي الهادي (257)
يلونهم) (1)
أتدرون لم قدم أولي الأحلام والنهى بهذه المرتبة دون غيرهم؟
قلنا: الحكمة في ذلك يسيرة.. فالإمام قد يحتاج إلى من يفتح عليه، وقد يحتاج إلى من يستخلفه.. ولا يصلح لذلك إلا أولو الأحلام والنهى.
قال: فهكذا مجلس العلم.. قد ينسى المعلم، فيذكر، وقد يخطئ فيصوب، وقد يراجع فيحقق..
قلنا: عرفنا هذا، فهل هناك أدب غيره.
قال: من آداب المجالس التي لا تستقيم مجالس العلم إلا بها أن يحترم الجالس الجلساء، فلا يقيم أحدا من مجلسه ليجلس فيه دون.
قلت: أحفظ في ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تَفَسَّحُوا وتَوسَّعوا) (2)
قلنا: وعينا هذا، ووعينا كل ما ورد في السنة من مثله.. فحدثنا عن السابع.
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة:104)
قال بعض الطلبة: لقد نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية أن يتشبهوا بالكفار في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون: راعنا، يورون بالرعونة، كما قال تعالى مخبرا عنهم: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ
__________
(1) رواه رواه مسلم وأهل السنن، إلا الترمذي.
(2) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (258)
وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} (النساء: 46)
وهكذا ورد في الأحاديث أنهم كانوا إذا سَلَّموا يقولون: السامُ عليكم، والسام هو: الموت.
قلنا: عرفنا هذا.. فما وجه الإشارة فيه إلى آداب طالب العلم مع درسه؟
قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم تطبقا لهذا أن أن يصان مجلس العلم عن اللغط، فإن الغلط تحته،.
قلنا: فإن حصل التعدي في هذا.. فماذا على المعلم؟
قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم في هذا أن يزجر من تعدى في بحثه، أو ظهر منه لدد وسوء أدب، أو ترك إنصافا بعد ظهور الحق، أو أكثر الصياح بغير فائدة، أو أساء أدبه على غيره من الحاضرين أو الغائبين، أو ترفع في المجلس على من هو أولى منه، أو نام أو تحدث مع غيره أو ضحك، أو استهزأ بأحد من الحاضرين، أو فعل ما يخل بأدب الطلب في الحلقة، وكل ذلك بشرط أن لا يترتب على ذلك مفسدة تربو عليه.
قلنا: فحدثنا عن الثامن.
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 223)
قال بعض الطلبة: كيف تستشهد بهذا في هذا المحل؟.. إن هذا ورد في محل أنت تعرفه (1).
قال: فما قال ابن عباس في التقديم؟
قال الطالب: لقد ذكر أنه قول بسم الله.. وفي حديث آخر جمع التسمية مع الاستعاذة من الشيطان (2).
__________
(1) وهو قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (البقرة:223)
(2) الحديث رواه البخاري.
النبي الهادي (259)
قال: فإن كنا قد أمرنا في ذلك المحل الذي قد تنتشر فيه الغفلة أن نقدم لأنفسنا بذكر، فكيف لا نفعل ذلك في مجلس العلم الذي هو محراب من محاريب التعبد لله.
قلنا: فما أثر عن سلفكم من العلماء في هذا؟
قال: لقد اتفق على هذا جميع أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن على أهل العلم أن يقدموا على الشروع في البحث والتدريس قراءة شيء من كتاب الله تعالى تبركاً وتيمناً، ويدعو عقيب القراءة لنفسه، وللحاضرين، وسائر المسلمين، ثم يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويسمى الله تعالى ويحمده، ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويدعو لنفسه وللحاضرين ووالديهم أجمعين، وهو واقف مكانه إن كان في مدرسة أو نحوها جزاء لحسن فعله وتحصيلاً لقصده.
قلت: ألا ترى أن في هذا تضييعا لوقت كثير؟
قال: الوقت يضيع باللغو.. لا بذكر الله.. والمدرسة عندنا هي المدرسة التي تعمق بالإيمان بالله، وتملأ القلب بحبه، وتملأ النفس بالتهذيب والأدب.. ولم نجد داواء يجمع لنا كل ذلك ككتاب الله وذكر الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا، ولم يذكروا الله ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا كان مجلسهم تره عليهم يوم القيامة) (1)
قال بعض الطلبة: وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله تعالى ولم يصلوا على نبيهم الا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) (2)
قلت: عرفنا بما يبدأ الدرس، فبم ينتهي؟
قال: لقد اتفق أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن يقول المدرس عند ختم كل درس: (والله أعلم)، أو غيرها من الصيغ التي تدل على البراءة من الذات، واللجوء إلى الله.. أو يقول كلاما يشعر بختم الدرس كقوله: (وهذا آخره) أو (ما بعده يأتي إن شاء الله تعالى) ونحو ذلك،
__________
(1) رواه أحمد وابن حبان.
(2) رواه الترمذي وابن ماجة.
النبي الهادي (260)
ليكون قوله (والله أعلم) خالصاً لذكر الله تعالى ولقصد معناه.
وقد ذكر سلفنا عن سلفهم في هذا أن الأولى للمدرس أن يمكث قليلاً بعد قيام الجماعة فإن فيه فوائد وآداباً له ولهم، منها عدم مزاحمتهم، ومنها أنه إن كان في نفس أحدهم بقايا سؤال سأله.
واستحبوا له إذا قام أن يدعو بقوله: (سبحانك اللهّ، اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)
قال بعض الطلبة: لقد نص الحديث على هذا، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من جلس في مجلسٍ، فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله، أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك) (1)
قال آخر: وفي حديث آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول بأخرةٍ إذا أراد أن يقوم من المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، فقال رجل: يا رسول الله، إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى؟ قال: (ذلك كفارةٌ لما يكون في المجلس) (2)
قلنا: فحدثنا عن التاسع.
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان: 19)
قلنا: تقصد خفض الصوت.
قال: بحيث يسمعه السامعون.. فلا يتجاوز به مسامعهم، ولا يقصر به عنها.
قلنا: فما أثر عن سلفكم في هذا؟
قال: لقد اتفق أهل الله من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن على المعلم في درسه ألا يرفع صوته
__________
(1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(2) رواه أبو داود، ورواه الحاكم.
النبي الهادي (261)
زائداً على قدر الحاجة، ولا يخفضه خفضاً لا يحصل معه كمال الفائدة.
ورووا في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (إن الله يحب الصوت الخفيض، ويبغض الصوت الرفيع) (1)
وذكروا أن الأولى أن لا يجاوز صوته مجلسه، ولا يقصر عن سماع الحاضرين، فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمع.
وذكروا أنه لا ينبغي له أن يسرد الكلام سرداً، بل يرتله ويرتبه ويتمهل فيه ليفكر فيه هو وسامعه..
قلنا: فحدثنا عن العاشر.
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)
قلنا: هذه الآية جامعة من جوامع العلم، فما حظ المعلم منها؟
قال: لقد ذكر سلفنا عن سلفهم في ذلك آدابا:
منها أن يتودد المعلم لكل غريب أو جديد حضر عنده، وينبسط له لينشرح صدره، فإن للقادم دهشة.. ونصحوا بأن لا يكثر الالتفات والنظر إليه استغراباً له، فإن ذلك يخجله.
وذكروا أنه إذا أقيل بعض الفضلاء، وقد شرع المعلم في مسألة أمسك عنها حتى يجلس، وإن جاء وهو يبحث في مسألة أعادها له أو أعاد مقصودها، وإذا أقبل فقيه وقد بقي لفراغه وقيام الجماعة بقدر ما يصل الفقيه إلى المجلس، فليؤخر تلك البقية ويشتغل عنها ببحث أو غيره إلى أن يجلس الفقيه، ثم يعيدها أو يتم تلك البقية كيلا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.
ومنها أن يلازم الِإنصاف في بحثه وخطابه، ويسمع السؤال من مورده على وجهه وإن
__________
(1) رواه الخطيب في الجامع.
النبي الهادي (262)
كان صغيراً، ولا يترفع عن سماعه فيحرم الفائدة، ويكلم كل أحد على قدر عقله وفهمه، فيجيب بما يحتمله حال السائل، ويتروى فيما يجيب به، وإذا سئل عما لم يعلمه قال: لا أعلم أو لا أدري فمن العلم أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم، أو الله اعلمِ، فقد قال ابن مسعود: (يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم)، وعن بعضهم: (لا أدري نصف العلم)
قلت: ألا ترى أن في قوله هذا حطا من قدره.. بحيث يتهمه طلبته بالجهل، وهو ما يرفع ثقتهم فيه، ويمنعهم من الاستفادة منه؟
قال: ذلك عند أهل الدينا.. أما عند أهل الدين.. فالأمر مختلف تماما.. إن هذا القول عند أهل الدين والورع يدل على عظم محله، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته، وحسن تثبته.
بعد أن درسنا وتدربنا على الآداب المرتبطة بالسمت مع الدرس مدة، انتقلنا إلى الفرع الرابع للسمت، وهو السمت مع المعلم، وقد بدأ الشنقيطي حديثه عن هذا النوع بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه) (1)
فسألناه عن حق العالم، فقال: أول حق للعالم أن يعز ويكرم ويرفع قدره.. فرفع قدر العالم رفع لقدر العلم.. ومن أذل عالما، فقد أذل العلم، ومن أذل العلم، فقد أذل ما أمر الله بأن يعز.
قلت: فما علاقة ذلك بالعلم، وما تأثيره فيه؟
قال: لقد قال الشاعر الحكيم يبين سر ذلك:
إن المعلم والطبيب كلاهما... لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه... واصبر لجهلك إن جفوت معلما
__________
(1) رواه أحمد والترمذي.
النبي الهادي (263)
قلت: ألا يعني إعزاز العالم إذلالا للمتعلم؟
قال: هي ذلة عزة لا ذلة هوان.. لقد عبد الله بن عباس: ذللت طالبا فعززت مطلوبا.. وقال آخر: من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا.. وقال آخر: إذا قعدت، وأنت صغير حيث تحب قعدت وأنت كبير حيث لا تحب.
قلت: عرفنا الإجمال، فهات التفصيل..
قال: حقوق المعلم سبعة.. وهي بالسبعين أشبه منها بالسبعة.
قلنا: فما أولها؟
قال: أن لا يتكبر طالب العلم عن أخذ العلم عن أي عالم.. كان غنيا أو فقيرا.. معروفا بين الناس أو خاملا.. فرب علم تجده عند خامل، ولا تجد عند معروف.
قال بعض الطلبة: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ذلك: (الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها) (1)
قال آخر: وقال علي: (خذ الحكمة أنى كانت، فهي تكون في صدر المنافق، فتلجلج من صدره حتى تخرج، فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن)، وقال: (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق)
قال آخر: وقال علي: (الشريف كل الشريف من شرفه علمه، والسؤدد حق السؤدد لمن اتقى ربه، والكريم من أكرم عن ذل النار وجهه)
قلنا: فما الثاني؟
قال: أن يقدر الجهد الذي يبذله معلمه، فيعترف له به، ويشكره عليه، فقد قال رسول الله
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه والإسناد ضعيف.
النبي الهادي (264)
صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) (1)، وفي رواية: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) (2)
بل ورد في حديث آخر ما هو أعظم من ذلك، حيث عبر بأفعل التفضيل ليدل على أن من الكمال شكر وسائط الجود الإلهي، لينفي ما قد يتوهم من أن ذلك مناف للتوحيد، قال: (إن أشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس) (3)
قال بعض الطلبة: لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مقابلة الإحسان بالشكر والثناء والاعتراف بالفضل لأهل الفضل، فقال: (من أعطى عطاء فوجد فليجز به، فإن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر) (4)
قال آخر: وقال: (من أولى معروفا فليذكره فمن ذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره) (5)
قال آخر: وقال: (من لم يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر) (6)
قال آخر، وقد كان أكبر الجماعة سنا: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد مارست في فترة طويلة من عمري التدريس في مدارس الصراع (7).. وكنت أرى الطلبة كيف يستهينون بمعلميهم، وكيف يحتقرونهم..
وقد كان لي بعض الأصدقاء من المعلمين، اسمه إبراهيم طوقان، وكان شاعرا، وقد جمعه مجلس ذات يوم مع أحمد شوقي، فأخذ شوقي يترنم بقصيدته المعروفة، والتي يقول مطلعها:
قم للمعلم وفِّه التبجيلا... كاد المعلم أن يكون رسولا
وقد لاقت القصيدة ترحيبا كبيرا من السامعين إلا من صديقي، الذي قام مغضبا، وراح يقول مرتجلا:
شوقي يقول وما درى بمصيبتي... قم للمعلم وفِّه التبجيلا)
اقعدْ فديتُك هل يكون مُبَجَّلًا... من كان للنشء الصغار خليلا
ويكاد يقلقني الأمير بقوله... كاد المعلم أن يكون رسولا)
لو جرب التعليمَ شوقي ساعةً... لقضى الحياةَ شقاوةً وخمولا
حسبُ المعلمِ غمةً وكآبةً... مرأى الدفاتر بكرةً وأصيلا
مائةٌ على مائةٍ إذا هي صُلِّحتْ... وجد العمى نحو العيون سبيلا
ولَو آن في التصليح نفعًا يرتجى... وأبيك لم أكُ بالعيون بخيلا
لكن أصلِّح غلطةً نحويةً... مثلًا وأتخذ الكتاب دليلا
مستشهدًا بالغر من آياته... أو بالحديث مُفَصلًا تفصيلا
وأغوص في الشعر القديم وأنتقي... ما ليس ملتبسًا ولا مبذولا
وأكاد أبعث سيبويه من البلى... وذويه من أهل القرون الأولى
فأرى حمارا بعد ذلك كله... رفع المضاف إليه والمفعولا
لا تعجبوا إن صِحْتُ يومًا صيحةً... ووقعت ما بين البنوك قتيلا
يا من يريد الانتحار وجدته... إن المعلم لا يعيش طويلا
قال آخر: صدقت.. لقد جربت مثلك التدريس في مدارس الصراع، وقد رأيت أن أكبر ما يبذله المعلم من جهد جهد ضائع، وما ذاك إلا لما ينقصهم من إكسير الأدب الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد كان لي مثلك صديق أديب اسمه عبد الله بن سليم الرُّشَيد، وقد كتب في ذلك شعرا يقول فيه:
أروح وأغدو بالدفاتر مثقلًا... ويا بؤس من يمسي قرينَ الدفاتر
أريق عليها أعيني كلَّ ليلةٍ... بهمة وقَّادٍ وعزمة صابر
وكم وقفةٍ بين التلاميذ قُمتُها... بلهجة حَضَّاضٍ على الحرب هادر
أمزِّق ساعاتي لترقيع وقتهم... وأهدر عمري بين جد وذاكر
وأحسب أني بالتلاميذ مُبدِلٌ... شيوخًا كبحر باللآلئ زاخر
فألقاهمُ من بعد شرِّ عصابةٍ... وإذ بصياحي كان صفقةَ خاسر
(زواملُ للأشعار لا علم عندهم... بجيِّدها إلا كعلم الأباعر)
قلنا: فما الثالث؟
قال: أن تأخذ من العالم علمه، وما بدا لك من الحكمة منه، وتدع ما سوى ذلك.
قلنا: أذلك واجب أم حق؟
قال: هو واجب وحق.. أما كونه واجبا، فلأن الله تعالى حدد شرط الاتباع بالطاعة لله ورسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات:1)
وأما كونه حقا.. فلأنه لا ينبغي لطالب العلم أن يكلف معلمه عنتا.
قلنا: وما العنت الذي يكلفه في هذا؟
قال: إن من يفعل هذا يطلب ـ من حيث لا يشعر ـ عصمة معلمه، وذلك مما لا يكون إلا فيمن عصمهم الله، ونصت النصوص على عصمتهم، أما من عداهم، فهم عرضة للخطأ، ولا ينبغي لمن هو عرضة للخطأ أن نكلفه بالعصمة.
قال بعض الطلبة: لقد ذكرني حديثكم هذا برجل سمعته يناظر في مجلس حافل، وقد استدل عليه مخالفه بدلالة صحيحة، فكان جوابه عنها أن قال: (إن هذه دلالة فاسدة، وجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه)، فأمسك عنه المستدل تعجبا؛ ولأن شيخه كان محتشما.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.
(2) أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح.
(3) أحمد ورواته ثقات والطبراني.
(4) الترمذي وأبو داود وابن حبان في صحيحه.
(5) الطبراني وابن أبي الدنيا
(6) ابن أبي الدنيا وغيره بإسناد لا بأس به.
(7) هذا مصطلح استعملناه كثيرا في رسائل السلام خاصة في مجموعاتها الأولى، ونريد به كل ما لم يبن على أسس السلام الذي جاء به الإسلام.
النبي الهادي (265)
قال الشنقيطي: لا تحسبن هذا محدودا فيمن رأيت.. فما أكثر من يلبس لباس العلم ظاهرا، بينما هو ـ في حقيقته ـ مقلد بشع التقليد، لا يتعصب إلا لمن ولاهم أمره، فهو يقبل على قوم إقبالا تاما، كان حقا ما جاءوا به أو باطلا، ويدبر عن قوم من المسلمين غيرهم، أو عن أقوام، كان حقا ما جاءوا به أو باطلا.
قال بعض الطلبة: لقد تصرفت مع هؤلاء تصرفا لست أدري مدى صوابه.
قال الشنقيطي: فما فعلت؟
قال: لقد رأيته يبغض الغزالي بغضا تاما، ويقبل على فلان الفلاني إقبالا تاما.. فكنت أبدل الأسماء في نقولي، فأضع مقولات الغزالي باسم من أحبه، فكانت تعجبه، وكان يثني عليها أتم الثناء.. وكنت أضع مقولات من أحبه باسم الغزالي، فكان ينكر عليها إنكارا شديدا، ويستعمل النصوص المقدسة في الإنكار عليه.
قال الشنقيطي: لقد ذكرتني بحادثة وقعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد ورد في قصة عبد الله بن سلام أنه بعد أن أسلم رجع إلى أهل بيته فأمرهم فأسلموا وكتم إسلامه، ثم خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله، إن اليهود قد علمت أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، وأنهم قوم بهت، وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني، وقالوا في ما ليس في، فأحب أن تدخلني بعض بيوتك)
فأدخله رسول الله بعض بيوته، وأرسل إلى اليهود فدخلوا عليه فقال: يا معشر يهود، يا ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله قد جئتكم بالحق فأسلموا)، فقالوا: ما نعلمه، فقال: (أي رجل فيكم الحصين بن سلام؟)، قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: (أرأيتم إن أسلم)، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فقال: (يا ابن سلام اخرج إليهم)
فخرج عبد الله فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، يا معشر يهود اتقوا
النبي الهادي (266)
الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله حقا، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة: اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه.
قالوا: كذبت أنت شرنا وابن شرنا، وانتقصوه.
قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؟ قال: وأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث وحسن إسلامها (1).
قلت: ألأجل هذا ورد نهي العلماء عن اتباعهم اتباعا مطلقا؟
قال: أجل.. لقد خاف العلماء الورعون أن يكونوا حجبا عن أشعة الحقيقة، فلذلك يحذرون من يتعلم على أيديهم من التبعية المطلقة لهم.
قال الشنقيطي: لقد كان قوله تعالى عن أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31) هو الذي جعلهم يذكرون هذا..
قال بعض الطلبة: لقد ورد في تفسيرها عن عدي بن حاتم قوله: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة:31)، فقال: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه) (2)
قلنا: فما الرابع؟
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} (الفرقان: 59)
قلنا: فما في هذه الآية من حقوق العالم؟
__________
(1) رواه البيهقي.
(2) رواه الترمذي وحسنه.
النبي الهادي (267)
قال: من حق العالم أن يسأل.. فلا أضيع للعلم من ترك السؤال والبحث والنظر.
قلت: فما تقول في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة:101)
ومثلها ما ورد في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) (1)
قال: السؤال نوعان: سؤال عن علم يحتاج إليه، فذلك فضل، وهو ما ورد في النصوص الأمر به.
وسؤال هو أقرب إلى الجدل منه إلى العلم، وقد ضرب له القرآن الكريم ببني إسرائيل في قصة البقرة، فقد راحوا يضيقون على أنفسهم حتى ضيق الله عليهم، وقد قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا على موسى فشدد الله عليهم.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من مثل هذا النوع من الأسئلة، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته) (2)، ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعابها، ثم أنزل الله حكم الملاعنة (3).
ولهذا ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) (4)، وقد قال لهم صلى الله عليه وآله وسلم هذا بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج، فقال رجل: أكُل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثًا، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا، ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه مسلم.
النبي الهادي (268)
قلت: أراك تكر على ما دعوتنا إليه لتنهانا عنه؟
قال: لا.. لقد ميزت بين الأمرين.. فهناك فرق كبير بين أن تسأل لتعمل أو لتتعلم، وبين سؤالك الذي هو أقرب إلى الاقتراح منه إلى السؤال..
لقد قال الله تعالى يذكر الثاني: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} (النساء: 153)
وقد ضرب له المثل بسؤال للحواريين، فقال تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:112)
ولهذا نهيت هذه الأمة أن يقع منها ما وقع لأهل الكتاب قبلها، فقال تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (البقرة:108)
وقد حدث أبو العالية في سبب نزول الآية أن رجلا قال: يا رسول الله، لو كانت كَفَّاراتنا كَفَّارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم لا نبغيها ـ ثلاثًا ـ ما أعطاكم الله خَيْر مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفَّارتها، فإن كفرها كانت له خزْيًا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيًا في الآخرة، فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 110)، وقال: (الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن) وقال: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك)، فأنزل الله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}
قلنا: فما الخامس؟
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ
النبي الهادي (269)
لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (الأحزاب: 53)
قلنا: فما وجه الإشارة فيه؟
قال: أنتم تعلمون أن العلماء ورثة الأنبياء.. ولذلك، فإن هذا النوع من الأدب ليس خاصا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل هو مرتبط بورثته من العلماء.
قال بعض الطلبة: أروي في هذا عن علي قوله: (من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة، وتخصه بالتحية وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن بيدك، ولا تغمزن بعينك عنده، ولا تقولن: قال فلان: خلاف قولك، ولا تغتابن عنده أحداً ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسار في مجلسه ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة ينتظر متى يسقط عليك منها شيء، وإن المؤمن العالم لأعظم أجراً من الصائم القائم الغازي في سبيل الله، وإذا مات العالم انثلمت في الِإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يو م القيامة) (1)
قال آخر: وأروي عن بعضهم قوله: (من تعظيم الشيخ، أن لا يجلس إلى جانبه ولا على مصلاه أو وسادته، وإن أمره الشيخ بذلك فلا يفعله إلا إذا جزم عليه جزماً يشق عليه مخالفته، فلا بأس بامتثال أمره في تلك الحال، ثم يعود إلى ما يقتضيه الأدب)
قلنا: فما السادس؟
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} (الاسراء:47)، وقوله تعالى مقابل ذلك: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر:18)، وقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
__________
(1) رواه الخطيب في الجامع.
النبي الهادي (270)
قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (الاحقاف:29)
قلت: هذه آداب الاستماع.
قال: أجل.. وما ذكرته هذه الآيات حاصر لها..
قلت: لاشك أن السماع شرط أساسي للتعلم، فلا يمكن أن يتعلم من لم يسمع.
قال: ولهذا حرص سلفنا من العلماء والصالحين من ورثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تعليم طلبتهم حسن الاستماع، فلا يمكن أن يتعلم من لم يحسن الاستماع.
قلنا: فما ذكروا من ذلك؟
قال: مما ذكروا في ذلك أن الطالب إذا سمع الشيخ يذكر حكماً في مسألة أو فائدة مستغربة أو يحكي حكاية، أو ينشد شعراً وهو يحفظ ذلك، أصغى إليه إصغاء مستفيد له في الحال كأنه لم يسمعه قط.
فإن سأله الشيخ عند الشروع في ذلك عن حفظه له، فلا يجيب بنعم لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه، ولا يقل لا لما فيه من الكذب، بل يقول: (أحب إن أستفيده من الشيخ، أو أن أسمعه منه، أو هو من جهتكم أصح)
ونصوا على أن على طالب العلم أن لا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة أو جواب سؤال منه، أو من غيره ولا يساوقه فيه ولا يظهر معرفته به أو إدراكه قبل الشيخ، وينبغي أن لا يقطع على الشيخ كلامه أي كلام كان، ولا يسابقه فيه ولا يساوقه، بل يصبر حتى يفرغ الشيخ من كلامه ثم يتكلم ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه، أو مع جماعة المجلس.
وقد ورد في حديث هند بن أبي هالة، في وصفه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (كان إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأن على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا) (1)
قلنا: فما السابع؟
__________
(1) رواه البيهقي.
النبي الهادي (271)
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (المجادلة:8)
قلت: هذه الآية تؤكد النهي عن التناجي.. وهو نهي وردت فيه النصوص الكثيرة، وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم علة النهي عنه، فقال: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَينَّ اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه) (1)، وفي رواية: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه) (2)
قال آخر: وفي الآية نهي عن التحية بما لم يعملنا ديننا أن نحيي به.
قال آخر: وفي الآية نهي أن نتحدث في نفوسنا بما يخالف حديث ألسنتنا.
قال الشنقيطي: إن هذه الآية تتحدث عن جميع الآداب التي ترتبط بالكلام.. وهي في مجلس العلم أوجب منها في غيره، فلا يمكن لمن لم يضبط لسانه بضوابط الآداب أن يستفيد من معلمه شيئا.
بعد أن انتهينا من دراسة ما يتطلبه الفرع الثالث من علوم وآداب، انتقلنا إلى الفرع الرابع، وهو فرع (الإفادة)
وقد سألنا ـ ونحن في الركن المرتبط بهذا من محضرة الآداب ـ شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عن معنى الإفادة، فقال: إن طالب العلم كما لا يختلف عن النبتة التي تسقى، ويعتنى بها.. فهو لا يختلف ـ كذلك ـ عن النبتة في انتظار ثمارها ونتاجها وفوائدها.
قلنا: إن النباتات تختلف في ثمارها.. فما ثمار طالب العلم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم.
النبي الهادي (272)
قال: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصناف الثمار، فقال: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفةٌ منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) (1)
ففي هذا الحديث ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمرتين صالحتين، وثمرة فاسدة.
أما الثمرة الأولى، وهي أصلح الثمار وأكملها، فهي ثمرة انتفعت بالعلم انتفاعا عظيما، حيث أنبتت من غيثه الكلأ والعشب الكثير الذي انتفع به الإنسان وغير الإنسان.
وأما الثمرة الثانية، فأمسكت من الماء ما انتفع به الناس بعد ذلك في سقيهم وزرعهم.
وأما الثمرة الثالثة، فلم تنتفع بشيء.. فلم تنبت كلأ، ولم تسق عطشانا.
قلت: فهل طلبة العلم يتوزعون على هذه الأصناف الثلاثة؟
قال: أجل.. فمن طلبة العلم من يداوم على طلبه ويحرص عليه، ويكون له من الذكاء وجودة الذهن ما يعينه عليه.. فذلك هو المحقق الذي ينتفع به الكل.
ومنهم من يحفظ للأمة دينها، ويحفظ ما جاء به نبيها من هدي، فيبلغه كما حفظه، فيستفيد من حفظه العموم والمحققون..
ومنهم الذي لا يطيق هذا ولا ذاك.. والأولى به أن ينصرف إلى ما قدر عليه من تجارة أو غيرها من المكاسب.
قلنا: فحدثنا عن الثمرتين الأوليين.
قال: لقد عبر العلماء عن علوم الأولى بأنها علوم دراية وتحقيق.. وعبروا عن علوم الثانية بأنها علوم رواية وحفظ.. وقد جمع بينهما صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (273)
بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) (1)
قلنا: فحدثنا عن واجبات كلا الصنفين ليحقق من الإفادة ما أمر الله به.
قال: هما ثنتان، من تحقق بهما، فقد تحققت له الإفادة بأكمل معانيها.
قلنا: فما هما؟
قال: النصح والتعليم.. فالعالم لا يكتفي بأحدهما عن الآخر.. لأن أحدهما لا يغني عن الآخر.
قلنا: فبأيهما يبدأ؟
قال: هما قرينان لا ينفك أحدهما عن الآخر.. فالنصيحة لا تكون إلا بعلم.. والعلم لا يكون إلا بنصيحة وعن نصيحة.
قلنا: فكيف نجمع بين العلم والنصح، فيكون علمنا نصحا، ونصحنا علما؟
قال: هي سبعة.. من استكملها، فقد استكمل الجمع بينهما، ومن ضيعها، أو ضيع آحادها، فإن له منهما بحسب ما له منها.
قلنا: فحدثنا عن أولها.
قال: هو ما أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث النيات.. فقد علمتم أن ذلك الحديث يدخل كل باب من الأبواب.
قلنا: فكيف يدخل هذا الباب؟
قال: من ذلك أن يقصد بتعليم طلبته وتهذيبهم وجه الله تعالى، ونشر العلم، وإحياء الشرع، ودوام ظهور الحق، وخمول الباطل، ودوام خير الأمة بكثرة علمائها، واغتنام ثوابهم، وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه من بعدهم وبركه دعائهم له، وترحمهم عليه.
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجة.
النبي الهادي (274)
قلت: فما علاقة النية بالنصح؟
قال: لا نصح بدون نية.. ألم تسمع قوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35)؟
قلت: بلى.. وقد كتب بعض الأدباء إلى أخيه: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل.
ويروى عن بعض المريدين، أنه كان يطوف على العلماء يقول: من يدلّني على عمل لا أزال فيه عاملاً للّه تعالى فإني أحبّ أن لاتجيء عليّ ساعة من ليلٍ أو نهار إلاّ وأنا عامل من عمال اللّه تعالى، فقيل له: قد وجدت صاحبك اعمل الخير ما استطعت، فإذا أقترت أو تركته فهمّ بعمله، فإن الهامّ بعمل الخير كعامله.
قال: لقد روي في السنة ما يدل على تصديق ذلك.. فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يروي عن ربه، تبارك وتعالى قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك: فمن هم بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله تبارك وتعالى عنده حسنةً كاملةً، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وإن هم بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئةً واحدةً) (1)
قلنا: عرفنا الأولى.. فما الثانية؟
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر:17)
قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟
قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يقرب لك المعلومة، ويبسطها، فتفهمها من غير عناء.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (275)
قلنا: فهل ورد في السنة ما يدل على ذلك؟
قال: كل السنة تدل على ذلك، فقد سلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التعليم أساليب تربوية كثيرة تبسط المعلومات وتقربها: فكان تارة يضرب لهم الأمثلة، وتارة يستخدم الإشارة الحسية، كأن يحكي فعل شخص ما، وتارة يلغز لهم لينشطهم، وتارة يقص عليهم من أحوال الأمم الماضية، ليكون في ذلك عبرة لهم، وتارة يعلمهم عمليا، بأن يفعل هو ما يريد فيتابعونه عليه، وتارة يسألهم عن الشيء، ولم يسألوا عنه ثم يجيبهم، وتارة يجيبهم على سؤالهم بأكثر مما أرادوا لأجل فائدة عظيمة لهم، وغير ذلك كثير..
قال بعض الطلبة: مما يروى في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يستعمل ـ أحيانا ـ الرسوم التوضيحية، فقد خطَّ مرة خطًّا مربعاً، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجاً منه، وخطَّ خططا صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا) (1)
قال آخر: ومما يروى في ذلك عن عبد الله بن مسعود قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطاً بيده، ثم قال: (هذا سبيل الله مستقيماً)، وخط عن يمينه وشماله ثم قال: (هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه)، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153) (2)
قال آخر: وكان صلى الله عليه وآله وسلم يضرب المثل ليبسط بها المعلومة، ويقربها، ومما يروى في ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم فقالوا:
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه الحاكم، وقال: صحيح ولم يخرجاه.
النبي الهادي (276)
لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) (1)
قلنا: عرفنا الثانية.. فما الثالثة؟
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الصف:10)
قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟
قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يشوقك إلى المعلومة، ويحببها لك، فتقبل عليها بكل كيانك، ولن تتحقق بالعلم، ولن تحقق فيه إلا إذا أقبلت عليه بكل كيانك.
قلنا: فهل ورد في السنة ما يدل على هذا؟
قال: كل السنة تدل على هذا.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يشوقهم إلى كل خير، ويحببهم فيه، فيقبلون عليه بقلوبهم وعقولهم ونفوسهم وجميع كيانهم.
قال بعض الطلبة: مما يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحيان كثيرة كان يطرح المسألة على أصحابه متسائلاً: (أتدرون ما الغيبة؟) (2).. (أتدرون ما المفلس؟) (3).. (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟) (4)
فهذه الأسئلة، وغيرها كانت تستحث على التفكير والبحث والتأمل.. وهو ما يجعل الدرس مشوقا بعيدا عن كل أسباب الملل.
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه البخاري ومسلم.
النبي الهادي (277)
قلنا: عرفنا الثالثة.. فما الرابعة؟
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)
قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟
قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يحل من تلاميذه محل الوالد من ولده، فهو يعطف عليهم، ويرحمهم، ويستعمل كل الوسائل التي تؤلف قلوبهم، لينصرفوا إلى العلم انصراف محب لا مبغض، وانصراف راغب فيه لا راغب عنه.
قال بعضهم: صدقت.. فكم من علوم لم يحل بيننا وبينها إلا سوء خلق معلميها، وكم من علوم لم يحببنا فيها إلا ما طبع الله عليه أساتذتها من خلق ونبل.
قال الشنقيطي: ولهذا، فإن العالم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يستعمل كل الوسائل ليقرب قلوب تلاميذه إليه، وإلى العلم الذي يحمله.
قلنا: فهل ورد في السنة ما يدل على هذا؟
قال: كل السنة تدل على هذا.. وإن شئتم التقريب، فاقرؤوا ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم من مراعاته لمستويات الناس وظروفهم المختلفة، فعن أبي رفاعة قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها (1).
قلنا: عرفنا الرابعة.. فما الخامسة؟
__________
(1) رواه مسلم.
النبي الهادي (278)
قال: هو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله رفيقٌ يحب الرفق في الأمر كله) (1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله رفيقٌ يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه) (2)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه) (3)
قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟
قال: إن العالم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يرفق بتلاميذه أثناء تعليمه، فلا ينهرهم، ولا يكهرهم، ولا يؤذهم، ولا يغضب عليهم، بل يلين لهم، ويعفو عما يبدر منهم إلى أن تهذب نفوسهم وتصفو طباعهم.
قلنا: عرفنا فضل الرفق.. فهل في السنة ما يدل عليه في هذا الباب؟
قال: أجل.. ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني (4)، ولا ضربني ولا شتمني، قال: (إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن)، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (5).
قال آخر: ومما يروى في هذا ما حدث به أبو حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لك وهذا لي، فهلا
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) ما كهرني: أي ما انتهرني.
(5) رواه مسلم وأبو داود.
النبي الهادي (279)
جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟) (1)، فلم يفصح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن اسمه مع أن كثيراً من الصحابة يعلمون هذا الذي عناه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن لما كان القصد هو التحذير من الفعل المذموم وبيان ضرره وسوء عاقبته حتى لا يقع في الآخرون، شهر بالفعل دون الفاعل، إذ ليس هناك مصلحة ترجى من ذكر اسم الفاعل.
قلنا: عرفنا الخامسة.. فما السادسة؟
قال: هو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) (2)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون) (3)
قلنا: فما فيها من العلم المرتبط بهذا؟
قال: إن المعلم المستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يملأ مجلسه بالطمأنينة والراحة والسعادة، فلا يشعر تلاميذه بأي ثقل أو ضيق أو ملل.
قلنا: فكيف يكون ذلك؟
قال: بأن يكون لهم صاحبا قبل أن يكون لهم أستاذا، وأن يكون معهم رعية قبل أن يكون عليهم أميرا.
قلنا: فهل في السنة ما يدل على ذلك؟
قال: كل السنة تدل على ذلك.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأحدهم، فلم يكن يتميز عليهم بشء.. قال بعضهم يصفه: (والله ما كان رسول الله تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب،
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه أحمد والطبراني.
(3) رواه الطبراني في مكارم الأخلاق.
النبي الهادي (280)
ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبى الله لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده) (1)
وقد أشفق الصحابة على رسول الله مما يصيبه من تلك المخالطة، فطلبوا منه أن يتخذوا له محلا خاصا، فأبى، ففي الحديث: قال العباس: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله: (لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبى وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم) (2)
قلت: فمخالطة المعلم لتلاميذه هي ما تريده بالتأليف.
قال: أجل.. فالمعلم الذي يخالط تلاميذه، ويتخذهم أصحابا يفيدهم أكثر بكثير من ذلك الذي يستعلي عليهم.
قال بعض الطلبة: ولكن بعض المعلمين يرى أن في ذلك سقوطا لحرمة الأستاذ.. فلذلك يفرض من السنن ما يملأ مجلس العلم هيبة من أستاذه.
قال: لا يمكن أن ينجح المعلم إلا إذا فرض هيبته على تلاميذه.. ولكن هذه الهيبة لا تعني الكبر.. ولا تعني كل ما يفرضه الكبر من سنن..
لقد قال أنس بن مالك: (ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهيته لذلك) (3)، بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار) (4)
قلت: فهل سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سننا غير هذا لتحقيق الألفة؟
قال: كثيرة هي تلك السنن التي تؤلف القلوب:
__________
(1) رواه أحمد في الزهد، وابن عساكر.
(2) رواه ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه.
(3) رواه الترمذي في كتاب الأدب وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
(4) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
النبي الهادي (281)
منها بذل السلام.. كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة، أو جدار، أو حجر ثم لقيه، فليسلم عليه) (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) (2).. انظروا كيف اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذل السلام سببا للمحبة وواسطة لها.
ومنها بذل المكافآت المختلفة للمتعلم، ليبعثه ذلك على المزيد من النشاط..
قاطعته قائلا: ألا يقدح ذلك في الإخلاص؟
قال: الإخلاص أرفع وأقدس من أن يقدح فيه مثل هذا.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذا: (تلك عاجل بشرى المؤمن) (3)
قلت: إن من قومنا من يقدمون مكافآت مادية للمتفوقين؟
قال: لقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فعن عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصف عبد الله وعبيد الله وكثيراً من بني العباس ثم يقول: (من سبق إلي فله كذا وكذا)، قال: فيستبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمهم (4).
ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فوق هذا ـ كان يهديهم من المكافآت ما لا يمكن أن يقدر بثمن.
قلنا: وما هو؟
قال: الدعوة الصالحة.. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما إن العبد إذا قال لأخيه المسلم: جزاك الله خيرا فقد بالغ في الدعاء) (5)
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه مسلم وأبو داود في الأدب وابن ماجه.
(3) رواه أحمد ومسلم وابن ماجة.
(4) رواه أحمد.
(5) رواه ابن عساكر.
النبي الهادي (282)
قلنا: عرفنا السادسة.. فما السابعة؟
قال: هو ما أشار إليه قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164)
قلنا: إن هذه الآية تتحدث عن وظائف الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ
قال: وهي تتحدث عن وظائف ورثتهم من بعدهم.
قلنا: فما هي الثامنة منها؟
قال: هي التزكية.. فالعالم هو الذي لا يكتفي بتثقيف عقلك.. بل يضيف إلى ذلك، أو يقدم لذلك تثقيف نفسك وروحك وعقلك.
قلت: تقصد الجمع بين التعليم والتربية؟
قال: أجل.. فالعلم جواهر كريمة، ولا ينبغي للجواهر الكريمة أن توضع على القمامات.
قلنا: فاذكر لنا أمثلة من السنة تدل على ذلك.
قال: كل السنة تدل على ذلك.. وإن شئتم مثالا مقربا.. فإليكم ما حدث به ابن عباس تلميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد حدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له واعظا: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَنْ باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) (1)، وفي رواية: (احفظ اللَّه تجده أمامك، تعرف إِلَى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)
__________
(1) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
النبي الهادي (283)
ذاك هو الرجل الأول.. وتلك بعض أحاديثي معه.. أما الرجل الثاني، فقد كان اسمه هو الآخر (محمد الأمين).. وكان الناس يفرقون بين الأول والثاني بتلقيب الثاني بـ (المرابط)، لانشغاله التام بجميع أنواع المعارف والعلوم، فلا تكاد تذكر أمامه علما، إلا وجدت عنده منه حظا وفهما وخبرة.
ولم يحصل لي التشرف بصحبته إلا بعد أن مكثت مدة في محضرة الآداب، أتلقى من آدابها بعض ما ذكرته لك.. مما ملأني يقينا بأن ما تركه محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هدي في هذا الباب لا يمكن أن يلحقه فيه أحد من أهل الدينا أو من أهل الدين.. وعلمت علم اليقين أن البشرية لو تمسكت بهديه في هذا الباب وحده لتحول العلم شمسا من شموس الهداية، ونورا من أنوار السلام.
في بداية صحبتي له دخلت محضرته.. وكانت محضرة مختلفة تماما عن محضرة الآداب التي كنت فيها.. فلم تكن محضرة عامرة بالطلبة، وإنما كانت محضرة عامرة بالكتب والمخطوطات.. بل فوق ذلك رأيت فيها مرقبا فلكيا متطورا.. ومجموعة كبيرة من المجاهر المتطورة.. بل فوق ذلك رأيت في بعض أقسامها مخابر لا تختلف عن المخابر الحديثة.
بعد أن امتلأت دهشة بكل هذا.. اقتربت من المرابط.. ولم أكن حينها أعرفه.. وقلت: ما هذا؟.. أهذه محضرة للعلم؟
قال: أجل.. ولكن دخولها مشروط بالمرور على محضرة أخي وسميي محمد الأمين.
قلت: لقد تخرجت على يده.. فمن أنت؟
قال: أنا الوارث الثاني الذي تتعلم على يديه أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعلم الآداب فقط، بل كان يعطينا أصول العلوم، وأسسها، ومناهجها، وأصنافها..
وعلى يديه ستعلم أن كل ما تراه في العالم من أنواع المعارف والعلوم معارف شرعية لا يتمثل بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كمالها إلا من بحث فيها، ولم تحل بينه وبينها الحوائل.
النبي الهادي (284)
قلت: إن هناك من يختصر العلوم فيما ورد في النصوص المقدسة أو ما ورد في تفسيرها.
قال: صدق من قال هذا..
قلت: فكيف يستقيم ما ذكرت مع ما ذكر؟
قال: لا يستقيم ما ذكر إلا بما ذكرت.
قلت: كيف ذلك؟
قال: ألم تسمع قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} (عبس)
قلت: بلى.. فما قال فيها ابن عباس ومجاهد؟
قال: إن هذه الآية لن نسأل فيها ابن عباس ولا مجاهدا.. بل نسأل فيها علماء التغذية، وعلماء الأرض.. وغيرهم من العلماء الذي نظروا ودققوا، فرأوا ما لم نر، وسمعوا ما لم نسمع.
قلت: أتقصد أن علوم التغذية وعلوم الأرض علوم شرعية بهذا الاستدلال؟
قال: أجل.. ألم يأمرنا الله بالنظر.. أليس قوله: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} (الأنعام: 99)، وقوله: {انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (يونس: 101) تشبه قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة:43)؟
قلت: بلى.. فكلاهما فعل أمر.
قال: فكيف نفرق بين أحدهما فنعتبره واجبا، ونغرق كتب الفقه بمباحثه وعلومه، ثم نقصر في الواجب الثاني، ولا نهتم به، بل ولا نعتبره، بل يسقط بعضنا في أوحال البدعة، فيتهم تلك العلوم التي دعا القرآن الكريم، ودعا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى تعلمها، فيعتبرها علوما بعيدة عن الدين أو حاجبة عنه؟
قلت: ولكن التخصص مع ذلك يدعو إلى أن تكون هناك علوم دين وعلوم دنيا؟
النبي الهادي (285)
قال: ليس هناك مقابلة بين الدين والدنيا عندنا.. فالدين عندنا هو سياسة الدنيا.. ولا دنيا عندنا إن لم تسس بسياسة الدين.
قلت: فما تسمي هذه العلوم الكثيرة التي يعتبرها البعض مزاحمة لعلوم الدين؟
قال: هي ثلاثة لا تخرج عنها: حقائق، وسياسات، وصنائع.
قلت: فما الحقائق؟
قال: الحقائق هي العلوم التي لا تكر عليها جيوش الشبهة والشك، ولا تهزمها جيوش الأيام والليالي.
قلت: تقصد قطعيتها وأبديتها؟
قال: أجل.. فلا علم لما لم يثبت في وجه الأيام، أو لم يثبت في وجه الشبهات.
قلت: فما العلوم التي تدخل في هذا الباب؟
قال: كل العلوم التي لا يستفاد منها إلا معرفة حقائقها.
قلت: مثل ماذا؟
قال: الفلك مثلا.. فكل ما ورد في علم الفلك هو من علوم الحقائق.. وهو تطبيق لقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس:101)
قلت: فما علاقة هذا النوع من العلوم بالدين؟
قال: لا يمكن أن يتحقق المؤمن بمعارف الدين إلا بعد أن يتحقق في هذه العلوم ويرسخ قدمه فيها.
قلت: قرب لي ذلك بمثال.. فإن عقلي تستعصى عليه الحقائق المجردة.
النبي الهادي (286)
قال: أرأيت لو أن ملكا من الملوك أراد أن يبين لشخص ما أنه ملك، فماذا يفعل؟
قلت: لا شك أنه سيأمر بمن يطوف به في أنحاء البلاد ليرى مدى اتساع مملكة الملك، ومدى خضوعها لملكها.
قال: فنزه عقلك عن شبه التشبيه.. واربط هذا المثل بحقائق الأزل والأبد.. فإنه لن تعرف أن الله ملك إلا بالطواف في مملكته.. فكلما رسخت معرفتك بعظم مملكة الله كلما رسخ في نفسك عظم كون الله ملكا.
قلت: صدقت في هذا.. فإني أرى لبعضهم معرفة هزيلة بالكون.. وأرى معها هزالا في معرفة هؤلاء بالله..
قال: ولهذا قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:28)
انظر.. كيف ذكر الله تعالى خشية العلماء بعد ذكره لأصناف المكونات.. فلا يعظم الله حق تعظيمه من لا يعرف المكونات ويبحث فيها ويمتلئ عجبا بما فيها.
قلت: صحيح ذلك.. وليس ذلك خاصا بهذا.. فلا يمكن أن نعرف شاعرا ما لم ندرس أشعاره، ولا رساما دون أن ندقق في لوحاته، ولا ممثلا دون أن نرى ما أبدعه في تمثيلياته.. وهكذا فكل شيء يعرف من خلال آثاره.
قال: ولهذا طولبنا بالتعرف على الآثار لنصل إلى المؤثر.. ألم تسمع قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)؟
قلت: بلى..
قال: فالله تعالى اعتبر نظرنا في الكون نظرا في أفعال الله الدالة على صفاته.. فنقرأ من خلال الكون صفات المكون، ونتعرف على المكون من خلال مكوناته.
النبي الهادي (287)
قال: وهكذا.. فالله تعالى يأمرنا بقراء الرحمة الإلهية من خلال حياة الأرض بعد موتها، قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الروم: 50)
ويأمرنا بالاستبشار تفاؤلا بفضل الله، وفرحا بالله، وتنسما لرحمة الله عند هبوب الرياح التي يرسلها الله، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (لأعراف:57)
ويعلمنا أن نقرأ لطف الله وخبرته المحيطة بكل شي من خلال حروف الماء الساقطة على الأرض المخضرة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (الحج:63)
ويعلمنا أن نقرأ علم الله وقدرته من خلال السطور المبثوثة في تقلب الزمان بأعمارنا، قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (النحل:70)
قلت: فأنتم إذن ـ في هذه المحضرة ـ تدرسون العلوم الحديثة؟
قال: غرور البشر هو الذي سماها كذلك.. أما نحن فلا نسميها علوما حديثة، بل نسميها علوم الحقائق.. فكل علم منها يدلنا على حقائق الأزل والأبد.
قلت: عهدنا بأن من يدرس هذه العلوم يمتلئ قسوة.. ألا تخافون من القسوة؟
ابتسم، وقال: من درس هذه المعارف على طريقة أهل الله، فإنه لن يزداد إلا خشوعا وإيمانا وسعادة..
قلت: كيف ذلك؟
قال: إن النظرة العرفانية لسطور المكونات تكسبها من الجمال ما لا يكسبها أي وصف بشري، فلا مقارنة بين من يرى ذات الزهرة التي سرعان ما تذبل، فيحزن لذبولها بقدر ما سره
النبي الهادي (288)
تفتحها، وبين من يرى في ابتسام الزهرة لطف الله ورحمته وجماله.
قلت: حدثتني عن علوم الحقائق.. فحدثني عن علوم السياسات.
قال: علوم السياسات هي التي تفقهك في كيفية سياسة الدين، وكيفية سياسة الدنيا.. أو هي التي تعلمك كيف تسوس جسدك ونفسك وعقلك وقلبك وروحك وسرك وكل لطائفك.. ثم كيف تسوس بعد ذلك بيتك ومجتمعك ووطنك وأمتك والعالم أجمع..
قلت: إن أكثر العلوم يدخل في هذا الباب.
قال: نعم.. فنحن هنا ندرس علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم السياسة والعلوم الطبية.. وكل العلوم التي تهتم بالسياسات المختلفة.
قلت: ما ارتبط منها بالدين، وما ارتبط بالدنيا.
قال: ألم أذكر لك أنه ليس هناك دين ولا دنيا إلا في أذهان الغافلين.. فجل رب الدنيا أن يسلم دنياه للشياطين.. وجل أهل الله أن يروا في الدارين غير الله.
قلت: ألا تخافون بالانحجاب بالدراسات الاجتماعية والنفسية عن الله؟
قال: لا حجاب إلا حجاب الوهم.. وقد تخلصنا منه بحمد الله بتحقيق الإيمان.. ولذلك لا تزيدنا هذه العلوم إلا تحقيقا وعروجا.
لقد قال لنا شيخنا بديع الزمان إبان دراستنا عليه: (العلوم التي تبحث في حقيقة الموجودات - كالفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان.. ـ هذه العلوم التي هي (حكمة الاشياء) يمكن ان تكون حكمة حقيقية بمشاهدة التجليات الكبرى لاسم الله (الحكيم) جل جلاله في الاشياء، وهي تجليات تدبير، وتربية، ورعاية. وبرؤية هذه التجليات في منافع الاشياء ومصالحها تصبح تلك الحكمة حكمة حقاً، أي باستنادها الى ذلك الاسم (الحكيم) والى ذلك الظهير تصبح
النبي الهادي (289)
حكمة فعلاً، وإلاّ فإما أنها تنقلب الى خرافات وتصبح عبثاً لا طائل من ورائها أو تفتح سبيلاً الى الضلالة، كما هو الحال في الفلسفة الطبيعية المادية..)
ويذكر علة مهمة لذلك غابت عن العلوم الحديثة، فأغرقتها في الجزئية، وأبعدتها عن جمال الوحدة والتناسق والكمال، فقال: (إن نظر النبوة والتوحيد والايمان يرى الحقائق في نور الالوهية والآخرة ووحدة الكون لأنه متوجه اليها، أما العلم التجريبي والفلسفة الحديثة فانه يرى الامور من زاوية الاسباب المادية الكثيرة والطبيعة لأنه متوجه اليها، فالمسافة اذن بين زاويتي النظر بعيدة جداً. فرب غاية عظيمة جليلة لدى أهل الفلسفة تافهة وصغيرة لا تكاد ترى بين مقاصد علماء اصول الدين وعلم الكلام. ولهذا فقد تقدم اهل العلم التجريبي كثيراً في معرفة خواص الموجودات وتفاصيلها واوصافها الدقيقة في حين تخلفوا كثيراً حتى عن ابسط المؤمنين وأقلهم علماً في مجال العلم الحقيقي وهو العلوم الإلهية السامية والمعارف الاخروية)
قلت: فما علوم الصناعات؟
قال: هي كل العلوم التي نستطيع بها تسخير ما سخره الله لنا من أشياء.. فقد جعل الله تعالى للتسخير مفاتيح لا يمكن أن يسخر شيء من دونها.
قلت: فما هذه المفاتيح؟
قال: لقد ذكرها الله تعالى، وذكر ضرورتها للإنسان، فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:31)
قلت: أعلوم الأسماء هي علوم الصنائع؟
قال: من علوم الأسماء ما هو علوم صنائع.. فلا يمكن للإنسان أن ينزل إلى الأرض من دون أن تكون لديه مفاتيح التعامل مع برها وبحرها، وريحها ورياحها.
النبي الهادي (290)
قلت: أفي القرآن الكريم إشارة إلى هذا النوع من العلوم؟
قال: في القرآن الكريم جميع حقائق الأشياء.. فكيف يغيب عنه هذا؟
قلت: فأين هو؟
قال: في كل القرآن.. كل الآية لو نظرت إليها بهذا المنظار، فتستفيد منها من الحقائق ما لم تكن تحلم به.
قلت: فاذكر لي ما ورد به التصريح.. فلا طاقة لي بالتلميح والإشارة.
قال: لقد قال تعالى عن ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} (الكهف:84)
قلت: إن من قومي من يحتقرون هذه العلوم، ويعتبرون الخوض فيها انحرافا عن الكتاب والسنة.
ابتسم، وقال: سلاما.. سلاما..
قلت: ما تعني؟
قال: لقد قال الله تعالى واصفا عباده المؤمنين المحققين: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان:63)
قلت: أترميني بالجهل؟
قال: أرمي من قلت بقوله بالجهل.. والعالم أن رفع من أن يجيب جاهلا.
قلت: العالم لا يتكبر.. فكيف لا يجيب الجاهل؟
قال: الجهل نوعان: جهل سببه عدم العلم.. وهذا هو ميدان العالم.. فالعالم محارب للجهل.. وجهل سببه الكبر.. ولا دواء لهذا إلا أن يتخلص من كبره.
قلت: فما جهل هؤلاء؟
النبي الهادي (291)
قال: هو جهل كبر.. لا جهل علم.. لقد كان أهل الجاهلية يحتقرون هذا النوع من العلوم، فلذلك لم يكن يمارسها عندهم إلا العبيد، فلما جاء القرآن الكريم أخبر أن هذه الصناعات كان يمارسها الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ليعلي من شأنها، ويرفع ذلك الاحتقار الذي ورثه هؤلاء عن أولئك.
قلت: صدقت.. فقد ذكر القرآن الكريم صناعة الحديد، ونوه بها، وذكر اشتغال الأنبياء والصالحين بها، فقال تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} (الكهف:96)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (سبأ:10)، بل قرن بإنزال الحديد إنزال الكتاب، فقالتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)
قال: ومثل ذلك ذكر الصناعات النسيجية وأنواعها وأغرضاها، فقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} (النحل:80)
وذكر ما يرتبط بالعمران من أعمال، فقال تعالى: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (لأعراف: 74)
وذكر الصناعات المرتبطة بالنقل، فقال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل:8)، وقال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هود:37)، وقال تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (المؤمنون:22)
بل إن القرآن الكريم دعانا إلى بذل كل الجهود لتحصيل جميع أنواع القوى، ويدخل فيها
النبي الهادي (292)
هذا النوع من أنواع القوى، قوة الصناعة والسياسة، فقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (لأنفا