×

 الكتاب: القرآن.. والهداية الشاملة ج2

الوصف: رواية حول مواضيع القرآن الكريم ومقاصده وعلاقتها بالهداية

السلسلة: التنزيل والتأويل

المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الأولى، 1443 هـ

عدد الصفحات: 630

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-4-72102-6

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

هذا الكتاب هو المقدمة السادسة لهذه السلسلة، ويتناول الخاصية الكبرى من خصائص القرآن الكريم، خاصية الهداية، التي نص عليها قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، وقد رأينا من خلال استقراء ما ورد في القرآن الكريم حولها أنها تتضمن أربعة معان كبرى:

أولها: الأسس التي تقوم عليها الهداية، والتي لا يمكن أن تتحقق من دونها، وقد أشارت إليها كل الآيات التي تذكر الهداية القرآنية، فهي تقصرها على من لم تحل بينهم وبينها الحجب، وتجعلها خالصة لمن وفروا لأنفسهم الأهلية والقابلية لها.

ثانيها: الهداية للحقائق الكبرى، ابتداء من معرفة الله وانتهاء بمعرفة الكون والحياة والإنسان والمعاد وكل العوالم التي ذُكرت في القرآن الكريم، وكيفية التعامل معها.

ثالثها: الهداية للقيم والوظائف التي كُلف الإنسان بمراعاتها، والتي لا يمكن التعرف الدقيق عليها من دون هداية إلهية.

رابعها: غايات الهداية، ذلك أن لكل طريق غايات تحدد مساره، وتجعل السائر فيه أكثر اندفاعا ونشاطا وحماسة.

وبناء على هذا كان هذا الكتاب بجزئية عبارة عن تفسير موضوعي مختصر لمواضيع القرآن الكريم الكبرى جميعا، وقد اكتفينا فيه بذكر المواضيع القرآنية، وما ورد فيها من الآيات الكريمة، مع انتقاء بعضها وذكر تفسيره المختصر الذي يحدد معناه بسهولة ويسر.

وقد صببنا كل ذلك في رواية يرحل فيها المؤلف إلى المستقبل بعد أن تعم الهداية الأرض جميعا، وهناك يستمع للكثير ممن يحدثه عن تلك المعاني، ويبسطها بقدر الإمكان، وفي أجواء خاصة تتناسب مع الآيات الكريمة المراد الحديث عنها.

القرآن.. والهداية الشاملة (2/7)

تقديم

هذا هو الجزء الثاني من كتاب [القرآن والهداية الشاملة]، وهو يتضمن ما يلي:

الفصل الثالث: القرآن، والهداية السلوكية: وقد تطرقنا فيه إلى أربع أركان كبرى لهذا النوع من الهداية، وهي:

1. التهذيب والتصفية، وقد تطرقنا فيه لما دعانا القرآن الكريم إلى تهذيب النفس عنه، وقد ذكرنا فيه: الجحود، والإعراض، والضلال، والكذب، والخداع، والافتراء، والاستعلاء، والعجب، والكبر، والعداوة، والحسد، والقتل، والنهب، والقذف، والمنع، والخذلان، والاحتقار، واللؤم، والفحش، والنجوى، والإسراف، والمجاهرة، والنجاسة، والحرام، والفاحشة.

2. الشعائر التعبدية، وقد تطرقنا فيه للشعائر التعبدية الكبرى، وهي: الصلاة، والتلاوة والذكر والدعاء، والصوم، والحج.

3. المقامات الروحية، وقد تطرقنا فيه لمنازل السلوك الروحي، وهي: الخشية، والرجاء، والتوبة، والإخلاص، والتوكل، والشكر، والمحبة.

4. الأخلاق السامية، وقد تطرقنا فيه للقيم الأخلاقية الكبرى التي وردت في القرآن الكريم من الصدق، والأدب، والسماحة، والسخاء، والعدل، والشجاعة، والإحسان.

الفصل الرابع: القرآن، وغايات الهداية، وقد ذكرنا فيه أربع غايات كبرى للهداية، وهي:

1. الحقيقة الخالصة، وتطرقنا فيه إلى ردود القرآن الكريم على أسباب التيه والضلال، والنظريات المرتبطة بها.. وإلى الهدى والنور الذي وضعه الله تعالى في كتابه ليجلي

القرآن.. والهداية الشاملة (2/8)

الحقائق بأجمل صورة وأكملها.

2. الكمال الإنساني، وتطرقنا فيه ـ أولا ـ لنماذج عن الكمال الإنساني في القرآن الكريم، والمتمثلة في الآيات التي جمعت أوصاف المؤمنين، وهي: المسلمون، والمؤمنون، والمتقون، والمكرمون، والأبرار، والصادقون، والمجاهدون، وأولو الألباب، والمفلحون، والمتوكلون، والسابقون، وعباد الرحمن.. ثم ذكرنا صفات وخصائص المجتمع الفاضل، وهي: التعارف، والتواصل، والتكافل، والتناصح.. ثم ذكرنا صفات وخصائص الحكومة العادلة، والمتمثلة في الحاكمية، والخلافة.

3. السعادة الأبدية، وتطرقنا فيه ـ أولا ـ للسعادة الدنيوية، والتي تتمثل في الطمأنينة، والتمكين، والرفاه، والإشراق.. ثم السعادة الأخروية، وما ورد في القرآن الكريم عن أهل الجنة، ومشاهد النجاة والفوز.

القرآن.. والهداية الشاملة (2/9)

ثالثا ـ القرآن.. والهداية السلوكية

بعد أن استمعت إلى تلك الأحاديث الجميلة عن المعارف الإيمانية المرتبطة بالله والنبوة والإنسان والكون والسنن والملائكة والمعاد، ربت على كتفي رجل، وقال: هلم معي إلى منازل السلوك.. فلا يمكن فهم منازل المعارف من دون أن تصفي مرآة قلبك في منازل السلوك.

قلت: ما دام الأمر كذلك.. فلم لم أمر أولا على منازل السلوك؟

قال: لأنه لا يمكن السلوك من دون معرفة.

قلت: أرى أنك واقع في الدور، وتريد أن توقعني فيه.. فكيف يحتاج السلوك إلى المعرفة، ثم المعرفة نفسها تحتاج إلى السلوك؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17]؟

قلت: بلى.. فما فيها من العلم؟

قال: الهداية هدايتان: ابتدائية، نميز بها الحق عن الباطل.. وحقيقية، نتعمق بها في معرفة الحق، لننتقل من علم اليقين إلى عين وحق اليقين.

قلت: أجل.. وقد سمعت بعض هذا المعنى في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]

قال: فهلم معي إذن.. فمركبتي تنتظر.

قلت: إلى أين؟

قال: إلى صنعاء اليمن.. وإلى اليمنيين أهل الإيمان والحكمة والقلوب الرقيقة.. فقد

القرآن.. والهداية الشاملة (2/10)

جعل الله بلادهم في عصرنا موئلا لكل من يريد أن يهذب نفسه، ويرقى بها.

سرت معه في مركبته العجيبة إلى اليمن.. وإلى صنعاء تحديدا.. والتي كان لها من الجمال أضعاف ما هي عليه.. بالإضافة إلى بساطتها التي لا تضاهيها فيها أي بلاد أخرى.

1. التهذيب والتصفية

ما إن وصلنا حتى وجدنا الناس ينتشرون في حلقات كثيرة.. وقد سألت صاحبي عنهم، وكيف أسير إليهم.. فقال: سر فقط.. فأي حلقة تراها أمامك، فأنت المقصود منها.

سرت إلى حلقة قريبة، رأيت فيها شيخا يقول للمتحلقين حوله: هل تعرفون الصفات التي وُصف بها الإنسان في القرآن الكريم؟

قال أحدهم (1): أجل.. من ذلك وصفه بالجحود والإعراض، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 12] ففي هذه الآية يكشف الله سبحانه وتعالى عن ضلال الإنسان، وكفره بنعم الله، وجحوده لأفضاله عليه، وإحسانه إليه.. حيث نجد أن هذا الإنسان الصارخ الضارع المستسلم المستكين، حين يرفع الله عنه البلوى، ويكشف ما به من ضر، يمكر بفضل الله عليه، وينسى رحمته به، ويمضى فيما كان فيه من كفر وضلال.. كأن ضرا لم يكن قد مسه، وكأن حالا من الذلة والاستكانة لم تكن قد لبسته، وكأن رحمة السماء لم تمد يدها إليه وتستنقذه من الهلاك المطبق عليه.

قال آخر (2): ومثل ذلك وُصف في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾ [الإسراء: 83]، أي وإذا أنعمنا على الإنسان بمال

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (6/ 967)

(2) تفسير المراغي (15/ 87)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/11)

وعافية، وفتح ونصر وفعل ما يريد ـ أعرض عن طاعتنا وعبادتنا، ونأى بجانبه، أما إذا أصابته الجوائح، وانتابته النوائب، فهو يئوس قنوط من حصول الخير بعد ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ﴾ [فصلت: 51]

قال آخر (1): ومثل ذلك وُصف في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: 15 ـ 16]، أي أن الإنسان يرى النعمة فيما وسع الله عليه من رزقه امتيازا وكرامة، بحيث يشعر بالامتياز الذاتي في الرعاية الإلهية دون سائر الخلق، فيدفعه ذلك إلى الشعور بالكبرياء والعلو على الآخرين.. وهو بذلك لا يعلم أن الله قد أجرى الحياة، في عطائه للناس أو منعه عنهم، على السنن الكونية والاجتماعية، فلا يعطي إنسانا لكرامته عنده، ولا يمنعه لاحتقاره لديه، ولكن لاقتضاء تلك السنن ذلك.. ولا بد له من ملاحظة أن ذلك قد يكون اختبارا طبيعيا لصدقه في إيمانه، لأن الله أراد من الناس الثبات في كل مواقع الاهتزاز الواقعية، فلا تسقطهم الزلازل، ولا تطغيهم المواقع، لأن الإيمان ليس حالة طارئة تبرز في حالات الرخاء، أو في حالة الشدة، ولأن الرجوع إلى الله والالتزام بالإخلاص لربوبيته، ليس أمرا مربوطا بوضع معين، بل لا بد من أن يكون الإيمان بالله والإخلاص له في جميع حالات الإنسان، فقد يبتلي الله الإنسان بالغنى لينظر في عمله، هل يشكر نعمة الله، فيخشع قلبه له، ويشعر بأن ما عنده هو منه سبحانه، ويبذل ذلك في طاعته، ويحركه في مواقع رضاه، أو يفكر بنعمة الله عليه فيعتبر ذلك كرامة وامتيازا، أو يوحي لنفسه بأنه قد حصل عليها من خلال جهده وخبرته، وليس لله دخل في ذلك، كما حدثنا الله عن قارون في قوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾

__________

(1) من وحي القرآن (24/ 247)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/12)

[القصص: 78]، ثم يستعلي بما ملكه على الناس ليواجههم من موقع الكبرياء المالي.. ولهذا، فلا بد للإنسان من اعتبار النعمة اختبارا وامتحانا، لا كرامة وامتيازا.

قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ [الفجر: 16] ذكر لنوع آخر من أنواع الواقع الصعب الذي يتحول بفعل مشاكله المرتبطة به، ليكون اختبارا وامتحانا، فقد يبتلي الله بعض عباده بالفقر لينظر في تصرفه وانفعاله به، هل يصبر على ذلك، فلا يبيع دينه بمال الكافرين، ولا يغير مواقفه بإغراءات المستكبرين، ولا يسخط على قضاء الله، ولا يسقط أمام الأوضاع السلبية التي تتحداه، ليفقد صلته بربه أو يكفر، فيعتبر ذلك إهانة واحتقارا من الله له، وينحرف عن الخط المستقيم على أساس ذلك، ثم يبتعد كثيرا عن الله، ليقترب من ساحة أعدائه؟

قال آخر (2): وقد رد القرآن الكريم على كلا الموقفين، حيث رفض المفهوم المنحرف الذي يعتبر المال قيمة كبيرة في الخط الإلهي، كما هو قيمة في المفهوم الإنساني العام في المجتمعات الإنسانية، لأن الله قد أعطى المال للكافرين به، كما منع المال عن بعض أوليائه، ولم يرد للمال قيمة ذاتية في طبيعته، بل اعتبر حركة الإنسان في الجانب العملي في مسئوليته الشرعية الإيمانية في تحريك المال في موارده التي يحبها الله، هي القيمة، لأن قرب الإنسان وبعده عن الله لا يتحدد بحجمه المالي، بل بحجمه العملي، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وهذا ما يريد للناس أن يتمثلوه في وعيهم ووجدانهم، ليكون هو الموقف الإسلامي الذي يمثل مفهومه للمسألة المالية في حركة الواقع في الإسلام.

قال الشيخ: فهل ذكر القرآن الكريم صفات أخرى للإنسان غير ما ذكرتم؟

__________

(1) من وحي القرآن (24/ 248)

(2) من وحي القرآن (24/ 249)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/13)

قال أحدهم (1): أجل.. من ذلك وصفه بأنه موجود ضعيف، كما قال تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28]، أي أن الإنسان في كيانه، واه ضعيف، لأنه خلق من ضعف، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم: 54].. لكنه حين تلبسه القوة، ينسى ضعفه، ويستولى عليه الغرور، ويستبد به العجب والخيلاء، فإذا هو مارد جبار، وسفيه أحمق، وطائش نزق.. يحارب ربه، ويكفر بخالقه، ويستعبد الناس، أو يتعبد هو للناس، ولا يتعبد لرب العالمين.

قال آخر (2): وقد وردت الآية الكريمة في سياق قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 26 ـ 28]، ومن خلال هذا السياق نستطيع أن نواجه الفكرة الخاطئة التي يحاول البعض أن يفهمها من هذه الآية، وهي أن القرآن الكريم يعمل على أن يعمق إحساس الإنسان بالضعف، ليشعر بالانسحاق في إنسانيته تحت وطأة الشعور بضعفه، مما يعطل فيه إرادة القوة، ويشل فيه طموحه الكبيرة الأفق الواسع الذي يتسع لمواهبه الإنسانية الكبيرة التي تخاطب الحياة كلها.. وخطأ الفكرة يكمن في أن صاحبها لم يدرس أجواء الآية، التي انطلقت لتوحي بأن التشريع راعى في عملية التخطيط للإنسان، فيما يريده له من هدى وقوة، هذا الجانب الذي تتوزعه نقاط الضعف؛ ولهذا فقد خفف عنه ليستطيع الوصول الى طموحاته في القوة والانطلاق بطريقة واقعية تتناسب مع طاقاته وإمكاناته.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (6/ 968)

(2) من وحي القرآن (7/ 198)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/14)

قال آخر (1): ومن ذلك وصفه بالظلم والكفر، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 34]، أي إن الإنسان الذي بدل نعمة الله كفرا لشاكر غير من أنعم عليه، فهو بذلك واضع للشكر في غير موضعه، ذاك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم، واستحق إخلاص العبادة له، فعبد هو غيره وجعل له أندادا ليضل عن سبيله وذلك هو ظلمه، وهو جحود لنعمه التي أنعم بها عليه، لصرفه العبادة إلى غير من أنعم بها عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه.

قال آخر (2): ومن ذلك وصفه بالبخل، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا﴾ [الإسراء: 100]، وهو حكم عام على الناس في جملتهم، وأنهم يمسكون أيديهم عن الإنفاق، ولو كان لأحدهم ملء الأرض ذهبا، ليحقق ذاته، ويفردها بين الناس بما جمع من كنوز الدنيا.. وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى ثالثا) (3)، مع أنه ليس به من حاجة إلى هذا الثالث، بل إنه ليكفيه القليل مما ضم عليه أحد الواديين.. لكنها الأثرة وحب الذات.

قال آخر (4): ومن ذلك وصفه بالعجلة، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ [الإسراء: 11]، والآية الكريمة تصور حقيقة إنسانية في التكوين الأولي للإنسان، أو في الواقع العملي في وجوده، وذلك لارتباطه بالجانب الحسي للحياة وتطلعه إلى الصورة الظاهرة فيها، مما يجعله ينحرف نحوها دون حساب وتقدير، تماما كما هو القفز من موقع إلى آخر دون التدقيق في الهوة التي تفصل بين الموقعين، وتفرض عليه سلوك خط السلامة في طريق السير، واكتشاف سبل جديدة، مما يحتاج إلى وقت طويل، أو إلى تأمل عميق.. وهكذا كان

__________

(1) تفسير المراغي (13/ 157)

(2) التفسير القرآني للقرآن (8/ 558)

(3) أحمد (32/ 31) والطبراني في الكبير (5032)

(4) من وحي القرآن (14/ 48)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/15)

الإنسان يواجه دعوات الحق، وأهداف الخير في رسالات الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا يطرحون للناس نظام الحياة المرتكز على الوحي الإلهي، ويطلبون منهم الانسجام مع هذا الخط في أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم، ويحذرونهم من الانحراف عنه، ويبشرونهم بالسعادة في الدنيا وبالجنة في الآخرة إذا أحسنوا الالتزام به، وينذرونهم بالشقاء في الحياة وبالنار في الآخرة إذا أساؤوا السير على هداه.

قال آخر (1): لكن أكثر الناس لا يدققون في فكر الدعوة، ولا يتأملون في النتائج الإيجابية والسلبية فيما يتحرك به التبشير والإنذار، ولا يتروون في تحديد موقفهم من حركة الرسالة ودعوات الرسل، بل ينطلقون مع السطح الظاهر للأشياء، والنتائج المباشرة للواقع، وتلح عليهم الدعوة إلى التفكير وعدم المبادرة إلى السرعة في الإنكار، ويظلون مشدودين إلى أوضاعهم الحسية، فيستعجلون العذاب الذي ينذرهم به الأنبياء، ليتخلصوا من الإحراج، أو ليتخففوا من الإلحاح، أو ليسخروا منهم، لأنهم لا يعتقدون بجدية الموضوع، فيطلبون أن ينزل الله بهم العذاب، كما قد يطلبون في الحالات الطبيعية أن تنزل عليهم السعادة ويهطل عليهم الخير وتفيض عليهم النعمة.. إنهم يستعجلون ذاك كما يستعجلون هذا، لأنهم لا يفهمون معنى ارتباط المسببات بأسبابها، وعلاقة النتائج بمقدماتها، وأن لكل شيء أجلا لا يعدوه، وأن الله عندما يعد الناس بالخير أو يتوعدهم بالعذاب، فإنه لا يستعجل الأمر قبل أوانه، بل يؤخره إلى أجل مسمى وفقا لما قدره للأشياء من أسباب وآجال تبعا لحكمته الثابتة التي لا تهتز ولا تتزلزل، ولو عرف الإنسان كيف يفكر ليعرف النتائج السلبية والإيجابية لخطواته العملية في الحياة، لاستطاع أن يدرك الهول

__________

(1) من وحي القرآن (14/ 49)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/16)

العظيم لما يلاقيه من العذاب الذي لو التقى به، لود أن يكون بينه وبينه بعد المشرقين.. وهذا ما يمنعه من السير على الطريقة التي هي أقوم، ومن الانفتاح على البشارة والابتعاد عن أجواء الإنذار.

قال آخر (1): ومن ذلك وصفه بالجدل، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: 54]، أي ومع البيان القرآني الشافي والتوضيح الكافي، فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.. وهذا دليل على كثرة الجدال في الإنسان وحبه له، لسعة حيلته، وقوة ذكائه، واختلاف نزعاته وأهوائه.

قال آخر (2): وذلك ما يعني دخوله في المنازعات والمشاجرات التي تريد أن تملأ الجو بالكلام، وتشغله بالبحث في القضايا الصغيرة الجانبية، ليبتعد الناس عن الارتباط بالمسائل الكبيرة في حركة العقيدة والحياة، ولينصرفوا عن التفكير فيها بطريقة علمية موضوعية، عندما تستهلك الهوامش الفكرية كل جهدهم، فيأتون إلى المسألة الحاسمة بجهد مثقل بالتعب، وروح فارغة من القوة، وإرادة متعبة من الخلاف... وهكذا تضيع الحقيقة في غمار الجدل، ويبتعد الإنسان عن العمق، فلا يلتقي بحقائق العقيدة إلا من خلال ستار كثيف من المشاعر المتوترة، والذهنيات المعقدة، والكلام الفارغ.

قال آخر (3): ومن ذلك وصفه بالظلم والجهل، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]، أي إنا عرضنا التكاليف كلها من فرائض وطاعات على

__________

(1) التفسير المنير (15/ 280)

(2) من وحي القرآن (14/ 350)

(3) التفسير المنير (22/ 126)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/17)

هذه الأجرام العظام، فلم تطقها وأبت تحمل مسئوليتها، وخافت من حملها، لو فُرض أنها ذات شعور وإدراك، ولكن كلف بها الإنسان، فتحملها مع ضعفه، وهو في ذلك ظلوم لنفسه، جهول لقدر ما تحمله.

قال آخر (1): ذلك أن الأمانة تعني المسؤولية التي يتحملها الإنسان فيما يقوم به من أعمال وأقوال، باعتبار أنها التي تتصل بالنتائج السلبية التي يخاف الإنسان من خلالها أن يتعرض لعقاب الله، وهي التي يمكن أن يعرضها الله على مخلوقاته، بأن تتحمل مسؤولية نفسها، فتدير أوضاعها وتتحرك من موقعها الإرادي، وهذا هو المعقول في ذلك كله.. وعلى هذا، فيكون العرض واردا بنحو الاستعارة، بحيث تكون الفكرة أن المسؤولية التي يتحملها الإنسان، فيما يواجهه من النتائج أمام الله، هي من الثقل بحيث لو عرضها الله على هذه المخلوقات لرفضتها خوفا منها، فنزل ذلك منزلة العرض الواقعي، ﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ [الأحزاب: 72] لما يترتب على ذلك من العقاب الإلهي على الانحراف عن أوامر الله ونواهيه مما لا يستطيع مخلوق أن يتحمله أو يقبله، على ما جاء في دعاء الإمام علي: (لأنه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، يا سيدي، فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين)

قال آخر (2): وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72] يعني أنه لم يقم بما يجب عليه منها، بل ظلم نفسه بانحرافه عن الخط، وجهل موقعه ومرجعه بغفلته، وهذا هو الظاهر منها، خلافا لما فهمه البعض بأن حمل الإنسان للأمانة كان ناشئا من ظلمه لنفسه وجهله بنتائج ما يختاره ويتحمله من المسؤولية.

__________

(1) من وحي القرآن (18/ 361)

(2) من وحي القرآن (18/ 361)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/18)

قال آخر (1): فالآية الكريمة تبين أعظم إمتيازات الإنسان وأهمها في كل عالم الخلقة، ومما لا شك فيه أن إباء السموات والأرض تحمل المسؤولية وإمتناعها عن ذلك لم يكن استكبارا منها، كما كان ذلك من الشيطان، كما قال تعالى: ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ﴾ [البقرة: 34]، بل إن إباءها كان مقترنا بالإشفاق، أي الخوف الممتزج بالتوجه والخضوع.

قال آخر (2): ومن ذلك وصفه بالكفر، كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾ [الحج: 66]،، ففي الآية الكريمة تذكير للناس بتلك النعمة الكبرى، نعمة الحياة.. فقد كان الناس عدما، أو ترابا في هذا التراب.. ثم إذا هم هذا الخلق السوى العاقل، المدبر، الصانع، ثم إذا هم تراب مرة أخرى.. ثم إذا هم يلبسون حياة لا موت بعدها، وبهذه الحياة تتم النعمة، نعمة الحياة.. ذلك أنه لو كانت الحياة الدنيا هي كل حياة الإنسان لكانت نعمة ناقصة، بل إنها تكون نقمة لما فيها من معاناة، وأعباء، وشدائد، يلتقى بها الإنسان في مسيرة الحياة الدنيا، من المولد إلى الممات.. فالحياة الدنيا هي إعداد للحياة الأخرى، إنها زرع، والأخرى حصاد لثمر هذا الزرع، ومن هنا كان لا بد من الحياة الآخرة، حتى تكون الحياة نعمة تستوجب الحمد والشكران لله.. ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾ [الحج: 66] تعقيبا على تلك النعمة، وتنديدا بالإنسان وكفره وجحوده لها، إذ لم يؤد مطلوب الله منه في هذه الحياة الدنيا، الموصولة بالحياة الآخرة.

قال آخر (3): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ﴾ [الزخرف: 15]، أي وأثبتوا لله ولدا، إذ قالوا الملائكة بنات الله، والولد جزء من والده كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاطمة بضعة مني) (4).. ومقالهم هذا يقتضى كون الخالق جسما

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (13/ 367)

(2) التفسير القرآني للقرآن (9/ 1091)

(3) تفسير المراغي (25/ 76)

(4) (26/ 46) والترمذي (3869)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/19)

محدثا لمشابهة الولد له، فلا يكون إلها ولا خالقا.. ثم أكد كفرهم بقوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ﴾ [الزخرف: 15] أي إن الإنسان لجحود بنعم ربه التي أنعمها عليه، ظاهر كفره لمن تأمل حاله وتدبر أمره.

قال آخر (1): ومن ذلك وصفه بالهلع والجزع، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19 ـ 21]، ففي الآية الكريمة حديث عن الإنسان في صورته السلبية.. والهلع يعني سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير (2)، فلا صبر له أمام النوائب التي تحل به، ولا توازن لديه أمام الخيرات التي تقبل عليه، حيث أنه إذا مسه الشر يصبح جزوعا يصرخ من الألم، ويسقط أمام الشدائد، وينهار أمام الهزاهز، فلا يملك أن يتماسك أو يثبت في إحساسه بالمشكلة التي تحيط به.. ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 21] فلا يمنح غيره شيئا مما أنعم الله به عليه من نعم الحياة، لأنه يخاف على نفسه الفقر، ويضيق بالناس الذين يتطلعون إليه ليحصلوا على بعض ما عنده مما يلبي حاجاتهم ويحل مشكلة حرمانهم.

قال آخر (3): وهكذا يؤكد القرآن الكريم أن ذلك ليس مجرد حالة طارئة على الإنسان خاضعة للظروف المحيطة به، بل هي حالة غريزية في طبيعة تكوينه الغريزي في الضعف الشعوري الذي يقوده إلى الجزع والسقوط، وإلى البخل والحرص.

قال آخر (4): لكن هذه الغريزة ككل الغرائز الإنسانية، لا تمثل حتمية الحالة السلبية في نتائجها العملية، لأنها يمكن أن تتحول إلى حالة إيجابية من خلال التهذيب الروحي الذي ينعكس إيجابا على التهذيب العملي ليتوازن السلوك الأخلاقي في شخصيته، فيأخذ

__________

(1) من وحي القرآن (23/ 102)

(2) الكشاف ج: 4، ص: 158.

(3) من وحي القرآن (23/ 103)

(4) من وحي القرآن (23/ 103)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/20)

بأسباب القوة عندما ينفتح على الله في انفتاحه على قوة الله، كما يعيش روحية العطاء عندما يتطلع إلى امتداد حركة النعمة في المستقبل، كما امتدت في الماضي، لأن الله الذي أعطى الإنسان في الماضي هو الذي يعطيه في المستقبل، فيزداد ثقة بالأمن المستقبلي بالرزق، فلا يمنع ولا يبخل على عباد الله.

قال آخر (1): ولهذا عقب الله تعالى ذلك بقوله: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ [المعارج: 22 ـ 27]، فاستثناء المصلين أمر طبيعي من خلال ما ترمز إليه الصلاة في حياة الإنسان المؤمن من إيمان بالله، وثقة به، وتوكل عليه، واستسلام له، وانفتاح على معنى العبودية في ذاته، فيما يؤكده ذلك من إحساس بمعنى الحرية الإنسانية أمام الكون كله، لأنه يتساوى معه في كونه مخلوقا لله تعالى.. وفي ضوء ذلك، يمكن للقيم الروحية الإنسانية في جانبها العملي أن تؤثر إيجابيا في شعوره بالقوة وحركة الخير والعطاء في حياته، من خلال الإيمان بأن الله يرعاه في نقاط ضعفه وقوته، وأنه يعوض عليه كل ما يقدمه للآخرين من ماله، وهذه هي الصفات التي يمكن أن يتصف بها المصلون في حركتهم الأخلاقية العملية التي ترتفع بهم إلى مستوى الإنسانية القريبة من الله سبحانه.

قال آخر (2): ومن ذلك وصفه بالكدح، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا﴾ [الانشقاق: 6]، أي أيها الإنسان، إنك عامل في هذه الحياة ومجد في عملك، ومبالغ في إدراك الغاية إلى أن تنتهى حياتك، وإن كنت لا تشعر بجدك، أو تشعر

__________

(1) من وحي القرآن (23/ 103)

(2) تفسير المراغي (30/ 90)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/21)

به وتلهو عنه، وكل خطوة في عملك فهي في الحقيقة خطوة إلى أجلك، وهناك لقاء الله، فالموت يكشف عن الروح غطاء الغفلة ويجلو لها وجه الحق، فتعرف من الله ما كانت تنكره، ويوم البعث يرتفع الالتباس، ويعرف كل عامل ما جر إليه عمله.

قال آخر (1): ومن ذلك وصفه بالكبد، كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]، والكبد: المعاناة والشدة.. وهي تشير إلى أن حياة الإنسان ـ كل إنسان ـ في هذه الدنيا، هي شدائد، ومعاناة.. فما يسلم إنسان أبدا من هموم الحياة وآلامها، النفسية، أو الجسدية، فكم يفقد الإنسان من صديق وحبيب؟ وكم يتداعى على جسده من أمراض وعلل؟ وكم؟ وكم؟ مما يطرق الناس من أحداث على مر الأيام، وكر الليالى؟ فالشباب يذبل ويولى، والقوة تتبدد وتصبح وهنا وضعفا، وهذا الجسد الذي ملأ الدنيا حياة وحركة سيعصف به الموت يوما، ويلقى به في باطن الأرض، جثة هامدة متعفنة، لا تلبث أن تصير ترابا.

قال آخر (2): أجل.. فالإنسان وحده من بين المخلوقات ـ فيما نعلم ـ هو الذي تستبد به هذه المخاوف، وتطرقه هذه التصورات، على خلاف سائرا لأحياء التي تقطع مسيرتها في الحياة، في غير قلق أو إزعاج من المستقبل الذي ينتظرها.. إنها لا تنظر إليه، ولا تتصوره، ولا تعيش فيه قبل أن يصبح واقعا.. أما الإنسان، فإنه يعيش في المستقبل أكثر مما يعيش في الواقع، حتى إنه ليرى بعين الغيب في يوم مولده، ما هو مقبل عليه من آلام ومكابدات في مستقبل حياته.

بعد أن سمعت تلك الأحاديث.. توزع الجمع، وقد سمعت اثنين منهما يتحدثان،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1570)

(2) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1571)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/22)

قال أولهما: أنا أتعجب لم نفخ الله تعالى في الإنسان كل تلك الآثام؟

قال الثاني: نحن نعبر عنها بالآثام باعتبار اختيار الإنسان.. لا باعتبار حقيقة الحال.. فالله الحكيم الرحيم لا يخلق الشر المجرد عن كل خير.. بل هو يخلق الخير.. ومن الخير ما يتحول إلى شر.. كما أن من الطعام ما يتسنه ويصبح غير صالح للأكل.. مع أنه في أصل طبيعته طيب وصالح.

قال الأول: فهمت تسنه الطعام.. ولم أفهم تسنه الإنسان.

قال الثاني: أليس الطعام يتسنه بالغفلة عنه؟

قال الأول: تستطيع أن تقول ذلك.. فعندما نغفل عن الطعام مدة من الزمان نكتشف أنه قد تسنه وتغير.

قال الثاني: فكذلك الإنسان.. كلما غفل عن النظر في حقيقته وتقويمها وربطها بمصدرها الأعلى كلما تمكنت الآفات منه، وانحرفت به بعد ذلك.. لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، فقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19]

قال الأول: لكن الآية تتحدث عن نسيان الله والغفلة عنه.. لا عن الإنسان لنفسه.

قال الثاني: لا يمكن لإنسان أن يذكر نفسه أو يعرفها.. وهو لا يذكر ربه ولا يعرفه.. إن حقيقة الإنسان لا يمكن أن تتجلى للإنسان إلا عندما يتصل بربه.

قال الأول: أكاد أفهم ما تقول.. لكني أتعجب كيف يخلق الله نفسا شحيحة.. أتعجب لقوله تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: 128].. وغيرها من الآيات التي تذكر الخراب الذي يملأ أعماق الإنسان.

قال الثاني: هو ليس خرابا بالصورة التي تتصورها..

القرآن.. والهداية الشاملة (2/23)

قال الأول: فما هو إذن؟

قال الثاني: تستطيع أن تقول: إنه لبنات.. ومواد خام.. نعم هي مفرقة في أرض النفس بحيث يُهيأ لمن يراها بأنه يرى خرابا.. ولكنها في الحقيقة إن وجدت أيد ماهرة ومهندسين خبراء.. فستتحول تلك اللبنات إلى عمران ليس مثله عمران.

قال الأول: هل لي بمثال يوضح لي هذا؟

قال الثاني: أنت تعجبت من أن تفطر النفس على الشح؟

قال الأول: أجل.. ذلك صحيح.. والكل يتعجب من ذلك.

قال الثاني: هل ترى أن حياة الإنسان يمكن أن تستمر.. ولحضارته يمكن أن تقوم.. ولوظيفة الخلافة فيه يمكن أن تؤدى من غير أن تكون فيه هذه الخصلة؟

قال الأول: لو خلت حياة الإنسان من الشح.. وخلت حضارته منه لعاش الإنسان إنسانا.

قال الثاني: ذلك هو الشح المنحرف.. السلبي.. أما الشح الفطري.. والذي هو لبنة من لبنات الإنسان.. فإن نزعه من الإنسان لن يبقيه إنسانا..

قال الأول: كيف؟

قال الثاني: أليس الشح هو الحرص على ما تملكه من أشياء؟

قال الأول: بلى.. فالشحيح هو الذي يبخل بماله.

قال الثاني: البخل بالمال فرع من فروع الشح.. الشح أخطر من أن ينحصر في المال..

قال الأول: صحيح ما تقول..

قال الثاني: نحن نرى الشح السلبي.. وهو شح يوظف لبنات الإنسان لتخدم المصالح الخاصة ولو على حساب المصالح العامة.

القرآن.. والهداية الشاملة (2/24)

قال الأول: فهل هناك شح إيجابي؟

قال الثاني: أجل.. وهو شح يوظف لبنات الإنسان وطاقاته لتخدم المصالح الخاصة.. وفي نفس الوقت لا تضر بالمصالح العامة.. بل إنه يخدم المصالح العامة.. فلا يمكن للمصالح العامة أن تقوم إلا بالمصالح الخاصة.

قال الأول: لم أفهم.

قال الثاني: أرأيت لو أن كل الناس حرصوا على ما عندهم من مال وصحة وعافية.. وشحوا بها.. فلم يدعوها للآفات.. أليس في ذلك اجتماع للمصالح الخاصة والعامة؟

قال الأول: بلى.. سيكون المجتمع حينها مجتمعا قويا صحيحا سليما من الآفات..

قال الثاني: ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهو يحض على هذا الشح الإيجابي.. لبعض صحابته: (الثلث والثلث كبير، أو كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة، تبتغى بها وجه الله، إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك) (1)

قال الأول: وعيت هذا في الشح.. لكن هناك آثاما أخرى قد لا ينطبق عليها ما تقول.

قال الثاني: كلها ينطبق عليها ما أقول..

قال الأول: الجدل مثلا.. لا ينطبق عليه ما تقول.

قال الثاني: لولا الجدل ما قامت للأفكار سوق..

قال الأول: والكفر!؟

__________

(1) النسائي 6/ 242، وأبو يعلى (803)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/25)

قال الثاني: لولا الكفر ما عرفنا قيمة اختيار المؤمن للإيمان..

قال الأول: والظلم!؟

قال الثاني: الظالم هو الذي انحرف بموازين العدالة في نفسه عن وجهتها..

قال الأول: فالموازين صحيحة.. لكنه هو الذي انحرف بها؟

قال الثاني: أجل.. وهكذا في كل الأمور.. إن مثل ذلك مثل الملح يكون في الطعام.. فمن وضعه بقدر انتفع به وانتفع بطعامه.. ومن وضعه بغير قدر استضر به واستضر بطعامه.

أ. الجحود وثمراته

بعد أن انتهيا من حديثهما، سارا، فلحقتهما إلى محل رأيت فيه شيخا يخطب بين مجموعة من الشباب، وهو يقول لهم: لاشك أنكم تأكدتم من أن الجحود هو الإثم الذي تأسست منه الآثام، وتفرعت عنه الذنوب.. فمن امتلأ قلبه بجحود مولاه لم ينل في حياته خيرا ولا بركة ولا فضلا.. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في مواضع كثيرة، وكأنه ينبهنا إلى هذا الوحش الخطير الذي يريد أن ينحرف بحياتنا عن المنهج الذي أراده الله لنا.

قال أحدهم (1): أجل.. فقد ذكر الله تعالى سرعة ميل الإنسان إلى الكفر والجحود والغفلة بمجرد أن يفرج الله عنه، فقال: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 12]، أي إن الإنسان إذا أصابه من الضر ما يشعر فيه بشدة ألم أو خطر على نفسه كغرق ومسغبة وداء عضال دعانا ملحا في كشفه عند اضطجاعه لجنبه أو قعوده في

__________

(1) تفسير المراغي (11/ 75)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/26)

كسر بيته أو قيامه على قدميه حائرا في أمره، ولا ينسى حاجته إلى رحمة ربه ما دام يشعر بمس الضر ويعلم من نفسه العجز عن النجاة منه، وقدم من هذه الحالات الثلاث ما يكون الإنسان أشد عجزا وشعوره بالحاجة إلى ربه أقوى ثم التي تليها ثم التي تليها.. فلما كشفنا عنه ضره الذي دعانا إليه حال شعوره بعجزه عن كشفه بنفسه أو بغيره من الأسباب مر ومضى في طريقه التي كان عليها من الغفلة عن ربه والكفر به كأن الحال لم تتغير ولم يدعنا إلى شئ ولم نكشف عنه ضرا.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ [الزمر: 8]، وفي الآية الكريمة تصوير للموقف المتناقض من الكفار، حيث أنه إذا أصاب الكافر شدة من مرض أو فقر أو خوف، تضرع إلى ربه، راجعا إليه تائبا، مستغيثا به في تفريج كربته، وكشف ما نزل به، ثم إذا منحه نعمة أو أعطاه وملكه، وصار في حال رخاء ورفاهية، نسي ذلك الدعاء والتضرع، أو نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل، وجعل لله شركاء من الأصنام أو غيرها، يعبدها، ليصير وتكون نتيجته وعاقبته الضلال والإضلال، يضل بنفسه، ويضل الناس بعمله هذا ويمنعهم من توحيد الله والدخول في الإسلام.

قال آخر: وقد أشار الله تعالى إلى المعنى الأول، وهو أنه عند الحاجة يتضرع ويستغيث بالله قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 67].. وأشار إلى المعنى الثاني، وهو أنه في حال

__________

(1) التفسير المنير (23/ 257)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/27)

الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع، قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾ [يونس: 12]

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 49]، فالآية الكريمة تشير إلى أن مشكلة الإنسان أنه لا يفكر في قضاياه إلا من خلال اللحظة التي يعيش في داخلها، فلا يتعاطى معها انطلاقا من المعطيات الحقيقية التي تنفذ إلى داخلها في العمق العميق من الحياة.. وهذه هي الحالة الطبيعية التي يعيشها الإنسان في حياته، في حجم الظاهرة المتكررة مع الكثيرين من أفراده، فقد يلاحظ المتتبع للسلوك الإنساني أنه قد يختلف في علاقته بالله ونظرته إليه وإلى نفسه، بين حالة وحالة، فإذا عرض له المرض أو الفقر أو الخوف، أو غير ذلك من الأوضاع التي تمثل جانبا من جوانب النقص المادي والمعنوي في حياته الخاصة، أو غرق في أزماته النفسية من الداخل والخارج، فإنه يلجأ إلى الله، ليعيش مع الوجدان الإيماني الذي يبحث فيه الإنسان عن ربه ليبتهل إليه ويخضع له، ويتوسل إليه في إنقاذه من الواقع السيئ القلق المهتز الذي يعيش فيه، وتبقى العلاقة بالله مرتبطة بالحاجة إليه، في الجانب الحسي المباشر في حركة الشعور، ويبقى الشعور بالعبودية المنسحقة أمام الربوبية المطلقة محدودا في هذه الدائرة، فإذا تبدل الوضع إلى وضع أفضل وجاءت النعم الإلهية لتغمر كل حياته، وابتعدت الأزمات عن الداخل النفسي، وعن الواقع الخارجي، واستراح للغنى بعد الفقر، وللصحة بعد المرض، وللأمن بعد الخوف، وللعلو بعد الانحطاط، نسي ربه وفضله عليه، وحركة نعمته في وجوده وفي امتداد حياته، واستغرق في

__________

(1) من وحي القرآن (19/ 346)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/28)

ذاته، في العنصر المباشر من حركتها، وفي الطاقات البارزة في حركته، فأصبح يتحدث عن هذه النعم الكثيرة التي تملأ كل وجوده، من خلال الميزة الشخصية التي يملكها، فيعيد الفضل إلى ما يملكه من علم وخبرة وقوة وحسن إدارة وذكاء وشطارة ونحو ذلك، فلا دخل لله بنظره في ذلك، ولا حاجة به إليه، بل هو التفوق الذاتي في كل شيء.

قال آخر (1): وقد عبر الله عن ذلك بأنه فتنة يفتن الله به عباده، ويمتحنهم ويختبر إيمانهم، وهو العالم به، ليظهر جوهره في أنفسهم وأمام الناس.. إن ما يجدونه من السعة والجاه والقوة يخيل لهم أنهم يملكونه بأنفسهم ولا يحتاجون إلى الله إلا من عصمه الله منهم، فكان واعيا للمسألة في عمقها الواقعي، وفي معناها الإلهي، مما يجعل من الإنسان عارفا بحاجته إلى الله في كل شيء، وأنه لا يقدر على أي أمر إلا ما أقدره الله عليه في كل قضاياه وقدراته الخاصة والعامة، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الطور: 47] لأنهم يرتبطون بالجانب الحسي المباشر بالأمور، ولا يلتفتون إلى ما تحت السطح، أو في آفاق الغيب، ليعرفوا أن الله وراء ذلك كله.

قال آخر: وهكذا ذكر الله تعالى جحود الإنسان وغفلته عن فضل ربه عليه، فقال ـ وهو يستعرض نعم الله على عباده ـ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 32 ـ 34]، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ

__________

(1) من وحي القرآن (19/ 347)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/29)

عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾ [الحج: 65 ـ 66]،

قال آخر: ولهذا، فإن الله يصف الإنسان بالكفر الشديد المبين الذي لا فوقه كفر ولا مثله جحود، قال تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: 17]

قال آخر: وأخبرنا الله تعالى على عواقب جحود النعمة.. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى مخبرا عن قوم عاد: ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾ [هود: 59 ـ 60]،

قال آخر: وما حصل لعاد بسبب جحودهم هو ما حصل لغيرهم، قال تعالى يذكر ذلك، ويذكر به: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [فصلت: 13 ـ 17]

قال آخر: وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً

القرآن.. والهداية الشاملة (2/30)

وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ [سبأ: 15 ـ 21]

الإعراض

قال الشيخ: بورك فيكم.. فحدثونا عن ثمرات الجحود.

قال أحدهم (1): أولها وأخطرها الإعراض، فقد اعتبرت الآيات الكريمة الإعراض هو سر ما حصل لسبأ من المهالك.. والإعراض هو الصورة البشعة التي ينم بها الجحود عن نفسه، وقد أشار القرآن الكريم إلى صور الإعراض في مواضع كثيرة.. ومنها يأس الإنسان وكفره في حال الضرر، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: 48]، أي فإن أعرض هؤلاء الظالمون المدعوون إلى الاستجابة لله، عن قبول هذه الدعوة، فإنك أيها النبي لست مرسلا إليهم لتقوم على حفظهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، فما عليك إلا أن تبلغهم رسالة ربك، وتدعوهم إليه، وتحذرهم بأسه وعقابه، وتبشرهم برحمته ورضوانه.. فإن هم استجابوا لله، بعد أن تبين لهم الرشد من الغى، فقد رشدوا ونجوا، وإن أبوا أن يستجيبوا لله، فليس لك أن تتولى حفظهم، وتأخذ بهم قسرا إلى طريق النجاة.. فإنه ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256].. وإن على كل إنسان أن يتولى حفظ نفسه، ووقايتها، وإقامتها على الطريق الذي يختاره لها.. وهذا ما يشير إليه قوله

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 84)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/31)

تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: 4] أي ما كل نفس إلا قائم عليها حافظ، مطلوب منه أن يتولى حفظها، وهو هذا العقل الذي أودعه الله فيها، فإذا لم يوقظ الإنسان هذا الحارس، وينبهه إلى أداء وظيفته، ثم دخل عليه من يستبد به، ويستولى عليه، ويورده موارد الهلاك، فلا يلومن إلا نفسه.

قال آخر (1): أما قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ﴾ [الشورى: 48]، فهو يشير ضمنا إلى ما في بعض النفوس من فساد، لا تجد معه مساغا لطعم الخير، ولا اشتهاء له، وأن ذلك طبيعة غالبة في الإنسان، كذلك من طبيعة الإنسان أنه إذا مسته رحمة من عند الله، وأصابه خير ـ كسعة في الرزق، أو نماء في الثمر، والولد ـ لبسته الفرحة، وإن مسه ضر بما قدمت يداه نسى ما ألبسه الله تعالى إياه من نعم، ولم يعد يذكر لله إلا هذا الضر الذي أصابه بما صنعت يداه..

قال آخر (2): وفي إفراد الإنسان في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً﴾ [الشورى: 48] إشارة إلى كل فرد من أفراد هذا الجنس البشرى ـ فأل هنا للجنس ـ إذ أن كل إنسان أيا كان ـ مؤمنا كان أو كافرا ـ يفرح بالخير إذا أصابه، ويهش له، وتطيب نفسه به.. أما عود الضمير جمعا على الإنسان في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [الشورى: 48] فذلك لأنه ليس كل إنسان في حيز هذا الشرط وجوابه، فيكفر بالله، أو يسئ الظن به في حال الضر، بل إن الواقعين في حيز هذا الشرط وجوابه، هم الذين لا يؤمنون بالله مطلقا، أو لا يؤمنون به إيمانا وثيقا، مثل أولئك الذين يعبدون الله على حرف، كما قال الله تعالى فيهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 85)

(2) التفسير القرآني للقرآن (13/ 85)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/32)

فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11] فكثير من الناس يقفون هذا الموقف من ربهم.. إن أصابهم خير، رضوا به واطمأنوا إليه، وإن أصابهم شر بما قدمت أيديهم، أنكروا من الله ما كانوا يعرفون.. وقليل من الناس، وهم المؤمنون بالله حقا ـ لا تختلف حالهم مع الله أبدا.. فهم على إيمان به، وحمد له، في السراء والضراء على السواء.. كما قال تعالى فيهم: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]

قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [الشورى: 48] إشارة إلى أن ما يصيب الإنسان من ضر هو من صنع يده.. كما قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء: 79].. وأن تبدل أحوال الناس من نعمة وعافية إلى سوء وبلاء، هو بما كسبت أيديهم.. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنفال: 53]

قال الشيخ: بورك فيكم.. فحدثونا عن مظاهر الإعراض التي ذكرها القرآن الكريم.

قال أحدهم: من ذلك الإعراض عن الطّاعات والسّهو عنها، كما قال تعالى: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ [سبأ: 16]، أي فأعرضوا عن توحيد الله، وعبادته وطاعته، وشكره على ما أنعم به عليهم، وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله، كما حكى الله تعالى عن قول الهدهد لسليمان عليه السلام: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 85)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/33)

مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [النمل: 22 ـ 24]، فأرسل الله عليهم سيل العرم، أي المياه الكثيرة الغزيرة، بأن تحطم سد مأرب، فملأ الماء الوادي، وغرق البساتين الخضراء ثم يبست، ودفن البيوت، ولم يبق منهم إلا شراذم قليلة تفرقت في البلاد، وأعطوا بدل تلك الجنان والبساتين المثمرة الأنيقة النضرة بساتين لا خير فيها ولا فائدة منها، وإنما أشجار ذات ثمر مر هي الأراك، وأثل هو الطرفاء، والسدر ذي الشوك الكثير والثمر القليل، وهو شجر النبق.

قال آخر (1): ومنها الإعراض عن سماع المواعظ والتأثر بها، كما قال تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: 49 ـ 51]، أي فأى شئ حصل للجاحدين حتى أعرضوا عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى، والموعظة العظمى، كأنهم في فرارهم من الحق كحمر وحشية هاربة من رماة يرمونها ويتعقبونها لصيدها وافتراسها.. وفي هذا إيماء إلى أنهم مع موجبات الإقبال إلى الداعي والاتعاظ بما جاء به يعرضون عنه بغير سبب ظاهر، فأى شئ حصل لهم حتى أعرضوا عنه؟.. وفي تشبيههم في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ، وشرادهم عنه بحمر وحشية جدت في نفارها مما أفزعها ـ تهجين لحالهم، وشهادة عليهم بالبله، فلا ترى مثل نفار حمر الوحش، واطرادها في العدو إذا هي خافت من شيء.

قال آخر (2): ومنها الإعراض عن تذكر حساب الله لعباده، كما قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 1]، أي وهم في غفلة مطبقة عامة.. غفلة عن كل ما هو حق، وخير، كما يدل على ذلك تنكير الغفلة. وليس هذا فحسب، بل إنهم مع

__________

(1) تفسير المراغي (29/ 141)

(2) التفسير القرآني للقرآن (9/ 847)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/34)

غفلتهم هذه العامة الشاملة، معرضون عن كل داع يدعوهم إلى أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن ينتبهوا من غفلتهم.. والغفلة قد تكون لأمر عارض، بحيث إذا نبه الإنسان تنبه، وإذا دعى أجاب.. ولكن غفلة هؤلاء القوم، غفلة مستولية عليهم، آخذة بكل حواسهم ومدركاتهم: ﴿وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾ [الكهف: 57] حيث أنهم مع هذه الغفلة المستولية عليهم ـ بعيدون عن دعوات التنبيه، لا يلقونها إلا من وراء ظهورهم.. فهم عنها معرضون.

قال آخر: ومنها الإعراض عن ذكر اللّه، ليمتلئ الإنسان بدله بالغفلة التي تؤهله لكل أنواع العذاب، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: 124]، حيث يبين أن معيشة الكافر وحياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة، وبالمقابل معيشة المؤمن وحياته سعيدة رحبة وسيعة (1).

قال آخر (2): ومنها الإعراض عن النظر إلى آيات اللّه في الكون وتبصرها، كما قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: 105]، أي وكم في السموات والأرض من آيات دالة على توحيد الله وكمال علمه وقدرته من شمس وقمر ونجوم وجبال وبحار ونباتات وأشجار، يمر عليها أكثر الناس وهم غافلون عما فيها من عبرة ودلالة على توحيد ربها، وأن الألوهية لا تكون إلا للواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شئ فأحسن تدبيره.

قال آخر (3): ومنها الإعراض عن الحقّ وعدم الإذعان له، كما قال تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 24]، وفيها اعتذار لكثير من هؤلاء المشركين، الذين عموا عن طريق الحق، فركبوا رؤوسهم، وأبوا أن يستمعوا لداعى الحق،

__________

(1) من وحي القرآن (4/ 192)

(2) تفسير المراغي (13/ 48)

(3) التفسير القرآني للقرآن (9/ 863)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/35)

وأن يستجيبوا له.. ومن ثم، فإن الرسول قائم فيهم، لا يتخلى عن مكانه بينهم، ولا يمسك عن دعوتهم، وكشف معالم الطريق لهم، حتى يبصروا من عمى، ويهتدوا من ضلال.

قال آخر (1): ومنها الإعراض عن النّبإ العظيم قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ [ص: 67 ـ 68]، أي قل أيها الرسول للمشركين وغيرهم: إن هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا، وأن الله واحد لا شريك له، وأن القرآن وحي منزل من عند الله، هو خبر عظيم مهم جدا، لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة، فهو ينقذكم من الضلالة إلى النور، لكنكم أنتم معرضون عما أقول، لا تتفكرون فيه.. وفي هذا توبيخ لهم وتقريع، لكونهم أعرضوا عنه، فعليهم العدول عن خطأهم.

قال آخر (2): ومنها الإعراض عن الوفاء بعهود الله التي أخذها على عباده، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [البقرة: 83]، ففي هذه الآية الكريمة ذكرهم الله تعالى بأهم ما أمر به أسلافهم من عبادات ومعاملات، ثم ما كان منهم من إهمالها وترك اتباعها.. أي ثم كان من أمركم أن توليتم عن العمل بالميثاق ورفضتموه وأنتم في حال الإعراض عنه وعدم الاهتمام بشأنه.

قال الشيخ: بورك فيكم.. فحدثونا عما ورد في القرآن الكريم من عقوبات المعرضين.

قال أحدهم (3): أولها وأخطرها عدم مبالاة الله تعالى بمن أعرض عنه، فالله الغني

__________

(1) التفسير المنير (23/ 226)

(2) تفسير المراغي (1/ 155)

(3) التفسير القرآني للقرآن (4/ 163)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/36)

الكريم لا يضره جحود الجاحدين كما لا تنفعه طاعة الطائعين، قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأنعام: 35]، أي إن شق عليك إعراض قومك عنك، فحاول ـ إن استطعت ـ أن تشق الأرض، أو ترقى في السماء، لتأتيهم بما يقترحون عليك من آيات.. وليس هذا دعوة من الله سبحانه للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل هذا، وإنما هو صرف له عن هذا اللغو الذي يلغوا به قومه، من مقترحات يقترحونها عليه، وتيئيس لهم من أن يكون لهذا اللغو قبول عنده.. ولو أراد سبحانه وتعالى أن يدخل الناس جميعا في الإيمان لفعل، ولوضع بين يدى المعاندين والكافرين والمشركين من الآيات القاهرة ما يحملهم على الإيمان، حيث لا يجدون معها سبيلا إلى الإنكار والجحد، ولكنه سبحانه أراد أن يكون للإنسان تقديره وتفكيره، فيما يحمل إليه رسل الله من آيات، يرى فيها العقلاء دلائل الحق، وأمارات الهدى، ولا يرى فيها الضالون والمعاندون شيئا يفتح لهم الطريق إلى الله.. وفي هذا ابتلاء وامتحان، ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [الأنفال: 37]

قال آخر (1): وقال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: 22 ـ 23]، ففي هذه الآية الكريمة يشبه الله تعالى المشركين بالدواب التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تعقل، لأن قيمة السمع والنطق والعقل، هو في تحريكها بما ينفع حياة الإنسان، وينقذ مصيره من الهلاك، فإذا أهمل كل ذلك، وجمده عن السير في اتجاه المعرفة النافعة، كان كمن فقده بالأساس، وذلك هو الفرق بين الدواب والناس، في سلبية الدواب أمام قضية المعرفة من

__________

(1) من وحي القرآن (10/ 352)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/37)

أجل الحياة، وإيجابية الناس أمام ذلك كله.. ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال: 23] فقد تركهم الله لأنفسهم، فاختاروا لها الضلال، ولو علم الله أنهم يواجهون الكلمة الحقة من موقع المسؤولية، لأسمعهم بطريقة غير عادية، ولكنه عرف فيهم الإصرار على الهروب من الحقيقة، ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: 23] لأنهم لا يريدون لأنفسهم الخير، فيما ينقذ حياتهم ومصيرهم من الهلاك.

الضلال

قال الشيخ: بورك فيكم.. فحدثونا عن ثمار الإعراض.

قال أحدهم: أولها وأخطرها الضلال.. فكيف يهتدي من أعرض الله عنه؟.. لا شك أنه سيقع في هاوية الضلال.. ومن لم يتنعم باسم الله الهادي، فسيقع في اسمه المضل.. ولله من أبواب الإضلال ما يعدل أبواب هدايته.. ذلك أن الله تعالى خلق الجنة، وجعل لها صفات من توفرت فيه استحق دخولها، ومن لم تتوفر فيه دخل النار.. وهكذا، فالهداية الغالية التي هي مفتاح الجنة لها صفات من ظفر بها حلت عليه، ومن لم يظفر بها وقع في أسر الإضلال الذي هو مفتاح لجميع أبواب جهنم.

قال آخر (1): ولهذا يذكر الله تعالى أنه عاقب الجاحدين بالإضلال.. فقد أخبر عن موسى عليه السلام، فقال: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: 88]، أي ربنا امحق أموالهم بالآفات التي تصيب زروعهم والجوائح التي تهلك أنعامهم وتنقص مكاسبهم فيذوقوا ذل الحاجة، واطبع على قلوبهم

__________

(1) تفسير المراغي (11/ 148)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/38)

وزدها قسوة على قسوتها وإصرارا وعنادا، فيستحقوا شديد عقابك، ولا يؤمنوا إلا إذا رأوا عذابك، ولا ينفعهم إيمانهم إذ ذاك.. وسبب غضبة موسى عليه السلام أنه عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا، وردد عليهم المواعظ والنصائح ردحا من الزمن، وحذرهم عذاب الله وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما هم عليه من الكفر والضلال المبين، ثم لم يزدهم ذلك إلا كفرا وعتوا واستكبارا في الأرض، ولم يبق له مطمع فيهم وعلم بالاختبار أنه لا يكون منهم إلا الضلال، وأن إيمانهم كالمحال ـ فاشتد عليهم ومقتهم ودعا عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، إذ لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه، ويسيرون قدما في طريق الغى والهلاك.

قال آخر (1): وقوله هذا لا يتنافى مع الرحمة التي يتصف بها الأنبياء عليهم السلام لأنه لم يقصد ذلك، فهو كأنه قال: فليثبتوا على ضلالهم وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا، وما علي منهم، هم أهل لذلك وأحق به.. ومثله في ذلك مثل قول الأب المشفق على ولده الذي انحرف عن جادة الاستقامة ولم يقبل منه نصيحة: (فلتمض في غوايتك ولتعث في الأرض فسادا)، وهو لا يريد غوايته بل حردا وغضبا عليه.

قال آخر: فهذا دعاء من موسى عليه السلام على فرعون وملئه بعد أن استنفذ كل الوسائل لدعوتهم، وهو يشبه دعاء نوح عليه السلام على قومه بعد ذلك الجهد العظيم الذي بذله، كما قال تعالى على لسانه: ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾ [نوح: 24]، وقال: ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾ [نوح: 28]،

قال آخر (2): وأخبر الله تعالى عن المنافقين ومواقفهم من القرآن الكريم، فقال:

__________

(1) تفسير المراغي (11/ 149)

(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 480)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/39)

﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 127]، أي فهؤلاء الذين يتخذون هذا الموقف اللئيم مع آيات الله، سيصرفها الله عنهم، كما انصرفوا هم عنها، فلا ينالون منها خيرا، ولا يجدون فيها هدى، فقد حجبهم الله عن مواقع رحمته، بعد أن أخذوا من آياته هذا الموقف، فأغمضوا أعينهم عنها، وجعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يستمعوا لها.

قال آخر: فهؤلاء المنافقون لانصرافهم عن القرآن الكريم ونفورهم منه عاملهم الله تعالى على مقتضى طبيعتهم، فصرف قلوبهم عن الحق، لأن التكليف يتطلب الطواعية والاختيار، فلذلك من رغب عن الحق رغب الحق عنه، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]، والزيغ الميل عن الاستقامة، ولازمه الانحراف عن الحق إلى الباطل.. وإزاغته تعالى إمساك رحمته وقطع هدايته عنهم، وهي إزاغة على سبيل المجازاة وتثبيت للزيغ الذي تلبسوا به أولا بسبب فسقهم المستدعي للمجازاة، كما في قوله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: 26].. وبالتالي ليست الإزاغة من الله بدئية، لأن الإضلال الابتدائي لا يليق بساحة قدسه تعالى (1).

قال آخر: وقد أخبر الله تعالى أن الجاحدين المعرضين عن الله، ستستقبلهم الشياطين، وتضللهم، لأن من لم يأو إلى الله، فسيأوي إلى أعدائه، كما قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان: 27 ـ 29]

الكذب

__________

(1) من وحي القرآن (22/ 182)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/40)

قال الشيخ: بورك فيكم.. فحدثونا عن ثمار الضلال.

قال أحدهم: أولها وأخطرها الكذب.. فالضلال يؤدي إلى الكذب والتكذيب.. فمن ضل عن الحق لا شك أنه سيكذّب به.. ومن كذّب بالحق لاشك أنه سيكذب عليه.

قال آخر: لقد ذكر الله تعالى أن من صفات الضالين التكذيب بآيات الله، ولهذا يقترن الكفر مع التكذيب في مواضع من القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 39]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [المائدة: 10]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [الحج: 57]، وقوله: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ [المؤمنون: 33]، وقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ [الروم: 16]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [الحديد: 19]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التغابن: 10]

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك فقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الآيات الكريمة التي تتحدث عن عاقبة الكذابين المكذبين، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران: 10 ـ 11]

القرآن.. والهداية الشاملة (2/41)

قال آخر (1): أي إن الذين جحدوا ما قد عرفوه من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء كانوا من بنى إسرائيل أم من كفار العرب أو من غيرهم في سائر العصور، لن تنجيهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار، ولا أولادهم الذين يتناصرون بهم في مهام أمورهم ويعولون عليهم في الخطوب النازلة من عذاب الله شيئا، وقد كانوا يقولون: ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ: 35]، فرد الله عليهم بقوله: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [سبأ: 37] وسيكونون يوم القيامة حطبا لجهنم التي تسعر بهم.

قال آخر (2): ثم ضرب لهم مثلا لينبههم إلى ما حل بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم جندا وأكثر عددا لعلهم يتعظون فقال: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [آل عمران: 11] أي إن صنيع هؤلاء في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وكفرهم بشريعته، كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام، ودأب من قبلهم من الأمم، كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم، فأهلكهم ونصر الرسل ومن آمن معهم، ولم يجدوا من بأس الله محيصا ولا مهربا، إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات.

قال آخر (3): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: 137]، أي إن أمر البشر في اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل، وما يلابس ذلك من الحرب والطعان والنزال والملك والسيادة يجرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة العامة.. والنظر

__________

(1) تفسير المراغي (3/ 104)

(2) تفسير المراغي (3/ 105)

(3) تفسير المراغي (4/ 75)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/42)

في أحوال من تقدمكم من الصالحين والمكذبين يهديكم إلى الطريق المستقيم، فإن أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبيل المكذبين فحالكم كحالهم.. وفي الآية تذكير لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وإرشاد لهم إلى أنهم بين عاملى خوف ورجاء، فهي على أنها بشارة لهم بالنصر على عدوهم إنذار بسوء العاقبة إذا هم حادوا عن سننه، وساروا في طريق الضالين ممن قبلهم، وعلى الجملة فالآية خبر وتشريع وتتضمن وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا.

الخداع

قال الشيخ: بورك فيكم.. فحدثونا عن ثمار الكذب.

قال أحدهم: أولها وأخطرها الخداع.. فالكاذب يتصور أن له القدرة على قلب الحقائق.. ولذلك ذكر الله تعالى عن المنافقين توهمهم ـ لفرط كذبهم على الله ـ أنهم يخادعونه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: 142 ـ 143]

قال آخر (1): أي إن المنافقين لجهلهم، وسذاجتهم، وقلة علمهم وعقلهم ومرضهم النفسي، وسوء تقديرهم يلجأون إلى الخداع، فيفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، ولا شك بأن الله لا يخادع؛ فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكنهم يظنون أن أمرهم كما راج عند الناس، وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا، فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة، وأن أمرهم يروج عنده، كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون

__________

(1) التفسير المنير (5/ 327)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/43)

له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ [المجادلة: 18]

قال آخر (1): ثم ذكر الله تعالى أنه سيجازيهم وفق ما اختاروا لأنفسهم، فقال: ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: 142] أي مجازيهم على خداعهم، وسمي ذلك مخادعة مشاكلة للفظ‍الأول، مثل ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 54].. أو وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم تطبق عليهم أحكام الشريعة في الظاهر، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، ولم يخلهم في الدنيا العاجلة من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم، وقد يخذلهم في الآخرة أمام الناس، فيعطون على الصراط‍نورا، كما يعطى المؤمنون، ثم يطفأ نورهم، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ [الحديد: 13]

قال آخر (2): ثم ذكر الله تعالى موقفهم من الصلاة، فقال: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ [النساء: 142] أي متباطئين متثاقلين؛ إذ لا إيمان يدفعهم إليها، ولا نية لهم فيها، ولا يعقلون معناها.. فلذلك يقومون إلى الصلاة كسالى من غير وعي ولا قوة ولا إيمان، لأنهم لا يريدون من الصلاة إلا الرياء، ليراهم الناس على حالة الصلاة، ليأخذوا بعضا من الثقة بذلك، ولا يذكرون الله الذي يذكره المؤمنون بشكل دائم مستمر في وعي كبير لعظمته وامتداده، لأنهم لا يحيون في أعماقهم روح الإيمان به، إلا بما يشبه الشبح؛ ولذلك فإنهم لا يذكرونه إلا قليلا من موقع انتهاز الفرصة لا من موقع الإيمان.

قال آخر: وقد روي في ذلك عن الإمام علي قوله: (من ذكر الله ـ عزوجل ـ في السر،

__________

(1) التفسير المنير (5/ 328)

(2) من وحي القرآن (7/ 516)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/44)

فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السر فقال الله عزوجل: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142]) (1)

قال آخر (2): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 62]، ففي الآية الكريمة دعوة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاستجابة إلى دعوة السلم التي يعرضها عليه الأعداء، وألا يرده عن قبول تلك الدعوة ما يكون عند القوم من نية للغدر، فالله سبحانه وتعالى سيكفي النبي والمسلمين سوء ما يفعلون.. ذلك أن هؤلاء الأعداء قد خانوا وغدروا، فتعرضوا لسخط الله وغضبه، فوق ما أخذهم الله به من سخط وغضب لكفرهم وشركهم بالله، أما النبي والمؤمنون، فقد اتقوا الله، ووفوا بالعهد الذي دعاهم الله إلى الوفاء به، فكان سبحانه وتعالى معهم، يؤيدهم، وينصرهم على عدوهم.. وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ [الأنفال: 62] أي يكفي أن يكون الله معك، يؤيدك، وينصرك.. ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 62].. فقد نصرك الله من قبل، ورد عنك بأس القوم الظالمين، فلم تغنهم كثرتهم من الله شيئا.. وقد نصرك الله كذلك بالمؤمنين، الذين لم ترهبهم كثرة العدو وقوته، بل لقد ألقوا بأنفسهم في حومة القتال، وهم على نية الاستشهاد في سبيل الله.. فكانوا جندا من جنود الله معك.

الافتراء

قال الشيخ: بورك فيكم.. فحدثونا عن ثمار الخداع.

قال أحدهم (3): أولها وأخطرها الافتراء.. لقد ذكر الله تعالى أهل هذه الهاوية، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ

__________

(1) لكافي، ج: 2، ص: 501.

(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 651)

(3) من وحي القرآن (5/ 287)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/45)

مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 23 ـ 24]، فهذه الآية الكريمة تذكر نموذجا من النماذج السلبية للتصرفات المنحرفة المتحدية التي يمارسها أهل الكتاب ضد الدعوات الإسلامية للموقف الواحد أمام القضايا المشتركة؛ فإذا كان هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب في معلوماتهم عنه، يؤمنون به، فإن هذا الإيمان يفرض عليهم الالتزام بأحكامه، باعتباره المرجع الأول والأخير لهم، ولكنهم لا يلتزمون ولا يتعاطفون مع الدعوة المخلصة إلى أن يكون هو الأساس في الحكم بينهم عندما يكون هناك خلاف ونزاع يبحث عن أساس للحل، فيعرضون عنه عصيانا وتمردا، مما يوحي بأن ارتباطهم به يمثل العصبية ولا يمثل الإخلاص للعقيدة، وبأنهم يستريحون إلى فكرة خاطئة، وهي أن النار لا تمس اليهودي إلا أياما معدودات، فليس هناك زمن طويل للعذاب فضلا عن الخلود فيه، فلا مشكلة صعبة من هذه الجهة، ولا موجب للانضباط في خط الطاعة في الدنيا على أساس التخلص من العذاب في الآخرة..

قال آخر (1): والقرآن الكريم يقرر بأن هذا افتراء وغرور، افتروه على الله وغروا به أنفسهم، تماما كمن يكذب ثم يقنع نفسه بصدق الكذبة على امتداد الزمن، فيتحمل نتائجها السيئة بدون شعور.. إن الحقيقة تفرض نفسها على علاقة الخالق بالمخلوقين، فليس هناك أحد أولى به من أحد، ليحصل شخص ما على امتياز دون آخر، أو شعب دون شعب، إنما القضية مسؤولية وطاعة، فمن حمل المسؤولية بصدق وأطاع الله بيقين، كان قريبا لله، مهما كان حجمه صغيرا في الجسم والموقع، ومن لم يكن كذلك كان بعيدا عن الله، مهما كان كبيرا

__________

(1) من وحي القرآن (5/ 288)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/46)

في حجمه وفي موقعه الاجتماعي في الحياة.

قال آخر (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: 103]، أي ما بحر الله بحيرة (2)، ولا سيب سائمة (3)، ولا وصل وصيلة (4)، ولا حمى حاميا (5)، أي ما شرع ذلك ولا أمر به وما جعله دينا لهم، وهذا رد وإبطال لما كان يفعله أهل الجاهلية في جاهليتهم.. ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [المائدة: 103] إذ يفعلون ما يفعلون ويزعمون أن الله يأمرهم بهذا.

قال آخر (6): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 144]، ففي الآية الكريمة بيان للأنعام التي سخرها الله للناس، وأباح لهم أكلها، وما كان للمشركين من ادعاءات وافتراءات على الله فيها.. فهذه الأنعام التي أحل الله أكلها، هي ثمانية أزواج، أي ثمانية متزاوجة، أي هي أزواج.. ذكر وأنثى.. من الضأن اثنين: ذكر وأنثى، ومن المعز اثنين: ذكر وأنثى، ومن الإبل اثنين: ذكر وأنثى، ومن البقر اثنين: ذكر وأنثى.. فهي أربعة ذكور، وأربع إناث.. الضأن، والمعز، والإبل، والبقر.. وما يندرج معها من فصائلها.. وهي التي أحل أكلها دون غيرها من الأنعام.

__________

(1) تفسير المراغي (7/ 44)

(2) أي الناقة التي يبحرون أذنها أي يشقونها شقا واسعا، وكانوا يفعلون بها ذلك إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى كما روى عن ابن عباس.

(3) الناقة التي تسيب بنذرها لآلهتهم فترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها شئ، ولا يجز صوفها ولا يحلب لبنها إلا لصيف.

(4) الشاة التي تصل أخاها، فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرا كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.

(5) الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن، فيقولون حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

(6) التفسير القرآني للقرآن (4/ 328)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/47)

قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [الأنعام: 144] إنكار على المشركين ما شرعوه من حل بعضها وحرمة بعضها، كما ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك في قوله: ﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ﴾ [الأنعام: 138]، وقال: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾ [الأنعام: 139].. فهذا هو حكم الله فيها.. الإباحة المطلقة. فمن أين جاءهم هذا القول الذي يقولونه فيها؟

قال آخر (2): ثم قال تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا﴾ [الأنعام: 144] وهو إنكار بعد إنكار.. فبعد أن أنكر الله عليهم أنهم ليس معهم علم من كتاب سماوى بهذا الذي يقولونه، أنكر عليهم أنهم كانوا ممن تلقوا هذا العلم من الله أو كانوا شهودا وحضورا عند تلقيه.. وإذن فلا حجة معهم على هذه المفتريات التي يفترونها على الله.. وإذن فهم مبطلون فيما يقولون في هذه الأنعام، وهم بهذا الباطل ظالمون معتدون، يضلون أنفسهم، ويضلون غيرهم.. وإذن فليحملوا أوزارهم وأوزارا مع أوزارهم، ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)﴾ [الأنعام: 144]

قال آخر (3): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: 105]، أي إنما يتخرص الكذب ويتقول الباطل، الذين لا يصدقون بحجج الله وآياته التي نصبها في الكون، وأقامها أدلة على وجوده ووحدانيته، لأنهم لا يرجون على الصدق ثوابا، ولا يخشون على الكذب عقابا.

قال آخر (4): وأخبر تعالى أن أكبر الظلم افتراء الكذب على اللّه وعلى النبيين وعلى

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 329)

(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 329)

(3) تفسير المراغي (14/ 144)

(4) من وحي القرآن (6/ 154)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/48)

الصالحين، فقال: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [آل عمران: 93 ـ 94]، أي أن الله لم يحرم على بني إسرائيل شيئا قبل نزول التوراة، بل كانت الأطعمة كلها حلالا منذ عهد إبراهيم حتى عهد يعقوب الذي هو إسرائيل، الذي منع نفسه من بعض الأطعمة لأنه يعافها أو يتضرر منها لا على أساس التحريم الشرعي، فإنه أعظم قدرا من أن يحرم على نفسه شيئا قد أحله الله له، وهكذا استمرت الشريعة قبل نزول التوراة.

قال آخر (1): ولما نزلت التوراة حرمت بعض الأشياء عقوبة لهم على ما قاموا به من بعض المعاصي، كما أشار إليه الله سبحانه في قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [النساء: 160]، وحرمت عليهم أشياء أخرى منها ما ذكره الله في قوله: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [الأنعام: 146]، ولم يرد في التوراة تحريم لحم الإبل، فكيف يدعون تحريمها وينكرون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حليتها.

قال آخر (2): ثم أطلق التحدي في وجوههم: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: 93]، ولكنهم لم يثبتوا أمام التحدي لأنهم يعرفون نتيجة ذلك في إظهار كذبهم وزيف دعاويهم.. وهذا أسلوب لا بد من مراعاته واتباعه مع الناس الذين ينسبون إلى الشريعة تحليل شيء غير موجود فيها، أو ينكرون وجود بعض العقائد الباطلة في كتبهم،

__________

(1) من وحي القرآن (6/ 155)

(2) من وحي القرآن (6/ 155)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/49)

وهي موجودة فيها، وذلك كبعض الملحدين الذين يتحركون في وضع سياسي واقتصادي معين؛ فإذا تحدث إليهم متحدث بما عندهم من ذلك، وخافوا أن تعطل هذه القضايا بعض خططهم وأهدافهم، أنكروا وجودها اعتمادا على أن الناس لا يقرؤون، أو أنهم لا يصلون إلى هذه الكتب، فيمكن للعاملين في سبيل الدعوة إلى الله أن يطلبوا منهم إبراز كتبهم أمام الناس ليظهروا ما فيها من شؤون العقيدة في عالم الإلحاد والإيمان، ليبرز من ذلك زيفهم وبطلان أساليبهم الخادعة؛ فإذا وضحت الحقيقة من خلال ذلك، أو من خلال هروبهم عن إظهارها، فلا بد من أن يقفوا وقفة الصدق أمام الحقيقة الواضحة، ﴿فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [آل عمران: 94] الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون الحقيقة والناس الذين يريدون الارتباط بالحقيقة على أساس الحجة والبرهان.

قال آخر (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: 48 ـ 50]، وعدم مغفرة الشرك لأن الدين إنما شرع لتزكية النفوس وتطهير الأرواح وترقية العقول، والشرك ينافى كل هذا، لأنه منتهى ما تهبط إليه العقول، ومنه تتولد سائر الرذائل التي تفسد الأفراد والجماعات، فبه يرفعون من دونهم أو من هم مثلهم إلى مرتبة التقديس والخضوع لهم، باعتبار أن السلطة العليا بأيديهم، وأن إرضاءهم وطاعتهم هو إرضاء لله وطاعة له، وبالتوحيد يعتق المرء من رق العبودية لأحد من البشر أو لشئ من الأشياء السماوية أو الأرضية، ويكون حرا كريما لا يخضع إلا لمن خضعت لسننه الكائنات، بما أقامه

__________

(1) تفسير المراغي (5/ 58)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/50)

من ربط الأسباب بالمسببات.

قال آخر (1): ولذلك، فإنه مهما عمل المشرك من الطيبات، فإن روحه تبقى مظلمة بالعبودية والخضوع لغير الله، ومهما أذنب الموحدون، فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم، إذ خيرهم يغلب شرهم، ولا يبعد بهم الأمد وهم في غفلة عن ربهم كما قال تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]، فهم يسرعون إلى التوبة ويتبعون السيئة بالحسنة حتى يذهب أثرها من النفس، وذلك هو غفرانها.

قال آخر (2): ولذلك عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116] أي ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده الذين أذنبوا، ومشيئة الله تعالى تكون وفق حكمته، وعلى مقتضى سنته في خليقته، وقد جرت سنته بألا يغفر الذنوب التي لا يتوب صاحبها، ولا يتبعها بالحسنات التي تزيل آثارها من نفس فاعلها.

قال آخر (3): ثم قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48] أي ومن يجعل لغير الله شركة مع الله قيوم السموات والأرض ـ سواء أكانت الشركة بالإيجاد أو بالتحليل والتحريم ـ فقد اخترع ذنبا عظيم الضرر، تستصغر في جنب عظمته جميع الذنوب والآثام، فهو جدير بألا يغفر، وما دونه قد يمحى بالغفران.

ب. الاستعلاء وثماره

بعد أن استمعت إلى هذه الأحاديث سرت إلى محل آخر، حيث رأيت جمعا يلتفون حول شيخ، وهو يقول لهم: لا حرج عليكم أن تعبروا بـ[أنا] عن أنفسكم.. لكن احذروا أن تقتدوا بإبليس أو النمروذ في التعبير بها.. فأنا للتعريف، وليست للاستعلاء والعجب

__________

(1) تفسير المراغي (5/ 59)

(2) تفسير المراغي (5/ 59)

(3) تفسير المراغي (5/ 59)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/51)

والكبر.

قال أحدهم: صدقت.. فقد ضرب القرآن الكريم النماذج عن هذه الأنا الآثمة.. وأولها وسابقها إبليس.. ذلك الذي رفض طاعة الله بالسجود لآدم، فعندما قال الله له: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12]،

قال آخر (1): فقد جعله انشغاله بحبه لنفسه ينظر إلى قوة النار، ولم يلتفت إلى الخصوصيات الروحية والمعنوية المتناسبة مع الدور الذي أوكله الله لآدم عليه السلام، بالإضافة إلى خصائص التراب في عملية الإنتاج الزراعي وفي بناء الأبنية ونحو ذلك، وهكذا كانت غوايته منطلقة من غرقه في مستنقع أنانيته.

قال آخر (2): ومثل ذلك أخبر الله تعالى عن ﴿الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258]، فالآية الكريمة تضرب المثل لمن آمن بالله فكان الله وليه، يخرجه من الظلمات إلى النور، ومن كفر فكان الطاغوت وليه، يخرجه من النور إلى الظلمات.. ومثل الأول نجده على أكمل صورة وأتمها في إبراهيم عليه السلام، كما نجد مثل الثاني في هذا الذي آتاه الله الملك، وغمره بالنعم، فاستقبلها بالجحود والكفران، والإغراق في البهت والضلال.. ولم يذكر القرآن اسم هذا الإنسان المتمرد على الله، ولم يدل عليه، لأنه ساقط من حساب الإنسانية، إذ باع إنسانيته للشيطان، وأسلمها للطاغوت.. ثم إنه لا ضرورة لذكره، حتى لا يتعرف عليه أحد، فتصيبه عدواه ولو من بعيد، كما تصيب الرائحة الخبيثة بالأذى كل من

__________

(1) من وحي القرآن (10/ 42)

(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 322)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/52)

يمر به حامل الجيف.. ثم لمن أراد أن يعرف وجه هذا الشر، وحامل هذا المنكر فإن التاريخ يقول إنه (النمرود) ملك كنعان.. وكم في الناس من نمرود؟

قال آخر (1): والذي تعرضه الآية الكريمة هنا، وتحرص على كشفه وتجليته، وهو هذا الصدام الفكرى بين منطق الحق وسفاهة الباطل، بين نور الإيمان وهداه، وظلام الشرك وضلاله.. فهذا الإنسان الذي فضل الله عليه وأوسع له في فضله، ومكن له في الأرض، قد غره ما بيده من سلطان، فكفر بأنعم الله، ثم لج به الكفر فحاد الله ورسوله، وادعى لنفسه الألوهية.. والقرآن الكريم يشير بهذا إلى السذاجة التي يقع فيها هؤلاء المتعاظمين بأنفسهم حين يصدقون أنهم ـ حقيقة ـ آلهة ما دام الملك بأيديهم ورقاب الخلق بين أيديهم يقتلون من يشاءون ويحيون من يريدون بدون معارضة ولا محاسبة.

قال آخر: وهذا التعاظم يحجب عن أعينهم مظاهر القصور الكثيرة التي تحيط بجميع ذواتهم، ولهذا قبل هذا الملك المناظرة مع إبراهيم عليه السلام لأنه كان يظن أن ألوهيته أمر بديهي لا يناقش فيه، وتصوير دهشته وحيرته عندما واجهه إبراهيم عليه السلام بالشمس يدل على أنه لم يكن يراها كما يراها سائر الناس لأنه كان مشغولا بنفسه، ولا يرى غيره إلا أصفارا يعكفون على التسبيح له.

قال آخر: والقرآن الكريم يذكر نموذجا آخر لتعاظم الأنا يفصل في ذكره تفصيلا لم يحظ به اسم كافر غيره، هو فرعون حيث ذكر اسمه في القرآن الكريم في سبعة وستين موضعا، وهذا النموذج تنطبق عليه نفس صفات النموذج السابق إلا أن القرآن الكريم يفسر سبب مرضه، وينص عليه في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 322)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/53)

فَاسِقِينَ﴾ [الزخرف: 54]، ففسق قومه وخفة عقولهم وطاعتهم المطلقة له وقابليتهم لألوهيته هي التي جعلته يصدق حقيقة أنه إله ينبغي أن يعبد، ولهذا كان يصيح فيهم دائما بخطبة واحدة تكفي مبررا لأي أمر يصدره هي: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: 24]، وعندما جاءه موسى عليه السلام يدعوه إلى الله ويعرفه بأنه رسول رب العالمين تعجب أن يكون هناك إله غيره فسأله: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 23]

قال آخر: وعندما أراهم موسى عليه السلام كل الحجج نهض فرعون يصيح في قومه وهو يتصور أن كلماته وحدها تكفي لتقرير ما يقول ونسف جميع معجزات موسى عليه السلام: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [القصص: 38]، وهذه هي السذاجة التي يتحلى بها كل من يعظم أناه ويمحو غيره.. لقد كان يتصور أنه إن وجد إله آخر فلن يعدو كونه صاحب سرير مثل سريره أو تاج مثل تاجه، مثلما تتصور الخلائق جميعا من أصحاب الملل المنحرفة آلهتها عندما تطبعها بطابع القومية والعرقية والأرض وتغرق ربها في مستنقعات من الأساطير لتعبد ذاتها من خلال ربها، وتنزل ربها من علياء وجوده ليرفع رايتها ويصيح بشعاراتها ويفكر بتفكيرها.

العجب

قال الشيخ: بورك فيكم.. فحدثوني عن أول ثمرات الاستعلاء.

قال أحدهم (1): إنه العجب.. فهو بذرة الاستعلاء وثمرتها.. وقد اعتبره الله تعالى سبب الهزيمة الأكبر، فقال: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ

__________

(1) تفسير المراغي (10/ 86)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/54)

كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: 25]، أي لقد نصركم الله أيها المؤمنون في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم في صعيد واحد للطعان والنزال إحقاقا للحق وإظهارا لدينه.. إما نصرا كاملا وهو الأكثر وإما نصرا مشوبا بشئ من التربية على ذنوب اقترفوها كما في أحد، إذ نصرهم أولا ثم أظهر عليهم العدو لمخالفتهم أمر القائد الأعظم في أهم أوامر الحرب وهو حماية الرماة لظهورهم، وكما في حنين من الهزيمة في أثناء المعركة والنصر التام في آخرها.. ثم ذكر سبب هزيمتهم يوم حنين، بعد أن نصرهم فيها، وهو اليوم الذي أعجبتهم فيه كثرتهم.. أي فكانت الهزيمة عقوبة على هذا الغرور والعجب وتربية للمؤمنين حتى لا يغتروا بالكثرة مرة أخرى، فإنها ليست إلا أحد الأسباب المادية الكثيرة المؤدية للنصر.

قال آخر (1): وذكر نموذجا آخر له، وهو قصة صاحب الجنتين، الذي قال لصاحبه المؤمن باستعلاء وتكبر: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ [الكهف: 33 ـ 36]، أي فقال لصاحبه المؤمن حين حاوره وراجعه الحديث، مذكرا له بالإيمان بالله والبعث والقيامة: أنا أكثر منك مالا كما ترى من جناتى وزروعى المختلفة، وأعز عشيرة ورهطا تقوم بالذب عنى ودفع خصومتى، وتنفر معى عند الحاجة إلى ذلك.. ثم زاد فخرا على صاحبه المسلم وأراه عيانا ما يتمتع به من المناظر البهيجة في تلك الجنان

__________

(1) تفسير المراغي (15/ 149)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/55)

التي لا تفنى، وقال حين عاين ما فيهما من أشجار وثمار وزروع وأنهار مطردة: ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا ولا تخرب، كما قال وهو شاك في المعاد إلى الله والبعث والنشور: ما أظن أن يوم القيامة آت كما تقولون، وقد كان في كل ذلك ظالما لنفسه، إذ وضع الشيء في غير موضعه، فقد كان أليق به أن يكون شاكرا لتلك: النعم، متواضعا لربه، لا أن يكون كافرا به، منكرا لما جاء به الوحي، وأقرته جميع الشرائع.

قال آخر (1): فقد لحقته الخسارة من وجهين.. ظنه أن تلك الجنة لا تهلك ولا تبيد مدى الحياة.. وظنه أن يوم القيامة لن يكون.. ثم تمنى أمنية أخرى كان في شك منها فقال: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ [الكهف: 36] أي ولئن كان معاد ورجعة إلى الله ليكونن لى هناك أحسن من هذا الحظ عند ربى، والذي جرأه على هذا الطمع وعلى تلك اليمين الفاجرة اعتقاده أن الله إنما حباه بما حباه به في الدنيا لما له من كرامة لديه، ولما فيه من مزايا استحق بها أن ينال ما نال، ومثل ذلك قوله تعالى حكاية عن الكافر: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ [فصلت: 50]

قال آخر (2): وذكر نموذجا آخر له، فقال: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 49]، أي إذا أصاب الإنسان المشرك وغيره ضر من فقر أو مرض أو غيرهما، تضرع إلى الله عز وجل، واستعان به لكشف الضر عنه، وإذا أعطاه الله نعمة من مال أو جاه أو غيرهما، بغى وطغى، وقال: إنما أعطيته على علم ومهارة مني بوجوه المكاسب، أو لما يعلم الله تعالى من استحقاقي وتأهلي له.. والحقيقة: ليس الإعطاء لما ذكرت، وليس الأمر كما زعمت، بل هو

__________

(1) تفسير المراغي (15/ 150)

(2) التفسير المنير (24/ 31)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/56)

محنة لك، واختبار لحالك، وقد أنعمنا عليك بهذه النعمة لنختبرك فيما أنعمنا عليك، أتشكر أم تكفر؟ أتطيع أم تعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك استدراج لهم من الله، وامتحان لما عندهم من الشكر أو الكفر، فلهذا يقولون ما يقولون، ويدعون ما يدعون.

قال آخر (1): ثم بين أن هذه مقالة ليست وليدة أفكارهم بل سبقهم بها كثير ممن قبلهم فقال: ﴿قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [الزمر: 50 ـ 51]، أي قد زعم مثل هذا الزعم وادعى مثل هذه الدعوى كثير ممن سبقهم من الأمم، فلم يغن عنهم شيئا ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا ويجمعون من حطامها حين جاءهم أمر ربهم على تكذيبهم رسله واستهزائهم بهم.. ﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ [الزمر: 51] أي فحل بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال، فعوجلوا بالخزي في الدنيا كالخسف الذي لحق بقارون، والصاعقة التي نزلت بقوم لوط، وسيصيبهم النكال الدائم في الآخرة.. ثم أوعد سبحانه مشركى قومه صلى الله عليه وآله وسلم على ما سينالهم في الدنيا والآخرة فقال: ﴿وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ [الزمر: 51] أي والذين كفروا بالله من قومك وظلموا أنفسهم سيصيبهم أيضا وبال السيئات التي اكتسبوها، كما أصاب الذين من قبلهم، فأصابهم القحط سبع سنين متوالية وقتل صناديدهم يوم بدر، وأسر منهم العدد الكثير.. ﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [الزمر: 51] أي وما هم بفائتين الله هربا يوم القيامة، بل مرجعهم إليه ويصنع بهم ماشاء من العقوبة.

__________

(1) تفسير المراغي (24/ 19)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/57)

قال آخر (1): ومثل ذلك ذكر مآل أمر المعجبين بأنفسهم في الدنيا، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]، أي أن الله سبحانه بعزته وحكمته، هو الذي أخرج الذين كفروا وظلموا واعتدوا من أهل الكتاب من ديارهم، ومكن للمسلمين منهم، ومن ديارهم.. والمراد بهم هنا جماعة من جماعات اليهود، التي كانت تسكن المدينة، وهم بنو النضير الذين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم المدينة، عقد معهم عقدا، على أن يقفوا موقفا حياديا منه ومن أصحابه، فلا يقاتلوه، ولا يقاتلوا معه، وقد كانوا من هذا العقد على دخل وخيانة.. وكانوا يتربصون بالنبي والمسلمين الدوائر.. حتى إذا كانت وقعة أحد، ورأوا فيها هزيمة المسلمين، تحركت نوازع الغدر في صدورهم، فسعى كبيرهم كعب بن الأشرف إلى عقد حلف مع قريش، ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وجاء إلى مكة ومعه أشراف قومه، يعرض على قريش أن يدخل معها هو وقومه بنو النضير في حلف لحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه إذا جاءت قريش إلى المدينة، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لحربهم، كان بنو النضير جيشا محاربا مع قريش، يضرب في ظهور المسلمين، على حين تضرب قريش في وجوههم.

قال آخر (2): وكما كان جزاء كعب بن الأشرف ـ رأس الفتنة ـ القتل، كان جزاء قومه النفي من الأرض.. وسمى هذا الإجلاء حشرا، لأنه أشبه بالحشر الموعود يوم القيامة، حيث وقع عن قهر، ولم يقع عن رغبة منهم.. ثم إنه كان إجلاء عاما، لم يدع أحدا منهم، كما

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 849)

(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 850)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/58)

لم يدع حشر القيامة أحدا ممن في القبور.. ثم إنه من جهة ثالثة كان جماعيا فوريا، وليس جماعة جماعة، وزمنا بعد زمن..

قال آخر (1): وقوله تعالى: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ [الحشر: 2].. أي فطلع عليهم قدر الله فيهم من حيث لم يقدروا، فقد كانوا يحسبون أنهم من حصونهم في أمن من كل يد تنالهم، وخاصة يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الذين كانوا يرون أنهم لن ينالوا منهم منالا أبدا، وهم في داخل هذه الحصون التي لا تنال.. فكان من تقدير الحكيم العليم أن يبطل حساب هؤلاء الأشقياء، ويفسد تدبيرهم، ويختل تقديرهم، فيكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هم الذين تتداعى بين أيديهم هذه الحصون.

قال آخر (2): وقوله تعالى: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ [الحشر: 2] إشارة إلى ما كان من تدبير الله سبحانه وتعالى، لإبطال عمل هذه الحصون، فقد قذف الله سبحانه الرعب والفزع الشديد في قلوب المتحصنين بها، فبدت لهم هذه الحصون الحصينة وكأنها بيوت من زجاج أو ورق، فلم يكن منهم حين رأوا المؤمنين يحاصرونهم إلا أن يستسلموا من غير قتال، أو اعتداد بتلك الحصون..

قال آخر (3): وقوله تعالى: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحشر: 2] أي أن هذه الحصون التي كانت بمكان الإعزاز والإعجاب من نفوسهم، قد هانت عليهم، وخفت موازينها في أعينهم، بعد أن رأوا ـ بما امتلأت به قلوبهم من رعب ـ أنها لا ترد عنهم عدوا، ولا تدفع مغيرا، فأخذوا يخربونها بأيديهم، ويفتحون معاقلها للمسلمين، كما تركوا للمسلمين أن يدخلوها عليهم، وأن يفتحوا مغالقها، ويطلعوا على مسالكها.. وهذا هو

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 851)

(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 851)

(3) التفسير القرآني للقرآن (14/ 851)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/59)

معنى خرابها، الذي يبدو في تعطيلها، وتعطيل وظيفتها التي أعدت لها.

قال آخر (1): وقوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2] هو إلفات إلى هذا الحدث، وما فيه من دلالات على قدرة الله سبحانه، وعلى تدبيره المحكم الذي لا يغالب، وهذا ما لا يراه إلا أصحاب الأبصار النافذة إلى حقائق الأمور، وإلى مواقع العبرة والعظة منها.

قال آخر (2): ومثل ذلك ذكر مآل أمر المعجبين بأنفسهم في الآخرة، فقال: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا﴾ [الكهف: 103 ـ 106]، أي قل: أيها الرسول لهؤلاء الذين يجادلونك بالباطل: هل نخبركم بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبغون به ثوابا وفضلا، فنالوا به هلاكا وبوارا كالمشترى سلعة يرجو بها ربحا، فخاب رجاؤه، وخسر بيعه، ووكس في الذي رجا فضله؟

قال آخر (3): ثم بين السبب في بطلان سعيهم، وهو أن هؤلاء الأخسرين أعمالا هم الذين كفروا بالدلائل المنبثة في الآفاق والأنفس التي تدعو إلى توحيده، وكفروا بالبعث والحساب وما يتبع ذلك من أمور الآخرة، ومن ثم حبطت أعمالهم، فلم يكن لها ثواب ينفع أصحابها، بل لهم منها عذاب وخزى طويل، ولا تثقل بها موازينهم، لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة وليس لهم منها شئ.

قال آخر (4): ثم بين مآلهم بسبب كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 851)

(2) تفسير المراغي (16/ 23)

(3) تفسير المراغي (16/ 24)

(4) تفسير المراغي (16/ 24)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/60)

بذلك الكفر فقال: ﴿ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتى ورسلى هزوا﴾ أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم واتخاذهم رسل الله ومعجزاتهم التي أظهرها على أيديهم هزؤا وسخرية، فلم يكتفوا بالكفر بها، بل ارتكبوا هذه الحماقة التي هي أعظم أنواع الاحتقار.

قال آخر (1): وهؤلاء أحد فريقين.. أولهما الذين يخضعون للتوجيه السيئ والتخطيط الشرير، فيحملون الفكر الشيطاني تحت ووطأة أجواء الخديعة والتضليل، يقدسونه ويعظمونه ويرون فيه الخلاص كل الخلاص، والنجاح كل النجاح، لأنهم عاشوا تحت ضغط هذا الفكر وفي دائرة الحصار النفسي التي أحاطت بهم من كل جانب، فلم تترك لهم نافذة يطلون منها على الاحتمال المضاد والفكر الآخر.. وثانيهما الذين يعرفون الحق، ولكنهم يتمردون عليه، ويعملون على أساس الانحراف عنه لأنه لا يتفق مع أطماعهم، ولا يخضع لشهواتهم، ولا يحقق لهم امتيازاتهم في الحياة، لذلك يحاولون أن يلتمسوا لأنفسهم طريقا آخر، ويتبنون فكرا آخر يتكلفون فيه الإيحاء لأنفسهم لإقناعها بأنه سبيل النجاة، لأنه يحقق لهم أمانيهم وأحلامهم في الحياة الرخية السعيدة، والعيش العزيز الكريم، ويبقون يلفون ويدورون حتى تتعمق الفكرة داخل قناعاتهم من موقع الغفلة العميقة عن حركة الحقيقة في داخلها.

الكبر

قال الشيخ: بورك فيكم.. فحدثوني عن ثمار العجب.

قال أحدهم: أخطر ثماره الكبر.. فالتكبر هو إظهار الإنسان إعجابه بنفسه بصورة

__________

(1) من وحي القرآن (14/ 396)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/61)

تجعله يحتقر الآخرين وينال من ذواتهم ويترفع عن قبول الحق منهم.

قال آخر: ولذلك، ذكر الله تعالى استحالة اجتماع الكبر مع الإيمان والتقوى والاستقامة، وقد قال في وصف عباده المقربين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف: 206]، وقال: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: 49]، وقال: ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء: 19]، وقال: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة: 15]، وقال: ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت: 38]، وقال في وصف عباد الرحمن: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]

قال آخر (1): بل أخبر أن سبب اللعن والطرد والإعراض عن الله هو الكبر، وضرب المثل على ذلك بإبليس، فقال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34]، أي أن الملائكة عليهم السلام انسجموا مع هذا الأمر الإلهي لأنهم عباده المكرمون الذين ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 27] أما إبليس، فإن الأمر يختلف لديه، لأنه لا يعيش هذا الجو الروحي إزاء أوامر الله ونواهيه، بل القضية عنده هي ما إذا كانت طاعة الله منسجمة مع ذاتيته ونظرته إلى نفسه، أو غير منسجمة، وكان السجود لآدم عليه السلام لا يرضي غروره الذاتي وشعوره بالاستعلاء أمام هذا المخلوق الجديد، على أساس عنصري، كما توحي به الآيات القرآنية

__________

(1) من وحي القرآن (1/ 239)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/62)

الأخرى التي تحدثت عن القصة بإسهاب، فما كان منه إلا أن تمرد وأبى واستكبر وامتنع عن الطاعة.. وكان من الكافرين الذين لم يكفروا بالله مباشرة، ولكنهم يعيشون روحية الكفر وممارسته في التمرد على الله، مما يجعل حياتهم تجسيدا للكفر بكل مظاهره ونتائجه.. ونجد في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تتحدث عن الكفر العملي بالقوة نفسها التي تتحدث فيها عن الكفر العقدي، باعتبار أنهما يلتقيان في النتيجة الطبيعية، وهي التمرد على الله والبعد عن الخط المستقيم الذي أراد الله للحياة أن تسير فيه.. ذلك أن خطورة الكفر لا تقتصر على ما تمثله من إنكار لله ولرسله واليوم الآخر، بل تكمن في الانطلاق بعيدا عن عبادة الله وإرادته في بناء الحياة على أساس شريعته.

قال آخر (1): ولذلك يذكر الله تعالى أن الكبر هو الحجاب الأعظم للهداية، وقد قال في ذلك: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 146]، ففي هذه الآية الكريمة تحذير للمتكبرين الذين يتخذون هذا الموقف اللئيم مع آيات الله، بأن الله سيصرفها عنهم، كما انصرفوا هم عنها، فلا ينالون منها خيرا، ولا يجدون فيها هدى، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 127] لقد حجبهم الله عن مواقع رحمته، بعد أن أخذوا من آياته هذا الموقف، فأغمضوا أعينهم عنها، وجعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يستمعوا لها إذ كذبوا بها قبل أن ينظروا فيها ويعرفوا وجهها.. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 146]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 480)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/63)

قال آخر: وقد ضرب الله تعالى المثل على ذلك بما حصل من أقوام الأنبياء عليهم السلام وإعراضهم عنهم بسبب كبرهم وعتوهم وطغيانهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: 87]

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره عن ثمود قوم صالح عليه السلام، حيث حكى هذا المشهد المعبر عن كبريائهم وعتوهم: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الأعراف: 75 ـ 76]

قال آخر (1): فالآية الكريمة تقسم قوم صالح عليه السلام إلى مستضعفين ومستكبرين، حيث استجاب له المستضعفون، لأنهم رأوا في دعوته الحقيقة الصافية التي كانوا يبحثون عنها، والروح الحرة التي تنقذهم من عبوديتهم لضغوط المستكبرين، والإرادة القوية التي تمنحهم قوة الرفض لحالة الاستضعاف التي يفرضها عليهم الأقوياء.. وهكذا آمنوا به وساروا معه.. أما المستكبرون، فقد واجهوه بالتكذيب والكفر والتمرد من موقع الاستعلاء، لأنهم رأوا في هذه الدعوة نسفا لامتيازاتهم الاستكبارية، لأنها تدعو للمساواة بين الناس، باعتبارهم متساوين في عبوديتهم لله، وفي إنسانيتهم وفي خصائصها البشرية، بعيدا عن امتيازات الغنى والقوة والنسب والجاه، فتلك أمور لا تعتبر قيمة كبيرة في حساب الإيمان، بل القيمة الكبيرة هي للتقوى وللعمل الصالح المنتج، على مستوى قضايا الحياة، وهكذا وقفوا في وجه هذه الدعوة، ولكنهم كانوا يشعرون بالرعب والذعر

__________

(1) من وحي القرآن (10/ 172)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/64)

من خلال تنامي قوة صالح عليه السلام في أوساط الفئات المحرومة الفقيرة من المستضعفين، مما قد يترك أثرا سلبيا على مستوى امتيازاتهم وسلطاتهم المستقبلية، باعتبار أن المستضعفين يمثلون القوة الحقيقية التي تدعم كل أوضاعهم السياسية والاقتصادية والعسكرية، فإذا انفصلوا عنهم واتبعوا النبي الجديد، فمعنى ذلك أن القوة ستنتقل إلى موقع آخر، مما يجعلهم في موقف الضعف والنبي في موقف القوة، ولذلك فقد حاولوا إثارة حالة من التشكيك عند المستضعفين المؤمنين ليقودوهم ـ بعد ذلك ـ إلى التمرد والكفر.

قال آخر (1): وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن صالحا عليه السلام كان ذا جاه في قومه، وأن سفاءهم لم يواجهوه مواجهة بالتجريح والتكذيب، بل كان ذلك منهم للذين آمنوا من مستضعفيهم.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا﴾ [هود: 62] فهو قد كان في مكانة ظاهرة في قومه، وفي منزلة عالية من الاحترام والتقدير.. فلما جاءهم يدعوهم إلى الله، تغيرت نظرتهم إليه، وساءت حاله عندهم.

قال آخر (2): ومثل ذلك أخبر عن مدين قوم شعيب عليه السلام، وأن كبرياءهم حالت بينهم بين اتباع نبيهم، كما قال تعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ [الأعراف: 88]، أي قال أشراف قومه الذين استكبروا عن الإيمان وعن اتباع ما أمرهم به وما نهاهم عنه: قسما لنخرجنك يا شعيب أنت ومن آمن معك ـ من بلادنا كلها ـ بغضا لكم ودفعا لفتنتكم، أو لترجعن إلى ديننا ومعتقداتنا التي ورثناها عن آبائنا، وتدخلن في زمرتنا وتندمجن في غمارنا.. وليكونن أحد الأمرين: إخراجكم من البلاد، أو عودتكم في الملة،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 423)

(2) تفسير المراغي (9/ 4)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/65)

فاختاروا لأنفسكم ما ترونه أرفق بكم وأوفق لكم.. ﴿قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ [الأعراف: 88] أي أتأمروننا أن نعود في ملتكم وتهدوننا بالنفي من أوطاننا، والإخراج من ديارنا إن لم نفعل ولو كنا كارهين لكل من الأمرين؟.. إنكم جهلتم أن الدين عقيدة وأعمال يتقرب بها إلى الله الذي شرعها لتكميل الفطرة البشرية، كما جهلتم أن حب الأرض لا يبلغ منزلة حب الدين، فظننتم في وفيمن آمن معى أننا نؤثر التمتع بالإقامة في الوطن، على مرضاة الله بالتوحيد المطهر من أدران الخرافات، وبالفضائل المهذبة للنفوس والمرقية لها في معارج الكمال حتى تتم لنا سعادة الدنيا والآخرة.

قال آخر (1): وهذا التعبير ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [الأعراف: 88] لا يدل على أن شعيبا عليه السلام كان قبل ذلك في صفوف الوثنيين، ولكن لكونه لم يكن مكلفا بالتبليغ، كان يسكت على أعمالهم، وكانوا يظنون أنه كان على دينهم، بالإضافة إلى أن هذا الخطاب لم يكن موجها إلى شعيب عليه السلام وحده، بل يشمل المؤمنين من أتباعه ـ أيضا ـ ويمكن أن يكون هذا الخطاب لهم.

قال آخر (2): ومثل ذلك أخبر الله تعالى عن كبر آل فرعون، ورفضهم دعوة موسى عليه السلام بسبب ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: 130 ـ 133]، أي قال قوم فرعون

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (5/ 115)

(2) التفسير الميسر (ص 166)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/66)

لموسى عليه السلام: أي آية تأتنا بها، ودلالة وحجة أقمتها لتصرفنا عما نحن عليه من دين فرعون، فما نحن لك بمصدقين.. فأرسلنا عليهم سيلا جارفا أغرق الزروع والثمار، وأرسلنا الجراد، فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم، وأرسلنا القمل الذي يفسد الثمار ويقضي على الحيوان والنبات، وأرسلنا الضفادع فملأت آنيتهم وأطعمتهم ومضاجعهم، وأرسلنا الدم فصارت أنهارهم وآبارهم دما، ولم يجدوا ماء صالحا للشرب.. هذه آيات من آيات الله لا يقدر عليها غيره، مفرقات بعضها عن بعض، ومع كل هذا ترفع قوم فرعون، فاستكبروا عن الإيمان بالله، وكانوا قوما يعملون بما ينهى الله عنه من المعاصي والفسق عتوا وتمردا.

قال آخر (1): ومثل ذلك أخبر الله تعالى عن مظهر من مظاهر كبر فرعون وطغيانه، فقال: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 38 ـ 40]، أي قال فرعون لأشراف قومه: يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري يستحق العبادة، فأشعل لي ـ يا هامان ـ على الطين نارا، حتى يشتد، وابن لي بناء عاليا؛ لعلي أنظر إلى معبود موسى الذي يعبده ويدعو إلى عبادته، وإني لأظنه فيما يقول من الكاذبين.. واستعلى فرعون وجنوده في أرض مصر بغير الحق عن تصديق موسى واتباعه على ما دعاهم إليه، وحسبوا أنهم بعد مماتهم لا يبعثون.. فأخذنا فرعون وجنوده، فألقيناهم جميعا في البحر وأغرقناهم، فانظر ـ أيها الرسول ـ كيف كان نهاية هؤلاء

__________

(1) التفسير الميسر (ص 390)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/67)

الذين ظلموا أنفسهم، فكفروا بربهم؟

قال آخر (1): وهذا الأمر الذي أصدره فرعون إلى هامان إنما هو على سبيل الاستهزاء والسخرية، والإمعان في تكذيب موسى عليه السلام.. فهو يقرر لقومه الواقع الذي يعيشون فيه معه، وهو أنه الإله ابن الآلهة: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38] فهو الذي يفكر للقوم، ويولى وجوههم إلى الإله الذي يعبدونه، وقد فكر وبحث، ونظر في كل متجه فلم يجد لهم إلها غيره.. وبما أن موسى عليه السلام يقول عن إله آخر.. فأين هو هذا الإله؟ لو كان في الأرض، فأى أرض هى؟ إنه لا آلهة على الأرض غير فرعون! أم ترى هو في السماء؟ السماء ليست بعيدة!! وإذن ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [القصص: 38].. فهو في حقيقته لا يبحث عن إله يدين له هو وقومه، فهو إله لا يدين لآلهة غيره، وقومه لا يعرفون لهم إلها سواه.. وإنما يبحث عن إله موسى، الذي يأبى أن يتخذ فرعون إلها له، وفي هذا يقول سبحانه على لسان فرعون إلى موسى: ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: 29]

قال آخر: هذه مجرد أمثلة.. ذلك أن الكبر هو الإثم الذي يقف وراء كل تعنت وإعراض وجحود، كما قال تعالى: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: 22]، وقال: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾ [النحل: 23]، وقال: ﴿﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 21]

ج. العداوة وثمارها

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 348)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/68)

بعد أن استمعت إلى هذه الأحاديث سرت إلى محل آخر، حيث رأيت جمعا يلتفون حول شيخ، وهو يقول لهم: لقد عرفنا في جلساتنا السابقة طغيان الأنا وعتوها.. وعرفنا أن الأناني لا يبصر إلا نفسه، ولا يحب أن يبصر إلا نفسه.. ولذلك يستكبر ويستعلي ويجحد ويعرض.. والآن، وفي هذا المجلس، سنتحدث، ومن خلال القرآن الكريم على ثمرة من أخطر الثمار، وهي الاعتداء والعداوة والعدوان.. فذلك الطغيان الذي تمتلئ به الأنا يوقد نار الشحناء في قلب صاحبها، فلذلك تراه لا يريد الخير إلا له، فإن أبصر خيرا في غيره راح يشعل فيه نيران قلبه.

قال أحدهم (1): لقد ذكر الله تعالى ذلك وحذر منه، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران: 118]، أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، تطلعونهم على أسراركم، فهؤلاء لا يفترون عن إفساد حالكم، وهم يفرحون بما يصيبكم من ضرر ومكروه، وقد ظهرت شدة البغض في كلامهم، وما تخفي صدورهم من العداوة لكم أكبر وأعظم.. قد بينا لكم البراهين والحجج، لتتعظوا وتحذروا، إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه.

قال آخر (2): ثم ذكر بعض مظاهر بغضهم، فقال: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ

__________

(1) التفسير الميسر (ص 65)

(2) التفسير الميسر (ص 65)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/69)

سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 119 ـ 120]، أي ها هو الدليل على خطئكم في محبتهم، فأنتم تحبونهم وتحسنون إليهم، وهم لا يحبونكم ويحملون لكم العداوة والبغضاء، وأنتم تؤمنون بالكتب المنزلة كلها ومنها كتابهم، وهم لا يؤمنون بكتابكم، فكيف تحبونهم؟ وإذا لقوكم قالوا ـ نفاقا ـ: آمنا وصدقنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض بدا عليهم الغم والحزن، فعضوا أطراف أصابعهم من شدة الغضب، لما يرون من ألفة المسلمين واجتماع كلمتهم، وإعزاز الإسلام، وإذلالهم به.. قل لهم ـ أيها الرسول ـ: موتوا بشدة غضبكم، إن الله مطلع على ما تخفي الصدور، وسيجازي كلا على ما قدم من خير أو شر.

قال آخر (1): ثم ذكر أن من عداوة هؤلاء أنكم ـ أيها المؤمنون ـ إن نزل بكم أمر حسن من نصر وغنيمة ظهرت عليهم الكآبة والحزن، وإن وقع بكم مكروه من هزيمة أو نقص في الأموال والأنفس والثمرات فرحوا بذلك، وإن تصبروا على ما أصابكم، وتتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، لا يضركم أذى مكرهم. والله بجميع ما يعمل هؤلاء الكفار من الفساد محيط، وسيجازيهم على ذلك.

قال آخر (2): ومثل ذلك أخبر الله تعالى عن سر الفرقة بين أتباع الملل، فقال مشيرا إلى ذلك بحال النصارى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: 14]، أي وكذلك أخذنا من النصارى الثبات على طاعتنا وأداء فرائضنا واتباع رسلنا والتصديق بهم، فسلكوا في ميثاقنا الذي أخذناه عليهم طريق اليهود الضالين، فبدلوا دينهم

__________

(1) التفسير الميسر (ص 65)

(2) تفسير المراغي (6/ 77)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/70)

ونقضوا الميثاق الذي أخذناه عليهم بالوفاء بعهدنا، ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [المائدة: 14] لأن نسيان حظ عظيم من كتابهم كان سببا في تفرقهم في الدين واتباع أهوائهم، وتبع هذا أن وقعت بينهم العداوة والبغضاء بمقتضى سننه تعالى في هذه الحياة، ومن أجل هذا نسبه سبحانه إلى نفسه مع أنه من أعمالهم الاختيارية، لأنه كان نتيجة حتمية لتلك السنن التي وضعت في الخليقة ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: 14] أي وسينبئهم الله عند الحساب في الآخرة بما كانوا صنعوا في الدنيا من نقض للميثاق، ونكث للعهد، وتبديل للكتاب وتحريف للأوامر والنواهي، ويجازيهم على ذلك بقدر ما يستحقون، ليعلموا أنه حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة.

قال آخر (1): وقد بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كما نسي اليهود، وسر هذا أن المسيح عليه السلام لم يكتب ما ذكرهم به من المواعظ وتوحيد الله وتنزيهه وطرق الإرشاد إلى عبادته، وكان الذين اتبعوه من العامة، وأمثلهم حواريه، وهم من الصيادين، وقد اشتد اليهود في مطاردتهم في كل مكان، ومن ثم لم تكن لهم جماعات ذات نفوذ وقوة وعلم تدون ما حفظوه من الإنجيل إلى أن كثيرا من الناس كانوا يبثون تعاليم باطلة عن المسيح، ومنهم من كتب مثل هذا حتى إن الكتب التي سموها الأناجيل كانت كثيرة جدا، ولم تظهر الأناجيل الأربعة التي عليها المعول عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح، عندما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين في النصرانية، وإدخاله إياها في طور جديد من الوثنية وهي تاريخ ناقص للمسيح، على ما بها من تعارض وتناقض، مع كونها مجهولة الأصل والتاريخ.

__________

(1) تفسير المراغي (6/ 78)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/71)

قال آخر: وذكر أن من العلل التي حرمت بسببها بعض المحرمات هي ما تبثه في قلوب أصحابها من بغضاء، وهو يدل على أن سد منافذ البغضاء مقصد مهم من مقاصد الشريعة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [المائدة: 90 ـ 92]

قال آخر (1): أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إن الخمر التي تشربونها، والميسر الذي تتياسرونه، والأنصاب التي تذبحون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها إثم سخطه الله وكرهه لكم، وهو من عمل الشيطان وتحسينه لكم لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم، ولا مما يرضاه لكم.. فاتركوا هذا الرجس ولا تعملوه وكونوا في جانب غير الجانب الذي هو فيه، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم والتواد فيما بينكم.

قال آخر (2): وبعد أن أمر الله باجتناب الخمر والميسر ذكر أن من مفاسدها أن الشيطان يريد لكم شرب الخمر ومياسرتكم بالقداح ليعادى بعضكم بعضا ويبغض بعضكم إلى بعض عند الشراب والمياسرة، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوة الإسلام، ويصرفكم بالسكر والاشتغال بالميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم، وعن الصلاة التي فرضها عليكم، تزكية لنفوسكم وتطهيرا لقلوبكم.

__________

(1) تفسير المراغي (7/ 23)

(2) تفسير المراغي (7/ 23)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/72)

قال آخر: ولهذا، فقد ورد في التوجيهات النبوية الكثيرة النهي عن البغض، وكل ما يترتب عليه، أو يوصل إليه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللّه إخوانا، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيّام) (1)، وقال: (إذا فتحت عليكم فارس والرّوم، أيّ قوم أنتم؟) قال عبد الرّحمن بن عوف: نقول كما أمرنا اللّه. قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (أو غير ذلك تتنافسون، ثمّ تتحاسدون، ثمّ تتدابرون، ثمّ تتباغضون، أو نحو ذلك، ثمّ تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض)، وقال: (دبّ إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشّعر، ولكن تحلق الدّين، والّذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا، أفلا أنبّئكم بما يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السّلام بينكم) (2)

الحسد

قال الشيخ: بورك فيكم، فحدثوني عن ثمار العداوة.

قال أحدهم: أولها الحسد، فالحسود هو الذي لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلا، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضا، ولا ينال من الخلق إلا جزعا وغما، ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولا، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالا.. وهو الظالم الذي يشبه المظلومين.. فهو في نفس دائم، وهم لازم، وقلب هائم.

قال آخر (3): وقد ذكره الله تعالى في مواضع مختلفة، وجعله من أسباب كفر الكافرين وإعراض المعرضين، ومن ذلك قوله تعالى عن قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ

__________

(1) عبد بن حميد (138)، والنسائي 7/ 121، والطبراني (324)

(2) البيهقي 10/ 232.

(3) من وحي القرآن (20/ 233)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/73)

فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 31 ـ 32]، فالآيات الكريمة تشير إلى العنصر الطبقي في عقلية المجتمع الجاهلي، الذي يرى أن الرجال الكبار الذين يملكون الموقع الاجتماعي المميز، هم وحدهم الذين يحق لهم أن يتولوا قيادة المجتمع بما يحملونه من أفكار وبما يحركونه من أوضاع، وهم الموقع الطبيعي الذي يجب أن تنزل عليه الرسالات من الله ـ إذا كانت مسألة الوحي في الرسالة أمرا واردا بالنسبة للعقل ـ لأنهم يملكون تحريك الرسالة في وجدان الناس من خلال قوة تأثيرهم على مواقع حياتهم، فيما يملكونه من أمورهم الاقتصادية والاجتماعية التي تمكنهم من الضغط عليهم.. وفي ضوء ذلك، كانوا يشيرون إلى فقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفقدانه الموقع الاجتماعي البارز الذي يملكه أصحاب رؤوس الأموال، ليؤكدوا للناس أن الرسالة التي يكلف الله رب العالمين بها بعضهم، فينزل الوحي عليهم، وهو القرآن الذي يدعي النبي أنه منزل من الله، لا يمكن أن تنزل على هذا الفقير اليتيم المعدم الذي لا يستطيع حماية نفسه من العدوان، فكيف يحمي دعوته، كما أنه لا يملك الوسائل التي يستطيع بها التأثير على الناس لأنهم لا يسمعون إلا من الكبار في المجتمع، ولهذا كان لا بد من أن ينزل القرآن ـ لو كان حقيقة ـ على رجل عظيم من القريتين مكة والطائف.

قال آخر (1): وقد رد الله تعالى عليهم بأن الرسالة ليست شأنا بشريا يرجع أمره إلى الناس، ليحددوا ملامح الرسول، على أساس طبقي، بل هي شأن إلهي، يرحم الله به من يشاء فيمن يصطفيه لكرامته، ويختاره لرسالته، ممن تتوفر في فكره الصفات الرسالية وأخلاقه، ومنهجه.. ولهذا فإنهم عندما يتحدثون بهذه الطريقة، فإنهم يتدخلون في شؤون

__________

(1) من وحي القرآن (20/ 234)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/74)

الإرادة الإلهية لجهة ما يقسم الله فيه رحمته بين عباده من خلال ما يعرفه من أمور صلاحهم وفسادهم، مما لا مكان لإبداء الرأي فيه، ولا أساس للاعتراض عليه.

قال آخر (1): ثم بين خطأهم في طلب الاصطفاء بحسب ما يهوون فقال: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 31 ـ 32]، أي إننا في هذه الحياة فضلنا بعض العباد على بعض، في الغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، والشهرة والخمول، لأنا لوسوينا بينهم فيها لم يخدم بعضهم بعضا ولم يسخر أحد غيره، وذلك مما يفضى إلى خراب العالم وفساد الدنيا، ولم يستطع أحد أن يغير نظامنا ولا أن يخرج عن حكمنا.. وإذا كانوا قد عجزوا عن ذلك في أحوال الدنيا فكيف يعترضون علينا في منصب الرسالة؟.. أفلا يقنعون بقسمتنا في أمر النبوة وتفويضها إلى من نشاء من خلقنا؟

قال آخر (2): ثم علل ذلك بقوله: ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 31 ـ 32] أي ورحمة ربك وفضله بالنبوة وما يتبعها من وحي وكتاب ينزل، خير مما يجمعون من حطام الدنيا، فالدنيا على شفا جرف هار، ومظاهرها فانية لا قيمة لها، فهو قد أغدقها على الدواب والأنعام وكثير من جهلة بنى آدم.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى عن الأمم السالفة إذ قالوا لأنبيائهم: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ﴾ [يس: 15]، وقالوا: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ [المؤمنون: 47]، وقالوا: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ [المؤمنون: 33 ـ 34]،

__________

(1) تفسير المراغي (25/ 85)

(2) تفسير المراغي (25/ 86)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/75)

فتعجب هؤلاء الجاحدون من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم، وأحبوا زوال النبوة عنهم جزعاً أن يفضل عليهم من هو مثلهم في الخلقة، لا عن قصد تكبر وطلب رياسة وتقدم عداوة أو سبب آخر من سائر الأسباب، بل قالوا متعجبين: ﴿أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 94]

قال آخر (1): ولذلك دعا الله تعالى إلى المنافسة الحقيقية، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 22 ـ 26]، أي لمثل هذا فليعمل العاملون، ويجد المجدون، ويتنافس المتنافسون.. فهذا هو الذي ينبغى أن يطلب، ويشتد الطلب عليه، ويكثر التنافس فيه، وأما ما سواه، فهو هباء وقبض الريح.

قال آخر: انظروا كيف وجه القرآن المتنافسين إلى الوجهة الصحيحة التي لا يصح أن يتنافسوا إلا فيها.. لقد وردت هذه الآيات في سورة المطففين، وكأنها تقول لهم: وجهوا تنافسكم على الدنيا وتسارعكم إليها إلى ذلك النعيم المقيم الذي لا يتنعم به إلا المتقون.

قال آخر: وفي آية أخرى يعبر الله تعالى عن المنافسة بالسباق، كما قال تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 21]، وقد وردت هذه الآية الكريمة عقب ذكر حقيقة الدنيا.. قال تعالى فيها: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (16/ 1496)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/76)

إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: 20]، وكأنها توجه المتحاسدين المستغرقين الدنيا إلى الوجهة الحقيقية التي لا يصح أن يوجه التنافس إلى غيرها.

القتل

قال الشيخ: بورك فيكم، فحدثونا عن ثمرة أخرى.

قال أحدهم: من أخطر ثمار العداوة القتل، ولهذا، فإنه أول المفاسد التي ذكرتها الملائكة عليهم السلام عندما أخبرها الله بأنه جاعل في الأرض خليفة، قال تعالى: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30]

قال آخر: ومن الوعيد الوارد في قتل النفس بغير حق قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 92 ـ 93]، وقوله: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: 140]

قال آخر: بل قد قرن الله قتل النفس بالشرك بالله، فقال: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ [الفرقان: 68]

قال آخر: والنهي عن قتل النفس وصية من الوصايا الكبرى الواردة في سورة

القرآن.. والهداية الشاملة (2/77)

الأنعام، قال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: 151]،

قال آخر: ومثل ذلك هو وصية من الوصايا الكبرى الواردة في سورة الإسراء، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 31]، وقال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء: 33]

النهب

قال آخر (1): ومن أخطر ثمار العداوة.. العدوان على الأموال.. ولذلك ورد في القرآن الكريم الآيات الكريمة الكثيرة في تعظيم حرمة الأموال، وبيان أنها لا تقل عن حرمة النفوس، لأنه لا يمكن أن تستقيم الحياة من دون أموال، فالمال هو قوام الحياة، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 5]، ففي هذه الآية الكريمة ينهى الله تعالى عن أن ندع أموال السفهاء في أيدى السفهاء، إذ كان ذلك مدعاة لإفسادهم أولا، وتضييع مصالحهم ثانيا، ورسم مثل سيئة للعبث بالمال وإهدار المنافع المنوطة به في المجتمع، ثالثا.. لذلك ألزم الله تعالى المجتمع أن يتصدى لهذه الظاهرة، وأن يقف لها في يقظة وحزم، فلا يدع لأيدى السفهاء ما في أيديهم من أموال يفسدونها، ويفسدون بها في الأرض..

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 700)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/78)

قال آخر: ولذلك فإن الاعتداء على المال يكاد يكون سلبا للحياة نفسها.. ولهذا ورد في القرآن الكريم، وفي الشريعة المنبنية عليه حرمة كل أخذ لأموال الناس من غير رضا منهم، ومن غير الطرق المشروعة التي أذن الله فيها.

قال آخر: وأولها السرقة، فقد ورد التشديد فيها، بل قد نص القرآن على أن مرتكبها يعاقب بقطع يده، قال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 38 ـ 39]، أي والسارق والسارقة فاقطعوا ـ يا ولاة الأمر ـ أيديهما بمقتضى الشرع، مجازاة لهما على أخذهما أموال الناس بغير حق، وعقوبة يمنع الله بها غيرهما أن يصنع مثل صنيعهما. والله عزيز في ملكه، حكيم في أمره ونهيه.. فمن تاب من بعد سرقته، وأصلح في كل أعماله، فإن الله يقبل توبته. إن الله غفور لعباده، رحيم بهم (1).. فهذه الآية الكريمة تذكر حدا من حدود الله، يبسط الله من خلاله للناس الأمن على أموالهم، كما أنه في حدوده الأخرى، يحفظ لهم حياتهم وأعراضهم (2).

قال آخر: وقد كان من نصوص المبايعة التي يبايع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه المبايعة على عدم السرقة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة: 12]

قال آخر (3): ومن الاعتداء على الأموال أخذ الرشوة أو إعطاؤها.. فإن فيها استيلاء

__________

(1) التفسير الميسر (ص 114)

(2) من وحي القرآن (8/ 165)

(3) من وحي القرآن (4/ 55)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/79)

على حقوق الآخرين بطرق غير مشروعة.. ولهذا اعتبرها القرآن الكريم من أكل أموال الناس بالباطل، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، أي لا يتملك أي واحد منكم المال الذي لا يستحقه، وذلك من خلال الوسائل غير الشرعية التي لا يرضاها الشرع ولا يقبلها العقلاء، سواء كان ذلك بالغصب والظلم أو القمار ونحوه.. ومنها أن تلقوا بها إلى القضاة الذين ينظرون في قضايا الناس لإصدار الأحكام فيها، وذلك قد يكون برشوة الحاكم الجائر المنحرف للحكم بالباطل، وقد يكون بتقديم القضايا للمحاكم من خلال الحجة الباطلة، والبينة الكاذبة، والضغط القاسي، واليمين الكاذبة، للوصول إلى أخذ المال من غير حق بفعل الأساليب غير المشروعة.

قال آخر: ومن الاعتداء على الأموال التطفيف.. وهو الاستيفاء من النّاس عند الكيل أو الوزن، والإنقاص والإخسار عند الكيل أو الوزن لهم.. ويلحق بالوزن والكيل ما أشبههما من المقاييس والمعايير الّتي يتعامل بها النّاس.. وقد ورد الوعيد الشديد لمن يقع في هذا، قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 1 ـ 6]

قال آخر: بل إن الله تعالى أخبر أنه أرسل رسولا من رسل الله الكرام جل رسالته النهي عن التطفيف في الموازين والعبث بها، قال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 85]، وقال: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا

القرآن.. والهداية الشاملة (2/80)

تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الشعراء: 176 ـ 183]

قال آخر: ومن الاعتداء على الأموال لعب الميسر.. ذلك الذي ورد النهي المشدد عنه في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: 90 ـ 91]،

قال آخر (1): ومن الاعتداء على الأموال أكل الربا.. ذلك الذي حذر منه القرآن الكريم أشد التحذير، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة: 275 ـ 276]، أي أن حال المرابين في الدنيا كالمتخبطين في أعمالهم بسبب الصرع والجنون، إذ أنهم لما فتنوا بحب المال واستعبدتهم زينته، ضريت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصودا لذاته، وتركوا لأجله جميع موارد الكسب الأخرى، فخرجت نفوسهم عن حد الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، وترى أكثر ذلك ظاهرا في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم.

__________

(1) تفسير المراغي (3/ 63)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/81)

قال آخر (1): ثم بين سبب وقوعهم في هذا النوع من العدوان، وهو استحلالهم له وجعله كالبيع، فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما بأجل، يجوز أن يعطى المحتاج عشرة دراهم على أن يرد عليه بعد سنة عشرين درهما، والسبب في كل من الزيادتين واحد وهو الأجل.. تلك حجتهم وهم واهمون فيما قالوا، فقياسهم فاسد، ومن ثم قال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275]، إذ في البيع ما يقتضى حله، وفي الربا من المفسدة ما يقتضى تحريمه ـ ذاك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشترى بالسلعة انتفاعا حقيقيا، أما الربا فهو إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر، فما يؤخذ من المدين زيادة في رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل، ولا يؤخذ بالرضا والاختيار بل بالكره والاضطرار.. ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ [البقرة: 275] أي فمن بلغه تحريم الله للربا ونهيه عنه فتركه فورا بلا تراخ ولا تردد اتباعا لنهى الله ـ فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم، ويكتفى منه بألا يأخذ ربا بعد ذلك.

قال آخر (2): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 130]، والآية الكريمة تشير إلى ما تقتضيه طبيعية النظام الربوي الذي يستغل حاجة المدين وظروفه الضيقة التي قد لا تسمح له بالوفاء في الموعد المحدد، لا سيما في الأجواء الربوية التي قد تجعل الإنسان يستدين أكثر من طاقته، لأنه يجد الدين سهلا يوحي بالامتداد، فيؤدي ذلك إلى استيفاء الدائن دينه أضعافا مضاعفة، سواء في ذلك الديون التي تحصل بين الناس على مستوى الأفراد، أو التي تحصل

__________

(1) تفسير المراغي (3/ 64)

(2) من وحي القرآن (6/ 264)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/82)

على مستوى الدول، فإن المدين قد ينفق كل عمره في الجهد والعمل من دون أن يستطيع وفاء الربا، فضلا عن أصل الدين لتضاعف ذلك عليه.. وفي ضوء ذلك، قد نفهم من الآية أنها ليست واردة في معالجة هذه الحالة بالذات، بل هي واردة في الإيحاء بالنتائج الطبيعية للنظام الربوي التي تتمثل في تضعيف المبلغ الذي يستدينه الإنسان إلى عدة أضعاف؛ وبذلك تبطل حجة الذين أرادوا أن يفهموا منها اختصاص حرمة الربا في الإسلام بالربا الفاحش الذي تزيد به الفائدة عن مثل الشيء لتكون ضعفا له بل أكثر.

قال آخر: ومثل ذلك أخبر الله تعالى أنه لخطورته كان محرما في الديانات السابقة، قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: 160 ـ 161]

القذف

قال آخر (1): ومن أخطر ثمار العداوة.. العدوان على الأعراض، ولذلك رتب الله تعالى العقوبات المشددة على من استطال عليها، فقذفها من غير بينة، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 700)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/83)

مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [النور: 4 ـ 9]

قال آخر (1): هذا في العقوبات التشريعية أما العقوبات المقدرة عليهم من الله في الدنيا والآخرة مما لا يستطيع الحكام إيقاف تنفيذه، فقد نص عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ [النور: 23 ـ 25]، أي إن الذين يتهمون بالفاحشة العفيفات الغافلات عنها المؤمنات بالله ورسوله يبعدون من رحمة الله في الدنيا والآخرة، ولهم في الآخرة عذاب عظيم جزاء ما اقترفوا من جناياتهم، فهم مصدر قالة السوء في المؤمنات، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين والقدوة السيئة لمن يتكلم بها، فعليهم وزرها ووزر من تكلم بها.. ولهم ذلك العذاب الذي لا يقدر قدره يوم يجحدون ما اكتسبوا في الدنيا من الذنوب حين سؤالهم عنها، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون من قول أو فعل، إذ ينطقها الله بقدرته، فتخبر كل جارحة بما صدر منها من أفاعيل صاحبها.

قال آخر: ولم يكتف القرآن الكريم بهذا.. بل إنه ذكر حرمة كل ما يؤدي إلى التلاعب بالأعراض، فحرم سوء الظن، والتجسس، والغيبة، والبهتان، وشهادة الزور.. وغيرها كثير.

قال آخر: وأولها سوء الظن، فهو بداية الشر، وهو الخطوة الأولى التي يخطوها من يريد أن ينتهك الأعراض، فالظن السيء هو الذي يدفع صاحبه إلى التجسس، والتجسس يدعوه إلى الغيبة، والغيبة قد يبالغ فيها فتتحول إلى بهتان أو إفك، وهكذا يؤدي الشر بعضه

__________

(1) تفسير المراغي (18/ 90)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/84)

إلى بعض، وينبت بعضه بعضا.. ولذلك ذكره القرآن في أول المحرمات المرتبطة بالأعراض، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12]

قال آخر (1): فالآية الكريمة بدأت بالدعوة إلى اجتناب كثير من الظن، لا كل الظن، وهذا يعنى ألا يأخذ الإنسان بكل ما يقع له من ظنون، بل يجب أن يكون حذرا في مواجهة كل ظن، وعليه أن يمحصه كما يمحص النبأ الذي يرد عليه من فاسق.. فإن مورد الظنون متهم، لأنه مورد يقوم عليه هوى النفس، ووساوس الشيطان.. والظن: ما يقع في نفس الإنسان من تصورات للأمر، من واردات خيالاته، وأوهامه، دون أن يكون بين يديه دليل ظاهر، أو حجة قاطعة.. والظنون التي ترد على الناس كثيرة لا تحصى، فهي خواطر تتردد في صدور الناس، ويكون لها دور كبير في تصرفاتهم.. وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12] إشارة إلى أن بعض الظن، هو الذي يقع تحت حكم المنهي عنه، لأنه إثم، إذ كان قائما على باطل، وفي الحديث: (إذا حسدت فاستغفر، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فأمض) (2)

قال آخر (3): ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات: 12]، أي لا تبحثوا عن أسرار الآخرين الخفية، مما لا يريدون اطلاع الناس عليه من قضاياهم الذاتية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية وغير ذلك، لأن الله أعطى الحياة الخاصة حرمة شرعية لم يجز للغير اقتحامها، وجعل للإنسان الحق في منع غيره من الاعتداء أو التلصص عليها بأية وسيلة من

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 450)

(2) الطبرانى (3/ 228، رقم 3227)

(3) من وحي القرآن (21/ 153)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/85)

وسائل المعرفة الظاهرة أو الخفية.. وطبعا، فإن هذا المبدأ الاجتماعي لا يشمل الحالات التي تمس فيها المصلحة العليا للإسلام والمسلمين والتي قد تستدعي الاطلاع على بعض الأوضاع الخفية للأشخاص والمواقع والأحداث المتعلقة بالآخرين، مما يخاف ضرره، أو يراد نفعه، أو يركز قاعدته، فيجوز لولي أمر المسلمين اللجوء إلى هذا الأسلوب في نطاق الضرورة الأمنية والسياسية والاقتصادية، انطلاقا من قاعدة التزاحم بين المهم والأهم، لتغليب المصلحة التي تقف في مستوى الأهمية القصوى على المفسدة الناشئة من التجسس، فإن حرمة المسلمين تتقدم على حرمة الشخص أو الأشخاص في ذلك كله.

قال آخر (1): ثم قال تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ [الحجرات: 12]، أي ولا يتحدث بعضكم عن بعض بمكروه في غيبته.. وقوله تعالى: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [الحجرات: 12] تشنيع على الغيبة، وازدراء وتنديد بأهلها، فهم أسوأ من أخس الحيوانات موقفا، وأنزلهم منزلة.. إنهم يأكلون لحم إخوانهم، والحيوانات تعاف أن يأكل الجنس لحم جنسه.. وليس هذا وحسب، بل إنهم ليأكلون هذا اللحم ميتا، متعفنا، وكثير من الحيوانات ـ كالأسود مثلا ـ تعاف أكل الميتة، ولو ماتت جوعا.. فهذا مثل ضربه الله تعالى للمغتاب.. فإنه إذ يغتاب شخصا ما، فإنما ينهش عرضه، وهو غائب دون أن يملك صاحبه أن يدفع هذه السهام التي تفرى جلده، وتنفذ إلى عظمه.. تماما كشأنه لو كان ميتا، ثم جاء هذا المغتاب إلى جسده، وأعمل فيه أسنانه، وأكله كما تأكل الذئاب جريحها.

قال آخر: وهكذا ذكر الله تعالى تحريم البهتان، فقال: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 451)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/86)

تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 20 ـ 21]، وقال: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: 111 ـ 112]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 57 ـ 58]

قال آخر: وأخبر عمن سبقنا من الأمم، فقال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 155 ـ 156]

قال آخر: وقال عما وقع في حادثة الإفك: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 14 ـ 20]

قال آخر: وهكذا ذكر الله تعالى تحريم شهادة الزور، وهي تتربع في قمة الخبائث المرتبطة بالأعراض، ولذلك قرنها الله تعالى بالشرك به، فقال: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 30 ـ 31]

القرآن.. والهداية الشاملة (2/87)

قال آخر: وأخبر تعالى أن شرك المشركين بعد أن اتضحت لهم الحقائق شهادة زور، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ [الفرقان: 4]

قال آخر: ولذلك فإن من صفات المؤمنين الأساسية عدم شهادة الزور، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]

المنع

قال آخر: ومن ثمار العداوة العدوان بالمنع.. وقد نص القرآن الكريم على هذا النوع من العدوان في مواضع مختلفة بصيغ مشددة، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [المدثر: 38 ـ 47]، فقد اعتبر تعالى منع إطعام المساكين من الجرائم التي تسبب الدخول في جهنم، بل تقرن هذه الجريمة بترك الصلاة، ثم تقدم على التكذيب بالدين، ثم يتوعدون بعدم نفع الشافعين فيهم.

قال آخر: بل لم يعف القرآن الكريم من هذا الواجب حتى العامة من الناس الذين لا يملكون ما يطعمون غيرهم، لأنه لم يأمر بالإطعام فقط، بل أمر بالحض على الإطعام، ليشمل هذا الأمر الجميع، قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر: 17 ـ 20]

قال آخر (1): فهذه الآيات الكريمة ترد على خطأ الإنسان فيما يعتقد إذا بسط له الرزق

__________

(1) تفسير المراغي (30/ 148)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/88)

أو قتر عليه، كما قال تعالى قبلها: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: 15 ـ 16]، ولذلك زجرهم عما يرتكبون من المنكرات، وأبان لهم أنه لو كان غنيهم لم يعمه الطغيان، وفقيرهم لم يطمس بصيرته الهوان، وكانوا على الحال التي يرتقى إليها الإنسان لشعرت نفوسهم بما عسى يقع فيه اليتيم من بؤس، فعنوا بإكرامه فإن الذي يفقد أباه معرض لفساد طبيعته إذا أهملت تربيته، ولم يهتم بما فيه العناية به ورفع منزلته، ولو كانوا على ما تحدثهم به أنفسهم من الصلاح لوجدوا الشفقة تحرك قلوبهم إلى التعاون على طعام المسكين الذي لا يجد ما يقتات به مع العجز عن تحصيله، إلى أنهم يأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منهم، ويشتدون في أكله حتى يحرموا صاحب الحق حقه ويزداد حبهم للمال إلى غير غاية.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى يذكر موقفا من مواقف القيامة الشديدة: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾ [الحاقة: 30 ـ 37]، ففي قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الحاقة: 33 ـ 34] بيان للسبب الذي من أجله صار هذا الشقى إلى هذا المصير المشئوم.. إنه كان لا يؤمن بالله الذي ملك بعظمته وسلطانه أمر هذا الوجود، والتصرف فيه كما يشاء، دون أن يكون لأحد سلطان معه، وفي وصف الله سبحانه وتعالى بالعظمة هنا، إشارة إلى أن هذا اليوم ـ يوم القيامة ـ يتعرى فيه كل ذى سلطان من سلطانه.. فقد كان للناس في الدنيا، شئ من الإرادة، والتصرف، والملك والسلطان، ولكنهم في هذا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1145)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/89)

اليوم سلبوا كل شئ، وتعروا من كل شئ..

قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الحاقة: 34] إشارة إلى ما لرعاية المساكين والعطف عليهم من تقدير واعتبار، في مقام الإيمان، حيث جاء ذلك بعد الإيمان بالله، معطوفا عليه، وموازنا له.. وهذا يعنى أن من الإيمان بالله العطف والإحسان إلى عباد الله، إذ كان هؤلاء المساكين هم ضيوف الله، فمن أكرمهم لله، أكرمه الله، ومن أهانهم، وأمسك يده عنهم، أهانه الله، وأمسك رحمته عنه.. والحض على الشيء: الحث عليه، وإغراء الغير به.. وفي التعبير عن الدعوة إلى إطعام المسكين، بلفظ (الحض).. إشارة إلى ما في الطبيعة الإنسانية من شح وبخل، وحب للذات.. وأن الإحسان إلى الفقراء لا يكون إلا عن مغالبة هذه الطبيعة، وحمل النفس على ما يخالف هواها.. وهذا إنما يكون عن مراودة بين الإنسان ونفسه، وحثها على البذل والسخاء، ثم إن في بذل الإنسان، وسخائه في وجوه البر والمعروف، حضا صامتا على إشاعة الإحسان بين الناس، حيث يرى فيه الناس قدوة حسنة في هذا المقام.

قال آخر (2): وفي قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾ [الحاقة: 35 ـ 37] إشارة إلى جزاء من لم يؤمن بالله العظيم، ولم يحض على طعام المسكين.. إنه لا صديق له يدفع عنه هذا العذاب، لأنه لم يكن له من عباد الله صديق ينال من خيره وبره.. فإذا ضاقت به الحال في هذا اليوم، فإنه لا يجد المعين الذي يمينه، لأنه لم يقدم لأحد عونا في حياته الدنيا، ثم لأنه لم يطعم المسكين، وتركه يمضغ الجوع، والحرمان، فليس له في هذا اليوم طعام إلا من غسلين، أي من صديد، مما يفرزه

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1146)

(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1146)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/90)

المعذبون بنار جهنم.. فهو يتغذى من هذه الإفرازات الذاتية التي تفرز من جسده المحترق، كما ترك هو الجائع المسكين يتغذى من داخل جسده، ويأكل بعض أعضائه بعضا..

قال آخر (1): بل نجد هذا في سورة كاملة تكاد تكون خاصة بهذا الجانب، حيث تعتبر من لا يحض على طعام المسكين مكذبا بالدين، قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون: 1 ـ 7]، أي هل عرفت ذلك الذي يكذب بما وراء إدراكه من الأمور الإلهية، والشئون الغيبية، بعد أن ظهر له بالدليل القاطع، والبرهان الساطع، فإن كنت لا تعرفه بذاته، فاعرفه بصفاته.. وأولها أنه الذي يدفع اليتيم ويزجره زجرا عنيفا إن جاء يطلب منه حاجة، احتقارا لشأنه وتكبرا عليه.. وهو كذلك لا يحث غيره على إطعامه، وإذا كان لا يحث غيره على ذلك ولا يدعو إليه، فهو لا يفعله بالأولى.. وفي هذا توجيه لأنظارنا إلى أنا إذا لم نستطع مساعدة المسكين كان علينا أن نطلب من غيرنا معونته ونحثه على ذلك.

قال آخر (2): وهذه السورة القصيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المفهوم السائد للإيمان والكفر تبديلا كاملا، فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة، وللخير الهائل العظيم المكنون فيها لهذه البشرية، وللرحمة السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث إليهم بهذه الرسالة الأخيرة.. فهذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة

__________

(1) تفسير المراغي (30/ 249)

(2) في ظلال القرآن: (6/ 3984)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/91)

الناس في هذه الأرض وترقى.. كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة، يؤدي منها الإنسان ما يشاء، ويدع منها ما يشاء.. إنما هو منهج متكامل، تتعاون عباداته وشعائره، وتكاليفه الفردية والاجتماعية، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود كلها على البشر.. غاية تتطهر معها القلوب، وتصلح الحياة، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء.. وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد.

الخذلان

قال آخر (1): ومن ثمار العداوة العدوان بالخذلان.. وقد أشار الله تعالى إلى هذا الركن من أركان العدوان، فقال: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 121 ـ 122]، أي واذكر لهم أيها الرسول وقت خروجك من بيتك غدوة تهيئ أمكنة للقتال، منها مواضع للرماة، ومواضع للفرسان، ومواضع لسائر المؤمنين.. والله سميع لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك عدوك وعدوهم، كقول من قال: اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم في خارج المدينة، وقول من قال: لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، ولما تشير به أنت عليهم، عليم بأصلح تلك الآراء لك ولهم وبنية كل قائل من أخلص منهم في قوله وإن أخطأ في رأيه كالقائلين بالخروج إليهم، ومن لم يخلص في قوله وإن كان صوابا

قال آخر (2): ثم ذكر من هموا بخذلان المؤمنين، فقال: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ [آل عمران: 122] أي والله سميع عليم حين هم جناحا عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يضعفا

__________

(1) تفسير المراغي (4/ 54)

(2) تفسير المراغي (4/ 55)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/92)

ويجبنا عن القتال.. وهذا الهم لم يكن عزيمة ممضاة، ولكنها كانت حديث نفس.. ومما يدل على أن ذلك الهم لم يصل إلى حد العصيان قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ [آل عمران: 122] أي متولى أمورهما لصدق إيمانهما لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعى الضعف الذي ألم بهما عند رجوع المنافقين وكانوا نحو ثلث العسكر بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين فوثقا به وتوكلا عليه.. ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 122] أي إن المؤمنين ينبغى أن يدفعوا ما يعرض لهم من جزع أو مكروه بالتوكل على الله لا بحولهم وقوتهم ولا بأنصارهم وأعوانهم، بعد أخذ الأهبة والعدة تحقيقا لسنن الله في خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات وهو الخالق للسبب والمسبب والموجد للصلة بينها، فبقدرته تعالى ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة كما نصر المؤمنين يوم بدر على قلة منهم في العدة والعدد والسلاح وفي سائر عتاد الجيش.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [الحشر: 11 ـ 12]، ففي الآيتين الكريمتين فضح للعهد الكاذب الذي قطعه المنافقون، للذين كفروا من أهل الكتاب، وهم اليهود الذين ما زالوا في المدينة كبنى قريظة، وبنى قينقاع، وبنى النضير الذي أجلاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المدينة، كما أشارت إلى ذلك الآيات في أول السورة.. وهؤلاء المنافقون، كانوا قد بعثوا إلى اليهود بعد جلاء بنى النضير ألا يستسلموا أبدا للنبي، وألا يخرجوا من ديارهم،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 866)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/93)

وأنهم، ـ أي المنافقين ـ يد واحدة معهم على النبي والمسلمين، وأنه إذا اضطر هؤلاء اليهود يوما إلى الخروج، خرج هؤلاء المنافقون معهم، وأبوا أن يسمعوا لقومهم إذا دعوهم إلى البقاء معهم.. وهذا يعنى أنهم معهم أينما كانوا، فإذا كان خروج من المدينة خرجوا معهم منها، وإن كان قتال قاتلوا معهم.

قال آخر (1): وقد قدم الإخراج على القتال، مع أن القتال هو الذي ينبغى أن يكون أولا، حتى إذا غلبوا على أمرهم أخرجوا، وذلك ليكشف عما في عهد هؤلاء المنافقين من كذب ونفاق.. فهم لو كانوا على ولاء حقا مع إخوانهم هؤلاء، لحرضوهم على القتال، ولقالوا لهم: ها نحن أولاء معكم بأسلحتنا إذا وقع بينكم وبين محمدا قتال.. ولكنهم جاءوا إليهم أولا بالأمر الذي لا يكلفهم شيئا أكثر من مجرد الكلام، وما أكثر الكلام، وما أرخصه في سوق المنافقين؛ فبذلوا لهم القول في سخاء، وبلا حساب، قائلين: ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا﴾ [الحشر: 11].. ثم رأوا أن هذا القول الذي ألقوا به إلى أسماع إخوانهم الذين كفروا، هو مجرد كلمة عزاء، إذ ماذا يغنى القوم إن أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يخرج معهم المنافقون أو لا يخرجوا؟ وهنا يتنبه المنافقون حين نظروا في وجه هذا الكلام الذي ألقوا به إلى القوم، وحين رأوا أن القوم لم يمسكوا بشئ منه، وأنهم قد أخرجوا من ديارهم، أو هم على طريق الإخراج من الديار.. حين رأى المنافقون ذلك ألقوا إليهم بهذه القولة الزائفة المنافقة أيضا: ﴿وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ [الحشر: 11].. ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان، وبعد أن فضح كذبهم ونفاقهم بقولهم أول الأمر: ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ [الحشر: 11].. ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 867)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/94)

[الحشر: 11] تعقيبا على هذه الوعود الكاذبة التي يبذلها المنافقون لإخوانهم من بنى النضير.

قال آخر: ولهذا كان التناصر ركنا من الأركان الكبرى التي يقوم عليها بنيان المجتمع المسلم.. وقد أشار إلى هذا الركن قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الأنفال: 72]، ففي هذه الآية الكريمة حض على نصر المؤمنين بعضهم بعضا، فلا يصح أن ينعم المسلم بالأمن في الوقت الذي يصاب إخوانه بكل أنواع البلاء.

قال آخر: ولأجل تحقيق هذا الركن شرع الإسلام الجهاد في سبيل الله، كما قال تعالى في تبرير الأمر بالجهاد مع كونه إزهاقا للأرواح التي جاءت الشريعة لحفظها: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75]، أي وما الذي يمنعكم ـ أيها المؤمنون ـ عن الجهاد في سبيل نصرة دين الله، ونصرة عباده المستضعفين من الرجال والنساء والصغار الذين اعتُدي عليهم، ولا حيلة لهم ولا وسيلة لديهم إلا الاستغاثة بربهم، يدعونه قائلين: ربنا أخرجنا من هذه القرية ـ يعني (مكة) ـ التي ظلم أهلها أنفسهم بالكفر والمؤمنين بالأذى، واجعل لنا من عندك وليا يتولى أمورنا، ونصيرا ينصرنا على الظالمين (1)؟

قال آخر: وقد ورد هذا التبرير في مواضع مختلفة، وكلها تنطلق من أن الغرض من

__________

(1) التفسير الميسر (ص 90)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/95)

القتال في الإسلام ليس المقصود منه التوسع ولا الاستعمار والسيطرة، وإنما المقصد منه نصرة المستضعفين، كما قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: 39]، وقال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]، وقال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 217]، وغيرها من الآيات الكريمة.

الاحتقار

قال آخر: ومن ثمار العداوة العدوان بالاحتقار.. وهو الذي يجعل المعتدي ينظر إلى غيره كما ينظر إلى الخنافس والبعوض، وقد ذكره الله عن أصناف من الناس جعلهم يستعلون على الرسل وأتباع الرسل، قال تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود: 27]

قال آخر (1): ففي الآية الكريمة عرض للجواب الذي استقبله نوح عليه السلام من قومه، ردا على دعوته إياهم، إلى الإيمان بالله.. فأول ما رابهم من أمر نوح عليه السلام ومن دعوته أنه بشر مثلهم.. وليس لبشر ـ كما قدروا ضلالا وجهلا ـ أن يكون أهلا للسفارة بين الله والناس.. وقد كان الأولى بهم أن ينظروا أولا في وجه الدعوة التي يدعوهم إليها رسول

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (6/ 1130)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/96)

الله، قبل أن ينظروا في وجه هذا الرسول.. فإذا كانت دعوة فيها خيرهم ورشدهم، كان من الحكمة والرأى، أن يقبلوها، ولا ينظروا فيما وراءها، وإلا كان لهم أن يقفوا منها الموقف الذي يدلهم عليه العقل والرأى.

قال آخر (1): ثم ذكر الله تعالى سببا آخر لإعراضهم، وهو أن الذين استجابوا لنوح عليه السلام هم من ضعفة القوم والمرذولين فيهم، والرذل من كل شئ هو الخسيس منه.. فالذين استجابوا لدعوة نوح عليه السلام، كانوا من الذين لم تقم لهم في مجتمعهم رياسة، أو تقع لأيديهم سلطة، يخشون عليها من هذا الطارق الجديد، الذي يطرقهم بتلك الدعوة، التي يخشى منها أرباب الجاه والسلطان، أن تكون سببا في تغير الأحوال التي اطمأنوا إليها، وشدوا أيديهم عليها.. وهكذا، يكون الموقف دائما في مواجهة كل جديد، يطلع على الناس.. فأصحاب الجاه والسيادة والسلطان، يتصدون له، ويقفون في وجهه، لأنه غالبا لا يطلع عليهم إلا بما يبدل من أحوالهم، ويغير من أوضاعهم.. أما من لا سلطان لهم ولا جاه، فإنهم يستقبلون الجديد، وينظرون فيه نظرا غير محجوز بهذه الحواجز التي يقيمها المال والجاه والسلطان، بين أهله وبين كل جديد.

قال آخر (2): وفي قولهم: ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود: 27] إشارة إلى أن الذين اتبعوا نوحا هم ـ في نظر أصحاب السيادة والسلطان ـ من أراذل القوم، الذين لا يخفى أمرهم على أحد، ولا يحتاج التعرف عليهم إلى بحث ونظر، بل إن النظرة الأولى تحدث عنهم، وتمسك بهم، فلا خلاف بين القوم على منزلتهم الاجتماعية فيهم، وأنهم بحكم فقرهم وضعفهم، موضوعون في أدنى درجات السلم الاجتماعى، هكذا ينظر إليهم القوم، وهكذا يحكمون

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (6/ 1131)

(2) التفسير القرآني للقرآن (6/ 1131)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/97)

عليهم..

قال آخر (1): وفي قولهم: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود: 27] تأكيد للرأى الذي رآه القوم في نوح وفيمن اتبعه، وأنه لا فضل لنوح والذين معه على القوم، فكيف يدعونهم إلى متابعتهم، والتابع من شأنه أن يكون دون المتبوع ووراءه.. فهل يعقل ـ والأمر كذلك ـ أن يكون نوح ومن معه متبوعين، ويكون القوم أتباعا لهم؟

قال آخر (2): ولم يكتف القوم بهذا، بل راحوا يرمون نوحا عليه السلام ومن اتبعه بالكذب والبهتان على الله.. والظن هنا يقين.. بدأ عند القوم ظنا، ثم استحال مع الجدل والعناد، يقينا.

قال آخر (3): ومثل ذلك قوله تعالى عن قوم نوح عليه السلام في موضع آخر: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الشعراء: 111 ـ 115]، أي قالوا: أنؤمن لك في دعوتك لنا، لنكون معك، وأنت لا تملك جمهورا مميزا من الطبقة العالية في المجتمع من أصحاب السلطة والمال والنفوذ، بل كل ما لديك هم هؤلاء السفلة الأراذل الذين يتميزون بالخسة والدناءة، فكيف تريدنا أن نتبعك وليس معك أحد من طبقتنا، فكيف نقبل أن ندخلهم في مجتمعنا من خلالك، أو ندخل ـ نحن ـ في مجتمعهم، لحسابك؟

قال آخر (4): فأجابهم نوح عليه السلام بقوله: ﴿وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الشعراء: 112]، أي لست مسئولا عن أعمالهم التي تنسبونها إليهم من رذالة ودناءة، لأن مهمتي هي الدعوة إلى الله، الذي كلفني بدعوتهم إلى ذلك كما كلفني بدعوتكم، لأن الجميع

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (6/ 1131)

(2) التفسير القرآني للقرآن (6/ 1131)

(3) من وحي القرآن (17/ 135)

(4) من وحي القرآن (17/ 135)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/98)

عباد الله الذين فرض عليهم الإيمان به وبرسله والإطاعة له في أوامره، فلا أملك أن أطردهم من ساحة الإيمان العملية المحيطة بي، ولا أملك حسابهم على ما يعملونه من موقع ذاتي، لأفتح التحقيق حول ما تتحدثون به عنهم.. ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ [الشعراء: 113] بالمعنى العميق لحركة المسؤولية في حياة الناس، فالرسالة رسالة الله، والخلق عباد الله، فهو الذي يتولى حسابهم، فيما كلفهم فيه من مواقع طاعته.

قال آخر (1): ثم قال: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 114] الذين آمنوا بالله وانفتحوا على الحق في مواقع الرسالة، بل جئت لأنذر الجميع وأخوفهم عقاب الله بكل وضوح وأمانة.. وهذا كل شيء لدي، فلا تكثروا الكلام في ذلك، ولا تفكروا بأن من الممكن أن أستجيب لكم في كل ما تطرحونه من مشاريع.

قال آخر: ومثل ذلك أخبر الله تعالى عن ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: 79]

قال آخر: ولهذا ورد النهي الشديد عن الاستهزاء.. وهو نوع من الاحتقار الخفي، وقد ذكر الله تعالى أنه صفة أعداء الرسل التي قابلوا بها أقوامهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [الرعد: 32]، وقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الحجر: 10 ـ 13]

قال آخر: وأخبر أنه صفة المنافقين، فقال: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا

__________

(1) من وحي القرآن (17/ 136)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/99)

نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [التوبة: 64 ـ 66]

قال آخر: وأخبر أنه صفة الغافلين، فقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [لقمان: 6 ـ 7]

قال آخر: وقد نهي المؤمنون لذلك من صحبة هؤلاء المستهزئين، أو مجاراتهم في سلوكهم، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: 57 ـ 58]

قال آخر: وأخبر الله تعالى عن الجزاء الذي ينتظر المستهزئين مهما اختلف صنفهم، فقال: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الجاثية: 33 ـ 37]

قال آخر: وقال: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا﴾ [الكهف: 103 ـ 106]

قال آخر: ومثل ذلك ما في القرآن الكريم من النهي عن الشماتة.. وهي الفرح بما

القرآن.. والهداية الشاملة (2/100)

يصيب الغير من المصائب، وقد اعتبر الله ذلك صفة المنافقين، فقال: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120]، وقال: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 50 ـ 51]

د. اللؤم

بعد أن استمعت إلى هذه الأحاديث سرت إلى محل آخر، حيث رأيت جمعا يلتفون حول شيخ، وهو يقول لهم: لاشك أنكم تعلمون أن العائق الأكبر المانع من كل كمال هو اللؤم والخسة وصغر النفس وحقارتها.. واللؤم هو نزول الإنسان من المحل الرفيع الذي أقامه الله فيه إلى أسفل سافلين، فبدل أن يرقى بهمته إلى المعالي ينزل بها إلى المنحدرات، ثم هو في نزوله لا يقع إلا على الخنافس والجرذان، ولا يجد رفيقا له إلا الخنازير والسباع.. ولذلك طلبت منكم الاجتماع هنا لنتحدث عن مظاهر اللؤم.. وكيف ننقذ أنفسنا منها.. وطبعا سنبدأ حديثنا بما ورد في القرآن الكريم من ذلك، كعادتنا في كل مرة.. فبالقرآن نؤسس لكل الحقائق.

الفحش

قال أحدهم (1): أول مظاهر اللئيم الفحش والبذاءة.. فاللئيم لا تجدونه إلا فاحشا بذيئا مقيتا.. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 148]، أي ليس للإنسان الحرية في أن يتكلم بما يحلو له

__________

(1) من وحي القرآن (7/ 524)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/101)

من الكلمات التي تتعلق بأفعال الناس، مما يوحي بالذم والانتقاص والسوء، لأن ذلك يجعل الحياة الاجتماعية والفردية خاضعة للانفعالات السلبية الذاتية التي يحس بها الإنسان تجاه الآخرين، فيسيء إليهم ويحطم كرامتهم من دون معنى؛ فيفقدون ـ على أساس ذلك ـ الشعور بالثقة والاطمئنان في مثل هذا المجتمع الذي يسمح فيه للأفراد أن يتكلموا بالسوء بما شاؤوا عمن شاؤوا ولمن شاؤوا.. ولذلك فقد اعتبر القرآن الكريم ذلك منطقة محرمة على الإنسان، لا يجوز له أن يأخذ حريته فيها.

قال آخر (1): ولما كان لكل قاعدة استثناء، جاءت الآية لترخص للمؤمنين المظلومين الذين يعانون من قهر الظلمة واستبدادهم، فيما يتعلق بأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فأباحت لهم أن يتحدثوا عن ظلامتهم وإن كان ذلك لونا من ألوان الجهر بالسوء، لأن النهي كان لمصلحة الإنسان، حتى في احترام أسراره السيئة، فإذا كان الإخفاء ضد مصلحته، فإن الرخصة تكون منسجمة مع خط الإسلام في التشريع.. وهذا ما نواجهه في موقف المظلوم من الظالم؛ فمن حقه أن يتنفس ويعبر عن مشكلته، بالشكوى الذاتية التي ترفع عن صدره ثقل الأزمة، أو بالشكوى لمن يستطيع أن يحل له مشكلته وينصفه من ظالمه، لأن ذلك هو السبيل لمحاربة الظلم والظالمين، فقد يرتدعون عن ذلك إذا علموا أن الناس سوف يتحدثون عنهم بطريقة قاسية، مما يسبب لهم المقت والعداوة والإذلال.

قال آخر (2): ومثل ذلك عاتب الله تعالى عتابا شديدا من وقع في ذلك فقال: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15 ـ

__________

(1) من وحي القرآن (7/ 525)

(2) تفسير المراغي (18/ 85)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/102)

16]، فقد وصفهم الله تعالى بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها.. وأولها تلقى الإفك بالألسنة، فقد كان الرجل يلقى أخاه فيقول له ما وراءك، فيحدثه حديث الإفك حتى شاع وانتشر حتى لم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه، فهم قد فعلوا جهد المستطاع في نشره.. وثانيها أنه قول بلا روية ولا فكر، فهو قول باللسان لا يترجم عما في القلب، إذ ليس هناك علم يؤيده ولا قرائن أحوال وشواهد تصدقه.. وثالثها استصغار ذلك وحسبانه مما لا يؤبه له، وهو عند الله عظيم الوزر، مستحق لشديد العقوبة.

قال آخر (1): ثم بين لهم المنهج الصحيح في التعامل مع هذه الأحوال، فقال: ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 16] أي وهلا حين سمعتموه ممن بدأ به وانتحله أو ممن تابعه في القول، قلتم تكذيبا له وتهويلا لشأن ما ارتكبه من الجرم: لا يحل لنا أن نتكلم بهذا ولا ينبغى لنا أن نتفوه به سبحانك ربنا، هذا كذب صراح يحير السامعين أمره، لما فيه من الجرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس، بيت النبوة الذي هو في الذروة العليا من الإجلال والاحترام وعظيم المكانة، وإذا جاز الخوض فيه على هذه الشاكلة فماذا يبقى للمؤمنين بعدئذ؟ أفليس هؤلاء هم الأسوة الحسنة، وينبوع الطهر، ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين، وشريف الأخلاق.

قال آخر (2): ولهذا اعتبر الله هؤلاء من المنافقين، فقال: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى

__________

(1) تفسير المراغي (18/ 85)

(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 673)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/103)

اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [الأحزاب: 19]، أي أن هؤلاء المنافقين الذين يشهدون الحرب بتلك النفوس المريضة، يضنون على المسلمين بأى جهد يبذلونه معهم في سبيل النصر، وكسب المعركة.. ضانين بأنفسهم على أن يبذلوها في سبيل الله، ولهذا، فإنهم إذا جاء الخوف، أي حضر البأس والقتال.. يموتون بصعقات الخوف، قبل أن يموتوا بضربات السيوف، وطعنات الرماح.

قال آخر (1): لكن إذا خرجوا من هذا الكرب، أطلقوا لألسنتهم العنان في النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، بكل بهتان من القول، وخبيث من الكلم.. والسلق بالألسنة: الرمي بالهجر من القول منها.. والألسنة الحداد: أي الألسنة المسعورة الجارحة، الذلقة في الحديث.. فالمنافقون، أحد الناس ألسنة، وأكثرهم قولا، وأقلهم فعلا.. فبضاعتهم كلها من زيف الكلام، وباطله، ينفقون منه في سخاء بلا حساب.

قال آخر (2): ثم أخبر الله تعالى عن سبب ما صدر منهم، فقال: ﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ [الأحزاب: 19] وهو أنهم لبسوا الإيمان ظاهرا، ولم يفسحوا له مكانا في قلوبهم.. ولهذا أحبط الله أعمالهم، ولم يتقبل منهم عملا، حتى ما كان صالحا.. لأن الإيمان هو المدخل الذي تدخل منه الأعمال الصالحة إلى مواطن القبول من الله.. وهؤلاء لم يكونوا مؤمنين، فلا عمل يقبل منهم أبدا، ولا يقوم لهم بنيان، ولا يصلح لهم أمر مما يبيتون ويدبرون.

قال آخر (3): ومثل ذلك قال: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [الممتحنة: 2]، أي إن يظفروا بكم في أي موقع من مواقع الغلبة، فإنهم يعاملونكم معاملة الأعداء بالأسر والقتل، من دون أن تؤثر فيهم كل مظاهر المودة التي تقدمونها لهم، لأن عداوتهم تنطلق من عمق الشعور المعادي لما تمثلونه

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 675)

(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 675)

(3) من وحي القرآن (22/ 147)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/104)

من خط الإيمان بالله، ﴿وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ﴾ [الممتحنة: 2] كمظهر من مظاهر العداوة الحاقدة ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [الممتحنة: 2] لأن كل الضغوط التي يوجهونها للمؤمنين تتحرك في خط الفتنة عن دين الله، لتكون الساحة كلها ساحة الشرك في عقيدته ومفاهيمه وممارساته.

النجوى

قال آخر (1): ومن مظاهر اللؤم النجوى، وقد أشار إليها قوله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 114]، فالآية الكريمة تشير إلى أن الشر لا يدبر إلا في خفاء، ولا يكون في إعلان، وأن الناس يعلنون خيرهم ويخفون شرهم.. والإسرار بمقتضى الطبيعة البشرية لا يكون إلا فيما يخشى إعلانه، ويتقى اطلاع الناس عليه..

قال آخر (2): ولكن مع ذلك قد يكون من الخير الإسرار في بعض الأمور، مثل الأمر بالصدقة، وهي التبرع والتطوع بفعل الخير، من إنفاق مال، أو مساعدة ضعيف، أو إنظار مدين معسر، أو ترك الدين والعفو عنه.. ومثل الأمر بالمعروف، وهو كل ما يصلح الإنسان والمجتمع، وهو مأمور به مطلوب، فالتناجي لتدبير خطة إصلاحية، ومبادئ اجتماعية، وقيام بحق الله تعالى في إقامة مجتمع فاضل من أفضل الفضائل، فالمعروف يجب القيام به حيثما لاحت فرصته.. ومثلهما أمر الإصلاح بين الناس، سواء كانوا جماعات وأمما، أم كانوا آحادا وأفرادا.. فالإصلاح بين الناس فريضة اجتماعية تجب على أولي العزم من الرجال،

__________

(1) زهرة التفاسير (4/ 1854)

(2) زهرة التفاسير (4/ 1854)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/105)

وهي ضريبة ذي الجاه والمنزلة، فإذا كان بين اثنين خصام وأزاله، فقد قرب الله بين قلبين، وإن القضاء والفصل في الخصومات يورث في القلوب إحنا، بينما الصلح بينهم يبقي المودة.. ومن أجل هذا كان من يفعل الخير بالتناجي والتعاون على إصلاح الجماعة، بإفشاء البر والإصلاح بين الناس، وإقامة المعروف، وإبعاد المنكر طالبا مرضاة الله تعالى ولا يبغي سواه، فإن الله تعالى سيؤتيه جزاء عظيما بالغا أقصى درجات العظمة.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: 45 ـ 47]، أي وإذا قرأت أيها الرسول القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدقون بالبعث، ولا يقرون بالثواب والعقاب، جعلنا بينك وبينهم حجابا يمنع قلوبهم عن أن تفهم ما تقرؤه عليهم فينتفعوا به، عقوبة منالهم على كفرهم وتدسيتهم لأنفسهم، واجتراحهم الجرائر والمعاصي التي تظلم القلوب، وتضع عليها الأغشية، وتستر عنها فهم حقائق القرآن ومراميه، وأسراره وأحكامه وحكمه، ومواعظه وعبره.

قال آخر (2): ووقد نسب الله تعالى جعل الحجاب إلى نفسه، لأنه خلاهم وأنفسهم، فصارت تلك التخلية كأنها السبب في وقوعهم في تلك الحال، كما أن الأب إذا لم يراقب أحوال ابنه حتى ساءت حاله، يقول: أنا الذي أوصلك إلى هذا، إذ ألقيت حبلك على غاربك، ولم أراقبك عن كثب.

__________

(1) تفسير المراغي (15/ 53)

(2) تفسير المراغي (15/ 53)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/106)

قال آخر (1): ثم قال تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: 47] أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به، وهو الهزء والسخرية والتكذيب حين استماعهم، وأعلم بما يتناجون به ويتسارون، فبعضهم يقول مجنون، وبعضهم يقول كاهن، وبعضهم يقول: ما اتبعتم إلا رجلا قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء، وهل من خير لكم في اتباع أمثاله المجانين؟

قال آخر (2): ثم رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 9] أي تأمل وانظر أيها الرسول، كيف مثلوا لك الأمثال وشبهوا لك الأشباه، فقالوا هو مسحور، وهو شاعر مجنون، فحادوا في كل ذلك عن سواء السبيل، ولم يهتدوا لطريق الحق لضلالهم عنه وبعدهم منه.. وفي هذا من الوعيد وتسلية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يخفى.

قال آخر (3): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [المجادلة: 8]، ويبدو من الآية الكريمة أن هناك قوما كانوا يجتمعون في اجتماعات سرية ويتحدثون فيما بينهم بطريقة توحي بالإثارة التي تترك مجالا واسعا للخوف والقلق في طبيعة المواضيع العدوانية ضد المسلمين، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد نهاهم عن ذلك، فيعدونه بالامتناع، ثم يعودون لما نهوا عنه تمردا وعنادا واستهتارا.. وقد كان هؤلاء من المنافقين، أو من اليهود

__________

(1) تفسير المراغي (15/ 54)

(2) تفسير المراغي (15/ 54)

(3) من وحي القرآن (22/ 67)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/107)

الذين كانوا يعملون على تركيز قاعدة النفاق في محاولاتهم المتنوعة في إرباك الواقع الإسلامي في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، ولهذا فقد كانت نجاواهم تتضمن التخطيط للإثم في ارتكاب ما حرمه الله، والعدوان على الأمن الإسلامي العام، ومعصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فيما يأمر به أو ينهى عنه، فيما يتعلق بالتشريع أو بإدارة الحكم الإسلامي في مفرداته التنظيمية.

قال آخر (1): ثم قال تعالى بعدها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المجادلة: 9 ـ 10]، وفيها دعوة إلى هؤلاء المنافقين، الذين أظهروا الإيمان واستبطنوا النفاق، أن تكون مناجاتهم إذا تناجوا فيما بينهم، بعيدة عن مواطن الضلال والريب، وخالصة من الإثم والعدوان، ومعصية الرسول، محملة بالبر والتقوى، حيث يتبادلون الكلمات الطيبة، ويتناجون بها، فتكون رسل هدى، وخير، تسعى بينهم بالأمن والسلام، وتفتح لهم الطريق إلى البر والتقوى

قال آخر (2): وقد جاء الخطاب إلى هؤلاء المنافقين بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المجادلة: 9] لإلفاتهم إلى هذا الإيمان الذي دخلوا به في جماعة المؤمنين، وأخذوا به مكانهم بينهم، ثم هم في الوقت نفسه حرب على المؤمنين، يضمرون العداوة لهم، ويبيتون السوء والضر بهم.. وهذه حال منكرة، ينبغى أن ينكروها هم على أنفسهم قبل أن ينكرها الناس عليهم.. فإما أن يكونوا مؤمنين، فلا يصل إلى المؤمنين منهم ما يسوء، وإما أن يكونوا على

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 826)

(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 827)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/108)

غير الإيمان، فيكون لهم أن يكيدوا للمؤمنين كما يكيد لهم الكفار والمشركون.. فالناس إما مؤمنون، وإما كافرون.. وهؤلاء ليسوا مؤمنين، وليسوا كافرين.. إنهم مذبذبون بين ذلك.. لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.. وتلك أسوأ حال يكون عليها إنسان، حيث لا وجه له يعرف به في الناس.. إنه الوجه المنافق الذي يلبس أكثر من وجه.

قال آخر (1): ثم ذكر الله تعالى أن النجوى من الشيطان في إيحاءاته التهويلية، وأساليبه التخويفية في إثارة الهزيمة النفسية بوسائله المتعددة المثيرة، ليحزن الذين آمنوا فيما قد يتحسسونه في مشاعرهم من الشعور بالإحباط في العزيمة، عندما يخيل إليهم بأنهم محاصرون من كل الجهات، ومراقبون من كل الناس، وملاحقون من جميع القوى التي تجتمع فيما بينها في الدوائر السرية، لتخطط لإضرارهم والإيقاع بهم والكيد لهم في جميع أمورهم، مما يحشد حياتهم بالحزن العميق الممتد في كيانهم كله.. وهذا ما حاولته القوى الكافرة المستكبرة المتمثلة في تحريك الأجهزة السرية التجسسية المخابراتية، لتطويق القوى المؤمنة المستضعفة، والتي تتحرك في مواقع الإيمان والحرية والعدالة ضد المستكبرين والظالمين والكافرين، وتحويل الاعلام إلى وسيلة من وسائل الإثارة النفسية في تهويل الأوضاع بالمستوى الذي تسقط معه الإرادة الإيمانية الواعية المتحدية أمام الحديث عن ضخامة هذه الأجهزة وسيطرتها المطلقة، وخططها الخفية الدقيقة التي تلاحق أهدافها، فلا تخطئ في أي موقع من مواقعها، لتستسلم الشعوب لها في سقوطها الكبير تحت تأثير الهزيمة النفسية.. لكن الله يريد للمؤمنين أن يستمدوا قوتهم من قوته، وإرادتهم من إرادته، ليستثيروا عمق هذا الإيمان في جميع إيحاءاته.

__________

(1) من وحي القرآن (22/ 70)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/109)

الإسراف

قال آخر (1): ومن مظاهر اللؤم الإسراف، وهو التعدي، والتعدي قد يحصل في أي شيء.. وقد أشار إلى عموم الإسراف قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، أي قل أيها الرسول للمؤمنين الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود الله، فارتكبوا محارمه وتركوا أوامره: لا تيأسوا من مغفرة الله، فهو يغفر الذنوب جميعا لمن تاب إليه ولجأ إلى جنابه.

قال آخر (2): وذكر الله تعالى الإسراف في المال، فقال: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: 6]، ففي هذه الآية الكريمة، يدعو الله تعالى القومة على اليتامى، من أولياء وأوصياء أن يضعوهم دائما تحت التجربة والاختبار، لسياسة أموالهم، وتدبيرها بأنفسهم، وذلك بأن يشركوهم معهم في بعض التصرفات، ويطلعوهم على طرق الأخذ والعطاء بين الناس، حتى إذا بلغوا العمر الذي يصلحون فيه للزواج، وهو سن النضج والبلوغ، واستبان رشدهم، وصلاحيتهم للاستقلال بالتصرف في أموالهم دفعوها إليهم كاملة، وأشهدوا على ذلك أهل الثقة والأمانة.

قال آخر (3): وفي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ [النساء: 6] تحذير للأولياء والأوصياء على اليتامى، من أن ينزع بهم الطمع في مال اليتيم إلى استغلاله

__________

(1) تفسير المراغي (24/ 22)

(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 703)

(3) التفسير القرآني للقرآن (2/ 703)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/110)

والمبادرة باجتناء ثمرته لهم، قبل أن يخرج من أيديهم إلى أصحابه اليتامى، عند رشدهم.. وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ [النساء: 6] دعوة للأغنياء من الأوصياء، أن يؤدوا هذا العمل حسبة لله، ليؤجروا عليه، وألا يضيعوا هذا الأجر نظير مال هم في غنى عنه، إذ كان الله قد آتاهم من فضله ما يغنيهم عن غيرهم.

قال آخر (1): ومثل ذلك ذكره الله تعالى في أرزاق أخرى، فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141]، أي أن الله تعالى هو الذي أوجد لكم بساتين: منها ما هو مرفوع عن الأرض كالأعناب، ومنها ما هو غير مرفوع، ولكنه قائم على سوقه كالنخل والزرع، متنوعًا طعمه، والزيتون والرمان متشابهًا منظره، ومختلفًا ثمره وطعمه.. كلوا ـ أيها الناس ـ مِن ثمره إذا أثمر، وأعطوا زكاته المفروضة عليكم يوم حصاده وقطافه، ولا تتجاوزوا حدود الاعتدال في إخراج المال وأكل الطعام وغير ذلك.. إنه تعالى لا يحب المتجاوزين حدوده بإنفاق المال في غير وجهه.

قال آخر (2): ومثل ذلك ذكره الله تعالى في الأكل والشرب، فقال: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، فالآية الكريمة تدعو الناس إلى أن يأخذوا زينتهم من اللباس والطيب ووسائل التجمل في كل مكان يجتمع فيه الناس للصلاة، حيث يمثل الاجتماع مظهرا من مظاهر حياة المسلمين الاجتماعية؛ لذا أراد الله لهم أن يخرجوا إليه بزينتهم، وبشكل جميل طيب يعكس المظهر

__________

(1) التفسير الميسر (ص 146)

(2) من وحي القرآن (10/ 94)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/111)

الحضاري للإنسان المسلم مقابل مظاهر التخلف التي كانت سائدة لدى المجتمع الجاهلي من العري والقذارة والرائحة غير الطيبة، وما إلى ذلك مما يريد الإسلام إبعاد الإنسان عنه، لا سيما داخل الحياة الاجتماعية التي لا يكون مظهره شأنا شخصيا له، بل شأنا عاما يمس ذوق الآخرين فيما يحبونه ويألفونه وفي ما لا يحبونه ولا يألفونه، فيكون في ذلك إحسان لهم في مجال، أو إساءة لهم في مجال آخر.. وفي ضوء ذلك، نستطيع اعتبار أن المسألة تتعدى الاجتماع في المسجد إلى كل مكان يجتمع فيه الناس، على أساس أن الخصوصية ليست للمكان، بل هي للأجواء التي تهيمن على المكان.

قال آخر (1): ثم قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: 31].. أي أن الله أراد للإنسان أن يأكل لأن الأكل حاجة طبيعية للجسد ليستمر في قوته التي تمده بالحياة، وأراد له أن يشرب للسبب نفسه.. وإذا كان الأكل والشرب مطلوبين من موقع الحاجة، فمن الطبيعي أن تتقدر الحاجة بالمقدار الذي يحقق الاكتفاء للجسد، لأن الزيادة عنه تثقل الجسد بما لا يحتاجه فيسيء إلى توازنه وقوته، ولهذا جاء النهي عن الإسراف في الأكل والشرب مراعاة لجانب السلامة في حياة الإنسان، وللحصول على رضا الله ومحبته، لأن الله لا يحب للإنسان أن يتجاوز الحدود الطبيعية لحاجاته في الحياة، بل يريد له أن يكون متوازنا في كل شيء، مما يجعل من الالتزام بذلك عملا دينيا يقربه إلى الله، والعكس صحيح، لأن الإنسان ملك الله، فلا يحب أن يتصرف أحد في ملكه بما يسيء إليه، سواء في ذلك ما يتعلق بنفسه أو بالآخرين.. وهنا يكمن الفرق بين المبادئ الوضعية وبين التشريع الديني، فإن تلك المبادئ تترك للإنسان الحرية في ممارسة حياته الخاصة بقطع النظر عن نوعية الممارسة،

__________

(1) من وحي القرآن (10/ 95)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/112)

بينما يؤكد التشريع الديني على ضرورة تقييد هذه الحرية، لمصلحة حياة الإنسان وحمايته من نفسه.

قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31] إشارة إلى قاعدة عامة تتجاوز مورد الآية إلى غيرها من التصرفات المالية والعملية التي تعرض الإنسان للإسراف، وتضعه وجها لوجه أمام التزامه بالاعتدال من أجل الحصول على رضا الله، بينما يكون الإسراف سببا في فقدانه لمحبة الله سبحانه، وقد ورد عن الإمام الصادق أنه قال: (ليس فيما أصلح البدن إسراف، إنما إسراف فيما أفسد المال وأضر بالبدن) (2).. وقيل له: ما أدنى ما نهي عن حد الإسراف؟ فقال: (إبذالك ثوب صونك، وإهراقك فضل إنائك، وأكلك التمر، ورميك النوى هاهنا وهاهنا) (3)

قال آخر (4): ونستوحي من ذلك توجيه الفرد المسلم والمجتمع المسلم إلى أن لا يطرح شيئا مما يمكن الانتفاع به، بل يعمل على الاحتفاظ به من أجل الانتفاع به على المستوى الفردي والاجتماعي، فليس للإنسان أن يهرق المال من دون حاجة، أو يطرح النواة من دون منفعة، فلا بد له من الاحتفاظ بكل الأشياء النافعة في ذاتها من أجل تحويلها إلى طاقة مفيدة في إنتاج عناصرها الكامنة فيها لمصلحة الحاجات العامة والخاصة.

المجاهرة

قال آخر (5): ومن مظاهر اللؤم المجاهرة.. وهي التي فسرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (كلّ أمّتي معافى إلّا المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل باللّيل عملا، ثمّ يصبح

__________

(1) من وحي القرآن (10/ 97)

(2) تفسير البرهان، ج: 2، ص: 10.

(3) الكافي، ج: 4، ص: 52.

(4) من وحي القرآن (10/ 97)

(5) تفسير المراغي (24/ 22)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/113)

وقد ستره اللّه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه، ويصبح يكشف ستر اللّه عنه) (1)، وأشار إليها قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 148]

قال آخر (2): وقد ورد النهي الشديد عنها في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]، ففي الآية الكريمة نهي عن الفواحش، وهي المنكرات، وعلى رأسها الزنا، إذ كانت الصفة الملازمة له في القرآن الكريم هي الفحش.. وما ظهر من الفواحش هو المعالن به منها، وهو فاحشة إلى فاحشة.. إذ كان الزنا في أصله فاحشة، وكان الإعلان به فاحشة أخرى، لما في للمعالنة من إذاعة الفاحشة، والتحريض عليها، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء: 148] فكيف بالجهر بالسوء من الفعل؟.. وما بطن من الفواحش، هو ما كان في ستر وخفاء، فهو منكر في ذاته، ولا يرفع عنه هذا المنكر إتيانه في خفاء، إذ لا تخفى على الله خافية، وإن خفيت على الناس.

قال آخر (3): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: 19]، فالآية الكريمة تحدثنا عن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وعن عقوبتهم المنتظرة في الدنيا والآخرة.. ذلك أن إشاعة الفاحشة بإثارة الكلمات اللامسؤولية من أجل إفساد طهارة الجو الإيماني الذي يغمر الجميع بأنفاس العفة، حتى ليخيل إلى الإنسان أن المجتمع

__________

(1) البخاري (5/ 2254)

(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 346)

(3) من وحي القرآن (16/ 266)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/114)

يتفايض بالطهارة ويرفرف بالنقاء، فيما يراه من توازن الأفكار والمشاعر، واستقامة الأخلاق والخطوات، ونظافة العلاقات، فيأتي هؤلاء من هنا وهناك، ليطلقوا الإشاعات الكاذبة، بأن فلانا زنى، وبأن فلانة انحرفت.. ويخوضون في ذلك، حتى يدفعوا الناس إلى الخوض فيه، فيتبدل الجو الطاهر إلى جو يوحي بالقذارة، ويتغير الهواء النقي إلى هواء فاسد، ويتحول الإيحاء في حركة الحياة من اتجاه يثير المعاني الطاهرة في الروح والشعور إلى اتجاه يثير المعاني القذرة في داخل النفس الإنسانية.. وهكذا تساهم الإشاعات والكلمات اللامسؤولة في انحراف الفكرة والإحساس، والخطوة والموقف، وتشكل خطوة تربوية سلبية، بدلا مما يريده الإسلام للكلمات أن تتحرك فيه، بحيث تكون خطوة تربوية إيجابية، فإن الإنسان يتأثر بالمجتمع سلبا أو إيجابا من خلال الفكرة التي يحملها عنه، أو من خلال الجو الذي يحتويه بفكره وروحه وحركته.

قال آخر (1): ولذلك؛ فإن القرآن الكريم يدعو إلى حصر الخطأ في الدائرة الخاصة المتصلة بالمسؤولية، لينال جزاءه عليه، أو ليتراجع عنه، وعلى احترام المجتمع في جوه العام، وإبعاد الأجواء الشريرة، وما يوحي بها من كلام وخطوات.. وهذا في الحالات التي لا تفرض المصلحة العامة التشهير بالمنحرف، كعقوبة علنية، من خلال ما يفرضه الردع القانوني الشرعي من وسائل حاسمة في ذلك، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أذاع فاحشة كان كمبتدئها) (2).. وقال الإمام الصادق: (من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه، فهو من الذين قال الله عزوجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 19]) (3)

__________

(1) من وحي القرآن (16/ 268)

(2) الكافي، ج: 2، ص: 356.

(3) الكافي، ج: 2، ص: 357.

القرآن.. والهداية الشاملة (2/115)

قال آخر (1): وقد جاء التعبير عن هؤلاء الذين يعملون على إشاعة الفاحشة في المجتمع المؤمن، بقوله: ﴿يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾ [النور: 19] باعتبار أن الحب للشيء يدفع إلى التحرك نحوه، أو باعتبار أن الفعل الذي يقوم به صاحبه، ينطلق من حب ذاتي له، وذلك في لفتة إيحائية، بأن الله يريد للإنسان أن يربي نفسه على تنظيف قلبه من الميل المنحرف والشعور العدواني والنية الشريرة، لأن ذلك هو أساس السير في خط الاستقامة في الحياة، فلا يكفي في الصلاح أن يكون العمل صالحا في طبيعته، بل لا بد من أن تكون النفس صالحة في مشاعرها ودوافعها.

قال آخر (2): وقد نستوحي من التعبير عن هؤلاء بأنهم من ﴿الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [النور: 19]، التأكيد على أن في نشرهم للفاحشة على مستوى الكلمة سعيا لتحريك المجتمع في هذا الاتجاه، من خلال تحطيم الضوابط الأخلاقية التي تدفع الفرد إلى الالتزام بالخط الأخلاقي السليم.

قال آخر (3): ولهذا كانت العقوبة شديدة تشمل الدنيا والآخرة، فقد قال تعالى: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النور: 19] لأن هناك انتهاكا لحق العباد، في الإساءة إلى سلامة الفرد والمجتمع في كرامتهما وأخلاقيتهما، وإساءة لحق الله في عصيان نواهيه، مما يستوجب مضاعفة العقوبة، لتكون للدنيا عقوبتها التي تحمي المجتمع من طغيان هؤلاء وامتدادهم في حياته، ولتكون للآخرة عقوبتها، فيما يفرضه العدل الإلهي من مجازاة الإنسان على أعماله.

النجاسة

قال آخر (4): ومن مظاهر اللؤم النجاسة.. وهي التي أشار إليها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا

__________

(1) من وحي القرآن (16/ 268)

(2) من وحي القرآن (16/ 269)

(3) من وحي القرآن (16/ 269)

(4) تفسير المراغي (10/ 89)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/116)

الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 28]، أي إن المشركين أنجاس فاسدو الاعتقاد يشركون بالله ما لا يضر ولا ينفع، فيعبدون الرجس من الأوثان والأصنام، ويدينون بالخرافات والأوهام، ويأكلون الميتة والدم وهي أقذار حسية ويستحلون القمار والزنا ويستبيحون الأشهر الحرم وهي أرجاس معنوية ـ من أجل هذا لا تمكنوهم بعد هذا العام أن يدخلوا المسجد الحرام بدخول أرض الحرم، فضلا عن دخول البيت نفسه وطوافهم فيه عراة يشركون بربهم في التلبية، وإذا صلوا لم تكن صلاتهم إلا مكاء وتصدية.. وإن خفتم فقرا بسبب قلة جلب الأقوات، وضروب التجارات التي كان يجلبها المشركون من أرباب المزارع في الشعاب والوديان من البلاد ذات البساتين والمزارع وأرباب المتاجر؛ فسوف يغنيكم الله من فضله، وفضله كثير.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 125]، فالآية الكريمة تصور لنا شعور الإنسان المؤمن تجاه دعوة الإسلام، قبل أن يلتزم بالإيمان وشعور الإنسان الكافر في الموقف نفسه، بكل دقة، حيث نجد الإنسان المؤمن إنسانا منفتحا لا يشعر بأية عقدة من أي فكر، مهما كان لونه، بل يشعر ـ بدلا من ذلك ـ بالحاجة إلى الالتقاء بكل الأفكار والاتجاهات، ليتعرف منها وجه الحق، ووجه الباطل، ليدخل في أجواء الحوار الموضوعي الهادئ، ليؤمن استنادا إلى قناعة يقينية ركيزتها البرهان والحجة الواضحة، ويرفض ـ حين يرفض ـ للأساس نفسه، فكلما

__________

(1) من وحي القرآن (9/ 320)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/117)

انفتحت أمامه أبواب المعرفة كلما انشرح عقله وفكره وصدره للحقيقة المتحركة منها.. وكلما أحس بالفرح الروحي يأخذ عليه كل حواسه ومشاعره، فإذا جاء الإسلام إليه من موقع الفكر الذي يقوده إلى الإيمان بالله وبرسله، ومن موقع الوحي الذي يؤكد له المفاهيم الإنسانية والقيم الروحية التي أوحى الله بها إلى أنبيائه، انفتح قلبه له، واهتزت مشاعره لوحيه.. وعاش مع الله في نشوة روحية حقيقية.. إنه الإنسان الذي يعيش حرية الفكر مع نفسه، فلا يغلق عليه أبواب الفكر ولا يتعقد من أية دعوة، بل يعتبر كل شيء قابلا للتفكير، كما يعيش حرية الفكر مع الآخرين، فكل شيء عنده قابل للحوار، وبذلك فهو يعيش انشراح الصدر باعتباره انفتاحا على العقل والروح والحياة.

قال آخر (1): أما الإنسان الكافر الضال، فهو إنسان معقد، لا يطيق الفكر ولا يجد للمعرفة أية أهمية، ولا يشعر بالحاجة إلى أن يتعب نفسه في سبيل الإيمان، يتعامل مع العقيدة، من موقع اللامبالاة، ويتناول الفكرة الجاهزة المتحركة في بيئته، تماما كما يتناول المأكولات الجاهزة، فإذا التزم بشيء من ذلك، أغلق فكره وقلبه عن أي شيء آخر، فلا يسمح لأية دعوة أخرى أن تنفذ أو تحاول النفاذ إلى داخله، لأن القضية أصبحت منتهية بالنسبة إليه، فإذا جاءته دعوة الإسلام، لتفتح قلبه على عقائدها ومفاهيمها وأحكامها، ولتدعوه إلى الحوار حولها، ليتعرف أي الفكرتين أفضل، وأي الموقفين أحسن، فإننا نفاجأ بأن صدره يضيق ووجهه يتقلص، وتحس به كما لو كان يعيش حالة الاختناق فيحاول أن يتهرب من إثارة الموضوع أو يخرج من المجلس أو يوحي للآخرين بالحرج الشديد من هذا الحديث.

__________

(1) من وحي القرآن (9/ 320)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/118)

قال آخر (1): والآية الكريمة واردة في مقام تصوير الحالة النفسية للإنسان المهتدي، وللإنسان الضال، ومثل هذه التعابير التي تنسب الإضلال والهداية إلى الله ليست واردة على سبيل الحقيقة، بل هي واردة على سبيل الإسناد المجازي، فيما يريد القرآن الكريم أن يوحيه، في نفس الإنسان من رجوع كل الأفعال إلى الله، سواء في ذلك الأفعال المباشرة التكوينية كخلق السموات والأرض وغيرهما، أم الأفعال غير المباشرة، كعملية الرزق والموت والحياة والضلال والهدى مما تتدخل في إرادة الإنسان واختياره في كثير من الحالات، ومن خلال ما وهبه إياه الله من مفردات القدرة وإمكانات الاختيار؛ فيمكن نسبة الفعل إلى الله، لأنه السبب الأول للأشياء، كما يمكن نسبته إلى الإنسان، لأنه السبب المباشر لها، وبذلك يكون التعبير بإرادة الله للهدى، أو إرادته للضلال على أساس ما أودعه في الكون وفي شخصية الإنسان من السنن التي توحي بالضلال تارة، عندما يبتعد الإنسان باختياره عن وسائل الهدى، وتوحي بالهدى أخرى، عندما يقترب الإنسان من عناصر الإيمان.

قال آخر (2): ثم قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 125] والرجس ـ في المفهوم المادي ـ هو القذر، وقد استعاره للقذارة المعنوية المتمثلة في الكفر والضلال، لما يستتبعه من الإبعاد عن رحمة الله والقرب من عذابه، تماما كما هو القذر الذي يستدعي الابتعاد عن الشخص الذي يتلطخ به.

قال آخر (3): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5]، أي اهجر المعاصي والآثام الموصلة إلى العذاب في الدنيا والآخرة فإن النفس متى طهرت منها كانت مستعدة

__________

(1) من وحي القرآن (9/ 323)

(2) من وحي القرآن (9/ 324)

(3) تفسير المراغي (29/ 126)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/119)

للإفاضة على غيرها، وأقبلت بإصغاء وشوق إلى سماع ما يقول الداعي.

الحرام

قال آخر: ومن مظاهر اللؤم أكل الحرام، وقد وردت في القرآن الكريم ذكر أكثر المحرمات، وفي الجوانب المختلفة.

قال آخر (1): من الأمثلة على ذلك المطعومات التي وردتحريمها.. كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 173]، أي إنما حرم الله عليكم ما يضركم كالميتة التي لم تذبح بطريقة شرعية، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، والذبائح التي ذبحت لغير الله.. ومن فضل الله عليكم وتيسيره أنه أباح لكم أكل هذه المحرمات عند الضرورة؛ فمن ألجأته الضرورة إلى أكل شيء منها، غير ظالم في أكله فوق حاجته، ولا متجاوز حدود الله فيما أبيح له، فلا ذنب عليه في ذلك. إن الله غفور لعباده، رحيم بهم.

قال آخر (2): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ [المائدة: 3]، أي إنما حرم الله عليكم الميتة، وهي الحيوان الذي تفارقه الحياة بدون ذكاة، وحرم عليكم الدم السائل المراق، ولحم الخنزير، وما ذكر عليه غير اسم الله عند الذبح، والمنخنقة التي حبس نفسها حتى ماتت، والموقوذة وهي التي ضربت بعصا أو حجر حتى ماتت، والمتردية وهي التي سقطت من مكان عال أو هوت في بئر فماتت، والنطيحة وهي التي ضربتها أخرى بقرنها فماتت، وحرم

__________

(1) التفسير الميسر (ص 26)

(2) التفسير الميسر (1/ 225)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/120)

الله عليكم البهيمة التي أكلها السبع، كالأسد والنمر والذئب، ونحو ذلك، واستثنى ـ سبحانه ـ مما حرمه من المنخنقة وما بعدها ما أدركتم ذكاته قبل أن يموت فهو حلال لكم، وحرم الله عليكم ما ذبح لغير الله على ما ينصب للعبادة من حجر أو غيره، وحرم الله عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم بالأزلام، وهي القداح التي كانوا يستقسمون بها إذا أرادوا أمرا قبل أن يقدموا عليه.. ذلكم المذكور في الآية من المحرمات ـ إذا ارتكبت ـ خروج عن أمر الله وطاعته إلى معصيته.

قال آخر: ومثل ذلك ذكر الله المحرمات المرتبطة بالكسب، فقال: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، وقال: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]

قال آخر: وهكذا حرم الله تعالى الزواج بعدد من النساء، فقال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 23]

قال آخر (1): أي حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم، ويدخل في ذلك الجدات من جهة

__________

(1) التفسير الميسر (ص 81)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/121)

الأب أو الأم.. وبناتكم: ويشمل بنات الأولاد وإن نزلن، وأخواتكم الشقيقات أو لأب أو لأم، وعماتكم: أخوات آبائكم وأجدادكم، وخالاتكم: أخوات أمهاتكم وجداتكم، وبنات الأخ، وبنات الأخت: ويدخل في ذلك أولادهن، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم، سواء دخلتم بنسائكم، أم لم تدخلوا بهن، وبنات نسائكم من غيركم اللاتي يتربين غالبا في بيوتكم وتحت رعايتكم، وهن محرمات وإن لم يكن في حجوركم، ولكن بشرط الدخول بأمهاتهن، فإن لم تكونوا دخلتم بأمهاتهن وطلقتموهن أو متن قبل الدخول فلا جناح عليكم أن تنكحوهن، كما حرم الله عليكم أن تنكحوا زوجات أبنائكم الذين من أصلابكم، ومن ألحق بهم من أبنائكم من الرضاع، وهذا التحريم يكون بالعقد عليها، دخل الابن بها أم لم يدخل، وحرم عليكم كذلك الجمع في وقت واحد بين الأختين بنسب أو رضاع إلا ما قد سلف ومضى منكم في الجاهلية.. إن الله كان غفورا للمذنبين إذا تابوا، رحيما بهم، فلا يكلفهم ما لا يطيقون.

قال آخر: وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خطورة الحرام، وتأثيره في الهداية والاستجابة، فقال: (يا أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء. يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟) (1)

الفاحشة

__________

(1) البخاري (94)، والترمذي (2989)، والبيهقي 3/ 346 ومسلم (1015)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/122)

قال آخر: ومن مظاهر اللؤم الوقوع في الفواحش.. أن القلب المدنس بدنس الشهوات لا يمكنه أن يصل إلى حقيقة الإنسان، لأنه يصير كالبهيمة لا هم له إلا إرواء غليل شهواته.. ولهذا كانت العفة ركنا في الكرامة الإنسانية، من دخلها اعتصم بعصمة الله وحفظ بحفظ الله.

قال آخر: ولهذا نرى القرآن الكريم الذي يأمرنا باللين والرحمة ينهانا أن نلين مع الواقعين في الفواحش المجاهرين بها، لأن ذلك سيجعلها متمكنة منهم، وسارية في المجتمع لتحرقه مثلما تفعل النار في الهشيم، وقد قال تعالى في ذلك: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 1 ـ 2]

قال آخر (1): فقد امتن الله تعالى على عباده بما أنزل عليهم في هذه السورة من الفرائض والأحكام وفصله لهم من أدلة التوحيد وبيناته الواضحة التي لا تقبل جدلا، ليعدهم بذلك لأن يتعظوا ويعملوا بما جاء فيها مما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم وفيه صلاحهم، فإن في حفظ الفروج صيانة للأنساب واطمئنانا على سلامتها مما يشوبها، كما أن فيه أمنا من حصول الضغائن والأحقاد التي قد تجر إلى القتل وارتكاب أفظع الجرائم بين الأفراد، وأمنا على الصحة والبعد من الأمراض التي قد تودى بحياة المرء وتوقعه في أشد المصايب وأعظم ألوان البلاء.

قال آخر (2): ثم ذكر العقوبات المرتبطة بالزانية والزاني، وأن عقوبة كل منهما مائة

__________

(1) تفسير المراغي (18/ 67)

(2) من وحي القرآن (16/ 217)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/123)

جلدة.. لأنهما انحرفا عن القاعدة الاجتماعية التي أراد الله أن يخضع لها نظام العلاقات الجنسية، بما يكفل ضبط نوازع الغريزة وتلبية حاجتها، ويؤمن الإيحاء الداخلي الطاهر بأنها حاجة لتنمية الحياة في اتجاه هدف متوازن، وليست قيمة تتجمع في داخلها طموحات النفس.. ولهذا فإن عملية التنظيم والتخطيط في هذا المجال قد تحمل بعض سلبيات التحديد والتقييد، ولكنها تمنح الإنسان إيجابيات التوازن والاستقامة والتركيز، تماما كما هي حاجات الحياة الأخرى في داخل الجسد وخارجه، التي لا يريد الله لها أن تموت، لأنها جزء من حركة الحياة في وجوده، ولا يريد لها أن تطغى في أجواء الفوضى، لأنها تقود الإنسان إلى الموت، فيما يخيل إليه أنها الحياة.. وقد جعل الله نظام الأسرة مرتكزا على هذه القاعدة التي ترى في عقد الزواج شرطا لشرعية العلاقة بين الرجل والمرأة، فيما يفرضه التعاضد الذاتي من حقوق وواجبات على أساس المودة الروحية، والرحمة الإنسانية، والتشريع الإلهي الذي يرعى ذلك كله وينميه ويقويه، وضبط العلاقات النسبية لجهة الأبوة والأمومة والبنوة، وما يتفرع عنها، بسلسلة طويلة من المسؤوليات التي تنظم حركة العلاقات الاجتماعية، بشكل دقيق ومتوازن.

قال آخر (1): ولذلك لم تعد مسألة الزنى مسألة فردية يستجيب فيها الإنسان لنوازعه الذاتية، أو نزوة غريزية يخضع الإنسان فيها لمشاعره الجنسية، لتكون مجرد خطأ طارئ من أخطاء الإنسان التي تترقب العفو، أو تهرب من المسؤولية، بل هي مسألة تمرد على تركيبة النظام الاجتماعي، مما يجعل الخلل الناتج عن هذا الانحراف أو ذاك، خللا يمس السلامة الاجتماعية، وخطرا على استمرار التوازن في خط المسيرة الإنسانية.. ولهذا أراد الله أن يعطي

__________

(1) من وحي القرآن (16/ 218)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/124)

لهذه المسألة حجمها الحقيقي الذي يصل إلى حجم الجريمة التي تستوجب الردع الشديد الذي يمنع الإنسان من الإقدام على ممارسة هذا الانحراف.

قال آخر (1): وإذا كان الإسلام يفرض على الزاني أو الزانية هذه العقوبة، فإنه لا يريد للمسلمين الآخرين أن ينظروا إلى العقوبة نظرة عاطفية انفعالية، تصوغها النوازع الذاتية التي تتفاعل مع آلامهما وما تثيره في المشاعر والوجدان، لأن النتيجة الطبيعية لذلك أن تتحول المسألة إلى حالة احتجاج على الحكم الشرعي من ناحية علمية، لتنتهي إلى حالة تفاعل مع الجريمة بالتخفيف من شأنها في حساب السلوك، والإيحاء الداخلي بأنها لا ترقي إلى مستوى هذه العقوبة القاسية، مما ينعكس سلبا على شعور الإنسان بالالتزام الديني داخليا، الأمر الذي يقوده إلى الانحراف تدريجيا.. وهذا ما أراد الله تأكيده بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور: 2] كي تكون عاطفة المسلم الإنسانية تابعة للخط الشرعي، فيما يريد الله أن يؤكده من طبيعة الرحمة، تماما كما هو خضوع الخط الفكري للشريعة، فإذا كان الله قد أمر بجلدهما، فلا بد من أن يكون للإنسان مصلحة عميقة في ذلك، في الدائرة الفردية والاجتماعية، مما يجعل من العقوبة عملية جراحية على مستوى النظام الأخلاقي للإنسان.. وهذا ما يخط له منهج الإسلام التربوي بهدف صياغة الإنسان على صورة الإسلام في الفكر والعاطفة والموقف.

قال آخر (2): وهذا هو الخط الذي يعيش فيه الإنسان المسلم العقيدة الثابتة بأن الله هو أرحم بعباده من كل أحد وأنه أحكم في تشريعه لهم من كل مخلوق، لأنه الرحيم العليم الخبير بما يصلح عباده، فيما يعاقبهم به، أو فيما يثيبهم به.. وبذلك تكون العاطفة منطلقة من

__________

(1) من وحي القرآن (16/ 224)

(2) من وحي القرآن (16/ 225)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/125)

القاعدة الفكرية التي تغذي الشعور كما تغذي العقل، وتؤكد الموقف.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 2] وذلك بإعلانه بين الناس، وإقامته بمحضر منهم، ليتعرف الناس عليهما، ويفقدا موقعهما الاجتماعي، ليكون ذلك عبرة للآخرين، ليرتدعوا عن التفكير بمثل جريمتهم، ويكون ذلك درسا لهم في المستقبل، مما يجعل للعقوبة دورا تربويا على المستوى الاجتماعي العام، ودورا تأديبيا يطال الجاني نفسه.. وإذا كان الخطاب موجها إلى المؤمنين كافة، فليس معنى ذلك أن لكل واحد القيام به، بل معناه أنه مسئوليتهم بشكل عام، ولكن تنفيذه يكون من صلاحيات ولي أمور المسلمين الذي تستقيم له المعرفة، ويستقيم له التنفيذ.

قال آخر (1): ولذلك اعتبر الله تعالى من أمهات صفات المؤمنين ابتعادهم عن الفواحش، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 68 ـ 70]، أي والذين يوحدون الله، ولا يدعون ولا يعبدون إلها غيره، ولا يقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بما يحق قتلها به، ولا يزنون، بل يحفظون فروجهم، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، ومن يفعل شيئا من هذه الكبائر يلق في الآخرة عقابا، يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه ذليلا حقيرا.. لكن من تاب من هذه الذنوب توبة نصوحا وآمن إيمانا جازما مقرونا بالعمل الصالح، فأولئك يمحو الله عنهم سيئاتهم ويجعل مكانها حسنات؛ بسبب توبتهم وندمهم، وكان الله غفورا لمن تاب،

__________

(1) التفسير الميسر (ص 366)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/126)

رحيما بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بأكبر المعاصي، ومن تاب عما ارتكب من الذنوب، وعمل عملا صالحا فإنه بذلك يرجع إلى الله رجوعا صحيحا، فيقبل الله توبته ويكفر ذنوبه.

قال آخر (1): ولذلك كان من بنود البيعة التي كان يبابع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بيعتهم على الابتعاد عن الفواحش، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة: 12]، أي يا أيها النبي إذا جاءك النساء المؤمنات بالله ورسوله يعاهدنك على ألا يجعلن مع الله شريكا في عبادته، ولا يسرقن شيئا، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن بعد الولادة أو قبلها، ولا يلحقن بأزواجهن أولادا ليسوا منهم، ولا يخالفنك في معروف تأمرهن به، فعاهدهن على ذلك، واطلب لهن المغفرة من الله.. إن الله غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم.

2. الشعائر التعبدية

بعد أن استمعت إلى تلك الأحاديث الجميلة عن التهذيب والتصفية، ربت على كتفي رجل، وقال: هلم معي إلى منزل الشعائر التعبدية، فهي من أهم منازل السلوك، ومن لم ينزلها لم يكن له حظ من الدين ولا من فهم القرآن الكريم.

قلت: ولم؟

قال: لأن الشعائر التعبدية هي المدرسة التي تهذب النفس وتربيها وتزرع فيها

__________

(1) التفسير الميسر (ص 551)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/127)

التقوى، وتجعلها أهلا لعبادة ربها، ولقربه، وللتواصل الروحي معه.

قلت: صحيح.. ولكن أمرها واضح، بل إن أبسط العوام عندنا يحفظ أركانها وشروطها وواجباتها ومستحباتها.

قال: أجل.. وذلك شيء جميل.. لكن الأجمل منه حفظ أرواحها وأسرارها ومقاصدها.. وقد اهتمت بذلك دولتنا دولة الهداية، فأنشأت له الكثير من المؤسسات التي لا دور لها سوى تعميق تلك المعاني في نفوس المؤمنين.

قلت: هذا جميل جدا.. فأين توجد؟

قال: في كل البلاد.

قلت: فهل يمكنني أن أتدرب معهم على تلك المعاني؟

قال: لا.. دورك محصور في رحلتك هذه في التعرف على هدايات القرآن الكريم العامة لا التفصيلية.. ولا تحزن.. فما دامت نفسك مشتاقة إلى تعلم ذلك، فسيهيئ الله لك من يعلمك.

قلت: فإلى أي مدينة سنذهب الآن لنزور مدارس الشعائر التعبدية؟

قال: كل المدن تحوي تلك المدارس.. وقريب من هنا مدرسة تعلم ذلك.. فهيا بنا إليها.

الصلاة

سرت معه إلى المحل الذي ذكره، وقد كان قريبا جدا.. فبمجرد أن خرجنا ومررنا ببعض الروضات، وجدنا مدرسة كبيرة كتب على بابها [مدرسة الشعائر التعبدية]، وقد كان أول قسم مررنا به، وكان عدد الحاضرين فيه كثيفا جدا، قسم الصلاة، وقد رأينا الأستاذ يقول مخاطبا تلاميذه: قبل أن نبدأ في التمرين على الخشوع في الصلاة، نريد أن نسمع

القرآن.. والهداية الشاملة (2/128)

منكم بعض الآيات الكريمة الواردة في الصلاة.. لتكون أساسا وبركة لما سنقوم به من تدريبات.

قال أحدهم: من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]، وهي تشير إلى أن من أدوار الصلاة الكبرى التي شرعت من أجلها الدور التطهيري، بنهيها صاحبها عن الفحشاء والمنكر.

قال آخر (1): وكأن الآية الكريمة تقول للمؤمن: (أقم الصلاة التي تعيش في داخلها الحضور الإلهي في نفسك وفي حياتك، فتزداد ارتباطا به، وإحساسا بوجوده، وخشوعا له، وإطاعة لأوامره ونواهيه)، لأن مشكلة بعض من يؤمنون بالله، أنهم لا يحسون بحضوره في حياتهم، بل يفكرون به، كأية معادلة عقلية تعيش في أفكارهم، كحالة ذهنية مجردة، لا كإحساس شعوري نابض بالحياة، ولهذا يغيبون عن ذكره، ويغيب في وجدانهم عن عمق الوعي في شخصيتهم، فلا يترك الإيمان في داخلهم أي أثر، ولا يثير فيهم أي شعور حي.. وهنا يأتي دور الصلاة، في وقفة الإنسان المتكررة اليومية بين يدي الله، وذكره له وحديثه معه، وركوعه وسجوده بين يديه، وخشوعه في سبحات الدعاء أمامه، مما يجعله يشعر به كما لو كان معه.

قال آخر (2): وإذا كان للصلاة هذا الدور الكبير في الشعور بحضور الله في وعي الإنسان، فإن من الطبيعي أن يكون لها الدور العظيم في صنع الشخصية الرافضة للفحشاء والمنكر فيما يثيره حضور الله في نفس المؤمن من الشعور برقابته القوية عليه وعلى كل خفاياه، لتتولد في داخله القوة الخفية الروحية الناهية عن كل ما يتجاوز حدود الله، وعن كل ما

__________

(1) من وحي القرآن (18/ 59)

(2) من وحي القرآن (18/ 60)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/129)

ينكره الله ولا يرضاه.. وبذلك كانت الصلاة، في عمقها التشريعي، عملا تربويا عباديا يعمل على صنع الشخصية الرافضة لكل معاصي الله، بحيث يكون الحد الفاصل بين الصلاة المقبولة والصلاة غير المقبولة، النتائج العملية التي تترتب عليها من حيث تحقيق النهي عن الفحشاء والمنكر في شخصية الإنسان، وعدم تحقيق ذلك لديه.

قال آخر (1): هذا، وقد يصغر شأن الصلاة عند من ينظرون إلى كثير من المصلين، فلا يجدون للصلاة أثرا عليهم في سلوكهم، حيث لم تنههم صلاتهم عن فحشاء أو منكر.. ففي المصلين من يكذب، وفي المصلين من يشهد الزور، وفي المصلين من يبخس الكيل والميزان.. وليس ذلك لعلة في الصلاة، وإنما العلة كامنة في المصلى نفسه، لأنه يصلى بجسمه، ولا يصلى بعقله وقلبه، وروحه، فلا يذكر الله في صلاته ذكرا يملأ كيانه خشوعا، وجلالا.. ومع هذا، فإن مداومة الصلاة، والحرص على أدائها في أوقاتها، ستصل بالمصلي يوما وإن طال به الطريق، إلى الثمرة الطبية التي وعد الله المصلين بها، وهي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.

قال آخر (2): وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على دور الصلاة في تهذيب نفس المداوم عليها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ [المعارج: 19 ـ 23]، أي إن الإنسان جبل على الهلع، فهو قليل الصبر، شديد الحرص، فإذا افتقر أو مرض أخذ في الشكاة والجزع، وإذا صار غنيا أو سليما معافى منع معروفه وشح بماله، وما ذاك إلا لاشتغاله بأحواله الجسمانية العاجلة، وقد كان من الواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال الآخرة، فإذا مرض أو افتقر رضى بما قسم له، علما بأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وإذا وجد المال

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 437)

(2) تفسير المراغي (29/ 71)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/130)

والصحة صرفهما في طلب السعادة الأخروية، وقد استثنى من هذه الحال من اتصفوا بالصفات الآتية ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ [المعارج: 22 ـ 23]، أي إن الإنسان بطبعه متصف بصفات الذم، خليق بالمقت إلا من عصمهم الله ووفقهم، فهداهم إلى الخير ويسر لهم أسبابه، وهم المصلون الذين يحافظون على الصلوات في أوقاتها، لا يشغلهم عنها شئ من الشواغل.

قال آخر: لكن الصلاة التي تحدث ذلك التأثير هي الصلاة الخاشعة، فهي مدرسة التزكية والترقية الكبرى، وهي معراج المؤمن، والنجاح في تأديتها، والتدرب الصحيح على أركانها وشروطها ومستحباتها، يجعلها تؤدي دورها في الإصلاح والتهذيب، لينتقل صاحبها من أصحاب النفوس اللوامة إلى أصحاب النفوس المطمئنة.

قال آخر: وبذلك؛ فإن الصلاة إن كانت خاوية من كل المعاني، لا صلة لها بالروح، ولا علاقة لها بالتزكية، لأنها مجرد حركات جسدية، يؤديها صاحبها لرفع العتاب عنه إما من نفسه أو غيره، أما حقيقة الأمر؛ فهو أنه من التاركين للصلاة، وإن كان في الظاهر من الحريصين عليها، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بصراحة في قوله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، وهو يدل على أن الغرض من الصلاة تحقيق ذكر الله، والغفلة تضاد الذكر، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيما للصلاة، والله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 205]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في تحريم صلاة السكران حتى يعقل: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43]، والذي يمكن انطباقه على الغافل أو المنشغل بأي شاغل.

قال آخر: ولهذا يأمر الله تعالى بالصلاة وأركانها من ركوع وسجود لتهذيب النفس

القرآن.. والهداية الشاملة (2/131)

وإصلاحها، كما قال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 45 ـ 46]

قال آخر (1): ففي الآية الكريمة دعوة للمؤمنين، الذين استجابوا لله والرسول، من أهل الكتاب وغيرهم أن يستعينوا على التزام الصراط المستقيم بالصبر والصلاة، إذ أن هذين الأمرين ـ الصبر والصلاة ـ يمدان المؤمن بالقوة التي تعينه على احتمال تكاليف العبادة، ومشقة الجهاد ومدافعة شهوات النفس وأهوائها.. وقد قدم الصبر على الصلاة، لأنه مطلوبها الذي يعين عليها، وعلى أدائها في أوقاتها، كما قال تعالى مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]

قال آخر (2): وقد خص الله تعالى الصلاة وحدها هنا بالذكر، من بين العبادات، لأنها رأس العبادات جميعها، وملاك الطاعات كلها، فمن أداها كاملة، في جلالها وخشوعها، سلكت به مسالك الخير والهدى، وحادت به عن طرق الضلال والآثام، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45] فالضمير هنا يعود على الصلاة، أي أنها ثقيلة إلا على ذوى القلوب المتفتحة للخير، المتقبلة له، أما ذوو القلوب القاسية المتحجرة، التي لا تنضح بخير، فأمرها ثقيل عليهم، لا يأتونها ـ إن أتوها ـ إلا في تكاسل، وفتور، أو في تكره وتبرم.

قال آخر (3): وبما أن الذي يفيض على القلب الخشية والخشوع، هو الإيمان بالله، وبلقاء الله يوم الجزاء في الآخرة، فذلك هو الذي يثبت خطو المؤمن على طريق الإيمان، ويعينه على أداء الطاعات والعبادات، ولهذا قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 79)

(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 80)

(3) التفسير القرآني للقرآن (1/ 80)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/132)

[البقرة: 46] وفي التعبير بالظن هنا، إشارة دقيقة إلى أن الإيمان بالبعث وبلقاء الله إنما هو إيمان بالغيب، لا يستند إلى مدرك حسى، ومن ثم كان الإيمان به واقعا في دائرة الظن المستيقن، أو اليقين المحفوف بالظن ـ وذلك هو أول درجات الإيمان ـ فإذا ما درج المؤمن في طريق الإيمان، مستعينا بالصبر والصلاة اطمأن قلبه، وجلت عنه وساوس الظنون، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]

قال آخر: ومثل ذلك نجد اهتمام القرآن الكريم بدعوة المؤمنين إلى إقامة الصلاة بكل أجزائها وفروعها، كما قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة: 43]، وقال مخاطبا مريم عليها السلام: ﴿يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: 43]، وذكر ركوع داود عليه السلام عند إدراكه للفتنة التي فتن بها، فقال: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [ص: 24]، وذكر أهل جهنم، وأن من أسباب دخولهم إليها عدم ركوعهم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات: 48، 49]

قال آخر: ومثل ذلك يخبر الله تعالى أن السجود من العبادات العظيمة التي لم يكلف بها البشر فقط، وإنما هي عبادة الكون جميعا؛ فالكون بمفرداته جميعا يقيم شعائر السجود، كل بطريقته الخاصة، وبحسب قابليته، ومدى نيله لتجليات الأسماء الحسنى، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [الحج: 18]

قال آخر: أما سجود البشر؛ فقد أخبر الله تعالى أنه لم يخل منه دين من الأديان، حتى المحرفة منها، فقد قال على لسان هدهد سليمان عليه السلام: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ

القرآن.. والهداية الشاملة (2/133)

وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل: 23 ـ 26]

قال آخر: وأخبر عن دعوته لبني إسرائيل في عهد موسى عليه السلام للسجود، فقال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 58]، وقال: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 154]

قال آخر: وأخبر عن الصالحين من أهل الكتاب، فقال: ﴿ليْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: 113]، وقال: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا﴾ [الإسراء: 107]

قال آخر: وأخبر عن الصالحين من هذه الأمة، فقال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح: 29]، وقال في صفة عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: 64]، وقال: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة: 15]

قال آخر: وهو يدل على منتهى الخضوع، لذلك كان أول شيء فعله السحرة بعد إيمانهم السجود، كما قال تعالى: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾

القرآن.. والهداية الشاملة (2/134)

[طه: 70]، ولذلك أخبر عن إعراض المستكبرين عن السجود بسبب ما فيه من تواضع وذلة، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾ [الفرقان: 60]

قال آخر (1): ومثل ذلك نجد الدعوة إلى الإكثار من نوافل الصلوات، وخاصة صلاة الليل، كما قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والأمة من خلاله: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79]، أي واسهر بعض الليل وتهجد به، ﴿نَافِلَةً لَكَ﴾ [الإسراء: 79] أي إنها مخصوصة بك وحدك دون الأمة، فهي فريضة عليك ومندوبة في حق أمتك، ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79] أي افعل هذا الذي أمرتك، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحمدك فيه كل الخلائق وخالقهم تبارك وتعالى.

قال آخر (2): ومثل ذلك أمره تعالى له في أول البعثة بقيام الليل، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: 1 ـ 4]، ففي هذه الآيات الكريمة دعوة لانتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حال المزمل، والنوم، إلى اليقظة الكاملة، والتشمر للعمل، والقيام له.. والمراد بقيام الليل، هو اليقظة فيه، يقظة كاملة، واعية عاملة، حتى لكأنه في حال قيام دائم، وإن كان جالسا.. ثم ذكر الله تعالى مقدار قيام الليل إلا قليلا منه.. فنصف الليل، إذا قامه النبي، يعد منه قياما لليل، إلا قليلا منه، وأقل قليلا من نصف الليل، بعد كذلك من النبي قياما لليل إلا قليلا منه، وكذلك إذا هو زاد في قيامه على نصف الليل.. وهذا يعنى أن أمر النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بقيام الليل إلا قليلا، هو أمر قائم على اليسر، حسب أحوال النبي، وعلى قدر استعداده في كل

__________

(1) تفسير المراغي (15/ 83)

(2) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1249)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/135)

حال من أحواله.. ففي ليلة، يقوم الليل كله إلا قليلا، وفي ليلة أخرى، يقوم نصف الليل، وفي ثالثة، يقوم أقل من نصف الليل، وفي رابعة يقوم اكثر من نصفه.. وفي كل هذا، يكون قد أدى غاية المطلوب منه، وهو قيام الليل إلا قليلا منه..

قال آخر: فهذه الآيات الكريمة تشير إلى الدور الذي تقوم به النوافل في الترقية، ولا يمكن أن تكون هناك ترقية من دون أن تسبقها تزكية.. وبذلك يكون للنوافل دورها العظيم في تزكية النفس وترقيتها وتأهيلها للمقامات المحمودة والمراتب العلية.. وذلك كله من فضل الله تعالى على عباده، وشكره لهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]، والشكر يعني الجزاء والمكافأة، والتي لا تقتصر على الأجور فقط، وإنما تتعداها لتلك المراتب الرفيعة التي ينالها من لم يكتف بالفرائض، وإنما راح يضم إليها النوافل.

قال آخر: ولهذا أثنى الله تعالى على كل من يقوم بهذه النوافل، كما قال تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: 113]، وقال: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: 9]

التلاوة

بعد أن سمعت تلك الأحاديث الجميلة في قسم الصلاة، طُلب مني أن أخرج منه لأن الحضور سيبدؤون التدريب على الخشوع في الصلاة، فخرجت إلى قسم آخر، كُتب على بابه [قسم التلاوة]، وبمجرد دخولي قال الأستاذ لطلبته: قبل أن نبدأ في التدريب على التلاوة الحقة للقرآن الكريم أريد منكم أن تذكروا لي الآيات التي تحث على ذلك، وترغب فيه، ليكون عملنا وتدريبنا مؤسسا على كلمات الله المقدسة، لا على أهوائنا المدنسة.

القرآن.. والهداية الشاملة (2/136)

قال أحدهم (1): لاشك أن أول تلك الآيات الكريمة هي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 121]، والتي لم يقصد منها جماعة معينة، بل هي في مجال التنبيه على قاعدة أساسية عامة في باب الإيمان والكفر، وهي تلاوة الكتاب حق تلاوته التي يريد بها القراءة عن تدبر وتفكير وروحية واعية تتحرك من موقع البحث عن الحق، لا من موقع التعصب الأعمى، فإن ذلك هو سبيل الانفتاح على آيات الله وما تشتمل عليه من دلائل الحق وبراهينه، حيث يقود ذلك إلى الإيمان.. ومن خلال ذلك، نفهم أن الكفر لا ينشأ من حالة فكرية مضادة، بل من حالة اللامبالاة والغفلة الناشئة من عدم التوفر على القراءة الواعية والفكر المسؤول، مما يجعل من الإنسان إنسانا يتحرك في جو التعنت والتعصب والعناد الذي لا يملك معه الانفتاح على الحق من قريب أو بعيد، وقد اكتفى القرآن بالحديث عن خسارة الكافرين ولم يتحدث عن السبب في كفرهم، لأن ذلك كان واضحا في الحديث عن سبب الإيمان، وذلك كمحاولة للإيحاء لهم بضرورة التوفر على السير في خط القراءة الواعية للحصول على فرص النجاح في الدنيا والآخرة.

قال آخر (2): أي أن هؤلاء يتلونه حق تلاوته في فهم عميق للمضمون الفكري، وفي استيحاء للمشاعر الروحية، وفي دراسة لكل جوانبها المتصلة بالله وبالحياة والإنسان، ليحصلوا من ذلك على الثقافة الإيمانية في أجواء الإيمان المنفتح الباحث عن الحقيقة، لا الإيمان الأعمى الغارق في ضباب التقليد، فلا يقتصرون على الأداء اللفظي الذي يشغل البعض من الناس أو على العنصر الأدبي البلاغي، بل يتحركون معه ككتاب عمل ووعي

__________

(1) من وحي القرآن (2/ 197)

(2) من وحي القرآن (2/ 198)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/137)

وحركة ومنهج للحياة.

قال آخر (1): وربما كان المراد بالكتاب هنا التوراة، وربما كان المراد به ما يشمل القرآن، فإن الفكرة تنطلق من وظيفة الكتاب في الوعي الإيماني الذي يخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فلا فرق ـ في ذلك ـ بين كتاب وكتاب، فإن كل كتاب يصدق الكتاب الذي بين يديه والرسول الذي أنزل به، ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [هود: 17] لأن القراءة الواعية للكتاب الذي يتضمن إشراقه المفاهيم الروحية والفكرية والعملية، لا بد أن تعود إلى الإيمان للذين يتطلعون إلى حقائقه وآفاقه، ليلتزموها عقيدة وسلوكا وانتماء.

قال آخر (2): وقد أشار الله تعالى إلى ذلك عند ذكره لكتب الأمم الأخرى، فقال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: 66]، وفيها إشارة إلى ما بين أيديهم من خير ضيعوه، وما معهم من نور أطفئوه، فهذه التوراة التي يقول الله فيها: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة: 44]، وهذا الإنجيل الذي يقول الله فيه: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة: 46]، وهذا القرآن الذي يقول الله فيه: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2].. هذه الكتب المنزلة من عند الله، تحمل الهدى والنور.. هي بين يدى أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ فلو أنهم أقاموا هذه الكتب على وجهها وأخذوا عنها بعض ما فيها، واستقاموا على أمرها ونهيها، لاستقام طريقهم في الحياة، ولملأ الله قلوبهم غنى ورضى، ولوجدوا فيما أنزل الله من رزق، هو خير كثير، يسع الناس جميعا، ويسعد به الناس جميعا، لكنهم كفروا بآيات الله، واتبعوا أهواءهم، وجروا على ما تمليه عليهم أنفسهم من حقد وحسد، وشره، وتكالب على

__________

(1) من وحي القرآن (2/ 198)

(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1135)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/138)

المال.. فكان الجري اللاهث في الحياة نصيبهم، وكان الجوع النفسي والجدب الوجداني خاتمة مطافهم وسعيهم.

قال آخر (1): ولهذا يرد ذكر التلاوة في القرآن الكريم بالفعل المضارع الدال على الاستمرار، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: 29 ـ 30]، أي إن الذين يتبعون كتاب الله ويعملون بما فرض فيه من فرائض فيؤدون الصلاة المفروضة لمواقيتها على ما رسمه الدين بإخلاص وخشية من ربهم، ويتصدقون مما أعطاهم من الأموال سرا وعلانية بلا بسط ولا إسراف.. هؤلاء قد عاملوا ربهم راجين ربح تجارتهم بنيلهم عظيم ثوابه كفاء ما قدموا من عمل مع الإخبات والإنابة إليه، ويبتغون فضلا منه ورحمة فوق ذلك، وغفرانا لما فرط من زلاتهم، وما اجترحوا من سيئاتهم، فالله هو الغفور لما فرط من المطيعين من الزلات، الشكور لطاعاتهم، فمجازيهم عليها الجزاء الأوفى، كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 57]، وقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: 173]

قال آخر (2): وقد أخبر الله تعالى أنه لا يمكن أن يستفيد من القرآن الكريم إلا ذلك الذي يعطيه حقه من التعظيم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر:

__________

(1) تفسير المراغي (22/ 128)

(2) من وحي القرآن (22/ 134)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/139)

21]، أي لو أنزلنا هذا القرآن بما فيه من عبر وعظات ووصايا ونصائح، ومفاهيم وأحكام، وترغيب وترهيب، وتعداد لمواقع عظمة الله في الكون، ولامتداد قدرته في خلقه، وهيمنته على الأمر كله، على جبل، بكل ما يمثله الجبل من جمود الإحساس لغياب الحياة في داخله، ومن صلابة الصخر في صخوره القاسية، ومن ضخامة الحجم الذي يطل به على الأفق الواسع ليحجب الكثير منه في امتداد النظر، مما لا تستطيع الرياح أن تهز جبروته، ولا الزلازل أن تسقط قمته، ولكن هناك شيئا يختلف عن عصف الرياح وخطورة الزلازل، يمكن أن يصدعه فيتشقق، ويثير الإحساس فيه فيخشع، وهو القرآن النازل من الله عليه لو قدر أن ينزله الله عليه كما أنزله على الإنسان، لأن طبيعة معانيه تؤثر في العمق منه، بالرغم من الصلابة والضخامة والجمود الذاتي فيه.. وإذا كانت هذه هي الحال مع الجبل، فكيف يجب أن يتمثله الإنسان المملوء وعيا وشعورا في انفعاله به فيما يعيشه من خشية الله.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾ [الرعد: 31]، أي لو ثبت أن قرأنا يقرأ ويتلى سيرت به الجبال، فانتقلت من أماكنها، وانفسحت عن شعابها لتتسع رقعة للزرع والغراس، أو قطعت الأرض فتشققت لتكون منها بحار تجري فيها المياه، أو يكلم به الموتى بمعنى أنه يحييها، ثم يكلمها، لكان هذا القرآن.. ولكن الكلام لا يسير الجبال، ومع ذلك فهو أقوى تأثيرا، وكان يمكن أن يؤثر في قلوب المشركين بأشد من ذلك، لولا أن عنادهم حجر قلوبهم.

قال آخر (2): ولهذا يدعونا الله تعالى إلى إشراك جميع مشاعرنا أثناء التلاوة، كما قال تعالى: ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ

__________

(1) زهرة التفاسير (8/ 3952)

(2) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1143)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/140)

تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 23]، ففي الآية الكريمة إلفات إلى نعمة جليلة من نعم الله، إلى جانب ما ينزل سبحانه من نعم، فهو سبحانه الذي أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج منها حبا ونباتا، تغتذى منه الأجسام.. ثم هو سبحانه بعد أن كفل للإنسان حياته، وللجسم حاجته، أنزل له من السماء ما يحيا به الجانب الروحى منه.. فالإنسان ليس جسدا وحسب، مثل سائر الأحياء، وإنما هو جسد وروح، وهو بهذا الجسد وحده حيوان، ولا تتحقق إنسانيته إلا بالجسد والروح معا.

قال آخر (1): وقوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ [الزمر: 23] بيان للغذاء الروحي الذي أنزله الله، وهو القرآن الكريم، فهو حديث الله إلى عباده، وكلماته إليهم.. فأى حديث أحسن من حديث الله؟.. وأي كلام أكرم وأطيب من كلامه؟

قال آخر (2): ثم وصف الله تعالى القرآن الكريم بكونه ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ [الزمر: 23]، وهو وصف لأحسن الحديث، وبيان له.. فأحسن الحديث، هو هذا الكتاب، أي القرآن الكريم، وهو كتاب متشابه في جلال قدره، وعلو منزلته، وسمو معانيه.. إنه الحق في آياته وكلماته.. فهو على درجة واحدة في كماله وجلاله، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].. والمثاني: جمع مثنى، وذلك بما فيه من بيان للأمور وأضداد.. كالإيمان والكفر، والحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، والحسنات والسيئات، والجنة والنار.. والقرآن الكريم في الحالين، هو على مستواه العالي من الكمال والجلال.. فالحديث عن الكفر مثلا، معجز إعجاز الحديث عن الإيمان، لأن هذا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1143)

(2) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1143)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/141)

وذك من كلام الله.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ [الزمر: 23]، والاقشعرار، والقشعريرة، حال تعترى الجسد من أثر رهبة أو خوف، فيموج الجلد بموجات أشبه بمسة الكهرباء.. واقشعرار جلود الذين يخشون ربهم من هذا الحديث المنزل من عند الله، هو لما يقع في قلوبهم من رهبة وجلال لما يسمعون من كلام الله، فإذا نزل هذا القرآن على القلوب المؤمنة اهتزت لجلاله، وزلزلت أقطارها لرهبته.. أما غير المؤمنين، الذين لا يعرفون الله ولا يقدرونه قدره، فلا تلمس قلوبهم نفحة من آيات الله، ولا تصوبها قطرة من سماء كلماته.

قال آخر: ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 23]، وفيها إشارة إلى حال أخرى من أحوال المؤمنين الذين يخشون ربهم في لقائهم مع آيات الله.. فهم في أول لقائهم مع آيات الله، وفي مفتتح كل اسماع إليها، تغشاهم حال من الخوف والرهبة، فتقشعر لذلك جلودهم.. ثم إذا هم أطالوا النظر في آيات الله، وامتد جلوسهم في حضرتها، أخذ هذا الخوف وتلك الراهبة يزايلانهم شيئا، شيئا، حيث تعلوهم السكينة وتظللهم الطمأنينة ويغشاهم الأنس، فتسكن قلوبهم الواجفة، وتهدأ أوصالهم الراجفة، وإذا جلودهم التي علتها أمواج القشعريرة، وشدتها رعدة الخوف، قد استرخت ولانت.

قال آخر: ولذلك كله أخبر الله تعالى أن عدم إدراك أسرار المعاني القرآنية، وتوهم التناقض بينها ناتج عن عدم استعمال آلية التدبر، فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]

القرآن.. والهداية الشاملة (2/142)

قال آخر (1): وأصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها، ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه، وتدبر الكلام هو النظر والتفكر في غاياته ومقاصده التي يرمى إليها، وعاقبة من يعمل به ومن يخالفه.

قال آخر (2): والآية الكريمة تنعى على الغافلين جهلهم بحقيقة القرآن الكريم، ولو تدبروه لعرفوا أنه الحق من ربهم وأن ما وعد به المتقين الصادقين وما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع لا محالة، فهو إذ صدق في الإخبار عما يبيتون في أنفسهم من القول يصدق كذلك فيما أخبر عن سوء مصيرهم والوبال والنكال في عاقبتهم، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.. فتدبر القرآن وتأمل ما امتاز به هو طريق الهداية القويم، وصراط الحق المستقيم، يرشد إلى كونه من عند الله، وإلى وجوب الاهتداء به.

قال آخر (3): ومثل ذلك أخبر الله تعالى عن انغلاق القلوب التي لا تفهم كلماته، ولا تتدبرها، فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، أي أفلا يتدبرون القرآن ليتعمقوا في مفاهيمه، وينفتحوا على أحكامه، ويتعرفوا من خلاله على الخطوط الفاصلة بين الحق والباطل، وبين الكفر والإيمان، ليلتزموا الخط القرآني في قضايا العقيدة والحياة!؟ وما المانع أن يتدبروه وهم يملكون معرفة اللغة التي نزل بها، والقدرة على الفهم؟ ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24] فلا تنفتح على الحق من خلال القرآن، ولا تلتقي بالخير في آياته، كما لو كان على قلوبهم قفل يغلقها عن الوعي والفهم والانفتاح.

قال آخر (4): ومثل ذلك أخبر الله تعالى أن السبب الأكبر في غفلتهم عن الحقائق

__________

(1) تفسير المراغي (5/ 102)

(2) تفسير المراغي (5/ 102)

(3) من وحي القرآن (21/ 71)

(4) التفسير المنير (18/ 70)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/143)

العظيمة التي جاء بها القرآن الكريم ناتج عن عدم التدبر، فقال: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: 68]، أي أفلم يتدبروا القرآن الدال على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليعلموا أنه الحق من ربهم، بإعجاز لفظه ووضوح مدلوله، أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين من الأمن من عذاب الله، فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقدمون كإسماعيل عليه السلام وأعقابه، فآمنوا به وكتبه ورسله وأطاعوه.

قال آخر (1): وبناء على هذا كله أخبر أن الغاية الكبرى لتنزل القرآن الكريم هو التدبر الذي ينتج عنه التذكر، والذي لا يتحقق به إلا أولو الألباب، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، أي أن القرآن الكريم كتاب مبارك بما تمثله البركة من امتداد النفع العام والخاص في حياة الناس على مستوى الحياة الفكرية والعملية، وقد أنزله الله ليدبروا آياته ويتأملوها ليأخذوا منها المعرفة الشاملة بالحق المنفتح على الحياة كلها، وعلى الإنسان كله، وليتذكر أولوا الألباب الذين يحركون عقولهم في آياته، فيدفعهم ذلك إلى الانفتاح على الله في موقع عظمته، وفواضل نعمته، ليعرفوا موقعهم منه وموقعه منهم، وكيف يعبدونه، فيما يريده من مستوى عبادته، وكيف يطيعونه في منهج شريعته، وكيف يتقونه في حركة حياتهم.

قال آخر: وبهذا المعنى للتدبر يتحقق ما ورد في النصوص المقدسة من كون القرآن الكريم الكتاب المبين لكل شيء، كما قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]، ذلك أن التدبر يجعل المعاني القرآنية غير محصورة في وجه واحد، بحيث يصح فهم واحد منها دون ما عداه، أو يصبح ما عداه

__________

(1) من وحي القرآن (19/ 257)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/144)

معارضا لما قبله، بل القرآن الكريم حمال وجوه، وهو بذلك لا تتعارض فيه المعاني.. ولذلك، فإن المتدبر فيه يرى في كل حين من عجائبه ما لم يكن يراه من قبل، ولهذا يستفيد في كل حل أو ترحال فوائد جديدة لم تكن تخطر على بال، كما عبر عن ذلك بعض الصالحين، فقال: (ثلاث أحبهن لي ولإخواني، وذكر منها أن هذا القرآن يتدبره الرجل ويتفكر فيه، فيوشك أن يقع على علم لم يكن يعلمه)

قال آخر: ولهذا ورد الذم الشديد للذين يقرؤون الكتاب بألسنتهم، ويخالفونه بأفعالهم، وقد ضرب الله تعالى لهم المثل بالحمير التي تحمل الكتب من غير أن تعرف معانيها، كما قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة: 5]

قال آخر: ومثل ذلك شبههم بالكلب، فقال: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 175، 176]

قال آخر: ولهذا نجد الآيات الكريمة الكثيرة التي تنص على وجوب اتباع القرآن الكريم، لا مجرد الاكتفاء بتلاوته، كما قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 106]، وقال: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [يونس: 109]، وقال مخاطبا المؤمنين: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3]

قال آخر: ومثل ذلك ذم الذين يتركون كتابهم، ويتبعون سلفهم أو خلفهم أو أهواءهم، فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ

القرآن.. والهداية الشاملة (2/145)

آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170]، وقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان: 21]

قال آخر: وهكذا ورد الأمر بالحكم به، كما قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 49 ـ 50]

قال آخر: وهكذا ورد الأمر بالتحاكم إليه، قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله﴾ [الشورى 10]، وقال: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء 59]، وقال: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [النور 51]

قال آخر: ومثل ذلك اعتبر من لم يتحاكم إليه متحاكما إلى الطاغوت وأهواء الجاهلية، فقال: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ [النساء 60]، وقال: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ﴿48﴾ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴿49﴾ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [النور 48 ـ 50]

قال آخر: ولهذا كله يقترن التذكير بالقرآن الكريم بالتقوى والصلاح، كما قال تعالى:

القرآن.. والهداية الشاملة (2/146)

﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق 45]، وقال: ﴿وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الحاقة 48 ـ 50]، بخلاف غيرهم، والذين لا تفيدهم قراءته، كما قال تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر 49 ـ 51]، وقال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾ [الإسراء 41]

الذكر

بعد أن انتهوا من قراءة الآيات الكريمة المرتبطة بالتلاوة والتدبر، وبدأ العمل التدريبي الخاص، طُلب مني ومن الضيوف من أمثالي الخروج من القسم، فكان أول ما قصدته قسم الذكر، فقد كان أقرب الأقسام إلى قسم التلاوة.

وهناك أيضا وجدت الأستاذ يدعو تلاميذه إلى ذكر الآيات الكريمة التي تحض على الذكر، ويخبرهم أنها مقدمة للتدرب على الذكر الحقيقي المؤثر، وقد قدم لذلك بقوله: لاشك أنكم تعلمون سر ارتباط الصلاة بالذكر، وكونه من مقاصدها العظمى، وتعلمون أيضا سر تلك الأوامر القرآنية الكثيرة التي تحض على الإكثار منه، وتعتبره من صفات عباد الله المخلَصين.. ذلك أن الذكر هو أعظم مدرسة تربوية وروحية منّ الله تعالى بها على عباده؛ فهو لا يكتفي بوصلهم به فقط، وإنما هو يهذب نفوسهم بها ويربيها، ويزيل عنها كل رعوناتها وخبثها ومثالبها، ليحل بدلها كل أنواع المكارم والخلال الطيبة.

قال أحدهم: أجل.. ولذلك نجد القرآن الكريم يخص الذكر وحده من بين العبادات جميعا بالدعوة إلى الإكثار منه، ذلك أن تأثيره الحقيقي يكون في ذلك الإكثار، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 41]

القرآن.. والهداية الشاملة (2/147)

قال آخر (1): ففي الآية الكريمة دعوة إلهية للمؤمنين ليلتقوا به، ويعيشوا في رحابه بالذكر الدائم، والتسبيح المتواصل، الذي يشمل الزمن كله ويحتوي كل أطرافه، سواء كان ذلك بالقلب فيما يستشعره المؤمن من حضور الله في عمق شعوره ونبض حركته، أو باللسان فيما يتلفظ به من كل كلمات حمده، التي تتضمن أسرار عظمته، ومواقع نعمته، ليبقى مع الله في حالة حضور واع مستمر، فيقف من خلال ذلك، حيث يريده الله أن يقف عند حدوده، ويتحرك حيث يريده أن يتحرك في دائرتها الشرعية.

قال آخر: والربط بين إخراج الله تعالى عباده من الظلمات إلى النور والذكر يدل على أنه من أعظم وسائل التزكية، ذلك أن الذنوب والمعاصي ليست سوى ظلمات تحجب قلب صاحبها عن الحقائق، وعند الذكر تنجلي تلك الظلمات، وتتوضح الحقائق من غير تكلف دليل ولا حجة.

قال آخر: ولهذا يخبر الله تعالى عن قلة ذكر المنافقين لله، وهو يدل على أنه السبب في إصابتهم بمرض النفاق، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142]

قال آخر: بل إن الله تعالى يذكر أن الاستفادة الحقيقية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو التربية على يديه، لا تكون إلا للمكثرين من ذكر الله، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]

قال آخر (2): ذلك أن الذكر الكثير هو القمة التي يرقى إليها من دخل بالإسلام في دين الله، كما قال تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت: 45] والمراد بذكر الله هو ملء القلب

__________

(1) من وحي القرآن (18/ 325)

(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 713)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/148)

باستحضار جلاله، وعظمته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وكل ما لله من صفات الكمال والجلال.. فبهذا الذكر يكون المؤمن دائما في أنس من ربه، وقرب من جلاله وعظمته.. فلا يعمل إلا تحت هذا الشعور المراقب لله، والخائف من عقابه، الطامع في رحمته.

قال آخر: ولهذا يعتبر الله الذكر الكثير من صفات الصالحين، قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35]

قال آخر: ولهذا، فإن القرآن الكريم لا يكتفي بالدعوة إلى الإكثار من الذكر، بل إنه يحض عليه في كل الأوقات والمناسبات.. فيدعو إليه في المعارك وعند اشتدادها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا الله كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45]

قال آخر (1): ذلك أن الثبات للعدو، والتصميم على لقائه في عزم وإصرار، دون أن يقع في النفس أي هاجس يهجس بها للفرار، أو التراجع، أو أخذ الجانب اللين من مواقف القتال هو السلاح العامل بما لا تعمله كثرة العَدد والعُدد، لكسب المعركة، وتحقيق النصر.. ولن يكون ذلك الموقف متاحا للإنسان وهو يواجه وجوه الموت، إلا إذا شد عزمه بالإيمان بالله، وملأ قلبه يقينا بالجزاء الذي أعده الله له، ومن هنا كان ذكر الله، والإكثار من ذكره في هذا الموطن، هو الزاد الذي يتزود به المجاهد، للصبر على الشدائد، والثبات في وجه الموت الذي يراه رأى العين، فيما يقع بين يديه من جثث وأشلاء.. فذكر الله سبحانه وتعالى، في

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 626)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/149)

هذا الموطن الذي تصرخ فيه في كيان الإنسان دواعى الحرص على الحياة، وطلب السلامة، وحب البقاء ـ هو الذي يمسك الإنسان على البلاء، ويسوغ له طعم الموت، والاستشهاد في سبيل الله، ابتغاء الفوز برضاه، ولقائه على الوعد الذي وعد به المجاهدين في سبيله.

قال آخر (1): ومن أجل هذا كان الفرسان والأبطال في الجاهلية، يصحبون معهم من يؤثرون بالحب، ليكون في صحبتهم لهم تذكير حى بالموقف الذي يجب أن يأخذوه في ميدان القتال، حتى يكونوا موضع إعجاب وتقدير، عند من يحبونهم ويفعلون الشيء الكثير الذي يرضيهم، وينزلهم من قلوبهم منزل الإعزاز والإكبار، كما قال بعضهم في ذلك:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل... منى، وبيض الهند تقطر من دم

فوددت تقبيل السيوف لأنها... لمعت كبارق ثغرك المتبسم

قال آخر (2): فكيف إذ ذكر المؤمن ربه، واستحضر جلاله، وعظمته، في هذا الموقف الذي ينتصر فيه لله، ويجاهد في سبيله، ويعمل على مرضاته، ويطلب المثوبة من جزيل عطاياه؟ إن الذي يذكر الله في هذا الموطن، ذكرا ينبعث من قلبه، ويتحرك من وجدانه يستخف بالموت، ويلذ له طعمه، ويجد أن حياته التي يقدمها لله ليست شيئا إلى جانب الحياة الأخرى التي هو صائر إليها، وواجد ما قدم لها.. وهذا هو الذي أمسك بالمجاهدين في سبيل الله على حياض الموت، فكتبوا بدمائهم تلك الوثائق الخالدة على الزمن، في التضحية والفداء.

قال آخر: وهكذا يدعو الله تعالى إلى التزام الذكر عند مواجهة المنكرين والجاحدين والمعتدين، كما قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ [طه: 130]

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 627)

(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 627)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/150)

قال آخر (1): فالآية الكريمة تدعو إلى الصبر في مواجهة الأضاليل والأباطيل.. وتقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اصبر على كلماتهم اللامسؤولة التي ينفسون فيها عن غيظهم، ويهربون فيها من إحساسهم بالعجز أمام قوة الرسالة.. فليست المشكلة فيما يقولون من أضاليل، بل المهم هو مدى تأثير هذا القول في ساحة الدعوة.. وهذا ما لا يستطيعون أن يحققوا فيه شيئا كبيرا، لأن الحقيقة سوف تفرض نفسها على الحياة، ولو بعد حين.. ولذا فإن الصبر يمثل العامل الإيجابي في هذا المجال، لأن هؤلاء سوف يستهلكون كل وسائلهم ويجربون كل أساليبهم، وستتساقط بأجمعها أمام الرسالة في نهاية المطاف، وسيدخل الجميع، بعد ذلك، في دين الله أفواجا عندما ينقشع الضباب عن عيون السائرين)

قال آخر (2): ثم تدعو إلى الاستعانة بالتسبيح، وتقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن التسبيح الذي ترفعه إلى الله تعظيما وتنزيها له عن كل ما يلصقه به المشركون والكافرون، يفتح لك آفاقا واسعة من الشعور بالقوة المستمدة من الله العظيم المنزه عن كل عيب، ويجعلك تعيش الإحساس بالاحتقار لكل من عداه مهما بلغت قوته.. كما أن الحمد الذي يتحرك مع التسبيح سوف يطل بك على كل صفة كمال وجلال لله سبحانه، فينفتح لك الحق كله، والخير كله، والكمال كله، والجلال كله، بما تمثله كلمة الله من آفاق المطلق الذي لا حدود له)

قال آخر (3): وهكذا يكون التسبيح بالحمد انطلاقة روحية تخفف من أثقال الجهد الشديد الذي قد يسقط الإنسان من خلاله في حالة من الإعياء، أو اليأس، ويقوده ـ بعد ذلك ـ إلى التراجع أو الانسحاب، لأن اللقاء بالله ـ والعيش معه من خلال الذكر ـ في تسبيح

__________

(1) من وحي القرآن (15/ 175)

(2) من وحي القرآن (15/ 175)

(3) من وحي القرآن (15/ 176)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/151)

الله وحمده، يعطي الإنسان الشعور بتجدد القوة وتعاظمها، وبحيوية النشاط وفعاليته، ويدفعه إلى الامتداد تحت عناية الله ورعايته، قبل أن يبدأ يومه، لتكون بدايته من موقع الاستعداد ليوم عمل رسالي جديد في الدعوة وفي الجهاد، وقبل أن يبدأ ليلته، لينفض عنه سلبيات ما عاناه في يومه من صدمات وتحديات، فلا تترك تأثيرها على مشاريعه في الليل، وليخطط لنشاط روحي إسلامي في الليل بعيدا عن الانسحاق تحت تأثير الضغوط النفسية والمادية من حوله.

قال آخر (1): وهكذا تأمره بالتسبيح إذا امتد الليل، وانفتح في أعماق الكون: (فسبح بحمد ربك لتعيش الصفاء الروحي الذي ينفذ إلى فكرك وقلبك ووجدانك من ينابيع النور الإلهي الروحاني الذي يحول الليل إلى إشراقة روحية ممتدة في كل زوايا النفس، وجنبات العقل.. ومثل ذلك سبحه في آناء الليل، للمقابلة بين الليل والنهار، تماما كما هي المقابلة بين ما قبل بدايته ونهايته، ليكون التعبير شاملا للوقت كله في مجملة، وفي بداياته.. ﴿لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ [طه: 130] وتطمئن وترتاح إلى اتصالك بالمبدأ الأعلى في تسبيح وتحميد وتمجيد ومناجاة موصولة بالله، في رعايته ولطفه ورضوانه، مما يجعلك راضيا بكل شيء يحدث لك من حلو الحياة ومرها، وبؤسها ونعيمها، وسعادتها وشقائها، لأن ذلك لا يمثل مشكلة للمؤمن ما دام يتحرك في محبة الله ورضاه)

قال آخر (2): وهكذا يدعو الله تعالى إلى التزام الذكر في كل الأوقات، كما قال تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ [الروم: 17، 18]، أي نزهوا الله سبحانه في وقت المساء حين إقبال الليل وظلامه،

__________

(1) من وحي القرآن (15/ 176)

(2) تفسير المراغي (21/ 35)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/152)

وحين الصباح حين إسفار النهار بضيائه.. فالله هو المحمود من جميع خلقه في السموات من سكانها من الملائكة وغيرهم، وفي الأرض من أهلها من أصناف خلقه فيها.. ونزهوه وقت العشى حين اشتداد الظلام، ووقت الظهيرة حين اشتداد الضياء، كما قال: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ [الشمس: 3 ـ 4]، وقال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ [الليل: 1 ـ 2]

قال آخر (1): وتخصيص هذه الأوقات من بين سائرها لما فيها من التبدل الظاهر في أجزاء الزمن، والانتقال من حال إلى أخرى على صورة واضحة، كالانتقال من الضياء إلى الظلام في المساء، ومن الظلام إلى النور في الإصباح، ومن ضياء تام وقت الظهيرة إلى اضمحلال لذلك الضياء وقت العشى، وهكذا.

قال آخر (2): وهكذا يدعو الله تعالى إلى التزام الذكر في الليل والنهار، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62]، أي يخلف كل واحد منهما الآخر، كأنه يذهب عن الوجود ليكون الثاني خليفة له في إحكام ودقة، وانتظام وتداول بينهما، فالإنسان بين ليل يغشاه، وليل يبرزه، وبين حياة هادئة ساكنة يستروح فيها راحة الحياة واستقرارها، وبين لغوب وعمل وكد وعناء.. وكل ذلك ليكون مادة اعتبار وإدراك لمن أراد أن يتذكر، ويعرف قدرة الله تعالى وخلقه، وإبداعه في التكوين، فيذكر قدرة الله تعالى الخلاق العليم، وأنه ليس كمثله شيء، وأنه خالق كل شيء، والمنعم على كل شيء، وأراد أن يشكر على ما أنعم بالطاعة.. وفي هذا التعبير الحكيم إشارة إلى تبعة الإنسان في إهماله أو اعتباره، لأنه سبحانه قال: ﴿لِمَنْ أَرَادَ﴾ [الفرقان: 62] فإرادة الإنسان هي الموجهة له بعلم الله العلي الكبير، وبهذه الإرادة يستحق الثواب ويستحق العقاب، والله

__________

(1) تفسير المراغي (21/ 35)

(2) زهرة التفاسير (10/ 5309)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/153)

تعالى يهدي من أراد الهداية بالتذكر.

قال آخر: وهكذا يدعو الله تعالى إلى التزام الذكر عند كل الشعائر التعبدية، والتي يشكل ذكر الله جزءا أساسيا فيها.

قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك الدعوة إلى الذكر عند الحج وبعده، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا الله عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [البقرة: 198]، أي ليس عليكم حرج في أن تطلبوا رزقا من ربكم بالربح من التجارة في أيام الحج؛ فإذا دفعتم بعد غروب الشمس راجعين من عرفات ـ وهي المكان الذي يقف فيه الحجاج يوم التاسع من ذي الحجة ـ فاذكروا الله بالتسبيح والتلبية والدعاء عند المشعر الحرام ـ المزدلفة ـ واذكروا الله على الوجه الصحيح الذي هداكم إليه، ولقد كنتم من قبل هذا الهدى في ضلال لا تعرفون معه الحق.

قال آخر (2): وقال: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾ [البقرة: 200]، أي فإذا أتممتم عبادتكم، وفرغتم من أعمال الحج، فأكثروا من ذكر الله والثناء عليه، مثل ذكركم مفاخر آبائكم وأعظم من ذلك.. فمن الناس فريق يجعل همه الدنيا فقط، فيدعو قائلا ربنا آتنا في الدنيا صحة، ومالا وأولادا، وهؤلاء ليس لهم في الآخرة حظ ولا نصيب؛ لرغبتهم عنها وقصر همهم على الدنيا.

قال آخر (3): وقال: ﴿وَاذْكُرُوا الله فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ

__________

(1) التفسير الميسر (ص 31)

(2) التفسير الميسر (ص 31)

(3) التفسير الميسر (ص 32)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/154)

عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة: 203]، أي واذكروا الله تسبيحا وتكبيرا في أيام قلائل، وهي أيام التشريق: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة.. فمن أراد التعجل وخرج من منى قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار فلا ذنب عليه، ومن تأخر بأن بات بمنى حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر فلا ذنب عليه، لمن اتقى الله في حجه.. والتأخر أفضل؛ لأنه تزود في العبادة واقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر (1): وهكذا أمر بذكر الله عند الصلاة وبعدها، كما قال تعالى بعد ذكره لصلاة الخوف: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103]، أي أنه إذا أمن المجاهدون هجمة العدو عليهم، وبعدت يده عن أن تنالهم، رجع المجاهدون إلى حالهم الأولى من إقامة الصلاة على وجهها، وعلى إعطاء كل جوارحهم لله، وذكر الله.. فيذكرونه قائمين، وعلى جنوبهم، ذكرا متدبرا متفكرا، فليس هناك شئ يشغلهم عن الله، وعن التفكر والتدبر في ملكوت الله، وملء قلوبهم خشية لجلاله، وعظمته.. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103] تنويه بشأن الصلاة، وأنها فرض لازم، لا يتحلل منه المسلم بحال أبدا.. فهي كتاب موقوت، كتبه الله على المؤمنين، أي فرضه، وحدد لكل صلاة وقتها، الذي هو الظرف الحاوي لكل صلاة.

قال آخر: وهكذا يدعو الله تعالى إلى استعمال كل الهيئات في الذكر، والتي يتيسر على النفس الدوام عليه من غير تكلف، كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 885)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/155)

وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف: 205، 206]

قال آخر (1): أي اذكر ربك في إحساس خاشع بعظمته وبقدرته، وفي إيحاء روحي بالتضرع إليه فيما يرجوه الإنسان وما يخافه، وبالتذلل له في شعور عميق بالخوف منه ومن عقابه، لتعيش النفس مع الله في كل نبضاتها وخفقاتها وأفكارها ومشاعرها، حتى يكون الله هو كل شيء فيها.. فإذا تحول ذلك إلى ذكر، فإنه يكون ذكرا خافتا من خشية الله.. ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الأعراف: 205] فيما يشبه الهمس الذي يعبر عن النبضة والخفقة والإحساس والإيحاء، كما لو كان حديث النفس الذي قد يقترب من حركة الكلمة في الشفاه، ولكنه يبتعد عن الصوت القوي في الحناجر ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الأعراف: 205] ليكون ذكر الله هو البداية التي يبدأ الإنسان بها يومه، وليكون النهاية التي يختم بها ذلك اليوم، فذلك هو الذي يجدد لك اليقظة الروحية الإيمانية في روحك وفكرك وضميرك، ﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 205] الذين يعيشون الغفلة، فلا يشعرون بشيء من حولهم، وينسون الله في كل ما يحيط بهم.

قال آخر (2): ثم دعا إلى الاقتداء بالملائكة عليهم السلام في ذلك، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأعراف: 206] فيما يبتهلون إليه في الدعاء، وفي الذكر والصلاة، وفي كل أساليب الخضوع والخشوع، ﴿وَيُسَبِّحُونَهُ﴾ [الأعراف: 206] في إحساس منهم بالعظمة الإلهية، ﴿وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف: 206] في تعبير عن العبودية الخالصة بكل معانيها وبكل أحاسيسها، فيما يمثله السجود من الاستسلام الكلي لله، ومن الانسحاق

__________

(1) من وحي القرآن (10/ 315)

(2) من وحي القرآن (10/ 316)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/156)

أمامه، في روحية الإيمان وصفاء الروح.

قال آخر (1): ولهذا ورد النهي الشديد عن الغفلة عن ذكر الله، لأن من يفعل ذلك، فسيصبح تحت سيطرة الشيطان ووساوسه، كما قال تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة: 19]، أي أن الشيطان استحوذ عليهم، فأحاط بكل أفكارهم، فلم ينفتحوا على فكر الحق، ونفذ إلى قلوبهم، وتمكن منها، وتحرك في كل نبضاتها وخفقاتها، وامتد إلى كل آفاقها، فلم يطلوا على آفاق الله ورحاب الخير ومواقع الإيمان، وانطلق إلى مواقع خطواتهم فبعثرها، وانحرف بها عن الصراط المستقيم، وأثار فيها الكثير من أجواء الشر والفساد، فأنساهم ذكر الله في الكلمة، فلا تنطلق به ألسنتهم، وفي الموقف فلا تعي حضوره ذهنياتهم، فاستغرقوا في الباطل كله، يقدسون رموزه، ويتحركون في مخططاته.

قال آخر (2): ثم ذكر أن هؤلاء هم حزب الشيطان، لأنهم التزموا منهجه، واتبعوا خطواته، وصاروا من جماعته، وعاشوا في أجواء إغراءاته وتهاويله، وابتعدوا عن الله، وكذبوا رسله، ورفضوا شريعته.. ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المجادلة: 19] لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ففقدوا النعيم في الجنة، وعاشوا في عذاب النار وبئس المصير.

قال آخر: ولهذا يربط القرآن الكريم بين الغفلة عن ذكر الله واتباع الهوى كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]، فالآية الكريمة تشير إلى اختلاط الأمور على صاحبها، باعتبار أن كل ما حصل له كان بسبب غفلته

__________

(1) من وحي القرآن (22/ 83)

(2) من وحي القرآن (22/ 83)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/157)

عن الله.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19]، أي ولا يكن حالكم كحال قوم تركوا العمل بحقوق الله التي أوجبها على عباده، فران على قلوبهم وأنساهم العمل الصالح الذي ينجيهم من عقابه، فضلوا ضلالا بعيدا، فجازاهم بما هم له أهل، وما هم مستحقون، جزاء وفاقا لما دسوا به أنفسهم وأوقعوها في المعاصي والآثام، ومن ثم حكم عليهم بالهلاك فقال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19] أي أولئك هم الذين خرجوا من طاعة الله فاستحقوا عقابه يوم القيامة.

قال آخر (2): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون: 9]، أي لا يشغلكم تدبير أموالكم، والعناية بشؤون أولادكم، عن القيام بحقوق ربكم، وأداء فرائضه التي طلبها منكم، واجعلوا للدنيا حظا من اهتمامكم، وللآخرة مثله، وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة، ويتبتلون إلى ربهم.

الدعاء

بعد أن انتهوا من قراءة الآيات الكريمة المرتبطة بالذكر، وبدأ العمل التدريبي الخاص، طُلب مني ومن الضيوف من أمثالي الخروج من القسم، فكان أول ما قصدته قسم الدعاء والتضرع، فقد كان أقرب الأقسام إلى قسم الذكر..

__________

(1) تفسير المراغي (28/ 53)

(2) تفسير المراغي (28/ 115)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/158)

وهناك أيضا وجدت الأستاذ يدعو تلاميذه إلى ذكر الآيات الكريمة التي تحض على الدعاء، ويخبرهم أنها مقدمة للتدرب على الدعاء الحقيقي المؤثر، وقد قدم لذلك بقوله: لاشك أنكم تعلمون أن الدعاء من الوسائل العظمى لتهذيب النفس وتزكيتها وتصحيح مسارها لتسير إلى ربها على الصراط المستقيم الذي هيأه لها، والذي لا يمكن أن تتحقق بالكمالات المتاحة لها من دونه.. وهو لذلك، أعظم من أن يقتصر دوره على تحقيق الحاجات، أو تبليغ الأمنيات، بل هو سلم يرقى بك إلى سموات الكمالات، لتطلع على الحقائق من مرائيها الصقيلة التي لم تدنس.

قال أحدهم: أجل.. ولذلك ورد الأمر به في القرآن الكريم، واعتبر الغافل أو المستغني عنه مستكبرا، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]

قال آخر (1): ذلك أن الدعاء يمثل في عمقه عبادة، ويتضمن في معناه خضوعا وشعورا بالفقر المطلق والحاجة الكبيرة إلى الله، مما يجعل الداعي مشدودا إلى الله بالحب والإيمان والإخلاص من موقع الطهارة الروحية والانفتاح الفعلي على الله، ولهذا كانت الاستجابة أمرا طبيعيا فيما يرحم الله به عباده، وفي ما يتقبله من عبادتهم الخالصة الخاشعة، وهذا هو الخط المستمر الذي يصل الله بعباده ويؤكد وعي الإنسان معنى ألوهية الله وعلاقتها بعبوديته، في إحساس بالفقر المطلق، أمام الغنى المطلق حيث يرتبط العبد بربه من خلال ارتباط وجوده وكل حاجاته به.. وبذلك يؤمن الله للعباد حاجاتهم من خلال ما يقدره لهم في تكوين الوجود، وما لهم في إرادتهم.. وإذا كان الدعاء هو مظهر العبادة، فإن

__________

(1) من وحي القرآن (20/ 63)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/159)

الذين يمتنعون عنه يمثلون النموذج الذي يستكبر عن عبادة الله، وقد حدثنا الله عما ينتظرهم، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60] أي أذلة، لأن الاستكبار لا بد من أن يقابله الإذلال والسقوط والاحتقار.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى نماذج عن المستكبرين الذين رفضوا التضرع إلى الله رغم حاجتهم إليه، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 42 ـ 43]

قال آخر (1): فالآيتين الكريمتين تذكران أنه كان قبل النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم رسل كرام، بعثهم الله بالرحمة والهدى لأقوامهم، فكذبوهم، وبهتوهم ومدوا أيديهم إليهم بالضر والأذى.. فأخذهم الله ﴿بِالْبَأْسَاءِ﴾ [الأنعام: 42] أي بالمحن والشدائد، كتسليط العدو عليهم، ووقوعهم لديه، يقتل ويسلب، ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ [الأنعام: 42] أي الفقر والجدب، ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. وذلك لتتفتح قلوبهم إلى الله، وترفع أكفهم بالضراعة إليه، ومن ثم يكون لهم إلى الله عودة، لو عقلوا، وتدبروا، إذ أن من شأن الشدائد أن تصفى النفوس من شوائب الضلال العالقة بها، وتنقى القلوب من الوساوس المستولية عليها، وتكشف عن العقول الظلام المحيط بها.. هذا إذا كان كيان الإنسان سليما، وكانت تلك الأمور عللا عارضة، تقبل الدواء المر وتنتفع به، وتجد فيه الشفاء والعافية.. أما إذا كان الكيان فاسدا بطبيعته، فلا دواء ولا شفاء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: 42] أي لعلهم حين ترهقهم الشدة، ويكربهم الضر، يتذللون لله،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 179)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/160)

ويضرعون إليه.

قال آخر (1): وقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ [الأنعام: 43] تحريض لهؤلاء الضالين أن يتداركوا أنفسهم، وأن يعودوا بها إلى الله من قريب، تائبين ضارعين.. ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنعام: 43] فلم يتضرعوا، ولم يعودوا إلى الله، مع ما أخذهم به من بأساء وضراء، بل ظلوا على ما هم فيه من عمى وضلال.. ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43] أي حبب إليهم الشيطان، بغوايته، وخداعه، هذه المنكرات التي يعيشون فيها، فلزموها، وتعلقوا بها.

قال آخر (2): وقد ذكر الله تعالى أنه من كبر هؤلاء أنهم بدل أن يدعو لأنفسهم راحوا يدعون عليها، كما قال تعالى مخبرا عن ذلك المشرك المستكبر، وأنه قال: ﴿اللهمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: 32]، أي واذكر ـ أيها الرسول ـ قول المشركين من قومك داعين الله: إن كان ما جاء به محمد هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب شديد موجع.. وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33]، أي وما كان الله سبحانه وتعالى ليعذب هؤلاء المشركين، وأنت ـ أيها الرسول ـ بين ظهرانيهم، وما كان الله معذبهم، وهم يستغفرون من ذنوبهم.

قال آخر (3): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ [المعارج: 1، 2]، أي طلب طالب عذابا واقعا لا محالة، سواء طلب أم لم يطلب، لأنه نازل بالكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد، فلماذا هم يطلبونه استهزاء؟

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 180)

(2) التفسير الميسر (ص 180)

(3) تفسير المراغي (29/ 66)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/161)

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: 53 ـ 55]، ففي هذه الآيات الكريمة يذكر الله تعالى قريشا وكيف كانت تواجه الدعوة إلى الإيمان بالله وبرسالته، والإنذار الإلهي بالعذاب للكافرين بالله وبرسله، بالإعراض والسخرية والاستهزاء ومطالبة النبي بالعذاب الذي يتوعدهم به تماما، كما هو الحال في كل شخص يواجه التحدي بالقوة من الطرف الآخر، عندما يرد التحدي بالكلمة القائلة: إذا كنت جادا وقادرا فنفذ تهديدك واستعمل قوتك.. وهكذا كان رد فعلهم على الدعوة باستعجال نزول العذاب عليهم.

قال آخر (2): وقد رد الله تعالى عليهم بأن المسألة ليست مسألة المشاعر الانفعالية التي يثيرونها، لتكون الاستجابة ردا على ذلك، فالله قادر على إنزال العذاب عليهم، تماما كما ننزل عليهم المطر من السماء.. لكن المسألة هي أن الله قد جعل الحياة خاضعة لنظام دقيق في حركتها الكونية، وفي تنظيم أمور الناس، في استجابتهم للرسالة، وفي إنكارهم لها، فيما هو الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، إذ القضية لا تخضع لاقتراحات المقترحين، ولا ينزل الله العذاب قبل الأجل المحدد له.. لكن لا بد لهم من أن يفهموا كيف تتحرك بهم المفاجآت، فقد يأتيهم أمر الله من حيث لا يحتسبون ﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [العنكبوت: 53] في ساعات لهوهم وعبثهم وشغلهم واسترخاء الحياة من حولهم.

قال آخر (3): ثم قال تعالى ردا عليهم: ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ

__________

(1) من وحي القرآن (18/ 72)

(2) من وحي القرآن (18/ 73)

(3) التفسير القرآني للقرآن (11/ 454)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/162)

بِالْكَافِرِينَ﴾ [العنكبوت: 54]، وهذا استفهام إنكاري، أي أيستعجلونك بالعذاب؟ وكيف يستعجلون به، وهو واقع بهم فعلا؟ إنهم سائرون على الطريق الذي يهوى بهم في جهنم.. فهم بما هم عليه من كفر وضلال، واقعون في دائرة العذاب، ولن يخلصوا من العذاب إلا إذا تخلصوا من كفرهم، وتطهروا من شركهم، ودخلوا في حظيرة الإيمان.

قال آخر: وقد ذكر الله تعالى فرقا أخرى من الناس، لا تبدي ذلك الصبر على المعاناة، مثلما فعل الفريق السابق، وإنما تتلون بتلون الأحوال؛ فإن أصابها البلاء تضرعت، وإن كشف عادت إلى طبيعتها، كما قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 63، 64]

قال آخر: ولهذا يدعو الله تعالى المؤمنين إلى ألا يكونوا أمثال هؤلاء الذين يعبدون الله على حرف، وإنما من أولئك الذين يتضرعون إلى الله في كل حين؛ فلا يكون دعاؤهم لله إلا تضرعا واستغاثة واستكانة، كما قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55]

قال آخر (1): أي ادعوا ربكم ومتولى أموركم حال كونكم متضرعين مبتهلين إليه مخفين دعاءكم، وفي هذا إيماء إلى أن الدعاء في الخفية إن لم يكن واجبا فهو مندوب على الأقل، ويدل على ذلك أنه تعالى أثنى على زكريا عليه السلام فقال: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ [مريم: 3] أي إنه أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطع به إليه.

قال آخر (2): ثم نهى الله تعالى عن الاعتداء في الدعاء، فقال: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾

__________

(1) تفسير المراغي (8/ 176)

(2) تفسير المراغي (8/ 177)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/163)

[الأعراف: 55] أي المتجاوزين ما أمروا به، وهو قد يكون اعتداء خاص بالألفاظ كالمبالغة في رفع الصوت والتكلف في صيغ الدعاء.. أو اعتداء خاص بالمعنى وهو طلب غير المشروع من وسائل المعاصي ومقاصدها كضرر العباد وطلب إبطال سنن الله في الخلق، أو تبديلها كطلب النصر على الأعداء مع ترك وسائله كأنواع السلاح والعتاد، وطلب الغنى بلا كسب، وطلب المغفرة مع الإصرار على الذنب، أو اعتداء بالتوجه فيه إلى غير الله، وهذا شر أنواع الاعتداء كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]

الصوم

بعد أن انتهوا من قراءة الآيات الكريمة المرتبطة بالدعاء وآدابه، وبدأ العمل التدريبي الخاص، طُلب مني ومن الضيوف من أمثالي الخروج من القسم، فكان أول ما قصدته قسم الصوم، فقد كان أقرب الأقسام إلى قسم الدعاء..

وهناك أيضا وجدت الأستاذ يدعو تلاميذه إلى ذكر الآيات الكريمة التي تحض على الصوم، ويخبرهم أنها مقدمة للتدرب على الصوم الحقيقي المؤثر، وقد قدم لذلك بقوله: لاشك أنكم تعلمون أن الصيام من الشعائر التعبدية الكبرى التي أخبر الله تعالى أنه شرعها في جميع الملل، لضرورتها، وأهميتها التربوية.. ذلك أن التواصل مع الله عبر الأذكار والأدعية والصلوات وغيرها، قد لا يكون كافيا في تطهير النفس، وخاصة عند تمردها على صاحبها، لذلك كان الصوم معينا لتلك المدارس في أداء أدوارها التهذيبية والتربوية.

قال أحدهم (1): أجل.. ولذلك ربط الله تعالى الصوم بالتقوى، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، أي

__________

(1) تفسير المراغي (2/ 68)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/164)

فرض عليكم الصيام كما فرض على المؤمنين من أهل الملل قبلكم من لدن آدم عليه السلام، وفي هذا تأكيد له وترغيب فيه، وتطييب لأنفس المخاطبين فإنه عبادة شاقة، والأمور الشاقة إذا عمت كثيرا من الناس سهل تحملها ورغب كل أحد في عملها.. ثم بين فائدة الصوم وحكمته، وهي أنه فرضه عليكم ليعدكم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة الميسورة امتثالا لأمره واحتسابا للأجر عنده، فتتربي بذلك العزيمة والإرادة على ضبط النفس وترك الشهوات المحرمة والصبر عنها، وبهذا نعلم أنه ما كتب علينا الصوم إلا لمنفعتنا.

قال آخر (1): وإعداد الصوم لتقوى الله يظهر من وجوه كثيرة أعظمها شأنا أنه يعود الإنسان الخشية من ربه في السر والعلن، إذ أن الصائم لا رقيب عليه إلا ربه، فإذا ترك الشهوات التي تعرض له من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة، امتثالا لأمر ربه، وخضوعا لإرشاد دينه مدة الصيام شهرا كاملا، ولولا ذلك لما صبر عليها وهو في أشد الشوق إليها، لا جرم أنه بتكراره ذلك يتعود الحياء من ربه، والمراقبة له في أمره ونهيه، وفي ذلك تكميل له وضبط للنفس عن شهواتها، وشدة مراقبتها لبارئها.. ومن كملت لديه هذه الخلة لا يقدم على غش الناس ومخادعتهم، ولا على أكل أموالهم بالباطل، ولا على هدم ركن من أركان الدين كالزكاة، ولا على اقتراف المنكرات، واجتراح السيئات، وإذا ألم بشئ منها يكون سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة الصحيحة.

قال آخر: ولهذا جعل الله تعالى الصيام من أنواع التأديب المرتبطة ببعض المخالفات الشرعية التي تتعنت فيها النفس على صاحبها، وتستولي عليه، وتغلبه، كما في حالة ارتكابه لجريمة القتل الخطأ، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا

__________

(1) تفسير المراغي (2/ 69)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/165)

خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ الله وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 92]

قال آخر: ومثل ذلك جعله تأديبا للذي لم يهذب لسانه، فراح ينطق بما يخالفه الشرع والطبع، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ [المجادلة: 3، 4]

قال آخر: وهكذا ذلك الذي راح ينتهك حرمة شهر رمضان؛ فيفطر فيه، كما نصت على ذلك الكثير من الأحاديث المتفق عليها بين الأمة جميعا.

قال آخر: ففي هذه القضايا جميعا شرط الله تعالى في الصيام أن يكون متتابعا، ولشهرين كاملين، لأن في ذلك تأثيره على النفس بالتخفيف من تسلطها وقهرها لصاحبها.

قال آخر: وسر ذلك يعود إلى أن الشهوات التي يمنع منها الصيام هي المغذي الذي يغذي الأهواء، ويجعل للنفس سلطانا على صاحبها؛ فإذا ما قهرها، وحرمها من تلك الشهوات مدة من الزمن، كان لذلك تأثيره الكبير في الإصلاح؛ خاصة إذا ما ضم إليه ما سبق أن ذكرته لك من معان تدعو إلى الاتصال بالله كالذكر والدعاء والصلاة وقراءة القرآن الكريم وغيرها.

قال آخر: ومع هذا التشدد في الأمر به إلا أن الله تعالى بناه على اليسر ورفع الحرج، ولذلك ذكر القرآن الكريم الكثير من الرخص ليتناسب الصوم مع جميع الناس، قويهم وضعيفهم.

القرآن.. والهداية الشاملة (2/166)

قال آخر (1): أجل.. وقد قال تعالى في ذلك: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 184]، أي أياما معينات بالعدد وهي أيام رمضان، فالله لم يفرض علينا صوم الدهر كله ولا أكثره تخفيفا ورحمة بالمكلفين.. ومن كان مريضا أو على سفر فالواجب عليه ـ إذا أفطر ـ القضاء بقدر عدد الأيام التي لم يصمها لأن كلتيهما عرضة لاحتمال المشقة بالصوم.

قال آخر (2): وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: 184] تعني الذين يستطيعون الصوم بجهد ومشقة، وهم الشيوخ الذين يجهدهم الصوم، فإن مثل هؤلاء لا يكلفون بالصوم ولا يكلفون بالقضاء، بل يمكنهم الاكتفاء بدفع الفدية.

قال آخر: ولأهمية الاهتمام بتلك الرخص والدعوة لمراعاتها، ذكرها الله تعالى مرة أخرى، فقال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185]

قال آخر (3): وذكر الله تعالى رخصا أخرى، فقال: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ

__________

(1) تفسير المراغي (2/ 71)

(2) من وحي القرآن (4/ 25)

(3) التفسير الميسر (ص 29)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/167)

فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 187]، أباح الله لكم في ليالي شهر رمضان معاشرة نسائكم، هن ستر وحفظ لكم، وأنتم ستر وحفظ لهن. علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم؛ فتاب الله عليكم ووسع لكم في الأمر، فالآن عاشروهن، واطلبوا ما قدره الله لكم من الأولاد، وكلوا واشربوا حتى يتبين ضياء الصباح من سواد الليل، بظهور الفجر الصادق، ثم أتموا الصيام بالإمساك عن المفطرات إلى دخول الليل بغروب الشمس.. ولا تفعلوا ذلك أيضا إذا كنتم معتكفين في المساجد؛ لأن هذا يفسد الاعتكاف (وهو الإقامة في المسجد مدة معلومة بنية التقرب إلى الله تعالى)، تلك الأحكام التي شرعها الله لكم هي حدوده الفاصلة بين الحلال والحرام، فلا تقربوها حتى لا تقعوا في الحرام.. بمثل هذا البيان الواضح يبين الله آياته وأحكامه للناس؛ كي يتقوه ويخشوه.

الحج

بعد أن انتهوا من قراءة الآيات الكريمة المرتبطة بالصوم وأحكامه، وبدأ العمل التدريبي الخاص، طُلب مني ومن الضيوف من أمثالي الخروج من القسم، فكان أول ما قصدته قسم الحج، فقد كان أقرب الأقسام إلى قسم الصوم..

وهناك أيضا وجدت الأستاذ يدعو تلاميذه إلى ذكر الآيات الكريمة التي تحض على الحج، ويخبرهم أنها مقدمة للتدرب على الحج الحقيقي المؤثر، وقد قدم لذلك بقوله: لاشك أنكم تعلمون أن الحج من أعظم الشعائر التعبدية، والمدارس التربوية، التي فرضها الله تعالى على كل الأمم، لما فيه من مقاصد نفسية واجتماعية لا يمكن أن تتحقق من دونه.. وهو مع ذلك ـ مثل سائر المدارس ـ عرضة لتلاعب الشيطان والأهواء، لتحويله من مدرسة تربوية وإصلاحية للنفس والمجتمع إلى أغراض أخرى تخالف الشريعة، وتعمل على عكس

القرآن.. والهداية الشاملة (2/168)

مقاصدها.

قال أحدهم (1): أجل.. ولهذا قرن الله تعالى الأمر بالحج بالنهي عما يضاده؛ فقال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]، أي لأداء فريضة الحج أشهر معلومة لدى الناس، وهي شوال وذو القعدة وعشر ذى الحجة، وفي قوله: معلومات، إقرار لما كان عليه العرب في الجاهلية من اعتبار هذه الأشهر أشهرا للحج، ونقل ذلك بالتواتر العملى من لدن إبراهيم وإسماعيل، وجاء الإسلام مقررا لما عرف ولم يغيره.. وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر معرفة أن أفعال الحج لا تصح إلا فيها، وإن كان الإحرام يصح في غيرها، لأنه شرط للحج فيجوز تقديمه على وقت أدائه كتقديم الطهارة على أداء الصلاة.

قال آخر (2): ثم قال تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ [البقرة: 197] أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدى، لأن الحج عبادة لها تحريم وتحليل، فلا يكفي للشروع فيه مجرد النية بل لا بد من فعل به يشرع فيه.. ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197] أي لا يفعل الحاج شيئا من هذه الأفعال لأنه مقبل على الله قاصد لرضاه، فينبغى أن يتجرد عن عاداته وعن التمتع بنعيم الدنيا، وينسلخ عن مفاخره ومميزاته عن غيره بحيث يتساوى الغنى والفقير والصعلوك والأمير، وفي هذا تهذيب للنفس وإشعار لها بالعبودية لله تعالى.

قال آخر (3): ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 197] أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا لتصفو نفوسكم وتتخلى عن الرذائل وتتحلى بالفضائل، وتكون

__________

(1) تفسير المراغي (2/ 99)

(2) تفسير المراغي (2/ 100)

(3) تفسير المراغي (2/ 100)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/169)

أكثر استعدادا لعمل الخير، وأطوع لامتثال أوامر الشرع، والله يعلم ما تفعلون، فيجازيكم بأعمالكم ويثيبكم على أفعالكم.

قال آخر (1): ثم قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197] أي واتخذوا التقوى زادكم لمعادكم، فإنها خير زاد، ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197] أي وأخلصوا لى يا أهل العقول والأفهام بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض، واجتناب ما حرمته عليكم، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبى وعقابى، وتدركوا ما تطلبون من الفوز برضاى ورحمتى.

قال آخر: وبما أن جميع الشعائر التعبدية قائمة على التيسير، فقد ذكر الله تعالى رخص الحج، فقال: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 196]

قال آخر (2): فقد ذكر الله تعالى في هذه الآية بعض أحكام الحج وأعماله، التي تولت السنة النبوية القولية والعملية تفصيلها وترتيبها.. وقد اقتضت حكمة الحكيم الرحيم التوسعة على الناس في هذه الفريضة، وتقبل كل ما يؤدونه فيها من أعمال، ما دامت تلك الأعمال صادرة عن نية خالصة، وقلب سليم، فقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه وقف في حجة الوداع، على ناقة بمنى، والناس يسألونه.. فجاء رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أنحر،

__________

(1) تفسير المراغي (2/ 101)

(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 219)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/170)

فقال: (انحر ولا حرج) ثم جاء آخر فقال: نحرت قبل أن أرمى، فقال: (ارم ولا حرج)، ثم أتاه ثالث، فقال: أفضت إلى البيت قبل أن أرمى، فقال: (ارم ولا حرج).. قالوا: فما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شئ مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعض، إلا قال: (افعلوا ولا حرج) (1)

قال آخر (2): وأول ما ذكر من الرخص هو ما قد يعترض الحاج من معوقات وهو في طريقه إلى الحج، فيحال بينه وبين أن يمضى في طريقه إلى غايته، وذلك كأن يقطع الطريق على الحجيج عدو، أو ينزل بالحاج مرض مقعد، ونحو هذا.. والحصر معناه: الحبس والمنع.. وقد قال الله تعالى في شأن هؤلاء: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: 196] أي فقدموا وانحروا ما وقع لأيديكم من الهدى، مما قدرتم عليه من غير مشقة.. وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: 196] إشارة إلى التحلل من الإحرام، فحلق الرأس للحاج لا يكون إلا بعد أن يؤدى أعمال الحج، ثم ينحر، ويحلق، ومحل الهدى مكانه الذي ينحر فيه، وهو بالنسبة لمن أحصر وحبس المكان الذي حصر فيه، أما من لم يحصر فمحل هديه هو البيت الحرام.

قال آخر (3): أما قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196] فهو في حكم الحاج الذي عرض له في حجه عارض في رأسه أو في جسده، فحلق، أو خلع ملابس الإحرام ولبس المخيط.. فمثل هذا الحاج قد أبيح له ذلك، على أن يفدى الحرمة التي أحله الله منها بما يقدر عليه من ألوان الطاعات، من صيام أو صدقة أو من فداء بشاة أو نحوها.

__________

(1) البخاري (1736)، ومسلم (1306)

(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 219)

(3) التفسير القرآني للقرآن (1/ 220)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/171)

قال آخر (1): وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: 196] فيه بيان حكم الحاج الذي لم يحصر، ولم يصب بأذى في رأسه أو بدنه، فإن مما يسر الله به على الحاج في هذه الحال أن يحج معتمرا، أي يدخل الحج في العمرة، ويؤدى أعمال الحج محلا بعد طواف العمرة وسعيها، وعليه في تلك الحال أن يقدم فدية، هي ما تيسر من الهدى، من بدنة إلى شاة.

قال آخر (2): وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 196] بيان لمن لم يتيسر له تقديم الهدى، فيجزى عنه في تلك الحالة أن يصوم عشرة أيام.. ثلاثة منها في أيام الحج، وسبعة بعد أن يعود الحاج إلى بلده وأهله.. وهذا الحكم خاص بمن كان من غير أهل البلد الحرام.

قال آخر: وفوق ذلك كله، فإن الحج مدرسة روحية خاصة بمن تسمح له ظروفه بذلك، كما قال تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]، أما من لم يستطع، فقد هيأ الله تعالى ـ بكرمه ولطفه ـ له من المدارس التربوية الأخرى ما يعوض ما فقده من هذه المدرسة.

قال آخر (3): وفي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]، ما يشير إلى أن قضية الإيمان والكفر ليست قضية فكرية فحسب، بل هي قضية عملية تتصل بالموقف العملي للإنسان، فقد يكون الإنسان مؤمنا في العقيدة، ولكنه كافر في العمل إذا

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 220)

(2) التفسير القرآني للقرآن (1/ 220)

(3) من وحي القرآن (6/ 170)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/172)

كان لا يقوم بما فرضه الله عليه من الالتزام بفعل الواجبات وترك المحرمات.. وقد تحدث الله عن غناه عن العالمين للإيحاء بأن الطاعة لا تزيد في ملكه شيئا، لأن الله هو الذي خلق العبد ومكنه من الطاعة، فهو الغني عن وجوده كما هو الغني عن طاعته، فهي مصلحة للإنسان من خلال نتائجها الإيجابية عليه في حياته، كما أن هناك بعض الإيحاء من الناحية التغييرية بالسخط الإلهي لهؤلاء الذين يتركون الحج فيكفرون بالله كفرا عمليا.

3. المقامات الروحية

بعد أن استمعت إلى تلك الأحاديث الجميلة عن الشعائر التعبدية، ربت على كتفي رجل، وقال: هلم معي إلى منزل المقامات الروحية، فهي من أهم منازل السلوك، ومن لم ينزلها لم يكن له حظ من الدين ولا من فهم القرآن الكريم.

قلت: ولم؟

قال: لأنها شعائر الروح التي ترتقي بها في معارج الرحلة إلى الله.. فالله أقدس من أن يقبل على من لم يتطيب ويتطهر ويتحلى بحلية الصالحين المخلَصين.

قلت: هذا جميل جدا.. فأين توجد؟

قال: بما أن هذه المقامات تحتاج إلى الكثير من المجاهدات، فقد رأى الصالحون من أهل هذه المدنية أن يجعلوها خارج المدينة.. حتى لا ينشغل الطالبون لها بأي شغل يصرفهم عنها.

قلت: فهلا دللتني عليها.

قال: أجل.. أنا وجمع من أصحابي نريد أن نسير إليها.. فهلم معنا.

قلت: فأين المركبة؟

قال: لقد ذكرت لك أن هذا النوع من السلوك يحتاج إلى الكثير من المجاهدات..

القرآن.. والهداية الشاملة (2/173)

وأولها السير على أقدامنا إليها.

الخشية

سرت معهم مسافات طويلة إلى أن وصلنا إلى بعض الجبال، فقال لي أحدهم: في هذا الجبل يتعلم السالكون الخشية من الله.. وهي أول ما يتعلمون.. فلا يمكن أن يتحرك السالك حركة في طريق أهل الله إلا إذا صحبته الخشية من الله.

قلت: لم؟

قال: هلم معنا إلى السالكين من أهل هذا الجبل.. وستتعلم على أيديهم هذا المعنى.

ما سرنا قليلا حتى وجدنا نفرا يجلسون في سفح الجبل، وتحت ظل شجرة، وقد قال أحدهم (1): صدقتم.. وقد قال تعالى يذكر ذلك، ويدعو إليه: ﴿إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ [طه: 3]، أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى، لا لتشقى به وتحمل نفسك هذا العناء الشديد المتصل، الذي أنت فيه، فمن كان عنده استعداد لقبول الهدى، فإنه لأول لقاء له مع القرآن الكريم، جدير به أن يؤمن، ويستجيب لله وللرسول.. وأما من كان ممن ختم الله على قلبه، وجعل على سمعه وبصره غشاوة، فإنه لن يهتدى أبدا، ولو قضيت العمر كله، تأتيه من كل جانب. وتلقاه بكل سبيل.. واختصاص أهل الخشية بالتذكرة والانتفاع بالقرآن، لأنهم هم الذين ينظرون إلى عواقب الأمور، ولا يعيشون ليومهم كما يعيش أهل السفاهة والضلال.. فإن من خشى العواقب استعمل عقله، وقلب وجوه الأمور التي تعرض له، فاستبان له وجه الحق منها.

قال آخر (2): صدقت.. ولهذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بإنذار من يخشون الحساب

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (8/ 780)

(2) تفسير المراغي (7/ 133)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/174)

والجزاء، فقال: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 51] أي وأنذر بما يوحى إليك المؤمنين بالله الذين يخافون أهوال الحشر وشدة الحساب وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال عند القدوم على الله في ذلك اليوم الذي لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: 19] يوم لا ولى ينصر، ولا شفيع يدفع العذاب إن أريد النجاة منه، بل أمر ذلك متوقف على مرضاة الله.. فهؤلاء المؤمنون هم الذين يرجى أن يتقوا الله اهتداء بهداك وخوفا من إنذارك ويتحروا ما يؤدى إلى مرضاته.. كما أنهم يستيقنون أن نجاتهم إنما تكون بإيمانهم وأعمالهم وتزكيتهم لأنفسهم لا بانتفاعهم بصلاح غيرهم أو شفاعة الشافعين لهم، كما هو حال المشركين الذين جهلوا أن مدار السعادة في الدنيا والآخرة مرتبط بتزكية النفس وطهارتها بالإيمان الصحيح والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة لا على أمر خارج عن النفس لا تأثير له فيها.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: 18]، أي إنما ينفع هذا البيان، وذلك النذير، من يخشى الله بالغيب، ويعرف جلاله وبأسه، من غير أن يراه، وإنما يرى آثاره ويشهد جلال قدرته، وعلمه، وحكمته فيما أبدع وصور في هذا الوجود.. وفي قصر الإنذار على الذين يخشون ربهم بالغيب، مع أن الرسول نذير وبشير للناس جميعا إشارة إلى أن الذين ينتفعون بهذا النذير، هم الناس، وهم أهل للخطاب، وأما غيرهم، فلا حساب لهم ولا وزن في هذا المقام..

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 868)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/175)

قال آخر (1): ومثل ذلك قال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور: 52]، أي ومن يطع الله ورسوله في أقواله وأفعاله وعلاقاته والتزاماته، بحيث تكون الطاعة خطه المستقيم في كل حياته، ويخش الله ويتقه فيراقبه في كل شيء، ويحسب حسابه في جميع الأمور، بحيث تشكل التقوى عمق فكره وروحه وحياته وحركته في مجرى الأحداث، فهو يعيش مع الله، ويدرك سر عظمته وقوته، ويعرف موقع نعمته في وجوده وفي كل تفاصيل حياته، ويخاف من عقابه، ويرغب في ثوابه، فيلتقي بأوامره ونواهيه من أقرب طريق، وذلك هو سبيل الفوز في الدنيا والآخرة، فمن أخذ بهذا الخط من الناس فأولئك هم الفائزون الذين يحصلون على رضى الله وجنته ونعيمه في الدار الآخرة.

قال آخر (2): ولهذا وصف الله تعالى عباده الصالحين بالخشية، فقال: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39]، أي أولئك الذين يبلغون رسالات الله كما بلغهم الله إياها، دون التفات إلى أحد، ودون نظر إلى ما يكون من الناس إزاء هذه الرسالات المبلغة إليهم، من استجابة لها أو إعراض عنها.. إنهم يبلغون رسالات الله على وجهها، ولا يعملون حسابا لما يلقاهم به السفهاء والجهال من لوم، أو سفه، وإنما همهم كله هو حسابهم عند الله، وما يكون لهم من جزاء.. ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39] فهو سبحانه وحده الذي يخشى حسابه، ويرجى ثوابه.

قال آخر (3): ومثل ذلك قال في وصف عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ [الفرقان: 65 ـ 66]، أي أن هؤلاء المؤمنون بالله، الخاشعون في إحساسهم العميق لله سبحانه وتعالى، المتحركون في

__________

(1) من وحي القرآن (16/ 344)

(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 725)

(3) من وحي القرآن (17/ 76)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/176)

مشاعرهم وأفكارهم في خط الممارسة العملية الواعية، الراكعون أمام الله، بالخضوع له، الساجدون مع انسحاق الإرادة وذوبانها في جنبه تعالى القائمون في استسلام الروح والجسد والقلب والضمير، بين يديه، حيث ينام الناس في غفوة الغفلة واسترخاء الجسد، يقولون بخشوع: ﴿رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ [الفرقان: 65] في توسل العبد بمولاه، وخوفه من عقابه، عندما يعيش قلق المصير أمام خطاياه، فيبتهل إلى الله ليغفر له ذلك ويوفقه للاستقامة، ليصرف العذاب عنه من موقع المغفرة، والطاعة.. ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾ [الفرقان: 65] أي هو المصيبة التي تصيب الإنسان، والنائبة التي تنوبه وتلازمه في حياته، ويمثل عذاب جهنم الخلود فيها.. ﴿إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ [الفرقان: 66] وأي مكان أسوأ من المكان الذي يعيش فيه الإنسان العذاب من جميع جهاته، وأي استقرار هو هذا الاستقرار الذي يهتز الإنسان فيه أمام لهيب النار؟

قال آخر (1): وقال في وصف عباده المقربين: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: 57]، أي هؤلاء الذين يدعوهم المشركون أربابا، وينادونهم لكشف الضر عنهم يطلبون مجتهدين إلى ربهم ومالك أمرهم القرب إليه بالطاعة والقربة ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ [الإسراء: 57] أي إن أقرب أولئك المعبودين إلى الله يدعوه يبتغى إليه الوسيلة والقرب منه، وإذا كان العجز عن كشف الضر عنكم، والافتقار إلى ربكم، شأن أعلاهم وأدناهم، فكيف تعبدونهم؟

قال آخر (2): ثم وصفهم بقوله: ﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: 57] أي ويرجون بفعلهم للطاعة رحمته، ويخافون بمخالفة أمره عذابه.. ثم ذكر العلة في خوفهم من

__________

(1) تفسير المراغي (15/ 63)

(2) تفسير المراغي (15/ 64)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/177)

العذاب فقال: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: 57] أي إن عذابه حقيق بأن يحذره كل أحد من الملائكة والأنبياء فضلا عن سواهما.

قال آخر (1): ومثل ذلك وصف الله تعالى المسارعين بالخيرات، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57 ـ 61]، أي أن الذين يسارعون في الخيرات هم الذين عاشوا عظمة الله في عقولهم ووجدانهم، واستشعروا محبته في قلوبهم، وأشفقوا على أنفسهم من خشيته، لأن للعظمة بعدا للحب يدفع للطاعة، وبعدا آخر يدعو للخوف من المعصية.. وهكذا كان هذا الإشفاق المتحرك من موقع الخوف من الله، لا يتمثل في الجانب الشعوري من حياتهم فقط، ليكون مجرد حالة انفعالية طارئة، بل يتمثل في الجانب العملي من سلوكهم أيضا بحيث أصبح برنامجا عمليا للحياة في خط القرب من طاعة الله، والبعد عن معصيته.

قال آخر (2): ثم وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: 58]، لأنهم تطلعوا إلى كل مظاهر الحياة، في الكون وفي الإنسان، في أجهزة جسمه، وانطلاقة عقله وروحه، وفكروا في تلك الآيات تفكير الباحث عن الحقيقة، وتعمقوا في أسرارها ليعرفوا دقة الصنع، وإعجاز الوجود، وقارنوا فيما بينها، ووقفوا على سر الوحدة فيها، فعرفوا أن الله وحده هو خالق ذلك كله، ومبدعه ومدبره، وبذلك كان الإيمان بالآيات مقدمة للإيمان بالله.. وهنا تحدد قيمة المعرفة الكونية في حساب الإيمان، فهي ليست حركة عقلية مجردة للاستغراق داخل الفكرة، بل انطلاقة فكرية وروحية، ينفتح الإنسان بها على

__________

(1) من وحي القرآن (16/ 166)

(2) من وحي القرآن (16/ 166)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/178)

عالم آخر يلتقي من خلاله بالله.. فالإيمان لا يرتبط بالحقيقة بطريقة ساذجة، بل يلتقي بها من خلال إعمال الفكر، وتحصيل العلم، لتشكيل قاعدة علمية وعقلية متينة يستند عليها.

قال آخر (1): ثم وصفهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾ [المؤمنون: 59] وكيف يشركون به وهم يرون في آياته المنتشرة في الكون، أن كل ما في الكون مخلوق له، خاضع لإرادته، بوجوده المحدود الذي ينطق بالحاجة إليه، فكيف يكون شريكا له في الألوهية، وكيف يمكن للناس أن يجعلوه شريكا له في العبادة، وهو لا يملك أية خصوصية يستحق بها ذلك، بل على العكس، يملك ما يبعده عن ذلك.

قال آخر (2): ثم وصفهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60] أي هؤلاء الذين يعيشون حس الطاعة بشكل مرهف، فيدققون في دوافع كل عمل يأتون به كي لا يدخله الشرك الخفي، ويفحصون جزئياته كي لا يقعوا في الخطأ أو يتجاوزوا بعض الحدود من خلاله.. فإذا أتوا بعملهم ذاك إنفاقا كان أو قولا أو غير ذلك، نجدهم خائفين مشفقين، أن لا يقبل الله منهم عملهم ذلك، وأن يحاسبهم عليه إذا رجعوا إليه ووقفوا أمامه ساعة الحساب، حذرا من غفلتهم عن بعض دقائقه وخفاياه.

قال آخر (3): ثم بين أن هؤلاء هم الحقيقون بوصف المسارعة في الخيرات، فقال: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [المؤمنون: 61] لأنهم ارتكزوا في حياتهم على القاعدة الصلبة التي ينطلق منها كل خير، وهي الإيمان بالله وبتوحيده، والخوف منه، والمحبة له، والوجل من المصير يوم الحساب، ولذلك فإنهم ينتهزون كل فرصة لعمل الخير، لئلا تفوتهم، فتفوتهم سعادة الطاعة ونتائجها السعيدة، فيسارعون فيها.. ﴿وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون:

__________

(1) من وحي القرآن (16/ 167)

(2) من وحي القرآن (16/ 167)

(3) من وحي القرآن (16/ 167)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/179)

61] لأن من يسارع إلى الهدف الذي يحبه، فلا بد من أن يسبق الناس إليه.. وتلك هي الجنة التي يتنافس فيها المتنافسون، وينطلق إليها المتسابقون.

قال آخر: وهكذا وصفهم الله تعالى بأنهم المستحقون لتوريث الأرض، فقال: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إبراهيم: 14] بعد قوله تعالى: ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [إبراهيم: 14]

قال آخر (1): ومثل ذلك وعد الله تعالى بالأجور العظيمة من يخشونه، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12]، أي أن هؤلاء الذين يخشون ربهم بالغيب، هم الذين خافوا عذاب يوم القيامة، وخافوا لقاء ربهم، قبل هذا اليوم الغائب عنهم.. ثم إنهم هم الذين يخشون ربهم في سرهم، كما يخشونه في علانيتهم، حيث يشهدون سلطان الله قائما عليهم في كل حال من أحوالهم؛ فهم لشهودهم هذا السلطان، لا يعصون الله، ولا يفعلون ما لا يرضاه، وهم لهذا مجزيون من الله تعالى، بمغفرة ذنوبهم التي تقع منهم، وهم على خشية من الله.. وإلى جانب غفران ذنوبهم يكون مضاعفة أجرهم لما يعملون من حسنات.. ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الملك: 12]

الرجاء

بعد سماعي لهذه الأحاديث من أهل مقام الخشية، طلب مني مرافقي ومن معه لأن نسير إلى مقام آخر.. فسرنا مسافة قصيرة، حيث وجدنا روضة كتب على بابها [مدرسة الرجاء]، وقد رأينا شيخها يقول لتلاميذه: أنتم تعلمون أنه لا يمكن لمن مر على مدرسة الخوف إلا أن يمر على مدرسة الرجاء، حتى يطير إلى الله بجناحي الخوف والرجاء، فالخوف

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (15/ 1058)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/180)

وحده قد يؤدي إلى القنوط، والرجاء وحده قد يؤدي إلى الإرجاء والتساهل في تنفيذ الأوامر الإلهية.. ولذلك وصف الله بهما المقربين من عباده، فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: 57]

قال أحدهم: صدقت.. ولهذا نرى القرآن الكريم يجمع بين وصف الجنة والنار وأهلهما في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: 7]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران: 106 ـ 107]

قال الشيخ: أحسنتما.. والآن.. وقبل أن نبدأ تدريبنا نرجو أن تذكروا لي بعض ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تحث على الرجاء.

قال أحدهم (1): من ذلك قوله تعالى، وهو يحثنا على الرجاء، وينهانا عن القنوط من رحمته: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، أي قل أيها الرسول للمؤمنين الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود الله، فارتكبوا محارمه وتركوا أوامره: لا تيأسوا من مغفرة الله، فهو يغفر الذنوب جميعا لمن تاب إليه ولجأ إلى جنابه، وإن كثرت وكانت كز بد البحر.

قال آخر (2): إن الغرقى إذ يسمعون هذا النداء الكريم ليرون بأعينهم رأى العين،

__________

(1) تفسير المراغي (24/ 22)

(2) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1179)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/181)

مراكب النجاة تخف إليهم من كل جهة، وليس عليهم إلا أن يتعلقوا بها، ويشدوا أيديهم عليها، لتحملهم إلى شاطئ النجاة والسلامة.. وهؤلاء الذين ينادون من ربهم هذا النداء الرحيم الكريم، ويضافون إلى عزته وجلاله إضافة الرحمة والإكرام هم العصاة، الخارجون على حدود الله، المعتدون على حرماته، الجاحدون لنعمه.. إنهم الذين أسرفوا على أنفسهم، وجاروا عليها بهذه الأوزار التي حملوها إياها.. فيا للطف الله، ويا لسعة كرمه.. وعظيم مننه، وجليل إحسانه.

قال آخر (1): وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53].. شحنة من النور تضئ ظلام هذه النفوس التي تنظر إلى الله سبحانه وتعالى من خلال هذا الضباب المنعقد من اليأس حولها، وهي تذكر بشاعة جرائمها، وشناعة آثامها، وتحسب ـ جهلا وضلالا ـ أن ذنوبها أكثر من أن تغفر، وأن جرائمها أكبر من أن يتجاوز لها عنها.

قال آخر (2): فأي عذر لمذنب بعد هذا البلاغ المبين، إذا هو لم يسع إلى الله، ويغتسل في بحر رحمته، من أدرانه، ويتطهر من ذنوبه؟.. وأي عذر لمجرم بعد هذا النداء الكريم الرحيم، إذا هو لم يمد يده إلى ربه، ليقيل عثرته، ويحمل عنه وزره؟

قال آخر (3): وكعادة القرآن الكريم في ربط الرجاء بالتكاليف، عقب الله تعالى الآية الكريمة بالدعوة إلى الإنابة إليه بقوله: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [الزمر: 54] أي أيها الناس أنيبوا إلى ربكم بالتوبة، وارجعوا إليه بالطاعة، واستجيبوا إلى ما دعاكم إليه من توحيده وإفراد الألوهية قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تجدوا نصيرا ولا معينا من عذابه النازل بكم.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1180)

(2) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1180)

(3) تفسير المراغي (24/ 24)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/182)

قال آخر (1): ثم أمر باتباع الأحسن، فقال: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر: 55] أي واتبعوا ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم عنه فيه، من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم، ولا يخفى ما في هذا من تهديد ووعيد.

قال آخر (2): ومثل ذلك قال تعالى مبشراً بسعة رحمته: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 156]، أي أن رحمته تعالى عامة شاملة، تسع الوجود كله، وهي على سعتها، وعمومها وشمولها، لا ينالها من لا يستحق الرحمة من الله، لأنه قطع على نفسه كل طرق الإمداد، وأغلق عن حياته كل منافذ المغفرة، لأنه أساء كما لم يسئ أحد، فكفر بالله وأشرك به ما لم ينزل به سلطانا، ولهذا فقد أخذ الله على نفسه أن لا يغفر لمن أشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولن يشاء المغفرة إلا لمن كان في قلبه نبض من رحمة، وحركة من محبة، وانطلاقة من إيمان.. أما القلوب السوداء بالقسوة، الجامدة بالحقد، المختنقة بالكفر، فلن تنال المغفرة، لأنها لم تنفتح على الله في شيء، فكيف يمكن أن تأمل بانفتاح الله عليها بالرحمة!؟

قال آخر (3): ولذلك ذكر الله تعالى المستحقين للرحمة، وهم أهل الرجاء الحقيقي، فقال: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 156] أي يعيشون الخوف من الله، كمنهج للسير في خط الفكر والعمل في الحياة، فيمنعهم ذلك من التمرد عليه بمعصيته، ويدفعهم إلى الانقياد له بطاعته، وذلك فيما تمثله التقوى من التزام روحي وعملي بالله.. ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [لقمان: 4] فيما تمثله الزكاة من حركة الرحمة في حياة الإنسان، بما توحي به من روحية

__________

(1) تفسير المراغي (24/ 24)

(2) من وحي القرآن (10/ 258)

(3) من وحي القرآن (10/ 259)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/183)

العطاء، وحيوية المحبة، وفاعلية الإيمان.. ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 156] فيما يثيره الإيمان بآيات الله من انفتاح للعقل على الآفاق الرحبة للمعرفة، وإذعان منه بالحقيقة الواضحة في أجواء الله، فإن الله يحب العقل المنفتح، والروح المؤمنة التقية المذعنة للحق.

قال آخر: وبما أن الخطاب لأهل الكتاب، فقد أضاف الله تعالى إلى تلك الأوصاف قوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 157] أي أنهم ينفتحون على ما تقدمه إليهم التوراة والإنجيل من دلائل وبراهين على صدق نبوته ورسالته، فيؤمنون به ويتبعونه في أقواله وأفعاله.. ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الأعراف: 157] الأمر الذي يحقق الانضباط لحركة المجتمع في علاقاته ومعاملاته وتصرفاته العامة، بحيث يكون الطابع العام للمجتمع هو الرقابة على بعضه البعض في تأكيد الخط المستقيم في جميع الاتجاهات، وذلك بطريقة عفوية إيمانية، لا تكلف فيها ولا ارتباك.. ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157] فيما يريد تحقيقه للإنسان في حياته من الاستمتاع بطيباتها فيما يأكلونه ويشربونه ويلبسونه ويتلذذون به، ومن الابتعاد عن خبائثها التي تسيء إلى أجسادهم وأذواقهم وأرواحهم، لأن الله لم يمنح الإنسان الحرية في الإساءة إلى نفسه، ولذلك حرم عليه ما يؤدي إلى ذلك.. ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾ [الأعراف: 157] الذي يثقل عليهم في حياتهم وأوضاعهم من تشريعات سابقة أو لاحقة، ﴿وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157] فيما كان يقيدهم به في شرائعهم من الأشياء الشاقة.

القرآن.. والهداية الشاملة (2/184)

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 218]، أي إن المؤمنين الذين ثبتوا على إيمانهم والذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو هاجروا إليه للقيام بنصرة الدين وإعلاء كلمة الله، والذين بذلوا جهدهم في مقاومة الكفار وتقوية المؤمنين هم الذين يرجون رحمة الله وإحسانه، وهم جديرون بأن يعطوا ذلك، لأنهم استفرغوا ما في وسعهم، وبذلوا غاية جهدهم، ولم يدخروا وسيلة فيها مرضاة لربهم إلا فعلوها، فحق لهم أن ينالوا الفوز والفلاح والسعادة.. ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 218] أي والله واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم الرحمة بالمؤمنين، يحقق لهم رجاءهم إن شاء، بعميم فضله، وعظيم طوله.

قال آخر (2): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: 29 ـ 30]، ففي الآيتين الكريمتين دعوة إلى النظر في آيات الله القرآنية، وما يقع للعقل منها من علم بالله سبحانه، وبما له ـ سبحانه ـ من علم، وحكمة، وقدرة.. ففي هذه الآيات القرآنية، معجزات، يرى فيها الذين يتلونها تلاوة مبصرة، وشواهد ناطقة تشهد بما لله من كمال وجلال، تماما كما يرى الراءون لآيات الله المادية المعجزة.. وفيها دعوة إلى التلاوة المتدبرة الفاقهة، التي تحصل علما وحكمة، وهي التي تملأ القلوب إجلالا وخشية لله.

قال آخر (3): ثم ذكر الله تعالى أوصافا أخرى للراجين، فقال: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾

__________

(1) تفسير المراغي (2/ 137)

(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 883)

(3) التفسير القرآني للقرآن (11/ 884)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/185)

[فاطر: 29].. والجملة هنا حالية من فاعل يتلون، أي يتلون كتاب الله، وقد أقاموا الصلاة، ﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ [فاطر: 29] أي وأنفقوا مما رزقهم الله سرا وجهرا.

قال آخر (1): ثم ذكر حالهم عند قيامهم بتلك الأعمال الصالحة، فقال: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر: 29]، أي أن هؤلاء الذين يتلون كتاب الله، ثم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة يرجون تجارة رائجة، رابحة لن تبور.. بل إنها تجد من يشتريها منهم، ويضاعف لهم الثمن فيها.. وإنه الله سبحانه وتعالى هو الذي يشترى منهم هذه البضاعة، ويضاعف لهم الثمن عليها.

قال آخر (2): ثم ذكر جزاءهم، فقال: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: 30]، أي ليعطيهم أجر ما عملوا كاملا وافيا غير منقوص، بل وأكثر من هذا، فإن الله سيزيدهم، ويضاعف لهم الأجر، فضلا وكرما وإحسانا منه.. لأنه غفور يتجاوز عن سيئاتهم، شكور يقابل القليل من الإحسان بالجزيل من العطاء.

قال آخر (3): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9]، أي أأنت أيها المشرك أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بأداء الطاعات، ودائب على وظائف العبادات، في ساعات الليل التي تكون فيها العبادة أشق على النفوس، وأبعد من الرياء، فتكون أقرب إلى القبول، وهو في حال عبادته خائف راج؟ لا شك أن الجواب لا يحتاج إلى بيان.. ثم أكد نفى التساوي ونبه إلى فضيلة العلم وشرف العمل به فقال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9] أي قل أيها الرسول

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 884)

(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 885)

(3) تفسير المراغي (23/ 151)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/186)

لقومك: هل يستوى الذين يعلمون ما لهم في طاعة ربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من عقاب، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبطون خبط عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا، ولا يخافون من سيئها شرا.. وجاء هذا الكلام بأسلوب الاستفهام للدلالة على أن الأولين بلغوا أعلى معارج الخير، وأن الآخرين درجوا في دركات الشر، ولا يخفى ذلك على منصف ولا مكابر.. ثم بين أن ما سلف إنما يفهمه كل ذى لب، فأمثال هؤلاء على قلوبهم غشاوة، لا يفقهون موعظة، ولا تنفع فيهم التذكرة فقال: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9] أي إنما يعتبر بحجج الله ويتعظ بها ويتدبرها أهل العقول والحجا، لا أهل الجهل والغفلة.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الممتحنة: 6]، وقد وردت هذه الآية الكريمة بعد قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الممتحنة: 4 ـ 5] لتنبه إلى أن الرجاء الحقيقي هو الذي يصحبه العمل الصالح، لا مجرد الأماني الكاذبة.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (8/ 718)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/187)

110]، ففي الآية الكريمة تقرير لبشرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه وجميع رسل الله، ليسوا إلا خلقا من خلق الله، وعبيدا من عبيده، اختصهم الله برحمته، واصطفاهم لرسالته.. وكما تقرر الآية بشرية الرسول، تقرر الطريق السوى الذي ينبغى أن يستقيم عليه الإنسان كى يكون في عباده الله الصالحين المؤمنين.. وهذا الطريق إنما يقوم على الإيمان بالله، وباليوم الآخر، والعمل الصالح، الذي لا يجد الإنسان غيره في هذا اليوم، مركبا يدفع به إلى شاطئ الأمن والسلام، ويفتح له أبواب الجنة والرضوان.

التوبة

بعد سماعي لهذه الأحاديث من أهل مقام الرجاء، طلب مني مرافقي ومن معه لأن نسير إلى مقام آخر.. فسرنا مسافة قصيرة، حيث وجدنا روضة كتب على بابها [مدرسة التوبة]، وقد رأينا شيخها يقول لتلاميذه: لقد رأيت بعضهم يحتقر مقام التوبة، ويعتبره خاصا بالعصاة والمنحرفين.. فكيف تردون عليه؟

قال أحدهم: نرد عليه بقوله تعالى في وصف الأنبياء عليهم السلام ومن صحبهم من الربانيين: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 146، 147]، ثم ذكر الجزاء العظيم المعد لهم بسبب قولهم هذا، فقال: ﴿فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 148]

قال آخر (1): وفي الآيات الكريمة إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه موقف

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 609)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/188)

المجاهدين الصابرين، حين يكربهم الكرب، ويشتد بهم البلاء.. فهم لا يذكرون غير الله، ولا يلتفتون إلا إليه، طالبين عفوه ومغفرته، وتثبيت أقدامهم في موطن الجهاد، حتى لا تنزع بهم نفوسهم إلى أن يولوا الأدبار، وأن يطلبوا السلامة والنجاة.. وفي طلبهم أن يغفر الله لهم ذنوبهم، وإسرافهم في أمرهم، وجعله مفتتح دعائهم، اعتراف ضمنى بأن شيئا ما دخل على إيمانهم، فأدخل الوهن والضعف عليهم ـ وإن لم يهنوا ولم يضعفوا ـ وباعد بينهم وبين النصر المرجو على عدوهم.. فهم في هذا الدعاء يضرعون إلى الله أن يغفر لهم ذنوبهم، وأن يتجاوز عن سيئاتهم، فإذا استجاب الله لهم ذلك، طهرت نفوسهم، واستقامت طريقهم إلى الله، واشتد قربهم منه، وكان لهم أن يطلبوا إلى الله أن يثبت أقدامهم، وأن يمسك بهم على هذا الطريق الذي استقاموا عليه.

قال آخر: ومثل ذلك وصف الله تعالى أولي الألباب، فقال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [آل عمران: 191]؛ فذكر أنهم يقولون في دعائهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: 193]

قال آخر: وأخبر عن نوح عليه السلام أنه قال: ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [هود: 47]

قال آخر: وأخبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [الشعراء: 78 ـ 83]

قال آخر: وأخبر عن موسى عليه السلام أنه قال في دعائه: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ

القرآن.. والهداية الشاملة (2/189)

تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 155]، وفي موقف آخر من مواقفه ذكر أنه قال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [القصص: 16]

قال آخر: وأخبر عن داود عليه السلام ومسارعته للاستغفار، فقال: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: 24، 25]

قال آخر: ومثله سليمان عليه السلام، فقد قال عنه: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: 34، 35]

قال الشيخ: بورك فيكم.. أظن أن فيما ذكرتموه من الآيات الكريمة كفاية لكل عاقل.. والآن حدثوني عن التوبة الحقيقية التي أرادها الله منا.

قال أحدهم: لقد وصفها الله تعالى بالنصح، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم: 8]

قال آخر (1): ففي الآية الكريمة نداء للمؤمنين، الذين انحرفت بهم الطريق حتى وقعوا في المعصية وامتدت بهم، فسيطرت على مساحة كبيرة من حياتهم، أن يعودوا إلى الله، حتى يتوبوا إليه توبة نصوحا، في العمق العميق من خضوعهم له، وانفتاحهم على طاعته، ليتقبلهم الله قبولا حسنا، فيكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنته.

__________

(1) من وحي القرآن (22/ 322)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/190)

قال آخر: والتوبة النصوح هي التوبة الحقيقية التي تتحرك من الندم العميق على ما سلف من عمل لا يرضي الله، ومن العزم الأكيد على عدم العودة إليه في المستقبل، والتخطيط للسير في الخط المستقيم في طاعة الله.. وهكذا يريد الله من المؤمنين أن يفكروا دائما بالخط الذي ينتمون إليه، ليدققوا في طريقة حركة خطواتهم عليه، ويستغرقوا في التدقيق في علاقتهم بالله، ليدرسوا مدى إخلاصهم له، ليقوموا ما انحرفوا فيه، وليصححوا ما أخطئوا فيه، لتبقى عيونهم مشدودة إلى خط الاستقامة، فلا يغيب عنهم، وتبقى قلوبهم مفتوحة على الله، فلا تنغلق عنه.

قال آخر: وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على أن لكل ذنب توبته الخاصة، ومن الأمثلة على ذلك قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 160] بعد قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة: 159]

قال آخر (1): أي إن أهل الكتاب الذين كتموا أمر الإسلام وأمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بينا واضحا، يستحقون الطرد والبعد من رحمة الله، ويستوجبون بأعمالهم الدعاء عليهم باللعن من الملائكة والناس أجمعين إلا من أناب عن كتمانه، وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأقر بنبوته، وصدق ما جاء به من عند الله، وأصلح حال نفسه بالتقرب إلى الله بصالح الأعمال، وبين ما علم من وحي الله إلى أنبيائه، وما عهد إليهم في كتبه، فلم يكتمه ولم يخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويفيض عليهم مغفرته تفضلا منه ورحمة، وهو الذي يرجع قلوب عباده المنصرفة عنه ويردها إليه بعد إدبارها عن طاعته،

__________

(1) تفسير المراغي (2/ 30)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/191)

وهو الرحيم بالمقبلين عليه يتغمدهم برحمته ويشملهم بعفوه، ويصفح عما كانوا اجترحوا من السيئات.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 146] بعد قوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء: 145]

قال آخر (1): ففي الآيتين الكريمتين بيان لأحوال المنافقين، الذين اتخذهم بعض الغافلين من المؤمنين أصدقاء لأنفسهم، حيث توضح الآية أن المنافقين يستقرون في القيامة في أحط وأسفل دركة من دركات جهنم، ولن يستطيع أحد أن ينصرهم أو ينقذهم من هذا المصير أبدا، وهم يستحقون هذا العقاب، لأن ما يلحق البشرية من ويلات من جانب هؤلاء هو أشد خطرا من كل الأخطار، فإن هؤلاء بسبب احتمائهم بظاهر الإيمان يحملون بصورة غادرة وبمطلق الحرية على المؤمنين العزل ويطعنونهم من الخلف بخناجرهم المسمومة، وبديهي أن يكون حال أعداء ـ كهؤلاء ـ يظهرون بلباس الأصدقاء، أشد خطرا من الأعداء المعروفين الذين يعلنون عداوتهم صراحة.. ومع ذلك فقد ذكر الله تعالى أن المجال مفتوح حتى لأكثر الناس تلوثا للتوبة من أعمالهم وإصلاح شأنهم، والسعي للتعويض بالخير عن ماضيهم المشين، والعودة إلى رحمة الله والتمسك بحبله والإخلاص لله بالإيمان به.

قال آخر (2): وذكر شروط عودتهم، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾ [النساء: 146]، أي غيروا حياتهم على النهج الذي يحبه الله ويرضاه،

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 504)

(2) من وحي القرآن (7/ 521)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/192)

ولم يلجأوا إلى ركن غيره، واعتبروا الارتباط بالله القاعدة التي تحدد لهم علاقاتهم وسلوكهم ومواقعهم في الحياة، وأخلصوا دينهم لله، فلم يحولوا الدين إلى سلعة في المزاد.. إذا فعلوا ذلك؛ فإن الله سيحشرهم مع المؤمنين الذين يتحركون في طريق الإيمان من موقع الإصلاح في العمل، والاعتصام بالله في جميع الأمور، وإخلاص الدين له في كل المواقف والتطلعات، وسيجدون هناك مع المؤمنين الأجر العظيم الذي يؤتيهم الله إياه برحمته ورضاه.

قال آخر: ومثل ذلك ذكر الله تعالى شروطا أخرى لصحة التوبة، فقال: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: 17، 18]

قال آخر (1): ففي هاتين الآيتين بيان للتوبة التي يقبلها الله من عباده المذنبين، والتي يلقى بها ذنوبهم بالصفح والمغفرة.. والمراد بالجهالة هنا ما يركب الإنسان من حمق، وطيش، ونزق.. وهو في مواجهة المنكر، وليس المراد بالجهالة عدم العلم بالمنكر الذي يرتكبه.. فهذا معفو عنه، ومحسوب من باب الخطأ.

قال آخر (2): والمراد بالتوبة من قريب، أن يرجع المذنب إلى نفسه باللائمة والندم، وأن ينكر عليها هذا المنكر الذي وقع فيه، وألا يستمرئه، فإذا وقف الإنسان من نفسه هذا الموقف كانت له إلى الله رجعة من قريب.. فإن مثل هذا الشعور يزعج الإنسان عن هذا المورد الوبيل الذي يرده، ويلوى زمامه عنه.. إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد.. وهذا ما حمده الله سبحانه وتعالى لأصحاب تلك النفوس التي يقلقها الإثم، ويزعجها المنكر إذا هي

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 726)

(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 726)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/193)

ألمت بمنكر، أو واقعت ذنبا، فكان من حمده سبحانه لتلك النفس وتكريمه لها أن أقسم بها، فقال: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة: 1 ـ 2]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]، فالعلم هنا مقابل للجهالة في قوله تعالى: (يعملون السوء بجهالة)، أي أنهم لم يصروا على ما فعلوا من منكر وهم يعلمون أن هذا المنكر يجنى عليهم ويحبط أعمالهم، وإنما هم مغطى على بصرهم، لما لبسهم حال غشيانهم المنكر من خفة وطيش، فلما استبان لهم وجه المنكر، وعرفوا عاقبة أمرهم معه، أنكروه، وبرئوا إلى الله منه.

قال آخر (1): وقد مدح الله هؤلاء، الذين ينكرون المنكر حتى بعد أن يواقعوه، فقال: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [المؤمنون: 60 ـ 62]

قال آخر (2): ثم ذكر الله تعالى الصنف المقابل لهؤلاء، فقال: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [النساء: 18]، وفيها رد وردع لأولئك الذين يستخفون بمحارم الله، فيهجمون عليها في غير تحرج ولا تأثم، ويبيتون معها، ويصبحون عليها، دون أن يكون لهم مع أنفسهم حساب أو مراجعة.. وهكذا يقطعون العمر، في صحبة الفواحش، ظاهرها وباطنها، حتى إذا بلغوا آخر الشوط من الحياة، وأطل عليهم الموت، فزعوا وكربوا، وألقوا بهذا الزاد الخبيث من أيديهم، وقالوا: تبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا من ركوب هذه المنكرات..

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 727)

(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 727)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/194)

وهي توبة لم تجئ من قلب مطمئن، وعقل مدرك، يحاسب ويراجع، ويأخذ ويدع، ولكنها توبة اليائس الذي لا يجد أمامه طريقا غير هذا الطريق.. فهو لم يثب وهو في خيرة من أمره.. فيمسك المنكر أو يدعه، ويقيم على المعصية أو يهجرها.. وإنما هو إذ يتوب في ساعة الموت، أشبه بالمكره على تلك التوبة، إذ لا وجه أمامه للنجاة غير هذا الوجه.

قال آخر (1): وقد فعلها فرعون من قبل حين أدركه الغرق، فرده الله سبحانه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا، كما قال تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 90 ـ 91]، فإيمان فرعون هنا لم يكن عن اختيار بين الإيمان والكفر.. بل كان لا بد له من أن يؤمن حتى ينجو من الغرق، إن الكفر بالله هو الذي أورده هذا المورد، وإن الإيمان بالله الذي كفر به من قبل هو الذي يرده عن هذا المورد ويدفعه عنه.. هكذا فكر وقدر.. وشبيه بهؤلاء الذين لا يرجعون إلى الله، ولا يذكرونه إلا عند حشرجة الموت، أولئك الذين يغرقون أنفسهم في الآثام مادامت تواتيهم الظروف، وتسعفهم الأحوال، حتى إذا سدت في وجوههم منافذ الطريق إلى مقارفة الإثم، بسبب أو بأكثر من سبب، تعففوا وتابوا.. وتلك توبة العاجز المقهور، ورجعة المهزوم المغلوب على أمره، لا يخالطها شئ من الندم، ولا يقوم عليها سلطان من إرادة ومغالبة.. ولذلك فهي توبة غير مقبولة.

قال آخر (2): وهكذا قرن الله تعالى التوبة بالطهارة، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، أي إن الله يحب التوابين الذين إذا وقعوا في المعصية وطاف

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 728)

(2) من وحي القرآن (4/ 253)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/195)

بهم الشيطان فأبعدهم عن الله، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، وتابوا منها، وأنابوا إليه، ولم يصروا على ما فعلوا.. فهؤلاء هم الذين يختزنون في أعماقهم الإيمان بالله والمحبة له والالتزام بطاعته، من دون أية حالة للتمرد التي تتنافى مع الإحساس بالعبودية، وهم الذين لم تنطلق معصيتهم في خطيئاتهم من جحود بالله، ولا استهانة بعقوبته، ولا تهاون بوعيده، ولا استخفاف بأمره ونهيه.. بل انطلقت من غفلة العمل وثورة الغريزة، ونداء الجسد ووسوسة الشيطان، فهي حدث عارض في حركة العمق الإيماني في الذات، وليست حالة عميقة مستقرة، ولذلك كانوا أهلا لمحبة الله من خلال محبتهم له.

قال آخر (1): ثم ذكر الله تعالى محبته للمتطهرين الذين يتطهرون من قذارة الكفر والضلال والذنوب الكبيرة والصغيرة، فيلتقون بالتوابين الذين تمثل التوبة لديهم حالة من التطهر الروحي، الذي يتحول إلى حالة من التطهر الجسدي.. والله يريد للإنسان أن يعيش حالة التطهر الجسدي كما يريد له أن يعيش حالة التطهر الروحي، لأن الحياة المستقيمة الطاهرة في نظامها الطبيعي المتوازن في الجانب الفردي والاجتماعي، بحاجة إلى الطهارتين معا.

قال آخر: ولذلك أمر الله بهما معا، فقد تحدث عن الطهارة المادية في مواضع مختلفة من القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4]، وقوله: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾ [الأنفال: 11]، وقوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 222]

قال آخر: وتحدث عن الطهارة المعنوية، فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ

__________

(1) من وحي القرآن (4/ 253)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/196)

قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 41]، وقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33]

قال آخر: وذكر طهارة المال، فقال: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 103]، وطهارة المسجد من الأوثان والشرك، فقال: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26]، وطهارة الماء، فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]، وطهارة الشراب، فقال: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: 21]

قال آخر (1): وكل هذه الآيات الكريمة تدل على أن الله تعالى يريد للإنسان أن يعيش في حياته الطهارة المادية التي تتحول إلى حالة نفسية ترفض القذارة الخبيثة، وتتحول إلى حالة عبادية ترفض التأثيرات المعنوية السلبية الناتجة عن الحدث الأكبر والأصغر، وإلى محيط طاهر نظيف يبتعد به الإنسان عن الأمراض والأوضاع المنفرة الناشئة من القذارات في جسده وفي طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه وفي ما حوله ومن حوله... كما يريد له أن يعيش الطهارة الروحية في الفكر الطاهر، والقلب الطاهر، والعمل النظيف، والقول الطاهر... لتجتمع له في وجدانه الحضاري، وفي نظامه الفردي والاجتماعي كل عناصر الطهارة.. وفي ضوء ذلك، كانت محبة الله للمتطهرين، لأنهم أخذوا بأسباب الطهارة التي أمرهم بها في حياتهم الداخلية والخارجية، مما يوحي بأنهم يعيشون في عمق الحب لله، من

__________

(1) من وحي القرآن (4/ 253)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/197)

حيث يتحركون في خط طاعته وموقع رضاه.

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 54]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأعراف: 153]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64]، وقوله: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 39]، وقوله: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 74]، وقوله: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة: 102 ـ 104]

قال آخر: وهكذا يقرن الله تعالى التوبة بالكثير من الأعمال الصالحة، كما قال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 112]، وقال: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة: 117، 118]

القرآن.. والهداية الشاملة (2/198)

الإخلاص

بعد سماعي لهذه الأحاديث من أهل مقام التوبة، طلب مني مرافقي ومن معه لأن نسير إلى مقام آخر.. فسرنا مسافة قصيرة، حيث وجدنا روضة كتب على بابها [مدرسة الإخلاص]، وقد رأينا شيخها يقول لتلاميذه: إن النية ليست مجرد ركن من أركان الصلاة، أو ركن من أركان أي عمل صالح، بل هي في حد ذاتها مدرسة للتزكية؛ فلا يمكن أن تنطلق التزكية ولا التربية ولا الترقية من دون أن تتوفر النية الداعية لذلك كله، ذلك أنها الواسطة بين العلم والعمل، إذ (ما لم يعلم أمر لم يقصد، وما لم يقصد لم يفعل، فالعلم مقدم على النية وشرطها، والعمل ثمرتها وفرعها، إذ كل فعل وعمل يصدر عن فاعل مختار، فإنه لا يتم إلا بعلم وشوق وإرادة وقدرة) (1).. ولذلك كان الاهتمام بها وبتصحيحها أولى من كل الأعمال؛ فرب أعمال كثيرة، وجهود عظيمة، تفتقر إلى النية الصالحة الخالصة؛ فتتحول إلى هباء منثور لا يغني صاحبها شيئا، كما قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23]

قال أحدهم: صدقت، بل إنها قد تنتقل من الطاعة إلى المعصية، وينتقل الجزاء المرتبط بها من سجل الحسنات إلى سجل السيئات، وينتقل محل صاحبها من الجنة إلى النار، مع أن العمل واحد، لكن الدافع الذي دفع إليه هو الذي تسبب في ذلك التحول العظيم العميق، وقد ذكر الإمام الصادق سر خلود أهل الجنة والنار في المنازل التي أعدت لهما، وعلاقة ذلك بالنية، فقال: (إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدّنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله تعالى أبدا، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدّنيا أن لو بقوا فيها

__________

(1) جامع السعادات، ج 3، ص: 108.

القرآن.. والهداية الشاملة (2/199)

أن يطيعوا الله أبدا؛ فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ثمّ تلا قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء: 84]، يعني على نيّته) (1)

قال آخر (2): وسر ذلك يعود إلى أن النية هي روح العمل، والمقصد الأول منه، كما قال الله تعالى في الأضاحي والهدي: ﴿لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: 37]، أي إن الله غني عنها وعنكم، لأنه هو خالقها وخالقكم، فلم يتعبدكم بنحرها لترجع منفعتها إليه، تماما كما هو الحال في العبادات كلها، التي لن يرجع منها شيء إليه، لأنه الرب الغني عن عباده، الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه، ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: 37] فيما يعبر عنه موقف العطاء المادي بلا مقابل تقربا إلى الله، من حركة داخلية تنمي التقوى في النفس، وتثيرها في الواقع، ذلك أن الممارسة كلما امتدت في حياة الإنسان، كلما عمقت تجربته الروحية في الداخل، بحيث تصبح الحركة على المستوى العملي هي السلوك الذي يختزن الحالة الروحية في المعني، وبذلك تصبح الممارسة أسلوبا في التربية التي تبني الداخل وتحدد ملامح الشخصية، الأمر الذي يجعلنا نسعى إلى تعميق الفكرة في النفس، عبر تكرار العمل الذي يطبع معناها ويعكسه في الواقع.

قال آخر (3): والتقوى حالة روحية يتحسس الإنسان من خلالها في قلبه وروحه سر العبودية لله، لجهة وعي المسؤولية وتجسيدها حركة في الواقع، في شعور عظيم بالحضور الإلهي الذي يحيط بكل ما حوله ومن حوله، وما فوقه، وما تحته، لأن الله هو المهيمن على كل شيء، والخبير بكل سر وعلانية، وهو على كل شيء قدير.. وهي التي يمكن أن تضبط خطوات الإنسان في دروب الله، وتحقق نظام الحياة في نطاق إرادته، وتملأ الدنيا حركة في

__________

(1) الكافي ج 2 ص 85.

(2) من وحي القرآن (16/ 69)

(3) من وحي القرآن (16/ 70)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/200)

المسؤولية، ومسؤولية في الالتزام، والتزاما بالله في كل شيء، ولذلك كانت هدف الأهداف في كل تشريعات العبادة في جميع مجالاتها وأنواعها، وعلى اختلاف خصائصها القولية والفعلية.

قال آخر: ولذلك كان سبب نجاح إبراهيم عليه السلام في الامتحان الذي امتحن فيه نيته الصادقة الخالصة لله، ولذلك بمجرد أن نجح في ذلك الاختبار الصعب، نهي عن تطبيقه عمليا؛ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 103 ـ 107]

قال آخر (1): أي فلما استسلما وانقادا لأمر الله وفوضا إليه سبحانه الأمر في قضائه وقدره، وأكب إبراهيم ابنه على وجهه باشارة منه، حتى لا يرى وجهه فيشفق عليه، ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى: أن قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، فقد بان امتثالك للأمر، وصبرك على القضاء، وحينئذ استبشرا وشكرا لله على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء بعد حلوله، والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله، مع إظهار فضلهما، وإحراز المثوبة من ربهما.

قال آخر (2): ثم علل رفعه لذلك البلاء وإزالته لتلك الغمة بقوله: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [المرسلات: 44] أي إنا كما عفونا عن ذبحه لولده، بعد استبانة إخلاصه في عمله، حين أعد العدة، ولم تتغلب عليه عاطفة البنوة، فرضى بتنفيذ القضاء منقادا صاغرا ـ نجزى كل محسن على طاعته، ونوفيه من الجزاء ما هو له أهل، وبمثله جدير.

قال آخر (3): ثم ذكر عظيم صبره على امتثال أمر ربه مع ما فيه من كبير المشقة في

__________

(1) تفسير المراغي (23/ 74)

(2) تفسير المراغي (23/ 75)

(3) تفسير المراغي (23/ 75)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/201)

مجرى العادة فقال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: 106] أي إن هذا الذي كان لهو محنة أيما محنة، واختبار لعباده لا يعدله اختبار، ولله عز اسمه أن يبتلى من شاء من عباده بما شاء من التكاليف وهو الفعال لما يريد، لا راد لقضائه ولا مانع لقدره، وكثير من التكاليف قد تخفى علينا أسرارها وحكمها، وهو العليم بها وبما لأجله شرعها.. ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107] أي وفديناه بوعل أهبط عليه.

قال آخر: وهكذا يذكر الله تعالى الصادقين المخلصين الذين ظفروا بنيات المجاهدين، ولو لم يحضروا معهم، فقال: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 91، 92]

قال آخر (1): أي إن التكليف بالغزو لمواجهة المعتدين ساقط عن أصناف ثلاثة.. الضعفاء وهم من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد كالشيوخ والعجزة والنساء والصبيان وذوى العاهات التي لا تزول كالكساح والعمى والعرج.. والمرضى وهم من عرضت لهم أمراض لا يتمكنون معها من الجهاد، وعذرهم ينتهى إذا شفوا منها.. والفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون منه على أنفسهم إذا ما خرجوا، ولا ما يكفي عيالهم.

قال آخر (2): وهذه الأصناف الثلاثة لا ضيق عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب على شرط أن ينصحوا لله ورسوله.. أي يخلصوا لله في الإيمان وللرسول في الطاعة بعمل كل ما فيه مصلحة للأمة الإسلامية ولا سيما المجاهدين منها من كتمان السر والحث

__________

(1) تفسير المراغي (10/ 182)

(2) تفسير المراغي (10/ 182)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/202)

على البر ومقاومة الخائنين في السر والجهر.

قال آخر (1): كما قال تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [التوبة: 91]، والسبيل هي الطريق، أي ليس لأحد أدنى طريق يسلكها لمؤاخذتهم، فكل السبل مسدودة دون الوصول إليهم.. وكل ناصح لله ورسوله فهو محسن، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج.

قال آخر (2): ثم قفى ذلك بذكر الصفح عنهم والتجاوز عن سيئاتهم فقال: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم: 1] أي وهو سبحانه كثير المغفرة واسع الرحمة يستر على المقصرين ضعفهم في أداء الواجبات ما داموا مخلصين النصح لله ورسوله، ويدخلهم في زمرة الصالحين من عباده.. أما المنافقون المسيئون فلا يغفر لهم ولا يرحمهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن النفاق الذي كان سببا في ارتكاب هذه الآثام.

قال آخر (3): ثم ذكر الذين بلغوا القمة في الإخلاص، فقال: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: 92] أي لا حرج على من ذكروا أولا، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم على الرواحل فيخرجوا معك، فلم تجد ما تحملهم عليه، وهؤلاء وإن دخلوا في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون للجهاد لفقدهم الرواحل، وقد خصوا بالذكر اعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم قسم مستقل.. ﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 92] أي انصرفوا من مجلسك وهم يبكون بكاء شديدا يصحبه حزن عميق، فكانت أعينهم تمتلئ دمعا يتدفق من جوانبها حزنا وأسفا على أنهم لا يجدون ما ينفقون ولا ما يركبون في خروجهم معك للجهاد في سبيل الله وابتغاء

__________

(1) تفسير المراغي (10/ 183)

(2) تفسير المراغي (10/ 183)

(3) تفسير المراغي (10/ 183)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/203)

مرضاته.

قال آخر (1): ولذلك كان الإخلاص ركنا من أركان الدين، وقيمة من القيم الروحية الكبرى التي لا يتحقق التدين الصحيح من دونها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 2]، أي قد نزل إليك أيها النبي هذا الكتاب من ربك بالحق لا يعلق به باطل.. فهو يحمل إليك الحق خالصا من كل شائبة، فمن نظر في آياته، وتدبر في كلماته، عرف طريق الحق واضحا مشرقا.. وإذ كان ذلك هو ما عرفت من آيات الله وكلماته من حق، فاعبد الله على هذه المعرفة، عبادة خالصة، تملأ القلب، وتملك المشاعر، وتستولى على الوجدان.. فلا ترى غير الله الحق.. وإذ كان الله سبحانه، هو الحق، وما سواه ـ بالإضافة إليه ـ باطل، فكل ولاء لغيره، باطل، وكل تعبد لسواه، ضلال.. فالعبودية الخالصة له وحده سبحانه وتعالى.

قال آخر (2): ثم عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 3]، أي الذي ينطلق من موقع الفكر والوعي والممارسة، لا من موقع الكلمة المجردة، والتمثيل المصطنع، والحركة الغارقة بالأطماع والشهوات والارتباطات المشبوهة بالأصنام التي اتخذها الناس أربابا من دون الله بسبب الجهل والتخلف والتصورات الوهمية التي تصنع للأشياء أسرارا لا حقيقة لها، ودورا لا أساس له، ومعنى لا عمق له، وعظمة لا أفق لها، لأنهم يريدون الارتباط بالحس الذي يفرض نفسه على الجانب المادي من وجودهم، فإذا ارتبطوا بالغيب من خلال مؤثرات معينة، كأن يؤمن بعضهم بالله، فإنهم يصنعون لأنفسهم أربابا صغارا، يمنحونهم صفة الوسائط بين الله وبين عباده، على أساس ما يتعارفون عليه

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1116)

(2) من وحي القرآن (19/ 296)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/204)

بينهم من أن الشخص الكبير لا يمكن أن يصل الناس إليه بشكل مباشر، لأنهم دون مستوى الحديث معه، والجلوس إليه، فلا بد من أن يكون هناك أشخاص أقل درجة منه ممن يقتربون في درجتهم من الناس، ليتعبد الناس إليهم، ليقربوهم إلى الشخص الكبير، وبهذا يختلط الإيمان بالله، بالإيمان بالناس أو بغير الناس من الأصنام المزعومة، فتتحرك العبادة في مزيج من الإيمان والثنائية، ولكن بطريقة مختلفة.. وهذه هي الصورة القرآنية للشرك الذي ينفذ إلى عمق التوحيد، فيذهب صفاؤه ونقاؤه.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 11]، وقال: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 14 ـ 15]، أي قل للمشركين المعاندين: الله أعبد لا غيره لا استقلالا ولا اشتراكا، مخلصا له عبادتى مبتعدا من الشرك والرياء، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه من الأوثان والأصنام، وستعلمون وبال عاقبتكم حينما تلقون ربكم.. ثم أمر الله تعالى رسوله أن يذكر للمشركين حالهم يوم القيامة فقال: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر: 15] أي قل لهم أيها الرسول: إن الخسران الذي لا خسران بعده ـ هو خسران النفس وإضاعتها بالضلال، وخسران الأتباع الذين أضلوهم وأوقعوهم في العذاب السرمدي يوم القيامة إذ أوقعوهم في هلكة ما بعدها هلكة.. ﴿أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 15] أي هذا هو الخسران المبين الظاهر لكمال هو له، وفظاعة شأنه.

قال آخر (2): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا

__________

(1) تفسير المراغي (23/ 154)

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 397)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/205)

أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ [البقرة: 139]، ففي الآية الكريمة رد على اليهود وغيرهم الذي كانوا يحاجون المسلمين بصور شتى، حيث كانوا يقولون لهم: إن جميع الأنبياء مبعوثون منا، وإن ديننا أقدم الأديان، وكتابنا أعرق الكتب السماوية.. وكانوا يقولون: إن عنصرنا أسمى من عنصر العرب، ونحن المؤهلون لحمل الرسالة لا غيرنا، لأن العرب أهل أوثان.. وكانوا يدعون أحيانا أنهم أبناء الله وأن الجنة لهم لا لغيرهم.

قال آخر (1): وقد رد الله تعالى على كل هذه الأقاويل بقوله: ﴿أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ﴾ [البقرة: 139]، فالله سبحانه ليس رب شعب أو قبيلة معينة، إنه رب العالمين.. واعلموا أيضا أن لا امتياز لأحد على غيره إلا بالأعمال، وكل شخص رهن أعماله ﴿وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ [البقرة: 139]، مع فارق، وهو إن كثيرا منكم يشركون في توحيدهم: ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ [البقرة: 139]

قال آخر (2): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [الأعراف: 29]، ففي الآية الكريمة بيان لما أمر به الله تعالى من طيب وجميل، فقد أمر الله بالقسط، وهو العدل، وإقامة موازين الحق، حتى لا يظلم الناس بعضهم بعضا، ولا يعتدى بعضهم على حق بعض.. الأمر الذي لو استقام عليه الناس لاستقام أمرهم جميعا، ولجرت سفينة الحياة بهم في ريح رخاء.. ومما أمر الله سبحانه به بعد هذا، إقامة الصلاة، إذ هي أكثر العبادات توثيقا للصلة بين العبد وربه. حيث يمكن أن يأتيها كل إنسان.. فقير أو غنى، كبير أو صغير، في أي وقت، وعلى أي حال.. ومن هنا كان من الإمكان أن يكون العبد على صلة دائمة مع الله، بالصلاة، في الليل والنهار،

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 398)

(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 388)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/206)

في السر والجهر، خاليا مع نفسه، أو منتظما في جماعة..

قال آخر (1): وإقامة الوجوه عند كل مسجد تعني إخلاص العبادة لله، وإقامة الوجوه إليه وحده، دون التفات إلى أحد غيره، وهذا هو الذي يعطى الصلاة ثمرتها المطلوبة منها، إذا هي أقيمت على هذا الوجه، من الولاء لله، واستحضار القلب لجلاله وعظمته.

قال آخر (2): وقوله تعالى: ﴿وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [الأعراف: 29] تشير إلى أن الدعاء صلاة وعبادة، بل هو مخ العبادة.. إذ هو التطبيق العملي للإيمان بالله، والإقرار بالعبودية له، وتعلق الرجاء فيه، والتماس الخير منه وحده، والانقطاع عما سواه.. وهذا هو التوحيد الخالص، والإيمان المصفى، ولهذا اقترن الدعاء بالصلاة، وجاء بعدها، ليكون التطبيق العملى، لما تركت الصلاة في نفس المصلى من ولاء لله، وقرب منه.

قال آخر: ولهذا؛ فإن المخلِصين هم المخلَصون الذين لا يصيبهم كيد الشيطان، ولا يؤثر فيهم، كما قال تعالى مخبرا عن الشيطان: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: 39 ـ 42]، وقال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: 82 ـ 83]

قال آخر: وأثنى عليهم في مواضع مختلفة من القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: 167 ـ 169]، وقال عن يوسف عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24]، وقال عن موسى عليه السلام:

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (4/ 388)

(2) التفسير القرآني للقرآن (4/ 389)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/207)

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم: 51]

التوكل

بعد سماعي لهذه الأحاديث من أهل مقام الإخلاص، طلب مني مرافقي ومن معه لأن نسير إلى مقام آخر.. فسرنا مسافة قصيرة، حيث وجدنا روضة كتب على بابها [مدرسة التوكل]، وقد رأينا شيخها يقول لتلاميذه: إن التوكل والتفويض والتسليم وغيرها من الألفاظ تدل على معنى واحد، وهو تسليم الأمر إلى الوكيل ثقة به وبتدبيره.. والوكيل الوحيد الذي يستحق الثقة به هو الله.. وهذا هو التوكل.. ولهذا وصف الله تعالى أفضل عباده وأشرفهم بالتحقق بهذه المعاني السامية علما وعملا وحالا، وفي أصعب الظروف وأشدها، والتي يُمتحن فيها التوكل الحقيقي الصادق.

قال أحدهم: ومن ذلك ما أخبر الله تعالى عنه من تحدي الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم، فلم يبهرهم ما أعد لهم من صنوف الفتن.

قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الله تعالى عن موقف نوح عليه السلام من قومه بعد تكذيبهم له، كما قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [يونس: 71]، فالآية الكريمة تعرض جانبا من جوانب قصة نوح عليه السلام مع قومه، فيما يمثله من قوة موقف النبوة أمام خصومها، فليس هناك ضعف في العزيمة، ولا خلل في الإرادة، ولا ارتباك في الحركة، بل هي الرسالة الواثقة بنفسها المطمئنة إلى سلامة مواقعها، المتحركة باستقامة واتزان إلى

__________

(1) من وحي القرآن (11/ 343)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/208)

هدفها، ولذلك لم يكن لموقفه هذا طابع الجانب الشخصي الذي يتجمد عند التجربة المحدودة في نطاق الزمان والمكان، وفي ضوء ذلك، كان الله يريد لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتبني هذا الموقف في مواجهته لحالة التحدي العنيفة التي تتمثل في موقف قومه، ليكون رد التحدي فعلا متحركا مستمرا في خط الرسالات، لا رد فعل من خلال حالة طارئة، فهو انطلاقة الرسالة في حركة الصراع المستمر بين الكفر والإيمان منذ بدأ الأنبياء يقفون في الساحة من أجل دعوة الناس إلى الله ـ الحق، ولذلك فقد كانت أدوات الصراع واحدة في طبيعة الشخصية، ونوعية الكلمات، وحيوية الأساليب، وفاعلية الحركة، وصفاء الروح، وطيبة القلب، ورهافة الشعور، وصلابة الموقف.

قال آخر (1): وكأن الآية الكريمة تقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقرأ أيها الرسول على المشركين من أهل مكة وغيرهم فيما أوعدتهم به من عقاب الله لهم على مقتضى سننه في المكذبين لرسله من قبلك خبر نوح حين قال لقومه: يا قوم إن كان قد شق عليكم قيامى فيكم بالدعوة إلى عبادة ربكم وتذكيرى إياكم بآياته الدالة على وحدانيته ووجوب عبادته؛ فإننى وقد وكلت أمرى إلى الله الذي أرسلنى واعتمدت عليه وحده بعد أن أديت رسالته بقدر طاقتى.. فأعدوا أمركم واعزموا على ما تقدمون عليه في أمرى مع شركائكم الذين تعبدونهم من دون الله كما أدعو ربى وأتوكل عليه.. ثم لا يكن أمركم الذي تعتزمونه خفيا عليكم فيه حيرة ولبس، بل كونوا على بصيرة كيلا تتحولوا عنه.. ثم أدوا إلى ذلك الأمر بعد إجماعه واعتزامه، وبعد استبانته التي لا غمة فيها ولا التباس بأن تنفذوه بالفعل بعد استيفاء مقدماته كلها، ولا تمهلونى بتأخير هذا القضاء.. أي أن نوحا عليه السلام طلب إلى

__________

(1) تفسير المراغي (11/ 137)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/209)

قومه على كثرتهم وقوتهم أن يفعلوا ما استطاعوا من الإيقاع به، مطالبة المدل ببأسه وقوته، المعتصم بإيمانه بوعد ربه وتوكله عليه، فأمرهم بإجماع أمرهم بصادق العزيمة وقوة الإرادة، وأن يضموا إلى هذه القوة النفسية قوة الإيمان بشركائهم وآلهتهم، وألا يكون في أمرهم الذي أجمعوا عليه شئ من الغمة والخفاء الذي قد يوجب الوهن والتردد في التنفيذ.

قال آخر (1): ومثل ذلك قول هود عليه السلام لقومه بعد تكذيبهم له: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: 54 ـ 56]، ففي هذه الآية الكريمة يبادر هود عليه السلام في حواره مع قومه عندما وجده يدور في حلقة مفرغة، بإعلان موقفا يرسم الحد الفاصل بينه وبينهم، ويميز الحق من الباطل، كيلا يظنوا أن في مقاطعته للحوار لونا من ألوان الضعف، أو حالة من حالات التردد، أو نوعا من أنواع القناعة بما يقولون في الداخل مع إظهار الرفض له.

قال آخر (2): وقد بدأ ذلك بقوله: إني أشهد الله الذي يطلع على السرائر، فيعرف حقيقة موقفي وما أؤمن به، وما أرفضه، واشهدوا علي بإقراري الذي أعلنه أمامكم فيما أعتقده وأتحرك فيه من خط، أني بريء مما تشركون من دونه بعبادتكم لهذه الأصنام التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ فكيدوني جميعا إذا كنتم تملكون قوة الكيد لي والتآمر علي، بأنواع الضغوط المختلفة القاهرة، ثم لا تنظروني، ولا تمهلوني لحظة واحدة.

قال آخر (3): وتلك هي ذروة التحدي الرسالي الصادق القوي الذي يقف فيه النبي وحده أمام القوى الكافرة ليقول لهم: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾ [هود: 55]، فيتصاغرون أمامه ولا

__________

(1) من وحي القرآن (12/ 80)

(2) من وحي القرآن (12/ 80)

(3) من وحي القرآن (12/ 80)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/210)

يستطيعون مواجهة التحدي بمثله، مما يوحي بأن الإنسان الذي يستمد قوته من ربه ومن عناصر القوة في شخصيته، ثم يقف أمام الناس، ليثير أمامهم حقيقة ذلك بتصميم، يستطيع أن يهزم موقف الآخرين ويدخل الرعب فيهم.

قال آخر (1): وهذا ما أراد هود عليه السلام تأكيده أمام قومه من خلال موقفه: ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ﴾ [هود: 56]، فهو مصدر القوة في الحياة لأنه مصدر حياة كل حي، وهو المهيمن على كل شيء، فلا تستطيعون إضراري إذا لم يأذن الله بذلك، لأنكم لا تملكون القوة الذاتية، ولا يملكها أحد من خلقه.

قال آخر (2): ثم قال: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ [هود: 56] فيما يحمله الأخذ بالناصية ـ وهي أعلى الجبهة ـ من معنى كنائي، يفيد السيطرة على الأمر كله من جميع جوانبه.. وهذا ما يوحي بحماية الإنسان المتوكل على الله بوعي داخلي، من كل سوء، ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: 56] فيما تمثله عقيدة الإيمان من قاعدة، وفي ما تتحرك به شريعته من خط ونهج، للفكر وللسلوك معا، وكأنه يقول لهم: (إنني سأظل سائرا في هذا الخط المستقيم، ولن أنحرف عنه تحت تأثير أي ضغط أو تهديد، أو طمع أو شهوة، مما تحاولون إثارته أمامي بأساليبكم المتنوعة المليئة بالترغيب والترهيب، لأن ذلك هو معنى الإيمان بالله الذي يجعل الحياة، بكل آفاقها وساحاتها، تبدأ منه وتنتهي إليه)

قال آخر (3): ومثل ذلك قول إبراهيم عليه السلام لقومه بعد تكذيبهم وتهديدهم له: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ

__________

(1) من وحي القرآن (12/ 81)

(2) من وحي القرآن (12/ 81)

(3) تفسير المراغي (19/ 71)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/211)

يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: 75 ـ 82]، أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير كما تدعون، وتستطيع أن تضر وتنفع فلتخلص إلى بالمساءة فإنى عدو لها، لا أبالى بها ولا آبه بشأنها، ولكن رب العالمين هو ولى في الدنيا والآخرة، ولا يزال متفضلا على فيهما.

قال آخر (1): ثم وصف رب العالمين سبحانه بأوصاف استحق لأجلها أن يُعبد، ويتوكل عليه، فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 78] أي هو الخالق الذي خلقنى وصورنى فأحسن صورتى، وهو الذي يهدينى إلى كل ما يهمنى من أمور المعاش والمعاد هداية تتجدد على جهة الدوام والاستمرار.. ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ [الشعراء: 79] أي وهو رازقى بما يسر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء فأحيا به الأرض، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد، وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه ما خلق من الأنعام والأناسى.. ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80] أي وهو الذي ينعم على بالشفاء إذا حصل لى مرض، وأضاف المرض إلى نفسه وهو حادث بقدرة ربه أدبا منه مع ربه كما قالت الجن: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن: 10].. ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: 81] أي وهو الذي يحيينى ويميتنى ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو، فهو الذي يبدئ ويعيد، وقد يكون المراد بالإحياء البعث بعد الموت، ويؤيده عطفه بثم لا تساع الوقت بين الإماتة والإحياء.. ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: 82] أي وهو الذي لا يقدر على غفران الذنوب في الآخرة إلا هو كما قال: ﴿وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: 135]، وسمى إبراهيم عليه السلام ما صدر

__________

(1) تفسير المراغي (19/ 72)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/212)

منه من عمل ـ هو خلاف الأولى ـ خطيئة، استعظاما له.. أي إن جميع النعم التي يتمتع بها المرء من النشأة الأولى إلى آخر الدهر هي من الله وحده، ولا قدرة لأصنامكم على شئ منها.

قال آخر: ومثل ذلك ما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام، فقال: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: 88 ـ 89]

قال آخر (1): ففي هاتين الآيتين الكريمتين يذكر الله تعالى أن قوم شعيب عليه السلام لم يكتفوا بأن يعرضوا عن شعيب وعن دعوته، بل إنهم يجاوزون هذا إلى تهديده ووعيده بأن يخرجوه من بينهم، هو ومن آمن معه، إن لم يرجع عما هو فيه، وإن لم يعد إلى حاله الأولى قبل أن يطلع عليهم بتلك الدعوة التي يدعوهم إليها.. وينكر شعيب على هؤلاء السفهاء من قومه أن يدعوه إلى تلك الدعوة المنكرة.. لأنه يدعوهم إلى الحق والخير، وهم يدعونه إلى الضلال والهلاك، وشتان بين دعوته ودعوتهم.

قال آخر (2): وهو يذكر لهم أنه إذا لم تكن منهم استجابة له، فلا أقل من أن يدعوه وشأنه، وأن يدعوا الناس وما يختارون لأنفسهم من موقف إزاء دعوته ودعوتهم، وألا يحولوا بينه وبين من يستجيب له منهم، وألا يتسلطوا على الذين آمنوا معه، ويحملوهم على السير معهم في هذا الطريق الذي ارتضوه، وأبوا أن يتحولوا عنه.. وهذا ما يشير إليه قوله

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 430)

(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 431)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/213)

تعالى على لسان شعيب عليه السلام: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ [الأعراف: 88] أي أيكون هذا موقفكم منا، ووعيدكم لنا بالإخراج من القرية، إن كنا مصرين على موقفنا، متمسكين بعقيدتنا، كارهين لما تدعوننا إليه من العودة إلى ملتكم؟ إن الدين لا يكون عن إكراه، وإن العقيدة لا تقوم على التسلط والقهر.. فكيف تكرهوننا إكراها على دين لم نقبله، وعلى عقيدة لم نرضها؟ إنه لا إكراه في الدين، وإننا لن نكرهكم على ما ندعوكم إليه، فكيف تكرهوننا على ما تدعوننا إليه؟ ثم تهددوننا بالطرد من قريتنا إن لم نستجب لكم؟ ذلك ظلم مبين، وعدوان آثم.

قال آخر (1): وبعد أن تبرأ شعيب عليه السلام منهم ومن عقيدتهم، قال: ﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: 89].. والفتح هو الحكم، وتلك قضية بين شعيب وقومه، هو يدعوهم إلى الهدى، وهم يدعونه إلى الضلال، وهو يلقاهم بالحسنى، وهم يتهددونه بالبغي والعدوان، والله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم بين الفريقين، ويدين من هو أهل للإدانة، ويأخذه بما يستحق من عقاب.. وقول شعيب: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: 89] مع أن فتح الله أو حكمه لا يكون إلا بالحق، هو تقرير للواقع، وإشعار للخصوم بأنهم لا يؤخذون بغير الحق، وأنهم وشعيب على سواء بين يدى من يفصل بينه وبينهم فيما هم مختلفون فيه.

قال آخر (2): ومع هذا الموقف العادل الذي يقفه شعيب من قومه، وفي موقفه معهم في ساحة القضاء الذي يقول كلمة الحق بينه وبينهم؛ فإنهم لم يقبلوا هذا منه، ولم ينتظروا ما ينجلى عنه هذا الموقف، بل جعلوا إلى أنفسهم أمر القضاء في هذا الخلاف، وأعطوا لأنفسهم

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (5/ 432)

(2) التفسير القرآني للقرآن (5/ 432)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/214)

كلمة الفصل فيه، وأنهم هم وحدهم أصحاب الحق.. فأدانوا شعيبا، وحكموا عليه بالخروج من القرية هو ومن آمن معه، واستعجلوا إنفاذ هذا الحكم فيه وفيهم.

قال آخر (1): ومثل ذلك ما حكاه الله تعالى عن موسى عليه السلام، فقال: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [يونس: 84 ـ 86]، أي أن موسى عليه السلام اتجه إلى قومه الذين جاء لإنقاذهم وقد رآهم يخافون فرعون ويخشونه فقال لهم: إن كنتم آمنتم بالله حق الإيمان فلا تخشوا فرعون وطاغوته، بل توكلوا على الله وحده إن استمررتم على وضعكم وهو إسلام الوجه والإخلاص لله سبحانه.. وقد استجاب قوم موسى عليه السلام فتوكلوا على الله لا يرهبون فرعون وطاغوته.

قال آخر: ومثل ذلك قال الله تعالى يذكر موقفه عندما وقع بين البحر وجيش فرعون: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ [الشعراء: 59 ـ 66]

قال آخر (2): ففي هذه الآيات الكريمة يبرز المشهد الأخير من قصة موسى عليه السلام وفرعون، وهو كيفية هلاك فرعون وقومه، ونجاة بني إسرائيل وانتصارهم، فقد أرسل فرعون في المدائن حاشرين، وهيأ مقدارا كافيا من القوة والجيش، وتبعهم بنفسه، وتحركوا في جوف الليل ليدركوهم بسرعة، فبلغوهم صباحا.

__________

(1) زهرة التفاسير (7/ 3624)

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (11/ 383)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/215)

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى أنه لما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى: إنا لمدركون، فأمامنا بحر خضم متلاطم بالأمواج، ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها الكاملة.. هؤلاء الغاضبون علينا وهم الذين قتلوا أطفالنا الأبرياء سنين طوالا.. وفرعون نفسه رجل دموي جبار.. فعلى هذا سيحاصروننا بسرعة، ويقتلوننا جميعا بحد السيوف، أو سيأسروننا ويعذبوننا، والقرائن جميعها تدل على ذلك.. وهنا مرت لحظات عسيرة على بني إسرائيل.. لحظات مرة لايمكن وصف مرارتها.. ولعل جماعة منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم، إلا أن موسى عليه السلام كان مطمئنا هادئ البال، وكان يعرف أن وعد الله في هلاك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل لايتخلف أبدا ولن يخلف الله وعده رسله، لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكمال الإطمئنان والثقة وقال: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62]

قال آخر (1): ومثل ذلك ذكر الله تعالى بعض الصالحين من قوم موسى عليه السلام، فقال: ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، فالآية الكريمة تذكر أنه بعد أن قال موسى عليه السلام لقومه: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 21]، وكانت القافلة تسير إلى بيت المقدس، ولاحت لهم الأرض المقدسة من بعيد، رفض بنو إسرائيل ذلك العرض، وقالوا: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة: 22].. وكان هناك رجلان لا ثالث لهما من الذين يخافون الله، أنعم الله عليهما بنعمة الإيمان، وقفا

__________

(1) من وحي القرآن (8/ 115)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/216)

في مواجهة هذا الجمع المهزوم ليقولا له: إننا نملك القوة التي تستطيع أن تحكم الفكر والناس والحياة، وكل هذه الأمور من وسائل القوة الغالبة، فلندخل الباب عليهم ولنهاجمهم في عقر دارهم، ليكونوا في موقع الضعف، ونكون في موقع القوة، فإن القوم طلاب ملك ونحن جنود رسالة، وستتغلب الرسالة على الملك إذا أخذت بأسباب القوة المادية، مضافا إلى ما تملكه من القوة الروحية.

قال آخر (1): لكن هذه الكلمات ضاعت في هدير الهزيمة وضجيج التخاذل، وانطلق الصوت المهزوم يتكلم بلغة الهزيمة التي تحاول أن تعطي الكلمات صفة القرار الحاسم: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا﴾ [المائدة: 24] تلك هي الكلمة الأخيرة التي لا تقبل نقاشا، وامتد الصوت ليعلن الانفصال عن موسى عليه السلام، فهم غير ملزمين بطاعته في القتال، لأنهم يحبون الحياة أكثر مما يحبون المقدسات.. ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]

قال آخر (2): وشعر موسى عليه السلام بالحرج، فلم يعد لديه أية سلطة أو قوة يمكن أن يمارسها على هؤلاء الناس، وكان يريد أن يعذر إلى الله ليخرج من حدود المسؤولية، على رضى من الله ومحبة، فتوجه إلى الله ليعلن إليه ما يعمله الله من ظروفه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي﴾ [المائدة: 25]، ولا أملك أحدا من هؤلاء فيما يملكه القائد من أمر جنوده، ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة: 25]، الذين خرجوا عن طاعتك وتمردوا على رسولك.

قال آخر (3): وقد جاءتهم العقوبة التي يستحقها الخائفون المهزومون الذين رفضوا

__________

(1) من وحي القرآن (8/ 116)

(2) من وحي القرآن (8/ 116)

(3) من وحي القرآن (8/ 117)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/217)

الهدى، فلا يستأهلون النصر إذا لم يعملوا له، فكتب الله عليهم أن يظلوا في التيه أربعين سنة، ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ [المائدة: 26] فلا يملكون دخول الأرض المقدسة، لأنهم هم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك، وسيتحملون متاعب الضياع وأهواله، وسيعيشون آلام الاهتزاز ومشاكله. وذلك هو مصيرهم الذي استحقوه نتيجة فسقهم العملي، فلا تتألم ـ يا موسى ـ من موقع الرحمة في قلبك، فإن هؤلاء لا يستحقون الرحمة، ﴿فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة: 26]

قال آخر: ومثل ذلك ذكر الله تعالى قول مؤمن آل فرعون: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر: 44]، وقد ذكر الله تعالى عاقبة ذلك التفويض، فقال: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 45]

قال آخر: ومثل ذلك أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذين معه عند معاينتهم للأحزاب الذين تجمعوا لحربهم، حيث قال: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيْماناً وَتَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: 22]

قال آخر: ومثل ذلك ذكر موقفهم من تلك التهديدات التي كانت توجه لهم كل حين، فقال: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران]

قال آخر: ولم يقتصر الأمر في القرآن الكريم على الثناء على المتوكلين، وإنما ورد الأمر به، باعتباره شعيرة من الشعائر التعبدية الباطنية التي لا تختلف في وجوبها عن الشعائر التعبدية الظاهرية، كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]

القرآن.. والهداية الشاملة (2/218)

قال آخر (1): أي فإذا عقدت القلب على فعل شئ وإمضائه بعد المشاورة ومبادلة الرأى فيه، فتوكل على الله، وفوض الأمر إليه بعد أخذ الأهبة واستكمال العدة، ومراعاة الأسباب التي جعلها الله وسيلة للوصول إلى المسببات.. ولا تتكل على ما أوتيت من حول وقوة، ولا على إحكام الرأى وأخذ العدة، فذلك كله ليس بكاف في النجاح ما لم تقرن به معونة الله وتوفيقه، لأن الموانع الخارجية والعوائق التي تحول دون الوصول إلى البغية، لا يحيط بها إلا علام الغيوب، فلا بد من الاتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته.

قال آخر (2): وفي الآية إيماء إلى وجوب إمضاء العزيمة متى استكملت شروطها التي من أهمها المشورة.. وسر هذا أن نقض العزائم خور في النفس، وضعف في الأخلاق يجعل صاحبه غير موثوق به في قول ولا فعل، ولا سيما إذا كان رئيس حكومة، أو قائد جيش، ومن ثم لم يصغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مشورة من رجع عن رأيه الأول وهو الخروج إلى أحد حين لبس لامته وخرج، إذ رأى أن هذا شروع في العمل بعد أن أخذت الشورى حقها.. وبذلك علمهم أن لكل عمل ميقاتا محدودا، وأن وقت المشورة متى انتهى جاء طور العمل، وأن الرئيس إذا شرع في العمل تنفيذا للشورى لا يجوز أن ينقض عزيمته، ويبطل عمله.

قال آخر: ومثلها تلك الآيات الكريمة التي تدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اللجوء إلى الله في كل حين؛ فالمراد منها جميع الأمة، لا شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 51]

قال آخر (3): أي أن الله تعالى قدر للحياة أوضاعها، من خلال ما أودعه من أسباب ذلك كله، وجعل النتائج السلبية والإيجابية محكومة لذلك.. ولذلك فإن المسألة لا تخضع

__________

(1) تفسير المراغي (4/ 115)

(2) تفسير المراغي (4/ 115)

(3) من وحي القرآن (11/ 133)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/219)

لتمنيات الأصدقاء أو لشماتة الأعداء، فلا يملك أحد من أمر ذلك شيئا، لأنهم لا يملكون لأنفسهم وللآخرين ضرا ولا نفعا إلا بالله.. أما المؤمنون به، الواثقون برحمته وقدرته وحكمته، فإنهم يواجهون الحياة من موقع الطمأنينة الواثقة به وبسننه الكونية التي أجرى عليها حركة الكون في تقديره وتدبيره، ولهذا فإنهم ينطلقون من قاعدة الثقة الواعية، في دراسة دورهم الفاعل فيما يفعلون ويتركون، فإذا قاموا بما يجب عليهم من مسئوليات من خلال قدرتهم، واجهوا المستقبل بثقة، وتحملوا كل نتائجه بصبر، وانطلقوا مع حركته بوعي وإيمان لثقتهم بتدبير الله فيما لا يملكون أمره ولا يبلغون مداه، فيتقبلون كل شيء لله وبالله ومع الله، في كل شيء.

قال آخر (1): ولذلك قالوا: ﴿هُوَ مَوْلَانَا﴾ [التوبة: 51] الذي يملك ولاية أمورنا، فعلينا أن نطيعه فيما يأمر به وينهى عنه، ونستسلم لتدبيره فيما يهيمن عليه من شؤون الحياة بما تفرضه حكمته ورحمته، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 51] ليسلموا له كل شيء في حركة المستقبل المجهول الذي قد يوحي إليهم بالخوف فيما يجهلون من أسراره، ولكن الإيمان يحمل إليهم الطمأنينة من خلال ما يوحيه الإيمان بالله والثقة به.

قال آخر (2): وذلك هو سر العقيدة الإسلامية بالقضاء والقدر في استسلام المؤمن لقضاء الله وقدره من موقع الوعي للعقيدة بالله، فليس هو استسلام الإنسان المهزوم بإرادته، الخائف من مسئوليته، بل هو استسلام الثقة بالله فيما يجهله، بعد انطلاقه من مواقع الإرادة المسؤولة التي تحرك الحياة من حوله فيما يمكنه أن يعمل، ليترك الأشياء الأخرى التي لا يستطيع عملها لله، على أساس الثقة المطلقة بحكمته في كل شيء، وبذلك فإن

__________

(1) من وحي القرآن (11/ 133)

(2) من وحي القرآن (11/ 133)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/220)

العقيدة تثبت له أقدامه على الأرض التي يحاول القلق الذاتي والخوف الوجداني من المجهول، أن يهزها من تحت أقدامه، وتوحي له بالثبات والاستقرار والاطمئنان.

قال آخر (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129]، أي فإن تولوا وأعرضوا عن الإيمان بك والاهتداء بما جئتهم به، فقل حسبى الله فإنه يعينك عليهم ويكفيك أمر توليهم وما يتبعه من عداوتهم وصدهم عن سبيله، وقد بلغت وما قصرت.. لا إله إلا هو، ولا معبود سواه ألجأ إليه بالدعاء والإعانة، وهو الكافي والمعين.. عليه توكلت، فلا أكل أمرى فيما أعجز عنه إلى غيره.

قال آخر (2): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3]، أي ومن يكل أمره إلى الله ويفوض إليه الخلاص منه، كفاه ما أهمه في دنياه ودينه، والمراد بذلك أن العبد يأخذ في الأسباب التي جعلها الله من سننه في هذه الحياة، ويؤديها على أمثل الطرق، ثم يكل أمره إلى الله فيما لا يعلمه من أسباب لا يستطيع الوصول إلى علمها، وليس المراد أن يلقى الأمور على عواهنها، ويترك السعى والعمل ويفوض الأمر إلى الله.

الشكر

بعد سماعي لهذه الأحاديث من أهل مقام التوكل، طلب مني مرافقي ومن معه لأن نسير إلى مقام آخر.. فسرنا مسافة قصيرة، حيث وجدنا روضة كتب على بابها [مدرسة الشكر]، وقد رأينا شيخها يقول لتلاميذه: لاشك أنكم تعلمون أن الشكر من المنازل

__________

(1) تفسير المراغي (11/ 55)

(2) تفسير المراغي (28/ 141)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/221)

الضرورية للنفس المطمئنة، ذلك أنه لا تكتمل طمأنينتها، ولا سلامها، ولا ترقيها في مراقي السلوك من دون تحققها بمراتبها، ولو الدنيا منها.. بل إن رحلة السالكين إلى الله كلها رحلة مرتبطة بالحمد والشكر.. فبالحمد يتعرفون على كمالات الله التي لا حدود لها.. وبالشكر يتحققون بالقيم التي ترتبط بتلك الكمالات.. وإن شئتم مثالا يقرب لكم هذا، فانظروا إلى أنفسكم، وكيفية تعاملكم مع من يشكر فضلكم القليل، أو إحسانكم الجزيل، وكيف تزيدوه من فضلكم، لأنكم من خلال شكره لكم عرفتم أهليته لفضلكم وإحسانكم.. بينما تعاملون من جحد معروفكم بقطع فضلكم عنه، لعلمكم بعدم استحقاقه أو قابليته له.

قال أحدهم (1): أجل.. ولذلك وعد الله تعالى الشاكرين بالمزيد، فقال: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، لأن الله تعالى هو الكريم المعطاء الذي يجزي القليل بالكثير، واليسير بالعظيم، ويضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2 ـ 3]، وقال: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ [الجن: 16]، وقال: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96]

قال آخر (2): ولهذا يذكر الله تعالى أن الاختبار الأكبر للعباد مرتبط بشكرهم وجحودهم، كما قال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147]، فالاستفهام للإنكار.. أي إنه تعالى لا يعذب أحدا من خلقه انتقاما منه، ولا طلبا لنفع ولا دفعا لضر، لأنه تعالى غنى عن كل أحد، منزه عن جلب منفعة له، وعن

__________

(1) التفسير المنير (5/ 332)

(2) تفسير المراغي (5/ 191)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/222)

دفع مضرة عنه، بل ذلك جزاء كفرهم بأنعم الله عليهم، فهو قد أنعم عليهم بالعقل والحواس والجوارح والوجدان، لكنهم استعملوها في غير ما خلقت لأجله من الاهتداء بها لتكميل نفوسهم بالفضائل والعلوم والمعارف، كما كفروا بخالق هذه القوى فاتخذوا له شركاء، ولا ينفعهم تسميتهم شفعاء أو وسطاء، حتى فسدت فطرتهم، ودنست أرواحهم، ولو آمنوا وشكروا لطهرت أرواحهم، وظهرت آثار ذلك في عقولهم وسائر أعمالهم التي تصلحهم في معاشهم ومعادهم، واستحقوا بذلك رضوان الله، ﴿وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147] أي يجعل ثواب المؤمنين الشاكرين بحسب علمه بأحوالهم، ونيلهم من الدرجات أكثر مما يستحقون، جزاء على شكرهم وإيمانهم.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152]، ذلك أن أعلى درجات الذكر شكر الله تعالى.. وشكر العبد لله تعالى هو الثناء عليه، وأن تكون نعمه لما خلقت له من طاعة.. فشكر نعمة السمع ألا يسمع زور القول ولا ينفذه، وشكر نعمة اللسان ألا ينطق إلا بالحق، وشكر نعمة اليد ألا يبطش إلا لتحقيق العدل، وألا يعمل إلا ما هو حق وألا يعتدى على حق غيره، وألا يؤذي، وأن يحمي الضعيف وينصر المظلوم، ويغيث المستغيث، ويدفع الكوارث عن المؤمنين، وأن يفك العاني، وشكر نعمة الرجل ألا يسعى إلا في خير، وألا يسعى في ظلم، وأن يذكر دائما أن من سعى مع ظالم فقد ظلم.. وإذا كان الله تعالى قد أمر بالشكر، وهو الطاعات، فقد نهى عن الكفر، ومن معانيه عدم ذكره، وعدم معرفة حقيقة نعمه، وهو مقابل للشكر لأن حقيقة الشكر ابتداء هي القيام بالطاعات كلها، وهو مع ذكر الله تعالى الإحساس بأنه كله لله تعالى.

__________

(1) زهرة التفاسير (1/ 465)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/223)

قال آخر (1): ولهذا يصف الله عباده الصالحين بكونهم من الشاكرين، كما قال عن سليمان عليه السلام: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل:]، أي أن سليمان عليه السلام قال لأعوانه: من منكم في مكنته أن يأتينى بسرير ملكة سبأ قبل قدومها علينا، لنطلعها على بعض ما أنعم الله به علينا من العجائب النبوية، والآيات الإلهية، لتعرف صدق نبوتنا، ولتعلم أن ملكها في جانب عجائب الله وبدائع قدرته يسير.

قال آخر (2): وحينئذ تقدم إليه بعض جنده بمقترحات، حيث قال جني قوى أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس قضائك، وكان إلى منتصف النهار، ثم زاد الأمر توكيدا، فقال: وإنى على الإتيان به لقادر لا أعجز عنه، وإنى لأمين لا أمسه بسوء، ولا أقتطع منه شيئا لنفسى، حينئذ قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا أفعل ما لا تستطيع أنت، أنا أحضره في أقصر ما يكون مدة، أنا أحضره قبل ارتداد طرفك إليك، وقد كان كما قال.. فلما رآه سليمان عليه السلام ساكنا ثابتا على حاله لم يتبدل منه شئ ولم يتغير وضعه الذي كان عليه قال: هذا تفضل من الله ومنة ليختبرنى: أأشكر بأن أراه فضلا منه بلا قوة منى أم أجحد.. فالنعم الجسمية والروحية والعقلية كلها مواهب يمتحن الله بها عباده، فمن ضل بها هوى، ومن شكرها ارتقى.

قال آخر (3): وهذا ما عناه سبحانه بقوله: ﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40] أي ومن شكر ففائدة الشكر إليه، لأنه يجلب دوام النعمة،

__________

(1) تفسير المراغي (19/ 140)

(2) تفسير المراغي (19/ 141)

(3) تفسير المراغي (19/ 141)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/224)

ومن جحد ولم يشكر فإن الله غنى عن العباد وعبادتهم، كريم بالإنعام عليهم وإن لم يعبدوه، كما قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ [الجاثية: 15]، وقال: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: 8]

قال آخر: ومثل ذلك ذكر الله تعالى النعم التي سخرها لسليمان عليه السلام وذكر أنها هدية له ولآل داود عليه السلام بسبب شكرهم لله، كما قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 12 ـ 13]

قال آخر (1): وقد وردت هاتين الآيتين الكريمتين بعد أن ذكر سبحانه ما من به على داود عليه السلام من النبوة والملك، ومن النعم التي عددها الله تعالى فيهما على سليمان عليه السلام تسخير الريح تجري بالغداة إلى منتصف النهار مسيرة شهر، وتجري بالرواح من منتصف النهار إلى الليل مسيرة شهر.. وإذابة النحاس له، حيث كان يعمل منه أعماله وهو بارد دون حاجة إلى نار.. وسخر الله له من الجن من يبنى له الأبنية وغيرها بقدرة ربه وتسخيره، ومن يخرج منهم عن طاعته يذقه عذابا أليما في الدنيا.. وقد كانوا يعملون له ما يشاء من القصور الشامخة، والصور المختلفة، من النحاس والزجاج والرخام ونحوها، والجفان الكبيرة التي تكفى لعشرات الناس.

قال آخر (2): ثم عقب الله تعالى على هذه النعم العظيمة بقوله ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ [سبأ: 13]، أي اعملوا عملا، تقدمونه شكرا لله، بما أسبغ عليكم من نعم، وما أضفى

__________

(1) تفسير المراغي (22/ 66)

(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 790)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/225)

عليكم من إحسان.. فالشكر المطلوب هنا من آل داود، هو شكر بالعمل، بعد شكرهم باللسان.. وهذا ما يشير إلى أن هذه الجفان التي كالجواب، وتلك القدور الراسيات كالجبال، إنما كانت لإطعام الفقراء والمساكين، وأن قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ [سبأ: 13] هو حث لهم على الاستزادة من هذا الإحسان، الذي قبله الله منهم، ورضيه لهم.

قال آخر (1): وقوله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13] تحريض لآل داود على أن يستزيدوا من شكر الله بهذا الذي يعملونه، وأنه إذا كان في الناس كثير من الشاكرين لله، فإن قليلا منهم من يستحق وصف الشكور.. فتلك منزلة عالية في مقام الإحسان، وآل داود أولى بهم أن يبلغوها، ويصبحوا من أهلها.

قال آخر (2): ومثل ذلك اعتبر لوطا عليه السلام من الشاكرين، ولذلك استحق إنجاء الله له، فقال: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ [القمر: 33 – 35]، أي هذا حال قوم لوط‍الذين كذبوا رسولهم وخالفوه، وكذبوا بالآيات التي أنذرهم بها، واقترفوا الفاحشة.. إنا أرسلنا عليهم ريحا ترميهم بالحصباء، وهي الحصى والحجارة، فأهلكتهم ودمرتهم إلا لوطا عليه السلام ومن آمن به واتبعه، فإنا أنجيناهم من الهلاك في آخر الليل أو في قطعة من الليل وهو السدس الأخير، نجوا مما أصاب قومهم.. وكان سبب نجاتهم شكرانهم النعمة، كما قال تعالى: ﴿نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ [القمر: 35] أي لقد أنجيناهم إنعاما منا عليهم، وتكريما لهم، ومثل ذلك الجزاء الحسن، نجزي من شكر نعمتنا ولم يكفرها، بأن آمن وأطاع أمرنا، واجتنب نهينا.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 790)

(2) التفسير المنير (27/ 172)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/226)

قال آخر (1): ومثل ذلك ذكر الله تعالى شكر يوسف عليه السلام لله، حيث قال وهو في السجن يشكر الله على نعمة الإيمان: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [يوسف: 38]، أي اتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، الذين حملوا رسالة التوحيد لله إيمانا ودعوة ومنهج حياة، فيما يحمله فريق الإيمان في عقله وقلبه، من رسالة وإيمان ودعوة ورفض للشرك.. ﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [يوسف: 38] لأن الذي يكتشف روح التوحيد، لا يمكن أن يلتقي بخط الشرك في العقيدة والعبادة، ﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ﴾ [يوسف: 38] بما أعده لهم من سبل الهداية والصلاح من خلال الوحي الذي خص به رسله ليبلغوه للناس، فيهتدون به، مما يلزمهم بالشكر له، والشعور بالجميل الذي يطوقهم به، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61]، حيث يشركون به، في عبادتهم لغيره دون حجة لهم في ذلك، ولا دليل لهم عليه.

قال آخر (2): ومثل ذلك ذكر الله تعالى شكر إبراهيم عليه السلام لله، فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: 120، 121]، فالآيتين الكريمتين تصفان إبراهيم عليه السلام بكونه أمة، أي أنه كان قائما مقام جماعة في عبادة الله، أو أنه كان الإمام المقتدى به، أو أنه كان أمة منحصرة في واحد مدة من الزمان لم يكن على الأرض موحد يوحد الله غيره.. حيث نلتقي بشخصية إبراهيم عليه السلام التي تتجمع فيها خصائص الإنسان الذي تعيش شخصية الأمة فيه وتمتد منه في حركة رسالته، وتلتقي في أجوائه الروحية، روحية الجماعة في صورة الفرد..

__________

(1) من وحي القرآن (12/ 208)

(2) من وحي القرآن (13/ 319)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/227)

وربما كان السر في ذلك، أن الرساليين، ولا سيما الأنبياء منهم، لا ينطلقون من حالة ذاتية، تتحول معها الذات إلى دائرة مغلقة تحجبهم عن الآخرين، وتخنق في داخلهم روح الامتداد، بل ينطلقون من الروح الرسالية التي تمتد في شخصيتهم، لتحوي الأمة بأسرها في حركة الرسالة، فيسقط الحاجز بين روح الفرد وروح الجماعة.

قال آخر: ثم وصفه الله تعالى بكونه كان ﴿قَانِتًا لِلَّهِ﴾ [النحل: 120] أي يعيش الطاعة لله، والعبادة له كطبيعة ذاتية تملك الدوام والاستمرار ﴿حَنِيفًا﴾ [النحل: 120] أي مائلا عن خط التطرف إلى دائرة الاعتدال في الإخلاص للخط المستقيم الذي يمثله التوحيد، ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120]، بل عاش التوحيد في روحه وفكره ووجدانه، كأفضل ما يكون التوحيد، وأي توحيد أصفى وأنقى من الإسلام لله في كل شيء، حتى إذا خير بين أن يطيع الله في ذبح ولده وبين أن يستسلم لعاطفته في الامتناع عن ذلك، اختار الاستسلام لله على الاستسلام لعاطفته ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾ [النحل: 121] في إخلاصه لله في عبوديته، فيما يمثله ذلك من سمو الشكر وعلو شأنه، ﴿اجْتَبَاهُ﴾ [النحل: 121] أي اختاره واصطفاه لرسالته، لأنه يمثل الشخص الذي تتحرك الرسالة في حياته الداخلية كجزء من ذاته ﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: 121] لما منحه من وضوح الرؤية لما حوله، ولما أوحى به إليه من رسالته التي تحدد له الطريق وتخطط له خط السير.

قال آخر (1): ولهذا يدعو الله تعالى المؤمنين إلى التأسي بهؤلاء الصالحين، ويدعو إلى شكر الله على كل النعم، وخاصة نعمة الهداية، كما قال تعالى عقب الآيات التي تتحدث عن الصوم: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185]، أي

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 202)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/228)

لتؤدوا عبادة الصوم، وتكملوا عدتها، ولتكبروا الله وتشكروه على أن هداكم ووفق لأداء هذه الفريضة، وتعرضكم لما أعد الله من ثواب عليها.

قال آخر: بل يخبر الله تعالى أن كل دعوات الأنبياء عليهم السلام كانت دعوة لشكر الله تعالى، كما قال تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 5 – 7]

قال آخر (1): أي كما أرسلناك أيها الرسول وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، أرسلنا موسى إلى بنى إسرائيل وأيدناه بالآيات، وأمرناه بأن يدعوهم إلى الإيمان بالله وتوحيده ليخرجوا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان.. وأمرناه بأن يعظهم مرغبا لهم بتذكيرهم بنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل في الأمم السابقة، ليكون في ذلك حافز لهم على العمل ويكون لهم بمن سلف أسوة، ومخوفا موعدا بتذكيرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل من الأمم الغابرة كعاد وثمود، ليكون لهم في ذلك مزدجر وليحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بغيرهم.. وأيام الله في جانب موسى عليه السلام منها ما كان محنة وبلاء، وهي الأيام التي كان فيها بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده، ومنها ما كانت نعمة كإنجائهم من عدوهم وفلق البحر لهم وإنزاله المن والسلوى عليهم.

__________

(1) تفسير المراغي (13/ 128)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/229)

قال آخر (1): ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [الشورى: 33] أي إن في ذلك التنبيه والتذكير لدلائل على وحدانية الله وقدرته لكل صبار في المحنة والبلية، شكور في المنحة والعطية.. وفي هذا إيماء إلى أن الإنسان في هذه الحياة يجب أن يكون بين صبر وشكر أبدا، لأنه إما في مكروه يصبر عليه وإما في محبوب يشكر عليه، والوقت في هذه الحياة ذهب، فمتى ضاع من حياتنا زمن دون عمل نسدى فيه خدمة لأنفسنا ولديننا فقد كفرنا النعمة، وأضعنا الفرصة، ولم نعتبر بما حل بمن قبلنا من الأمم الغابرة.

قال آخر (2): ولما سمع موسى عليه السلام أمر ربه امتثله وأخذ يذكر قومه بأيام الله كما حكى الله عنه فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ [إبراهيم: 6]، أي واذكر لقومك حين قول موسى لقومه: يا قوم تذكروا إنعام الله عليكم إذ أنجاكم من فرعون وآله، حين كانوا يذيقونكم العذاب ويكلفونكم من الأعمال ما لا يطاق مع القهر والإذلال، ويذبحون أبناءكم ويبقون نساءكم على قيد الحياة ذليلات مستضعفات، وهذا رز من أشد الأرزاء، وأعظم ألوان البلاء، وفي ذلك التذكير عبرة لهم لو يعتبرون، لما فيه من نقمة التعذيب والإذلال وقتل الأولاد واستحياء البنات، ثم نعمة الإنجاء من كل ذلك العسف والقهر، فالابتلاء كما يكون بالنقمة يكون بالنعمة كما قال تعالى: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: 168] وقال: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: 35]

قال آخر (3): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ

__________

(1) تفسير المراغي (13/ 129)

(2) تفسير المراغي (13/ 129)

(3) التفسير القرآني للقرآن (12/ 1189)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/230)

أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: 65، 66]، ففي الجمع بين العبادة والشكر، إشارة إلى أن هذه العبادة ليست عبادة قهر وقسر، بل هي عبادة حمد وشكر، وولاء، وحب لله سبحانه وتعالى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى عن لقمان عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان: 12]، أي لقد آتينا لقمان الحكمة في فكره وحديثه وحركته في الحياة، وذلك من خلال ما حرك به بصره نحو كل الأشياء التي تحيط به، وتبدو له، وما أصغى إليه بسمعه من كل ما يتحدث به الآخرون، وما حرك به عقله في إدارة ذلك كله، في مواقع التأمل والمقارنة والمحاكمة والاستنتاج، ليعرف مصادر الأمور ومواردها وبدايات القضايا ونهاياتها، وكيف تنفصل الأشياء وكيف تتصل، وهكذا كان يواجه الحياة، ويتحرك فيها مع الآخرين، ليكون الإنسان الذي ينتج الفكرة من خلال حركة عقله وتجربته، ثم يجلس مع الناس ليفتح عقولهم عليها، وليوجه مشاعرهم إليها..

قال آخر (2): والآية الكريمة تشير إلى أن لقمان عليه السلام اكتشف الشكر لله، كقيمة روحية من أسمى القيم، ليقدمها لكل من يعي ويسمع ويتحرك في الاتجاه السليم، ولذلك قال: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ [لقمان: 12]، فهو وحده الذي يستحق الشكر من خلال وحدانيته في إغداق النعمة على الإنسان الذي لا مصدر لديه لأية نعمة من النعم التي تحتويها حياته إلا الله، وليس دور القوى الأخرى المتنوعة الموجودة في الكون، إلا دور الأدوات والأسباب

__________

(1) من وحي القرآن (18/ 187)

(2) من وحي القرآن (18/ 188)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/231)

المباشرة، التي تستمد سببيتها من مسبب الأسباب، وهو الله.. ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ [لقمان: 12] من دون أن يكون لله نفع في هذا الشكر أو حاجة إليه، لاستغنائه عن كل خلقه في كل شيء، وليس لأحد منهم أن يضيف إلى ملكه شيئا، لأنه لا يملك إلا ما ملكه الله، ولا يتحرك بشيء إلا من خلال قدرته.

قال آخر (1): ورجوع الشكر لنفس الشاكر، يرجع لأن الشكر يمثل حركة الإنسانية في داخل الذات في انفعالها بالنعم الإلهية، مما يجعلها تنفتح على الله في وعيها الروحي لإحسانه وفضله ورحمته، وفي ارتفاعها في مدارج السمو لتصل إلى الموقع الأسمى الذي تصعد من خلاله إلى الوقوف بين يديه في صفاء الشعور، وابتهال الكلمة، وعبودية الذات، وخشوع الموقف، مما يحقق الصلة بالله أكثر، ويثير الشعور بالسعادة الروحية بشكل أعمق، ويدفع بالمعرفة بالله في الفكر والحس والوجدان، إلى مجال أوسع.

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك، فإن الشاكر لله ينال الزيادة في نعم الله عليه في الدنيا فيما وعد الله به عباده من ذلك، كما قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7] كما ينال الثواب والرحمة واللطف من ربه في الآخرة.. ولذلك اعتبر الله تعالى من كفر، فلم يشكر النعمة بل جحدها وأهملها وتمرد على كل إيحاءاتها، أنه لن يضر الله شيئا، لأن الله هو الغني عن كل عباده، وهو الحميد بكل صفات الجلال والجمال في ذاته.

قال آخر: ولهذا يرد في القرآن الكريم تذكير العباد بنعم الله عليهم ليشكروا الله عليها، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في تعداد النعم المرتبطة بالبحار: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا

__________

(1) من وحي القرآن (18/ 189)

(2) من وحي القرآن (18/ 189)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/232)

مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 14]، وقوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [فاطر: 12]، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [لقمان: 31]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في تعداد النعم المرتبطة بخلق الإنسان: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78]، وقوله: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الملك: 23]، وقوله: ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة: 6 – 9]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى في تعداد النعم المرتبطة بالرزق وغيره: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [النحل: 114]، وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: 62]، وقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾ [الواقعة: 68 – 70]، وقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الروم: 46]، وقوله: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 17]

القرآن.. والهداية الشاملة (2/233)

قال آخر (1): وقد ذكر الله تعالى نموذجا للشاكرين الصالحين، فقال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: 15]، أي أمرنا الإنسان بالإحسان إلى والديه والحنو عليهما، والبر بهما في حياتهما وبعد مماتهما، وجعلنا البر بهما من أفضل الأعمال، وعقوقهما من الكبائر، ثم ذكر سبب التوصية وخص الكلام بالأم لأنها أضعف وأولى بالرعاية، وفضلها أعظم، فقال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: 15] أي إنها قاست في حمله مشقة وتعبا من وحم وغثيان وثقل إلى نحو أولئك مما ينال الحوامل، وقاست في وضعه مشقة من تعب الطلق وألم الوضع، وكل هذا يستدعى البر بها واستحقاقها للكرامة وجميل الصحبة، ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: 15] أي ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا تكابد الأم فيها الآلام الجسمية والنفسية، فتسير الليالى ذوات العدد إذا مرض، وتقوم بغذائه وتنظيفه وكل شئونه بلا ضجر ولا ملل، وتحزن إذا اعتل جسمه أو ناله مكروه يؤثر في نموه وحسن صحته.

قال آخر (2): ثم ذكر الله تعالى شكر الصالحين لله، فقال: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ [الأحقاف: 15] أي حتى إذا اكتهل واستوفى السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وهي فيما بين الثلاثين والأربعين.. ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: 15] وهذا نهاية استحصاد العقل واستكماله، ﴿قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ [الأحقاف:

__________

(1) تفسير المراغي (26/ 17)

(2) تفسير المراغي (26/ 19)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/234)

15] أي رب وفقني لشكر نعمك التي غمرتنى بها في دينى ودنياى، بما أتمتع به من سعة في العيش، وصحة في الجسم، وأمن ودعة، للإخلاص لك، واتباع أوامرك، وترك نواهيك، وأنعمت بها على والدى من تحننهما على حين ربيانى صغيرا.. ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ [الأحقاف: 15] أي واجعل عملى وفق رضاك لأنال مثوبتك.. ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ [الأحقاف: 15] أي واجعل الصلاح ساريا في ذريتى، متمكنا من نفوسهم، راسخا في قلوبهم.. ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: 15] أي إني تبت إليك من ذنوبى التي فرطت منى في أيامى الخوالى، وإنى من الخاضعين لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.

قال آخر (1): ثم ذكر جزاء أصحاب هذه الأوصاف الجليلة فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ﴾ [الأحقاف: 16] أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من صالح الأعمال، فيجازيهم به، ويثيبهم عليه، ويصفح عن سيئات أعمالهم التي فرطت منهم في الدنيا لماما ولم تكن عادة لهم، بل جاءت بحافز من القوة الشهوانية، أو القوة الغضبية، فلا يعاقبهم عليها، وهم منتظمون في سلك أصحاب الجنة، داخلون في عدادهم.. ثم أكد الوعد السابق بقوله: ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ [الأحقاف: 16] أي وعدهم الله الوعد الحق الذي لا شك فيه، وأنه موف به.

المحبة

بعد سماعي لهذه الأحاديث من أهل مقام الشكر، طلب مني مرافقي ومن معه لأن

__________

(1) تفسير المراغي (26/ 20)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/235)

نسير إلى مقام آخر.. فسرنا مسافة قصيرة، حيث وجدنا روضة كتب على بابها [مدرسة المحبة]، وقد رأينا شيخها يقول لتلاميذه: لاشك أنكم تعرفون أن محبة الله هي أشرف المراتب، وأعلاها، وهي أم لكل المكارم، ومن تحلى بها، تحقق بالسعادة التي لا شقاوة بعدها، وبالفرح الذي لا حزن بعده، وبالرضا الذي لا يكتنفه سخط، وبالأنس الذي لا تعتريه وحشة.

قال أحدهم (1): أجل.. ولهذا وصف الله تعالى بها المؤمنين الصادقين، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54]، أي يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسيلقى مالقى المنافقون الذين ارتدوا، من نكال وبلاء وسوء مصير، ثم إنه لن يضر الله شيئا، ولن يضير المسلمين في شئ، لأنه سيخلى مكانه، الذي كان له في الإسلام، ليأخذه من هو أولى به منه، وأكرم عند الله، وأكثر نفعا للمسلمين، وأعظم غناء في الإسلام.

قال آخر (2): وأول الصفات التي اتصف بها هؤلاء القوم حب الله لهم، ولذلك شرح صدورهم للإسلام، وثبت أقدامهم فيه.. لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أحبهم، وهو الذي اختارهم ودعاهم.. وهذا فضل عظيم، ودرجة من الرضا، لا ينالها إلا من أكرمه الله، واستضافه، وخلع عليه حلل السعادة والرضوان.. أما حبهم هم لله، فهو في استجابة دعوته، وامتثال أمره، والولاء له، ولرسوله وللمؤمنين.. وامتلاء قلوبهم بالمشاعر الصادقة نحوه نتيجة لكل ذلك.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1120)

(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1120)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/236)

قال آخر (1): والصفة الثانية لهؤلاء المحبين الصادقين هي كونهم ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54]، أي متخاضعين للمؤمنين، لا يلقونهم إلا باللين والتواضع.. أعزة على الكافرين، أي أشداء وأقوياء، لا يلقى منهم أهل الكفر إلا بلاء في القتال، واستبسالا في الحرب.. أما في السلم فهم جبال راسخة في الإيمان.. لا ينال أحد منهم نيلا في دينه، ولا يطمع أحد من أعداء الإسلام في موالاتهم أو في تعاطفهم معه.

قال آخر (2): والصفة الثالثة لهؤلاء المحبين الصادقين هي كونهم ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [المائدة: 54]، أي أن هؤلاء المحبين يدفعون عن الإسلام والمسلمين يد البغي والعدوان، ويعطون ولاءهم كله لدينهم الذي دعاهم الله إليه، وارتضاهم له.. ولا يضنون عليه بأموالهم ولا بأرواحهم.

قال آخر (3): والصفة الرابعة لهؤلاء المحبين الصادقين هي كونهم ﴿وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ [المائدة: 54]، أي أنهم في إيمانهم، وفي جهادهم في سبيل الله، لا ينظرون إلى غير الله، ولا يلتفتون إلا إلى نصرة دين الله، لا يثنيهم عن ذلك لوم لائم، من قريب أو صديق، ممن بقي على الكفر من أقاربهم وأصدقائهم.. فقد باعوا كل شئ، وتخلو عن كل شئ، إلا إيمانهم بالله، ونصرتهم لدين الله.

قال آخر (4): وهكذا ذكر القرآن الكريم شدة حب المؤمنين لله، وهو وصف لم يصفهم به إلا في هذا الموضع، للدلالة على أن شرف المحبة بقدر شدتها، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165]، ففي هذه الآية الكريمة، يتحرك القرآن في واقع الحياة ليقدم إلينا نموذجا من نماذج

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1120)

(2) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1123)

(3) التفسير القرآني للقرآن (3/ 1123)

(4) من وحي القرآن (3/ 156)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/237)

الانحراف العاطفي والعملي في واقع الناس في الحياة، وهو النموذج المتمثل في أتباع الظلمة وأشياعهم، فهم يجمعون بين الإيمان بالله ومحبته، وبين حب الظالمين من أسيادهم وكبرائهم، تماما كما يحب الإنسان شخصين متساويين في جميع الخصائص والصفات.. ولعل هذا الاتجاه في تصوير حالة التسوية في المشاعر بين الله وبين أئمة الظلم، كان منطلقا من الأساس العملي للواقع الذي يعيشونه، فإن الحب الذي تتحدث عنه الآية ليس الحب الداخلي الانفعالي الذي يتحرك في الجانب الشعوري العاطفي للإنسان، لأن الجو هنا هو جو الحديث عن الخطوات العملية التي تحكم حياتهم، بل الظاهر أن المراد من الحب هو الحب العملي، وهو الذي يتمثل بالاتباع والتأييد والمشاركة والطاعة لما يريدون ولما يخططون من دون قيد أو شرط، تماما كما هي الحال في محبة الإنسان لله بمعنى طاعته المطلقة، وذلك هو التطبيق العملي للإشراك بالله، لأن مثل هذه الإطاعة التي لا تنبغي إلا لله، عندما يقدمها الإنسان لغيره بالمستوى ذاته، فمعنى ذلك أنه قد جعل ذلك المطاع ندا ونظيرا لله فيما يمثله ذلك من إخلاص العمل، وهذا هو الشرك الواقعي الذي لا يرتبط بتعدد الآلهة على مستوى العقيدة الإلهية، بل يتصل بتعددها على مستوى الطاعة، انطلاقا من العوامل الذاتية المتصلة بالشهوات والأطماع والمنافع التي يحصلون عليها لدى هؤلاء، أو التي يأملون الحصول عليها منهم.

قال آخر (1): وهنا يلتفت القرآن الكريم في عملية مقارنة سريعة بين هؤلاء وبين المؤمنين، في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165]، ذلك أن معرفة المؤمن بربه ووعيه لعظمته، تجعلانه ينفتح على الله انفتاحا يملأ كل كيانه في أفكاره ومشاعره، في

__________

(1) من وحي القرآن (3/ 158)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/238)

جوارحه وجوانحه، فلا يبقى هناك مجال لأية قوة، مهما عظمت، أن تحتل ولو مساحة صغيرة من نفسه في المستوى الذي يلتقي فيه بالله، فلا ولاء لغيره، ولا طاعة إلا له، لأن معنى التوحيد أن يخلص كل شيء فيك للإله الواحد.

قال آخر: أما كيف نستفيد ذلك ونقرره، فهذا ما يبدو لنا من جو الآية من جهة، ومن طبيعة الرسالة من جهة أخرى، فنحن نلاحظ في الآية أنها تثير في نهاية المطاف قضية التابعين والمتبوعين وحوارهم في يوم القيامة، مما يوحي بأن الأساس في قضية الحب هو التبعية لا العاطفة المجردة، فقد ورد عقب الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: 166]، كما أننا نستوحي ذلك من قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31] حيث جعل اتباع النبي من علامات الحب ونتائجه.

قال آخر: ويشير إلى ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24]

قال آخر: ولهذا شرط الله تعالى على المدعين لمحبة الله اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك أنه يستحيل على من يدعي محبة أحد ألا يحب رسوله، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31]، ذلك أن المحب الحقيقي هو الذي يحب كل ما أحب محبوبه، وإلا فحبه لمن أحب نزوة طارئة، أو دعوى باطلة، وقد عبر بعض الحكماء عن ضرورة ذلك، فقال: (اعلم أن المحبة يدعيها كل أحد، وما أسهل الدعوى وما أعز المعنى، فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخدع النفس، مهما ادعت محبة اللَّه تعالى، ما لم

القرآن.. والهداية الشاملة (2/239)

يمتحنها بالعلامات، ولم يطالبها بالبراهين والأدلة.. والمحبة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب، واللسان، والجوارح، وتدل تلك الآثار الفائضة منها على القلب والجوارح على المحبة دلالة الدخان على النار، ودلالة الثمار على الأشجار) (1)

4. الأخلاق السامية

بعد أن استمعت إلى تلك الأحاديث الجميلة عن مقام المحبة، وأردت أن أسير إلى مقام آخر، قال لي رجل ممن كانوا معي: يكفيك ما سجلته من هذا المنزل، لأنك لو بقيت هنا، فلن تغادر أبدا، وعسى الله أن يهديك إلى من يرحل بك إلى هذه المنازل.

قلت: والآن ماذا علي أن أفعل؟

قال: لقد أُذن لك الآن في أن تسير إلى منازل الأخلاق السامية..

قلت: لكن لم أخرتم رحلتي إليها.. ألم يكن الأجدى أن أبدأ بها؟

قال: الأخلاق السامية ثمرة لتطهير النفس، والتزامها بعبوديتها لربها.. ففرق كبير بين أخلاق العابد الذي لا يريد إلا ربه، وبين أخلاق غيره ممن تختلط أخلاقهم بأهوائهم وأغراضهم.

قلت: صحيح.. فالأخلاق ثمرة المعرفة والروحانية والإيمان.

قال: فهلم معي إذن إلى مركبتي لنحضر مجلسا علميا حول بعض ما ورد عنها في القرآن الكريم.

قلت: إلى أي بلدة؟

__________

(1) إحياء علوم الدين (4/ 329)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/240)

قال: هي بلدة جديدة لم تسمع بها من قبل.. لأنها لم تُبن في عصركم.. ونحن نسميها مدينة عباد الرحمن.. لأنها صارت متخصصة في تخريج هذا النوع من العباد.

قلت: كل الخلق عباد الرحمن، فكيف خصصتموها بذلك؟

قال: نحن نشير بذلك إلى ما ورد في القرآن الكريم من صفات عباد الرحمن، وهم الذين تحققت فيهم هذه العبودية باختيارهم ورضاهم ومحبتهم، ولذلك صاروا أهلا لهذه التسمية دون غيرهم.

الصدق

سرت معه في مركبته العجيبة، وما هي إلا لحظات قصيرة حتى وصلنا إلى بلدة جميلة على شاطئ البحر، وقد رأيت هناك صدق ما ذكره لي.. فقد كان كل من رأيتهم هينون لينون متسامحون ممتلئون بكل الأخلاق الفاضلة.

وبينما كنت أسير على شاطئ البحر، إذا بي أرى سفينة مكتوبا عليها [سفينة الصادقين]، فلاح لي أن أركب فيها.. وبمجرد ركوبي رأيت قبطان السفينة يقول للركاب: لاشك أنكم تعلمون أن الصدق في حقيقته يعني المطابقة التامة للواقع، وفي كل شيء.. ولذلك كان الصادق الحقيقي هو الذي لا ينحرف عن حقيقته قيد أنملة.. فإن تعدى حقيقته بادعاء حقيقة أخرى، فإنه يعتبر كاذبا في تلك الدعوى.. وبما أن حقيقة الإنسان ليست سوى عبوديته لله؛ فإن تخلفه عن هذه العبودية في أي سلوك أو موقف؛ أو بأي دعوى من الدعاوى، يعني تخلفه عن الصدق، وتحول المدعي بموجبه إلى كاذب ومفتر.. ولهذا اتفق كل الحكماء على شمول الصدق لكل التصرفات القولية والفعلية والوجدانية وغيرها، وعدم انحصاره فيما اُشتهر فيه من الصدق في الأقوال وحدها.

القرآن.. والهداية الشاملة (2/241)

قال أحدهم (1): أجل وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هداية الصدق إلى كل أنواع البر إلى الدرجة التي يصبح فيها الصادق صديقا، وذلك لتدخل العناية الإلهية مع الصادقين.. فلذلك لا يسلك الصادق سبيلا إلا صحبه فيه توفيق الله وبركاته.. بينما الكاذب أهل للخذلان لا للتوفيق.. ولهذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: 80]، أي وقل داعيا: رب أدخلنى في كل مقام تريد إدخالى فيه في الدنيا وفي الآخرة مدخلا صادقا أي يستحق الداخل فيه أن يقال له أنت صادق في قولك وفعلك، وأخرجنى من كل ما تخرجنى منه مخرج صدق أي يستحق الخارج منه أن يقال له أنت صادق.

قال آخر (2): والآية الكريمة تدعو إلى مراعاة الصدق في كل مداخل الإنسان ومخارجه، سواء في الأفكار التي يتبناها كمدخل طبيعي لحركته في الحياة، أو في العلاقات الخاصة والعامة التي تربطه بالواقع وبالناس، لتحدد له موقعه في ساحات الصراع واللقاء، على المستوى الإيجابي أو السلبي، أو في المشاريع المتنوعة التي تنظم للإنسان حركته، وتحدد له دوره وطريقه في الوصول إلى أهدافه وأسلوبه في ممارسة ذلك.. وهكذا يعيش المؤمن الصدق في كل موقع يدخل إليه، ويتحرك فيه، لأن ذلك مما ينسجم مع دعوة الحق، كواجهة للرسالة، وكعمق للحركة، وكطابع للشخصية، فيما يمثله ذلك الواقع من انسجام الكلمة والأسلوب والموقف.

قال آخر: ويشير قوله تعالى: ﴿وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ [الإسراء: 80] إلى جميع المواقف التي يريد الإنسان التحرك منها إلى موقف آخر، أو في كل المواقع التي تلتقي بالخط

__________

(1) تفسير المراغي (15/ 85)

(2) من وحي القرآن (14/ 207)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/242)

السلبي في الحياة، فلا يكون الموقف منطلقا من الزيف والدجل والرياء، ولا يكون الموقع مختلفا مع الثوابت المتصلة بالرسالة، بل يستمد الصدق والثبات من حركته الإيجابية في خط العقيدة والتشريع.

قال آخر: ولهذا اعتبر الله تعالى الصدق من أشرف المنازل، وأكثرها ضرورة لتحقيق العبودية، ولهذا وصف الله تعالى به أنبياءه وأولياءه، فقال في إبراهيم عليه السلام: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ [مريم: 41]، وقال في إدريس عليه السلام: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ [مريم: 56]، وقال في إسماعيل عليه السلام: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ [مريم: 54]، وقال في يوسف عليه السلام: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ [يوسف: 46]

قال آخر (1): ولهذا وصف الله تعالى أولياءه الصالحين بالصدق، فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15]، أي أن المؤمنين هم الذين آمنوا بالله ورسوله فنزل هذا الإيمان في قلوبهم منزلة اليقين، لا يزحزحهم عنه أي عارض من عوارض الحياة، ولا يغير وجهه في قلوبهم ما يلقاهم على طريق الحياة من بأساء وضراء، ثقة منهم بالله، وركونا إليه، ورضاء بقضائه، وصبرا لحكمه.. وهذا هو الإيمان في صميمه.. أما الإيمان الذي يهتز كيانه في قلب الإنسان لأى عارض، ويتضاءل شخصه عند أي بلاء، فهو إيمان غير خالص، بل هو مشوب بآفات كثيرة من الشك، وسوء الفهم، فإذا وضع على محك التجربة والامتحان، ظهر ما فيه من ضعف، فلم يحتمل صدمة التجربة، ولم يصمد أمام تيار الامتحان.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 457)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/243)

قال آخر (1): وقد وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين الصادقين بأنهم ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: 15]، وهذا هو مجال الامتحان لإيمان المؤمنين.. فمن آمن بالله ورسوله، ووقع منه هذا الإيمان موقع القبول واليقين، لم ينكل عن دعوة الجهاد في سبيل الله بماله ونفسه، بل يقدم ماله ونفسه قربانا لله، في رضا وغبطة.. وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن الجهاد بالمال والنفس، هو الميدان الذي يمتحن به إيمان المؤمنين، والذي به تظهر حقيقة ما في قلوبهم من إيمان، فالمؤمن، قد يصلى، ويصوم، ويحج، ويزكى، ولكنه حين يمتحن في ماله أو نفسه بالجهاد في سبيل الله ضد المعتدين الظالمين، يضن بماله، ويحرص على سلامة نفسه، وعندئذ يعلم حقيقة إيمانه، وأنه لم يستوف حقيقة الإيمان بعد، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: 31]، وقال: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2 ـ 3]

قال آخر (2): ثم وصف الله تعالى من توفرت فيهم الصفات، فقال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8]، أي هذا هو الوصف الذي يستحقه الذين آمنوا بالله ورسوله ولم يرتابوا، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وهو أنهم مؤمنون حقا.. قد صدق فعلهم قولهم.

قال آخر (3): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [الحديد: 19]، أي أن الإيمان بالله ورسوله، إيمانا خالصا من كل شائبة، هو

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 458)

(2) التفسير القرآني للقرآن (13/ 458)

(3) التفسير القرآني للقرآن (14/ 770)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/244)

الذي يزكى كل عمل يعمله المؤمن، قل هذا العمل أو كثر، وهو الذي يرفع العبد عند ربه إلى درجه الصديقين والشهداء.. والصديق، هو كثير الصدق، أي من كان مصدقا بكل ما نزل من آيات الله، وبكل ما سمع من رسول الله، لا يرتاب في شئ، ولا يتوقف عند شئ.. سواء عقله أو لم يعقله، وسواء وافق هواه أو خالفه.. فهذا هو الإيمان في صميمه.. إنه ولاء، وطاعة، وإسلام، واستسلام.

قال آخر (1): وقد ذكر الله تعالى الجزاء الذي يناله هؤلاء، فقال: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ [الحديد: 19] أي فيما جعله الله لهم من الثواب عنده، جزاء على ما قدموه من إيمان وعمل، ﴿وَنُورُهُمْ﴾ [الحديد: 19] والذي يستمد معناه الروحي وإشراقه الإيماني من عمق الالتزام بالله والسير في خط هداه.

قال آخر (2): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8]، أي إن فقراء المهاجرين الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج من ديارهم وترك أموالهم طلبا لمرضاة ربهم ونيلا لثوابه ونصرة لله ورسوله، وإعلاء لشأن دينه هم الصادقون في إيمانهم، إذ قد فعلوا ما يدل على الإخلاص فيه والرغبة الصادقة من نيل المغفرة والكرامة عند ربهم، فهم قد أخرجوا من ديارهم، وهي العزيزة على النفوس، المحببة إلى القلوب، وتركوا الأموال والمال شقيق الروح، وكثيرا ما يقتل المرء في سبيل الذود عنه، وانتزاعه من أيدى غاصبيه، وما فعلوا ذلك إلا لإعلاء منار الدين، ورفعة شأنه، وذيوع ذكره، فحق لهم من ربهم النعيم المقيم، وجزيل الثواب بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على

__________

(1) من وحي القرآن (22/ 34)

(2) تفسير المراغي (28/ 42)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/245)

قلب بشر، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال، وعظيم الخلال.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 23، 24]، أي من المؤمنين الذين سلموا من النفاق، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. إذ ليس كل المؤمنين على درجة واحدة في إيمانهم.. بل هم درجات في الإيمان، كما أنهم درجات عند الله.. وفي قوله تعالى: ﴿رِجَالٌ﴾ إشارة إلى أنهم أناس قد كملت رجولتهم، وسلمت لهم إنسانيتهم.. فكانوا رجالا حقا، لم ينتقص من إنسانيتهم شئ.. فالكفر، والشرك، والنفاق، وضعف الإيمان، كلها أمراض خبيثة، تغتال إنسانية الإنسان، وتفقده معنى الرجولة فيه.. فالرجل كل الرجل، هو من تحرر عقله من الضلال، وصفت روحه من الكدر، وسلم قلبه من الزيغ.. ثم لا عليه بعد هذا ألا يمسك بيده شئ من جمال الصورة، أو وفرة المال، أو قوة السلطان.. وفي تنكير ﴿رِجَالٌ﴾ معنى التفخيم، والتعظيم، كما قال تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: 36 ـ 37]، وقال: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108]

قال آخر (2): ثم ذكر الله تعالى أن من هؤلاء الرجال من مات، وهو على إيمانه الوثيق بالله، وفي موقف الجهاد في سبيل الله، قد وفي بما نذره الله، وعاهد الله عليه.. ومنهم من ينتظر

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 680)

(2) التفسير القرآني للقرآن (11/ 681)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/246)

قضاء الله فيه، موتا، أو استشهادا في ميدان القتال، فهو على ترقب وانتظار لليوم الذي تتاح له فيه الفرصة للوفاء بنذره وعهده.. وفي قوله تعالى: ﴿يَنْتَظِرُ﴾ [الأحزاب: 23] إشارة إلى أن المؤمن الصادق الإيمان، ينتظر لقاء ربه، وهو في شوق إلى هذا اللقاء، يعد له اللحظات، ويستطيل أيام الحياة الدنيا، في طريقه إلى ربه.. شأن من ينتظر أمرا محبوبا هو على موعد معه.

قال آخر (1): ثم وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23]، وفي ذلك إشارة إلى أن إيمانهم بالله، ويقينهم بلقائه لم يزايل مكانه من قلوبهم لحظة، ولم ينحرف عن موضعه أي انحراف.. فهم على حال واحدة من أمر ربهم، ومن الثقة بما وعدهم الله على يد رسوله.. على حين أن كثيرا ممن كان معهم ممن أسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، قد بدلوا مواقفهم، وكثرت تحركاتهم بين الإيمان والكفر.

قال آخر (2): ثم ذكر الله تعالى النتيجة النهائية لأعمال المؤمنين والمنافقين في جملة قصيرة، فقال: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ﴾ [الأحزاب: 24] فلا يبقى صدق وإخلاص ووفاء المؤمنين بدون ثواب، ولا ضعف وإعاقات المنافقين بدون عقاب.. ومع ذلك، ولكي لا يغلق طريق العودة والإنابة بوجه هؤلاء المنافقين العنودين، فإن الله سبحانه قد فتح أبواب التوبة أمامهم بقوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب: 24] إذا تابوا ووصف نفسه بالغفور والرحيم ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 24] ليحيي فيهم الحركة نحو الإيمان والصدق والإخلاص والوفاء بالتزاماتهم أمام الله والعمل بمقتضاها.

قال آخر (3): وهكذا يقرن الله تعالى بين الصدق والتقوى، فلا يمكن أن يتحقق الصدق من دون التقوى، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 681)

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (13/ 201)

(3) من وحي القرآن (10/ 83)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/247)

الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]، لأن التقوى تفرض على المؤمن أن يتخذ الموقف المنسجم مع المجتمع الإيماني المتميز بالصدق في حركة الصادقين مع الله ومع أنفسهم ومع الناس، فإن ذلك هو الذي يعبر عن إخلاص المؤمن لقيمة الصدق في الحياة.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9]، ففي الآية الكريمة تذكير للأحياء بهذا الذي هم صائرون إليه هم وأموالهم، عارضا عليهم في هذا الموقف ما يهز مشاعرهم، ويثير أشجانهم.. فهم سيموتون كما مات هذا الميت الذي تقاسموا تركته، أو تقاسمها ورثته وهم يشهدون.. وهم سيتركون من بعدهم أطفالهم، الذين سينضمون إلى موكب الأيتام كما ترك هذا الميت أطفاله، وانضموا إلى جماعة الأيتام، ممن مات آباؤهم قبله؛ فليرعوا حق الله إذن، وليخشوه في هؤلاء اليتامى الذين في أيديهم، وليصونوهم ويصونوا أموالهم، وليعاملوهم كما يرجون أن يعامل أبناؤهم من بعدهم.. وليس هناك من صورة مثل هذه الصورة، التي يعرضها القرآن هنا، في إثارة العواطف، وفي استجلاء العبرة والعظة، حيث يتمثل منها للحي خاتمة مطافه في هذه الحياة، ومصير هذا المال الذي جمعه، والذي يكاد يذهب بدينه ومروءته جميعا.

قال آخر (2): وفي قوله تعالى: ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9] دعوة إلى القول الذي يحمل النصح، والتوجيه، والتسديد، لليتامى، وإعدادهم إعدادا صالحا للحياة.. تماما كما يفعل الأب مع أبنائه، وإلا فهو قول غير سديد، وخيانة للأمانة التي اؤتمن الأوصياء عليها.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 707)

(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 708)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/248)

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70 ـ 71]، أي يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله أن تعصوه فتستحقوا بذلك عقوبته، وقولوا في رسوله والمؤمنين قولا قاصدا غير جائر، حقا غير باطل، يوفقكم لصالح الأعمال، ويغفر لكم ذنوبكم فلا يعاقبكم عليها.. ومن يطع الله ورسوله فيعمل بما أمره به وينته عما نهاه عنه ويقل السديد من القول فقد ظفر بالمثوبة العظمى والكرامة يوم العرض الأكبر.

قال آخر (2): فقد أمر الله تعالى المؤمنين بشيئين: الصدق في الأقوال، والخير في الأفعال، وبذلك يكونون قد اتقوا الله وخافوا عقابه، ثم وعدهم على ذلك بأمرين: إصلاح الأعمال إذ بتقواه يصلح العمل، والعمل يرفع صاحبه إلى أعلى عليين ويجعله يتمتع بالنعيم المقيم في الجنة خالدا فيها أبدا.. ومغفرة الذنوب وستر العيوب والنجاة من العذاب العظيم.

قال آخر: وهكذا ذكر الله تعالى جزاء الصادقين، فقال: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: 33 ـ 35]، وقال: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة: 119]

الأدب

بعد قيامنا بجولة جميلة في سفينة الصدق، بصحبة أولئك الطيبين الصادقين، ذهبت أتجول في المدينة، فرأيت حديقة ترفيه جميلة تمتلئ بكل الألعاب، وكانت مملوءة بالصبية من

__________

(1) تفسير المراغي (22/ 45)

(2) تفسير المراغي (22/ 45)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/249)

كل الأعمار، وقد كتب على بابها [حديقة الآداب]، فدخلت إليها، وهناك رأيت رجلا يقول لمجموعة من الصبية: نعم أنتم الآن في حديقة الألعاب، لكن لا تنسوا أنها حديقة للآداب أيضا.. فمن فاته الأدب، فإنه لا حظ له من الإنسانية وكرامتها.

قال أحدهم: صدقت أستاذنا.. ولهذا، اهتم القرآن الكريم بالآداب وتفاصيلها الدقيقة، وفي كل الشؤون، ذلك أن من السمات الأولى للمسلم كونه صاحب أدب رفيع، وأخلاق عالية، وسمت حسن.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في موعظة لقمان عليه السلام لابنه: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 18]

قال آخر (1): فقوله تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ [لقمان: 18] كناية عن وقفه التكبر والخيلاء التي يشيح فيها الإنسان بوجهه عن الناس، ويعرض عنهم تكبرا، فإن المؤمن هو الذي يحترم الناس ويقبل عليهم ويتواضع لهم، وينفتح لهم بكل وجهه وقلبه.. وقوله: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ [لقمان: 18] أي لا تأخذك الخيلاء، ومشاعر الزهو التي تملأ مشاعر الإنسان بالفرح الذي يطغى على شخصيته، حتى يتحول ذلك إلى حركة استعراضية نزقة لا توحي بالهدوء والاتزان.. ثم عقب على ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 18] لأن الاختيال يوحي بالتكبر والتجبر، والله لا يحب المتكبرين المتجبرين، ولأن الفخر يوحي بانتفاخ الشخصية من غير أساس واقعي معقول، والله لا يحب الذين يزكون أنفسهم من دون واقع، لأن ذلك يمثل حالة كذب في الحركة والمظهر، وإن لم يكن كذبا في اللسان.

__________

(1) من وحي القرآن (18/ 197)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/250)

قال آخر (1): وليس صعر الخد، والتبختر في المشي، إلا من مشاعر التعالي، والعجب، وذلك مما يعزل الإنسان عن الناس ويعزل الناس عنه، ولا يكون من هذا إلا الجفاء، ثم العداوة والبغضاء.. وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 18] إشارة إلى أن صاحب الكبر، والتيه، كما يلقى الكراهية، والنفور من الناس، فإنه يلقى البغض من الله، والبعد عن مواقع رضاه.. لأن الكبر مفتاح كل رذيلة، وباب كل شر وضلال.. وما أوتى المشركون الذين تحدوا رسالة الإسلام، وعموا عن مواقع الهدى منها إلا من كبرهم، وعجبهم بأنفسهم، وبما زينت لهم أهواؤهم.

قال آخر (2): ثم قال تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ [لقمان: 19]، أي وامش مشيا مقتصدا ليس بالبطئ المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل امش هونا بلا تصنع ولا مراءاة للخلق، بإظهار التواضع أو التكبر.

قال آخر (3): ثم قال تعالى: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ [لقمان: 19]، وفي ذلك إشارة إلى كسر حدة الصوت حياء من الناس أن يأتى هذا المنكر ـ وهو رفع الصوت ـ أمامهم، تماما، كما يغض الإنسان بصره عن الأمور المنكرة، حياء من الله، وحياء من الناس.. وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: 19] تنفير من رفع الصوت والخروج به على حدود الحديث المدار بين الجماعة، وكأن هذا الذي يطلق صوته على مداه في مجلس من المجالس، هو حمار، أطلق صوته، فقطع على الجماعة حديثها.

قال الأستاذ: بورك فيكم.. والآن حدثوني عما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى أصول الآداب الاجتماعية.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 573)

(2) تفسير المراغي (21/ 86)

(3) التفسير القرآني للقرآن (11/ 574)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/251)

قال أحدهم: لقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الآداب التي تحفظ العلاقات الاجتماعية من كل ما يكدرها.. ومنها آداب الاستئذان، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: 59]

قال آخر (1): أي أن هؤلاء الأطفال، الذين أذن لهم بالطواف عليكم من غير استئذان في كل وقت، ما عدا هذه الأوقات الثلاثة، إذا زايلتهم صفة الطفولة، وبلغوا الحلم، ودخلوا مدخل البالغين ـ من رجال ونساء ـ أخذوا بحكمهم، وأصبح لزاما عليهم أن يستأذنوا في جميع الأوقات، لا في هذه الأوقات الثلاثة وحسب.. وفي قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: 59] إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان واضحا، من حيث أن الطفولة هي التي قضت بإعفاء الأطفال من الاستئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، فإذا زايلتهم الطفولة زايلهم حكمها الذي ترتب عليها إلا أنه يمكن لمتأول أن يتأول الطفولة بأنها البنوة، ومن ثم فإن أبناء الرجل أو المرأة إذا بلغوا، ظل هذا الأعفاء ملازما لهم.. فكان هذا البيان الحكيم، وضعا للأمر في موضعه الصحيح، وقاطعا الطريق على كل تأويل، إذ كان الأمر من عظم الشأن بحيث يجب كشفه وبيانه على هذه الصورة الواضحة، حتى لا يقع فيه لبس أو خفاء.

قال آخر: ومثل ذلك ورد في القرآن الكريم ذكر آداب الزيارة كما في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (9/ 1321)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/252)

أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [النور: 61]

قال آخر (1): ففي هذه الآية الكريمة تكميل لما ورد في آيات سابقة عن الإستئذان في أوقات معينة، أو بشكل عام حين الدخول إلى المنزل الخاص بالأب والأم.. وفي هذه الآية استثناء لهذا الحكم، حيث يجوز للبعض وبشروط معينة، الدخول إلى منازل الأقرباء وأمثالهم، وحتى أنه يجوز لهم الأكل فيها دون استئذان.

قال آخر (2): وذلك لأن أهل المدينة كانوا ـ كما ورد بصراحة في بعض الأحاديث ـ وقبل قبولهم الإسلام، يمنعون الأعمى والأعرج والمريض من المشاركة في مائدتهم، ويتنفرون من هذا العمل.. وعلى عكس ذلك كانت مجموعة منهم بعد إسلامها، تفرد لمثل هؤلاء موائد خاصة، ليس لاحتقارهم المشاركة معهم على مائدة واحدة، وإنما لأسباب إنسانية، فالأعمى قد لا يرى الغذاء الجيد في المائدة، وهم يرونه، ويأكلونه، وهذا خلاف الخلق السليم، وكذلك الأمر بالنسبة للأعرج والمريض، حيث يحتمل تأخرهما عن الغذاء، وتقدم السالمين عليهما.. ولهذا كله لم يشاركوهم الغذاء على مائدة واحدة، ولهذا كان الأعمى والأعرج والمريض يسحب نفسه حتى لا يزعج الآخرين بشيء، ويعتبر الواحد منهم نفسه مذنبا إن شارك السالمين غذاءهم في مائدة واحدة.

قال آخر: ثم تشير الآية إلى أحد التعاليم الأخلاقية المهمة، فتقول: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (11/ 165)

(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (11/ 166)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/253)

بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: 61]، أي فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت فليسلم بعضكم على بعض.. وفي التعبير عن أهل تلك البيوتات (بأنفسكم) إيماء إلى السبب الذي اقتضى إباحة الأكل من تلك البيوت، وأنه إنما كان لأن الداخل فيها كأنه داخل في بيته، لما بينهما من قرابة أو نحوها.. ﴿تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [النور: 61] أي حيوا تحية ثابتة بأمره تعالى مشروعة من لدنه، يرجى بها زيادة الخير والثواب، ويطيب بها قلب المستمع.. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [النور: 61] أي هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحل لكم فيها، وعرفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه، لكى تفقهوا أمره ونهيه وأدبه، وبذا تفوزون بسعادة الدارين، ويكون لكم المقام المحمود عند ربكم.

قال آخر (1): ومثل ذلك ورد في القرآن الكريم ذكر آداب المجالس، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11]، وقد وردت بعد آيات سابقة، أشارت إلى مجالس يتناجى فيها أهل المجلس، ويفضى بعضهم إلى بعض بسره.. أما المنافقون فلا يتناجى بعضهم إلى بعض إلا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وأما المؤمنون فيتناجون بالبر والتقوى.. فناسب ذلك أن يذكر ما ينبغى أن يأخذ به المؤمنون أنفسهم، من آداب في مجالسهم العامة التي لا مناجاة فيها والتي يباح لأى منهم أن يأخذ مكانه فيها، وذلك، حتى لا يقع في مجلسهم ما يثير ضغينة، أو يوقع عداوة.

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 830)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/254)

قال آخر (1): وهي تشير إلى أدب من آداب المجلس، وهو أن يوسع بعضهم لبعضهم، وأن يفسحوا للقادم عليهم مكانا بينهم، فهو أشبه بالضيف، ومن حق الضيف الترحيب به، وإنزاله منزل الإكرام.. وإكرام الوافد على المجلس، هو أن يجد له مكانا بين أهل المجلس، وأن ينزل المنزل المناسب له بينهم، حسب دينه، وعلمه.. فلا يتصدر المجلس جاهل وفي المجلس عالم، ولا يتصدره من رق دينه وفي أهل المجلس من كان ذا دين وتقوى.

قال آخر (2): ثم دعا الله تعالى إلى أدب آخر عبر عنه بقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾ [المجادلة: 11]، أي وإذا دعيتم إلى القيام عن المجلس فقوموا، ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11] أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة درجات كثيرة في الثواب ومراتب الرضوان.

قال آخر (3): فالآية الكريمة تقول للمؤمنين: إنكم أيها المؤمنون إذا فسح أحدكم لأخيه إذا أقبل، أو إذا أمر بالخروج فخرج، فلا يظنن أن ذلك نقص في حقه، بل هو رفعة وزيادة قربى عند ربه، والله تعالى لا يضيع ذلك بل يجزى به في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره، ونشر ذكره.. والله بأعمالكم ذو خبرة لا يخفى عليه المطيع منكم من العاصي، وهو مجازيكم جميعا بأعمالكم، فالمحسن بإحسانه، والمسيء بالذي هو أهله أو يعفو.

قال آخر (4): ومثل ذلك ورد في القرآن الكريم ذكر آداب الكلام، كما في قوله تعالى: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: 19]، لأن رفع الصوت بطريقة غير معتادة لا يدل على أية حالة توازن، فالصوت يمثل الوسيلة الطبيعية لتسهيل

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 830)

(2) تفسير المراغي (28/ 17)

(3) تفسير المراغي (28/ 17)

(4) من وحي القرآن (18/ 198)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/255)

عملية التخاطب والتفاهم، فيكفي فيه ما يحقق ذلك. أما ما زاد على ذلك، فإنه يتحول إلى سفه وإزعاج للآخرين الذين قد يحتاجون إلى الهدوء والراحة والتخفف من صخب الواقع، فيمنعهم الصوت العالي من ذلك كله، هذا بالإضافة إلى أن الصوت كلما ارتفع أكثر، كلما كان أبعد عن الذوق الفني الجمالي، لأنه يلتقي بأصوات الحمير المنكرة ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: 19] الذي يملأ الجو بالإزعاج ويدفع الإنسان إلى التوتر العصبي في أكثر من موقع.

قال آخر (1): ومثله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2]، أي إذا نطق ونطقتم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، ولا تبلغوا بها وراء الحد الذي يبلغه، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام.. وإذا كلمتموه وهو صامت فإياكم أن تبلغوا به الجهر الذي يدور بينكم، أو أن تقولوا يا محمد، يا أحمد، بل خاطبوه بالنبوة مع الإجلال والتعظيم، خشية أن يؤدى ذلك إلى الاستخفاف بالمخاطب فتكفروا من حيث لا تشعرون.

قال آخر (2): ومثل ذلك ورد في القرآن الكريم ذكر آداب التحية، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾ [النساء: 86]، أي وإذا حياكم أحد بتحية فردوها بتحية مثلها، أو بتحية أحسن منها، فقولوا لمن قال: السلام عليكم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. وهكذا يزيد المجيب على المبتدئ كلمة أو أكثر.. وقد يكون حسن الجواب بمعناه أو كيفية أدائه وإن كان بمثل لفظ المبتدئ بالتحية

__________

(1) تفسير المراغي (26/ 121)

(2) تفسير المراغي (5/ 110)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/256)

أو مساويه في الألفاظ أو أخصر منه، فمن قال لك: السلام عليكم بصوت خافت يشعر بقلة العناية، فقلت له: وعليكم السلام بصوت أرفع وبإقبال يشعر بالعناية وزيادة الإقبال والتكريم كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته في صفتها، وإن كانت مثلها في لفظها.. أي إن للجواب عن التحية مرتبتان: أدناهما ردها بعينها، وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها، والمجيب مخير بينهما.

قال آخر (1): ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء: 86] أي إنه تعالى رقيب عليكم في مراعاة هذه الصلة بينكم بالتحية ويحاسبكم على ذلك.. وفي هذا إشارة إلى تأكيد أمر هذه الصلة بين الناس، ووجوب رد التحية على من يسلم علينا ويحيينا.

قال آخر: ومثل ذلك ورد في القرآن الكريم ذكر آداب المشي، كما في قوله تعالى في موعظة لقمان عليه السلام: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 18]

قال آخر (2): ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾ [الاسراء: 37]، وفي الآية الكريمة نهي عن مشية الخيلاء والزهو والتكبر والعظمة، المملوءة بالفرح الداخلي المتحرك من مواقع الأنانية، النابضة بالإحساس المرضي باحتقار الآخرين.. وكأنها تقول للإنسان: (لماذا تمشي هذه المشية الاستكبارية التي تدق فيها الأرض بقدميك بقوة، حتى تكاد تسمع صراخ الأرض من تحتهما، وترفع رأسك وعنقك وكتفيك في وقفة استعلاء، كما لو كنت تريد أن تزيد في طولك مقدارا يعلو عن طولك الطبيعي؟.. هل تريد أن تخرق الأرض فتنزل إلى أعماقها، أو تريد

__________

(1) تفسير المراغي (5/ 111)

(2) من وحي القرآن (14/ 122)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/257)

أن تبلغ الجبال في طولك؟.. إن الأرض ستبقى في صلابتها التي لن تتأثر بضربات قدميك، وحجمك سيظل في ارتفاعه الطبيعي دون أن يزيد بوصة واحدة، فلما ذا تجهد نفسك وترهق قوتك بهذا العناء، هل لتوحي للآخرين بأنك عظيم وكبير في ذاتك، كما أنت كبير وعظيم في طريقة سيرك؟.. أيها الإنسان كن واقعيا وتواضع، فإنك لن ترتفع ألا بعلمك وإيمانك وأخلاقك واحترامك للآخرين، وخذ حجمك الطبيعي وتحرك من خلاله ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: 37] إنها الكلمات الإلهية اللاذعة المليئة بالسخرية والاحتقار لهذا الإنسان، الذي يريد أن يرتفع من مواقع السقوط، ويكبر من مواقع الصغار.

قال آخر: ومثل ذلك ورد في القرآن الكريم ذكر آداب التعامل مع مختلف أصناف الناس بما يناسبهم، وبحسب منازلهم، فقد يصلح لصنف من الناس ما لا يصلح مع غيره، بل قد يكون نفس التصرف حسنة مع قوم سيئة مع غيرهم، كما نبه إلى ذلك قوله تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: 63]، فقد قيل في تفسيرها: (إنكم عندما تدعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينبغي أن تدعوه بأدب واحترام يليق بمنزلته، وليس كما تدعون بعضكم بعضا، والسبب يكمن في أن جماعة من المسلمين لم يتعلموا ـ بعد ـ الآداب الإسلامية في التعامل مع الآخرين، فكانوا ينادون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعبارة: يا محمد.. وهذا لا يليق بنداء قائد إلهي كبير.. ولهذا تهدف الآية إلى تعليم الناس أن يدعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعبارات رزينة وبأسلوب مؤدب، كأن يدعوه: يا رسول الله، أو: يا نبى الله) (1)

قال آخر (2): وإلى ذلك الإشارة أيضا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الحجرات: 3]،

__________

(1) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (11/ 181)

(2) التفسير القرآني للقرآن (13/ 436)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/258)

أي يخفضون أصواتهم حياء وإجلالا.. وفي التعبير عن خفض الصوت بالغض الذي هو من شأن النظر، إشارة إلى أن خفض الصوت إنما يكون عن مشاعر الحياء، التي من شأنها أن تنكسر معها حدة البصر، فلا يستطيع المرء أن يملأ عينيه ممن يهابه، ويجله، ويوقره.. فهو إذا نظر غض بصره، وإن هذا الغض من البصر يستولى على مخارج الصوت أيضا، فيحبس الصوت عن أن ينطلق إلى غاياته، بل يكسر حدته، كما كسر حدة النظر.. ففي قوله تعالى: ﴿يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ﴾ [الحجرات: 3] إشارة ضمنية إلى غض البصر حياء، وأن سلطان الحياء هو المتحكم في هذا المقام.. وهكذا يتسلط الغض على الأبصار، والأفواه جميعا.. وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ [الحجرات: 3] إشارة إلى أن قلوب هؤلاء المؤمنين الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد أعدها الله سبحانه وتعالى وأرادها لتكون مستقرا ومستودعا للتقوى.

قال آخر (1): وفي مقابل هؤلاء ورد ذم قوم أساءوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل نعتوا بعدم العقل، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحجرات: 4]، لأن العقل يدفع صاحبه إلى احترام أوضاع الناس الخاصة ومشاعرهم الذاتية، وإلى عدم الإساءة إليهم في ذلك كله، الأمر الذي يجعل من لا يراعون ذلك في سلوكهم العملي ممن لا يعقلون.. ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾ [الحجرات: 5] بعد حصولك على ما تريد من الراحة، أو بعد تخففك من مسئولياتك العائلية الخاصة التي قد تشغل الإنسان عن بعض من حوله، ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [الحجرات: 5] لأن ذلك هو سبيل الانسجام مع حركة المسؤولية في نطاق العلاقة بالآخرين، لا سيما إذا كانت المسألة

__________

(1) من وحي القرآن (21/ 138)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/259)

تتصل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي ينبغي للمسلمين أن يراعوا قضاياه الخاصة وموقعه المميز، ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 5] في إشرافه على سلوك عباده وغفرانه ذنوبهم، إذا تابوا ورجعوا إليه، وفي رحمته لهم في كل أوضاعهم العامة والخاصة في نقاط ضعفهم التي يخضع لها وجودهم كله.

قال آخر: وبناء على هذا دعا الله تعالى إلى التعامل مع كبار السن بحسب ما يقتضيهم حالهم، كما قال تعالى عن الوالدين، وهو يشمل غيرهما: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]، فمع أن الوصية بالوالدين عامة ومطلقة في القرآن الكريم إلا أنه خص الكبر بمزيد الإحسان، وضرورة القول الحسن لما تستلزمه هذه الفترة من ذلك.

قال آخر (1): ومعنى الآية الكريمة: أنه إذا وصل الوالدان عندك أو أحدهما إلى حال الضعف والعجز وصارا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوله، وجب عليك أن تشفق عليهما، وتحنو لهما، وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه.. ويتجلى ذلك بأن تتبع معهما بثلاثة أمور.. أولها ألا تتأفف من شئ تراه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما، واحتسب الأجر عليه، كما صبرا عليك في صغرك.. وثانيها ألا تنغص عليهما بكلام تزجرهما به، وفي هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما، وفيما قبله منع من إظهار الضجر القليل أو الكثير.. وثالثها أن تقول لهما قولا حسنا، وكلاما طيبا مقرونا بالاحترام والتعظيم، مما يقتضيه حسن الأدب، وترشد إليه المروءة، كأن تقول يا أبتاه ويا أماه، ولا تدعوهما بأسمائهما، ولا ترفع صوتك أمامهما،

__________

(1) تفسير المراغي (15/ 34)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/260)

ولا تحدق فيهما بنظرك.

قال آخر: وهكذا ذكر القرآن الكريم نماذج كثيرة لآداب الصالحين، منها آداب (عباد الرحمن) الذين بدأ الله تعالى وصفهم بقوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]، والتي يمكن أن يستنبط منها المجامع الكبرى للآداب مع الله تعالى ومع خلقه.

قال آخر (1): وهكذا ذكر القرآن الكريم آداب المتعلم في قصة موسى والخضر عليهما السلام، وقد استنبط بعض العلماء الكثير من معاني الآداب المرتبطة بها، منها أنه جعل نفسه تبعاً له لأنه قال: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾ [الكهف: 66].. ومنها أنه استأذن في إثبات هذا التبعية، فإنه قال: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك، وهذا مبالغة عظيمة في التواضع.. ومنها أنه قال: ﴿عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ﴾ [الكهف: 66] وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم.. ومنها أنه قال: ﴿تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ [الكهف: 66] وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله، وهذا أيضاً مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزءا من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءا من أجزاء ماله.

قال آخر (2): ومنها أن قوله: ﴿مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ [الكهف: 66] اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم.. ومنها أن قوله: ﴿رَشَدًا﴾ [الكهف: 66] طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال.. ومنها أن قوله: ﴿تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ [الكهف: 66] معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به، وفيه إشعار بأنه يكون

__________

(1) تفسير الرازي (21/ 483)

(2) تفسير الرازي (21/ 483)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/261)

إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم، ولهذا المعنى قيل: (أنا عبد من تعلمت منه حرفاً)

قال آخر (1): ومنها أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: لا إله إلا الله فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة، لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنما أتينا بها لأجل أنه صلى الله عليه وآله وسلم أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا ثبت هذا فنقول قوله: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ﴾ [الكهف: 66] يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها. وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض.

قال آخر (2): ومنها أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عليه السلام عرف أولاً أنه نبي بني إسرائيل، وأنه هو موسى صاحب التوراة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة، وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد.

قال آخر (3): ومنها أنه قال: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ﴾ [الكهف: 66] فأثبت كونه تبعاً له أولاً ثم طلب ثانياً أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم.

__________

(1) تفسير الرازي (21/ 483)

(2) تفسير الرازي (21/ 484)

(3) تفسير الرازي (21/ 484)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/262)

قال آخر (1): ومنها أنه قال: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ﴾ [الكهف: 66] فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئاً كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم.

السماحة

خرجت من [حديقة الآداب] إلى [ساحة التسامح]، وهي ساحة ذكر لي أنها تعلم وتدرب كل من يقصدها على التسامح واللين واللطف في التعامل، وقد رأيت في مدخلها جمعا من الناس، يلتفون حول رجل، وهو يقول لهم: السماحة واللين واللطف والعفو والحلم وغيرها.. كلها من الصفات الدالة على الهدوء الداخلي للنفس، والذي يأبى إلا أن يسري خارجها؛ فلا يشعر المقتربون من هذه النفس بما يزعجهم أو يحرجهم أو يؤذيهم، بل يشعرون بها كما يشعرون بالنسيم العليل، والروائح الطيبة.

قال أحدهم: أجل.. ولهذا أخبر الله تعالى عن عباد الرحمن، وكيف كانوا يتكلمون، وكيف كانوا يسيرون، وكيف كان الهدوء والسلام ينبعث من جميع مواقفهم حتى مع أعدائهم، كما قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]

قال آخر (2): فهذه الصفات الكريمة التي يتصف بها أولئك الذين استحقوا أن يضافوا إلى الله سبحانه، وأن يحسبوا في عباده، أما غيرهم ممن لا يتحلون بهذه الصفات، فإنهم ليسوا أهلا لهذا المقام ولا موضعا لهذا الشرف العظيم، لأنهم قيل لهم اسجدوا للرحمن فأنكروا هذا، وقالوا: وما الرحمن؟.. هؤلاء ليسوا من عباد الرحمن، ولن يكونوا من عباده،

__________

(1) تفسير الرازي (21/ 484)

(2) التفسير القرآني للقرآن (10/ 55)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/263)

ما داموا على حالهم تلك.. أما عباد الرحمن الذين يستحقون هذا الشرف العظيم، فهم هؤلاء الذين جاءت تلك الآيات، تكشف عن صفاتهم التي يتحلون بها، والتي تؤهلهم لهذا المقام الكريم.

قال آخر (1): فأول الصفات التي يتحلى بها عباد الرحمن، أنهم ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: 63].. والمشي الهين على الأرض، هو دليل على التواضع، ولين الجانب، وسماحة الخلق.. بخلاف المشي الذي يضرب وجه الأرض، تيها وفخرا.. ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63].. أي أن عباد الرحمن لا يلقون فحش القول وهجره، بفحش، وهجر مثله.. فإذا رماهم السفهاء بالكلمة الخبيثة أعرضوا عنهم، وقالوا: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص: 55]

قال آخر (2): وليس هذا المشي الهين، أو الإمساك عن الفحش من القول، عن ضعف وذلة، وإنما هو عن قوة نفس، ومتانة خلق، وكرم طبيعة.. وكل إناء ينضح بما فيه.. وكل شجرة لا تعطى إلا من ثمرها.. فالشجرة الطيبة تعطى ثمرا طيبا، والشجرة الخبيثة لا تعطى إلا ثمرا خبيثا.

قال آخر: ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قمة السماحة واللين، ومع كل الناس، سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين، كم وصفه الله تعالى بذلك في قوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]

قال آخر (3): أي بسبب ما أودع الله فيك من رحمة، كان منك هذا اللين، وذلك

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (10/ 55)

(2) التفسير القرآني للقرآن (10/ 55)

(3) التفسير القرآني للقرآن (2/ 627)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/264)

العطف على المؤمنين.. وفي هذا كشف للطبيعة البشرية، وأن الناس إنما يألفون من يتألفهم، ويحسن إليهم، ويلقاهم بالصفح الجميل.. وعلى غير هذا من كان حاد الطبع، شرس الخلق، غليظ القلب، لا يقيل عثرة، ولا يغفر زلة.. إنه لن يجد من الناس إلا المقت والنفور.. فإذا صح لإنسان ـ وهو غير صحيح ـ أن يسوى حسابه مع الناس على هذا الوجه، القائم على الغلظة والشدة، والمنتهى به إلى القطيعة والعزلة؛ فإنه لا يصح أبدا، ولا يستقيم بحال، لمن كان بمكان الرياسة والقيادة لأية جماعة من الجماعات، كثر عددهم أو قل.. فإن الخيط الذي يمسك به كيان الجماعة ويشدها إليه، هو ما يفيض عليها من قلبه، من رحمة، وحدب، ولين، ولطف، وإلا تقطعت بينه وبينها الأسباب، ولو كانوا أبناءه وخاصة أهله.

قال آخر (1): ولهذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159]، وفيها بيان لبعض الأسس التي يقوم عليها منهج التربية، التي يأخذ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة المؤمنين.. وأولها العفو عن المسيء.. وفي هذا ما يفتح منافذ قلبه ويصفيه من دواعى الحسرة والألم، وينزع منه وساوس السوء والشر.. وثانيها الاستغفار لهذا المسيء، وطلب الرحمة والمغفرة له من الله.. وهذا إحسان بعد إحسان.. يزيد قلبه صفاء، ونفسه إشراقا، وولاء.

قال آخر (2): فإذا استوت جماعة المسلمين على تلك الصورة الكريمة، فلم يكن فيها مذموم أو مطرود، ولم ينتظم في عقدها النظيم معطوب أو مقهور، كانت جميعها قلبا واحدا، ومشاعر واحدة، تتحرى خير الجماعة، وتنشد أمنها وسلامتها، هنا يجئ ثالث الأسس في مكانه الصحيح: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: 159] حيث تعطي المشورة ثمرتها الطيبة،

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 628)

(2) التفسير القرآني للقرآن (2/ 628)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/265)

التي هي خلاصة ما في القلوب من خير، ومنخول ما في العقول من رأى.

قال آخر (1): وهنا يتضح الأمر المنظور إليه، ولم يبق إلا انعقاد العزم عليه، وإمضائه على الوجه المرسوم.. وهذا ما أمر الله به في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159] الذين يعتمدون عليه، ويفوضون أمرهم إليه، بعد أن يعطوا هذا الأمر كل ما عندهم من رأى وعزم.

قال آخر (2): وهكذا وصف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في آية أخرى بهذا الخلق الرفيع، فقال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، أي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس من فصيلة غير فصيلة البشر، ولذا فإنه يعيش أحاسيسكم ومشاعركم وأفكاركم في روحية من الانفتاح والامتداد والشمول، ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة: 128]، أي إنه يتألم لأية حالة من الجهد والتعب والمشقة فيما قد تقاسونه في حياتكم ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ [التوبة: 128] فيما تستقبلون من قضية المصير في الدنيا والآخرة، تماما كحرص الأم على أولادها عندما تعمل على أن تبعدهم عن كل أذى ومكروه، فلا يريد لكم الضلال، لأن فيه الهلاك، ولا يحب لكم الضياع، لأن في ذلك الخسران كله، ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128] فهو الذي يجسد الرحمة في أقواله وأفعاله ونظراته وعلاقاته، وفي كل خطوات رسالته، حتى كان هو الرحمة للعالمين، كما كانت رسالته كذلك.

قال آخر (3): وقد عقب الله تعالى الآية الكريمة بقوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129]، أي فإن أعرضوا عن

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (2/ 628)

(2) من وحي القرآن (11/ 253)

(3) من وحي القرآن (11/ 253)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/266)

الاستماع إلى دعوتك، والسير في خط رسالتك، بالرغم من كل الأجواء الحميمة الحلوة التي تحيط بها في عمق المشاعر وروعة الأحاسيس، فلا تتعقد من ذلك، ولا تتراجع عن دعوتك في شعور بالخذلان والسقوط، بل انطلق في طريقك انطلاقة الرسول الواثق بربه، المؤمن برسالته، الذي يرى أن من واجبه أداء الرسالة بحسب ما يستطيع، من دون أن يكون مسئولا عن النتائج السلبية ـ إن حدثت ـ لأنها لا تكون ناشئة عن تقصير، بل عن ظروف وأوضاع وأسباب خارجة عن إرادته، وتحرك بقوة، بعيدا عن كل مشاعر الضعف، ﴿فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [التوبة: 129] فهو رب القوة وخالقها، وهو الذي يكفي الإنسان من كل عدو ومن كل شر، ويوحي إليه بالثقة المطلقة، وبذلك يكون التوكل عليه حركة داخلية وخارجية في خط الشعور بالأمن والطمأنينة بسلامة الاتجاه وفاعليته وروحيته ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129] ومن يتوكل على الله فهو حسبه في كل شيء.

قال آخر (1): وتلك هي نقطة القوة لدى المؤمنين عندما يتحركون في خط الرسالة، فلا يشعرون بالضعف إذا خذلهم الناس، بل يجدون الله معهم في كل موقف، فيحسون معه بالقوة التي يستريحون إليها، وينطلقون معها ويستمرون من خلالها على الخط المستقيم.

قال آخر: ولهذا دعا الله تعالى المؤمنين إلى السماحة والعفو والحلم، وكل ما يرتبط بها من أخلاق فاضلة، فقال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133 ـ 134]، ثم ذكر جزاءهم، فقال: ﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ

__________

(1) من وحي القرآن (11/ 254)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/267)

مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 136]

قال آخر (1): ففي هذه الآيات الكريمة دعوة للمؤمنين إلى الإسراع في الحصول على المغفرة من الله بالعمل على تحصيل أسبابها، التي جعلها الله في الانسجام مع خطه المستقيم في العقيدة والتشريع، وفي الوصول إلى الجنة الواسعة التي عرضها السموات والأرض في إيحاء بالامتداد الواسع.. ولعل في هذه الدعوة إلى الإسراع، بعض الإيحاء بأن العمر الذي يعيشه الإنسان فرصة سانحة قد لا تمتد طويلا، فمن الممكن أن يكون قصيرا لا يتسع للانتظار الطويل، فلا بد من اغتنامه كفرصة لا تعوض، مما يقتضي بذلك الجهد في اتجاه الطاعة بأسرع وقت ممكن للحصول على نتائجها الدنيوية والأخروية.

قال آخر (2): ثم ذكر أول صفات المتقين الذين أعدت لهم تلك الجنات، وهي أنهم ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ [آل عمران: 134] وهي تعني الإنفاق على الناس في حالتي الشدة والرخاء، مما يعني أن هذا الإنفاق ليس حالة طارئة في ذات التقي، يختص بأريحية الإنسان في حالات الرخاء، بل هو حالة أصيلة تحرك الإنسان نحو العطاء حتى في أشد حالات الضيق والضر.

قال آخر (3): والصفة الثانية هي: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ [آل عمران: 134]، وهي تدعو إلى تحصيل الإرادة القوية التي يواجه بها الإنسان حالات الانفعال التي تدفعه إلى الاندفاع في تفجير الغيظ الذي تمتلئ به نفسه تجاه الآخرين، فلا يسمح لها بأن تجره إلى ذلك مما لا تحمد عقباه، بل يحاول أن يحبس غيظه في صدره.

__________

(1) من وحي القرآن (6/ 270)

(2) من وحي القرآن (6/ 271)

(3) من وحي القرآن (6/ 271)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/268)

قال آخر (1): والصفة الثانية هي: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 134] والذي يمثل الروح المتسامحة التي لا تنطلق من عقدة نفسية داخلية عندما تكظم غيظها، بل تعمل على التخلص من كل أجواء الغيظ بتفريغ النفس من كل الحالات السلبية التي تثيره وتعقده، وذلك بأن يتلمس أسباب العفو في دراسته للنقص الذي ركب في الإنسان، أو للظروف الداخلية أو الخارجية التي دفعته نحو الخطأ، أو بغير ذلك مما يوحي بالأسباب التخفيفية الباعثة على العفو عنه، وهذا ما يجعل من الأمر بالصبر وكظم الغيظ وسيلة للتهدئة، من أجل دفع الإنسان إلى التفكير الهادئ المتزن الذي لا يتعامل مع العنف، بل يتعامل مع الرفق واللين، ولا يندفع في اتجاه تعقيد المشاكل بل يعمل على حلها مهما أمكن، ذلك هو السبيل الذي يجعل من العفو حالة واعية واقعية بدلا من أن تكون حالة مزاجية طارئة لا ترتكز على أساس من وعي وفكر وإيمان.

قال آخر (2): ثم قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 93]، قد تكون هذه صفة رابعة توحي بأن العفو وحده لا يكفي في إزالة النتائج السلبية إزاء الحالة النفسية التي أوجدها الغيظ، فلا بد من الإحسان لتتحول السلبيات إلى إيجابيات.

قال آخر (3): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى: 40 ـ 43]، أي جزاء سيئة المسيء عقوبته بما شرعه الله من عقوبة مماثلة لجرمه، وسمى هذا الجزاء سيئة مع أنه عقوبة مشروعة من الله

__________

(1) من وحي القرآن (6/ 271)

(2) من وحي القرآن (6/ 272)

(3) تفسير المراغي (25/ 55)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/269)

مأذون بها، لأنها تسوء من تنزل به، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾ [النساء: 78] يريد ما يسوؤهم من المصائب والبلايا.. وفي الآية حث على العفو، لأن الانتصار إنما يحمد إذا حصلت المماثلة في الجزاء، وتقديرها عسر شاق، وربما صار المظلوم حين استيفاء القصاص ظالما.. ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]، وقوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: 126]، وقوله: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾ [الأنعام: 160]

قال آخر (1): ثم دعا الله تعالى إلى الكمال، فقال: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40]، أي فمن عفا عن المسيء وأصلح ما بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء عما صدر منه، فأجره على الله، فيجزيه أعظم الجزاء.. وفي إبهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه زيادة في الترغيب في العفو والحث عليه.

قال آخر (2): ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز والنجاة فقال: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40] أي إنه تعالى لا يحب المتجاوزين الحد في الانتقام، وفي هذا تصريح بحسن رعاية طريق المماثلة، وأنها قلما تخلو من الاعتداء والتجاوز عن الواجب، ولا سيما حال الحرد والتهاب الحمية، وحينئذ يدخل المنتقمون في زمرة من لا يحبهم الله.

قال آخر (3): ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: 41] أي والله لمن انتصر ممن ظلمه بعد ظلمه إياه، فأولئك المنتصرون لا سبيل

__________

(1) تفسير المراغي (25/ 56)

(2) تفسير المراغي (25/ 56)

(3) تفسير المراغي (25/ 56)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/270)

للمنتصر منهم أن يوجهوا إليهم عقوبة ولا أذى لأنهم انتصروا منهم بحق، ومن أخذ حقه ممن وجب له عليه ولم يتعد، لم يظلم فلا سبيل لأحد عليه.

قال آخر (1): ولما نفى السبيل على من انتصر بعد ظلمه بين من عليه السبيل فقال: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الشورى: 42]، أي إنما الحرج والإثم على الذين يبدؤون الناس بالظلم، أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون ما حد لهم، أو يتكبرون في الأرض تجبرا وفسادا.. ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 42] أي هؤلاء لهم عذاب مؤلم بسبب بغيهم وظلمهم.

قال آخر (2): ثم رغب سبحانه في الصبر والعفو فقال: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى: 43] أي ولمن صبر عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى، وستر السيئة، فقد فعل ما يشكر عليه، ويستحق به الأجر وجزيل الثواب.

قال آخر (3): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [التغابن: 14 ـ 15]، ففي الآيتين الكريمتين دعوة للذين استجابوا لله ولرسوله، فآمنوا، أن يعطوا هذا الإيمان حقه، لأنه لا يكفي أن يؤمنوا دون أن يحرسوا هذا الإيمان من الآفات الكثيرة التى تعرض له، وتفسده، أو تذهب به جملة.. ومن تلك الآفات، الفتنة بالزوج والولد، حيث أنهما اللذان يملآن عواطف الإنسان، ويستوليان على مشاعره، وبهذا يكون لهما تأثير بالغ عليه، في مجال الصلاح والفساد جميعا؛ فالزوج والولد، أشبه بالأعضاء العاملة في الجسد، فإن كانا صالحين، سلم الجسد، واقتدر على أداء

__________

(1) تفسير المراغي (25/ 57)

(2) تفسير المراغي (25/ 57)

(3) التفسير القرآني للقرآن (14/ 987)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/271)

وظيفته كاملة، وإن كانا فاسدين، عجز الجسد عن أن يقوم بما هو مطلوب منه، بقدر ما فيهما من فساد.

قال آخر (1): فقوله تعالى: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ﴾ [التغابن: 14] إلفات إلى ما قد يكون من خلاف بين المؤمن وبين زوجه وولده في مجال العقيدة.. ذلك الخلاف الذي كثيرا ما تغطي عليه مشاعر الحب، والعطف، فلا يكاد يشعر المؤمن بما يدخل على إيمانه من ضيم وجور إذا هو استسلم لزوجه أو ولده، وأصغى إلى ما يلقيان إليه من زور وبهتان.. ولهذا جاء قوله تعالى: ﴿فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن: 14] حتى يكون المؤمن دائما، على حذر، وانتباه من هذه الرياح المسمومة التى تهب عليه من أقرب الناس إليه.. والعداوة التى ترد على الإنسان من جهة الزوجة أو الولد، ليست عداوة ذاتية له، وإنما هي عداوة متولدة عن فعل يجئ من قبل الزوجة أو الولد.. فإذا فعلت الزوجة فعل العدو فهي عدو، وإذا فعل الولد فعل العدو، فهو عدو.. وإنه لا عدو أبلغ في عداوته، وأشد في كيده، وأعظم في ضرره ممن يحول بين المرء وبين طاعة ربه..

قال آخر (2): ثم عقب الله تعالى على ذلك بقوله: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التغابن: 14].. وفيها دعوة إلى الرفق في الحذر، والتلطف في لقاء المكروه الذي يجئ إلى المؤمن من زوجه أو ولده.. فإذا كان من واجب المؤمن أن يحذر هذا العدو الكامن في أقرب الناس إليه وآثرهم عنده، فإن هذا العدو يجب أن ينظر إليه من جانب آخر على أنه صديق، وأن هذه العداوة طارئة، وأنه يمكن أن تعالج هذه العداوة بالحكمة، والحسنى، على ألا يكون ذلك على حساب الدين.. وبهذا يمكن أن يبقى المؤمن على هذين

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 988)

(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 989)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/272)

العضوين الفاسدين في جسده، وأن يطب لهما، وأن يعمل على إصلاحهما ما استطاع، وألا يعجل بقطعهما إلا بعد أن يستنفد جميع وسائل العلاج، شأنهما في هذا شأن أعز الأعضاء والجوارح في الجسد.

قال آخر (1): فالعفو، والصفح، والمغفرة من المؤمن، لزوجه وولده، الواقعين في موقع الفتنة له في دينه إنما هو صبر على الأذى، واحتمال الضر، في سبيل الإبقاء على علائق الود، ووشائج القربى التي هي من أمر الدين، ومن طبيعة الحياة.. شريطة ألا يكون ذلك على حساب الدين.. كما قال تعالى فيما بين الولد، والوالدين: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 14 ـ 15]

قال آخر (2): وفي قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [التغابن: 15] تعويض عن التخفف من هذا الحب الذى يحمله الإنسان في قلبه للمال وللولد، وإيثارهما على حب الله والعمل في طاعته.. فالذى عند الله من ثواب، هو خير من الدنيا كلها.

قال آخر (3): وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ﴾ [التغابن: 14] إشارة إلى أن هذا الحكم ليس على إطلاقه.. لأنه ليس كل الأزواج ولا كل الأولاد تجئ منهم العداوة، وإنما يقع ذلك من بعضهم، ولهذا جئ بمن التى تفيد التبعيض.

قال آخر (4): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 34 ـ 35]، أي لا تساوي بين الفعلة الحسنة التي يرضى الله بها

__________

(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 990)

(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 991)

(3) التفسير القرآني للقرآن (14/ 991)

(4) التفسير المنير ـ الزحيلي (24/ 229)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/273)

ويثيب عليها، وبين الفعلة السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها، والمداراة من الحسنة، والغلظة من السيئة.. ولذلك طلب الله من المؤمن أن يدفع من أساء إليه بالإحسان إليه، من الكلام الطيب ومقابلة الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات، واحتمال المكروهات.. ثم أبان الله تعالى نتيجة الإحسان وأثره البعيد، فقال: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34] أي إنك إن فعلت ذلك، فقابلت الإساءة بالإحسان، صار العدو كالصديق.. ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 35] أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها، ويؤتى القدرة على هذه الخصلة وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ‍، واحتمال المكروه، والصبر شاق على النفوس، وما يتقبلها ويحتملها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة، وذو حظ‍في الثواب والخير.

قال آخر (1): ومثل ذلك قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 199 ـ 200]، فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية بثلاثة أشياء هي أسس عامة للشريعة في الآداب النفسية والأحكام العملية.. وأولها العفو، وهو السهل الذي لا كلفة فيه.. أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى ينفروا، كما صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.. وثانيها الأمر بالمعروف.. وهو ما تعرفه النفس من الخير وتأنس به وتطمئن إليه، ولا شك أن هذا مبنى على اعتبار عادات الأمة الحسنة وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة في مصالحها.. وثالثها

__________

(1) تفسير المراغي (9/ 147)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/274)

الإعراض عن الجاهلين، وهم السفهاء بترك معاشرتهم وعدم مماراتهم، ولا علاج للوقاية من أذاهم إلا الإعراض عنهم.

قال آخر (1): وقد قال بعض العلماء في هذه الآية الكريمة: (هذه الآية قد تضمنت قواعد الشريعة، فلم يبق فيها حسنة إلا وعتها، ولا فضيلة إلا شرحتها فقوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ [الأعراف: 199] إيماء إلى جانب اللين ونفى الحرج في الأخذ والإعطاء وأمور التكليف، وقوله: ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [الأعراف: 199] تناول جميع المأمورات والمنهيات، وأنهما ما عرف في الشريعة حكمه، واتفقت القلوب على علمه، وقوله ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199] تناول جانب الصفح بالصبر الذي يتأتى للعبد به كل مراد في نفسه وغيره)

قال آخر (2): ومثل ذلك دعا الله تعالى إلى السماحة مع غير المسلمين، فقال: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، فالآية الكريمة تدعو إلى هذا المبدأ العام الذي قامت عليه الشريعة السمحاء، من الإخاء الإنسانى، القائم على العدل والإحسان.. وأن هذه القطيعة التي فرضها الإسلام على المسلمين فيما بينهم وبين أهلهم من المشركين، إنما هي قطيعة لقوم قطعوا أرحام قومهم، وقاتلوهم، وأخرجوهم من ديارهم.. إنهم في حال حرب، معهم لم تنته بعد، وأن المشركين ما زالوا ينتظرون الفرصة التي تمكنهم من المؤمنين.. وفي موالاة المؤمنين لهم توهين للمؤمنين، وتمكين للمشركين من مقاتلهم.. فإذا لم يكن من قوم عداوة بادية للمؤمنين، أو قتال لهم، أو مساندة لمن قاتلهم ـ فإن موقف المؤمنين من هؤلاء القوم، ينبغى أن يقوم على السماحة، وعلى العدل والإحسان.

__________

(1) تفسير المراغي (9/ 148)

(2) التفسير القرآني للقرآن (14/ 903)

القرآن.. والهداية الشاملة (2/275)

قال آخر (1): وقد أكد ذلك بقوله بعدها: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: 9]، أي إنما ينها كم الله تعالى عن موالاة الذين ناصبوكم العداوة فقاتلوكم وأخرجوكم أو عاونوا على إخراجكم كمشركى مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين، وبعضهم أعان المخرجين.. ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الممتحنة: 9] لأنهم تولوا غير الذين يجوز لهم أن يتولوهم، ووضعوا ولايتهم في غير موضعها، وخالفوا أمر الله في ذلك.

السخاء

خرجت من [ساحة التسامح] إلى [سوق السخاء]، وهي سوق عجيبة لم أر مثلها في عصرنا، حيث كان التجار فيها، يسلمون البضائع بالمجان لكل من يطلبها من المتسوقين، وكان المتسوقون من أعف الناس، حيث أنهم لم يكونوا يأخذون إلا قدر حاجتهم.

وفي وسط ذلك السوق رأيت جمعا من الناس، يجتمعون حول رجل، وهو يقول لهم: