×

الكتاب: القرآن.. وانتحال المبطلين ج2

الوصف: رواية حول الشبهات المثارة على القرآن الكريم والرد عليها

السلسلة: التنزيل والتأويل

المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية، 1443 هـ

عدد الصفحات: 543

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-4-72150-7

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

هذا الكتاب هو المقدمة الضرورة الرابعة لهذه السلسلة، ويتناول القسم الثاني من أقسام المنحرفين عن القرآن الكريم، وهو القسم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [انتحال المبطلين]

ومن خلال تحليل ذلك التعبير النبوي المقدس، رأينا أن المقصود منه تلك الجهات التي تريد نشر الباطل، وتشويه الحق، لا بالمواجهة المباشرة، وإنما بالانتحال، وأصناف الحيل.

وقد رأينا من خلال استقرائنا للواقع أن ذلك الانتحال قد تم من طرف أربع جهات، أولها وأسبقها من يطلق عليهم لقب [الحشوية]، وهم أولئك الرواة والمدلسين الذين امتلأت بهم كتب الحديث والتفسير، والذين كان لهم دور كبير في نشر الخرافة والدجل والشعوذة وتشويه الحقائق والقيم القرآنية.

وأما الجهة الثانية؛ فيمثلها من أطلقنا عليهم لقب [الكشفية]، وهم أولئك الذين اعتبروا الكشف والإلهام المجرد أداة من أدوات تأويل القرآن الكريم وتفسيره وفهمه، من غير مراعاة لأي ضابط أو قانون.

وأما الجهة الثالثة؛ فيمثلها من أطلقنا عليهم لقب [المشككين]، ونقصد بهم كل من حاول أن يشكك في القرآن الكريم، ابتداء من السابقين من المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المبشرين والمستشرقين والحداثيين وغيرهم.

وأما الجهة الرابعة؛ فيمثلها من أطلقنا عليهم لقب [المبدلين]، ونقصد بهم كل الذين حاولوا أن ينحرفوا بالقرآن الكريم عن معانيه الظاهرة الواضحة التي فهمها المتقدمون والمتأخرون إلى معاني بديلة، متأثرين في ذلك بموجة الحداثة الغربية ومناهجها المختلفة، ولذلك تعاملوا مع القرآن الكريم، مثلما تعامل حداثيو الغرب مع الكتاب المقدس، من غير أن يراعوا الفوارق بين الكتابين.

القرآن.. وانتحال المبطلين (9)

تقديم

هذا هو الجزء الثاني من كتاب [القرآن وانتحال المبطلين]، وهو يتضمن ما يلي:

الفصل الثالث ـ القرآن والمشككون: وقد تطرقنا فيه إلى الجهة الثالثة التي يمثلها من أطلقنا عليهم لقب [المشككين]، ونقصد بهم كل من حاول أن يشكك في القرآن الكريم، ابتداء من السابقين من المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المبشرين والمستشرقين والحداثيين وغيرهم.. والذين استعملوا سلاح التشكيك، وسيلة لإلغاء قداسة القرآن الكريم، وذلك عبر بث شبه وإشكالات يكررونها بصيغ مختلفة.

الفصل الرابع ـ القرآن والمبدلون: وقد تطرقنا فيه إلى الجهة الرابعة التي يمثلها من أطلقنا عليهم لقب [المبدلين]، ونقصد بهم كل الذين حاولوا أن ينحرفوا بالقرآن الكريم عن معانيه الظاهرة الواضحة التي فهمها المتقدمون والمتأخرون إلى معاني بديلة، متأثرين في ذلك بموجة الحداثة الغربية ومناهجها المختلفة، ولذلك تعاملوا مع القرآن الكريم، مثلما تعامل حداثيو الغرب مع الكتاب المقدس، من غير أن يراعوا الفوارق بين الكتابين.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/10)

ثالثا ـ القرآن.. والمشككون

في اليوم الثالث، وبعد أن منّ الله علي بالجلوس مع معلمي والحكماء السبعة، وسمعت الكثير من أخبارهم غير التي حكيتها لكم في كتاب [الطائفيون والحكماء السبعة]، والتي قد أحكيها لكم في مناسبات أخرى، سمعنا صائحا يصيح في سوق المدينة: من أراد أن يرى المبطلين من المشككين من أهل المدينة، وهم يخلعون أثواب التشكيك، ويلبسون ثياب اليقين؛ فليحضر إلى الساحة الكبرى، أمام المسجد الجامع؛ فهناك ينتظرونكم، لينفذوا قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 160].. فلا توبة ولا صلاح بلا بيان.

سألت معلمي عنهم، فقال: سل الحكماء عنهم.. فهم سبب توبتهم.

قال أحد الحكماء: بل الله تعالى هو الذي هداهم، ونحن ما أدينا سوى واجبنا.

قلت: كيف تم ذلك بهذه السرعة؟.. ومن هم هؤلاء المبطلون المشككون؟

قال: هؤلاء شباب تتلمذوا على أيدي كل الحاقدين على القرآن الكريم والنبوة، ولذلك سرت إليهم الكثير من شبهاتهم وتشكيكاتهم.. وقد حضروا بها معهم، وصاروا يفتنون بها من لا يعرف الإجابة عليها.

قال آخر: والحمد لله.. لقد كان لتوبة الحشوية والكشفية تأثير كبير فيهم، جعلهم يستعدون لما نقول لهم.. ذلك أنهم كانوا يواجهون كل من يرد عليهم بما في كتب الحشوية والكشفية من خرافات ودجل؛ فلما تبين لهم دخنها ودجلها وبعدها عن القرآن الكريم، سقط السلاح الأكبر من أيديهم، وسهل علينا بعد ذلك حوارهم.

قال آخر: وقد دعوناهم بعد قناعتهم إلى الاجتماع بالناس، والإجابة على الإشكالات التي كانوا يشوشون بها عليهم، لكنهم رفضوا خشية على سمعتهم.. لكن ها

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/11)

هم قد استجابوا لذلك، والحمد لله رب العالمين.

قال آخر، يوجه الخطاب لي: لا تنس أن تكتب كل ما يقولون، حتى ما يبدو لك من عدم علاقته بالتشكيك؛ فللتشكيك مقدماته.. ومن لم يفهم المقدمات، لم يفهم النتائج.

قلت: طبعا أنا أفعل كل ما طلبه مني معلم القرآن وجميع المعلمين الذين أرسلهم.. فدوري هو الكتابة، ولا يهمني بعدها هل وعيت أم لم أع.. فعسى أن يكون من القراء من يعي ما لم أعه.. ورب مبلَّغ أوعى من سامع.

بعد أن وصلنا إلى الساحة الكبرى، أمام الجامع الأعظم، رأينا مجموعة من الشباب، يلتف حولهم الكثير من الناس، قال كبيرهم: قبل أن نبدأ في بيان ما جمعناكم لأجله، نود أن نشكر أولئك الحكماء الطيبين الذين لم يعرفوا منهلا غير تلك المنابع الصافية التي لم تتدنس؛ فلولاهم لظللنا في شكنا وضلالنا، ولاستمررنا في تشكيكم وتضليلكم.

قال آخر: لكنا بعدما رأيناهم، وهم يردون على الحشويين وخرافاتهم، والكشفيين وأوهامهم، علمنا أن القرآن الكريم أطهر من أن تمثله تلك الأباطيل، أو أولئك المبطلون.

قال آخر: وقد شاء الله أن نلتقي بعد تلك المجالس بأولئك الحكماء، ونسألهم عن الشبهات التي ملئت بها عقولنا، وقد أجابونا عليها جميعا.. ولذلك نحن نتوب إلى الله من كل ما كنا نوحي به إليكم من الوساوس التي لم نكن سوى ضحايا لها.

قال آخر: وقد اجتمعنا في هذا المجلس بكم، لتوفروا لنا صدق توبتنا؛ فلا توبة لداعية ضلالة ما لم يحذر من ضلالته، بمثل ما كان يدعو إليها.

قال كبيرهم: وقبل ذلك اسمحوا لنا أن نخبركم عنا، وعن سر تلك الشبهات والشكوك التي عرضت لنا، ومن أوحاها إلينا، ومن شجعنا عليها، حتى تأخذوا حذركم، فلا يتسرب إليكم من يشككم غيرنا.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/12)

قال آخر: أنتم تعلمون أنا كنا متفوقين في الدراسة والعلم بين أهلنا، وكان أهلنا ذوي مال وجاه، ولذلك أذنوا لنا في الخروج خارج مدينتنا لنتلقى العلم في غيرها من البلاد، وهناك وجدنا من يوجهنا إلى غير الوجهة التي أرادها منا أهلنا.

قال آخر: لقد أرسلنا أهلنا لنتعلم من العلوم الحديثة والتقانة ما نوفر به ما تحتاجه مدينتنا من حاجات، لكن الذين استقبلونا هناك راحوا يزجون بنا في مدارس وجامعات تشرح لنا ديننا بغير ما تعلمناه.

قال آخر: ولم يكن لنا قدرة على الخروج منها إلى غيرها، ذلك أنها الوحيدة التي كان يسمح لنا بدخولها بحسب المال الذي أحضرناه معنا، والذي لم نصر بحاجة إليه بعدما وفروا لنا في تلك المدارس والجامعات كل ما نحتاجه من حاجات.

قال آخر: وكل ذلك في سبيل سلب اليقين من عقولنا، والإيمان من قلوبنا.. وقد تحقق لهم الكثير من ذلك، لولا أن قيض الله لنا الحكماء الذين دلونا على الحقيقة، ودعونا إلى الإقرار بها.

قال آخر: لقد استعمل أولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120] كل الوسائل التي تضللنا عن ديننا، ابتداء من الأساتذة الذين يدرسوننا، والمقررات التي قررت لنا، وطلب منا حفظها، وانتهاء بتلك الحوافز التي أتاحوها لكل من يسلك سبيلهم، أو يسير معهم.

قال آخر: وقد كان نتيجة ذلك أن تسربت إلينا الكثير من الشكوك والشبهات التي سربناها إليكم، كما سربت إلينا.. وأولها التشكيك في كون القرآن الكريم وحيا إلهيا بناء على ما وجد في البيئة التي عاش فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ديانات وأفكار.. ولذا كنا ـ عند ذكر أي

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/13)

عقيدة أو شريعة أو قصة في القرآن الكريم ـ نذكر لكم أن مصدرها اليهودية أو المسيحية أو الصابئة أو غيرهم.

قال آخر: ومنها التشكيك في الوحي الإلهي، واعتباره ـ كما أوحى إلينا شياطين التشكيك ـ نوعا من الوساوس أو الأمراض النفسية والعصبية.

قال آخر: ومنها التشكيك في حفظ القرآن الكريم، وكونه قد تعرض بمرور الزمن للزيادة والنقصان والتحريف.

قال آخر: ومنها التشكيك في الحقائق التي وردت في القرآن الكريم، وعدم اختلافها وتناقضها.

قال آخر: ومنها التشكيك في الحقائق التي وردت في القرآن الكريم، وعدم تعارضها مع العقول السليمة والعلم القطعي.

قال آخر: ومنها التشكيك في لغة القرآن الكريم وأسلوبه وبلاغته.

1. منابع التشكيك

قال أحد الحضور: فحدثونا عن الجواب عن تلك الشبهات التي سمعناها منكم كثيرا.

قال أحد المشككين: سنفعل ذلك إن شاء الله، وما اجتمعنا بكم هنا إلا لهذا الغرض، لكن قبل ذلك سنتحدث لكم عن منابع التشكيك، والتي لا تزال تبث سمومها كل حين لتحجب عن الغافلين نور الهداية الإلهية.. فمن لا يعرف منابع الشر، سيقع فيه لا محالة.

أ. مصادر التشكيك

قال أحد الحضور: فحدثونا عن المصدر الأول الذي نبعت منه كل التشكيكات

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/14)

والتضليلات.

قال أحد المشككين: هو ما ذكره القرآن الكريم عن الشيطان عدو البشر الأكبر، والذي توعد أن يستعمل كل الوسائل لإغوائهم، كما قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: 39، 40]، فالآيتان الكريمتان تلخصان المصدر والمنهج الذي تعتمده كل التشكيكات والتضليلات التي يتعرض لها الإنسان، وهو منهج التزيين والإغواء، وهو لا يعني أن الشيء المزين يحمل أي حقيقة جمالية، ولكنه يعني أن ذلك المزين وضع بصورة بحيث تُقبل عليه العين، أو يقبل عليه الذوق، ثم يقع الإنسان فريسة له بعد ذلك، مثلما يقع المدمن فريسة لذلك الشراب، أو تلك المخدرات التي استعملها مرات عديدة إلى أن صارت متحكمة فيه.

قال آخر: ولذلك أخبر الله تعالى أن من تزيينات الشيطان للمشركين قتل أولادهم، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 137] فمع أن هذه الظاهرة لا تتناسب أبدا مع ما جبل عليه الإنسان من قيم الرحمة والحنان، وخصوصا على الأولاد إلا أن الشيطان عبر أدواته المختلفة، استطاع أن يجعل من ذلك التصرف سلوكا عاديا طبيعيا، أقره المجتمع، وراح يجد من يدافع عنه.

قال آخر: وهكذا نستطيع من خلال هذه الرؤية القرآنية أن نكتشف المصادر والمناهج التي تعتمدها كل الأفكار والفلسفات التي انحرفت بالإنسان عن الهدي الإلهي، لتجعله فريشة للخطة الشيطانية لإغواء الإنسان.

قال آخر: ولذلك يمكن اعتبار كل ما ذكره المستشرقون والحداثيون وغيرهم ليس سوى وحيا مزخرفا من القول، ذلك الذي ذكره الله تعالى فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/15)

عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام: 112 ـ 113]

العصور الأولى

قال آخر: ولذلك ـ عند استقصاء وتحليل ما ذكره المستشرقون ـ نجده نفس ما ردده من قبلهم كل المنكرين والحاقدين على القرآن الكريم، والذين لم ينطلقوا من البحث العلمي، وإنما من الهوى المجرد، وأولهم قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين، أو اليهود، أو النصارى، أو غيرهم من الذين لم يتدبروا بصدق قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في الحديث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ﴾ [مريم: 28]، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا.. فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألته عن ذلك فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم)(1)، وللأسف؛ فإن هذا الطعن الذي ذكر في الحديث، ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاب عليه، إلا أنه لا يزال يردد إلى يومنا هذا.

قال آخر (2): وقد ذكر الله تعالى كثيرا من المشككين من قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر تشكيكاتهم، وهي نفس ما يردده المستشرقون والحداثيون وغيرهم.. ومن الأمثلة على ذلك رده على من ادعى أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن، فقد قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: 31]؛ فتحداهم

__________

(1) مسلم، رقم: 213.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 43.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/16)

الله تعالى أن يأتوا بمثله فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.

قال آخر (1): ومثل ذلك رده على من زعم أن القرآن الكريم إنما هو من قصص الأولين وأساطير السابقين، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [النحل: 24]، وقال: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 5 ـ 6]، فرد الله عليهم أنه لا يعرف أن يقرأ ولا يكتب، فكيف ينقلها!؟.. ثم هذه الأساطير ليست خاصة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي كتب للجميع، فلماذا لا تحضرون لنا هذه الكتب التي نقل منها؟

قال آخر: ومثل ذلك رده على من زعم أن القرآن الكريم من تأليفه وإنشائه صلى الله عليه وآله وسلم، لكونهم يستكثرون عليه أن يكون من إنتاجه وحده فقالوا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ [الفرقان: 4]

قال آخر: ومنهم من نفى أن يكون قد جاء بشيء منه من عنده، بل زعموا أن معلمه بشر، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103]

قال آخر: ومنهم من هون الأمر فقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنعام: 25]، وقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: 31]، وقال: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المطففين: 13]

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 43.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/17)

قال آخر: وهكذا كان منهم من وصفه بالكهانة، والجنون، والشاعرية، والسحر.. وكل ذلك لإنكار نزول الوحي عليه.

قال آخر: وهم يتناقضون في كل ذلك.. فقد كانوا يصفونه قبل البعثة بالصادق الأمين، لكنه بمجرد دعوتهم للحق، وبالبينات الواضحة صاروا يتهمونه بالكذب.

قال آخر: ولذلك استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحجة في دعوته لهم، فقد قال لهم في أول بعثته: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا)(1)

قال آخر: وفي استجواب هرقل لأبي سفيان بالسؤال عن حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: لا.. وفي نهاية الحوار قال له: (ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله)(2).

قال آخر: ونفى الوليد بن المغيرة بشدة احتمال كذبه وافترائه صلى الله عليه وآله وسلم على الله بقوله: (وتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب)؟ فقالوا: (لا)(3).

قال آخر: أما زعمهم أنه (إفك افتراه)؛ فإنه هروب من الحقيقة، ذلك أن البلغاء والشعراء والحكماء عجزوا بعد أن قد تحداهم وأمهلهم ثلاثا وعشرين سنة.. فعجزهم يدل على كذبهم، وتناقض أقوالهم.

قال آخر: ومثل ذلك ما ذكروه من أوهام لا تستحق المناقشة، ولهذا اكتفى القرآن الكريم بإيرادها والرد عليها إجمالها، لا تفصيلا لتفاهتها، ذلك أن منشأها هو العجز عن كبت دعوة الحق، فلذلك لجؤوا إلى الإنكار والسخرية كنوع من الحرب النفسية المنظمة (4).

__________

(1) البخاري ص 1013 برقم 4770.

(2) البخاري، رقم 7.

(3) نور اليقين ص 43، النبوة في ضوء العلم والعقل ص 287.

(4) النبوة في ضوء العلم والعقل ص 304.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/18)

قال آخر (1): ومن ذلك اعتبارهم له كاهنا ـ وهو الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفية؛ مستمدا لها من الجن ـ فهل يقبل عقل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كاهنا لأنه أخبر ببعض الغيب؟ ولم نسمع أن كاهنا وضع كتابا ـ لا قبله، ولا بعده ـ فضلا عن أن يضع كتابا كالقرآن الكريم (2).

قال آخر (3): ومن ذلك اعتبارهم له مجنونا، والجنون اختلال في العقل يحرم صاحبه من سداد التصرف.. فإن كانوا صادقين فلماذا حكموه في أصعب مشكلة مرت بهم، وهي وضع الحجر الأسود في مكانه عند بناء البيت، وهم يعلمون أن المجنون لا يتبعه عاقل يحترم نفسه، وهذا تناقض أثبتوه بقولهم إنه: ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾ [الدخان: 14]

قال آخر: ومن ذلك اعتبارهم له شاعرا، مع أن هناك فروقا جوهرية بين ما جاء به من القرآن وبين الشعر، ولو كان شاعرا لقرب إليه الشعراء وجالسهم، والذي حصل عكسه كما قال الله عز وجل: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 224 ـ 227]

قال آخر: ومن ذلك اعتبارهم له ساحرا، والسحر وهو خداع للأبصار بحركات لطيفة غريبة يأتي بها السحرة، وقد أجمع أئمة الكفر على هذا الوصف، واتفقوا عليه بعد أن نفوا عنه ما سبقه من أوصاف؛ لأنهم رأوا أنه يسعفهم أن يقولوا: (يفرق بين المرء وأخيه)، ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم حمل على السحرة والكهنة والشعراء والشياطين، فلو كان متصلا بهم وناقلا عنهم لما صدر منه مهاجمتهم ولا تحقيرهم.

__________

(1) آراء المستشرقين حول مفهوم الوحي، ص 11.

(2) النبوة في ضوء العلم والعقل ص 304.

(3) آراء المستشرقين حول مفهوم الوحي، ص 11.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/19)

قال آخر: فتبين بهذا كله اضطرابهم في موقفهم من نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالذين رموه بالجنون والسحر والشعر والكهانة، هم أنفسهم الذين نفوا عنه هذه الأكاذيب.

قال آخر (1): هذه هي جل آراء المشركين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول الوحي.. وهي نفسها الآراء التي تناولها المستشرقون، وتوسعوا فيها مدعين أنهم ألبسوها ثوب البحث العلمي، مع أنها تكرار لآراء المشركين نفسها.

قال آخر: وهكذا استمر المشككون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أئمة الهدى، والراسخون في العلم يجيبونهم عن إشكالاتهم وشبههم بكل المناهج التي أمرنا الله تعالى بها، كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125].. فالحكمة تجذب أصحاب العقول والفطر السوية.. والموعظة الحسنة تستميل أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والذين تلين قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق.. أما من يحتاج فهمه إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت: 46]

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما روي أن نافع بن الأزرق، وعطية أتيا ابن عباس فقالا: يا ابن عباس، أخبرنا عن قول الله تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ﴾ [المرسلات: 35] وقوله: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر: 31]، وقوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 23]، وقوله: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 42]، فقال: (ويحك يا ابن الأزرق، إنه يوم طويل وفيه مواقف، تأتي عليهم ساعة لا ينطقون، ثم

__________

(1) آراء المستشرقين حول مفهوم الوحي، ص 11.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/20)

يؤذن لهم فيختصمون، ثم يكون ما شاء الله يحلفون ويجحدون، فإذا فعلوا ذلك ختم الله على أفواههم، وتؤمر جوارحهم، فتشهد على أعمالهم بما صنعوا، ثم تنطق ألسنتهم فيشهدون على أنفسهم بما صنعوا، وذلك قوله: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 42] (1)

قال آخر: ومثله ما روي عن عبد الله بن الصامت قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أرأيت قول الله ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ﴾ [المرسلات: 35]؟ فقال: (إن يوم القيامة له حالات وتارات، في حال لا ينطقون وفي حال ينطقون)(2).

قال آخر: ومثله ما روي عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي؛ قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: 101]، وقال: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [الصافات: 27]، وقوله ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 42]، وقوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية؟، وقال: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 27 ـ 30] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 9 ـ 11] فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء.. وقال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 96] و﴿وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 99] و﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 104] و﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ [النساء: 126] فكأنه كان ثم مضى؟

__________

(1) تفسير ابن كثير (2/ 307)

(2) فتح الباري لابن حجر العسقلاني (8/555.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/21)

قال آخر: وقد أجابه ابن عباس على هذه الإشكالات جميعا، فقال: ﴿فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: 101] في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر: 68] فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [الصافات: 27].. وأما قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 23]، وقوله: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 42]، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فقال المشركون: تعالوا نقل لم نكن مشركين، فختم على أفواههم، فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ [الحجر: 2].. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 99] سمى نفسه ذلك، وذلك قوله أي لم يزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله (1).

العصور التالية

قال آخر: وقد استمرت الإشكالات والتشكيكات بعد ذلك؛ فاضطر العلماء للتأليف فيها، واختلفت مناهجهم في ذلك، وقد ذكر السيوطي أن أول من ألف فيه هو محمد بن المستنير أبو على البصري المعروف بقطرب، وهو أحد العلماء بالنحو واللغة، واسم كتابه [الرد على الملحدين في متشابه القرآن] (2)

قال آخر: وقبله كتب سفيان بن عيينه الهلالي الكوفي، [ولد سنة 107 هـ] كتاب [جوابات القرآن]، لكن هناك من شكك في صحته، فقد قال ابن أبي حاتم في [الجرح

__________

(1) البخاري معلقا (كتاب تفسير القرآن، باب: سورة حم السجدة (فصلت))، وقال الحافظ ابن حجر كما في الفتح (8/418): وصله الطبري وابن أبي حاتم بإسناد على شرط البخاري في الصحة.

(2) الإتقان في علوم القرآن (3/79)، وانظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/53)، والفهرست لابن النديم (1/57.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/22)

والتعديل] في ترجمة كاكا الرازي: روى عن الحميدي عن بن عيينة (جوابات القرآن) وروى عن الأصمعي أخبرنا عبد الرحمن، قال: سألت أبى عنه فقال: (هذا كذاب لم يكن عند الحميدي من هذا شيء، وهذا شيخ كذاب)(1)

قال آخر: وقبلهما كتب أبو الحسن مقاتل بن سليمان البلخي، كتاب [الجوابات في القرآن]، لكنه كان من الحشوية المجسمة، وقد اتفق الجميع على عدم وثاقته، وقد قيل: إنه قال: سلوني عما دون العرش، فقالوا: أين أمعاء النملة؟ فسكت.. وسألوه: لما حج آدم من حلق رأسه؟ فقال: لا أدري.. قال وكيع: كان كذابا.. وقال البخاري: مقاتل لا شيء ألبتة.. وقال الذهبي: (أجمعوا على تركه)(2)

قال آخر: لكن كل هذه الكتب مفقودة، ولعل أقدم الكتب التي وصلت إلينا في هذا العلم مفردا، كتاب أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل: المروزي الكاتب، صاحب كتاب [مشكل القرآن] (3)

قال آخر: وأما الجواب عن بعض الإشكالات القرآنية في ثنايا الكتب، من غير إفراد لهذا الموضوع، فكثير.. لكن دخلها جميعا داء الطائفية المقيت؛ فلذلك لم تراع في تلك الردود القرآن الكريم بقدر ما راعت طوائفها.. ومن الأمثلة على ذلك الإمام أحمد، الذي خصص القسم الأول من كتابه [الرد على الزنادقة والجهمية] في الرد على من زعم أن القرآن متناقض، وأسماه باب بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن وذكر فيه اثنتين وعشرين مسألة.. ومثل أبو الحسين محمد بن أحمد الملطي، والذي صنف كتابه [التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع]، وقد أفرد فيه بابا لمتشابه القرآن، وما يتوهم أنه من الاختلاف والتناقض،

__________

(1) الجرح والتعديل (7/198)

(2) سير أعلام النبلاء (7/201 ـ 202)

(3) اسير أعلام النبلاء (13/296 ـ 300)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/23)

نقل فيه ما أخذه عن مقاتل بن سليمان (1).

قال آخر (2): وقد ألفت بعد ذلك الكثير من الكتب المفردة التي تجيب على الإشكالات، وترد على الشبهات والتشكيكات.. ومن أمثلتها ما ألف في الجواب على الإشكالات اللغوية والنحوية.. ومن الأمثلة عنها كتاب [مشكل إعراب القرآن] لأبي بكر محمد مكي بن أبي طالب حموش بن حمد بن مختار القيسي المقرئ (3).. وكتاب [إعراب مشكل القرآن] لأبي العباس ثعلب أحمد بن يحيي بن يزيد الشيباني.. وغيرهما.

قال آخر (4): ومنها الكتب المؤلفة في [المتشابه أو المشتبه]، ومن أمثلتها كتاب [الآيات المتشابهات] لبقي بن مخلد، و[أضواء على متشابه القرآن] لخليل ياسين، و[تأويل متشابهات القرآن] لابن شهر آشوب وغيرها.

قال آخر: ومنها الكتب المؤلفة في [موهم الاختلاف] أو [مختلف القرآن]، كما سماه الزركشي في البرهان: (معرفة موهم المختلف)(5)، وسماه السيوطي في الإتقان: (مشكله وموهم الاختلاف والتناقض)، وقد أخذوا هذا الاسم من قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].. ومنها كتاب [دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب] لمحمد الأمين الشنقيطي، وهو يتحدث عن نوع واحد من الطعون، وهو ما قد يبدو متناقضا من الآيات الكريمة.

قال آخر (6): ومنها الكتب المؤلفة في [أسئلة القرآن]، أي الأسئلة التي يطرحها بعض الناس بقصد التشكيك في كتاب الله تعالى؛ ومنها كتاب [البرهان في مسائل القرآن] للجماعيلي المقدسي، و[التبيان في مسائل القرآن] لرضي الدين القزويني.. وبعضهم يسميها

__________

(1) انظر: رسالةموهم الاختلاف والتناقض في القرآن، ص 17.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 51.

(3) شذرات الذهب (2/260.

(4) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 55.

(5) البرهان في علوم القرآن (2/53.

(6) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 31.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/24)

[جوابات القرآن]؛ باعتبار الجواب على هذا السؤال، ككتاب [الجوابات في القرآن] لمقاتل بن سليمان، وبعضهم يجمع بين الاسمين مثل [أسئلة القرآن وأجوبتها] لأبي بكر الرازي.

قال آخر (1): ومنها الكتب المؤلفة في [مشكل القرآن]، وهي كثيرة، منها كتاب [تأويل مشكل القرآن] لابن قتيبة.. و[فوائد في مشكل القرآن] للعز بن عبد السلام.. و[مشكلات القرآن] لمحمد أنور الكشميري.. و[مشكل القرآن] للحكيم الترمذي.

قال آخر: وللأسف.. فإن هذه الكتب وغيرها مع كونها مؤلفة للرد على الإشكالات والشبه إلا أنها أصبحت مصادر للمشككين ينقلون منها الشبهات والإشكالات والتشكيكات، لعلمهم أن جماهير الناس لا تعرفها، ولا ترجع إليها.

ب. مناهج التشكيك

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن المناهج التي اعتمدها المشككون، وخاصة المتأخرين منهم، والذين جمعوا كل تشكيكات العصور السابقة.

قال أحد المشككين: كما استفاد المشككون المتأخرون من كل المصادر السابقة؛ فقد استفادوا أيضا من مناهجها، ولذلك تراهم أحيانا بصورة الوثنيين الحاقدين، أو اليهود الماكرين، ولو كانوا يرتدون مآزر البحث العلمي، لكنهم في حقيقتهم لا يختلفون عن أبي جهل وأبي سفيان وأبي بن كعب وحيي بن أخطب.

قال آخر: ذلك أنهم دأبوا في تحرير أبحاثهم عن الدراسات الإسلامية على ميزان غريب في البحث العلمي، حيث يضعون في أذهانهم فكرة معينة، ويسعون إلى تصيد الأدلة لإثباتها، بحيث لا يهمهم صحة الدليل بمقدار ما يهمهم إمكان الاستفادة منه لدعم آرائهم الشخصية.

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 31.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/25)

قال آخر (1): ولذلك نراهم يقومون بجمع المعلومات التي ليس لها علاقة بالموضوع من كتب الديانة والتاريخ والأدب والشعر والرواية والقصص، أو المجون والفكاهة، فيقدمونها بعد التمويه بكل جراءة، ويبنون عليها نظرية لا وجود لها إلا في نفوسهم وأذهانهم.

قال آخر (2): وهكذا نراهم يستنبطون الأمر الكلي العظيم من حادثة جزئية بسيطة مظنونة أو مكذوبة، كما فعلوا ذلك في موضوع الوحي، يتصيد كل منهم حادثة فيبني عليها، ويجودها ما أمكنه لتمكينها في النفوس، مثل حادثة لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لورقة بن نوفل، أو بحيرا، أو الحداد الرومي، ويزعمون أنه أخذ منهم أو تتلمذ عليهم.

قال آخر (3): وهكذا نراهم يعتمدون على الوهم المجرد لتفسير الأمور، فقد فسروا ظاهرة الوحي بحديث النفس وإلهاماتها تارة، وبالنوبات الانفعالية أخرى، وبالتنويم الذاتي أو التجربة الذهنية المرضية كالصداع الهستيري.

قال آخر: لكن من باب الأمانة العلمية، والشهادة لله، والصدق الذي أمرنا به، نذكر أن هناك الكثير من المستشرقين المنصفين، والذين كانوا أول من أدخل علينا الشك فيما ذكره المستشرقون الحاقدون.

قال آخر: ومنهم المستشرق إدوارد مونتيه الذي قال: (كان محمد نبيا بالمعنى الذي يعرفه العبرانيون القدماء، ولقد كان يدافع عن عقيدة خالصة لا صلة لها بالوثنية)(4)، وقال: (كان محمد نبيا صادقا، كما كان أنبياء بني إسرائيل في القديم، كان مثلهم يؤتى رؤيا ويوحى إليه)(5)

__________

(1) الإسلاميات بين كتاب المستشرقين والباحثين المسلمين، ص 16.

(2) أجنحة المكر الثلاثة، ص 141.

(3) آراء المستشرقين حول مفهوم الوحي، ص 18.

(4) المدينة الشرقية ص 47 نقلا عن الشيباني، الرسول في الدراسات الاستشراقية ص 117.

(5) الوحي المحمدي ص 45.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/26)

قال آخر: كما تصدت المستشرقة الإيطالية لورا فكشيا للمستشرقين الحاقدين، ودافعت عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتفنيد الأكاذيب التي كانت تشاع عنه في القرون الوسطى (1).

قال آخر (2): ومثلهما وقف المستشرق السويسري حنا مواقف نبيلة في دفاعه عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد دراسته الوثائق التاريخية.

قال آخر: ومثلهم أكد المستشرق جون وانتبورت أن الدراسات التاريخية تسقط كل الأكاذيب التي أشاعها أعداء الإسلام بقوله: (بقدر ما نرى صفة محمد الحقيقية بعين البصيرة والتروي في المصادر التاريخية الصحيحة.. وقد جاء بشرع لا يسعنا أن نتهمه فيه)(3)

قال آخر: ومثلهم قال المستشرق كارل هينرش بيكر، مؤسس مجلة العالم الإسلامي: (لقد أخطأ من قال إن نبي العرب دجال أو ساحر؛ لأنه لم يفهم مبدأه السامي، إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم جدير بالتقدير، ومبدأه حري بالاتباع، ليس لنا أن نحكم قبل أن نعلم، وإن محمدا خير رجل جاء إلى العالم بدين الهدى والكمال، كما أننا لا نرى أن الديانة الإسلامية بعيدة عن الديانة المسيحية)(4)

قال آخر (5): ومثلهم المستشرق الروسي جان ميكائيليس والمستشرق الفرنسي دينيه، وتوماس كارليل، ولامارتين، والكونت كاستري، والباحث الأوروبي سنكس، والفيلسوف الروسي تولستوي، والبروفيسور ليك، والإنجليزي توماس آرنولد.

قال آخر: هؤلاء وغيرهم من المستشرقين المنصفين كانت لهم اعترافات بنزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصرحوا بصدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد دراسة عميقة، بعدل وإنصاف؛ لأنهم وجدوا في شخصه كل ما يدل على صدق نبوته وصحة رسالته، ثم قاموا بنشرها في

__________

(1) الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة ص 388.

(2) آراء المستشرقين حول مفهوم الوحي، ص 25.

(3) وانتبرت، محمد والقرآن، الشيباني، الرسول. ص 394.

(4) الشيباني، الرسول في الدراسات الاستشراقية ص 394.

(5) آراء المستشرقين حول مفهوم الوحي، ص 26.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/27)

بلادهم ضد مفاهيم مجتمعهم، على حساب مصالحهم الخاصة (1).

ج. مقررات التشكيك

قال أحد الحضور: وعينا هذا، ونحن نشكر هؤلاء المستشرقين المنصفين، وقد سمعنا بهم كثيرا، واطلعنا على كتاب مفصل يذكرهم، ويذكر أقوالهم، وهو [قلوب مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم].. فهلا ذكرتم لنا نماذج عن تلك المقررات التي حوت تلك الشبهات.

قال أحد المشككين: هي كثيرة جدا، ولا يمكننا في هذا المجلس أن نحيط بها أو نحصيها، فهي أكثر من أن تحصر، ولذلك سنذكر لكم سبعة نماذج عنها، وهي المقررات التي كانوا يدرسونها لنا، وهي تحوي أمهات الشبهات، والتي تكرر في كل حين بما يتناسب مع الجيل الذي يخاطبونه.

النموذج الأول

قال أحد الحضور: فحدثونا عن أول تلك المقررات.

قال أحد المشككين (2): أولها كتاب [مقالة في الإسلام]، لمؤلفه (جرجيس صال)، وهو مستشرق إنكليزي مولدا ومنشأ، ولد في أواخر القرن السابع عشر الميلادي، ومات سنة ألف وسبعمائة وست وثلاثين، وله من العمر أربعون سنة، كان من المشتغلين بعلم الفقه إلا أنه أولع بدرس لغات المشرق ولا سيما اللغة العربية وعلومها، وله بلسان قومه مصنفات في التاريخ واللغة ولكنه أكثر ما اشتهر بنقل القرآن إلى لسان الإنكليز وبما ألحق به من حواش تكشف الغطاء عن مبهمات النص القرآني انتقى أكثرها من كتب التفسير الإسلامي، وأشهر مصنفاته (مقالة في الإسلام)، ويقع في ثمانية فصول.

__________

(1) انظر: الإسلام والمستشرقون عنوان المقال ((نبي الإسلام في مرآة بعض المستشرقين المنصفين)) بقلم د. عبد الله الطرازي ص 351.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 149.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/28)

قال آخر (1): ويعتبر المؤلف من أكثر المستشرقين حقدا وخطرا على الإسلام ومن أكثرهم أخطاء في كثير من القضايا التي طرحها خاصة في كتابه أسرار القرآن وما كتبه عن القرآن في كتابه (مقالة في الإسلام)، حيث بذل جهده لربط عقائد الإسلام وشرائعه بالمذاهب والمعتقدات السماوية تارة وغير السماوية تارة أخرى.

قال آخر (2): وقد تحدث في الفصل الأول منها، والمعنون بـ (في عرب الجاهلية وتاريخهم وأديانهم وعلومهم وعاداتهم) عن اسم العرب منذ نشأتهم وبلادهم، ثم تناول أديانهم ومعبوداتهم وعاداتهم وأخلاقهم وعلومهم.

قال آخر: وتحدث في الفصل الثاني المعنون بـ (البحث عما كانت عليه حال المسيحية واليهودية أيام ظهور محمد والطرق التي سلكها محمد لتأسيس دينه وما أعانه على ذلك من الشؤون) عن الكنائس التي كانت موجودة آنذاك واعتقاداتهم، وتناول كذلك حالة الروم والفرس، وتحدث عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقدار معرفته بعقائدهم، وزعمه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان شديد الميل للنساء، ثم تناول سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكيفية انتشار الإسلام وقوته.

قال آخر: وتحدث في الفصل الثالث المعنون بـ (الكلام على القرآن وما تميز به عن غيره من الكتب وفي كيفية كتابته ونشره والغاية العامة المقصودة به)، وقد تحدث فيه عن اشتقاق لفظة القرآن، وأسمائه، وأقسامه، وأسماء سوره، ثم تعرض للبسملة في أول كل السور وتحدث عن لغة القرآن، وأسلوبه ومحاكاته لأسلوب التوراة، ثم تحدث عن غاية محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن واستخدام السيف لنشر الدعوة، ثم تحدث عن فروض الإسلام وشعائره وأحكامه وأنها قابلة للتبديل، ثم تحدث عن التناقض في القرآن ومحاولة الخروج منه بالنسخ، ثم تحدث عن الإعجاز في القرآن الكريم وعن المحكم والمتشابه، وختمه

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 153.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 150.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/29)

بالحديث عن حكم ترجمته.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل الرابع المعنون بـ (تعاليم القرآن وأوامره المتعلقة بالإيمان وفروض الدين ـ أي قضاياه النظرية والعلمية ـ)، وقد تحدث فيه عن أركان الإسلام وأركان الإيمان والتأثر فيها ـ كما يزعم ـ باليهود والصابئة وغيرهما، وتناول القبر والجن والشيطان وإحياء الإنسان مرة ثانية والتأثر في ذلك ـ كما يزعم ـ باليهود، ثم تناول موضوع النفخ، ويوم الحساب، والصراط، وغيرها من الاعتقادات عند المسلمين التي تأثر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما يزعم ـ باليهود والمجوس وغيرهم.. ثم تناول الركن الثاني وهو الصلاة وتأثر المسلمين في صلاتهم ـ كما يزعم ـ بالطقوس اليهودية وغيرهم.. ثم تحدث عن الركن الثالث الزكاة والفرق بينها وبين الصدقات ومصارفها ومستحقيها وتأثرهم كذلك ـ كما يزعم ـ بها باليهود.. ثم تناول الركن الرابع الصيام وتأثره فيه ـ كما يزعم ـ باليهود كذلك، ثم تناول الركن الخامس وهو الحج وما فيه ـ كما يزعم ـ من وثنية وأن شرعه الحج لقومه كان إرضاء لهم ولكسبهم لدينه.

قال آخر (2): وتحدث في الفصل الخامس المعنون بـ (بعض نواهي القرآن) عن الأحكام والفروض الفرعية فابتدأ بالحديث عن المنهيات: كالخمر والميسر، كما تحدث عن المحرمات من الأطعمة كالميتة، ولحم الخنزير، وغيرها، ثم تحدث عن الربا وتحريمه ـ كما يزعم ـ اتباعا لليهود كما تحدث عن وأد البنات وتحريم هذه العادة الذميمة.

قال آخر (3): وتحدث في الفصل السادس المعنون بـ (شرع القرآن المدني)، وقد تحدث فيه عن شرع المسلمين وأنه بني على الأوامر كاليهود، وتناول تعدد الزوجات، والطلاق،

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 151.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 151.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 152.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/30)

والعدة، ومقارنتها بما عند اليهود، وعقوبة الزنا، واعتزال النساء في الحيض، والنكاح فيمن يجوز الزواج منهن، ثم تحدث عن شرائع القرآن في المواريث، والقتل، والسرقة، والجنايات، ومقارنة ذلك بما عند اليهود، ثم تناول الجهاد في سبيل الله وملحقاته من فيء وغنائم.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل السابع المعنون بـ (الأشهر التي حرمها القرآن وفي إفراز يوم الجمعة لله)، وبين فيه تحديد القرآن لعدد الشهور ب (12) شهرا، وتحريم أربعة منها على ما كانت عليه بعض قبائل العرب، ثم إعطاء يوم الجمعة ميزة خاصة لعبادة الله عزوجل فيه، ثم تعرض لأعياد المسلمين (الفطر ـ والأضحى)

قال آخر (2): وتحدث في الفصل الثامن المعنون بـ (فرق المسلمين الكبيرة وفي من ادعى النبوة في العرب على عهد محمد أو بعده)، وتناول فيه علم الكلام، وعلم الفقه، ثم تناول الأصول التي اختلف فيها المتكلمون، وتعدد الفرق الإسلامية للاختلافات في القضايا العقائدية، ثم تناول المذاهب الفقهية الأربعة ومعرفا بأئمتها.. ثم تناول الفرق الأخرى معرفا بها وبما انفردت به من قضايا عقائدية كالجبائية والقدرية، والجبرية، والشيعة، وفرقها، معتمدا في ذلك على كتابي ابن حزم والشهرستاني في هذا الفصل، ثم تناول المتنبئين كأمثال: طليحة ابن خويلد، وسجاح بنت المنذر، وغيرهما مما جاء بعدهم.

النموذج الثاني

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج الثاني.

قال أحد المشككين (3): النموذج الثاني، كتاب [مصادر الإسلام]، لمؤلفه (كلير تسدال)، وهو في ستة فصول، وقد ترجم من الألمانية للإنكليزية السير (وليم موير) وطبع

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 152.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 152.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 124.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/31)

في الهند.

قال آخر (1): وهو من أشد الكتب حربا على الإسلام عامة والقرآن خاصة، فقد نهج فيه المؤلف مسلك المنصرين الحاقدين على الإسلام، وقد اعتمد كثير من المستشرقين والمنصرين عليه في افتراءاتهم ضد الإسلام.. وهو يحاول بكل السبل أن يشكك في كون القرآن الكريم وحيا إلهيا.. بل يذكر أنه من تأليف محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث جمعه من ديانات ومذاهب مختلفة مدللا على دعواه ببعض وجوه التشابه بين الإسلام وبين هذه المذاهب والديانات.

قال آخر (2): وقد تحدث في الفصل الأول المعنون بـ (ما قاله المجتهدون الأعلام وعلماء الإسلام العظام في حل هذا المعنى العظيم الأهمية)، وقد تحدث فيه عن موقف المسلمين من مصدر القرآن الكريم، واعتقادهم أنه منزل من الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كنزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود عليهم السلام.

قال آخر (3): وتحدث في الفصل الثاني المعنون بـ (البحث والنظر فيما ذهب إليه القائلون من أن بعض عقائد المسلمين ورسومهم وفرائضهم مأخوذة من مذاهب العرب في أيام الجاهلية وأن هذا هو أول مصادر الديانة الإسلامية)، وقد استعمل فيه الكثير من المغالطات لإثبات أن الجاهلية والوثنية العربية هي إحدى مصادر الإسلام ذاكرا الدافع الذي جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يبقي الموروثات القديمة في ديانته كاعتقادهم بإله واحد، وكالختان، وتقبيل الحجر الأسود، كما أنه حاول إثبات هذه الصلة بإتيانه ببعض الأبيات الشعرية رابطا إياها ببعض الآيات القرآنية زاعما أن هذه الأبيات هي مصدر هذه الآيات القرآنية.

قال آخر (4): وتحدث في الفصل الثالث المعنون بـ (البحث فيما ذهب إليه بعض

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 127.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 124.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 124.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 125.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/32)

المعترضين من أن بعض التعاليم والقصص الواردة في القرآن أو الأحاديث مأخوذة من تفاسير اليهود الوهمية وأن بعض فرائض المسلمين الدينية مأخوذة من طريق الصابئين)، وقد استعمل فيه الكثير من المغالطات لإثبات هذه المزاعم مستدلا ببعض العبادات والشعائر والعقائد التي فيها التشابه بين الإسلام وبين اليهودية والصابئة مثل: الصلاة، والاغتسال، والاعتقاد بالألوهية، والتشابه ببعض القصص الواردة عندهم والتي وردت في القرآن العظيم كقصة إبراهيم عليه السلام وقصة ولدي آدم قابيل وهابيل وقصة سليمان عليه السلام وغيرها من القصص.. كما استدل على التشابه بوجود بعض الكلمات المشتركة في القرآن وعندهم كلفظ (جهنم) حيث رد أصلها للغة الكلدانية والسورية.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل الرابع المعنون بـ (النظر والبحث فيما ذهب إليه البعض من أن كثيرا مما ورد في القرآن مأخوذ من حكايات وروايات بعض فرق النصارى المبتدعة العاطلة وآرائهم الباطلة)، وقد استعمل فيه الكثير من المغالطات لإثبات ذلك بإيجاد بعض المتشابهات بين الإنجيل والقرآن مثل بعض القصص كقصة أصحاب الكهف، وقصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام، ومثل ذلك بعض القضايا المتعلقة باليوم الآخر كالحساب، والعذاب، والجنة، والنار، وغيرها.

قال آخر (2): وتحدث في الفصل الخامس المعنون بـ (النظر والبحث فيما ذهب إليه المعترضون من أن بعض أركان القرآن والأحاديث أخذت من كتب أصحاب زرادشت والهنود القديمة)، واعتمد فيه على بعض نقاط التشابه بين القرآن وهذه المذاهب، كالتشابه ببعض القصص مثل قصة المعراج، وقصة خروج الشيطان من الجنة.. والتشابه ببعض العقائد المتعلقة باليوم الآخر وبغيره، كالجنة والنار وصفه الحور العين والميزان والصراط،

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 125.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 126.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/33)

وملك الموت، والجن.. والتشابه في قضايا عامة كتبشير كل نبي بالنبي الذي يليه، والابتداء باسم من أسماء الله في أول الكلام.. وغيرها.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل السادس المعنون بـ (الحنفاء وتأثيرهم على أفكار محمد وعلى تعاليمه)، واعتمد فيه على التشابه بين ما كان يدين به الحنفاء قبل الإسلام، وما جاء به الإسلام كالدعوة لعدم وأد البنات، ورفض عبادة الأصنام، وإقرار بالوحدانية لله سبحانه والدعوة لذلك، ووعد المؤمنين بالجنة وتخويف الكفار من النار.. ثم وصف الذات الإلهية ببعض الأسماء الخاصة بها كالرحمن، والرب، والغفور، وغيرها مما وقع فيه التشابه.

النموذج الثالث

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج الثالث.

قال أحد المشككين (2): النموذج الثالث، كتاب [صلة القرآن باليهودية والمسيحية]، لمؤلفه (د، فلهلم رودلف).. وهو كتاب تحامل فيه مؤلفه بشدة على الإسلام والقرآن الكريم، وقد أقحم كثيرا من المغالطات في ثنايا ما قرره من نتائج مسبقا ليدلل على أن الإسلام فرقة تأثرت بالمسيحية واليهودية وخاصة المسيحية.

قال آخر (3): وقد تحدث في فصله الأول المعنون بـ (اليهودية والمسيحية في البلاد العربية قبل محمد) عن وجود هاتين الديانتين في الجزيرة العربية ومقدار حظ أهلهما من العلم والمعرفة، فمع أنه نسب لهما قلة المعرفة والجهل أحيانا إلا أنه اعتبرهم أكثر علما وفهما من الوثنيين ومن بينهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي تأثر ـ في زعمه ـ كثيرا بما عندهم من معرفة انعكست على قرآنه.

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 126.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 137.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 137.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/34)

قال آخر (1): وتحدث في الفصل الثاني المعنون بـ (كيف اقتبس محمد المواد اليهودية والمسيحية)، وقد ناقش فيه طريقة تلقي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معرفتهم وثقافتهم، أكان بالقراءة في كتبهم أم بطريق السماع فحسب؟.. لذا ناقش موضوع أمية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه أكد أنه حتى لو كان يتقن القراءة والكتابة فإنه لن يستطيع أن يستفيد منها لعدم ترجمتها.. ثم ذكر بعض المقتبسات من القرآن الكريم وما يشابهها من العهد القديم ليؤكد أنه قد حصل للرسول صلى الله عليه وآله وسلم معرفة بما في التوراة بطريق السماع.. ثم ذكر مجموعة من الأمثلة القرآنية التي حصل فيها ـ كما يذكر ـ التشابه مع العهدين القديم والجديد وأشار أن هذه الأمثلة قد وقع فيها أخطاء وتفاوت وأن مرجع ذلك يعود لسوء الفهم الذي يؤكد دعوى المؤلف أنه تلقاها مشافهة لا من مصدر مكتوب.. ثم أتى ببعض الأدلة القرآنية التي فيها الإنكار على من زعم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تلقى الوحي من مصدر غير إلهي لكنه حملها على تأكيد مزاعمه في تلقيه لمعلومات الوحي من أقوال شفوية.

قال آخر: وتحدث في الفصل الثالث المعنون بـ (ماذا أخذ محمد من اليهودية والمسيحية) على الأفكار الرئيسية التي تنتظم دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ على حد فهمه ـ وهي: البعث ـ فالمحاكمة ـ فالفردوس ـ وجهنم.. ذاكرا صلة هذه الأفكار بما هي عليه عند اليهود والنصارى، ثم ذكر بعض الكلمات المتشابهة بين الإسلام وهذين الدينين مثل: الله، أحد، روح، إبليس، زاعما أنها مأخوذة من مصدر يهودي أو نصراني، ثم ذكر أن أكثر القصص القرآني مصدره يهودي، وزعم أن بعض أسماء الأنبياء مثل: سليمان وإلياس، ويونس، منقولة عن مصدر نصراني.. ثم زعم أن ما طرأ على القصص في المدينة المنورة من تغيير بحيث أصبح نادرا يعود ذلك إلى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم شعر بتفاوت بين ما يذكره من قصص وبين

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 138.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/35)

ما هو عند اليهود على وجه الدقة، كما زعم أن كثيرا من الجوانب الأخلاقية والعبادية في الإسلام يعود لأصل يهودي أو نصراني كالوصايا العشر، وأركان الإسلام الخمس، وقواعد الطعام، وغير ذلك.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل الرابع المعنون بـ (هل المسيحية هي التي دفعت محمدا الدفعة الحاسمة إلى الظهور) على أن المسيحية بتأثيرها البالغ على محمد صلى الله عليه وآله وسلم دفعته للتنبؤ.. وذكر في هذا الفصل كذلك بعض الأمثلة المتشابهة بين القرآن والإنجيل كقصة مريم وابنها عيسى عليه السلام، وعذاب النار، والمحاكمة العامة، وغيرها.. ثم ذكر تأثير الصابئة على الإسلام ذاكرا بعض الأمور المتشابهة بينهما، كما ذكر الحنفاء وما أثروا به على الإسلام موضحا ذلك ببعض الأمثلة.

قال آخر (2): وتحدث في الفصل الخامس المعنون بـ (نظرية جنوب بلاد العرب) عن وجهة نظر (جريمه) في كتابه (محمد) من أن اليهودية لم يكن لها أثر فعال على محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا في العهد المدني، بخلاف الفترة الأولى، والتي كانت ـ كما يزعم ـ أفكار محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدينية انعكاسا للتوحيد الذي في جنوب العرب، هذا التوحيد الخليط من الوثنية واليهودية والمسيحية، وقد كان وصول (جريمه) لهذه النتيجة عن طريق النقوش التي تم العثور عليها في جنوب الجزيرة العربية.. وقد قام المؤلف (رودلف) بنقد آراء (جريمة) واحدا بعد الآخر.

قال آخر (3): وتحدث في الفصل السادس المعنون بـ (ما عرفه القرآن عن شخص عيسى ـ عليه السلام ـ وحياته وما خلف وراءه من أثر)، ثم ذكر الآيات التي تناولت هذا

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 140.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 140.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 140.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/36)

الموضوع وما طابقها أو خالفها في كتب الإنجيل، ليؤكد ـ بحسب زعمه ـ تأثر محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأناجيل.

النموذج الرابع

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج الرابع.

قال أحد المشككين (1): النموذج الرابع، كتاب [مقدمة القرآن]، لمؤلفه أستاذنا دبليو منتجمري واط، هو عميد قسم الدراسات العربية في جامعة أدنبره، له عدة مؤلفات عن الإسلام منها: هذه (المقدمة)، وكتاب (الإسلام) و(الإسلام والجماعة الموحدة، دراسة فلسفية اجتماعية)، و(محمد في مكة)، و(محمد في المدينة)، و(الوحي الإسلامي في نظر العالم الحديث)، و(الجدل الديني)

قال آخر (2): وهذا الكتاب هو الثامن من سلسلة الدراسات المسيحية الإسلامية، وقد طبع لأول مرة في سنة 1977 م، وقد شمل هذا الكتاب كثيرا من أبواب علوم القرآن، لكنه لم يخرج فيه عن خطوات أستاذه (بل) إلا تخفيف حدة بعض العبارات الجارحة لشعور المسلمين التي كان لا يبالي بها أستاذه (بل) كما ذكر ذلك المؤلف نفسه في مقدمة كتابه.. وبسبب تبعية (واط) لأستاذه (بل) وقع في أخطاء عدة منها: اعتبار النبوة أمرا يكتسب بالخبرة والتجربة الحياتية.. وتأثير البيئة على نشأة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ حسب زعمه ـ لذا حاول بكل جهده الربط كغيره من الغربيين بين الإسلام والديانات الأخرى.. ومحاولة التشكيك في سلامة القرآن من النقصان أو الزيادة.. وقياسه أسلوب القرآن الكريم على الشعر، والنثر المسجوع ومحاولة وصفه بسجع الكهان.. وقد ساقت هذه الدراسة لأسلوب القرآن الكريم المؤلف إلى القول بنظرية أستاذه (التكميلات البديلة)

__________

(1) المستشرقون 2/ 132.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 110.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/37)

قال آخر (1): وقد قسمه مؤلفه لأحد عشر فصلا سوى الفهارس والمقدمة.. وقد تحدث في الفصل الأول المعنون بـ (السياق التاريخي) عن الجزيرة العربية، والموقف العالمي منها في ذلك الوقت، ثم تناول حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أثرته هذه البيئة وطبيعة عصره عليه، ملحقا هذا الفصل بملحقين: الأول: جدول زمني متسلسل لمجرى حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. والثاني: تكلم فيه عن كلمة (حنيف) من حيث المعنى وعلاقتها بحنيفية إبراهيم عليه السلام.

قال آخر (2): وتحدث في الفصل الثاني المعنون بـ (خبرة محمد كرسول) عن موقف الناس من الدعوة الإسلامية ثم تكلم عن الوصف القرآني للوحي والنبوة، وإمكانية فهم الوظيفة النبوية، ثم تحدث عن القرآن الكريم وحفظه في زمن الرسول، ولم يمانع المؤلف من وجود شيء منه مكتوبا بشكل ما، ثم ناقش قضية أمية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر (3): وتحدث في الفصل الثالث المعنون بـ (تاريخ النص القرآني) عن مراحل جمع القرآن الكريم كصحف خاصة، ثم جمعه في عهد أبي بكر وعثمان، ثم تناول أسلوب القرآن الكريم في تلك الفترة.. ثم ختم الفصل بالحديث عن موثوقية القرآن من حيث اكتماله أو احتمال سقوط وضياع شيء منه.

قال آخر (4): وتحدث في الفصل الرابع المعنون بـ (الشكل الخارجي للقرآن) عن أسماء القرآن الكريم، وأقسامه، والطقوس الدينية التي يقرأ فيها، وآياته، وترتيبها، والإيقاعات والإلزامات في قوافي الآيات ـ كما يسميها ـ أي (الفاصلة القرآنية) ثم تحدث عن الحروف المقطعة ومعناها وأقوال المستشرقين في ذلك، ثم تحدث عن الصور الدرامية ـ

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 107.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 107.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 107.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 107.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/38)

كما يسميها ـ الموجودة في أسلوب الخطاب القرآني ويقصد بذلك أسلوب الالتفات في القرآن الكريم.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل الخامس المعنون بـ (خصائص الأسلوب القرآني) عن القوافي القرآنية، والوزن الشعري في الآيات القرآنية، والصيغ التعليمية المختلفة التي جاءت في القرآن الكريم كالأمثال والقصص وغيرهما، ثم تناول الآيات التي غلب عليها أسلوب الكهان، ثم تحدث عن أسلوب القصص والأمثال ذات المغزى الأخلاقي في القرآن الكريم، ثم تحدث بعد ذلك عن الاستعارة في القرآن الكريم، وختم الفصل بالحديث عن لغة القرآن الكريم مطلقا عليها لغة الكويني (الشعر)

قال آخر (2): وتحدث في الفصل السادس المعنون بـ (تشكيل القرآن) عن النسخ القرآني، وإمكانية وجود المراجعة في النصوص القرآنية ثم ذكر نظرية أستاذه (بل)(التكميلات البديلة) ذاكرا بعض الشواهد على حدوث المراجعة والتعديل، وذكر موقفه من هذه النظرية.

قال آخر (3): وتحدث في الفصل السابع المعنون بـ (الترتيب الزمني في القرآن) عن وجهات النظر الإسلامية والتقليدية والأوربية حول التاريخ، مؤكدا أن تتابع الأفكار في القرآن دليل على عملية التاريخ الزمني والتطور الفكري في القرآن.

قال آخر (4): وتحدث في الفصل الثامن المعنون بـ (أسماء الرسالة المنزلة) عن أسماء القرآن الكريم: (القرآن، الكتاب، التنزيل، ذكر، وذكرى، وتذكرة، وفرقان)، ثم عقد فصلا عن كون القرآن الكريم آية ومعجزة، ثم تكلم عن معنى (مثاني) وعن طريقة عرض القرآن

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 108.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 108.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 108.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 109.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/39)

الكريم لجانب العقيدة، ثم ختم الفصل بالحديث عن الجانب التشريعي الإسلامي وعن أركان الإسلام الخمسة.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل التاسع المعنون بـ (العلماء المسلمون والقرآن) عن جهد العلماء المسلمين في علم التفسير والتأويل، ثم تحدث عن المتكلم الحقيقي في القرآن الكريم، وموقف المعتزلة من ذلك.

قال آخر (2): وتحدث في الفصل العاشر المعنون بـ (القرآن والعلماء الغربيون) عن جهود العلماء الغربيين في ترجمة القرآن الكريم، وتاريخ هذه الترجمة والمراحل التي مرت بها، ثم ذكر فهرسا بأشهر الكتب التي تناولت موضوعات القرآن الكريم المتعددة، ثم علق على بعض هذه الكتب ككتاب (تاريخ القرآن) لـ (نولديكه) وكتاب (أبحاث جديدة في تركيب وتفسير القرآن) لـ (هيرشفيلد 1902 م) وكتاب (تركيب القرآن وترتيبه الزمني) لـ (هيوبرت جريم) وغيرها من الكتب.. وفي آخر هذا الفصل تناول المشكلات التي تواجه الدارس غير المسلم خلال دراسته للقرآن الكريم مثل مشكلة صدق هذا القرآن الكريم.. ومشكلة المصادر الأصلية ذات العلاقة المباشرة بالنصوص القرآنية.. ثم ختم الفصل بقائمة للفهارس تخدم كتابه وجدولا للآيات القرآنية حسب ترتيب (فلوجل) مقارنا هذا الترتيب بترتيب المصحف المصري.

النموذج الخامس

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج الخامس.

قال أحد المشككين (3): النموذج الخامس، كتاب [القرآن]، لمؤلفه [ريجي بلاشير]،

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 109.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 109.

(3) انظر المستشرقون نجيب العقيقي 1/ 309 ـ 312. وموسوعة المستشرقين، بدوي ص 82.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/40)

الذي كان أستاذا في اللغة والأدب العربي في (السوربون) لغاية سنة 1970 م، وله عدة مؤلفات مرتبطة بالقرآن الكريم، بالإضافة إلى كتابه هذا، منها مقدمة عن القرآن، وترجمة القرآن الكريم باللغة الفرنسية مرتبا السور والآيات حسب النزول، ثم أعاد الترجمة سنة 1957 م حسب ترتيب المصحف، وله كتاب لخص فيه أبحاث المستشرقين الذين كتبوا عن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وله كتاب بعنوان (معضلة محمد).. وله عدة أبحاث حول القرآن وغيره منها: نبذة عن النفس في القرآن نشر في مجلة الساميات عام 1948 م.

قال آخر (1): وهو ـ كسائر كتابات (بلاشير) ـ تتسم بالطعن الشديد في الإسلام والقرآن، ولذلك؛ فإن هذا الكتاب مع ما فيه من معلومات، حمل في طياته مجموعة من الأخطاء أفقدت الكتاب كثيرا من قيمته، فقد زعم المؤلف في الفصل الأول أن القرآن مضطرب، وفيه بلبلة فكرية، وهذا الزعم عين ما صرح به (جولد تسيهر) في مؤلفاته.. كما ركز المؤلف في دعواه على تأثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلال تأليفه القرآن بالبيئة التي نشأ فيها من يهودية ونصرانية وموروثات جاهلية.

قال آخر (2): ومما تابع فيه (بلاشير)(كازانوفا) خطأ دعواه في الفصل الثاني والثالث أن تركيز السور المكية على اليوم الآخر بهذا الأسلوب المتميز كان سببه شبح اليوم الآخر وأهواله الذي كان مخيما على فكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى غير ذلك من الأخطاء التي رددها هذا المؤلف في ثنايا صفحات كتابه.

قال آخر (3): وقد قسم كتابه إلى سبعة فصول.. تحدث في الفصل الأول منها، وهو بعنوان: (المصحف بنيته وتكوينه) عن نشأة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجزيرة العربية، وبين ـ زاعما

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 116.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 116.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 111.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/41)

ـ مقدار تأثره باليهودية والمسيحية، ثم تحدث عن جمع القرآن الكريم مقررا أن أول جمع تم في عهده صلى الله عليه وآله وسلم وذلك بتأثره باليهود ـ لأنه أحب أن يكون له كتاب خاص به كما لليهود كتاب ـ ثم تحدث عن الجمع الثاني في عهد (أبي بكر) والجمع الثالث في عهد الخليفة الثالث (عثمان بن عفان).. ثم تحدث عن القراءات القرآنية ودورها في فهم النص القرآني، واعتراض بعض العلماء عليها زاعمين أنها تهدم قدسية النص القرآني، ثم تحدث عن موقف بعض الفرق الإسلامية من النص القرآني.. ثم تحدث عن ترتيب الآيات والسور القرآنية في القرآن الكريم وتفسير القرآن إلى أجزاء، زاعما أن القرآن فيه بلبلة فكرية، وختم هذا الفصل بالثناء على (نولديكه) وتجربته في ترتيب المصحف ترتيبا زمنيا.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل الثاني المعنون بـ (الرسالة القرآنية في مكة) عن أسلوب القرآن المكي، والسور المكية، وأن هذا الأسلوب كان متأثرا ـ كما يزعم ـ بشبح اليوم الآخر الذي كان يخيم على فكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. وهذه الفرية قد سبقه بها المستشرق (كازانوفا)، ثم زعم (بلاشير) أن هذه القضية هي السبب في مجيء السور على نوعين: الأول، سور قصيرة وهي بسيطة في إيحاءاتها، وهي في إحدى عشرة سورة موزعة في المصحف.. والثاني: سور آياتها أطول في اثنتين وعشرين سورة تبتدئ بسورة الكهف وتنتهي بسورة النجم، وهي مختلفة العناصر والأسلوب، وقد ذكر أن كلا النوعين جاء لتثبيت العقيدة والتركيز عليها.. وقد لخص في نهاية الفصل أسلوب السور المكية زاعما أن القرآن في هذه الفترة كان مضطربا.

قال آخر (2): وتحدث في الفصل الثالث المعنون بـ (رسالة القرآن في المدينة) عن الوحي في هذه الفترة، وأنه قد تطور حتى أصبحت سوره تمتاز بالطول، وهي أربع

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 113.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 113.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/42)

وعشرون سورة.. ثم ختم الفصل ببعض القضايا الخاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وببعض المشاكل الخاصة بالوحي ـ كما يزعم ـ كمعالجته للنظام القبلي، وغيرها.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل الرابع المعنون بـ (الواقعة القرآنية وعلوم القرآن) عن التنزيلات التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغها للناس، وعلاقتها بما حصل من انقلابات سياسية، واجتماعية، وتطورات فكرية وأخلاقية، ونظرات علمية ودينية، وما أدت هذه التنزيلات من تقدم حضاري وتمدن واضح في المجتمعات الإسلامية، كما تحدث عن دور اللغة في هذا التمدن، ثم تعرض للأسلوب القرآني ودوره في إيجاد مذاهب تفسيرية كالتفسير النحوي لأهل البصرة وما نتج عن هذا الأسلوب من قراءات مختلفة.. ثم تحدث عن أسلوب القرآن المكي وما أحدثه من تفوق إبداعي في جانب الإعجاز القرآني، والعلوم ذات العلاقة بالبلاغة كالاستعارة، والمجاز، وغيرهما، مما حدا بالتفسير أن يظهر بعد ذلك كعلم مستقل.

قال آخر (2): وتحدث في الفصل الخامس المعنون بـ (التفسير القرآني ـ أصوله وأغراضه) عن التفسير، وأن بداياته كانت من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم تحدث عن الصعوبات التي كانت واجهت المفسرين، كعدم ثبوت الخط العربي الذي نتج عنه غموض في اللهجات، وتعدد القراءات.. كما ذكر أن من أسباب تطور هذا العلم تعدد الفرق الإسلامية وحرصها على دعم آرائها بالنصوص القرآنية وحمل شروحها لما يوافق آراءهم.

قال آخر (3): وتحدث في الفصل السادس المعنون بـ (القرآن والسنة مصدر العقيدة والشريعة في الإسلام) عن السنة ودورها في التعريف بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتاريخ نزول

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 114.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 114.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 115.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/43)

القرآن وتأثيره على مفهوم النسخ، وفهم النص القرآني، كما تعرض لموقف بعض الفرق من النص القرآني كالجبرية، والقدرية، كما ذكر أن للسنة دورا في ظهور مدرسة التأويل بالحديث، ثم تحدث عن كون القرآن مصدرا للأحكام الشرعية.. ثم تحدث عن مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن والسنة، كالإجماع، والقياس، والاجتهاد.. ثم ختم الفصل بدور مدرسة (محمد عبده) بالرجوع للمصدرين الكتاب والسنة.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل السابع المعنون بـ (القرآن في الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي) عن مكانة القرآن في نفوس المسلمين، وما له من تأثير عليهم، ومقدار اعتناء المسلمين به بتحفيظه لأبنائهم، وما عليه معلم القرآن في السابق وفي الوقت الحاضر من الاحترام والتعظيم عند المسلمين.. ثم تحدث عن تعامل المسلمين مع القرآن في عباداتهم كالصلاة المفروضة والنافلة، ثم تعرض لبعض استخدامات القرآن في شؤون بعض المسلمين الخاصة كحرز يحميهم من السحر وغيره.. ثم تحدث عن هيئة القراء خلال تراتيلهم، واعتناء المسلمين الزائد بالمصاحف حتى دعاهم ذلك لتسجيلها على جدران المساجد، وتخصص بعض الخطاطين بنسخ المصحف، وتزيين المصاحف ببعض الألوان الذهبية، ولزيادة عنايتهم به فتح له إذاعة خاصة تبثه عبر الأثير.. كما ختم الفصل في الحديث عن دور القرآن الكريم في حل مشاكل المسلمين السياسية والاجتماعية، وغيرهما.

النموذج السادس

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج السادس.

قال أحد المشككين (2): النموذج السادس، كتاب [مقدمة القرآن]، لنفس المؤلف السابق [ريجي بلاشير]، وقد طبع بادئ الأمر مع ترجمته للقرآن الكريم، ثم وضعه في مؤلف

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 115.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 117.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/44)

مستقل وزوده بفهارس تخدم الكتاب.. وكان صدوره سنة 1958 م في باريس، وقد اعتمد في كثير من معلوماته في هذه المقدمة على كتاب (تاريخ القرآن لنولديكة، وشفالي وجسترشتر، وبيرتزل، زيادة على المصادر العربية نفسها والموضوعات الحديثة حول الموضوع.. وقد راجع هذه المقدمة صديقه (جان سوفاجيه) وقد جاء الكتاب في مقدمة وخمسة فصول ومجموعة من الفهارس.

قال آخر (1): وهذا الكتاب من أشد الكتب عداء للإسلام، مليئا بالافتراءات والتحليلات الخاطئة والجرأة، والتخيلات الواهمة، بعيدا عن المنهجية والتجرد العلمي.

قال آخر (2): وقد تحدث في الفصل الأول المعنون بـ (بنية الكتاب المقدس) عن أن تحديد النص القرآني لا يكون إلا من طريق الروايات المنقولة عن الصحابة والتابعين.. ثم تحدث عن تاريخ القرآن الكريم والعوامل التي حددت هذا التاريخ كاستخدام نوع من الكتابة مغايرا للكتابة الأصلية، وعدم جمع القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كتابة والاعتماد لفترة طويلة على الذاكرة في حفظ القرآن الكريم، ثم تحدث بعد ذلك عن الكتابة العربية في القرن السادس الميلادي ومقدار تأثر مكة بها.. ثم ناقش مسألة معرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القراءة والكتابة، وعلاقة ذلك بكلمة (أمي) التي وصف بها، وذكر موقف المستشرقين من هذه القضية، وتوصل إلى أن معنى (أمي) أنه نبي للأمم؟ لا أنه لا يعرف القراءة والكتابة.. ثم تحدث في هذا الفصل عن الأداتين اللتين حفظ بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التنزيل وهما (الحفظ ـ المناقلة الشفوية ـ والكتابة) متعرضا خلاله لكتبة الوحي، ومعرضا بقلة عدد الحفظة للقرآن الكريم.. ثم رجع وناقش قضية جمع القرآن الكريم في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن ذلك كان بتأثره باليهود، ومقدرا بعد ذلك أن الترتيب للآيات القرآنية كان لبعض الآيات دون

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 123.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 118.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/45)

غيرها.. ثم تناول قضية جمع القرآن الكريم من الصحف الخاصة إلى جمع (أبي بكر) ومبينا نقاط الخلاف بينهما كترتيب للسور، والاختلاف في رسم بعض الكلمات.. ثم تحدث عن الجمع في عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ كما ذكر رأي (كازانوفا) وردد زعم (كازانوفا)(أن هذا الجمع كان أسطورة لا غير).

قال آخر (1): ثم تحدث عما سماه (تحسين كتابة مصحف عثمان)، وتناول فيه التحسينات التي استحدثت لتغطي القصور الموجود في النسخة العثمانية، ودور (الحجاج) في هذا التحسين، ونشوء القراءات وتأثرها بالحركات السياسية آنذاك.. وقد أشار في هذا الفصل لوجود بعض الصحف الخاصة في عهد (عبد الملك بن مروان) وواليه على العراق (الحجاج بن يوسف الثقفي)

قال آخر (2): ثم تحدث عن (علم القراءات والتحديد النهائي للقرآن الكريم)، وقد تناول فيه القراءات القرآنية وأقسامها وعددها وطريقة أدائها وتلقيها ومقدار تأثيرها على النص القرآني، ثم تحدث عن عدد القراء وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية، ثم تحدث عن دور الطباعة في انتشار القرآن الكريم.

قال آخر (3): وتحدث في الفصل الثاني المعنون بـ (وصف الكتاب المقدس) عن شكل القرآن الكريم وتقسيماته، وكتابته ولغته، وأسلوبه، والبسملة، والحروف المقطعة.. وعن الطبعة المصرية للقرآن الكريم وكتابتها بالطريقة القديمة.. وعن لغة القرآن الكريم، وهل كل مفرداته عربية أم فيها غير العربي، وتحدث عن سبب اختيار لغة قريش لتكون لغة القرآن الكريم، ثم تناول نظرية (مولرز) وهي كون لغة القرآن (لغة الكويني) الشعرية القديمة أم

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 119.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 119.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 119.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/46)

لا؟ مقررا أنها جمعت بين لغة الشعر (الكويني) وبين لغة (نجد) التي كتبت بها، ثم هاجم هذه النظرية وأنها بدلا ما تحل المشكلة غيرت وجهها ـ حسب زعمه ـ.

قال آخر (1): ثم تحدث عن أسلوب القرآن الكريم، وكونه معجزا تحدى به محمد صلى الله عليه وآله وسلم العرب فأعجزهم، ثم تحدث عن موقف قريش وبعض الملاحدة كابن الراوندي، وابن المعري، وعيسى بن صبيح، والمثنى، والحلاج، وغيرهم من هذا القرآن الكريم بمحاولاتهم الإتيان بمثله منكرين وجه الإعجاز الذي فيه زاعمين أنه لا يختلف عن أي كلام بشري.. ثم ختم هذا المبحث بالحديث فيه عن الوزن الشعري، والسجع الموجود في آياته في كلا النوعين القرآن المكي والمدني.

قال آخر (2): وتحدث في الفصل الثالث المعنون بـ (النقد المثار بواسطة النص المنزل في الكتاب المقدس) عن الانتقادات التي وجهت حول سلامة النص القرآني من الزيادة والنقصان، وملاحظاتهم على بعض كتبة الوحي من حيث الأمانة والدقة، والوسائل التي كتب عليها النص القرآني ومقدار قدرتها على حفظ النص القرآني.. ثم تحدث عن دور القراءات في إثارة الفوضى والاضطراب في النص القرآني.. وكان أغرب ما في الفصل ذكره لتصور كل من (ويدنيورج)، و(جيير) و(جولد تسيهر) بإيجاد طبعة تلبي انتقادات الغرب للنص القرآني.

قال آخر (3): وتحدث في الفصل الرابع المعنون بـ (المصادر المقدمة لتفسير المستشرقين من خلال بعض العلوم القرآنية) عما سماه مصادر لذكاء النص القرآني، وقد ذكر فيه بعض هذه المصادر، كالقراءات الشرعية وغير الشرعية وغيرها.. كما تحدث عن التفسير

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 119.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 120.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 121.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/47)

الإسلامي نفسه على اختلاف أنواعه من تفسير بالمأثور، وبالرأي المحمود منه وغير المحمود.. ثم تحدث عما سماه (المصادر والمناهج لإعادة ترتيب الكتاب المقدس حسب فترات نزوله)، وتناول فيه أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وترتيب القرآن حسب التسلسل التاريخي، وترتيب بعض المستشرقين للقرآن الكريم كترتيب (موير) و(سبرنجر)، وترتيب المدرسة الألمانية وإمكانية استفادة هذا الترتيب من تطور رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل الخامس المعنون بـ (ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأوربية) عن ترجمات القرآن الكريم في العصر الوسيط منذ محاولة قس كلوني (بيير لوفييرابل) باللغة اللاتينية.. ثم تناول الترجمات الحديثة منذ بداية القرن السابع عشر على يد الفرنسي (أندريه دي رير) القنصل الفرنسي في مصر ودوره في تعميم كتاب الإسلام المقدس ـ حسب تعبيره ـ في الغرب وقد ظهرت ترجمته للقرآن سنة 1647 م في باريس تحت عنوان (قرآن محمد) وقد لاقت هذه الترجمة حماسا كبيرا مما جعلها تترجم بعد ذلك لعدة لغات.. ثم ذكر عدة ترجمات صدرت بعدها كترجمة (جيرمان دي سيليزي)(1650 ـ 1665 م) وترجمة ماراتشي (1698 م) بعنوان (نماذج لتصحيحات نصوص القرآن).. ثم تحدث بعد ذلك عن الترجمات المعاصرة منذ ترجمة (واهل) عام 1828 م التي دفعت موضوع ترجمة القرآن الكريم للغات الأوربية قدما، فذكر ترجمة (أولمان) وترجمة (كازشرسكي)، و(رودويل) سنة 1861 م و(جريجيل هال) 1901 م وغيرها كثير.

النموذج السابع

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج السابع.

قال أحد المشككين (2): النموذج السابع، كتاب [مقدمة القرآن]، لمؤلفه أستاذنا

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 122.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 99.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/48)

[ريتشارد بل]، وهو إنجليزي الأصل، وأحد أساتذة اللغة العربية بجامعة ادنبره، وقد صرف سنين عدة من عمره في دراسة القرآن الكريم وتاريخه دراسة وافية متتالية، ومن أشهر أعماله المرتبطة بالقرآن الكريم: ترجمة للقرآن الكريم. سنة 1937 م ـ 1941 م.. ومقدمته للقرآن الكريم.. وأسلوب القرآن الكريم. سنة 1942 م ـ 1944 م.. والمتشابه في القرآن الكريم. سنة 1982 م.. وأهل الأعراف. سنة 1932 م.. وسورة الحشر. سنة 1948 م.. بالإضافة إلى غيرها من الأعمال والمقالات، ومنها (معلومات محمد عن العهد القديم) والتي نشرتها مجلة الدراسات السامية والشرقية سنة 1945 م.

قال آخر (1): والكتاب يمثل دراسة أكاديمية بذل فيها المؤلف جهدا كبيرا، ولكنها لم تتجرد عن النزعة العدوانية للإسلام.. وقد ملئ الكتاب بكثير من الأخطاء، وسببها اعتباره القرآن الكريم من تأليف محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا أخضعه لمقاييس الكتب البشرية، من حيث الأفكار والأسلوب والمضمون، وغير ذلك مما تورثه البيئة في فكر المؤلف وأسلوبه.

قال آخر (2): ولهذا نجده يعتبر أن التأثير الأكبر على شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان من البيئة المحلية كاليهودية والمسيحية والوثنية.. ومن البيئة الخارجية كالمجوسية والزرادشتية.

قال آخر (3): ولهذا نجده في كتابه يركز على الطعن في سلامة النص القرآني، حيث زعم أنه مضطرب دخلته الزيادة والنقصان، والتلفيق بين بعض الفقرات مبتدعا نظرية سماها (نظرية التكميلات البديلة).. وقد كانت الموروثات الفكرية والمنهج الذي اتبعه سببا في وقوعه في كثير من الأخطاء العلمية.

قال آخر: وقد قسم كتابه لعشرة فصول.. أولها [الموقف التاريخي ومحمد]، وتحدث

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 105.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 105.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 105.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/49)

فيه عن البيئة التي نبت فيها الإسلام، وما كان لها من تأثير على التعاليم والعقائد الإسلامية، كالاعتقاد بالجن وموقفه من الكهان، وتأثير اليهودية والمسيحية والحنفاء على الأسلوب القرآني، وتأثير الموقف العالمي حول الجزيرة على الدعوة الإسلامية، وخاصة المجوسية والزرادشتية.. ثم تحدث عن موقف الإسلام من المرأة، ثم عن الكتابة والقراءة وتأثير ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ثم ذكر نبذة عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم تحدث عن الأشهر العربية والأشهر الحرم منها، ثم ختم الفصل بالحديث عن الوحي ومعناه، واستعمالاته في القرآن الكريم.

قال آخر: وتحدث في الفصل الثاني المعنون بـ (أصل القرآن) عن القرآن ونزوله وجمعه والصحف الخاصة بالصحابة، والنص القرآني من حيث الزيادة والنقصان. متأثرا بأقوال الغلاة من السنة والشيعة بأن النقص والزيادة والاضطراب دخل القرآن الكريم، ثم تعرض في نهاية الفصل للقراءات القرآنية السبعة وقرائها ومن اعتنى بها من المستشرقين أمثال: براجشترستر، وبيرتزل، وآرثر جيفري، وهؤلاء اعتنوا بهذا الجانب خاصة (القراءات الشاذة)، ساردا بعض الأمثلة على ذلك؛ ليخلص منها أن هذه القراءات ما هي إلا نسخ أخرى من القرآن الكريم تقابل النسخة العثمانية ليدلل من خلالها على وجود الاضطراب والاختلاف في نص القرآن الكريم.

قال آخر: وتحدث في الفصل الثالث المعنون بـ (شكل القرآن) عن تفسيم القرآن الكريم إلى أجزاء وأحزاب وأرباع وسور وعناوين السور، ثم تحدث عن الحروف المقطعة، ثم ذكر أن الغرض من وراء هذا التقسيم كان لغرض التلاوة، ثم ذكر موقف ابن مسعود من المعوذتين، ثم تحدث عن إيقاع الآيات القرآنية، وعن الصور الدرامية في القرآن الكريم.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/50)

قال آخر (1): وتحدث في الفصل الرابع المعنون بـ (بنية وأسلوب القرآن) عن أسلوب القرآن الكريم زاعما أنه غلب عليه السجع والإلزامات المتكررة لتأثره بسجع الكهان، كما ذكر أن أسلوبه امتاز بالقصر وشدة الإيقاع، والتكرار، والفقرات التوكيدية، وأنه كان غنيا بالقصص والحكايات الرمزية، والتشبيهات، والاستعارات.

قال آخر (2): وتحدث في الفصل الخامس المعنون بـ (تصنيف السور) عن السور القرآنية من حيث الطول والقصر وتكرار العبارات المسجوعة والانقطاع النحوي للجمل والإقحامات لبعض الفقرات كتكميلات بديلة على حسب زعمه.. زاعما أن هذه التكميلات كانت بعد تمام الجمع، وأكد أن هذا كان بفعل جمعة القرآن الذين كانوا يضعون ما على ظهر الورقة بصورة عشوائية، ثم ذكر أن عدم كفاية التفسيرات العادية لإيضاح بعض العبارات غير المترابطة أدى إلى بعض الاضطراب والخلط.. ثم ذكر بعض الفقرات التي ناقشت موضوعات سببت مشكلات حرجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ حسب زعمه ـ ثم ذكر في هذا الفصل أن الصورة الحالية للقرآن تعتمد على وثائق مكتوبة ترجع إلى زمن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ختم الفصل بالحديث عن الناسخ والمنسوخ.

قال آخر (3): وتحدث في الفصل السادس المعنون بـ (الترتيب الزمني للقرآن) عن الترتيب في القرآن الكريم وذكر موقف المستشرقين منه، ومحاولات المستشرقين لترتيب القرآن الكريم ترتيبا زمنيا كمحاولة (نولديكه) و(موير) و(جريم) وغيرهم، مبينا العناصر التي اعتمدوها في هذه المحاولات كتحليل مواد السورة بدراسة الأسلوب، والصياغة وعلاقتها بتكليف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة لأول مرة، وعلاقة ذلك بمبدإ عقوبة الكافر، مع

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 101.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 102.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 102.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/51)

بيان ردة فعله على عداوة يهود المدينة له مع مراعاة تواريخ بعض الفقرات، ثم ذكر جدولا بين فيه ترتيب سور القرآن الكريم حسب المصحف العثماني، وحسب رأي (نولديكه) و(جريم) و(موير) وحسب ترتيب المصحف المصري.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل السابع المعنون بـ (مراحل نمو القرآن) عن دلائل قدرة الله سبحانه وعلى كرمه بإنعامه على خلقه، مع ربط هذا الأمر بآيات البعث، زاعما أن كثيرا من هذه الآيات قد روجعت وعدلت بحيث تتلاءم مع وضعها الحالي في المصحف، وزعم أن ذلك بسبب التأثر بالمصادر المسيحية، ثم تناول معنى (مثاني) مبينا فهم بعض المستشرقين لها حيث فسرها بعضهم بالفاتحة بآياتها السبع، أو هي سبع قصص عقاب كثر تكرارها في القرآن الكريم، كقصة عاد، وثمود وأصحاب الحجر، وأهل الأيكة، وقوم تبع، وسبأ، وقصة نوح، وغيرها، ثم ختم الفصل بالحديث عن أسماء القرآن الكريم: القرآن ـ الكتاب ـ الفرقان.

قال آخر (2): وتحدث في الفصل الثامن المعنون بـ (محتوى القرآن ومصادره) عن تعاليم القرآن الكريم وأهدافه ودرجة تأثره باليهودية والمسيحية، والمبدأ الأساسي الذي دعا له، وهو توحيد الله سبحانه، وأسمائه، وصفاته، وزعمه تأثر بعض أسماء الله عزوجل (كالرحمن) بالمذهب المانوي، وغيره، ثم تحدث عن تطور معنى كلمة (رسول) من المعنى الإقليمي إلى المعنى العالمي، ثم ختم الفصل بالحديث عن نهاية العالم، ومصير الإنسان فيه إلى جنة أو نار.

قال آخر (3): وتحدث في الفصل التاسع المعنون بـ (القصص) عن القصص القرآني

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 102.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 102.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 104.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/52)

ومقدار تأثره باليهودية والمسيحية، واعتماده على المصادر الشفوية أكثر من المصادر المكتوبة الموثقة ـ في نظره ـ ثم ذكر أن بعض القصص كان فيه اضطراب واضح على حد زعمه.

قال آخر (1): وتحدث في الفصل العاشر المعنون بـ (التشريع) عن بعض العبادات في الإسلام كالصلاة والصيام والزكاة والحج، ثم تناول بعض جوانب التشريع المتعلقة ببعض المطعومات والمشروبات، كالخمر، والربا، والمقامرة، ثم تحدث عن بعض الأحكام المتعلقة بالأسرة كالزواج، والطلاق، والإرث، وغيرها.. وختم الكتاب بقائمة فهارس تخدم الكتاب.

2. التشكيك والبيئة

بعد أن انتهى المشككون التائبون من ذكر المنابع والمقررات التي تحوي أصناف الشبه والتشكيكات، قام بعض الحضور، وقال: حدثتمونا عن منابع التشكيك المسمومة؛ فأجيبونا عما حوت عليه من الضلالات؛ فلا يصح ذكر المنكر دون النهي عنه، ولا يصح ذكر الشبهة دون الرد عليها.

قال كبير المشككين: أجل.. وسنبدأ بأول الشبه، وأكثرها انتشارا، وهي ربط القرآن الكريم بالبيئة التي تنزل فيها، واعتبار أنه نتاج لها، وقد رأينا أن أكثر المشككين يرددونها، وكأنها بديهية ومسلمة لا شك فيها.

قال آخر: وقد رأينا من خلال إحصائنا واستقرائنا لما في تلك الكتب أنهم يقصدون خمس جهات، يعتبرون أنها مصادر القرآن الكريم، لا الوحي الإلهي.

قال آخر: وأولها الوثنية التي كانت سائدة في أكثر القبائل العربية، بما فيها قريش التي

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 104.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/53)

عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أهلها.

قال آخر: وثانيها أولئك الحنفاء الذين تمردوا على الوثنية، وآمنوا بالله الواحد، وحاولوا بحسب ما وصلهم التدين بدين إبراهيم عليه السلام.

قال آخر: وثالثها اليهودية.. وهي الديانة التي كان عليها الكثير من أهل المدينة التي هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر: ورابعها المسيحية.. وهي الديانة التي كان يؤمن بها بعض العرب، والذين وفد بعضهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر: وخامسها الزرادشتية.. والتي كانت موجودة في ذلك الحين في فارس.

قال آخر: وسادسا الصابئة.. والتي كانت موجودة في ذلك الحين في الشام والعراق.

أ. القرآن والوثنية

قال أحد الحضور: فحدثونا عن الشبه التي أثارها المستشرقون وغيرهم حول القرآن الكريم والبيئة الوثنية.

قال أحد المشككين: على الرغم من غرابة هذه الشبهة، إلا أنا سنذكرها كما ذكرها أساتذنا المشككون.. والذين يكادون يتفقون على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأثر بالبيئة الوثنية التي عاش فيها.

قال آخر: وقد استدلوا على ذلك بالتشابه الموجود في بعض العقائد والشعائر التعبدية، والعادات، حيث استدلوا بها على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استفادها من البيئة التي عاش فيها (1).

__________

(1) كتاب مصادر الإسلام لتسدال ص 6 وما بعدها، ومقدمة القرآن لريتشارد بل ص 9، وكتاب مدخل القرآن للأستاذ دراز ص 129 وما بعدها.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/54)

قال آخر: ومن الأمثلة على الشعائر التعبدية الحج بما فيه من طواف وتقبيل للحجر الأسود وسعي بين الصفا والمروة، وغيرها من شعائر الحج (1).

قال آخر: ومثل ذلك ما كان من تشابه بين شرائع الإسلام، وبعض العادات الجاهلية المرتبطة بالزواج والختان ونحوهما (2).

قال أحد الحضور: عرفنا الشبه.. فما هو الرد عليها؟

قال أحد المشككين: أول الرد عليها ما سمعتموه في الرد على الكشفية من أن التوافق على الخير والحكمة لا يعني التأثر ولا الاقتباس.. فالحق والخير موجود في العالم أجمع، وإن خلط ببعض الباطل، أو بالكثير منه.

قال آخر: والحكيم هو الذي يميز الحق عن الباطل، أو يجعل الحق الموجود في بيئته وسيلة لقمع الباطل الذي سيطر عليها، كما قال تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: 37]

ملة إبراهيم

قال آخر: ولذلك؛ فإن البيئة التي عاش فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكُلف بأن يبدأ رسالته منها، لم تكن بيئة منحرفة تماما عن الحق، وإنما خلطت الحق بالكثير من الباطل؛ فلذلك صار الحق باطلا بسبب تشويهها له.

قال آخر: ويدل لذلك ما ورد في القرآن الكريم من أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بأن يهاجر إلى مكة المكرمة، ليبني الكعبة المشرفة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ

__________

(1) مصادر الإسلام ص 806، ومقدمة القرآن بل ص 9.

(2) مصادر الإسلام لتسدال ص 8.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/55)

مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 125 ـ 129]

قال آخر: وقد ورد في كتب الحديث والتاريخ ما يدل على أن العرب ظلوا تابعين لملة إبراهيم عليه السلام إلى أن دبت الوثنية ديارهم بسبب أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تعظيما للحرم وصبابة بمكة.

قال آخر: وتذكر المصادر التاريخية أن أول من غير دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ونصب الأوثان، وسيب السائبة، وبحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، عمرو بن لحي، ثم انتشرت عبادة الأصنام وصارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب حتى بلغ بهم الجهل أنه حين غلبت خزاعة على البيت ونفت جرهم عن مكة، جعلت العرب عمرو بن لحي (1) ربا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم، وقيل: إن أمره وأمر ولده دام على مكة ثلاثمائة سنة (2).

قال آخر: وهكذا ابتعد العرب عن دين إبراهيم عليه السلام فدخل الشرك في عقائدهم وعباداتهم وصرفوا ما ينبغي أن يكون لله سبحانه لأصنامهم وأوثانهم وساءت الأخلاق، وانتشرت المفاسد، وانتهكت المحارم، وتركت الفرائض والسنن، وانتشرت البدع والخرافات، ومع هذا بقي قلة من الناس يبحثون عن الحقيقة وهم الحنفاء.

__________

(1) كتاب أخبار مكة 1/ 116.

(2) الروض الأنف 1/ 102.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/56)

قال آخر: وقد صور ذلك جعفر بن أبي طالب، فقال للنجاشي ملك الحبشة ردا على افتراءات السفيرين اللذين أرسلتهما قريش لإرجاع المهاجرين من الحبشة لمكة: (أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف؛ فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، ـ وعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا)(1)

قال أحد الحضور: فما تقولون فيما ذكره بعض المستشرقين، حيث قال: (نجد في المدينة في معية محمد حاشية مسيحية ويهودية قد أسلمت أو سايرت الإسلام، نجد بلالا الحبشي مؤذن النبي، وصهيبا الرومي المسيحي الثري، وسلمان الفارسي المسيحي الأصل، وعبد الله بن سلام اليهودي الوحيد الذي أسلم في المدينة مع كعب الأحبار، وهل كان حديث هذه الحاشية الكريمة سوى التوراة والإنجيل؟.. إن ذلك حجة قاطعة على أن بيئة النبي والقرآن كانت كتابية من كل نواحيها، وأن ثقافة محمد والقرآن كتابية في كل مظاهرها، وذلك بمعزل عن الوحي والتنزيل)(2)

قال أحد المشككين (3): أول الردود على هذه الشبهة هو أن هذه الحاشية المسيحية

__________

(1) البداية والنهاية 3/ 73 ـ 74، والكامل في التاريخ 2/ 55.

(2) القرآن والمبشرون: 94.

(3) محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 4/ 391.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/57)

واليهودية ـ كما يزعمون ـ والتي قد أسلمت؛ دليل واضح على أن الديانات قبل الإسلام حرّفت، فلذا لم يسع هؤلاء بعد أن عرفوا الحق إلا أن يتركوا ما هم عليه من الباطل ويتبعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر: وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لزيد بن عمرو: ما لي أرى قومك قد شنفوا لك، فقال: أما والله، إن ذلك لبغير نائرة كانت مني إليهم، ولكني أراهم على ضلالة، فخرجت أبتغي هذا الدين حتى قدمت على أحبار يثرب، فوجدتهم يعبدون الله، ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت حتى أقدمت على أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت حتى قدمت على أحبار فدك فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، خرجت حتى أقدمت على أحبار أيلة فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فقال لي حبر من أحبار الشام: أتسل عن دين ما تعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخا بالجزيرة، فخرجت فقدمت عليه فأخبرته بالذي خرجت له، فقال: إن كل من رأيت في ضلال؛ إنك تسأل عن دين هو دين الله ودين ملائكته، وقد خرج في أرضك نبي أو هو خارج يدعو إليه، ارجع فصدقه واتبعه وآمن بما جاء به (1).

قال آخر: وقد شهد المستشرقون أنفسهم بذلك؛ فقد نفى (نلسن) أن تكون اليهودية أو المسيحية قد أثّرتا في وجود التوحيد عند العرب، ففي رأيه أن اليهود كان إلههم الخاص بهم ولم يكن إلها عالميا، كما أن المسيحية التي ظلت حتى عصر محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن توحيدية بل كانت متعددة الآلهة، فالمسيح وأمه كانا يقدسان كإلهين (2).

__________

(1) رواه البخاري: رقم 3827، وأبو يعلى في مسنده: 13/ 137.

(2) التاريخ العربي القديم: نلسن ديتلف وآخرون؛ نقلا من كتاب: ورقة بن نوفل مبشر الرسول لغسان عزيز حسن (28)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/58)

قال آخر (1): ويدل لذلك أيضا أن ورقة عندما أراد أن يتنصر ذهب إلى الشام، وهذا لعدم توفر ذلك في الجزيرة العربية، فكان على الشرك قبل هذا؛ لأنه نشأ في بيئة وثنية.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الواقع يشهد أن ديانة العرب المنتشرة في الجزيرة هي الشرك، وقد قال المستشار نجيب وهبة، وهو باحث مسيحي: (كانت كثرة العرب في الجاهلية وثنية تؤمن بقوى إلهية كثيرة تنبث في الكواكب ومظاهر الطبيعة)(2)، ثم ذكر عدة أسماء للقبائل التي تنصرت في شبه الجزيرة، ولم يفصل في وجود كنائس أو قبائل نصرانية في مكة (3).

قال آخر (4): وقد روي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي)(5).. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصرانيا، وكان المجتمع نصرانيا، فلماذا حدث العداء، فلم يصدّقوه بل حاربوه، حتى إن القبائل النصرانية بالجزيرة العربية ـ التي يشهد التاريخ الصحيح بأنها نصرانية ـ لم تقبله.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الحركة الدينية اليهودية والمسيحية في مكة لم تكن مزدهرة؛ بل كان الشرك هو المسيطر، حيث لم يظهر بين يهود الجزيرة العربية من اشتهر بعلم أو فقه أو فلسفة، وهذا يدل بالضرورة على عدم ازدهار الحركة الفكرية والثقافية عندهم، فهم آثروا البقاء منعزلين عن العالم، مكتفين بأبسط أنواع الحياة (6).

قال آخر (7): بالإضافة إلى ذلك عدم استغلال النصارى للشعر لتقوية موقفهم في مكة ونشر دينهم، فإن هذا كان أهم وسيلة لنشر دينهم، حيث نجد أنه لا يختلف الشعر

__________

(1) محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 4/ 392.

(2) إشراقة شمس المسيحية في شبه الجزيرة العربية 61.

(3) إشراقة شمس المسيحية في شبه الجزيرة العربية ص 131.

(4) محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 4/ 393.

(5) البخاري (3)، ومسلم (160)

(6) العرب قبل الإسلام د. جواد علي 6/8، ود. إسرائيل ولفنسون؛ تاريخ اليهودية في بلاد العرب 42.

(7) محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 4/ 393.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/59)

النصراني عن شعر الشعراء الوثنيين بشيء، فمن الصعب على الباحث أن يجد فرقا كبيرا بين شعر الشعراء النصارى وشعر الشعراء الوثنيين، ولهذا ذهب بعض المستشرقين إلى أن من الصعب التحدث عن وجود شعر نصراني عربي له ميزات امتاز بها عن الشعر الوثني قبل الإسلام (1).

الحج

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فما السر في تشابه بعض شعائر الحج في الإسلام مع بعض شعائره في الجاهلية؟

قال أحد المشككين: تشابه مناسك الحج في الإسلام في بعض الأمور مع الحج في الجاهلية، يدل على أن أهل مكة ورثوا تلك الشعيرة من ملة إبراهيم عليه السلام، وهي شعيرة صحيحة سليمة لها دورها في إصلاح النفس والمجتمع؛ فلذلك أبقاها الله تعالى، وأمر المسلمين بإحيائها، لا وفق ما كان عليه أهل الجاهلية، وإنما وفقا للقيم التي جاء بها الإسلام.

قال آخر: وذلك يشبه ما لو أن طبيا رأى قوما من الناس يستعملون دواء صحيحا، لكنهم يخلطونه ببعض الأدوية الفاسدة، أو يستعملونه بطريقة غير صحيحة؛ فالحكمة لا تدعوه لأن ينهاهم عن الدواء الصحيح الشافي، وإنما تدعوه ليحذرهم مما خلطوه به من الأدوية الفاسدة، أو من الاستعمال الخاطئ له.

قال آخر: ولهذا قُرنت الأوامر القرآنية المرتبطة بالحج بتوحيد الله، مثلها مثل كل الأوامر، كما قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]، أي بصحبة الإخلاص لله، وهو ما يفرقها عن الوثنية تماما.. فالوثنية كانت تتوجه بتلك الشعائر للأوثان لا لله.

قال آخر: ومثل ذلك قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا

__________

(1) انظر العرب قبل الإسلام د. جواد علي 6/8.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/60)

وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 91]، وقال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾ [قريش: 3]، فبين الله تعالى أن العبادة لرب البيت وهو الله عز وجل وليست للبيت، والمعنى: إنما أمرت أن أخص الله بالعبادة وحده لا شريك له (1).. وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها (2).

قال آخر: وهكذا نرى الله تعالى يقرن كل شعائر الحج بالعبودية الخالصة، أو بملة إبراهيم عليه السلام بعيدا عن كل ما انحرف به الوثنيون في هذه الشعيرة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96، 97]، وقال: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]، وقال ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125]، وقال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158]، وغيرها من الآيات الكريمة التي تبين أن أعمال الحج من عند الله، وليست من أعمال الوثنية.

قال آخر: ولهذا ذكر الله تعالى المصدر الصحيح لتلك الشعائر التعبدية التي حافظ المشركون على بعض ظواهرها، بينما خالفوا حقائقها وبواطنها، فقال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 127، 128]

قال آخر: ولهذا نرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينبه في كل محل إلى ارتباط كل شعائر الحج

__________

(1) فتح القدير 4/223.

(2) تفسير ابن كثير 3/503.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/61)

بإبراهيم عليه السلام أو بغيره من الأنبياء الكرام، وقد ورد في الحديث عن ابن عبّاس قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مكّة والمدينة فمررنا بواد فقال: (أي واد هذا؟) فقالوا: وادي الأزرق، فقال: (كأني أنظر إلى موسى صلى الله عليه وآله وسلم واضعا إصبعيه في أذنيه له جؤارٌ إلى الله بالتّلبية مارا بهذا الوادي) قال: (ثمّ سرنا حتّى أتينا على ثنيّة، فقال: (أي ثنيّة هذه؟) قالوا: هرشى أو لفتٌ، فقال: (كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبّة صوف خطام ناقته ليفٌ خلبةٌ مارا بهذا الوادي ملبّيا)(1)

قال آخر: وقال ابن عبّاس: (أوّل ما اتّخذ النّساء المنطق من قبل أمّ إسماعيل، اتّخذت منطقا، ثمّ جاء بها إبراهيم، وبابنها إسماعيل وهى ترضعه حتّى وضعهما عند البيت عند دوحة، فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكّة يومئذ أحدٌ، وليس بها ماءٌ، فوضعهما هنالك.. فذكر القصة وفيها: فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصّفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثمّ استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا، فهبطت من، الصّفا حتّى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثمّ سعت سعى الإنسان المجهود حتّى جاوزت الوادي، ثمّ أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرّات ـ قال ابن عبّاس: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فذلك سعى النّاس بينهما)(2)

قال آخر: وعنه قال ـ يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ: (لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض)، قال ابن عباس: (الشيطان ترجمون وملة

__________

(1) مسلم (166)

(2) البخاري (3364)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/62)

أبيكم تتبعون)(1)

قال آخر: وعن يزيد بن شيبان قال: كنّا في موقف لنا بعرفة يباعده عمرو بن دينار من موقف الإمام جدا فأتانا ابن بزيغ الأنصاريّ فقال لنا: إنّي رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليكم إنّ رسول الله يأمركم أن تقفوا على مشاعركم هذه فإنّكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام)(2)

قال آخر: وهكذا كانت كل مواقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرتبطة بالحج تدعو إلى إزالة كل آثار الوثنية عنه؛ فعن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكّة وحول الكعبة ثلاثمائة وستّون نصبا فجعل يطعنها بعود كان بيده ويقول: (جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا)(جاء الحقّ وما يبدئ الباطل وما يعيد)(3)

قال آخر: وعن ابن عبّاس أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا رأى الصّور في البيت لم يدخل، حتّى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السّلام ـ بأيديهما الأزلام فقال: (قاتلهم الله، والله إن استقسما بالأزلام قطّ)(4)

قال آخر: ولهذا؛ فإن الحج الذي جاء به الإسلام يختلف جذريا عن الحج الذي كان في الجاهلية، وإن تشابه معه في بعض صوره ومظاهره، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد عن أقوالهم في التلبية، فعن ابن عباس قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويلكم قد قد، فيقولون: إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت (5).. فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك)(6)

__________

(1) الحاكم 1/638، والبيهقي 5/153.

(2) النسائي 5/255، والترمذي (883)

(3) البخاري (2478)، مسلم (1781)

(4) البخاري (3352)

(5) مسلم (1185)

(6) البخاري (1549)، مسلم (1184)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/63)

قال آخر: ومن ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون البيت عراة، ويرمون ثيابهم، ويتركونها ملقاة على الأرض، ولا يأخذونها أبدا، ويتركونها تداس بالأرجل حتى تبلى، فأمر الله تعالى بستر العورة ونهى عن الطواف عرايا، قال عروة: كان النّاس يطوفون في الجاهليّة عراة إلّا الحمس، والحمس قريشٌ وما ولدت، وكانت الحمس يحتسبون على النّاس يعطى الرّجل الرّجل الثّياب يطوف فيها، وتعطى المرأة المرأة الثّياب تطوف فيها، فمن لم يعطه الحمس طاف بالبيت عريانا، وكان يفيض جماعة النّاس من عرفات، ويفيض الحمس من جمع، قال: وأخبرنى أبى عن عائشة أنّ هذه الآية نزلت في الحمس ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 199]، قال: كانوا يفيضون من جمع فدفعوا إلى عرفات (1)، وعن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة؛ فنزلت هذه الآية: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31] (2)

قال آخر: وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخالفهم في كل ما كان له علاقة بالوثنية والجاهلية، ففي الحديث عن جابر في سياق حجة الوداع قال: (وكانت العرب يدفع بهم أبو سيّارة على حمار عرى فلمّا أجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام، لم تشكّ قريشٌ أنّه سيقتصر عليه ويكون منزله ثمّ فأجاز ولم يعرض له حتّى أتى عرفات فنزل)(3)، وهو يدل على أن قريشا كانت قبل الإسلام تقف بالمزدلفة وهي من الحرم ولا يقفون بعرفات، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، وكانت قريش تقول: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه، فلما حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصل المزدلفة اعتقدوا أنه يقف بالمزدلفة على عادة قريش، فجاوز إلى عرفات لقول الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: 199]

__________

(1) البخاري (1665)، مسلم (1219)

(2) مسلم (3028)

(3) مسلم (2316)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/64)

قال آخر: وهكذا يذكر الله تعالى أن أهل الجاهلية كانوا يخلطون شعائرهم بالمكاء والتصدية؛ فنهى عن ذلك، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [الأنفال: 35]، أي أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويصفّقون ويصفرون ويضعون خدودهم بالأرض، فجاء الإسلام وبين أن الطواف لذكر الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما جعل الطّواف بالبيت وبين الصّفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)(1)

قال آخر: ولهذا؛ فإن تصوير الحج بصورة الشعيرة الوثنية عجيب جدا، ذلك أن كل المناسك مرتبطة بالتوحيد، وقد أبطل الإسلام كل المخالفات التي كانت في الجاهلية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة عرفات: (ألا كلّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوعٌ ودماء الجاهليّة موضوعةٌ وإنّ أوّل دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيلٌ وربا الجاهليّة موضوعٌ وأوّل ربا أضع ربانا ربا عبّاس بن عبد المطّلب فإنّه موضوعٌ كلّه)(2)

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك كله؛ فإن المستشرقين أنفسهم يشهدون بأن الحج من الشعائر التي كانت معروفة في جميع الأديان، وأنه لا علاقة له في ذاته بالوثنية، ففي دائرة المعارف الإسلامية قالوا: (ولم يك هذا الحج إلى عرفات أمرا اختص به العرب، فالحج إلى معبد من المعابد عادة سامية قديمة جعلت حتى في الأجزاء القديمة من أسفار موسى الخمس فرضا يجب أداؤه، فقد ورد في سفر الخروج الإصحاح الرابع والثلاثين (ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب إله إسرائيل)(3)

__________

(1) أبو داود في سننه (1888)، وابن خزيمة في صحيحه (2882)

(2) مسلم (1218)

(3) دائرة المعارف الإسلامية 7/ 305، وانظر الكتاب المقدس ص 145.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/65)

الزواج

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فما تقولون في الشبه الذي استدل به المستشرقون بين الإسلام والوثنيين في بعض أنواع الزواج والختان وغيرهما (1).

قال أحد المشككين: أنتم تعلمون أن الشعوب جميعا مهما اختلفت دياناتها قد تتصف ببعض العادات الطيبة التي لا يصح للعاقل أن يخالفها، بل إن العاقل هو الذي يستثمر بعض العادات الطيبة الموجودة، ليبني عليها، ويدعوهم من خلالها إلى ما لم يكن موجودا، أو يصحح ما كان فاسدا.

قال آخر: وقد ورد ي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (شهدت حلف بني هاشم، وزهرة، وتيم، فما يسرني أني نقضته ولي حمر النعم، ولو دعيت به اليوم لأجبت على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونأخذ للمظلوم من الظالم)(2).. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يخبر أنه أقر ذلك الحلف مع كونه في الجاهلية، وأنه لو دعي مثله في الإسلام لأجاب.

قال آخر: ومثل ذلك ورد في الحديث عن كميل قال: قال علي بن أبي طالب: يا سبحان الله، ما أزهد كثيرا من الناس في خير عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في الحاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كان لا يرجو ثوابا، ولا يخشى عقابا لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق، فإنها تدل على سبيل النجاح، فقام إليه رجل، فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين، أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم، وما هو خير، فذكر حديثا في قدوم ابنة حاتم الطائي، وذكرها أخلاق أبيها، وأنه لم يرد طالب حاجة قط، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق)، فقام أبو بردة بن

__________

(1) مصادر الإسلام لتسدال ص 8.

(2) البزار في (المسند)(1/ 185)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/66)

نياد فقال: يا رسول الله، الله عز وجل يحب مكارم الأخلاق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق)(1)

قال آخر (2): ومن هذا الباب؛ فقد كان للعرب عادات تأصلت فيهم؛ فلما جاء الإسلام أقر منها ما كان صالحا وشجعه.. وبناء على هذا وافق على ما كان من عادات العرب في الزواج وغيره موافقا لروح الإسلام وتشريعاته، فقد أقرها الإسلام وحض عليها، وما جاء منها مخالفا للإسلام في روحه وشرعه كنكاح الجاهلية الذي وصف في بعض الأحاديث، أو عدم الزواج من امرأة المتبني، أو نكاح أكثر من أربع نساء، كل ذلك أبطله الإسلام وحاربه لما فيه من أضرار خلقية وفوضى اجتماعية.

الختان

قال آخر (3): ومثل ذلك الختان؛ فهو سنة فطرية وأمر شرعي في الكثير من الديانات، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الفطرة خمس: الاختتان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط)(4)

قال آخر: وقد ذكرت التوراة أن الختان هو العهد بين الرب وبين إبراهيم وذريته، ومن يترك الختان ينكث العهد، كما ذكرت أن إبراهيم ختن وهو ابن تسع وتسعين، وقد تعاهد الأنبياء وأتباعهم من بعده هذه السنة فقد انتشرت في بني إسرائيل حتى اعتبروا أن من لم يفعلها قد ارتكب عارا (5).

قال آخر: وفي الكتاب المقدس أن يشوع مثلا لم يترك الخارجين من مصر قلفا بل ختنهم جميعا ليخلصهم من هذا العار، وقد ذكرت التوراة أمر الختان في سفر يشوع [5/ 1 ـ

__________

(1) شعب الإيمان (10/ 374)

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 252.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 253.

(4) مسلم (50) ج 1/ 221.

(5) الكتاب المقدس ص 24 ـ 25. سفر التكوين الإصحاح 17.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/67)

9]: (وفي ذلك الوقت قال الرب: يشوع اصنع لنفسك سكاكين من صوان وعد فاختن بني إسرائيل ثانية، فصنع يشوع سكاكين من صوان وختن بني إسرائيل في تل القلف)

قال آخر (1): وهو أيضا موجود في المسيحية قبل تبديلها وإدخال ما ليس فيها من قبل بولس الذي مسخها وأدخل فيها الوثنية والفلسفة الإغريقية، فقد جاء في إنجيل لوقا [2/ 21]: (ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن)

قال آخر: كما أن الختان كان منتشرا في أمم أخرى قديمة كالمصريين والعرب، وأهل أروم، وموآب، وبني عمون (2).. وغيرها.

قال آخر: وهكذا نرى من خلال هذه النصوص أن الختان سنة فطرية في أمم الأرض قديما، وسنة مشروعة لأهل الأديان، وفي ذلك رد كاف على هذه الفرية التي أشاعها المستشرقون.

ب. القرآن والحنفاء

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن الشبه التي أثارها المستشرقون وغيرهم حول القرآن الكريم والحنفاء.

قال أحد المشككين: لقد ذهب بعض المستشرقين، ومنهم (تسدال) و(مستر كانون سل) وغيرهما إلى أن الحنيفية ورجالها قبل البعثة المحمدية هم أحد مصادر القرآن الكريم (3).

قال آخر (4): وقد استدلوا على ذلك بوجود بعض التوافق بين أحكام القرآن

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 254.

(2) انظر الكتاب المقدس (العهد القديم) سفر أرميا الإصحاح التاسع فقرة 25.

(3) انظر مصادر الإسلام ص 198 وما بعدها، وكتاب حياة محمد (56 ـ 57.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 263.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/68)

وهداياته وبين ما كان يدعو إليه الحنفاء مثل الدعوة لإفراد الله بوحدانيته سبحانه وتعالى.. ورفض عبادة الأصنام.. والوعد بالجنان.. والوعيد بالعقاب في جهنم.. واختصاص الله تعالى بأسماء منها: الرحمن، الرب، الغفور.. ومنع وأد البنات.. والإقرار بالبعث والنشور والحشر والحساب.

قال آخر: وقد زعم (شبرنجر) أن (أفكار محمد لا تخرج عن الأفكار التي كان يدعو إليها زيد بن عمرو بن نفيل)(1)، وهو أحد هؤلاء الحنفاء.

قال آخر (2): ولهذا ركز المستشرقون في أبحاثهم على أصل كلمة (حنف) وما يشتق منها كحنيف، وحنفاء.. وهل هي عربية الأصل أم عبرية؟ أم كنعانية آرامية؟ وعلى معانيها: هل هي بمعنى كافر؟ أو مشرك؟ أو تدل على الراهب النصراني إلى غير ذلك من المعاني التي ذكروها لهذه الكلمة، وزيادة في اهتمامهم بهذه الكلمة كتبوا فيها أبحاثا وكتابات مختلفة (3).

قال آخر (4): وهذه الكلمة تعني الميل، والحنيف هو المائل إلى الدين المستقيم، كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67]، ولذلك؛ فإن الحنفاء هم مجموعة من الناس متفرقين مالوا عن الوثنية وعن عبادة الأصنام إلى التوحيد، ولم يكن هؤلاء على رأى واحد ولا طائفة واحدة تسير على شريعة واحدة ثابتة، وإنما هم نفر من قبائل شتى ظهروا في مناطق مختلفة اتفقوا على رفض عبادة الأصنام والدعوة إلى الإصلاح.

قال آخر (5): وكل وهؤلاء الحنفاء كانوا حريصين أن يصلوا لدين إبراهيم عليه السلام، وكانوا على يقين أن الله سيبعث من يجدد أمر دين إبراهيم عليه السلام؛ فاختاروا

__________

(1) انظر تاريخ القرآن 1/ 18.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 263.

(3) انظر دائرة المعارف الإسلامية 8/ 124 ـ 130.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 264.

(5) الوحي المحمدي 2/ 96 ـ 98.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/69)

في ذلك كثيرا وأجهدوا أنفسهم في الوصول لذلك، فساحوا في البلاد يلتمسون ما عند أهل الكتاب والملل لعلهم يجدون بغيتهم، لذا تنصر بعضهم كورقة بن نوفل، وعثمان بن حويرث، وعبيد الله بن جحش، وتهود آخرون.

قال آخر: وهؤلاء جميعا كانوا يبحثون عن دين كالإسلام، ويبشرون بنبيه، ويتمنون لو يدركوه فينصروه ويسلموا معه كما وضح ذلك قس بن ساعدة وورقة بن نوفل.

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن المعروف من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يجلس لأحد من هؤلاء الحنفاء جلسة تعلم، وإنما كان لقاؤه لهم لقاء عابرا، وكانوا هم بحاجة لمن يبصرهم ويرشدهم للدين الذي يرضاه الله عزوجل.

قال آخر (2): والناظر بأدنى تأمل في القرآن الكريم وما أتى به هؤلاء الحنفاء يرى البون الشاسع بينهما، حيث يرى بساطة ما دعوا إليه، ويرى مقابله قرآنا معجزا في لغته وأسلوبه قد عجز العرب جميعا عن مضاهاته مع فصاحتهم وطلاقة ألسنتهم.. بل يرى قرآنا معجزا في تشريعاته صغرت أمامه كل التشريعات البشرية، ويرى قرآنا معجزا في وضوح عقيدته وتكاملها وصدق نبوءته فيما أخبر عنه من غيبيات، وحقائق علمية ثابتة تحققت في حياته صلى الله عليه وآله وسلم وبعد مماته، كما أنه من المعروف أن هذا القرآن بقي يتنزل بعد موت هؤلاء الحنفاء حسب ما تقتضيه الحاجة والمصلحة، فمن أين يا ترى هذه الاستمرارية له؟

قال آخر: ثم إن هؤلاء الحنفاء كانوا هم أنفسهم يخبرون الناس بقرب بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا يطلبون من الناس أن يتبعوه ولا يخالفوه، ويتمنوا لو يدركوه فيسلموا معه وينصروه، فلو كانوا هم الأصل لدعوته ولتعليمه لقاموا بالدعوة لذلك بأنفسهم وتصدروا أمر الرسالة، ونسبوا لأنفسهم هذا الشرف العظيم.

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 267.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 267.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/70)

قال آخر: بل قد تشرفت نفوس بعضهم واشرأبت أعناقهم لهذا الفضل، كأمية بن أبي الصلت الذي لبس المسوح وترهب طمعا به، ولكن الله سبحانه يؤتي فضله من يشاء من خلقه والله ذو الفضل العظيم.

قال آخر: أما التقاء الإسلام مع دعوة الحنفاء في بعض ما صرحوا به واعتقدوه فلا غرابة في ذلك لأن ما عندهم بقايا لدين إبراهيم عليه السلام.. فمن هذا القبيل جاء الاتفاق بينهما بالدعوة إلى وحدانية الله سبحانه وتعالى، ومحاربة الشرك بأنواعه، وخلع عبادة الأصنام، والأوثان بأشكالها والدعوة للأخلاق الفاضلة، ومحاربة الفساد والرذيلة.. لكن كل ذلك كان في الإسلام أتم وأكمل وأشمل.

قال آخر (1): وذلك لأن والإسلام ما جاء ليهدم كل ما وجده في طريقه، لا بل ما كان منه موافقا للإسلام أبقاه ودعمه وأحياه، وقد وضح هذا المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(2)، وهو المبدأ الذي جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحضر حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان قبل بعثته لأنه يتوافق مع قيم الإسلام ومكارمه.

قال آخر (3): ومن هنا يتبين الفرق بين نبوة كاملة تامة، وشرع متكامل، وقرآن معجز عظيم، وبين بقايا دين طمس نوره بين حطام الجاهلية وأو حال الشرك والوثنية، فالقرآن بما حواه من لغة رفيعة المستوى، وأسلوب محكم بديع وبما فيه من فصاحة وبلاغة خارقة، وحكم بالغة، وأمثال محكمة، وذكر لأحوال الماضين من أنبياء وأمم وأنباء المستقبل، وعلاقة الإنسان بخالقه وعلاقته بغيره، والتشريع العظيم الشأن الذي صار موضوع بحث الأئمة المجتهدين، والعلماء الأعلام لا يكون مصدره اجتماع زيد بن عمرو برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 268.

(2) الموطأ 2/ 904.

(3) حياة محمد (، محمد رشيد رضا ص 56.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/71)

مصادفة في حراء أو في الطريق، ولكنها الرسالة التي بعث بها أكرم رسول وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عزوجل؛ فوافق نوره بقايا النور الإلهي الضارب في أعماق التاريخ لإبراهيم عليه السلام والذي حمل مشعله ركب الأنبياء الكرام من ذريته، وتعهده الصالحون من أقوامهم، أمثال هؤلاء الحنفاء الذين كانوا يتمنون أن يدركوه وينالوا من شرف الإسلام العظيم، كما نال ذلك منهم أبو قيس بن الأسلت في المدينة المنورة وغيره.

ج. القرآن واليهودية

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن الشبه التي أثارها المستشرقون وغيرهم حول القرآن الكريم والبيئة اليهودية.

قال أحد المشككين: لقد زعم (تسدال) و(ماسيه) و(أندريه) و(لامنز) و(جولد تسيهر) و(نولديكه) وغيرهم من المستشرقين أن اليهودية مصدر من مصادر القرآن الكريم، واستدلوا على ذلك بالتشابه بين ما ورد في القرآن الكريم والكتب اليهودية في القصص، كقصة ابني آدم عليه السلام، وقتل أحدهما للآخر، وقصة إبراهيم عليه السلام وإنقاذه من نار النمرود، وقصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ، وقصة هاروت وماروت، وقصة موسى عليه السلام وبعض مواقف له، وغير ذلك.. وكالتشابه في بعض القضايا العقدية والتشريعية والحث على مكارم الأخلاق (1).

قال آخر: والجواب على هذا كما سبق، وهو أن القرآن الكريم يعترف بالأديان السابقة، ويوجب على أتباعه أن يعترفوا بها، وبالرسل الذين حملوها إلى أقوامهم، كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة:

__________

(1) انظر مصادر الإسلام لتسدال ص 29 وما بعدها (الفصل الثالث)، وانظر مذاهب التفسير الإسلامي ص 6، 10، وتاريخ القرآن لنولديكة 1/ 6.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/72)

48]

قال آخر (1): ولهذا نرى المسلمين يمتازون عن بقية الأمم بتعظيمهم رسل الله عليهم السلام جميعا، ويثبتون في حقهم صحة العقول، والصدق في القول، والأمانة في التبليغ، والعصمة من كل ما يشوه مسيرتهم، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار، وتنفر منه الأذواق السليمة.

قال آخر: وبخلاف هذا نجد موقف اليهود والمسيحيين، حيث نرى عندهم التشنيع على أنبيائهم، ونسبة ما لا ينبغي في حقهم، وإيذائهم بالسب والطعن والقتل.

قال آخر: ولهذا ـ كما ورد في القرآن الكريم تصحيح ما كان عليه الوثنيون من جهالة ـ فقد ورد فيه تصحيح ما وقع فيه اليهود من أخطاء وانحرافات، كما قال قال تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [آل عمران: 181].. وقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: 64]

قال آخر: ومثل ذلك موقفهم من رسل الله عليهم السلام؛ فقد بينه الله تعالى، فقال: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ [المائدة: 70]

قال آخر: ومثل ذلك موقفهم من الملائكة عليهم السلام، فقد شنع الله تعالى عليهم موقفهم منهم، فقال: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 335.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/73)

يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 97 ـ 98]

قال آخر: ومثل ذلك شنع الله تعالى عليهم استخفافهم بالوحي وبالكتب الإلهية، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 78]

قال آخر (1): بالإضافة إلى هذا؛ فإن التاريخ يشهد أن اليهود لم يسكتوا لحظة في عدائهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربتهم له بكل أنواع الأسلحة الدعائية العدائية، وترويج الإشاعات في الوسط المسلم، وتحريض قريش عليه، ووصل الأمر إلى حملهم السلاح ضد الإسلام، لذا، فإنه لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ شيئا من كتبهم، فما الذي سيسكتهم عن كشفه وبيان عوار دعوته وفضح ادعائه، وبيان عدم صدقه في دعوته؟

قال آخر: بالإضافة إلى هذا؛ فإن الكتاب المقدس ـ وباعتراف أكثر المستشرقين ـ لا يصلح أن يكون مرجعا لدعوة بشرية؛ فكيف يكون مصدرا لدعوة إلهية كدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من العقائد الفاسدة، وسوء أدب مع الأنبياء عليهم السلام، ولما فيه من اضطراب وتناقض، وتحريف ونقض واضح (2).

القصص

قال آخر: أما زعمهم اقتباس القرآن الكريم من قصص الكتاب المقدس عن طريق أهل الكتاب، أو عن طريق من أسلم من أحبارهم، أو من القبائل اليهودية، التي كانت تسكن في المدينة المنورة، فقد رد على ذلك بعض المتكلمين، فقال: (إن ما انطوى عليه القرآن

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 341.

(2) انظر تفاصيل ذلك ودلائله في كتاب: الكلمات المقدسة، للمؤلف.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/74)

من قصص الأولين، وسير الماضين، وأحاديث المتقدمين وذكر ما شجر بينهم، مما لا يجوز علمه إلا لمن كثر لقاؤه لأهل السير ودرسه لها وعنايته بها، ومجالسته لأهلها، وكان ممن يتلو الكتب ويستخرجها، مع العلم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يتلو كتابا ولا يخطه بيمينه، وأنه لم يلد ممن يعرف بدراسة الكتب ومجالسة أهل السير والأخذ عنهم، ولا لقي إلا من لقوه، ولا عرف إلا من عرفوه، وأنهم يعرفون منشأة وتصرفه في إقامته بينهم وظعنه عنهم فإن ذلك المخبر عن هذه الأمور هو الله سبحانه وتعالى علام الغيوب)(1)

قال آخر (2): ثم إن الناظر في القصص المذكور في القرآن الكريم مقارنا بقصص العهد القديم يجد بينها فرقا واضحا في المحتوى والغرض والأسلوب.. ففي القصة القرآنية نجد دعوة للتوحيد، ومكارم الأخلاق، وإظهار الأنبياء بأجمل صورة تليق بمقامهم من العصمة، ومكارم الأخلاق، وسلامة الفطرة، وغير ذلك بعكس القصص الموجود في الكتاب المقدس.

قال آخر (3): فالمطلع على الكتاب المقدس يجد فاتحة التوراة عنيت بتدوين التاريخ فأول سفر من أسفارها وهو (سفر التكوين) سرد لتاريخ الخلق منذ بدء الخليقة إلى موت يوسف عليه السلام، كما أن فواتح الأناجيل الأربعة دونت تاريخ المسيح عليه السلام وسيرته، أما القرآن الكريم ففعلى عكس ذلك فقد أشارت فاتحته لتوحيد الله عزوجل وبيان كيفية عبوديته، وأن نهاية كل حي أن يقف بين يدي الله مالك يوم الدين، وصنفت الناس إلى فريقين حسب استقامتهم تبعا لأوامر الله أو مخالفتهم لها.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ نجد قصص الكتاب المقدس تسيء إلى الله تعالى وإلى

__________

(1) إعجاز القرآن ص 51، طبعة مصر 1954 م.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 342.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 342.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/75)

رسله عليهم السلام أيما إساءة، بخلاف القرآن الكريم الذي ينزه الله تعالى ورسله عليهم السلام، ومن الأمثلة على ذلك هذا النص التوراتي الذي يصف الله تعالى بالتعب: (فأكملت السموات والأرض وكل جندها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمله)(1).. وهذا النص الذي يذكر قصة آدم عليه السلام: (وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت)(2)

قال آخر (3): كما أساء اليهود للأنبياء عليهم السلام، إما باتهامهم بالكذب تارة، أو بقلة المروءة تارة أخرى.. بل وصل الأمر بهم إلى رميهم بالفاحشة.. ولهذا كان من أغراض ذكر قصصهم في القرآن الكريم فضح أباطيلهم، وكشف زيغهم وانحرافهم، وليحمي شرف الوحي، وجلال النبوة.

قال آخر (4): ومن الأمثلة على ذلك تصويرهم لنوح عليه السلام ـ الصبور الشاكر الداعية لرب العالمين ـ بصورة السكير الذي يشرب الخمر، ويتعرى داخل خبائه فيدخل عليه ابنه الصغير، فيرى عورته فيسخر منه، ويذهب فيخبر أخاه الأكبر منه، فيحضر ويغطي سوأة أبيه ويعلم أبوهم الخبر فيدعو على الصغير أن يجعله وذريته عبيدا لسام وذريته.. وقد تنزل القرآن الكريم ليكشف هذه الأباطيل ويردها، ويبرئ نبي الله نوحا عليه السلام، ويرد زيفهم ويكشف ما قصدوه وراء هذا الافتراء (5).

قال آخر: ومثل ذلك ما رموا به لوطا عليه السلام ـ النبي الكريم الذي آتاه الله حكما وعلما ـ حيث نجدهم يحيكون حوله أبشع التهم من مؤامرة ابنتيه عليه حتى سقتاه خمرا،

__________

(1) سفر التكوين 2/ 1.

(2) سفر التكوين 3/ 8.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 343.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 343.

(5) انظر كتاب معركة الوجود ص 155 ـ 158.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/76)

وضاجعتاه، وهو لا يدري فحملتا منه سفاحا، فجاء منهما المؤابيون وبنو عمون إلى اليوم (1).

قال آخر (2): لكن الله تعالى أبى أن تلوث سيرة نبي من أنبيائه وولي من أوليائه بمثل هذه الصورة، فأنزل صفته وسيرته وعفته وإيمان أهل بيته إلا امرأته بآيات تتلى.

قال آخر (3): وهكذا نجدهم يقدمون لإبراهيم عليه السلام صورة كئيبة مادية، وهو يتاجر في زوجته الجميلة عند الملوك ليربح ويأكل، كما يفعل المرابون اليهود إلى يومنا هذا؛ فبرأ الله نبيه عليه السلام من هذا البهتان العظيم.

قال آخر (4): وهكذا دنس اليهود سيرة أبيهم يعقوب (إسرائيل) عليه السلام فصوروه سارقا للنبوة من أخيه، ومستغلا استغفال أبيه، والكذب عليه إلى درجة التمثيل الساذج والتلاعب البين الذي لا يخرج عن أساطير الصغار، وهزل الصبيان (5).. أما القرآن الكريم فصوره بأجمل صورة للوفاء والإيمان والنور والبصيرة، كما أنه وصف ابنه يوسف عليه السلام بأجمل وصف.

قال آخر: وهكذا دنس اليهود سيرة النبي الصالح داود عليه السلام؛ فقد خصوه وأهل بيته بالتهم الباطلة المخلة للشرف والعفة؛ فجعلوا منهم أسرة تعيث في الخطايا والدنس بكل ألوانه، فهم يرمونه عليه السلام ابتداء بارتكاب فاحشة الزنا مع زوجة قائده (أوريا) فحملت منه سفاحا بسليمان عليه السلام، ولم يكتف داود عليه السلام بذلك ـ كما يزعمون ـ بل يرمونه، بأنه تخلص من هذا القائد بوضعه في مقدمة الجند وأمرهم بالرجوع عنه وعن القلة الذين معه حتى قتل وتزوج زوجته؛ فعاقب الله عزوجل داود عليه السلام ـ كما يزعمون ـ بأن سلط عليه ابنه (أبشالوم) فنزع منه ملكه وزنا بسراري أبيه أمام جميع بني

__________

(1) انظر سفر التكوين، الإصحاح ص 19.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 344.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 344.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 345.

(5) انظر سفر التكوين، الإصحاح (27) وما بعدها، وانظر معركة الوجود ص 157.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/77)

إسرائيل.. ويصورونه فوق ذلك كله بأنه كان لاهيا عن ربه عزوجل مشغولا بنسائه وسراريه (1).

قال آخر: لذا جاء القرآن الكريم ليطهر ساحة هذا النبي الكريم ويبرئه وأهله من تهمة الفواحش المنسوبة إليهم، فصوره قانتا منيبا راكعا، عابدا عدلا، كما قال تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ [ص: 17 ـ 20]

قال آخر (2): وهكذا دنس اليهود سيرة النبي الصالح سليمان عليه السلام ـ النبي المجاهد العادل ـ فقد نسبوا إليه كل خطيئة ورذيلة وفجور، فقد اعتبروه ابن زنا، راكضا وراء شهواته، لاه عن عبادة ربه كأبيه، كما نسبوا له نشيد الإنشاد، ذلك الغزل الداعر الذي يعتبرونه وحيا يتعبدون بتلاوته.. وقد تنزل القرآن الكريم ليبين حقيقة سيرة هذا النبي الكريم الشاكر لأنعم الله الأواب العابد المجاهد، كما قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 30]

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن القصص القرآني صادق غير مثقل بالجزئيات والتفاصيل التي تصرف الفكر عن التدبر والاعتبار بعكس القصص الواردة في الكتاب المقدس.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن القرآن الكريم لم يسرد كل قصص الأنبياء والمرسلين عليهم السلام كما فعل الكتاب المقدس، بل اختار بعضهم بما يتفق وحال الدعوة

__________

(1) انظر سفر صمويل الثاني 2/ 11 وما بعدها.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 345.

(3) سيكلوجية القصة في القرآن ص 70.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/78)

الإسلامية، مركزا على جانب العظة والعبرة في قصصهم.

قال بعض الحضور: فما تقولون في إنكار (تسدال) وغيره من المستشرقين كون قصة قابيل وهابيل موجودة في التوراة، وأن القرآن الكريم اخترعها، ومثلها قصة رفع الجبل فوق رأس بني إسرائيل كأنه ظلة في قصة موسى عليه السلام؟

قال أحد المشككين (1): أما إنكار (تسدال) وغيره من المستشرقين كون قصة قابيل وهابيل موجودة في التوراة، وإنما هي في كتاب اسمه (بيرك رابي وليزر)، فهو زعم باطل حيث ذكرت في سفر التكوين [الإصحاح الرابع الفقرة 1 ـ 16]، ولا مانع من وجودها في مصادر متعددة، بل ذلك ما يؤكد صحتها ووقوعها.

قال آخر (2): أما إنكار (تسدال) لقصة رفع الجبل فوق رأس بني إسرائيل كأنه ظلة في قصة موسى عليه السلام حيث زعم أن القصة ليست في العهد القديم، وإنما أخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كتاب (الأكسودس)(3).. فهذه القصة لم تصرح التوراة بها صراحة، ولكنها أشارت إليها في سفر الخروج حيث جاء فيه: (فانحدر موسى من الجبل إلى الشعب وقدس الشعب وغسلوا ثيابهم وقال للشعب كونوا مستعدين لليوم الثالث لا تقربوا امرأة، وحدث في اليوم الثالث لما كان الصباح أنه صارت رعودا وبروقا وسحابا ثقيلا على الجبل وصوت بوق شديد جدا فارتعد كل الشعب الذي في المحلة لملاقاة الله فوقفوا في أسفل الجبل، وكان جبل سيناء، كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون، وارتجف كل الجبل جدا فكان صوت البوق يزداد اشتدادا جدا وموسى يتكلم والله يجيبه بصوت)(4)

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 347.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 347.

(3) انظر مصادر الإسلام ص 14 وما بعدها.

(4) العهد القديم سفر الخروج 19/ 14 ـ 19.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/79)

قال آخر (1): فعبارة (تحت الجبل)(2) تحتمل أنه على سفحه، وفي أسفله.. وتحتمل [تحت] أن الجبل صار كأنه ظلة فوقهم، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم.. وما جاء في التوراة في سفر الخروج ليس بعيدا عن هذا، بل هو نفسه لأن وصف الجبل بهذه الصورة من الحركة والارتجاف الشديد مقدمة للنتق ويكون عندئذ كلام (تسدال) مجرد قلب للحقائق.

قال آخر (3): وحتى لو فرضنا أن القصة لم يذكرها سوى القرآن الكريم، فإن في ذلك ميزة لهذا الكتاب العظيم على غيره من الكتب، حيث ذكر قصة نبي من الأنبياء عليهم السلام عانى من قومه أكثر مما عاناه أي نبي آخر حتى وهم يظهرون أنهم سائرون معه طائعون لأمره، فقصة الجبل تبين نفسية بني إسرائيل، حيث صورتهم على حقيقتهم، وأنهم لا يتوبون إلا بالعصا، ولا يخافون حتى يروا العذاب الأليم.

قال آخر (4): أما ما ذكره (تسدال) من أن القصة أسطورة هندية فهو مجرد ادعاء، حيث لم يبين لنا أين ذكرت هذه القصة عندهم، ولا في أي مرجع هندي، والذي يعرف أسلوب (تسدال) وغيره من المستشرقين غير المنصفين لا يأمن منهم أي كذب أو ادعاء.

قال بعض الحضور: فما تردون على (تسدال) وغيره من المستشرقين الذين زعموا أن المسلمين ذكروا نزول القرآن من اللوح المحفوظ، وحفظه فيه تقليدا لوضع موسى عليه السلام الألواح في التابوت، وظنا منهم أن التابوت هو اللوح المحفوظ (5).

قال أحد المشككين (6): هذا من تزييفهم للحقائق؛ فهم عندما يريدون أن يجعلوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم مؤلفا للقرآن الكريم يصفوه بالذكي الألمعي الذي استطاع بجلسات قصيرة ومحدودة مع أحبار اليهود ورهبان المسيحيين وتلاميذ المجوسية وكهان السامرائية أن يؤلف

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 348.

(2) مصادر الإسلام ص 40 وما بعدها.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 348.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 349.

(5) مصادر الإسلام ص 40 وما بعدها.

(6) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 349.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/80)

كل هذه العقائد والشرائع، وعندما يريدون تقرير أغاليط كهذه يصفون أتباعه بالبساطة والسذاجة لقبولهم كل هذه الأمور حيث لم يعرف محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا اللوح أهو تابوت موسى عليه السلام أم اللوح السماوي المحفوظ بالملائكة عند الله تعالى، وهذا نابع من عدم إيمان هؤلاء المستشرقين بالنبوات والرسل وإلا لما أساءوا هذا الفهم وحملوه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر (1): وقد ذكر الله تعالى تابوت موسى عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 248]، والآية الكريمة توضح جليا أن اللوح المحفوظ غير التوراة والألواح اللذين كانا في التابوت.

قال آخر (2): أما كون الآجال والأعمال والتقادير مكتوبة في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض فقد ذكرتها آيات أخرى، منها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 38 ـ 39]، حيث حمل المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة وأن قوله: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾ أي أصله، وهو اللوح المحفوظ.

قال بعض الحضور: فما تردون على (تسدال) وغيره من المستشرقين الذين أنكروا قصة العجل الذهبي الذي عبده بنو إسرائيل، وذلك لأن القرآن الكريم ذكر أن صانعه هو السامري الذي ظن (تسدال) أنه من السامرة التي لم توجد إلا بعد موسى بأربعمائة سنة (3).

قال أحد المشككين (4): هذه القصة التي أنكرها (تسدال) للمدة الطويلة الفاصلة

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 350.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 350.

(3) مصادر الإسلام ص 37 وما بعدها.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 351.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/81)

بين موسى عليه السلام والسامري المنسوب للسامرة، جهل واضح منه؛ فالقصة قد ذكرت في العهد القديم حيث ورد فيه: (فانصرف موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده، وسمع يشوع صوت الشعب في هتافه فقال لموسى صوت قتال في المحلة، وكان عند ما اقترب لي المحلة أنه أبصر العجل والرقص، فحمى غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل، ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعما وذراه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل وقال موسى لهارون: ما ذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة!؟ فقال هارون لا يحم غضب سيدي، أنت تعرف الشعب أنه في شر، فقالوا لي اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه فقلت لهم من له ذهب فلينزعه ويعطيني، فطرحته في النار فخرج هذا العجل)(1)

قال آخر (2): فالقصة واحدة في المصدرين، لكن التوراة المحرفة نصت ـ زورا وبهتانا وكذبا ـ أن صانع العجل هو هارون عليه السلام، أما القرآن الكريم فقد برأ نبي الله هارون عليه السلام ورد الأمر لحقيقته، وأن صانعه هو سامري موسى عليه السلام، وليس سامري السامرة كما ظن ذلك (تسدال) مما جعله ينكر هذه القصة.

قال آخر: وقد رد بعض الباحثين على إنكار (تسدال) للقصة لذكر القرآن الكريم السامري على أنه صانع العجل، فقال: (السامري ليس منسوبا إلى (سامره) في مدينة (نابلس) في فلسطين بل إلى (شامر) بالشين في اللغة العبرية، ويغلب أن تكون (الشين) في العبرية (سينا) في العربية فهو سامر كما ينطقها سبط أفرايم بن يوسف عليه السلام، وقد كان رجال سبط يهوذا في بعض الحروب يمتحنون الرجل ليعرف هل هو من سبط يهوذا أو

__________

(1) العهد القديم، سفر الخروج 23/ 15 ـ 26.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 352.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/82)

أفرايمي بأن يأمروه بأن ينطق (شبولت) ـ سنبله ـ فإذا قال (سبولت) علم أنه أفرايمي ومعنى (شامر) أو سامر كما هو في النطق العربي والأفرايمي (حارس) فالسامري نسبة إلى سامر ونطقها العبرية (شومير) من مادة شمر أى حرس، فقد جاء في سفر التكوين: (فقال الرب لقابيل أين هابيل أخوك؟ فقال: لا أعلم، (ه شومير حى أنواخي؟)(1) وترجمتها (أحارس أنا لأخي)(2)

قال آخر (3): وبهذا يبطل الالتباس الذي حصل (لتسدال) في شخص السامري، ويبقى (تسدال) دون مستند تاريخي لإبطال القصة، ويظهر بطلان دعوى التوراة كون هارون عليه السلام هو صانع العجل، ويظهر جليا أن ما رمي به نبي الله هارون عليه السلام هو مما رمي به الأنبياء الآخرون من الافتراء والكذب عليهم.. ولذلك؛ فإن خير من دافع عن نبي الله هارون عليه السلام القرآن الكريم، كما قال تعالى يذكر القصة كما وقعت: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 147 ـ 150]

قال بعض الحضور (4): فما تقولون في إنكار (تسدال) لقصة صعق شيوخ بني

__________

(1) سفر التكوين، الإصحاح الرابع الآية (9)

(2) قصص القرآن، النجار ص 224.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 354.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 354.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/83)

إسرائيل (1).

قال بعض الحضور (2): هذه القصة مما انفرد به القرآن الكريم باعتباره المهيمن على غيره من الكتب في صدقه ودقته وكشفه عن المستور، فقد قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 55 ـ 56].. ولا شك أنها مما أخفاه بنو إسرائيل، وذلك لأنها تمس شيوخهم ورؤساءهم، أما القرآن فقد وضح ما حصل منهم بأجلى صورة لما بين أن القوم قد ظلموا أنفسهم وقارفوا إثما كبيرا بعبادة العجل، وحينها اختار موسى عليه السلام من القوم سبعين رجلا يذهبون معه إلى الجبل الذي اعتاد أن يناجي الله فيه ليقدموا الطاعة والندم على ما اقترفوا من الإثم، فلما عادت جماعة منهم إلى التمرد والعصيان، وقالوا له: لن نؤمن أن الله نبأك وأعطاك الكتاب حتى نرى الله تعالى جهرة بأعيننا لا يحجبه حجاب ولا يستره ساتر، وعلى إثر هذا الطلب من القوم أخذتهم الصاعقة وهم ينظر بعضهم إلى بعض، يتهافتون على أديم الأرض ليكون ذلك برهانا فعليا لديهم على أن ما أصابهم حق لا شبهة فيه، ثم بعثهم الله تعالى بعد موتهم بعد التضرع من موسى عليه السلام وطلبه العفو عما صدر من سفائهم والغفران لزلتهم، فغفر الله لهم ذلك وأعادهم بمشيئته وقدرته سبحانه (3).

قال آخر (4): أما التوراة فقد أشارت لهذه القصة إشارة خفية عند ما تحدثت عن خروج السبعين مع موسى عليه السلام لميقات الله سبحانه حيث جاء فيها: (وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخن، ولما رأى الشعب ارتعدوا

__________

(1) انظر مصادر الإسلام ص 30 وما بعدها.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 354.

(3) قصص الأنبياء ص 293.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 356.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/84)

ووقفوا من بعيد وقالوا لموسى: تكلم أنت معنا فنسمع ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت، فقال موسى للشعب لا تخافوا)(1).. فقولهم: (ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت)، تشير إلى شدة الموقف، وهذا لا يمنع من صعقهم كذلك بسبب طلبهم الرؤية، والذي يقرأ تاريخ بني إسرائيل لا يستغرب طلبا منهم كهذا.

قال آخر: ويشهد لهذا ما ذكره (أتسلم تورميدا) الذي أسلم بعد أن كان نصرانيا في القرن التاسع وسمى نفسه أبا محمد عبد الله الترجمان الميورقي، فقد ذكر في كتابه: (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) مؤكدا ما جاء في القرآن الكريم حيث قال: (وإن قلتم أن عيسى إله لأجل الآيات الخارقة التي ظهرت على يديه فعلماؤكم يعلمون أن اليسع النبي عليه السلام أحيا ميتا في حياته وميتا بعد وفاته والتصرف بمعجزة الإحياء في البرزخ بعد الموت أعجب منها قبل الموت، وإلياس النبي عليه السلام أحيا أيضا ميتا)(2)

قال آخر: ومن قصص الإحياء بعد الإماتة عندهم، أن مات اليشع وأوتي بميت ووضع في نفس القبر مع اليشع فعادت الحياة إلى جسم ذلك الميت حالما مس جثمانه عظام النبي (3).

قال آخر (4): ولذلك؛ فلا داعي لاستغراب (تسدال) لمثل هذه الواقعة واستنكارها وعدها من باب الخرافة مع أن أمثالها مذكور في كتبهم، ومع أن كثيرا من المستشرقين يعتمدون كتاب (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب)، منهم (أمسين بلانيوس) و(مايكل ابيلزا)(5).

__________

(1) سفر الخروج الإصحاح 2/ 18 ـ 20.

(2) تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب ص 153 ـ 154.

(3) انظر قاموس الكتاب المقدس ص 111 ـ 112 نقلا عن تحفة الأريب ص 154.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 357.

(5) انظر مجلة الحوادث ص 62 عدد 1274 عام 1981 نقلا عن حاشية تحفة الأريب ص 23.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/85)

الأحكام

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن الشبه التي أثارها المستشرقون وغيرهم حول التشابه الموجود بين بعض العبادات المذكورة في القرآن الكريم كالصلاة والصوم وبعض المناسك مع نظيراتها عند اليهود.

قال آخر (1): ومثل ذلك ما ورد من الدعوة للتوحيد، أو أن لجهنم خازنا سماه القرآن الكريم (مالك).. وقصة استراق الشيطان للسمع وطردهم بالشهب.. ومخاطبة الله تعالى لجهنم بسؤالها: هل امتلأت؟.. والإخبار أن الأرض يرثها الصالحون.. والتشابه كذلك في الحث على مكارم الأخلاق كالنهي عن الكذب، والإحسان للفقراء والمساكين، وعدم مضايقة وإيذاء الآخرين، وعدم الحقد، وأن تحب الآخرين كحب ذلك لنفسك، وعدم الانتقام والإحسان للوالدين.

قال آخر: ومثل ذلك التشابه في بعض التشريعات كحرمة السرقة والقتل، وعدم الاعتداء، والجور في القضاء، وحرمة الزنا، وحرمة شهادة الزور، وحرمة التطفيف في الكيل والميزان.

قال أحد المشككين (2): أما بخصوص الصلاة والصيام والحج، فهي عبادات في كل الديانات السماوية، أو التي لها شبهة كتاب سماوي سواء سبقت الإسلام أو سبقت اليهودية والمسيحية كالمجوسية والصابئة والزرادشتية وغيرها من الديانات.

قال آخر (3): أما ما زعمه (تسدال) من أن صلاة المسلمين في غير المساجد كانت تأثرا بفعل اليهود ذلك في زوايا الشوارع، فهو مردود عليه من الناحية التاريخية حيث لم يعرف

__________

(1) مصادر الإسلام ص 13 وما بعدها.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 358.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 358.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/86)

عن اليهود والنصارى الصلاة إلا في الأماكن المخصصة لها كالكنائس، والبيع، والأديرة، وغيرها.

قال آخر (1): أما ما استدل به (تسدال) على أخذ الإسلام من اليهودية التشابه في الوصايا العشر، وزعم أن هذه الوصايا قد أخذها الإسلام من كتاب (جيمارا)(2).. فهو دليل على أن هؤلاء المستشرقين إذا أرادوا إثبات أخذ الإسلام من التوراة استشهدوا بما يحكمون عليه في مواطن أخرى ببطلانه، وإذا أرادوا إثبات أخذ الإسلام من مصادر غير موثوقة أسقطوا ما كانوا قد اعتبروه مصدرا أصيلا.

قال آخر (3): ومن الأمثلة على ذلك أن (تسدال) لما أراد إثبات أن سفر التكوين لا يعتد به رده مثبتا أنه قد كتب سنة 220 م مع أن هذا يخالف إجماع اليهود والنصارى، وهو يدل على أن هذا الكتاب ليس كلمة الله، لأنه يحتمل دخول النقص والزيادة عليه ولا يؤمن تغييره وتبديله، وكل هذا ليدلل أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتمد على مصادر غير أصلية في اليهودية، مع العلم أن الإسلام دين إلهي لم يعتمد على أي مصادر لأي دين سواء كانت أصلية أو غير أصلية.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن تلك الوصايا الإلهية جاءت بها كل الشرائع، فعن ابن عباس أنه قال في الوصايا العشر في القرآن الكريم: (هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب من عمل بهن دخل الجنة ومن كفر بهن دخل النار)(4)

قال آخر (5): وقد وردت هذه الوصايا أو بعضها في الإسلام، واليهودية، والمسيحية، والبوذية، لكن بالمقارنة بينها يظهر أسلوب القرآن الفريد، وتميز معانيه على غيره من الكتب

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 359.

(2) مصادر الإسلام ص 13 وما بعدها (فصل اليهودية كمصدر)

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 359.

(4) انظر تفسير الطبري 8/ 64، مطبعة دار المعرفة.

(5) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 360.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/87)

الأخرى.

قال آخر (1): فمن الأمثلة على ما ورد في الوصايا البوذية: (لا تزهق روحا.. لا تأخذ ما لا تستحق.. لا تزن.. لا تكذب أو تغش أحدا.. لا تسكر.. كل باعتدال ولا تأكل شيئا بعد الظهر.. لا تشهد رقصا ولا تسمع غناء أو تمثيلا.. لا تلبس حليا ولا تتعطر ولا تتخذ زينة.. لا تنم في فرش باذخة.. لا تقبل ذهبا ولا فضة)، والوصايا الخمس الأولى واجبة على كل بوذي على الدوام، أما الخمس الأخيرة فهي واجبة الاتباع في أيام الصوم، إلا الرهبان فإن عليهم اتباع الوصايا كافة في سائر الأوقات.

قال آخر (2): وهكذا نجد أمثال هذه الوصايا في أسفار العهد القديم كسفر الخروج، وسفر اللاويين، والتثنية، ومنها (لا يكن لك آلهة أخرى أمامي.. لا تضع لنفسك آلهة مسبوكة لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا.. أكرم أباك وأمك.. لا تقتل.. لا تزن.. لا تسرق.. لا تشهد على قريبك شهادة زور.. لا تشته بيت قريبك ولا شيئا مما لقريبك.. لا تقبل خبرا كاذبا.. لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر.. لا تحاب مع المسكين في دعواه.. افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك.. لا تضطهد القريب وتضايقه.. لا تسيء إلى أرملة ولا يتيم.. لا ترتكبوا جورا في القضاء.. ابتعد عن كلام الكذب.. لا تنتقم.. لا تركبوا لا في القياس ولا في الوزن ولا في الكيل.. لا تحقد على أبناء شعبك.. كن قديسا طاهرا.. تحب قريبك كنفسك)

قال آخر (3): وهكذا نجد أمثال هذه الوصايا في الإنجيل، ففي إنجيل متى هذه الوصايا: (طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات.. طوبى للحزانى لأنهم

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 360.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 361.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 362.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/88)

يتعزون.. طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض.. طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يعيشون.. طوبى لأتقياء القلب.. طوبى لصانعي السلام.. طوبى للمطرودين من أجل البر.. طوبى للرحماء لأنهم يرحمون.. ليس فحسب (لا تقتل) وإنما لا تغضب من أخيك وتقول له: (رقا) أو يا (أحمق).. فإذا قدمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك فاترك هناك قربانك واذهب أولا اصطلح مع أخيك.. قد سمعتم أنه قيل للقدماء (لا تزن) وأما أنا فأقول لكم أن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنا بها في قلبه.. قد سمعتم لا تحنث وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة.. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضكم.. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم)(1)

قال آخر: وهكذا نجد أمثال هذه الوصايا كثيرا في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 151 ـ 153]

قال آخر: ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 362.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/89)

كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسراء: 23 ـ 38]

قال آخر: وغيرها من الوصايا الكثيرة التي لا تساويها أي وصايا أخرى، وفي جميع الكتب المقدسة.

د. القرآن والمسيحية

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن الشبه التي أثارها المستشرقون وغيرهم حول القرآن الكريم والمسيحية.

قال أحد المشككين: لقد زعم (تسدال) أن المسيحية كانت أحد المصادر التي أخذ منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع أن المصادر التي ذكرها ليست محل اتفاق بين المسيحيين، بل أكثرهم

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/90)

على رفضها.. ومن الأمثلة على ذلك قصة مريم عليها السلام.. وقصة طفولة المسيح عليه السلام وما جاء به من معجزات ذكرها القرآن وأنكرها (تسدال) مثل كلام عيسى عليه السلام في المهد.. وصنعه من الطين طيرا بإذن الله.. وقصة المائدة.. وصلب عيسى عليه السلام حيث نفاه القرآن الكريم في حين قد أثبته الكتاب المقدس.. ونزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان.. بالإضافة إلى التبشير برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقصة خلق آدم من تراب الأرض، والميزان، والأعراف، وزعمه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخذ من الإنجيل بعض الآيات والأحاديث (1).

قال آخر: والجواب على ذلك جميعا (2) هو ما ذكرناه سابقا من أن القرآن الكريم لم يتنزل ليلغي الكتب المقدسة، وإنما ليصححها، ويبين التحريف الذي وقع فيها، والتحريف لا يلغي الصحيح.

قال آخر (3): ومن هذا الباب ما ورد في قصة مريم عليها السلام، والتي أنكر (تسدال) أن تكون وردت بهذا الشكل في كتب المسيحية المعتمدة، واعتبرها خرافية وهمية لا تصح، وحجته في ذلك أن ولادتها لعيسى عليه السلام، كما وردت في القرآن الكريم تشبه أسطورة (ميلاد بده) عند الهنود حيث ولد (بده) من عذراء لم يمسها رجال.. ومثل ذلك ما ورد في القرآن الكريم من ذكر خدمتها للهيكل مع أن هذا لا يجوز في حق النساء على حد زعمه.. ومنها ذكر القرآن الكريم أنها أخت هارون أخي موسى عليه السلام ـ على حد فهمه ـ واعتبر هذا من الخطأ التاريخي في القرآن الكريم للفارق الكبير بينهما.

__________

(1) انظر مصادر الإسلام تسدال، الفصل الرابع ص 101، وما بعدها، وتاريخ القرآن نولدكه ج 1، ص 7 وما بعدها. ـ ومذاهب التفسير الإسلامي، جولد تسيهر ص 171 الذي اعتبر الإسلام مزيجا من مذهبي الانتخاب والمزج (من اليهودية والنصرانية وديانة الفرس وما بعدها)

(2) سنكتفي هنا بالإجابة العامة، أما التفصيلات المرتبطة بها؛ فسنذكرها في محالها الخاصة من هذه السلسلة.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 295.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/91)

قال آخر: وما ذكره من ذلك غير صحيح، لأنه اعتمد على ما أقرته المجامع الكنسية من الكتب المقدسة، وحكمها ليس ملزما للمسلمين أو الباحثين، ولذلك فإن تلك القصص كانت تنتشر في الوسط المسيحي، حتى إن فرقة البربرانية منهم ألهوها وابنها عيسى عليهما السلام نظرا لولادتها لابنها بطريقة خارقة للعادة (1)، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: 116]

قال آخر (2): أما زعم (تسدال) أن قصة مريم عليها السلام غير موجودة في الكتاب المقدس ورده لها بناء على ذلك، فيرده ما ورد في إنجيل لوقا ونصه: (وبعد تلك الأيام حبلت اليصابات امرأته (أي زكريا عليه السلام) وأخفت نفسها خمسة أشهر قائلة: هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي فيها نظر إلى لينزع عاري بين الناس، وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة الجليل اسمها (ناصرة) إلى عذراء محظوية لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم فدخل إليها الملاك، وقال: سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك، مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية، فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسميه يسوع هذا يكون عظيما وابن العلى يدعى ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية)(3)

قال آخر (4): وهذا النص يؤيد ما جاء في القرآن الكريم مما أنكره (تسدال) واستغربه، وعده من قبيل الأسطورة والخرافة، وذلك لعدم تصوره لقدرة الله سبحانه

__________

(1) انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/ 47.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 295.

(3) انجيل لوقا الإصحاح 1، فقرة 26 ـ 38.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 296.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/92)

وتعالى، مع أن عقيدة المسيحيين قائمة على هذه المعجزة حيث يعتقدون أن أقنوم الابن التحم بعيسى في بطن أمه.

قال آخر: وأما زعمه بطلان ما ورد في القرآن الكريم من ذكر خدمة مريم عليها السلام للهيكل، فالجواب عليه هو أن أصل الخدمة في أماكن العبادة في الديانات الثلاث هي للرجال، ولكن هذا لا يمنع إذا قامت بعض النساء بمثل هذا العمل، فقد حصل في الإسلام أن امرأة كانت تعتني بمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقمه وتقوم بخدمته، فلما ماتت دعا لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرحمة (1).

قال آخر (2): كما أن الإنجيل ذكر خدمة (حنة أم مريم) للهيكل، والنص ـ كما في إنجيل لوقا [2/ 36 ـ 37.]ـ هو (وكانت نبية حنة بنت فنوئيل من سبط أشير وهي متقدمة في أيام كثيرة قد عاشت مع زوج سبع سنين بعد بكوريتها وهي أرملة، وثمانين سنة لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلا ونهارا).. فالله سبحانه علم إخلاص حنة امراة عمران القوامة الصوامة في ندائها لربها بأن يتقبل نذرها الذي نذرته لربها طالبة بأن يرزقها ولدا ذكرا ليقوم على خدمة الهيكل بيت الله المقدس فلما قدر الله سبحانه الوليدة أنثى تحسرت (حنة) على ذلك، لكن الله سبحانه بسابق علمه وتقديره علم أن هذه الأنثى سيكون لها شأن أعظم من شأن الكثير من الذكور.

قال آخر (3): أما الأمر الثالث الذي دعا (تسدال) إلى الحكم على القصة بالخرافة واعتبارها خطأ قرآنيا تاريخيا، فذلك لأن القرآن الكريم سماها بأخت هارون، ظنا منه أنه هارون أخو موسى بن عمران عليه السلام، والفترة الزمنية الطويلة بينهما لا تسمح بذلك

__________

(1) مسند الإمام أحمد 2/ 353، 388، وغيره من كتب السنن.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 299.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 300.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/93)

لأنها تقدر بخمسة عشر قرنا، مع أن ذلك له محامل كثيرة يمكن أن يحمل عليها.

قال آخر (1): وهو ما فعله المفسرون من المسلمين حيث ذكر بعضهم أن هارون المذكور رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح، والمراد (أنك يا مريم كنت في الزهد كهارون؛ فما الذي صيرك لهذا)(2).. ومنها أن هارون هو أخو موسى بن عمران عليه السلام، إذ كانت من أعقابه، وإنما قيل (أخت هارون) كما يقال: يا أخا همدان، ويا أخا العرب أي يا واحدا منهم.. ومنها أنه كان رجلا مشهورا بالفسق، فنسبت إليه بمعنى التشبيه لا بمعنى النسبة.. ومنها أنه كان لها أخ يسمى هارون، من صلحاء بني إسرائيل فذكرت به.. وكلها وجوه محتملة.

قال آخر: أما إشكالاتهم وتشكيكاتهم المرتبطة بما ذكره القرآن الكريم ولم ترد عندهم في الكتاب المقدس، والتي أنكروها من أجل ذلك ككلام المسيح عليه السلام في المهد، وصنعه من الطين طيرا فيكون طيرا بإذن الله تعالى.. وقصة المائدة.. وعدم صلب المسيح عليه السلام.. ورجوع المسيح عليه السلام آخر الزمان.. والتبشير برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وقصة خلق آدم عليه السلام من تراب.. وبعض شؤون المعاد كالميزان، والأعراف وغيرها.. فهو دليل على عدم إنصافهم؛ فهم يتهمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن وافقهم بالسرقة، وإن خالفهم بالكذب.. وهو دليل على أنهم ليسوا باحثين عن الحقيقة، وإنما مجرد مشككين فيها، وحاقدين عليها.

قال آخر: بالإضافة إلى هذا فإننا لو رجعنا لكتبهم المقدسة لوجدنا الكثير من الاختلافات والتناقضات، فهل يتهمونها بالكذب لأجل ذلك.

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 300.

(2) التفسير الكبير للإمام الرازي 21/ 207 ـ 208.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/94)

قال آخر (1): لذا أصبح بين أيديهم أكثر من توراة وأكثر من إنجيل.. فتوراة السامريين مثلا تختلف عن العهد القديم.. كما أنه يوجد من الأناجيل المئات، وتناقضها واضح وبين لكل من اطلع عليها.

قال آخر (2): كما أنه قد اختفى كثير منها كإنجيل الطفولة والولادة ومريم، وإنجيل السبعين وإنجيل مرقيون، وإنجيل ريصان، وإنجيل التذكرة، وإنجيل سيرين.. وأُنكر بعضها ونسب صنعه للمسلمين كما هو الحال مع (إنجيل برنابا)

قال آخر (3): ولم يبق من هذه الأناجيل جميعا إلا أربعة، وهي إنجيل متى، ويوحنا، ومرقص، وإنجيل لوقا.. ولكنها كغيرها لم تسلم، حيث سجل كاتبوها كل ما سمعوه من روايات ومسموعات ونقولات وتوهمات سببتها الظروف التي مرت فيها المسيحية.

قال آخر: وقد أشار إلى هذا بولس في رسالته لأهل غلاطية، حيث قال: (إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح)(4)

قال آخر (5): ولذلك فإن الباحث الموضوعي يرى أن ما ورد في القرآن مما أثاره (تسدال) وغيره من المستشرقين كقصة كلام عيسى عليه السلام في المهد وغيره مما لم يرد في الأناجيل المتداولة اليوم، أو مما لم يرد فيها بصراحة قطعية قد ورد في النسخة الأصلية من الإنجيل من قراطيس وأناجيل كانت متداولة في أيدي المسيحيين أو بعض فرقهم، وضاعت، أو أبيدت فيما ضاع أو أبيد.

قال آخر (6): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الآيات القرآنية كانت تتلى جهرة على الناس،

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 302.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 302.

(3) القرآن والمبشرون ص 59.

(4) رسالة بولس لأهل غلاطية، الإصحاح الأول: (6 ـ 7.

(5) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 303.

(6) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 303.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/95)

ويسمعها كثير من المسيحيين كما حصل مع النجاشي وبطارقته حين سمعوها من المسلمين المهاجرين لديارهم؛ فبكى النجاشي حتى أخضلت لحيته وبكى أساقفته حتى بللوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلي عليهم من الحق الموافق لما عندهم.. وأكد هذا النجاشي حين قال لمن حوله: (إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة)(1)

قال آخر (2): فإذا خلت الأناجيل اليوم من مثل هذه الأمور التي ذكرها القرآن فقد ذكرتها أناجيل أخرى لم يعتمدها المسيحيون اليوم أو كتب سير وتواريخ صحيحة، ومن تلك الأناجيل التي اندثرت وذكرتها، إنجيل الطفولة العربي الذي نص عليها بقوله: (تكلم في المهد صبيا، وحين كان له سنة واحدة قال لأمه: يا مريم أنا يسوع ابن الله الذي ولدتني كما بشرك جبريل الملك، وإني أرسلني لخلاص العالم)

قال آخر (3): أما زعم (تسدال) وغيره من المستشرقين أن القصة مكذوبة مأخوذة من الأقباط وحصل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق مارية القبطية (4).. فهو جهل منه، ذلك لأن سورة مريم قد نزلت قبل قدومها، حيث قرئت على النجاشي أثناء هجرة المسلمين للحبشة، ولم يعلم تاريخيا أن مارية كانت عالمة بالمسيحية ولا عندها اهتمام بنشر تعاليم المسيحية، بل إن الله سبحانه شرح صدرها للإسلام وأسلمت من أول أمرها (5).

هـ. القرآن والزرادشتية

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن الشبه التي أثارها المستشرقون وغيرهم حول القرآن الكريم والزرادشتية والديانات الهندية القديمة.

قال أحد المشككين: بما أن غرض المستشرقين هو البحث عن إيجاد أي شبه بين

__________

(1) انظر سيرة ابن هشام 1/ 360.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 303.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 305.

(4) انظر مصادر الإسلام لتسدال ص 124.

(5) انظر الإصابة في تمييز الصحابة 4/ 391.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/96)

الإسلام وبين أي دين آخر، حتى يتهموه بكونه اقتبس منه، لا أنه توافق معه؛ فقد وجدوا في الزرادشتية والديانات الهندية القديمة ما يلبي بعض أغراضهم في ذلك.

قال آخر: وكيف لا يجدون فيها ما يريدون من التشكيكات، وهم قد وجدوا في الوثنية نفسها ما يلبي أحقادهم التي لبست ثوب العلم.

قال آخر (1): ومن خلال ما كتبه بعضهم، وهو (تسدال) نجد أنهم يستندون في دعواهم إلى التشابه الموجود بين الزرادشتية وبعض ما ورد في القرآن الكريم كالمعراج، والجنة والنار، وملك الموت، والصراط، والشيطان، والافتتاح بالبسملة، والصلوات الخمس، وشهادة كل نبي لمن يأتي بعده.

قال آخر (2): والإجابة على كل ذلك بينة واضحة؛ ذلك أن جميع الديانات السماوية لم تخل من ذكر هذه الأمور الغيبية، ومن تكريم بعض الأنبياء بالمعجزات التي فيها خرق العادات على أيديهم، كما ألزموا ببعض الفرائض؛ فإذا اشتملت بعض الديانات السماوية على مثل هذه الأمور ووافقت ما ورد في القرآن الكريم فتكون هذه القضايا من الأمور التي لم تتناولها أيدي التحريف والتبديل في الديانات السابقة المنسوخة.

قال آخر: وقد أشار لهذا المعنى بعض الباحثين، فقال: (إن بقايا الأخلاق والفضائل والمثل العليا الباقية في هذا العالم اليوم لا بد من إرجاعها بصورة أو بأخرى إلى ديانة سماوية موحى بها)(3)

قال آخر (4): والأدلة الكثيرة تشير إلى أن الزرادشتية من الملل التي كان أصلها وحيا سماويا، ثم حرفها أصحابها كما حرفت التوراة والإنجيل، وقد أثبتت أبحاث العالم الألماني

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 282.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 282.

(3) كتاب النبوة والأنبياء في ضوء القرآن، ص 42.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 282.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/97)

الدكتور (ميللر) الذي كانت له اليد الطولى في حل رموز اللغة السنسكريتية بالهند (أن الناس كانوا في أقدم عهودهم على التوحيد الخالص، وأن الوثنية عرضت عليهم بفعل رؤسائهم الوثنيين)(1)

قال آخر: وقد أشار ابن حزم إلى ذلك بالنسبة للزرادشتية، فقال: (وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلها، وكانا محظرين على من سواهما: فالتبديل والتحريف مضمون فيهما، وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كان طول مدة دولتهم عند (المؤبذ) وعند ثلاثة وعشرين هربذا لكل هربذ سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا من غيرهم ولا يباح بشيء من ذلك لأحد سواهم، ثم دخل فيه الخرم بإحراق الإسكندر لكتابهم أيام غلبته لدارا بن دارا، وهم مقرون بلا خلاف بينهم أنه ذهب منه مقدار الثلث ذكر ذلك بشير الناسك وغيره من علمائهم)(2)

قال آخر: وقد ذكر ابن حزم أن كثيرا من المسلمين اعتبروا زرداشت نبيا، ثم قال: (ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن صحت عنه معجزة، قال الله عزوجل: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24])(3)

قال آخر (4): وحتى لو فرضنا أنها لم تكن ديانة سماوية فلا بد أن تكون قد تأثرت بأكثر من دين، فقد تأثرت بالمجوسية لأنها جاءت لتنقيتها مما دخلها من فساد، كما تأثرت بعقيدة الطورانيين لأن زرادشت عاش بينهم زمنا بشرهم فيه بدينه، كما تأثروا باليهودية لأن الزرادشتية عاصرت بعثة نبي الله موسى عليه السلام (5).. كما تأثرت بالهندية للحوار واجتماعهما في عبادة الإله (مترا)، كما تأثرت بالمسيحية وببعض الفرق الإسلامية وذلك

__________

(1) النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلامية، ص 10 ـ 11.

(2) الفصل في الملل والأهواء 1/ 92.

(3) انظر الفصل في الملل والنحل 1/ 91.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 284.

(5) انظر كتاب النبوة والأنبياء في ضوء القرآن ص 42.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/98)

لطول تواصلها معها.

قال آخر (1): أما ما ذكره (تسدال) من تشابه قصة المعراج في القرآن مع ما عند الزرادشتية؛ فهذه القصة لم تذكر عندهم في كتب يصح الاعتماد عليها، وإن وجد مثل ذلك فعلى اعتبار أن أصل هذه الديانة سماوي أو تأثرت بما هو سماوي ولا مانع أن تتكرر مثل هذه الحادثة في عدة ديانات لوحدة المصدر.. وهذا شبيه بما توافق وقوعه في التوراة والإنجيل والقرآن كالجنة والنار والميزان وغير ذلك، فلا ضرورة أن يكون بعضهم أخذ من بعض، وإنما ذلك بابتداء الوحي لكل نبي على حدة.

قال آخر: وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: 75]؛ فهي تشير إلى أن الله تعالى يكرم أنبياءه عليهم السلام بكل الكرامات التي تؤهلهم للوظائف التي كلفوا بها.

قال آخر: وأما الاتفاق بين الإسلام والزرادشتية في الجنة والنار، وملك الموت، والشيطان، والصراط، ونحوها.. فهذا أمر مذكور في كل الديانات السماوية لوحدة المصدر، ولهذا يدعونا الله تعالى إلى التصديق بكل ما في الكتب المقدسة من الحق، كما قال تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136]، وقال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]

قال آخر: أما ما ذكره (تسدال) وغيره من المصادر المختلطة كقصص الأنبياء

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 285.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/99)

للثعلبي، وغيره، فهي ليست من مصادر الإسلام المعتمدة.. ولعلكم قد عرفتم ذلك في الحوار مع الحشوية، والذين خلطوا مصادر الإسلام ا لمعصومة بغيرها من المصادر المدنسة.

قال آخر (1): أما بالنسبة للبسملة والتوافق بين الإسلام والزرادشتية في بعضها؛ فالبشر جميعا يتفقون على بدء المراسلات باسم السلطة أو الجهة الحاكمة، ولله المثل الأعلى فإذا ابتدأ الله تعالى كتابه بذلك وجاءت رسائل الأنبياء في الزرادشتية مفتتحة ببسملة فهذا لا غرابة فيه، كما أنه ليس من الضرورة أن يكون هذا دليلا على أخذ الإسلام من الزرادشتية لمثل هذه الشبهة.

قال آخر: والعجيب أن المستشرق رودول يذكر بأن البسملة يهودية الأصل، ويرى أن القرآن الكريم استعارها من الصابئين، إذ كان من عادة الصابئين دائما أن يكتبوا في صدر كتاباتهم العبارة التالية (باسم الإله المعطي الكريم)(2).. أما القسيس [سانت كلير تسدل] فيرى أن الجملة زردشتية الأصل حيث كتب: قد وردت في كتاب (الدساتير الزرادشتية) قبل صحيفة كل نبي من أنبيائهم العبارة الآتية: (باسم الإله المعطي الرؤوف الكريم)(3)

قال آخر: فهؤلاء الكتاب المسيحيون الثلاثة يذكرون ثلاثة مصادر متغايرة، فهي عند أحدهم يهودية، وعند الآخر زرادشتية، وعند الثلاث صابئية.. ولو أنهم تأملوا قليلا لعرفوا عظمة البسملة وأنها محل اتفاق بين الأديان والأمم جميعا.

قال آخر (4): أما شهادة الأنبياء لبعضهم بعضا وتبشير السابق باللاحق فهي محل اتفاق بين الأديان جميعا، حيث يأخذ النبي الميثاق على أمته أن يؤمنوا بالأنبياء الذين سبقوه، ويناصروا النبي الذي سيأتي بعده، وقد ورد في ذلك الكثير من البشارات على لسان موسى

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 286.

(2) تفسير ويري للقرآن ج 1 ص 289.

(3) ينابيع الإسلام، الطبعة الأردية ص 127.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 286.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/100)

وعيسى وغيرهما عليهم السلام بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما يصرح بذلك قوله تعالى عن المسيح عليه السلام: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف: 6]

قال آخر: ومن هذا الباب ورد تبشير زرادشت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال: (تمسكوا به إلى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر)(1).. وبذلك فإن هذا التبشير دلالة على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أنه اقتبس دينه منها.

و. القرآن والصابئة

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن الشبه التي أثارها المستشرقون وغيرهم حول القرآن الكريم والصابئة.

قال أحد المشككين: لقد نظر المستشرقون إلى بعض وجوه الشبه بين ما جاء في القرآن الكريم، وما في دين الصابئة من عقائد وعبادات ونسك؛ فاعتبروها مصدرا من مصادره، وقالوا: إن التأثير من الصابئة انتقل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم عبر الوسط الوثني الذي عاش فيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ منه كثيرا من شعائره (2).

قال آخر: ومن الأمثلة التي استغلوها لذلك التشابه بين الصابئة والإسلام في الصلاة.. والتشابه في الصوم وارتقاب انتهائه وارتقاب الأعياد ببعض الكواكب.. والتشابه في الحج والتلبية وتقديم القرابين (3).

قال آخر: والجواب على هذا هو ما ذكرناه سابقا من أن التشابه لا يعني التأثر أو

__________

(1) الأديان في القرآن ص 82.

(2) انظر مصادر الإسلام ص 11 ـ 12، وانظر المدخل إلى القرآن الكريم ص 132 ـ 133.

(3) انظر دائرة المعارف الإسلامية ج 14 /ص 89.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/101)

التأثير، بل يعني موافقة القرآن الكريم للحق الذي لا يزال موجودا في الأديان؛ فهو لم يأت لينسخها بكل تفاصيلها، وإنما جاء ليصححها، لتتناسب مع الفطرة والقيم النبيلة.

قال آخر (1): فالصلاة مثلا أمر فطري ومطلب شرعي في كل الديانات السماوية، ووجود صلاة عند الطرفين أمر طبيعي لا غرابة فيه على اعتبار أنهم أهل الكتاب، أو لهم شبهة كتاب.. بالإضافة إلى أن صلاتهم على خلاف صلاة المسلمين في أوقاتها وهيئاتها.. فصلاتنا خمس مرات في اليوم والليلة وهي بقيام وركوع وسجود وجلوس وقراءة قرآن وبمجموعة من الأذكار والأدعية، بعكس صلاتهم في كثير من هذه الأمور.

قال آخر (2): لذا؛ فإن ما زعمه (تسدال) من مصدرية الصابئة للإسلام استنادا لمثل هذه الشبهة زعم باطل ينقصه الدليل، ويرده الواقع، وهو أمر تلبيسي لا أكثر ولم يخل دين من الأديان من وجود شعائر تعبدية وعلى رأسها الصلاة كاليهودية والمسيحية.

قال آخر (3): أما الشبه بين ما ورد في القرآن الكريم من أحكام الصوم، وأحكام الصوم عندهم؛ فقد أشار إليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].. فالصوم عبادة عرفت من القدم فقد كانت عند قدماء البابليين والآشوريين والمصريين.

قال آخر (4): والناظر بعين فاحصة مقارنا بين الصيام عند الصابئة وعند المسلمين يجد أن الاجتماع والاتفاق كان في كلمة الصوم لا غير أما في الحقيقة والصورة فهما مختلفان تماما.. فصيامهم ليلا بينما صيام المسلمين نهارا.. وصيامهم متفرق بينما صيام المسلمين شهر كامل.. وهو ليس عند كل فرقهم بل عند الحورانيين منهم، أما المندائيون فيحرمونه..

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 273.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 273.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 274.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 274.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/102)

وكذلك عندهم صيام يشبه صيام النصارى لمدة 36 يوما يمتنعون فيها عن أكل اللحوم المباحة.. ثم هناك الاختلاف في وقت الصيام بين الفريقين.

قال آخر (1): أبعد كل هذه الملاحظات على وجه المقارنة بين صيام أهل الملتين يبقى دليل مع (تسدال) وغيره ليزعم أن الإسلام أخذ منهم عبادة الصيام، بل قد أثبت التاريخ أن الأيام التي كانوا يصومونها، وفيها وجه شبه مع وقت الصيام عند المسلمين ما كانت من الصابئة إلا لمجاراة المسلمين الذين كانوا يملكون السلطة، والتي كان يفقدها الصابئون.

قال آخر (2): أما استناد (تسدال) لكون الصابئة تثبت أعيادها بمراقبة خمسة نجوم في السماء وهي: (الجدي، والزهرة، وزحل، والقمر، والشمس)، وأنهم يشبهون في ذلك المسلمين الذين يثبتونها بأحد هذه الخمسة وهو القمر عند ما يكون هلالا، كما قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189]؛ فهو عجيب جدا، وهو دليل على أنهم يبحثون عن أي قشة ليستندوا إليها.

قال آخر (3): ذلك أن التقويم لأمم الأرض قديم جدا، وهو إما شمسي وإما هلالي.. والبشر قد انقسمت عاداتهم في شهرهم وسنتهم بحسب هذه القسمة، ذلك أن كل واحد من الشهر والسنة إما أن يكونا عدديين، أو طبيعيين، والسنة عددية، أو بالعكس.. فالذين يعدونهما يجعلون الشهر ثلاثين يوما، والسنة اثنى عشر شهرا.. والذين يجعلونهما طبيعيين يجعلون الشهر قمريا، والسنة شمسية.. ومنهم الذين جعلوا السنة طبيعية، والشهر عدديا، وهذا حساب الروم، والسريانيين والقبط ونحوهم من الصابئين والمشركين ممن يعد شهر كانون ونحوه عددا ويعتبر السنة الشمسية بسير الشمس.. أما اعتبار الشهر طبيعيا، والسنة

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 275.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 276.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 276.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/103)

عددية فهو سنة المسلمين ومن وافقهم (1).

قال آخر (2): وما جاءت به الشريعة الإسلامية من ذلك هو أكمل التقاويم وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب؛ لأن رؤية الهلال أمر مشهور مرئي يدرك بالأبصار، فلا يضل أحد عن دينه، ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ولا يكون طريقا إلى التلبيس في دين الله كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم.

قال آخر (3): أما استناد (تسدال) وغيره للتشابه في الحج والتلبية، وتقديم القرابين بين المسلمين والصابئة؛ فعجيب أيضا، ذلك أن الحج عبادة موجودة في كل الأديان، وخاصة تلك المنتسبة لإبراهيم عليه السلام الذي أذن في الناس بالحج فلبى نداءه كل من حج لبيت الله الحرام، كما قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27]، وقد ذكرت دائرة معارف المستشرقين أن الحج لم يكن خاصا بالعرب دون غيرهم من الأمم، بل كان كذلك عند اليهود والنصارى وبعض الوثنيين (4).

قال آخر (5): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الحج عند المسلمين يتم في مكة المكرمة وطوافهم بالكعبة وما يقدمونه من قرابين (الهدي) هو لله سبحانه خالصا دون سواه، كما قال تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج: 37]، وقد رخص الأكل منها، كما قال تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ

__________

(1) كتاب الصابئين حرانيين ومندائيين، لرشدي عليان.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 277.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 278.

(4) انظر دائرة المعارف الإسلامية 7/ 305.

(5) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 279.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/104)

فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الحج: 36].. أما عند الصابئة فحجهم يتم بحران بالعراق، وليس حول الكعبة (1)، وقبلتهم الثابت بشأنها أنها قبل الشمال باتجاه النجم القطبي؛ وذلك لثبوته في محله وعدم تحركه (2).

قال آخر (3): أما بالنسبة لقرابينهم فكانت تذبح لآلهتهم المزعومة من الكواكب كذبحهم للزهرة ولزحل إلى غير ذلك.. وكانت سنّتهم في قرابينهم أن تحرق تماما، ولا يؤكل منها شيء.. وللقربان أربعة أوقات في الشهر: الاجتماع، والاستقبال، وسبعة عشر وثمانية وعشرون (4).. في حين أن القربان في الإسلام لا يقبل إلا إذا ذبح لله تعالى ويحرم أكله إذا ذكر عليه غير اسمه سبحانه، كما أنه يذبح في أي وقت من أوقات السنة، سواء كانت الذبائح ذكورا أم إناثا، ولا يمنع ذبح القربان من دخول أماكن العبادة في الإسلام بخلاف ما هو عندهم، والذبيحة عندنا لا تحرق بل تؤكل ولا حرج في ذلك ومن هنا يظهر الفرق في حج المسلمين، وفي قرابينهم عن الصابئة لا كما يزعم المستشرقون.

قال آخر (5): بالإضافة إلى ذلك كله؛ فإن الإسلام يخالف الصابئة في جوانب أخرى كثيرة، منها أن عليهم الغسل وتغيير الثياب بسبب الجنابة ومس الطامث ويعتزلها البتة، أما عندنا فيغتسل ولا تغير الثياب إذا كانت الملابس طاهرة، ولا غسل لمن مس طامثا فنجاستها ليست في يدها، وهكذا لا يعتزلها عندنا.

__________

(1) انظر مدخل القرآن الكريم ص 133 نقلا عن كتاب ج. سال (ملاحظات تاريخية ونقدية عن الإسلام ص 30 ـ 31، ودائرة المعارف الإسلامية باللغة الفرنسية (مادة صبأ)

(2) انظر الموجز في تاريخ الصابئة ص 36، والفهرست لابن النديم ص 442.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 279.

(4) انظر الفهرست لابن النديم ص 443.

(5) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 280.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/105)

قال آخر (1): كما أنهم لا يأكلون الجزور ويفرطون في كراهيتها، والمسلمون يأكلونها ولا يكرهونها.. ويتركون الختان وعندنا سنة ثابتة في حق كل مسلم.. وعندهم لا طلاق إلا ببينة عن فاحشة ظاهرة، ولا ترجع عندهم المطلقة، وعندنا جواز الطلاق لحاجته، وله مراجعة مطلقته.

3. التشكيك والوحي

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فحدثونا عن الشبه التي أثارها المستشرقون وغيرهم حول القرآن الكريم والوحي.

قال أحد المشككين: لقد رأينا من خلال إحصائنا واستقرائنا لما في كتب المستشرقين ومن تتلمذ على أيديهم من المشككين أمرين يفسرون بهما الوحي الإلهي.

قال آخر: أولهما اعتبارهم له مجرد أمر شخصي يأتي بإرادته، أو بغير إرادته، وقد اختلفوا في تفسير ذلك.. فمنهم من يطلق عليه [الوحي النفسي]، أو [الإلهام السمعي].. ويقصدون بذلك أن منبع الوحي الإلهي ليس سوى إلهام من نفسه صلى الله عليه وآله وسلم، وليس من عالم الغيب الذي يؤمن به المؤمنون، والذي دلت عليه كل الدلائل.

قال آخر: ومنهم من يعتبره نتيجة لتأثير الانفعالات العاطفية.. حيث زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان تحت تأثير النوبات الانفعالية الطاغية التي كانت تسيطر عليه مما كان يدعوه إلى الشعور بأنه يتلقى الوحي الإلهي، بينما لم يكن كذلك (2).

قال آخر: ومنهم من يعتبره نتيجة أسباب طبيعية عادية، كباعثة النوم، أو (التنويم

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 280.

(2) تاريخ القرآن، نولديكه 1/ 5.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/106)

الذاتي)(1)

قال آخر: ومنهم من يعتبره نتيجة تجربة ذهنية فكرية، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدرك ما أدرك نتيجة قدرته على التركيز، واستدامته ذلك على مستوى تجريدي لا يطيقه غيره، لذا كان يختار له ساعات الليل لأنها أدعى للفكر وأصفى للروح، وأكثر استجابة لعواطفه (2).

قال آخر: ومنهم من يعتبره حالة كحالة الكهنة والمنجمين، وذلك بناء على كون القرآن الكريم ـ كما يزعمون ـ استعمل السجع الذي يستعمله الكهنة والمنجمون (3).

قال آخر: وثانيهما أنهم يعتبرون الوحي الإلهي مرضا عصبيا، وقد اختلفوا في ذلك أيضا؛ فمنهم من يعتبر مرضه حالة صرع يغيب فيها عن الناس وعما حوله، ويظل ملقى على إثرها بين الجبال لمدة طويلة، يسمع له على إثرها غطيط كغطيط النائم، ويتصبب عرقه، ويثقل جسمه.

قال آخر: ومنهم من يعتبره حالة هستيرية، وتهيجا عصبيا، يظهر عليه أثرها في مزاجه العصبي القلق، ونفسه كثيرة العواصف بشكل غامض، حتى كان يصل به الأمر أن لا يفرق بين تعاقب الليل والنهار، وقد هزل على إثرها جسمه، وشحب لونه، وخارت قواه (4).

أ. الوحي الشخصي

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فكيف تردون على الشبهة الأولى، والتي ذكرتم أنها تعتبر منبع الوحي الإلهي ليس سوى حالة شخصية تعتريه، وأنها اتخذت صورا متعددة.

الإلهام النفسي

__________

(1) وحي الله، د. حسن عتر ص 141.

(2) انظر مقدمة القرآن، واط ص 18.

(3) انظر قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية، د. فضل عباس ص 42.

(4) انظر مقدمة القرآن، مونتجمري، واط ص 17 ـ 18، ومقدمة القرآن ل بل ص 29 ـ 30، وكتاب العقل المسلم ص 41، كتاب حياة محمد هيكل، ص 45.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/107)

قال آخر: وأول تلك الصور اعتبارهم الوحي الإلهي إلهاما من نفسه صلى الله عليه وآله وسلم، وليس من عالم الغيب الذي يؤمن به المؤمنون، والذي دلت عليه كل الدلائل؟

قال أحد المشككين: ظاهر هذه الشبهة ثناء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن باطنها تكذيب واتهام له بأعظم تزوير، وهو التزوير على الله.

قال آخر (1): ذلك أن هؤلاء المستشرقين قالوا: (نحن لا نشك فى صدق محمد فى خبره عما رأى وسمع وإنما نقول: إن منبع ذلك من نفسه، وليس فيه شئ جاء من عالم الغيب الذى يقال إنه رأى عالم المادة والطبيعة، الذى يعرفه جميع الناس؛ فإن هذا (الغيب) شئ لم يثبت عندنا وجوده، كما أنه لم يثبت عندنا ما ينفيه ويلحقه بالمحال، وإنما تفسير الظواهر غير المعتادة بما عرفنا وثبت عندنا دون ما لم يثبت)

قال آخر (2): وذكروا أن منازع نفسه صلى الله عليه وآله وسلم العالية وسريرته الطاهرة، وقوة إيمانه، وخياله الواسع وإحساسه العميق، وعقله الكبير، وذكاؤه الوقاد، وذوقه السليم، كلها كان كانت سببا في أن يتجلى في ذهنه، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية فيتصور أن ما يعتقده إلهيا نازلا عليه من السماء بدون وساطة، أو عن طريق رجل يتمثل له يلقنه ذلك، أو يسمعه يقول له شيئا في المنام.

قال آخر (3): واستدلوا على ذلك بقصة الفتاة الفرنسية (جان دارك) في القرن الخامس عشر الميلادي التي اعتقدت أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها، ودفع العدو الإنكليزي عنه، وادعت أنها تسمع صوت الوحي، فأخلصت في دعوتها، وتوصلت بصدق إرادتها وحسن سيرتها إلى رئاسة جيش صغير تغلبت به على العدو ثم خذلها قومها فوقعت

__________

(1) الوحي المحمدي (ص 59)

(2) الوحي المحمدي (ص 59)

(3) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة ص 90، والوحي المحمدي ص 89، وشبهات مزعومة حول القرآن الكريم للقمحاوي ص 41، ومقدمة القرآن، ص 20.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/108)

في يد عدوها فألقوها في النار حية فماتت عقب انتصارها، وقد ذهبت تاركة وراءها اسما يذكره التاريخ.

قال آخر (1): وأول ما يرد على هذه الشبهة هو كونها مبنية على المصادر التي سلف ردنا عليها، والتي تعتبر الوحي الإلهي نتيجة تشبع العقل الباطن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما في بيئته من ثقافات وعقائد، مما جعل نفسه الصافية تفيض بما فيها من ذخائر.

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الناظر لهذا الدين وحقيقته يجده فريدا متميزا صافيا بكل ما جاء به من عقائد وشرائع عما كان موجودا في وسطه الذي كان يعيش فيه صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد جاء عاما شاملا لكل نواحي الحياة، سهلا في عبادته، دقيقا في معاملاته، رادعا في حدوده، فذا في نظمه الاقتصادية والسياسية وغيرها، عظيما في أخلاقه وآدابه، إلى غير ذلك من المزايا والفضائل.. فهل يمكن أن تكون كل هذه العقائد والنظم والتشريعات كانت مذكورة مدخرة في نفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابن البيئة المختلفة العقائد، والفقيرة الموارد، المختلفة الأنظمة، المضطربة الأخلاق والآداب؟

قال آخر (3): ولذلك؛ فإن الإسلام بعظمته، والقرآن بربانيته يبطل كل هذه المزاعم، والعلم يكشف كل يوم لنا من أسرار آياته في الأنفس والآفاق مما يؤكد أنه تنزيل إلهي، وليس فيه أدنى شيء لعقل بشري، لأنه أعجز من أن يؤلف شيئا من مثل آياته فكيف تأتي هذه الفرية لتزعم أن هذا القرآن فيض بشري ووحي نفسي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال آخر (4): بالإضافة إلى هذا؛ فقد كان الوحي يفتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم فترات طويلة، وهو بأشد الحاجة إليه ولا يجد جوابا لما سألوه، أو بما تحدوه، ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 383.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 383.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 383.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 384.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/109)

ابن عباس قال: (بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة فقالوا لهم سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصفوا لهم أمره، فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث إن أخبركم بها فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول.. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه كان لهم أمر عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو، فأقبلا حتى قدما على قريش فقالا قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه: فقال: أخبركم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن، فانصرفوا ومكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله في ذلك إليه وحيا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما تتكلم به أهل مكة ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف وقول الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85])(1)

قال آخر (2): فكيف إذن يعجز محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم بجواب، وهو صاحب العقل الباطن المملوء بالمعارف، وصاحب الوجدان الملتهب، والنفس المتوثبة، والقريحة المتوقدة، والبديهة الحاضرة.. ما ذلك إلا لأن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد لا دخل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشيء منه.

__________

(1) كتاب النقول في أسباب النزول حاشية على تفسير الجلالين، طبعة عبد الحميد حنفي مصر ص 229 ـ 230.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 385.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/110)

قال آخر (1): كما ينقض هذه الفرية كون العقل الباطن ـ على ما يقول علماء النفس ـ إنما يفيض بما فيه في غفلة من العقل الظاهر، ولذلك لا يظهر ما فيه إلا عن طريق الرؤى والأحلام، والأمراض كالحمى مثلا، وفى الظروف غير العادية، والقرآن الكريم لم ينزل شيء منه في هذه الحالات، وإنما نزل على نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يقظة لا مناما، وفي اكتمال من عقله وبدنه، في تمام صحة نفسه.

قال آخر (2): أما ما استدلوا به من قصة الفتاة الفرنسية (جان دارك) فباطلة، لأن (جان دارك) لم تدع النبوة، ولو أنها ادعت لما صدقت، لأن دعوى النبوة لا تثبت إلا بدليل وهي المعجزة، ولم يظهر من هذا على يدها.. والفتاة لا شك أنها كانت قوية القلب، مرهفة الحس، أصيبت بهيجان عصبي لما أصاب قومها من اضطهاد وظلم مما حرك وجدانها بسبب شعورها الديني، فاستنهضت قومها للقتال، وقادتهم للخلاص من ذل الاستعباد.

قال آخر (3): وهذا أمر متكرر في كل البيئات والأوقات أن يوجد في مثل هذه الظروف مثل هذه الفتاة من رجال أو نساء، حيث تلاقي دعواتهم هوى في نفوس أقوامهم فيهبوا وراءهم لنصرة صاحب فكرة الخلاص.

قال آخر: وشبيه بهذا أصحاب دعوى الباب الإيراني، والبهاء والقادياني وغيرهم ممن زعموا أنه يوحى إليهم حيث وجدوا من يغتر بدعواتهم الكاذبة، فأين دعوة هؤلاء جميعا من دعوة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم التي غيرت تاريخ أمة فجعلتها فريدة في عقيدتها وشريعتها وهدايتها الربانية قامت على كل ذلك حضارة لها طابعها الخاص بمدة قياسية.. أما (جان دارك) فإنها لم تصنع بدعوتها أمة ولم تقم بها حضارة فأين الثرى من الثريا؟

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 385.

(2) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم ص 103، انظر الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص 89 ـ 94.

(3) انظر المدخل لدراسة القرآن الكريم ص 103، انظر الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص 89 ـ 94.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/111)

الانفعالات العاطفية

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فكيف تردون على الشبهة التي تعتبر منبع الوحي الإلهي لا يخرج عن كونه نتيجة انفعالات عاطفية، وأنها كانت تسيطر عليه مما كان يدعوه إلى الشعور بأنه يتلقى الوحي الإلهي، بينما لم يكن كذلك (1).

قال أحد المشككين: لقد عبر عن هذه الشبهة أحد المستشرقين، فقال: (كانت نبوة محمد نابعة من الخيالات المتهيجة، والإلهامات المباشرة للحس، أكثر من أن تأتي من التفكير النابع من العقل الناضج، فلو لا ذكاؤه الكبير لما استطاع الارتقاء على خصومه، مع هذا كان يعتقد أن مشاعره الداخلية قادمة من الله بدون مناقشة)(2)

قال آخر: وهذه الشبهة مثل الشبهة السابقة، وهي تدل على تجن، وسوء فهم واضح للنبوة ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأدواره العظيمة التي قام بها، والتي لا يمكن أن تكون وليدة فكر أو عاطفة بشرية مهما كان سموها.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الاطلاع على سيرته صلى الله عليه وآله وسلم وعلى كيفية نزول الوحي عليه يجد أن الوحي كان يأتيه في أوقات عدة، وبأشكال مختلفة، فقد كان يأتيه في ظروف اعتيادية، ويقاطعه في ظروف عصيبة وهو بأشد الحاجة إليه.. وكل ذلك يدل على أن الوحي خارج عن ذاته وليس له فيه أدنى تدخل.

قال آخر (4): ومن الأمثلة على ذلك أن المنافقين خاضوا في عرضه الشريف في قصة الإفك التي افتريت ضد زوجته، واشتد الأمر عليه، وتمنى لو يجد شيئا يقوله ليبرئ زوجته أو يثبت ما يقولونه فيرتاح مما هو فيه، لكن لم يستطع أن يقول شيئا حتى نزل عليه الوحي

__________

(1) تاريخ القرآن، نولديكه 1/ 5.

(2) تاريخ القرآن، نولديكه 1/ 5.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 387.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 387.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/112)

يبرئ زوجته، ويرد كيد المنافقين.

قال آخر (1): ومثل ذلك ما حصل معه في سؤال المشركين له عن الأسئلة المذكورة في قصة أهل الكهف، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيهم بجواب حتى خاض المشركون في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما طاب لهم من قول حتى نزلت الإجابة الإلهية عليه.

التنويم الذاتي

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فكيف تردون على الشبهة التي تعتبر منبع الوحي الإلهي لا يخرج عن كونه نتيجة أسباب طبيعية عادية، كباعثة النوم، أو (التنويم الذاتي)(2).

قال أحد المشككين (3): وهذه شبهة واضحة البطلان؛ فالبعد شاسع بين الوحي وبين عارض السبات الطبيعي الذي يعتري المرء، حيث إن الوحي كان يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحواله المختلفة، قائما أو قاعدا، أو سائرا أو راكبا، وبكرة أو عشيا، ليلا أو نهارا، وفي أثناء حديثه مع أصحابه أو مع أعدائه، وكان يتنزل فجأة ويزول عنه فجأة، وتنقضي عنه أحيانا في لحظات يسيرة، لا بالتدريج الذي يعرض للوسنان.

قال آخر: وقد ورد في الحديث ما يبين كيفية ذلك، واختلافها التام عن النوم، ومنها ما روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعة فجاءه الوحي، وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثوب قد أظل به، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمر الوجه، وهو يغط، ثم سري عنه، فقال: أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 387.

(2) وحي الله، د. حسن عتر ص 141.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 389.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/113)

عمرتك كما تصنع في حجتك (1).

قال آخر (2): فهذا يبين أن الوحى لا يتنزل قبل تحضير مسبق من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما زعم ذلك (واط) ـ بل هو ظاهرة خارجة عن ذاته الشريفة، وبغير إرادته وأعراضها لا تستجلب ولا تدفع.

قال آخر (3): والذي يزيد هذه الحقيقة وضوحا سماع صوت دوي كدوي النحل عند وجه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يسمعه من حوله كما ورد في الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل)(4).. فهل هناك من يسمع عند وجهه مثل هذا الدوي عند النوم؟

التجربة الذهنية

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فكيف تردون على الشبهة التي تعتبر منبع الوحي الإلهي لا يخرج عن كونه نتيجة تجربة ذهنية فكرية، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدرك ما أدرك نتيجة قدرته على التركيز، واستدامته ذلك على مستوى تجريدي لا يطيقه غيره (5).

قال أحد المشككين (6): من أكبر الأدلة على عدم علمية هذه الشبهة عدم واقعيتها؛ فالإنسان مهما جرب وركز بكامل قواه العقلية ليصبح نبيا لا يمكن أن يصبح نبيا، ولا يصل لرتبتها، وأبرز ظواهر النبوة الوحي، وهذا الوحي لا يمكن تحضيره ولا استحضاره وإنما يأتي فجأة وبإذن من صاحبه فقط، وهو الله سبحانه، وبلحظات خاطفة.. فهو إذا ليس نتيجة فيضان نفسي، أو كبت لمجموعة من التأملات احتشدت وتفجرت في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن النبوة اصطفاء رباني علوي مسبوق ببعض الإرهاصات، لا يعرف التدرج إلى ما يسمى

__________

(1) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 3/ 104 ـ 105.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 390.

(3) وحي الله د. حسن عتر ص 142 ـ 145.

(4) الترمذي (5/ 327)

(5) انظر مقدمة القرآن، واط ص 18.

(6) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 391.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/114)

النضج في النهاية.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن هذه الظاهرة ليست أمرا بدعيا، وإنما هي حلقة في سلسلة النبوة، ولبنة في صرحها العظيم يعرفه كل أصحاب الديانات، لذا عند ما سمع ورقة بن نوفل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر الوحي قال له: هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى عليه السلام (1).

قال آخر: ولهذا يدعو الله تعالى إلى مراجعة تواريخ الأنبياء عليهم السلام لمعرفة ذلك، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 163 ـ 164]، وقال: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: 9]

قال آخر (2): وقد أكد هذه الآيات الكريمة ما ورد في العهد القديم عن الأنبياء والمرسلين الذين ظهروا في بني إسرائيل، والذين قد تلقوا وحي الله بطرق مختلفة، تتمثل في الوحي بالكلام شبه المباشر بين الله والإنسان، أي من وراء حجاب، في صور بشرية تارة، أو في صورتها الطبيعية النوارنية تارة أخرى، وقد تسمع أصوات الملائكة من بعد في خفاء، وهي تلقي الوحي إلى الموحى إليه.

قال آخر (3): كما تقرر أسفار العهد الجديد أن طرق الوحي إلى الأنبياء متنوعة، وكلها تهدف إلى تعليم الناس دين الله عن طريق رسله الذين كانوا أئمة البشر، وبذلك تعترف

__________

(1) إرشاد الساري لشرح البخاري، 1/ 65.

(2) آراء المستشرقين حول مفهوم الوحي (ص 9)

(3) آراء المستشرقين حول مفهوم الوحي (ص 9)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/115)

المسيحية بجميع طرق الوحي المشار إليها في أسفار العهد القديم (1)، مما يؤكد أن تاريخ الوحي ومظاهره وحالاته ووسائله عند أهل الكتاب في أسفار العهدين لا تختلف عن بعضها فهي تؤكده وتؤمن به وتقره.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الواقع التاريخي وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم تكذب وتبطل هذه الفرية.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما نقلته لنا كتب السير عن قدوم عبد الله بن أم مكتوم يطلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلمه مما علمه الله في الوقت الذي كان جالسا يخاطب فيه زعماء قريش ويناجيهم طمعا في إسلامهم، فانصرف عنه وعبس في وجهه، فعاتبه الله عزوجل على ذلك بصدر سورة عبس (2).

__________

(1) الوحي والملائكة، حمد عبد الوهاب ص 61.

(2) اختلف المفسرون فيمَن هو المعاتب في الآيات الكريمة على رأيين:

الأول: ما ذكرناه هنا، وهو المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم، وهو أنها نزلت في عبداللّه بن اُم مكتوم، إنّه أتى رسول اللّه (وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب واُبي واُميّة بن خلف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعم، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين)، فقال: يا رسول الّله، أقرئني وعلمني ممّا علمك اللّه، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه (لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآية. وكان رسول اللّه (بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي، ويقول له: هل لك من حاجة. استخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين)

الثاني: ما روي عن الإمام الصادق: إنّها نزلت في رجل من بني اُميّة، كان عند النّبي (، فجاء ابن اُم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك، وأنكره عليه (تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 437) وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

وقد قال ناصر مكارم الشيرازي عن الرأي الأول: وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول، فإنّ فعل النّبي (والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة، وللأسباب التالية:

أوّلاً: على فرض صحة ما نسب إلى النّبي (في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش، فإنّه بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق، وتحطيم صف أعدائه.

ثانياً: إنّ العبوس أو الإنبساط مع الأعمى سواء، لأنّه لا يدرك ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ عبد اللّه بن اُم مكتوم لم يراع آداب المجلس حينها، حيث أنّه قاطع النّبي (مراراً في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين، ولكن بما أنّ اللّه تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الإعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلاً على عظمة شأن النّبي (، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى)، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبي (صادق فيه، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضاً) فلا داعي لإستعتاب نفسه.

ومن مكارم خلقه (كما ورد في الرواية المذكورة، إنّه (كان يحترم عبد اللّه بن اُم مكتوم، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والإستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين (الأمثل: ج 19، ص 412)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/116)

قال آخر: ومثل ذلك حادثة أخذه صلى الله عليه وآله وسلم الفدية في عقب غزوة بدر، فنزل عتابه بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 67 ـ 68]

قال آخر: ومثل ذلك حادثة مجادلة خولة بنت ثعلبة وشكواها زوجها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل صدر سورة المجادلة قبل مفارقتها المجلس (1).

قال آخر (2): فما نزل من هذه الوقائع كان في حينه، وقبل أن ينهض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مجلسه أحيانا مما يؤكد أنه ليس نتيجة إجهاد ذهن أو طول تفكير بساعات الليل لصفائها على حد زعم بعض المستشرقين.

قال آخر: فلو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي بهذا القرآن من بنات فكره، وبلمسة فكرية سحرية منه أو بإطالة تأمل فما الذي كان يمنعه من أن يأتي بشيء منه للإجابة على أسئلتهم مع أنه في أشد الحاجة إليه وخاصة في مثل هذه الظروف.

قال آخر (3): ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وصدق ربنا إذ قال: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44 ـ 47]

قال آخر: ومثل ذلك الآيات الكثيرة التي عاتب الله تعالى فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إثر تصرف معين منه صلى الله عليه وآله وسلم كقوله تعالى على إثر تحريم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا على نفسه دون تحريم

__________

(1) أسباب النزول للواحدي ص 304.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 393.

(3) النبأ العظيم، دراز ص 23 ـ 24.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/117)

الله له: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم: 1]

قال آخر: وكقوله تعالى على إثر موقفه صلى الله عليه وآله وسلم من زينب بنت جحش أم المؤمنين، والتي كانت زوجا لمتبناه زيد بن حارثة: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ [الأحزاب: 37]

قال آخر (1): أرأيتم لو كانت هذه التقريعات المؤلمة صادرة عن وجدانه صلى الله عليه وآله وسلم!؟ ومعبرة عن ندمه، ووخز ضميره، حين بدا له خلاف رأيه الأول أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع والعتاب المر والتأنيب الشديد؟.. أليس في سكوته ستر على نفسه، واستبقاء لحرمة آرائه، فلو كان القرآن صادرا عن نفسه لكان أولى شيء بالكتمان مثل هذه الآيات؟

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك كله؛ لقد كان يجيئه الأمر أحيانا بالقول المجمل أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله حتى ينزل الله عليه بيانه، فأي عاقل يا ترى توحي إليه نفسه كلاما لا يفهم هو معناه، وتأمره أمرا لا يعقل هو حكمته، أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمور لا آمرا، وأن القرآن ليس من تأملات فكره، ولا من صنيع خياله، بل تنزيل من حكيم حميد.

الكهانة والتنجيم

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فكيف تردون على الشبهة التي تعتبر منبع الوحي الإلهي لا يخرج عن كونه حالة كحالة الكهنة والمنجمين، وذلك بناء على كون القرآن الكريم

__________

(1) النبأ العظيم ص 25.

(2) النبأ العظيم ص 28.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/118)

ـ كما يزعمون ـ استعمل السجع الذي يستعمله الكهنة والمنجمون (1).

قال أحد المشككين: إن أول ما يجاب به على هذه الشبهة هو مخالفتها للواقع الذي نزل فيه القرآن الكريم، ذلك أنه لو كان أسلوب القرآن الكريم مشابها لأساليب الكهنة والمنجمين والسحرة لأجابوا للتحدي؛ فقومه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا أقل حقدا، ولا أقل كراهية للإسلام ممن جاء بعدهم.

قال آخر (2): وها هو الوليد وعتبة بن ربيعة وغيرهما يردون بكل حزم ويرفضون بكل إنصاف أن يكون أسلوب القرآن الكريم مشابها لأسلوب الكهان وسجعهم أو المنجمين وكلامهم، أو السحرة ونفثهم، ولم يقولوا إن حالة صدور الوحي عنه كحالة هؤلاء مع أنهم معاصرون له، ومن أكثر الناس خبرة بذلك.

قال آخر (3): وقد روت لنا كتب الأدب والتاريخ شيئا من سجع الكهان والمنجمين، وأفعال السحرة وكلامهم، وعن أحوالهم حين صدور ذلك عنهم، فالمنصف لا يرتاب في أن أسلوب القرآن ونظمه، والحالة التي يكون فيها ناقله للناس صلى الله عليه وآله وسلم يختلف كلية عن أولئك المذكورين، لذا نفى سبحانه أن تكون حالته كحالتهم أو كلامه ككلامهم قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحاقة: 38 ـ 43]

قال آخر: وقد روي في سبب نزول الآيات الكريمة أن الوليد قال: إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عتبة: كاهن، فرد الله تعالى عليهم بهذه الآيات هذه المزاعم والأكاذيب؛ لأن عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند، بخلاف

__________

(1) انظر قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية، د. فضل عباس ص 42.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 394.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 394.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/119)

مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله صلى الله عليه وآله وسلم ومعاني القرآن المنافية لطريق الكهانة ومعاني أقوالهم وكل ذلك كان واضحا جليا ومعروفا لدى معاصريهم (1).

ب. المرض العصبي

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فكيف تردون على الشبهة الثانية التي تعتبر الوحي الإلهي لا يخرج عن كونه نتيجة حالة صرع يغيب فيها عن الناس وعما حوله، ويظل ملقى على إثرها بين الجبال لمدة طويلة، يسمع له على إثرها غطيط كغطيط النائم، ويتصبب عرقه، ويثقل جسمه.

قال آخر: ومثل ذلك اعتباره حالة هستيرية، وتهيجا عصبيا، يظهر عليه أثرها في مزاجه العصبي القلق، ونفسه كثيرة العواصف بشكل غامض، حتى كان يصل به الأمر أن لا يفرق بين تعاقب الليل والنهار، وقد هزل على إثرها جسمه، وشحب لونه، وخارت قواه (2).

قال آخر (3): كل هذه مزاعم ومفتريات ليس لها سند من الواقع التاريخي، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاش ومات وهو بكامل صحته وعافيته، ولم يظهر عليه أي عارض نفسي أو عصبي على ما يزعمون.. بل على العكس من ذلك كان عاقلا ذكيا فطنا، يمتاز بسرعة البديهة، وحصافة الرأي وسداد التفكير، واستقرار النفس، قويا في جسمه وذاكرته، سليما في كل أعضائه، ويشهد لذلك جهاده الطويل، وسياسته الحكيمة، وتخطيطاته الحربية الناجحة، وتنظيماته الاجتماعية الكاملة، وكمال الدين الذي دعا له.

قال آخر: وهذه الشبهة تلقاها هؤلاء المستشرقون من أسلافهم من أهل مكة

__________

(1) معاني القرآن، للآلوسي 29/ 53 ـ 54.

(2) انظر مقدمة القرآن، مونتجمري، واط ص 17 ـ 18، ومقدمة القرآن ل بل ص 29 ـ 30، وكتاب العقل المسلم ص 41، كتاب حياة محمد هيكل، ص 45.

(3) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 398.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/120)

الحاقدين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما ذكر الله تعالى ذلك، فقال: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: 22]، وقال: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: 184]

قال آخر: وقد ذكر بعض العلماء سبب قولهم ذلك، فقال: (واعلم أن بعض الجهال من أهل مكة كانوا ينسبون إليه الجنون لأن فعله صلى الله عليه وآله وسلم كان مخالفا لفعلهم؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان معرضا عن الدنيا مقبلا على الآخرة، مشتغلا بالدعوة إلى الله، فكان العمل مخالفا لطريقتهم، فاعتقدوا فيه أنه مجنون)(1)

قال آخر: ثم نقل عن بعض السلف قوله: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام ليلا على الصفا يدعو فخذا فخذا من قريش، فقال يا بني فلان يا بني فلان، وكان يحذرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، واظب على الصياح طول هذه الليلة، فأنزل الله تعالى هذه الآية وحثهم على التفكر في أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال (2).

قال آخر: وذكر سببا آخر لقولهم ذلك، فقال: (كان صلى الله عليه وآله وسلم يغشاه حالة عجيبة عند نزول الوحي فيتغير وجه ويصفر لونه، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي، فالجهال كانوا يقولون إنه جنون فالله تعالى بين في هذه الآية أنه ليس به نوع من أنواع الجنون، وذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعوهم إلى الله، ويقيم الدلائل القاطعة والبينات الباهرة، بألفاظ فصيحة بلغت في الفصاحة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضتها، وكان حسن الخلق، طيب العشرة، مرضي الطريقة نقي السيرة، مواظبا على أعمال حسنة صار بسببها قدوة للعقلاء العالمين، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون، وإذا ثبت هذا ظهر أن اجتهاده على الدعوة إلى الدين إنما كان لأنه نذير مبين، أرسله رب العالمين

__________

(1) التفسير الكبير (15/ 420)

(2) التفسير الكبير (15/ 420)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/121)

لترهيب الكافرين، وترغيب المؤمنين)(1)

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الرجال عقلا، وأشدهم فطنة، وأصوبهم قولا، وأحكمهم فعلا، وقد تحدى الله المشركين الذين عرفوه وعايشوه وخبروا حاله أن يثبتوا عليه جنونا أو اختلال عقل، وذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: 46] ففي قوله: ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ أي جنون، تنبيه لهم على أن ما عرفوه من رجاحة عقله كاف في ترجيح صدقه؛ والتعبير عنه صلى الله عليه وآله وسلم بـ (صاحبهم) للإيماء، أن حاله معروف مشهور بينهم؛ لأنه نشأ بين أظهرهم معروفا بقوة العقل، ورزانة الحلم، وسداد القول والفعل (2).

قال آخر: وبذلك؛ فإن الآية الكريمة تقول لهم: (ها هو ذا تاريخ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحاديثه، وسننه، وآدابه، وأخلاقه، وشريعته، تحت أنظاركم فانظروا وتفكروا من غير هوى ولا عصبية في جوانب ذلك كله، واستخرجوا منه ـ ولن تستطيعوا ـ ما يقيم عوج دعواكم، وإفك أباطيلكم، ولكنكم علمتم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم معصوم بعصمة الله عز وجل الذي أرسله ليقوض بنيان الكفر والنفاق)(3)

قال آخر (4): بالإضافة إلى هذا؛ فإن ثمة فرقا واضحا بين صور الوحي الذي كان يتلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أعراض مرض الصرع الذي زعمه هؤلاء المستشرقون، فمن أعراض مرض الصرع، (أن يرى المريض شبحا، ويسمع صوتا، أو يشم رائحة، ويعقب ذلك وقوع المريض صارخا على الأرض، وفاقدا وعيه ثم تتملكه رعدة تشنجية، تتصلب فيها

__________

(1) التفسير الكبير (15/ 420)

(2) محاسن التأويل للقاسمي 14/34.

(3) الرد على شبهات عصمة النبي ((1/436)

(4) محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 4/ 190.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/122)

العضلات، وقد يتوقف فيها التنفس مؤقتا، ويعقب النوبة خور في القوى، واستغراق في النوم يصحو منه المريض خالي الذهن من تذكر ما حدث له)(1)

قال آخر (2): والثابت علميا أن المصروع يتعطل تفكيره وإدراكه تعطلا تاما، فلا يدري أثناء نوبته ما يدور حوله، ولا يجيش في نفسه ويغيب عن صوابه، وتعتريه تشنجات تتوقف فيها حركة الشعور عنده، ويصبح المريض بلا إحساس، وأبرز سمة عنده تكون النسيان، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يظهر عليه شيء من ذلك، حيث كان يبقى في تمام وعيه قبل وخلال وبعد حالة الوحي، فكان يفصم عنه وقد وعى كل ما قاله له جبريل عليه السلام من آيات بينات وتشريعات محكمات وعظات بليغات وأخلاق عظيمة، وكلام بلغ الغاية القصوى في الفصاحة والبلاغة والإعجاز حتى طأطأ لإعجازه أقدر الناس فصاحة وبلاغة فرادا أو مجتمعين وفي كل الأزمان.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فقد أثبتت وسائل الطب الحديث والأجهزة المتقدمة في التشخيص والعلاج أن نوبات الصرع ناتجة عن تغيرات فسولوجية عضوية في المخ، حيث أمكن تسجيل تغيرات كهربائية في المخ أثناء النوبات الصرعية مهما كان مظهرها الخارجي، كما أثبت الطب الحديث أن هناك مظاهر عديدة ومختلفة لنوبات الصرع وذلك تبعا لمراكز المخ التي تبدأ فيها التغيرات الكهربائية، وتبعا لطريقة انتشارها وسرعته.

قال آخر (4): وأهم نوبات الصرع، النوبات الصرعية النفسية، وفي هذه الحالة من نوبات الصرع تمر بذهن المريض ذكريات قديمة، وأحلام مرئية أو سمعية أو الاثنان معا، وتسمى (بالهلاوس) وهذه الذكريات يكون قد عاشها المريض نفسه، ثم احتفظ بها في مخه

__________

(1) الموسوعة العربية الميسرة ليوسف إلياس سركيس (حرف الصاد)، مادة صرع؛ نقلا من الرد على شبهات عصمة النبي (.

(2) المدخل لدراسة القرآن الكريم، ص 103.

(3) المدخل لدراسة القرآن الكريم، ص 103.

(4) المدخل لدراسة القرآن الكريم، ص 104.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/123)

في ثناياه، استدعتها للخروج من مكانها الحالة الصرعية التي انتابته، وقد أمكن طبيا إجراء عملية التنبيه لها بواسطة تيار كهربائي صناعي سلط على جزء خاص في المخ فشعر المريض بنفس (الهلاوس) التي تنتابه في أثناء نوبة الصرع.

قال آخر (1): وبتطبيق ما قرره الطب الحديث في حقائق الصرع على ما كان يعتري النبي صلى الله عليه وآله وسلم، نجده يردد آيات لم يسمعها من قبل في حياته أخبره بها الله عز وجل، ولما كانت هذه الأحاديث والآيات والأحوال لم تمر به صلى الله عليه وآله وسلم من قبل، فهي إذا لم تختزن بالتالي في مخه لتثيرها وتخرجها نوبات صرعية فيتذكرها وينطق بها، فيظهر جليا أن ما كان يعزي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي حالة نفسية وجسدية لتلقي وحي الله سبحانه.

قال آخر (2): ولذلك؛ فإن هناك فرقا شاسعا بين الحالتين: حالة الصرع التي تنتاب المصروعين، وحالة الوحي التي تعزي الأنبياء عليهم السلام، ولا شك أن الطعن في الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم طعن في كل ما نزل على أنبياء الله من قبل.

قال آخر (3): ونفس الأمر يقال في شبهة كون الوحي ناتجا عن مرض الهستريا الذي يعتبر مرضا عصبيا عضالا، ومن أعراضه شذوذ في الخلق، وضيق في التنفس إلى حد الاختناق، ويظهر عليه ضيق في الصدر واضطراب في الهضم، وقد تصحب هذه الأعراض كذلك بحركة واضطراب في اليدين والرجلين إلى حد الشلل في بعض الأعضاء؛ فإذا تابع المرض تقدمه جاء دور التشنج فيسبقه بكاء وعويل، وكرب عظيم وهذيان، ينتهي إلى حد الإغماء، فإذا تجاوز هذه المرحلة فإن المريض يرى أشباحا تهدده وتسخر منه، وأعداء تحاربه، ويسمع أصواتا لا وجود لها في الحس والواقع.. وفي هذا الدور يقع المريض بحركة

__________

(1) المدخل لدراسة القرآن الكريم، ص 105.

(2) المدخل لدراسة القرآن الكريم، ص 106.

(3) انظر القرآن والمستشرقون، رابح جمعة (27)، ومناهل العرفان للزرقاني (1/74)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/124)

مضطربة، وقفز من مكان لمكان على صورة تلقي الذعر في قلب كل من يراه.. قال آخر: وهذا الوصف لأعراض هذا المرض لم يكن يظهر منه شيء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يتمتع بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء بصحة جيدة، وعقل رصين، ونفس هادئة، وخلق كريم، وحركات متزنة، ويشهد لصحته وقوته صرعه ركانة بن عبد يزيد، الذي كان أقوى عصره (1)، ويشهد لرجاحة عقله وسلامته فصله في خصومة قريش في شرف وضع الحجر الأسود في مكانه (2)، والطب لم يخرج لنا مريضا واحدا مصابا بمثل هذا المرض وقال كلاما معقولا وآراء راجحة.

قال آخر: فإذا كان هذا هو الثابت علميا فهو بخلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يظهر عليه شيء مما ذكر من أعراض هذا المرض عند نزول الوحي عليه، بل يظل في تمام وعيه، وكامل قوته العقلية، قبل وأثناء وبعد الوحي، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، لما سئل: كيف يأتيك الوحي؟ قال: (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه علي، فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال)(3)

قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ فقد عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طيلة حياته في صحة نفسية وعصبية وعقلية دائمة، لم يطرأ عليه أي خلل في عقله أو أعصابه في يوم من الأيام، بل كان صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة القرآن والسنة والتاريخ، وديعا صبورا حليما، بل كان عظيم الصبر، واسع الحلم والصدر حتى أنه صلى الله عليه وآله وسلم وسع الناس جميعا ببسطه وخلقه.. فهل يتفق هذا المرض وما هو معروف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنه كان أمة وحده، في أخلاقه، وثباته، وحلمه، وسلامة جسمه وقوة بنائه؟.

__________

(1) الاستيعاب في تمييز الأصحاب (1/515، 516)

(2) السيرة النبوية للذهبي (33: 32)

(3) البخاري (2)

(4) محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 4/ 191.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/125)

قال آخر (1): ثم ما رأي هؤلاء الطاعنين ـ وفيهم من ينتمي إلى بعض الأديان ـ في أنهم لا ينالون من نبوة وعصمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده؛ وإنما ينالون من جميع أنبياء الله ورسله الذين كانت لهم كتب أو صحف، أوحي بها من عند الله سبحانه.. فهل تطيب نفوس المقرين بالأديان منهم أن يخربوا بيوتهم قبل أن يخربوا بيوت غيرهم؟

قال آخر (2): فما رأيهم فيما جاء في كتب العهد القديم والجديد، من إيحاءات ونبوءات؟.. وهل يقولون في وحى نبي الله موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ ما يقولون في وحى نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال آخر: بالإضافة إلى هذا؛ فإن الصرع كان مرضا معروفا لعرب الجاهلية، ولم يكن ليغيب عنهم كون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصابا به لو كان حقا، إذ لو كان مصابا بمثل هذا لأخذ عليه المشركون مثل هذا، والدليل على هذا رواية المرأة السوداء الشهيرة؛ فعن عطاء قال: قال لي ابن عبّاس: ألا أريك امرأة من أهل الجنّة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السّوداء أتت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إنّي أصرع وإنّي أتكشّف فادع الله لي، قال: (إن شئت صبرت ولك الجنّة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)، فقالت: أصبر فقالت: إنّي أتكشّف فادع الله لي أن لا أتكشّف، فدعا لها (3).

قال آخر: فهذا وغيره دليل على كون الصرع كان مرضا معروفا للعرب الجاهليين، ولم يكن يخفي عليهم إصابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم به لو كان كذلك خاصة مع وجود العديد من الصحابة ثاقبي النظر المعروفين بالفراسة، ودقة النظر.

قال آخر: فلو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصابا بمرض الصرع، لذكر ذلك أصحابه الذين لم

__________

(1) محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 4/ 191.

(2) محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 4/ 191.

(3) البخاري (5328)، مسلم (2576)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/126)

يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا نقلوها عنه، أو ذكره أعداؤه في ذلك العصر، وهم الذين كانوا يتربصون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الدوائر، ويودون أن يظفروا منه ولو بشيء يسير يعيرونه به.

4. التشكيك والحفظ

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فحدثونا عن الشبه التي أثارها المستشرقون وغيرهم حول حفظ القرآن الكريم.

قال أحد المشككين: هي كثيرة جدا، ولا يسعنا في هذا المقام ذكرها، ولا الرد على تفاصيلها (1)، ذلك أن كل بنيانها ينهد بما نراه في الواقع من كون مصاحف المسلمين مهما اختلفت ديارهم ومذاهبهم وطوائفهم واحدة، وهو الدليل الواقعي الذي لا يمكن لأحد جحوده.

قال آخر: وهكذا عندما يسمعون قراء القرآن الكريم وحفظته، ومن جميع الأقطار الإسلامية، يجدون قرآنا واحدا، لا يزيد في أي محل أو ينقص.

قال آخر: وهكذا لو راجعوا كل المصاحف القديمة، أو التفاسير التي فسرت القرآن الكريم، ومن كل المذاهب؛ فلن يجدوا إلا مصحفا واحدا هو هذا الذي لا يزال بين المسلمين.

قال آخر: وبخلاف ذلك نرى الكتب المقدسة للمسيحيين واليهود، وكيف حصل الخلاف الشديد بين طوائفها، بل وجد فيها ما يدل على تحريفها وتبديلها، وهو ما لم يستطيعوا إثباته في القرآن الكريم.

قال آخر: ولذلك تركوا كل هذه الأدلة، وراحوا إلى أحاديث آحاد، يؤولونها كما

__________

(1) اكتفينا هنا بالإشارة للموضوع، بذكر بعض النماذج، لأنه سبق ذكره بتفصيل في الجزء الأول والثالث من هذه السلسلة.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/127)

يشتهون، ليخدموا بذلك غرضهم الذي انطلقوا منه، لا الحقيقة التي كان عليهم أن يصرحوا بها.

قال أحد الحضور: فهلا ذكرتم لنا أمثلة على تلك الشبهات، لنرى حقيقتها، ونرى كذلك وجه الرد عليها.

قال أحد المشككين: سنذكر لكم مثلين عنها، لتروا مدى تهافتها وضعفها، وعدم قدرتها على المس بالقرآن الكريم، ذلك الذي تعهد الله بحفظه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وهي الآية التي لا نجد لها نظيرا في كل الكتب المقدسة، والتي وكل الحفظ فيها لأهلها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]

المثال الأول

قال أحد الحضور: فاذكروا لنا المثال الأول.

قال أحد المشككين (1): المثال الأول دعواهم أن القرآن الكريم قد زيد فيه ما ليس منه، واستدلوا على ذلك بما ورد أن عبد الله ابن مسعود أنه كان لا يكتب الفاتحة والمعوذتين في مصحفه.. وفي رواية كان يحك المعوذتين من مصحفه ويقول: إنما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعوذ بهما، ويقول: (إنهما ليست من كتاب الله)(2).

قال آخر: والرد على هذه الشبهة من وجوه كثيرة.. أولها أن هاتين السورتين مما نقل من القرآن الكريم بالتواتر، وهو ما لا يمكن رده بالآحاد، بالإضافة إلى أن الكثير من القراء

__________

(1) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 408.

(2) انظر مقدمة القرآن، واط ص 46.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/128)

الذين يسندون في قراءتهم لابن مسعود، يعتبرونها من القرآن الكريم، ولو كان ابن مسعود لا يراها كذلك، لما رووها عنه.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك القارئ المعروف صاحب أكثر القراءت القرآنية انتشارا، عاصم بن أبي النجود، فمن جملة أسانيده في قراءته روايته عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ضمن ما تلقوه عنه، المعوذتان والفاتحة (1).

قال آخر: ومثله حمزة بن حبيب الزيات، أحد القراء السبعة الذي أخذ القراءة عرضا عن سليمان الأعمش الذي كان يجود حرف ابن مسعود، والذي أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه المعوذتان والفاتحة (2).

قال آخر: ومثله أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي الذي تلقى قراءة القرآن عن حمزة بسنده إلى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه المعوذتان والفاتحة (3).

قال آخر: ومثله أبو محمد خلف بن هشام أبو محمد الأسدي البزار البغدادي أحد القراء العشرة والروايات عن سليم بن حمزة الذي تنتهي قراءته إلى ابن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه المعوذتان والفاتحة (4).

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهما من القرآن الكريم الذي نزل عليه، وكان يقرأ بهما في الصلاة؛ فعن عقبة بن عامر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنزل علي آيات لم ير مثلهن قط المعوذتين)(5)

قال آخر: ومثله ما روي عنه، قال: بينا أقود برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نقب من تلك النقاب، إذ قال: ألا تركب يا عقبة؟ فأجللت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أركب مركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم

__________

(1) غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 347 ـ 348.

(2) غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 261 ـ 262.

(3) غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 535 ـ 540.

(4) غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 273.

(5) مسلم (814)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/129)

قال: ألا تركب يا عقبة؟ فأشفقت أن يكون معصية، فنزل وركبت هنيهة، ونزلت وركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس فأقرأني صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾، و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، فأقيمت الصلاة، فتقدم فقرأ بهما، ثم مر بي فقال: كيف رأيت يا عقبة بن عامر؟ اقرأ بهما كلما نمت وقمت (1).. وفي رواية: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المعوذتين، قال: فأمنا بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الفجر.

قال آخر: ومثل ذلك ما روي عن أبى العلاء قال: قال رجل: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، والناس يعتقبون، وفى الظهر قلة فحانت نزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزلتي فلحقني من بعدى فضرب منكبي فقال: قل: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ فقلت: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرأتها معه ثمّ قال: قل ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقرأتها معه قال: (إذا أنت صلّيت فاقرأ بهما)(2)

قال آخر: ومثل ذلك ما روي عن زر قال: سألت أبيّ بن كعب قلت: يا أبا المنذر؛ إنّ أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا فقال أبيٌّ: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: قيل لي فقلت قال: فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3).. وفي لفظ عن زرّ بن حبيش قال: قلت لأبىّ بن كعب: إنّ ابن مسعود كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه، فقال: أشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرني أنّ جبريل ـ عليه السلام ـ قال له: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ فقلتها، فقال: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ فقلتها، فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (4).

قال آخر: ومثل ذلك ما روي عن إبراهيم النخعي قال: قلت للأسود: من القرآن هما؟ قال: نعم، يعني المعوذتين (5).

__________

(1) النسائي 8/252، وابن خزيمة في صحيحه (535) والحاكم في مستدركه 1/366.

(2) أحمد 5/24، والنسائي في الكبرى (7859)

(3) البخاري (4977)

(4) أحمد 5/129.

(5) ابن أبي شيبة في مصنفه 6/146.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/130)

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه إن صح ما روي عن ابن مسعود من عدم كتابتهما في المصحف؛ فإن ذلك لا يعني عدم اعتبارهما من القرآن الكريم، وقد قال ابن حجر في ذلك: وقد تأول القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب (الانتصار) وتبعه عياض وغيره ما حكي عن ابن مسعود فقال: لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن، وإنما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنه كان يرى أن لا يكتب في المصحف شيئا إلا إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن في كتابته فيه، وكأنه لم يبلغه الإذن في ذلك، قال: فهذا تأويل منه، وليس جحدا لكونهما قرآنا)(1)

قال آخر: ومثله قال ابن قتيبة: (وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه، فليس لظنه أنها ليست من القرآن ـ معاذ الله ـ ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان.. ومعنى هذا أن عدم كتابة ابن مسعود للفاتحة في مصحفه كان سببه وضوح أنها من القرآن وعدم الخوف عليها من الشك والنسيان والزيادة والنقصان)(2)

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن جميع المسلمين يرددون ما قال الزرقاني في هذا: (إننا إن سلمنا أن ابن مسعود أنكر المعوذتين وأنكر الفاتحة؛ بل أنكر القرآن كله فإن إنكاره هذا لا يضرنا في شيء؛ لأن هذا الإنكار لا ينقض تواتر القرآن، ولا يرفع العلم القاطع بثبوته القائم على التواتر، ولم يقل أحد في الدنيا إن من شرط التواتر والعلم اليقيني المبني عليه ألا يخالف فيه مخالف وإلا لأمكن من هدم كل تواتر، وإبطال كل علم قام عليه بمجرد أن يخالف فيه مخالف ولو لم يكن في العير ولا في النفير، (3)

قال آخر: وقال البزار: (وهذا الكلام لم يتابع عبد الله عليه أحدٌ من أصحاب النّبيّ

__________

(1) فتح الباري لابن حجر 8/615.

(2) مناهل العرفان 1/192.

(3) مناهل العرفان في علوم القرآن 1/192، وانظر روح المعاني 30/279، التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل 3/33.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/131)

صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قرأ بهما في الصّلاة وأثبتتا في المصحف)(1)

قال آخر: ولا شكّ أن إجماع الصحابة على قرآنيتهما كاف في الردّ على هذا الطعن، ولا يضرّ ذلك الإجماع مخالفة ابن مسعود في حال صحته، فإنه لا يعقل تصويب رأي ابن مسعود وتخطئة الصحابة كلهم؛ بل الأمة كلها (2).

المثال الثاني

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فاذكروا لنا المثال الثاني.

قال أحد المشككين: المثال الثاني دعواهم أن القرآن نقص منه بعض السور مستدلين على ذلك بكتابة بعض الصحابة كأبي بن كعب بعض السور، ولم تكتب في القرآن الحالي، ويقصدون بذلك ما يطلقون عليه [سورتي الخلع والحفد] (3)

قال آخر: وهم يريدون بسورة الخلع الدعاء المعروف: (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونثني عليك الخير.. نشكرك ولا نكفرك.. ونؤمن بك ونخضع لك.. ونتوكل عليك، ونخلع ونترك من يفجرك).. ويقصدون بسورة الحفد هذا الدعاء: (اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخاف عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق)(4)

قال آخر: وأول الردود الواضحة على هذا الادعاء هو كون هذا الدعاء مع ترديد المؤمنين بفرقهم المختلفة له، لم يوضع في المصاحف، ولم يزعم أحد أنه قرآن نزل مثلما ينزل القرآن.

قال آخر: أما كونه وحيا أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فالقرآن الكريم يذكر أن كل

__________

(1) مسند البزار 1/268.

(2) كتاب جمع القرآن 1/176.

(3) انظر مذاهب التفسير الإسلامي، جولد تسيهر ص 2.

(4) تحفة الوفد بما ورد في سورتي الخلع والحفد 1/2 بحث لأبي يعلى البيضاوي.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/132)

أقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل كل أفعاله أيضا مبنية على الوحي الإلهي، كما قال تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 2 ـ 4].. لكن لا يعتبر من القرآن الكريم منه إلا ما نزل بتلك الهيئة الخاصة، والتي تواتر نقلها.

قال آخر: وقد قال بعض العلماء في ذلك في ذلك: (لا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله، وأجزائه، وأما محل وضعه وترتيبه فكذلك عند المحققين، للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله؛ لأن هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم، والصراط المستقيم مما تتوفر الدواعي على نقل جمله وتفاصيله، في نقل آحادا ولم يتواتر يقطع بأنه ليس من القرآن قطعا.. وذهب كثير من الأصوليين إلى أن التواتر شرط في ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله، وليس بشرط في محل وضعه وترتيبه؛ بل يكثر فيها نقل الآحاد)(1)

قال آخر: وقال آخر يذكر ذينك الدعائين: (إن كلام القنوت المروي أن أبي بن كعب أثبته في مصحفه لم تقم الحجة بأنه قرآن منزل؛ بل هو ضرب من الدعاء، وأنه لو كان قرآنا لنقل إلينا نقل القرآن وحصل العلم بصحته.. ولم يصح ذلك عنه؛ إنما روي عنه أنه أثبته في مصحفه، وقد أثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء أو تأويل، وهذا الدعاء هو القنوت الذي أخذ به السادة الحنفية، وبعضهم ذكر أن أبيا كتبه في مصحفه وسماه سورة الخلع والحفد؛ لورود مادة هاتين الكلمتين فيه، وقد عرفت توجيه ذلك)(2)

قال آخر: وقال آخر: (والخلاصة أن بعض الصحابة الذين كانوا يكتبون القرآن لأنفسهم في مصحف أو مصاحف خاصة بهم ربما كتبوا فيها ما ليس بقرآن مما يكون تأويلا

__________

(1) الإتقان للسيوطي 1/208 ـ 209.

(2) مناهل العرفان في علوم القرآن 1/188، المدخل على دراسة القرآن الكريم (260)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/133)

لبعض ما غمض عليهم من معاني القرآن، أو مما يكون دعاء يجري مجرى أدعية القرآن في أنه يصح الإتيان به في الصلاة عند القنوت أو نحو ذلك، وهم يعلمون أن ذلك كله ليس بقرآن ولكن ندرة أدوات الكتابة وكونهم يكتبون القرآن لأنفسهم وحدهم دون غيرهم هون عليهم ذلك؛ لأنهم أمنوا على أنفسهم اللبس واشتباه القرآن بغيره؛ فظن بعض قصار النظر أن كل ما كتبوه فيها إنما كتبوه على أنه قرآن مع أن الحقيقة ليست كذلك؛ إنما هي ما علمت، أضف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى عليه حين من الدهر نهى عن كتابة غير القرآن؛ إذ يقول فيما يرويه مسلم: لا تكتبوا عني ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه، وذلك كله مخافة اللبس والخلط والاشتباه في القرآن الكريم)(1)

قال آخر: وما ورد من الأحاديث عن الصحابة باعتبارها سورا؛ فهم لا يريدون بها السور القرآنية المعروفة، بدليل الأحاديث التي تفسر ذلك، ومنها ما روي عن خالد بن أبي عمران قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو على مضر، إذ جاءه جبريل، فأومأ إليه أن اسكت، فسكت، فقال: يا محمد، إن الله لم يبعثك سبابا، ولا لعّانا، وإنما بعثك رحمة، ولم يبعثك عذابا، ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران: 128]، ثم علمه هذا القنوت: (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونخضع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد)(2)

قال آخر: ويدل لذلك أيضا الروايات الصحيحة المنسوبة إلى أبي بن كعب كما ذكر ذلك عنه أبو الحسن الأشعري حيث قال: (قد رأيت أنا مصحف أنس بالبصرة عند قوم من ولده، فوجدته مساويا لمصحف الجماعة، وكان ولد أنس يروي أنه خط أنس وإملاء

__________

(1) مناهل العرفان في علوم القرآن 1/188.

(2) أبو داود في كتاب المراسيل 1/82، السنن الكبرى 2/210.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/134)

أبي)(1)

قال آخر: ويؤكد هذا كله ما بلغنا من القراء الذين أخذوا القرآن بسندهم إليه، فلم يكن من بين ما تلقوه عنه هاتان السورتان المزعومتان.. فمن هؤلاء القراء نافع بن أبي نعيم المدني من طريق الأعرج عن أبي هريرة عن أبي ابن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن فيما تلقاه هاتان السورتان (2).

قال آخر: ومنها رواية عاصم بن أبي النجود التي أخذها عن زر بن حبيش عن أبي عبد الرحمن السلمي والتي أخذها عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن فيها هاتان السورتان (3).

قال آخر: ومنها رواية أبي الحسن علي بن حمزة الذي تلقى القراءة عن طريق إسماعيل ويعقوب ابني جعفر قراءة نافع والذي بدوره أخذ قراءة أبي بالسند السابق، ولم يكن فيها هاتان السورتان (4).

قال آخر: ومنها رواية خلاد أبو عيسى خالد الشيباني بالولاء الذي تلقى قراءة عاصم والتي سندها يتصل إلى أبي بن كعب بالسند السابق، ولم يكن فيها هاتان السورتان (5).

قال آخر: فهؤلاء القراء كلهم وغيرهم قد تلقوا القراءة عن أبي بن كعب ولم يكن فيما تلقوه هاتان السورتان المزعومتان مما يدل على عدم ثبوت ذلك عنه.

قال آخر: ويؤكد هذا أن القرآن الكريم قد انتشر واشتهر وثبت تدوينه وحددت سوره، ولم تكن هاتان السورتان المزعومتان فيه (6).

__________

(1) نكت الأنصار لنقل القرآن الباقلاني ص 81.

(2) غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 31.

(3) غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 535 ـ 540.

(4) غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 535.

(5) غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 274.

(6) انظر حاشية كتاب تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 47، ونكت الأنصار لنقل القرآن ص 80.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/135)

5. التشكيك والتناقض

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فحدثونا عن الشبه التي أثارها المستشرقون وغيرهم حول ما يزعمونه من التناقض بين آيات القرآن الكريم.

قال أحد المشككين: لقد ردد المستشرقون نفس ما ردده من قبلهم كل المنكرين والحاقدين على القرآن الكريم، والذين لم ينطلقوا من البحث العلمي، وإنما من الهوى المجرد، وأولهم قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين، أو اليهود، أو النصارى، أو غيرهم من الذين لم يتدبروا بصدق قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]

قال آخر: ولذلك توهموا أن في القرآن الكريم تعارضا وتناقضا واختلافا كثيرا، وبدل أن يسألوا الراسخين في العلم، أو يبحثوا في أسرار ما تعارض في أذهانهم راحوا يتهمون القرآن الكريم بذلك.

قال آخر: بل إنهم لو أعملوا عقولهم، لوجدوا أنه ليس كل ما بدا متناقضا أو متعارضا هو كذلك، وقد سئل بعض العلماء عن معنى قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82] فأجاب بقوله: (الاختلاف لفظ مشترك بين معان، وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه، بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن؛ يقال هذا كلام مختلف.. أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة إذ هو مختلف؛ أي بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا، أو هو مختلف النظم؛ فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف، وبعضه على أسلوب مخصوص في الجزالة وبعضه على أسلوب يخالفه وكلام الله

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/136)

تعالى منزه عن هذه الاختلافات؛ فإنه على منهاج واحد في النظم، مناسب أوله آخره، وعلى مرتبة واحدة في غاية الفصاحة، فليس يشتمل على الغث والسمين، ومسوق لمعنى واحد وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى وصرفهم عن الدنيا إلى الدين، وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات؛ إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف في منهاج النظم، ثم اختلاف في درجات الفصاحة، بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين، فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان، بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة، وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة؛ لأن الشعراء والفصحاء ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ [الشعراء: 225]، فتارة يمدحون الدنيا وتارة يذمونها، وتارة يمدحون الجبن فيسمونه حزما وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صراحة وتارة يذمونها ويسمونها تهورا، ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات؛ لأن منشأ هذه الاختلافات اختلاف الأغراض واختلاف الأحوال، والإنسان تختلف أحواله، فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه ويتعذر عليه عند الانقباض، ولذلك تختلف أغراضه، فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى، فيوجب اختلاف الأحوال والأغراض اختلافا في كلامه بالضرورة فلا تصادف اللسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة وهي مدة نزول القرآن، فيتكلم على غرض واحد، وعلى منهج واحد ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشرا تختلف أحواله، فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجد فيه اختلاف كثير، فأما اختلاف الناس فهو تباين في آراء الناس لا في نفس القرآن، وكيف يكون هذا المراد وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: 26]، فقد ذكر في

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/137)

القرآن أنه في نفسه غير مختلف وهو مع هذا سبب لاختلاف الخلق في الضلال والهدى، فلو لم يختلف فيه لكانت أمثال هذه الآيات خلفا، وهي أشد أنواع الاختلاف)(1)

قال آخر: وبناء على هذا سنحدثكم عن نماذج من الإشكالات والتشكيكات المتعلقة بالتناقض والتعارض والاختلاف بين آيات القرآن الكريم، والتي عبر عنها جولد تسيهر بقوله: (من العسير أن نستخلص من القرآن نفسه مذهبا عقديا موحدا متجانسا وخاليا من المتناقضات، ولم يصلنا من المعارف الدينية الأكثر أهمية وخطرا، إلا آثار عامة نجد فيها ـ إذا بحثناها في تفاصيلها ـ أحيانا تعاليما متناقضة)(2).. وهو يردد بذلك نفس ما ذكره المشركون واليهود وكل المعارضين للنبوة بسبب عدم إعمال عقولهم في التدبر والتأمل لرؤية الحقائق بوضوح وصفاء.

قال آخر: وسنذكر لكم ثلاثة نماذج مختصرة عن تلك الشبهات مع الردود المختصرة عليها، لتعرفوا المنهج الذي يفكر به المشككون، وتعرفوا كذلك المنهج الذي تستعملونه في الرد على أشباهها ونظائرها.

النموذج الأول

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فحدثونا عن النموذج الأول من الشبهات والتشكيكات، والردود عليها.

قال أحد المشككين: النموذج الأول ما ورد في رسالتين تطعنان في القرآن الكريم.. الأولى في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية، وموقعة باسم الأسقف العام، ورئيس المجلس، والنائب العام البابوي تيموثاوس.. والرسالة الثانية جاءت بالبريد

__________

(1) البرهان للزركشي (2/54 ـ 56.

(2) نمو العقيدة الإسلامية وتطورها، لجولدتسيهر، عن كتاب الإسقاط في مناهج المستشرقين والمبشرين، لشوقي أبوخليل (ص64.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/138)

من استراليا في إحدى وعشرين صفحة، وموقعه باسم [المدعون العامون في محكمة الحقيقة]، وقد رد عليهما بعض العلماء، وهو عبد الجليل شلبي في كتابه [رد مفتريات على الإسلام] (1)، كما رد عليها غيره من السابقين واللاحقين، لأن أكثر تلك الشبهات مكررة ومقتبسة من غيرها.

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس: 15]، وقوله: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 101].. فقد توهموا أن في الآية الأولى طلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التبديل فرفض، وأن الآية الثانية تذكر أنه قد تم التبديل فعلا (2).

قال آخر (3): وقد أجيب على ذلك بأن التبديل في الآية الأولى كان بطلب من الكفار لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي بقرآن جديد، أو يبدل القرآن، ولهذا أمر الله تعالى رسوله أن يخبرهم عن عدم قدرته على ذلك؛ لأن القرآن الكريم كلام الله، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبع ما أوحي إليه.. أما الآية الثانية؛ فتذكر إشكالات الكفار المرتبطة بالاختلاف بين الأديان في الشرائع؛ حيث استغربوا ذلك؛ فالله تعالى رد عليهم بأن ذلك من الله تعالى، لأنه يشرع لعباده بحسب ظروفهم وأحوالهم وحاجاتهم، والتي تختلف من عصر إلى عصر.. فأي تناقض بين الآيتين؟.. فكلتاهما تثبت أن القرآن من عند الله، وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع أن يغير منه شيئا.

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ

__________

(1) رد مفتريات على الإسلام، ص67 ـ 77.

(2) رد مفتريات على الإسلام، ص37.

(3) رد مفتريات على الإسلام، ص67.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/139)

أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 106]، وقوله: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ [الكهف: 27].. فالآية الثانية تخبر أن كلمات الله لا تبدل، والأولى تخبر أنها تنسخ وتنسى، والنسخ نوع تبديل (1).

قال آخر: وقد أجيب على ذلك، بأن الآية الأولى تتحدث عن نسخ الأحكام وتغيير الشرائع بحسب الأديان، وهذا أمر لا بد منه، لأن ظروف وأحوال كل أمة تختلف عن غيرها.. والآية الثانية تذكر أنه لا أحد غير الله يستطيع أن يبدل كلماته، أو يرد حكما أنزله سبحانه.. والطاعنون لم يفهموا النص فظنوه تناقضا، وكلتا الآيتين توضح أن الله وحده يمحو ما يشاء ويثبت، تماما كالآية السابقة.

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وقوله: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: 39]، فقد تعجبوا من كيفية جمع الحفظ مع المحو (2)؟

قال آخر (3): وقد أجيب على ذلك، بأن الآية الأولى تصف القرآن أنه تنزيل من الله تعالى، وأن الله حافظه من الزوال والتحريف، وصدق الله وصدق قرآنه، فالمسلمون بعد أربعة عشر قرنا يقرؤون القرآن غضا طريا صريحا صحيحا كما أنزله الله تعالى، وكما قرأه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأما الآية الثانية، فتذكر أن الله يمحو أحكاما ويثبت أخرى، ويمحو مقادير ويثبت غيرها.. وليس في هذا أي تعارض.

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ

__________

(1) رد مفتريات على الإسلام، ص37.

(2) رد مفتريات على الإسلام، ص37.

(3) رد مفتريات على الإسلام، ص68.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/140)

السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السجدة: 5]، وقوله تعالى: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: 4]، فألف سنة في الآية الأولى ـ كما توهموا ـ تناقض خمسين ألف سنة في الآية الأخرى (1).

قال آخر (2): وقد أجيب على ذلك، بأن الآية الأولى تصف يوم القيامة بالطول، وأنه في طوله يعدل ألف سنة مما يعدل الناس، ولا يراد منها إفادة التكثير، كما تقول لصاحبك كتبت لك خمسين خطابا، وترددت على بيتك عشرين مرة، واللغويون يقولون دائما: العدد لا مفهوم له.. ولذلك؛ فإنه إذا وصفت الآية الثانية هذا اليوم بأن مقداره خمسين ألف سنة فلا تناقض لأن كلا منهما تصفه بالطول.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن اليوم يختلف مع الناس باختلاف مواقفهم وما يعانيه كل منهم، فقد يطول اليوم على شخص لشدة مشقته، ويقصر على آخر لعدم المشقة.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الآيتين ليستا على مورد واحد، بل الأولى تتحدث عن أمر لا تتحدث عنه الأخرى.. فالآية الأولى تتحدث عن مدة يوم معراج الأوامر ومدته ألف سنة، والثانية تتحدث عن يوم القيامة ومدته خمسين ألف سنة، كما هو ظاهر من السياق، قال تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ [المعارج: 1 ـ 10]

قال آخر: ويؤكد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي

__________

(1) رد مفتريات على الإسلام، ص37.

(2) رد مفتريات على الإسلام، ص69.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 290.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/141)

منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)(1)

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ [البلد: 1 ـ 2]، وقوله: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ [التين: 1 ـ 3]؛ فقد توهموا التناقض بين ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ ثم أقسم به (2).

قال آخر (3): وقد أجيب على ذلك، بأن (لا) في (لا أقسم) ليست نافية، وإنما أتت توكيدا وهذا شائع في اللغة، كما في قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، أي أقسم بربك أنهم كذلك.

قال آخر (4): وقد جاء الشعر العربي القديم بذلك، ومن أمثلته قول النابغة:

فلا وحق الذي مسحت كعبته... وما هريق على الأنصاب من جسد

وقول الآخر:

فلا والله لا يلقى لمابي... ولا لما بهم أبدا دواء

وقول طرفه:

فلا وأبيك ابنة العامري... لا يدعي القوم أني أفر

قال آخر: وقد قال علماء اللغة في ذلك: (إن هذا القسم يفيد تعظيم المقسوم به، كما في سورة البلد، وكما في قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ

__________

(1) مسلم، رقم:987.

(2) رد مفتريات على الإسلام، ص37.

(3) رد مفتريات على الإسلام، ص69.

(4) رد مفتريات على الإسلام، ص69.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/142)

عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: 75 ـ 76]، وقوله: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة: 1 ـ 2]، فهذه كلها أقسام، وليس هذا من دقائق اللغة وإنما هو من أولياتها، ولكنهم للأسف لا يبحثون ولا يعلمون.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه إذا اعتبرت (لا) نافيه والجملة خبرية فهي مقيدة؛ أي لا أقسم به وأنت حل به، ولكن أقسم به وأنت غير حل به، وبذلك لا يحصل التناقض أيضا.

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [الزمر: 44]، وقوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [السجدة: 4] وقوله: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ [يونس: 3] (1)

قال آخر (2): وقد أجيب على ذلك بأن الآيات الثلاث تذكر أن الله وحده هو المتصرف في خلقه، ولا يشفع عنده إلا من أذن له، فله وحده الشفاعة، لا شفيع من دونه، ولا بغير إذنه.. فأي تناقض بين هذه الآيات؟.. أليست الشفاعة في هذا كله لله وحده؟

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فقد نفى الله تعالى الشفاعة الشركية التي يعتقدها المشركون في معبوداتهم، وأثبتها له وحد، ولمن يأذن له فيها، فهو سبحانه ينفيها في حال ويثبتها في حال آخر.

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ

__________

(1) رد مفتريات على الإسلام، ص37.

(2) رد مفتريات على الإسلام، ص71.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 293.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/143)

وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ [الواقعة: 13 ـ 14]، وقوله: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ [الواقعة: 39 ـ 40] (1)

قال آخر: وقد أجيب على ذلك ـ كما هو واضح ـ بأن الآية الأولى تتحدث عن السابقين المقربين، والثانية تتحدث عن أصحاب اليمين، قال تعالى في الأولين: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ [الواقعة: 10 ـ 14]، وقال في الآخرين: ﴿لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ [الواقعة: 38 ـ 40]

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [الحجر: 85 ـ 86]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التوبة: 73]، لأن الآية الأولى أمرت بالصفح، والثانية أمرت بالغلظة (2).

قال آخر: وقد أجيب على ذلك بأن الصفح لا يتناقض مع العنف والشدة، لأن لكليهما أهله.. بالإضافة إلى أن لكل منهما محله الخاص به؛ فالأولى مرتبطة بالمستضعفين، الذين لا يطيقون القتال، ويمثلهم المؤمنون في مكة المكرمة، لأن تلك الآيات نزلت فيها، فالآية الكريمة تقول لهم: (إن الله لم يخلق هذا الكون عبثا يفسد فيه من يفسد ويصلح من يصلح، بل الله جامع الناس بعد ذلك وجاز كلا بما فعل، فلا تحزن يا محمد لمخالفة القوم إياك ومعارضتهم دعوتك، وغدا تقوم الساعة فيجزون بسوئهم وتجزى بإحسانك،

__________

(1) رد مفتريات على الإسلام، ص37.

(2) رد مفتريات على الإسلام، ص37.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/144)

فأعرض عنهم حتى يأتي أمر الله)(1)

قال آخر: وأما الثانية؛ فهي في سورة التوبة، وهي مدنية، وتسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين والمعتدين، ولذلك دعت إلى جهادهم، لأنه لا يتحقق السلام من دون ذلك.

قال آخر (2): فأين التناقض في ذلك، والناس جميعا يفعلونه، حيث يقول القائد لجيشه: لا تضربوا.. وبعد مدة يقول: اضربوا.. ويقول المهندس الزراعي لفلاحيه: لا تزرعوا الآن.. وبعد شهر يقول: ازرعوا.. ولكل حكمته الخاصة به.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن محل الآية الأولى هو الدعوة، ومحل الثانية الجهاد، فاختلف مورد كل آية، كما أن الوالد في حال نجاح ابنه يفرح ويحسن إليه بهدية، وفي حال رسوبه يغضب ويعاقبه، ولا يقال: إن هذا الوالد متناقض؛ لأنه مرة يفرح ومرة يغضب، ففرحه في مجال وغضبه في مجال آخر.

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 38]، وقوله تعالى حكاية عن قول الشيطان: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 16 ـ 17]؛ فقد زعموا أن الآية الأولى تنسب التضليل للبشر، والثانية تنسبه للشيطان.

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 294.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 294.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 294.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/145)

قال آخر: وقد أجيب على ذلك بأنه ليس من التناقض أن يحصل التضليل من كثيرين، ذلك لأن لكل جهة دورها أو حظها في التضليل.

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال: 65]، وقوله: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [الأحزاب: 48]؛ فقد زعموا أن الآية الأولى تطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحريض المؤمنين وحثهم على القتال، بل والتجلد لقتالهم فإن العشرين الصابرين منهم يقتلون مائتين، والمائة الصابرة يقتلون ألفا من الذين كفروا، بينما الآية الثانية تطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا يطيع الكافرين والمنافقين، وأن يدع أذاهم لا يقابلهم مثله ويكفيه التوكل على الله، فهو حسبه وكفى بالله وكيلا، فكيف يأمره في الأولى لتحريض على قتالهم بهذا الجلد، ويأمره في الثانية بترك آذاهم (1).

قال آخر (2): وقد أجيب على ذلك بأنه ليس هناك أي تعارض، فالكافرون والمنافقون كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بألسنتهم وباختلاق أقوال عليه، فأمره الله بأن يدع أذاهم له، فهو سبحانه وتعالى يتولى رد كيدهم في نحرهم، ودحض افتراءاتهم على رسوله، فكفى بالله وكيلا، فأمره في آية الأحزاب أن لا يقابل اللسان بالسنان، بينما أمره في شأن الكفار المحاربين أن يحرض المؤمنين على قتالهم، والتجلد لهم.. فأمره الله سبحانه في آية الأنفال بمقابلة السنان بالسنان، فالحكمة تقتضي وضع السيف في موضعه واللين في موضعه، فلا تعارض إذن بين الآيتين.

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ

__________

(1) رد مفتريات على الإسلام، ص37.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 297.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/146)

فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 20]، وقوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: 89]؛ فقد توهموا ما دعت إليه الآية الأولى التي ذكرت أنه ليس على الرسول إلا البلاغ، والآية الثانية التي أمرته بقتال المنافقين وجهادهم (1).

قال آخر (2): وقد أجيب على ذلك بأنه ليس هناك أي تعارض؛ فالآية الأولى ـ ومثلها كثير جدا ـ تقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنك لست مطالبا بإحلال الهداية في نفوسهم، ولكن الله يهدي من يشاء، وإنما عليك أن تبلغ رسالة الله، فمن آمن بها وأسلم فقد اهتدى، ومن تولى فحسابه على الله، وحسبك أنك بلغت الرسالة، ولست مكلفا بإحلال الهداية)

قال آخر (3): والآية الثانية تتحدث عن الذين يتمنون أن يكفر المسلمون ككفرهم، وقد نهي المسلمون أن يتخذوا منهم أصدقاء حتى يهاجروا في سبيل الله، ولا تعني الهجرة في هذا المقام الانتقال من مكة إلى المدينة؛ إذ السورة مدنية والمنافقين كانوا بالمدينة، ولكن المراد بالهجرة طاعة الله تعالى وترك المحرمات، وهذا من معاني الهجرة، ومن معانيها أيضا الجهاد، وكان جماعة من المنافقين بقيادة عبد الله بن أبي رجعوا قبل المعركة يوم أحد.. والقرآن ينهى المسلمين عن اتخاذهم أصدقاء؛ لأن ذلك تكريم لهم وإطلاع لهم على أسرار المسلمين، ادعوا الإسلام وأعرضوا عن الدفاع عنه، وعاونوا أعداءه.. وليس في هذا إحلال هداية في أنفسهم، وإنما التخلص منهم ومن شرورهم، والناس في كل أمة وفي كل عصر

__________

(1) رد مفتريات على الإسلام، ص37.

(2) رد مفتريات على الإسلام، ص75.

(3) رد مفتريات على الإسلام، ص75.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/147)

يقتلون الخونة.. فهل هذا تناقض؟

قال آخر (1): ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 108]، وقوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾ [محمد: 4 ـ 5].. ووجه التناقض ـ فيما يزعمون ـ أن الآية الأولى نهت المسلمين عن سب الأصنام التي يعبدها المشركين، والآية الثانية حثتهم على الجهاد.

قال آخر (2): وقد أجيب على ذلك بأن الآية الأولى سنت للمسلمين أدبا خلقيا، فنهتهم عن شتم الأصنام، وهم يعلمون أنها لا تضر ولا تنفع، ولكن لو سبوها لسب الكفار الله تعالى عدوانا وجهلا؛ لأنهم لم يعرفوه ولم يعرفوا صفاته، وهذا أدب أخلاقي رفيع، بالإضافة إلى أن الشتائم لا جدوى من ورائها، وأن الشتام يحط دائما من قدر نفسه، ولا ينال من قدر من شتمه شيئا.. أما الآية الثانية؛ فهي تبين جانبا من تعاليم الحرب، فتعلم المسلمين أنهم إذا قابلوا الكفار في المعركة فعليهم أن يشتدوا عليهم، فإذا أثخنوهم قتالا وهزموهم كان لهم بعد ذلك أن يمنوا على من يستحق المن، وأن يأخذوا الفدية ممن يستحق أن يفدى.. فليس في الآية إباحة لسب الأصنام، ولكل من الآيتين حكمها.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن من توهم ذلك تصور أنه طالما جاء النهي في

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 299.

(2) رد مفتريات على الإسلام، ص75.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 300.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/148)

سورة الأنعام عن سب الأصنام، فمن باب أولى يجب الكف عن قتالهم؛ إذ القتال وضرب الرقاب أعظم من السب، وذلك غير صحيح؛ فعلة النهي عن سب أصنام الكفار في نفس الآية، وهي أن سب آلهتهم يفضى إلى حمل المشركين على سب الله تعالى، فهم أجهل الناس بقدر الله، وليس للنهي في الآية أي علاقة بمراعاة مشاعر المشركين، لكن مشكلتهم هي أنهم نظروا إلى صدر الآية فقط، وتركوا باقيها، فزعموا أن في القرآن آية تنهي عن سب أصنام المشركين لحفظ مشاعرهم، وآية أخرى تأمر بضرب رقابهم، ومن خلال هذا الزعم رموا القرآن بالتناقض.

قال آخر (1): ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: 127]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 39 ـ 40].. فقد توهموا التعارض بين الآية الأولى التي تأمر بالصبر على الذي يصيب المؤمن من أعدائه، والآية الثانية التي تأمر بالانتصار من الذي يصبيه (2).

قال آخر (3): وقد أجيب على ذلك بأن الآية الأولى مسبوقة بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: 126]، وقد روي في سبب نزولها أن المسلمين أرادوا التمثيل بعدد من المشركين، جزاء ما مثلوا بحمزة في يوم أحد، فنهتهم الآية الكريمة عن ذلك، وبينت أن العفو أفضل.. بينما آيات سورة الشورى، تصف المؤمنين بأنهم إذا بغى عليهم أحد انتصروا لأنفسهم، وبينت ـ كما بينت الآية الأولى

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 299.

(2) رد مفتريات على الإسلام، ص37.

(3) رد مفتريات على الإسلام، ص76.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/149)

ـ أن جزاء السيئة يكون بقصاص مماثل، وأن من عفا وأصلح فإن الله تعالى يثيبه.. فالآيتان في مجرى واحد، كلتاهما تفضل العفو، وتقيد العقوبة بالمماثلة.

قال آخر (1): ذلك أنه لا يتأتى للمسلمين أن يعتدى عليهم، ويقفوا مكتوفي الأيدي، بل عليهم أن ينتصروا لأنفسهم ممن بغى عليهم، ولكنهم مع هذا الانتصار لا يظلمون.

قال آخر (2): وهو نفس ما نجده في الأناجيل؛ فالمسيح عليه السلام يقول لتلاميذه: (أحسنوا إلى أعدائكم وباركوا لاعنيكم)، ومع هذا تجده يقول لليهود: (يا أولاد الأفاعي، ترون القذاة في أعين الناس ولا ترون الخشبة في أعينكم!)، ويقول: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها)

قال آخر (3): ومن تلك التشكيكات سوء فهمهم لقوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: 7]، وتوهمهم أنها تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان على دين قومه ووثنيتهم وأخلاقهم.

قال آخر (4): والجواب على ذلك أن الأمر ليس كذلك؛ بل المقصود من الضلالة في كلمة ﴿ضالا﴾ في الآية ليس نفي الإيمان والتوحيد والطهر والتقوى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل بقرينة ما ورد في القرآن الكريم هي تعني نفي العلم بأسرار النبوة، وبأحكام الإسلام، وغيرها من شؤون النبوة، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة اهتدى إلى هذه الامور بعون الله تعالى وتوفيقه؛ وبذلك؛ فإن الآية الكريمة تخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقول له: (لم تكن أيها النبي على علم بالنبوة والرسالة، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانية)

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 301.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 301.

(3) رد مفتريات على الإسلام، ص38.

(4) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، (20/ 279)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/150)

قال آخر (1): وهو المعنى الذي ورد في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، وواضح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان فاقدا لهذا الفيض الإلهي قبل وصوله مقام النبوة، فالله سبحانه أخذ بيده وهداه وبلغ به هذا المقام.

قال آخر: وهو المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3]؛ فلولا الهداية الإلهية والإمداد الغيبي ما استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهتدي إلى ما أراد الله هدايته إليه.

قال آخر: ويشير إلى هذا المعنى أيضا قوله تعالى ـ عند ذكر الشهادة وسبب استشهاد أكثر من شاهدة واحدة في كتابة عقود الدين ـ: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ [البقرة: 282]؛ فالضلالة في هذه الآية تعني (النسيان) بقرينة قوله ﴿فَتُذَكِّرَ﴾

قال آخر: ومن المعاني التي قد تفسر بها الآية الكريمة كذلك: (إنك كنت خامل الذكر غير معروف، والله أنعم عليك من المواهب الفريدة مما جعلك معروفا في كل مكان)(2)

قال آخر: ومن تلك المعاني: (إنك تهت وضللت الطريق مرات في عهد الطفولة.. مرة في شعاب مكة حين كنت في حماية عبد المطلب.. ومرة حين كانت حليمة السعدية تأتي بك إلى مكة لتسلمك إلى عبد المطلب فتهت في الطريق.. ومرة حين كنت برفقة عمك أبي طالب ضمن قافلة متجهة إلى الشام؛ فضللت الطريق في ليلة ظلماء.. والله سبحانه هداك في

__________

(1) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، (20/ 279)

(2) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، (20/ 280)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/151)

كل هذه المرات وأعادك إلى حضن جدك أو عمك)(1)

قال آخر (2): ذلك أن كلمة (ضال) تعني (المفقود) وتعني (التائه).. ولذلك نقول: (الحكمة ضالة المؤمن)، والضالة تعني الشيء المفقود.. وهكذا تأتي بمعنى المخفي والغائب، ويدل لذلك قوله تعالى على لسان منكري المعاد: ﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ [السجدة: 10]، أي إئذا غبنا، واختفينا في بطن الأرض.

قال آخر: وقد قال الراغب في ذلك: (الضلال ترك الطريق المستقيم؛ عمدا كان أو سهوا، قليلا كان أو كثيرا، ويصح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب إلى الأنبياء، وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد، ألا ترى أنه قال في النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: 7]، أي غير مهتد لما سبق إليك من النبوة، وقال في يعقوب عليه السلام: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾ [يوسف: 95]، وقال أولاده: ﴿لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يوسف: 8] إشارة إلى شغفه بيوسف عليه السلام وشوقه إليه، وكذلك ﴿قَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يوسف: 30]، وقال عن موسى عليه السلام: ﴿قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ [الشعراء: 20]، وهو تنبيه أن ذلك منه سهو)(3)

قال آخر (4): ذلك أن الضلال ضربان؛ ضلال في العلوم النظرية، كالضلال في معرفة الله ووحدانيته، ومعرفة النبوة ونحوهما، المشار إليهما بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ

__________

(1) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، (20/ 280)

(2) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، (20/ 280)

(3) المفردات، ص510.

(4) المفردات، ص510.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/152)

بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 116]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 136].. وضلال في العلوم العملية، كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات، وهذا النوع يعذر فيه الإنسان إذا لم يبلغه.

النموذج الثاني

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فحدثونا عن النموذج الثاني من الشبهات والتشكيكات، والردود عليها.

قال أحد المشككين: النموذج الثاني هو رسالة وزعت على المراكز الإسلامية في أمريكا، موقعة باسم (توني بولدروجوفاك)، وقد أجاب عليها بعض العلماء، وهي مثل غيرها من الشبهات مكررة ومقتبسة من غيرها (1).

قال آخر: ومن تلك التشكيكات قولهم: (كيف يمكن اعتبار القرآن قد أوحي إلى محمد، وفي نفس الوقت نجده هو المتكلم في آيات عديدة كما في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 5 ـ 7]، وقوله: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [البقرة: 105]، وقوله: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: 117].. وغيرها من الآيات)

قال آخر (2): والجواب على ذلك أن القرآن الكريم ما دام قد نزل باللغة العربية، فإنه

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 303.

(2) معرفة تأويل المتشابه، د. عبد الله أبو السعود، ص93.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/153)

يستعمل كل أساليبهم التي يعرفونها.. ومنها أن يتحدث المتكلم عن نفسه تارة بضمير المتكلم، وتارة بضمير الغائب، كأن يقول المتكلم: (فعلت كذا وكذا، وذهبت، وآمرك يا فلان أن تفعل كذا)، وتارة يقول عن نفسه أيضا: (إن فلانا ـ يعني نفسه ـ يأمركم بكذا وكذا، وينهاكم عن كذا، ويحب منكم أن تفعلوا كذا، كأن يقول أمير أو ملك لشعبه وقومه وهو المتكلم: (إن الأمير يطلب منكم كذا وكذا)، وهو يشير بذلك أن أمره لهم من واقع أنه أمير أو ملك، وهذا أبلغ وأكمل من أن يقول لهم: إنني الملك وآمركم بكذا وكذا، فقوله: إن الملك يأمركم، أكثر بلاغة من قوله: إنني الملك وآمركم.

قال آخر (1): ومن هذا الباب الالتفات في الخطاب من الحضور إلى الغيبة والعكس (2)، كأن يخاطب المخاطب بضميره فيقول: إنك فعلت كذا وكذا، ثم تخاطبه تارة أخرى بضمير الغائب، فتقول له: فعل فلان كذا وكذا وأنت تعنيه، فهذا كذلك أسلوب من أساليب البلاغة.. وما نظن إلا أن معظم اللغات تعرف هذا اللون من التعبير، لمقاصد كثيرة؛ كتخفيف العتاب، أو توجيه النظر إلى البعيد، أو استحضار المشهد، أو التعظيم، أو التحقير، ونحو ذلك من مقاصد البلغاء.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن القرآن الكريم كتاب تعليم وتوجيه، فقد جاء ليعلم المسلمين ماذا يقولون في صلاتهم، وبماذا يدعون ربهم، فقد أنزل الله سورة (الفاتحة) لتكون دعاء وصلاة للمسلمين يتلونها في كل ركعة، وفيها: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 1 ـ 4]، وهذا كلام الله عن نفسه سبحانه، يصف نفسه بهذه الصفات الجليلة العظيمة، ثم يعلم المسلمين أن يقولوا في

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 305.

(2) المعجم المفصل في علوم البلاغة، د. أحمد عكاوي (ص208)

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 305.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/154)

صلاتهم ودعائهم هذا الدعاء: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 5 ـ 7].. فهذه السورة تعليم وتوجيه من الرب سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين؛ ليصلوا ويدعوا بها في كل ركعة من ركعات صلاتهم.

قال آخر (1):ومن تلك التشكيكات توهم التعارض في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت: 9 ـ 12]؛ فقد توهموا أن ناتج الجمع هو (2+4+2=8 أيام).. وهو من التشكيكات القديمة؛ فقد ذكره ابن النغريلة اليهودي ورد عليه ابن حزم (2).

قال آخر (3): والجواب على ذلك هو أن الأربعة أيام الأولى هي حصيلة جمع اثنين واثنين؛ فقد خلق الله الأرض خلقا أوليا في يومين، ثم جعل فيها الرواسي، وهي الجبال ووضع فيها بركتها من الماء، والزرع، وما ذخره فيها من الأرزاق في يومين آخرين، فكانت أربعة أيام، فقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: 10]، هذه الأيام الأربعة هي حصيلة اليومين الأولين ويومين آخرين، فيكون المجموع أربعة، وليست هذه الأربعة هي أربعة أيام مستقلة

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 307.

(2) الرد على ابن النغريلة اليهودي (ص52.

(3) انظر: درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز، الخطيب الإسكافي (ص284)، وفتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، لأبي يحيى الأنصاري (ص504)، والرد على ابن النغريلة اليهودي لابن حزم (ص53)، والانتصارات الإسلامية للطوفي (1/504.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/155)

أخرى زيادة على اليومين الأولين.. ومن هنا تسرب الوهم للسائل.. ثم إن الله خلق السماوات في يومين، فيكون المجموع ستة أيام بجمع أربعة واثنين.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليجهل مثلا أن اثنين وأربعة واثنين تساوي ثمانية، وأنه قال في محل آخر من القرآن الكريم: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [يونس: 3]، فهل يتصور عاقل أن من يقدم على تزييف رسالة بهذا الحجم، يمكن أن يخطئ مثل هذا الخطأ، الذي لا يخطئه طفل في السنة الأولى الابتدائية!؟

قال آخر (1): وسبب هذا الوهم هو أن السائل لا يفهم اللغة العربية، ذلك أن العربي الفصيح يمكن أن يقول: (زرت أمريكا فتجولت في ولاية جورجيا في يومين، وأنهيت جولتي في ولاية فلوريدا في أربعة أيام، ثم عدت إلى لندن، لا شك أن هذا لم يمكث في أمريكا إلا أربعة أيام فقط، وليس ستة أيام؛ أي يومين في جورجيا ويومين في فلوريدا، فقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: 10]، أي بزيادة يومين عن اليومين الأولين.

قال آخر (2):ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنبياء: 76] وقوله: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ [هود: 42]، حيث ورد فيها أن أحد أولاد نوح عليه السلام قد غرق.

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 309.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 310.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/156)

قال آخر (1): والجواب على ذلك هو أن الاستثناء أسلوب معروف في اللغة العربية، بل غيرها من اللغات أيضا؛ حيث يذكر المتكلم المستثنى منه على وجه العموم، ثم يخرج منهم من أراد إخراجه، ويمكن أن يأتي الاستثناء منفصلا، ويمكن أن يأتي متصلا.

قال آخر: ففي سورة الأنبياء قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنبياء: 76]، وقد بين تعالى المراد بأهله في آيات أخرى، وهو من آمن منهم فقط، حيث أخبر تعالى في سورة هود أنه قال لنوح عليه السلام: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40]، فقد أمره الله تعالى أن يحمل أهله معه إلا من سبق القول من الله بهلاكهم، وقد كان قد سبق في علم الله أن يهلك ابنه مع الهالكين؛ لأنه لم يكن مؤمنا، ولم يكتب الله لأحد النجاة مع نوح عليه السلام إلا أهل الإيمان فقط، وابنه لم يكن مؤمنا.

النموذج الثالث

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فحدثونا عن النموذج الثالث من الشبهات والتشكيكات، والردود عليها.

قال أحد المشككين (2): النموذج الثالث هو محاضرة عن تناقض القرآن الكريم ألقاها محاضر، ولم يذكر اسمه ولا مكان إلقائها وسجلت على شريط صوتي وكتب عليه: (تهادوا تحابوا)، و(الدال على الخير كفاعله)، و(الكلمة الطيبة صدقة) تلبيسا على عوام المسلمين حتى يروج بينهم، ولم يذكر فيه اسمه ولا مكان إلقائها.. وقد ذكر فيه سبعة عشر شبهة، وكلها مقتبسة مما قاله السابقون.

__________

(1) معرفة تأويل المتشابه، (ص79)، وتفسير ابن كثير، 3/185.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 320.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/157)

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]

قال آخر (1): وقد أجيب على ذلك بأن الآية الأولى تتحدث عن اليهود والنصارى والصابئين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكل من آمن بنبيه وأطاعه فله الجنة، وأما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد نسخت شريعته الشرائع ونسخ دينه الأديان، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، وهذا معنى الآية الثانية.

قال آخر: ويؤيد ذلك ما روي عن مجاهد، قال: قال سلمان: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62] (2)

قال آخر: وقال السدي: إن الآية نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ ذكر أصحابه، فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيا، فأنزل الله هذه الآية، فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، عليه السلام؛ حتى جاء عيسى؛ فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى، فلم يدعها ولم يتبع عيسى، كان هالكا.. وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمن لم يتبع محمدا

__________

(1) الرد على النصراني في مطاعن على القرآن، (ص46)

(2) تفسير ابن كثير (1/ 284)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/158)

صلى الله عليه وآله وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا (1).

قال آخر: ومن الأحاديث الصريحة في هذا الباب قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)(2)

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: 28 ـ 29]، وقوله: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16]

قال آخر (3): والجواب على ذلك يحتمل وجوها كثيرة غير التي فهمها المشككون، وكلها تحتملها اللغة العربية، ومنها أن معنى الآية: (أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا فيها)، يعنى (فخرجوا عن طاعة الله).. أو أن (أمرنا) بمعنى (جعلناهم أمراء)، فأضلوا قومهم.

قال آخر: ومنها أن [أمر] في اللغة تأتي بمعنى كثر وظهر، وقد ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: (كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية أمر بنو فلان)(4)، ومنه حديث أبي سفيان الطويل مع هرقل وفيه قال أبو سفيان: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة؛ إنه يخافه ملك بني الأصفر)(5).. وبذلك يكون معنى الآية: (إن كثرة المترفين الفاسقين في بلد وظهورهم نذير عذاب.

قال آخر (6): ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ

__________

(1) تفسير ابن كثير (1/ 284)

(2) مسلم، رقم: 153.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 324.

(4) البخاري، رقم:4711.

(5) البخاري، رقم:962، ومسلم، رقم:2798.

(6) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 325.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/159)

بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [النساء: 138 ـ 139]، وقوله: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: 106]، وقد فهم المشكك من الآية الثانية ما عبر عنه بقوله: (إن الذي ينكر الله وينافق الكافرين، وهو تحت الإكراه محلل له وليس عليه أي ذنب أو عقوبة، حاشا لله أن ينكر الإنسان إيمانه تحت الضغظ والإكراه)

قال آخر (1): والجواب على ذلك هو أن الآيتين مختلفتان تماما؛ فكل واحدة منهما تتكلم عن أمر مستقل؛ فالآية الأولى تتكلم عن النفاق، وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، والآية الثانية تتكلم عن المكره على الكفر، أي إبطان الإسلام وإظهار الكفر، وشتان بين المعنيين، فإبطان الكفر وإظهار الإيمان لا يجوز في ملة من الملل؛ لأنه كذب وتزوير وغش وهذا كله محرم عقلا، وأما إبطان الإيمان وإظهار الكفر في حال الإكراه الملجئ، من باب الحفظ على نفس المسلم، فهذا من الرخص التي أباحها الله تيسيرا على عباده.

قال آخر (2): ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]، وقوله: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد: 15]

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 326.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 325.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/160)

قال آخر (1): والجواب على ذلك هو أن خمر الآخرة تختلف عن خمر الدنيا، فهي خالية من المنغصات والآفات التي في خمر الدنيا، قال تعالى: ﴿بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ﴾ [الواقعة: 18 ـ 19]، وقال: ﴿وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾ [الطور: 22 ـ 23].. فخمر الدنيا طعمه غير لذيذ، وتحدث لمن شربها الصداع، وتذهب بعقله، ويكثر عندها اللغو واللغط، بل لا تحلو عند شاربيها إلا بكثرة اللغو، وتوقع الإنسان في الآثام العظام من دخول تحت اللعنة وارتكاب للمحظورات، فلا يمتنع عن شيء منها، وكيف يمتنع وهو لا عقل له.. فهذه خمسة منغصات لخمر الدنيا نفاها الله عن خمر الآخرة، فالطعم لذة للشاربين، وهم لا يصدعون عنها ولاينزفون؛ أي لا تذهب عقولهم، ولا لغو عندها ولا أثم فيها.

قال آخر (2): ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى عن فرعون: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ [يونس: 92]، وقوله: ﴿فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا﴾ [الإسراء: 103]

قال آخر (3): والجواب على ذلك أن هذا ليس تناقضا كما هو واضح، بل فرعون مات غرقا، لكن الله تعالى أخرج جثته للناس لتكون لهم آية، وقد قال ابن عباس في ذلك: (إن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سويا بلا روح، وعليه درعه المعروفة على نجوة من الأرض ـ وهو المكان المرتفع ـ ليتحققوا موته وهلاكه؛ ولهذا قال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ أي نرفعك على نشز من الأرض ببدنك)(4)

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 327.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 325.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 328.

(4) تفسير ابن كثير (4/ 294)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/161)

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن التناقض موجود فى التوراة عن فرعون، ففيها أنه لم يغرق، وموجود فيها ما يدل على غرقه، وهذا هو التناقض الذى نسبوه زورا وبهتانا إلى القرآن، ففي الإصحاح الرابع عشر من سفر الخروج: (فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون الذى دخل وراءهم فى البحر، لم يبق منهم ولا واحد)، وفى الإصحاح الخامس عشر من نفس السفر: (تغطيهم اللجج، قد هبطوا فى الأعماق كحجر)، وفى تفسير التوراة ما نصه: (ولا سبيل لنا هنا إلى الحكم بغرق فرعون، إذ لا دلالة عليه فى هذا النبأ، ولا من قول المرنِّم [مزمور 78: 53 و106: 11] وساق المفسرون أربع حجج على عدم غرقه، ومعنى قولهم: إن قول المرنِّم لا يدل على غرقه هو: أن داود عليه السلام فى المزمور 78 والمزمور 106 قال كلاماً عن فرعون لا يدل صراحة على غرقه.. ونص 78: 3 هو (أما أعداؤهم فغمرهم البحر) ونص 106: 11 هو (وغطّت المياه مضايقيهم، واحد منهم لم يبق)

قال آخر: هذا عن عدم غرق فرعون، وأما عن غرقه ففى [المزمور 136: 15]: (ودفع فرعون وقوته فى بحر يوسف؛ لأنه إلى الأبد رحمته)، وفى ترجمة أخرى: (أغرق فرعون وجيشه فى البحر الأحمر إلى الأبد رحمته)، ومفسرو الزبور ـ وهم أنفسهم الذين صرحوا بعدم غرق فرعون ـ كتبوا عن فرعون: (فإن هذا الأخير قد حاول جهد المستطاع أن يرجع الإسرائيليين إلى عبوديتهم؛ فما تم له ما أراد، بل اندحر شر اندحار)

قال آخر (2): ومن تلك التشكيكات توهم التعارض بين قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29]، وقوله: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 462.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 325.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/162)

لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 27 ـ 30]؛ فقد توهموا أن الآية تذكر أن خلق الأرض قبل خلق السماء، بخلاف الآية الثانية.

قال آخر: والجواب على ذلك هو أن الآيات الكريمة التي تحدثت عن خلق السموات والأرض يأتي ذكر السموات ثم الأرض غالباً؛ فالله تعالى يقول: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 6]، ويقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [هود: 7]، ويقول: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [النحل: 3].. حتى عندما يتحدث عن بداية خلق السموات والأرض نجد القاعدة ذاتها تتكرر، كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأنعام: 14]، ويقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر: 1]، ويقول: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الشورى: 11]

قال آخر: إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى﴾ [طه: 4]، فقد ذكرت الأرض قبل السماء، ولكن واو العطف هنا لا تدل على الترتيب أو التسلسل، على عكس كلمة (ثم) التي تدل على الترتيب والتسلسل.

قال آخر: أما الآيات في سورة فصلت، فقد ذكرت خلق الأرض في قوله تعالى في الحديث عن خلق الأرض: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: 9 ـ 10]، ثم قوله بعدها: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: 11]، والذي يدقق النظر يجد أن الآية الأخيرة لا تتحدث عن خلق السماء، بل عن الحالة الدخانية للسماء، أي

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/163)

أن السماء موجودة أصلاً أثناء فترة خلق الأرض، ولكنها كانت في الحالة الدخانية، وهذا نفس ما يقوله العلماء المعاصرون.

قال آخر (1): فالعلم يؤكد أن الكون ظل لفترة طويلة في حالة من الغاز والغبار والدخان.. وأثناء هذه الحالة تشكلت الأرض، هذا بالضبط ما جاء في القرآن الكريم ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾، حيث أن الله تعالى ذكر أن الأرض خلقت بينما كانت السماء دخاناً، أي أن السماء خلقت قبل الأرض وليس العكس.

قال آخر (2): ومن تلك التشكيكات سوء فهمهم لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [يونس: 94]؛ فقد توهموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان شاكا في الوحي الذي كان يأتيه وكان مرتابا، ولذلك دعي أن يرجع إلى الكتاب المقدس.

قال آخر: والجواب على ذلك أن أسلوب الشرط من أساليب اللغة العربية، وله أدوات كثيرة منها (إن)(3)، وهي حرف وجود لوجود، فمثلا لو قلت لك: إن كنت في البيت اتصل بي، أو إن كان عندك كتاب الألفية لابن مالك فأعطنيه، فهذا الأسلوب لا يستلزم أني في البيت أو أن الكتاب عندي.. فكذلك هنا، لا يستلزم من هذا الأسلوب أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شاك، كما فهم المشككون، لذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا أشك ولا أسأل)(4)

قال آخر (5): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن الكريم قد يكون المراد منه أمته، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ

__________

(1) موقع الإعجاز العلمي في القرآن عبد الدائم الكحيل.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 331.

(3) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام (1/29)

(4) عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة، فتح القدير، 2/489.

(5) فتح القدير (2/487.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/164)

وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1]، وغيره كثير.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد ذهب ابن حزم إلى أن (إن) هنا بمعنى (ما) أي: (فما كنت في شك مما أنزلنا إليك)، ومثله قوله تعالى: ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الشعراء: 115]، وقوله: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [إبراهيم: 11]، ثم استدل على ذلك بقوله: (لأن من المحال العظيم الذي لا يتمثل في فهم من له مسكة، أن يكون إنسان يدعو إلى دين يقاتل عليه، وينازع فيه أهل الأرض، ويدين به أهل البلاد العظيمة، ثم يقول لهم: إني في شك مما أقاتلكم عليه أيها المخالفون، ولست على يقين مما أدعوكم إليه وأحققه لكم أيها التابعون، إلى مثل هذا السخف الذي لا يتصور إلا في دماغ هذا المجنون الجاهل (1))(2)

قال آخر (3): وبذلك؛ فإن معنى الآية: (إن من أدلة صدق نبوتك يا محمد أن أهل الكتاب يعرفون ذلك، فاسألهم حتى يطمأن قلبك، وليس معناها اترك دينك واتبع أهل الكتاب كما زعم النصراني)

قال آخر (4): ومن تلك التشكيكات قولهم: (كيف يُذكر في القرآن الكريم أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام مع أن الإسلام اشتهر بالتشدد في إنكار الشرك وتكفير كل ساجد لغير الله؟)

قال آخر: والجواب على ذلك هو أن السجود نوعان؛ سجود تحية وإكرام، وسجود عبادة وإعظام، فسجود العبادة لا يجوز في جميع الملل وعند جميع الرسل، بل لا يسجد

__________

(1) يعني ابن النغريلة اليهودي.

(2) الرد على ابن النغريلة اليهودي، ص60.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 332.

(4) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، (ص276)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/165)

الإنسان إلا لله وحده وأما سجود التحية فهذا كان جائزا في شرع من قبلنا، كما حصل ليوسف عليه السلام عندما خر له أبواه وأخوته سجدا، فلم ينكر عليهم.

قال آخر: ومن هذا الباب سجود الملائكة لآدم عليهم السلام، وأما في شرعنا فقد نسخ سجود التحية، درأ للفتنة وسدا لأبواب الشرك وطرائقه، وقد قال بعض العلماء في ذلك عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: 100]: (وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان، فإنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة)(1)

6. التشكيك والتعارض

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فحدثونا عن الشبهات المرتبطة بتوهم التعارض بين القرآن الكريم والحقائق العلمية وغيرها.

قال أحد المشككين: يمكن تقسيم الشبهات المرتبطة بالحقائق العلمية إلى قسمين: أولهما يرتبط بالحقائق التاريخية، والثاني يرتبط بالحقائق الكونية، والتي دل عليها العلم الحديث.

أ. الحقائق التاريخية

قال أحد الحضور: فحدثونا عن الشبهات المرتبطة بتوهم التعارض بين القرآن الكريم والحقائق التاريخية.

قال أحد المشككين: يمكننا تقسيم تلك التشكيكات إلى نوعين: التشكيك في الحقائق

__________

(1) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (9/174.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/166)

الواردة في القصص القرآني، واعتبارها مجرد قصص موضوعة للعبرة، أو مجرد أساطير لا حقيقة واقعية لها.. والثاني: التشكيك في بعض الأحداث أو الشخصيات الواردة في القرآن الكريم بحجة عدم ورود الأدلة عليها من المصادر التاريخية الأخرى.

القصص القرآني

قال أحد الحضور: فحدثونا عن النوع الأول.. أي التشكيك في الحقائق الواردة في القصص القرآني، واعتبارها مجرد قصص موضوعة للعبرة، أو مجرد أساطير لا حقيقة واقعية لها.

قال أحد المشككين (1): لقد كان من أوائل من اهتم بطرح هذه التشكيكات ـ بعد قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ المستشرق الألماني هوروفيتش (2) الذي تحتوى بحوثه القرآنية على طائفة كبيرة من التشكيكات المرتبطة بهذا الجانب؛ فهو يقسم النصوص القصصية في القرآن الكريم إلى عموميات وشكليات، وأساطير رادعة.

قال آخر (3): ومثله بعض المستشرقين الذين ذكر كارل بروكلمان اهتمامهم بهذه التشكيكات، وألفوا كتبا منها: الهجادة في قصص القرآن، لسجبار، بقلم ليبزيج 1907 م.. ومنها مصادر القصص الإسلامية في القرآن وقصص الأنبياء، بقلم سايدر سكاي، باريس، 1932 م.. ومنها القصص الكتابي في القرآن، بقلم سباير وجريفنا ينخن، 1939 م.

قال آخر (4): ومنها ما كتبه المستشرق المجري بيرانت هيللر (1857 ـ 1943 م) المتخصص تقريبا في قصص القرآن، حيث نشر بحوثا في مجلة الفصول بعنوان: قصة أهل الكهف، عام 1907.. وعناصر يهودية في مصطلحات القرآن الدينية، 1928 م.. وقصص

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 345.

(2) هورفيس [1874 ـ 1931] مستشرق ألماني يهودي، وهو صاحب كتاب [مباحث قرآنية] وغيرها من المؤلفات. انظر: موسوعة المستشرقين للدكتور عبد الرحمن بدوي (ص 621)

(3) المستشرقون والدراسات الإسلامية، ص74.

(4) المستشرقون والدراسات الإسلامية، ص75.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/167)

القرآن، عالم الإسلام، 1934 م.

قال آخر: ثم اهتم بهذه التشكيكات ونشرها بعض المسلمين المتتلمذين على أيديهم، ومن أمثلتهم طه حسين الذي قال: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة وبالقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي)(1)

قال آخر (2): ثم قام محمد خلف الله بجمع كل تلك المغالطات، وما أوردوه من شبه، موافقا لهم فيها في كتاب سماه [الفن القصصي في القرآن الكريم]، وقد ذكر في مقدمته أن الفن القصصي يعتمد فيه على جمال الأسلوب، وترابط الفكرة مع الهدف النبيل من القصة، ولا يضير هذا الفن كون القصة ملفقة أو خيالية مادام أن الهدف نبيل والغاية نافعة.

قال آخر (3): ثم بنى على هذه المقدمة أن قصص القرآن هي نوع من أنواع هذا الفن في جميع صفاته، لذلك فلا يلزم أن تكون كل قصة يذكرها القرآن قصة واقعية.

قال آخر: ثم أخذ يقرر هذه الدعوى بأن الكثير من القصص القرآنية ليست صحيحة تاريخا، بل التاريخ يخالفها.. وقد طرح كلامه هذا بكل جرأة، حتى إنه لم يجد ضيرا أن يقول ما قال الكفار: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنعام: 25]، فقد قال خلف الله: (إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير)(4)

قال آخر: وقال مؤكدا ذلك: (أصبح العقل الإسلامي غير ملزم بالإيمان برأي معين

__________

(1) في الشعر الجاهلي لطه حسين (ص26)

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 346.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 347.

(4) الفن القصصي في القرآن الكريم، لمحمد خلف الله، ص209.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/168)

في هذه الأخبار الواردة في القصص القرآني؛ وذلك لأنها لم تبلغ على أنها دين يتبع.. ومن هنا يصبح من حق العقل البشري أن يهمل هذه الأخبار، أو يجهلها، أو يخالف فيها، أو ينكرها)(1)

قال آخر: ولم يقتصر على ذلك، بل قال: (ومن هنا يصبح من حقنا، أو من حق القرآن علينا، أن نفسح المجال أمام العقل ليبحث ويدقق، وليس عليه من بأس في أن ينتهي من هذه البحوث إلى ما يخالف هذه المسائل، ولن تكون مخالفة لما أراده الله أو لما قصد إليه القرآن؛ لأن الله لم يرد تعليمنا التاريخ، ولأن القصص القرآني لم يقصد إلا إلى الموعظة والعبرة، وما شابهها من مقاصد وأغراض، إن المخالفة هنا لن تكون إلا مخالفة لما تتصوره البيئة ولما تعرفه عن التاريخ، ولم يقل قائل بأن ما تعرفه البيئة العربية عن التاريخ هو الحق والصدق، ولم يقل بأن المخالفة لما في أدمغة العرب من صور عن التاريخ هي الكفر والإلحاد، بل لعل هذه المخالفة واجبة حتى يكون تصحيح التاريخ وخلوه من الخيالات والأوهام)(2)

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فكيف تردون على هذه الشبهات والتشكيكات؟

قال أحد المشككين: أول الردود على تلك الدعوى مخالفة إجماع المسلمين، بل إجماع غيرهم من أهل الأديان أن القصص القرآني إنما تحكي واقعا حقيقيا (3).. ولهذا نجد تفاصيلها في كتب التاريخ.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، وهو الأهم؛ فإن القرآن الكريم يذكر ذلك، ويؤكده، فقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ

__________

(1) الفن القصصي في القرآن الكريم، ص:74.

(2) الفن القصصي ص:255.

(3) منهج المدرسة العقلية في التفسير، للرومي، ص:442.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/169)

تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111]، وقال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 62]، وقال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: 115]، أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام (1).. فكل ما في القرآن الكريم إما أخبار أو أحكام، فكل أخباره صدق وكل أحكامه عدل، ومن الأخبار قصص الأمم السابقة مع أنبيائها.

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن كون القصة تهدف إلى العبرة، لا يعني أن يختلق القاص القصة وينسخها من وحي خياله، لأن هذا ليس من الكمال؛ ذلك أن أخذ العبرة من القصة الواقعية هو الأكمل، والقرآن لا يأتي إلا بالكمال، كما قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3]، وما كان لأحسن القصص أن تكون كذبا.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الله تعالى ـ وهو القادر الحق ـ أعظم من أن يلجأ في كتابه المنزل ـ الذي أنزله لهداية الخلق جميعا ـ لاستخدام الباطل والأكاذيب ليجتذب بها العرب من معاصري نزوله إلى الإيمان، وهو يعلم أن هذا الكتاب سيؤمن به غيرهم في أزمنة وأمكنة أخرى، فما هي نسبة العرب الذين عاصروا نزول القرآن ـ وأتى بما عندهم من أساطير وأوهام كما زعموا ـ إلى من أسلم ويسلم في كل عصر ومكان حتى يرث الله الأرض ومن عليها؟

قال آخر (4): وهل يصح مثل هذا القول إلا بناء على عقيدة ترى أن الإسلام دين

__________

(1) تفسير ابن كثير (2/167.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 349.

(3) مدخل إلى علم التفسير، د. بلتاجي، ص188.

(4) مدخل إلى علم التفسير، د. بلتاجي، ص188.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/170)

محلي، نزل إلى شبه الجزيرة في القرن السابع الميلادي، واجتذبهم إلى الإيمان بموافقته لما كان عندهم من أوهام وخيالات وأباطيل تخالف التاريخ الحق؟

قال آخر (1): ألا يقودنا القول بذلك إلى سؤال بالغ الأهمية، وهو: كيف يلجأ الخالق ـ جل وعلا عما يقولون ـ إلى موافقة خيالات وأوهام العرب الجاهلين وقت نزوله، وهو القادر ـ بطريق القطع ـ على أن يصوغ كتابه المنزل من الحقائق المتفقة مع الواقع والتاريخ، التي تحدث أثرها من الموعظة والعبرة في نفس الوقت؟

قال آخر: ألا يشبه هذا الزعم الذي تتضمنه هذه النظرية أن يكون حيلة بشرية يلجأ إليها البشر الضعاف المحدودو القدرة والعلم في سبيل اجتذاب الناس إلى دعواتهم؟.. أما أن يكون هذا أسلوبا إلهيا في تنزيل آخر الكتب المنزلة، فهذا ما لا يمكن أن تتصوره العقول من كل وجه.

قال آخر (2): ويلزم من هذا القول أن الله تعالى لبس على الناس بذكر هذه القصص المكذوبة في كتابه، الذي يذكر فيه أنه محفوظ من الخطأ والريب والكذب.. ويلزم منه أن القرآن صد الكثير من الناس عن الإسلام بسبب عدم مطابقة قصصه للواقع، بل هذا ما ادعاه خلف، حيث زعم أن (التمسك بمقياس الصدق التاريخي في القصص القرآني خطر أي خطر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى القرآن، بل هو جدير بأن يدفع الناس إلى الكفر بالقرآن كما كفروا من قبل بالتوراة)(3)

قال آخر (4): بل يلزم من هذا القول عكس ما قصده؛ فهذه الآراء ـ فضلا عما لها من نتائج سيئة ـ تذهب بقدسية القرآن من النفوس، وتزيل عنه روعة الحق، وتزلزل قضاياه في

__________

(1) مدخل إلى علم التفسير، د. بلتاجي، ص188.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 351.

(3) الفن القصصي، ص42.

(4) تفسير القرآن الكريم، محمود شلتوت، ص273.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/171)

كل ما تناوله من عقائد وتشريع وأخبار ماضية وأحوال مستقبلة.

قال آخر (1): بالإضافة إلى كل ذلك؛ فإنه إذا كان المضمون التاريخي في القصص القرآني ـ كما يزعم خلف الله وأصحابه ـ باطل في الحقيقة، ونفس الأمر مطابقا لما كان في نفوس المشركين أو غيرهم، ألا يكون هذا معارضا معارضة صريحة لمضمون قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 41 ـ 42]، والتي تنفي إمكان أن يقتحم الباطل إليه من بين يديه ولا من خلفه؟

قال آخر: فإذا أضفنا إلى هذا قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 4 ـ 6]، فهل يبقى هناك أي وجه لما ذكره خلف الله وغيره من المشككين، وخصوصا من المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن الكريم؟

قال آخر (2): بالإضافة إلى هذا؛ فإن ما يذكره خلف الله من أن نفي الافتراء في القرآن الكريم يتعلق بمصدر القرآن كله، لا بجزئياته.. لا يصح في منطق العقول، ذلك أن ما ينطبق على الكل المجموع ينطبق على جزئيات هذا الكل.

قال آخر (3): وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]؛ فهي تعني: لوجدوا فيه اختلافا كثيرا مع حقائق الأمور التاريخية والكونية.. ولوجدوا فيه اختلافا كثيرا مع الفطرة البشرية.. لكنه لما

__________

(1) مدخل إلى علم التفسير، ص195.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 352.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 352.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/172)

كان من عند الله فقد تجرد عن ذلك كله، فليس فيه أي اختلاف مع شيء من ذلك.

قال آخر (1): ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [السجدة: 2 ـ 3]، فقد رد على دعوى الافتراء بإثبات أنه هو الحق من الله، فهل يجوز في منطق العقل أو أساليب البيان أن يكون حقا قد احتوى باطلا؟ وهل يصدق عليه وصف الحق حينئذ؟.

قال آخر: وهكذا؛ فإن كل الآيات الواردة في وصف القرآن ـ بما فيه من قصص ـ بأنه الحق، تدل على هذا، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [البقرة: 119]، وقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: 252]، وقوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [الجاثية: 6]، وقوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ [آل عمران: 2 ـ 3]، وقوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 62]، وقوله: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: 57]، وغيرها من الآيات الكريمة.

قال آخر (2): فقد أثبتت هذه الآيات كلها ـ وأمثالها في القرآن كثير ـ أن القرآن كله حق نزل من عند الله، وآياته كلها حق؛ وقصصه كلها حق؛ لأن الله تعالى لا يقص إلا الحق، وهو يقص علينا نبأ أهل الكهف بالحق، ونبأ موسى وفرعون بالحق، وكل ما قصه وأوحى به فهو الحق، لأن الله تعالى لا يقول إلا الحق وهو يهدي السبيل، ووحيه كله حق، وكتابه

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 353.

(2) مدخل إلى علم التفسير، ص196.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/173)

كله حق، لا يصل إليه الباطل والافتراء والكذب بأي وجه من الوجوه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: 37]

قال آخر (1): فأين في هذا كله ما يتيح لخلف الله وأصحابه الزعم بأن نفي الافتراء في هذه الآيات لا يلحق المواد الأدبية القصصية، ولا بما في هذه القصص من صور للأحداث والأشخاص؟.. وهل إذا لحق الافتراء هذه الأمور ـ كما يزعمون ـ يصح إطلاق وصف الحق في الآيات السابقة؟.. وهل استخلاص عبرة ينافي أن يكون القصص المستخلص منه حقا؟

قال آخر (2): وقد أجاب عن هذا الزعم الباطل قوله تعالى في آخر سورة يوسف بعد عرض قصته: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111]، فالعبرة المستخلصة من القصص القرآني، إنما تستخلص من قصص حق لا افتراء فيه ولا أسطورة.

قال آخر (3): وأجاب على ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: 32]، فإذا كان كل ما في القرآن قد وصف بأنه هو الحق، فهل يستقيم بعد هذا أن يتضمن شيئا ينسب إلى باطل أو ضلال، بمخالفته لحقيقة التاريخ أو الحقائق الكونية.

قال آخر (4): بالإضافة إلى كل ذلك؛ فإن عدم مطابقة ما في القرآن من وقائع تاريخية

__________

(1) مدخل إلى علم التفسير، ص197.

(2) مدخل إلى علم التفسير، ص197.

(3) مدخل إلى علم التفسير، ص197.

(4) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 355.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/174)

مع أحداث التاريخ، إما منشؤه عدم وجود هذه القصص في التاريخ أصلا، وإما أن يكون في التاريخ شيء يعارضه؛ فإن كان الأول فإن عدم عثورنا عليه في التاريخ ليس دليلا على عدم وقوعه حقيقة، فعدم العلم ليس علما بالعدم، وأما إن كان الثاني فلا بد أن تكون هذه الحادثة حصل لها من النقل والتواتر والتثبت مثل ما حصل للقرآن حتى تعارضه، وهذا لا وجود له، وإلا فإننا نقدم ما في القرآن؛ لأنه أصح بشهادة الجميع.

أشخاص وأحداث

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فحدثونا عن النوع الثاني.. أي التشكيك في بعض الأحداث أو الشخصيات الواردة في القرآن الكريم بحجة عدم ورود الأدلة عليها من المصادر التاريخية الأخرى.

قال أحد المشككين: من أمثلتها التشكيك في بعض ما ذكره الله تعالى عن معجزات المسيح عليه السلام ككلامه في المهد.. أو ما حصل على يديه من الخوارق التي سجلها القرآن الكريم.. حيث يحتجون بأن هذا لو حدث لكان من الوقائع العجيبة التي تنقل بالتواتر.. وكالتشكيك في قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ [النساء: 157]، وكونه المسيح عليه السلام لم يصلب.

قال آخر: ومنها التشكيك في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾ [غافر: 36]، حيث ينقلون قول اليهود: (أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون، أن هامان ما كان موجودا البتة في زمان موسى وفرعون، وإنما جاء بعدهما بزمن مديد).. وأمثال هذه التشكيكات.

قال أحد الحضور: فكيف تردون على هذه التشكيكات؟

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/175)

قال أحد المشككين (1): أول الردود هو أن هذا الآيات الكريمة تليت على اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان فيهم العلماء والأحبار، فلم ينكر أحد منهم هذا الأمر، مع حرصهم الشديد على مخالفته في ما هو أقل من ذلك.

قال آخر (2): ثم كيف يحاكم القرآن المحفوظ بحفظ الله له بكتب أهل الكتاب، التي ملئت تحريفا وزيفا، بل طال التحريف عندهم كتبهم المقدسة، فهذا ما لا يقبله عقل، ومثل هذا كمثل عالم كبير السن والقدر والاطلاع، تكلم في قضية، فقال له الناس: نحن نخالفك بهذا؛ لأن عندنا كتابا محرفا لا ندري من ألفه ملئ بالأخطاء يخالف ما تقول؟.. فإن كان هذا لا يجوز في حق البشر فكيف بخالق البشر.

قال آخر (3): لو أن المشككين يحاكمون آيات القرآن الكريم إلى شيء يقيني لكان لهم وجه فيما يذكره، لكنهم يحاكمونها إلى التواريخ القديمة، وما عند اليهود والنصارى عنها.. فما قولهم فيما في هذه التواريخ القديمة من خرافات وأساطير وأوهام آمنت بها البشرية أجيال طويلة، ثم تبين ضلالها وكذبها؟

قصة إبراهيم

قال أحد الحضور (4): وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك الوارد حول عبادة إبراهيم عليه السلام للنجوم، ومع ذلك غفر له، مع أن الله لا يغفر أن يشرك به.

قال أحد المشككين (5): الآيات الكريمة التي يشير إليها المشككون، ليس فيها دليل على أن إبراهيم عليه السلام قد مر بمرحلة شرك، وحاشا لله أن يقع فى ذلك، وإنما هى تحكي كيف آتى الله إبراهيم عليه السلام الحجة على قومه، حجة التوحيد، ودحض الشرك.. فهى

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 356.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 356.

(3) مدخل إلى علم التفسير، ص216.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 244.

(5) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 245.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/176)

حجاج وحوار يسلم فيه إبراهيم عليه السلام جدلاً ـ كشأن الحوار ـ بما يشركون، لينقض هذا الشرك، ويقيم الحجة على تهاوى ما به يحتجون، وعلى صدق التوحيد المركوز فى فطرته، ليخلص من هذا الحوار والحجاج والاحتجاج إلى أن الخيار الوحيد المتبقى ـ بعد هذه الخيارات التى سقطت ـ هو التوحيد.

قال آخر (1): ولذلك؛ فإن من يقرأ الآيات الكريمة بتدبر؛ يرى أن الحوار المذكور ليس سوى دعوة للتدرج من توحيد الفطرة إلى التوحيد القائم على المنطق والبرهان والاستدلال، الذى فند دعاوى وحجج الخصوم.

قال آخر (2): أما الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: 75]، فهي لا تدل على كون إبراهيم عليه السلام لم يكن مؤمنا، بل تدل على أنه كان موقنا يقينا استدلاليا وفطريا بواحدانية الله، ولكنه بدراسة أسرار الخلق بلغ يقينه حد الكمال، كما أنه كان مؤمنا بالمعاد ويوم القيامة، ولكنه بمشاهدة الطيور المذبوحة التي عادت إليها الحياة بلغ إيمانه مرحلة عين اليقين، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260]

قال آخر: ومن أحسن ما قيل فى هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال فى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 245.

(2) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، (4/ 348)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/177)

شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور: 35]: (كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه، فإذا عرفه ازداد نورًا على نور)، وكذلك إبراهيم عليه السلام، عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله، فعلم أن له ربًّا وخالقًا، فلما عرَّفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال: ﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾ [الأنعام: 80]

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه يجوز أن يكون استفهامه على معنى التوبيخ، منكرًا لفعلهم، والمعنى: أهذا ربى، أو مثل هذا يكون ربًّا!؟ فحذف الهمزة، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: 34]، أى (أفهم الخالدون؟)(1)

قال آخر: وقد أشار إلى ذلك كبير علماء البيان الزمخشرى، صاحب تفسير [الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل]، فقال: (أراد إبراهيم عليه السلام أن ينبههم إلى الخطأ فى دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرِّفهم أن النظر الصحيح مؤدٍّ إلى أن شيئًا منها لا يصح أن يكون إلها، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها مُحْدِثًا أحدثها وصانعًا صنعها ومدبرًا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها.. فقال: ﴿هذا ربى﴾، وهو قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشَّغَب، ثم يكرُّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحُجة.. وقوله ﴿لئن لم يهدنى ربى﴾: تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكواكب فى الأفول فهو ضال، وأن الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه)(2)

قال أحد الحضور (3): فما تقولون فيما يذكره المشككون من أن نمروذ الذي ألقى

__________

(1) [الجامع لأحكام القرآن] ج 7 ص 25، 26، طبعة دار الكاتب العربى للطباعة والنشر، القاهرة 1387 هـ 1967 م.

(2) [الكشاف] ج 2 ص 30، 31 طبعة دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ، وهى طبعة مصورة عن طبعة طهران انتشارات أفتاب، تهران وهى الأخرى بدون تاريخ للطبع.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 268.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/178)

إبراهيم عليه السلام فى النار لا يمكن أن يكون حيا في ذلك الزمن، كما ورد التنصيص على ذلك في الكتاب المقدس [سفر التكوين 8: 10، 11، 10: 22 ـ 25، 11: 13 ـ 26]؟

قال أحد المشككين (1): القرآن الكريم لم يسم الملك الذى حاج إبراهيم عليه السلام في ربه؛ لأن القصد من القصص هو مضمون المحاجّة، والعبرة منها، واسم الملك لا يقدم ولا يؤخر فى المضمون والعِبرة، أما تسمية هذا الملك ـ الذى حاجّه إبراهيم عليه السلام ـ بـ[النّمروذ] والاختلاف فى نطق اسمه، ومدة ملكه، فجميعها قصص تاريخى، أورده المفسرون.. فهو غير ملزم للقرآن الكريم، ولذلك لا يصح أن يورد ذلك كشبهة تثار ضد القرآن الكريم.

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فعند مراجعة العهد القديم، فى المواضع التى جاء ذكرها فى التشكيك، وهي [سفر التكوين الإصحاح 8: 10، 11 والإصحاح 10: 22 ـ 25 والإصحاح 11: 13 ـ 26] وهى تحكى عن قبائل نوح، ومواليد ابنه سام، فليس فيها ذكر الملك [النّمروذ].. وفى [دائرة المعارف الإسلامية] التى كتبها المستشرقون ـ وقد حرر مادة [إبراهيم] فيها [ج، إيزبرغ]ـ يأتى ذكر الملك نمروذ فى قصة إبراهيم دون اعتراض.. وفى أثنائها إشارات إلى مصادر عبرية أشارت إلى النمروذ ـ منها [دلالة الحائرين لموسى بن ميمون الفصل 29].. منها [سفر هياشار] فصل نوح، وتأتى الإشارة إلى [نمرود] الملك فى سفر التكوين ـ بالعهد القديم ـ الإصحاح 10: 8 ـ 11 باعتباره (الذى ابتدأ يكون جبارًا فى الأرض)

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فليس هناك ما يمنع تكرار لاسم [نمروذ] لأكثر من ملك فى أكثر من عصر وتاريخ.. ويبقى أن الشبهة خاصة بالقصص التاريخى.. ولا

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 268.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 269.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 269.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/179)

علاقة لها بالقرآن الكريم.

قصة موسى

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك الوارد حول قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ [الأعراف: 127]، واحتجاجهم على ذلك بأن الملأ من قوم فرعون قالوا ذلك عند ولادة موسى عليه السلام وظهور نبوته.

قال أحد المشككين: لقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على أن هذا ديدن فرعون، وأنه ليس خاصا بما ذكر في تلك الحادثة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4]

قال أحد الحضور: فكيف تردون على التشكيك الوارد حول قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ [القصص: 27 ـ 28]، بينما ذكر في التوراة أنه كان له سبع بنات لا اثنتين، وأنه لم يصدق المرأة، لا بالخدمة ولا بما يقوم مقامها.

قال أحد المشككين (1): حتى لو كان عنده سبع بنات، ثم قدم له اثنتين لائقتين بحاله لينتقى واحدة منهما، فما هو الإشكال فى ذلك؟

قال آخر: ويدل لذلك ما ورد في التوراة من حال يعقوب مع خاله [لابان]، فقد خدم يعقوب عليه السلام خاله سبع سنين صداقاً لابنته الأولى [ليئة]، وخدم سبع سنين

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 493.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/180)

أخرى صداقاً لابنته الأخرى [راحيل]

قال آخر (1): وفي نص التوراة ما يدل على ما اتفقا عليه، وهو (فارتضى موسى أن يسكن مع الرجل، فأعطى موسى صفورة ابنته)، وهذا يستدعي التساؤل عن الشيء الذي ارتضاه، ولماذا قال بعد الارتضاء: (فأعطى موسى صفورة ابنته؟).. والنص كله هو: (وكان لكاهن مديان سبع بنات، فأتين واستقين وملأن الأجران ليسقين غنم أبيهن، فأتى الرعاة فطردوهن، فنهض موسى وأنجدهن وسقى غنمهن، فلما أتين إلى رعوئيل أبيهن قال: ما بالكن أسرعتن فى المجئ اليوم؟ فقلن: رجل مصرى أنقذنا من أيدى الرعاة، وإنه استقى لنا أيضاً وسقى الغنم، فقال لبناته: وأين هو؟ لماذا تركتن الرجل؟ ادعونه ليأكل طعاماً، فارتضى موسى أن يسكن مع الرجل، فأعطى موسى صفورة ابنته) [خروج 2: 16]، وفى النص السامرى: (فلما أمعن موسى فى السكنى مع الرجل؛ أعطاه صفورة ابنته لموسى زوجة)

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك في شخصية هامان، ووجودها الواقعي؟

قال أحد المشككين (2): إن فرعون موسى ـ من بين فراعنة مصر ـ ليس معروفا للمؤرخين بصورة قطعية متفق عليها، فإذا كان الأمر كذلك، فإن تحديد وزرائه ومعاونيه بالاستقصاء والحصر، أمر لا يمكن أن يدعيه على سبيل القطع مؤرخ يحترم عقله وعقول الناس.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد ذكر بعض الباحثين أنه خلال ترجمة نقش من النقوش المصرية القديمة تم الكشف عن اسم (هامان)، وهذا الاسم أشير إليه في لوح أثري

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 496.

(2) مدخل إلى علم التفسير، ص217.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/181)

في متحف هوف في فينا، وفي مجموعة من النقوش كشفت أن هامان كان في زمن تواجد موسى عليه السلام في مصر، وقد سجل كتاب (Pharaoh Triumphant the life and times of Ramesses II K.A. Kitchen)، الكثير من المعلومات عن هامان: منها: (كان الشاب آمن (هامن، وهامان) في مثل سن الأمير (رمسيس 2) ورفيق صباه، فلما أصبح رمسيس نائبا للملك ووريثا للعرش أصبح الفتى بالتبعية رفيقه وتابعه ففتح له الطريق لمستقبل زاهر وهي ما تحقق فعلا.. وكان لآمن ام اينت (هامان) أقارب ذوو نفوذ منهم عمه كبير كهنة الإله مين والإلهة ايزيس بقفط (شمال طيبة) وقائد فيالق النوبة، أي الساعد الأيمن لنائب الملك في النوبة)(1)

قال أحد الحضور (2): وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك في كون هامان كان وزيراً لفرعون، لأن هامان كان وزيراً لأحشويرش ملك الفرس فى مدينة بابل، وبين فرعون وأحشويرش زهاء ألف سنة؟

قال أحد المشككين: للإجابة على ذلك وجوه كثيرة أولها وأبسطها هو أن هذا التشكيك مؤسس على كون هامان اسم شخص، وليس في القرآن الكريم ما يدل على ذلك، بل هو قول الرواة، ويدل لذلك أن فرعون ليس اسم شخص، بل هو لقب لحاكم مصر حينها.

قال آخر (3): فإذا صح أن هامان لقب لكل نائب عن الملك، لا اسم شخص، فإنه يصح أن يُطلق على النائب عن فرعون أو عن أى ملك من الملوك، وعلى ذلك يكون معنى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ [القصص: 8] هو إن رئيس مصر الملقب

__________

(1) رمسيس الثاني، فرعون المجد والانتصار، ترجمة د. أحمد زهير أمين، ص 55.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 451.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 451.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/182)

بفرعون، ونائبه الملقب بهامان ﴿وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾، ومثل ذلك مثل لقب الملك الذى يُطلق على رؤساء البلاد؛ فإنه يطلق على رؤساء فارس واليونان ومصر واليمن وسائر البلاد، ولا يتوجه على إطلاقه خطأ من أخطاء التاريخ.

قال آخر (1): ويدل لذلك ما ورد في الإنجيل من أن اليهود كانوا يطلقون لقب [المضلّ] على من يخالفهم في الرأى، وإذا أطلقه العبرانيون على رجل منهم يقولون له: يا سامرى، بدل قولهم يا مضل، وذلك لأنهم يعتبرون السامريين كفاراً، وإذا أطلقه السامريون على رجل منهم يقولون له: يا عبراني، بدل قولهم يا مضل، وذلك لأنهم يعتبرون العبرانيين كفاراً، وإذا سمع العبراني عنهم كلمة [سامري] لا يفهم منها أنها اسم شخص، وإنما يفهم منها أنها لقب للذم، وعن هذا المعنى جاء فى إنجيل يوحنا أن علماء اليهود قالوا لعيسى عليه السلام: (إنك سامرى، وبك شيطان)، ورد عليهم بقوله: (أنا ليس بي شيطان، لكني أكرم أبي وأنتم تهينونني، أنا لست أطلب مجدي، يُوجد من يطلب ويدين) [يوحنا 8: 48 ـ 50]

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك حول كون الله تعالى كتب لموسى عليه السلام في الألواح من كل شيء، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف: 145]، بينما ذكرت التوراة أنه كتب لوحين اثنين، وكتب عليهما الوصايا العشر فقط.

قال أحد المشككين (2): لقد ورد في الكتاب المقدس ما يدل على أن الألواح الأولى قد كسرت، وحل محلها ألواح جديدة، وأن الألواح الأولى كانت مكونة من لوحين للعهد، أي للعمل بالتوراة.. بالإضافة إلى عدة ألواح مكتوب عليها كل أحكام التوراة، ففى

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 451.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 497.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/183)

الإصحاح التاسع عشر من سفر الخروج وما بعده إلى الإصحاح الرابع والعشرين كل أحكام التوراة وبعدها: (فجاء موسى، وحدث الشعب بجميع أقوال الرب وجميع الأحكام)

قال آخر: وفيها أنه لما صعد إلى جبل الطور أعطاه الله لوحى الحجارة، والشريعة والوصية.. ومن قبل نزوله من على الجبل؛ عبدوا العجل من دون الله، ولما سمع موسى بالخبر كسر لوحى العهد فى أسفل الجبل، ولكن كاتب سفر التثنية يقول: (إنه كسر لوحين كان عليهما كل أحكام الشريعة، وعليهما مثل جميع الكلمات التى كلمكم بها الرب فى الجبل من وسط النار فى يوم الاجتماع) [تثنية 9: 10]، ولا يمكن لـ[لوحي العهد] أن يحملا مع العهد كل أحكام الشريعة التى نزلت فى يوم الاجتماع)

قال آخر: وفيها أنه لما كسر الألواح، أعطى الله له بدلهم ألواح جديدة، كما في سفر الخروج [32: 29] والمكتوب على الألواح الجديدة أحكام الشريعة الموجودة فى الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التثنية.

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك فيما ذكره القرآن الكريم من كون بني إسرائيل طلبوا رؤية الله، كما قال تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 153 ـ 154] بينما في التوراة أنهم قالوا لموسى عليه السلام: (تكلم أنت معنا، ولا يتكلم معنا الله؛ لئلا نموت) [خروج 20: 19]؟

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/184)

قال أحد المشككين (1): إن الذين أوردوا هذه الشبهة جاهلين بما في الكتاب المقدس؛ ففيه أن موسى عليه السلام لما أخذ العهد على اليهود أن يعملوا بالتوراة، بكّر فى الصباح وبنى مذبحاً فى أسفل الجبل، وأخذ العهد، ثم قال الكاتب: (ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرئيل ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء فى النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بنى إسرائيل فرأوا الله وأكلوا وشربوا) [خروج 24: 9 ـ 11]

قال آخر: وفيها طلب موسى رؤية الله، ففي سفر [خروج 33: 18]: (فقال: أرنى مجدك) ورد الله عليه بقوله: (لا تقدر أن ترى وجهى، لأن الإنسان لا يرانى ويعيش)

قال آخر: وفيها أن الله تعالى لما تجلى للجبل؛ حدث من هيبته حال التجلى نار ودخان وارتجف كل الجبل جداً، فارتعب بنو إسرائيل من هذا المنظر، وقالوا لموسى: (إذا أراد الله أن يكلمنا مرة أخرى؛ فليكن عن طريقك يا موسى ونحن لك نسمع ونطيع، فرد الله بقوله: أحسنوا فيما قالوا، وسوف أكلمهم فى مستقبل الزمان عن طريق نبى مماثل لك يا موسى من بين إخوتهم وأجعل كلامى فى فمه؛ فيكلمهم بكل ما أوصيه به) [تثنية 18: 15 ـ 22]

قال أحد الحضور (2): فما وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك في واقعية قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 53 ـ 59]، وقوله: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان: 25 ـ 28]، حيث يذكر المشككون أن بنى إسرائيل لم يرثوا أرض مصر بعد هلاك فرعون، بل ورثوا أرض كنعان

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 505.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 517.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/185)

فقط؟

قال أحد المشككين (1): من وجوه الرد على ذلك هو أن المقصود بالأرض التي ورثها بنو إسرائيل هي بلاد الشام ذات الجنات الكثيرة، والعيون الجارية، ومعنى إخراج المصريين منها إزالة سيادتهم وسلطانهم عنها، وحرمانهم من التفكه بنعيمها، فقد كانت بلاد فلسطين إلى الشام تابعة لمصر، وكان من عادة فراعنة مصر كغيرهم من الأمم المستعمرة أن يقيموا في البلاد التي يستولون عليها حكاما وجنودا لئلا تنتقض عليهم، وأن يسكنها كثيرون منهم يتمتعون بخيراتها، ويشير إلى ذلك قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 129]

قال آخر (2): فالمرجح عند المتأخرين من المؤرخين الواقفين على العاديات المصرية أن فرعون موسى هو الملك (منفتاح) وكان يلقب بسليل الإله (رع)، وقد جاء في آخر الأثر المصري الوحيد الذي ذكر فيه بنو إسرائيل (وهو المعروف برقم 34025 المحفوظ في متحف مصر) أن مصر هي السليلة الوحيدة للمعبود (رع) منذ وجود الآلهة وأن [منفتاح] سليلة أيضا، وهو الجالس على سدة المعبود [شو] وأن الإله [رع] التفت إلى مصر فولد منفتاح ملك مصر، وشيء له أن يكون مناضلا عنها فتخنع له الولاة، ولا يرفع أحد من البدو رأسه، فخضع له القيروانيون والحيثيون والكنعانيون وعسقلان وجزال وينعمام.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك، فقد وجد في بعض التواريخ القديمة ما يدل على صحة ما قاله بعض المفسرين من أن موسى عليه السلام استولى على مصر، وتمتع هو وقومه بالسيادة فيها طائفة من الزمن، وهو ما جاء في حاشية لأحد مباحث الدكتور محمد توفيق

__________

(1) تفسير المنار (9/ 85)

(2) تفسير المنار (9/ 70)

(3) تفسير المنار (9/ 86)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/186)

صدقي في كتب العهد الجديد، وعقائد النصرانية، وهذا نصه: (جاء في كتاب (الأصول البشرية) لمؤلفه لينج أن يوسيفوس المؤرخ اليهودي الشهير نقل عن (مانيثون) هذه الرواية المصرية القديمة التي ملخصها أن موسى بعد أن هزم فرعون مصر ـ الذي فر إلى بلاد الحبشة ـ حكم مصر 13 سنة، وبعد ذلك عاد إلى فرعون هو وابنه، ومعهما جيش عظيم فقهروه وأخرجوه منها إلى بلاد الشام)(1)

قال آخر (2): ومثل ذلك ورد في قاموس الكتاب المقدس أن هيرودوتس المؤرخ اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد قال: (إن ابن سيسوسترس ضرب بالعمى مدة عشر سنين؛ لأنه رمى رمحه في النهر، وقد ارتفعت أمواجه وقت فيضه؛ بسبب نوء شديد إلى علو غير اعتيادي)، ويقول المؤرخون: (إن ابن سيسوسترس هذا (وهو منفتاح الثاني) هو فرعون الخروج، ويتخذون هذه العبارة إشارة إلى غرقه في زمن موسى، لكن يرى القارئ منها أنها لو كانت إشارة إلى الغرق لكان الغرق في النيل، ومن الرواية الأولى يعلم أن موسى حكم بعد فرعون 13 سنة في مصر، وهاتان الروايتان هما من أقدم الروايات المصرية وأصحها، وربما كانتا الوحيدتين في هذه المسألة، ولعل المصريين استغاثوا بمملكة الحبشة فأرسلت إليهم جيشا فأوحى الله إلى موسى بالخروج حينئذ من مصر، وتركها لأهلها، وعليه يجوز أن المصريين كتموا خبر غرق ملكهم، واستبدلوا به دعوى تقهقره إلى الحبشة، وقالوا: إنه هو الذي عاد بعد ذلك، وأخرج موسى بالقوة؛ سترا لخزيهم وخذلانهم، وإرضاء لملوكهم وأسر هؤلاء الملوك، وربما أنه لولا عظم هذه الحادثة وشهرتها بينهم لأنكروها بالمرة)(3)

__________

(1) مجلة المنار: 16/ 446، 447.

(2) تفسير المنار (9/ 87)

(3) الكتاب المقدس لبوست 1/ 410.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/187)

قال آخر (1): وأما مسألة حكم موسى في مصر، والتمتع بها هو وقومه مدة من الزمن بعد الغرق فهو أيضا المتبادر من نحو قوله تعالى: ﴿فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ [الإسراء: 103 ـ 104]، ويجوز أن الشريعة أعطيت لموسى في الطور قبل تركه حكم مصر.

قال آخر (2): وفي زمن موسى عليه السلام أعطى الله بني إسرائيل ـ بدلا عن مصر التي أمرهم بتركها ـ الممالك التي في شرق الأردن كما في كتبهم، وفي زمن يشوع أعطاهم كل أرض كنعان إلا بعض أجزاء منها [يشوع 13: 1] وهذه الأرض التي أعطيت لهم هي من أخصب أراضي العالم وأحسنها، وهي المسماة عندهم بأرض الموعد؛ لأنهم كانوا وعدوا بها من قبل.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك كله؛ فإن المراد من الإرث ليس استغلال خيرات الأرض وتسخير أهلها فى مصالح اليهود فحسب، ولكنه إرث شريعة؛ فإن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام: (سر أمامى وكن كاملاً) [تكوين 17: 1] أي امش أمامي فى جميع البلاد لدعوة الناس إلى عبادتي وترك عبادة الأوثان.

قال أحد الحضور (4): وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك الوارد حول قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا﴾ [الإسراء: 101]، وقوله: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [النمل: 12] بينما تذكر التوراة أن الآيات البينات عشر، وهو يخالف ما ورد في القرآن الكريم من كونها تسعا.

__________

(1) تفسير المنار (9/ 87)

(2) تفسير المنار (9/ 87)

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 498.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 499.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/188)

قال أحد المشككين: الرد على ذلك بسيط، وهو أن مفسري التوراة صرحوا بالاختلاف فى عدد هذه الآيات، فالآية الثانية وهي الضفادع؛ يوجد من يقول إنها التماسيح.. والآية الثالثة قال بعضهم إنها ضربة القمل، وقال بعضهم إنها ضربة البعوض.. والآية الرابعة قال بعضهم إنها ذباب الكلب خاصة، وقيل مطلق ذباب.

قال أحد الحضور (1): وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك الوارد في قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [القصص: 8 ـ 9]، حيث أن التوراة تذكر أن الملتقطة له هى ابنة فرعون وليست امرأته؟

قال أحد المشككين: إن كلمات التوراة مشكوك فيها، والدليل على ذلك أن اسم الرجل فى موضع، يأتى فى موضع آخر باسم آخر، وكذلك المرأة، وهذا يتكرر كثيراً، فإسماعيل عليه السلام كانت له ابنة اسمها [محلث] وتزوجت [العيس] بن إسحاق عليه السلام كما في [تكوين 28: 9] وفى ترجمة لبنان [محلة] وفى نفس الترجمة [وبسمة] وفى ترجمة البروتستانت [بسمة] [تكوين 36: 3]

قال آخر: وهكذا نجد في كتب تفسير التوراة تصريح بكلمات ملتبسة مثل (ثم يذبحه كل جماعة إسرائيل فى العشية) [خروج 12: 6] حيث يقولون: [العشية] هذه اللفظة ملتبسة.. ومثلها ما ورد في الشيخ الكبير فى أرض مدين حيث اختلف فى اسمه، ففى الخروج [2: 18] [رعوئيل] وفى الخروج [4: 18] [ثيرون] والابن الأول لموسى فى ترجمة [جرشوم] وعند يوسيفوس [جرشام] وفى ترجمة السبعين [جرسام] [خروج 2: 22]

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 502.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/189)

قال أحد الحضور (1): وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك في قوله تعالى يحكي عن فرعون طلبه من هامان أن يبنى له برجاً: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ [غافر: 36 ـ 37]، بحجة أن البرج من بناء الناس فى بابل من بعد نوح عليه السلام.

قال أحد المشككين (2): القرآن الكريم يذكر أن فرعون طلب من وزيره الملقب بهامان أن يوقد له على الطين ليجعل له صرحًا، ولم يرد فىه أنه أوقد له على الطين، وجعل له صرحًا، ولو أنه أوقد وجعل، فما هو الدليل على أن صرح مصر هو برج بابل؟

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه من المحتمل أنه أراد ببناء الصرح؛ التهكم على موسى عليه السلام، أو أن (بناء (الصرح العظيم) حدث بعد ما جرى لموسى عليه السلام من مواجهته السحرة ما جرى.. لأنه يستفاد من سورة (المؤمن) أن هذا العمل (بناء البرج) تم حين كان الفراعنة يخططون لقتل موسى عليه السلام، وكان مؤمن آل فرعون يدافع عنه.. ونعرف أنه قبل أن يواجه موسى عليه السلام السحرة لم يكن مثل هذا العمل ولا مثل هذا الحديث، وحيث أن القرآن ا لكريم تحدث عن مواجهة موسى عليه السلام للسحرة في سورة طه، والأعراف، ويونس، والشعراء؛ فإنه لم يتطرق إليها هنا، وإنما تحدث هنا وفي سورة المؤمن عن بناء البرج)(3)

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك في شخصية السامري، ووجودها الواقعي، بحجة أن مدينة السامرة فى فلسطين لم يكن لها وجود لما خرج بنو

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 494.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 494.

(3) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، (12/ 234)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/190)

إسرائيل من مصر مع موسى عليه السلام، وسكنوا أرض سيناء، فكيف يمكن أن يكون هناك سامري يضع لهم العجل قبل أن يكون للسامريين وجود؟

قال أحد المشككين (1): مع أنا رددنا على ذلك سابقا، إلا أن هناك رد آخر يمكن أن يُرد به على هذا التشكيك، ذكره بعض الباحثين، وهو أنه ليس فى فلسطين مدينة تسمى بمدينة السامرة، وإنما كان للسامريين مملكة فى فلسطين، عاصمتها نابلس المسماة قديماً [شكيم] وكانت هذه المملكة مكونة من عشرة أسباط، وكان للسبطين مملكة فى فلسطين عاصمتها القدس المسماة قديماً أورشليم.. ولما صعد موسى عليه السلام إلى جبل الطور وتلقى التوراة، نزل فوجد اليهود يعبدون عجلاً جسداً له خوار، فسأل عن ذلك فدلوه على من أغراهم بعبادتهم، فأمسك به وسأله: ﴿مَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ﴾ [طه: 95]، أى ما هذا الذى فعلته أيها المضل؟ لأن كلمة (سامري) تطلق على المضل، ولا تطلق على شخص كاسم من الأسماء، وبهذا المعنى لا يكون الذى أضلهم رجل مسمي بالسامري، حتي يتوجه الإشكال، وإلا يلزم أن يكون السامري من أسماء المسيح عيسى عليه السلام فإن اليهود قالوا له: (إنك سامري، وبك شيطان) [يوحنا 8: 48]

قصة سليمان

قال أحد الحضور: فحدثونا عن التشكيكات المرتبطة بقصة سليمان عليه السلام في القرآن الكريم (2).

قال أحد المشككين: هي تشكيكات قديمة، لكن المعاصرين لا زالوا يرددونها مع كونها لا تحمل أي طابع علمي، وقد ذكرها الرازي، فقال: (إن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجود: أحدها: أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدد تكلما بكلام لا

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 453.

(2) الفن القصصي، ص180 ـ 181.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/191)

يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء، وذلك يجر إلي السفسطة، فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس وبالنحو من سيبويه، وكذلك القول في القملة والصئبان، ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات، ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب.. وثانيها: أن سليمان عليه السلام كان بالشام، فكيف طار الهدد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن، ثم رجع إليه.. وثالثها: كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك المملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان، وأنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية، وكان تحت راية بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام؟.. ورابعها: من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافة إلي الشيطان وتزينه؟)(1)

قال آخر: وأول الردود على هذه الشبهة ما يذكره القرآن الكريم في مثل هذه المحال، وهو قوله تعالى مخاطبا زكريا عليه السلام: ﴿قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: 9]، ولذلك فإن الإيمان بالله وبقدرته على كل شيء يزيل هذه الشكوك.. أما الذي لا يؤمن بهذا؛ فهو مدعو لتصحيح إيمانه بالله أولا، وإلا فإنه سيظل ينكر كل شيء.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الله تعالى أخبر عن العلوم التي كانت في عهد سليمان عليه السلام، والتي تتم بواسطتها المعجزات، كما قال تعالى: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ

__________

(1) مفاتيح الغيب 24/190 ـ 191.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/192)

طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 38 ـ 40]، وأخبر قبل ذلك أنه أوتي من كل شيء، قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ [النمل: 16]

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن كلام الهدهد والنملة ليس مستغربا، فقد أصبح من المقطوع به الآن عند العلماء الذين يدرسون سلوك أنواع الطير والحيوان والحشرات، أن لكل منها لغة تقوم مقام اللغة المعهودة عند البشر، في التعبير ونقل الأحاسيس والمعارف، على نحو ما ماتزال تفاصيله مجهولة من البشر، لكن المقطوع به من شواهد كثيرة جدا أن لكل منها نوعا من اللغة يتم به الاتصال بين أفراده، وقد سجل بعض العلماء تسجيلات صوتية لأنواع من الطيور في حالة الفزع نقلت إليهم ـ في غاية من الوضوح ـ هذه المشاعر والمعاني.

قال آخر (2): ولذلك.. ما العجب بعد هذا أن تتكلم النملة، ويتكلم الهدهد، بكلام يفهمه سليمان عليه السلام لأنه ـ كما ورد في القرآن الكريم ـ عُلّم منطق الطير وأوتي من كل شيء؟

قال آخر (3): أما أنهم تكلموا بكلام يدل على شيء من العقل فإن من يراقب سلوك الطير والحشرات فسوف يدرك بغاية من الوضوح أن سلوكهم يجرى على نظم من الوعى والتدبير والعمل من أجل غايات تهديهم إليها غرائزهم وفطرهم، وعلى المعاند في هذا أن يقرأ عن سلوك الحشرات والطيور في كتب العلم التجريبي، وسوف يذهله ما يقرأ، وعليه

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 366.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 367.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 367.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/193)

أن يراقب العمل والنطام في (مملكة النحل) أو في (عالم النمل وقراه التي ينشئها)

قال آخر (1): وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]، وقوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38]، وهو الذي تدل عليه كافة مشاهدات العلماء المحققين.. فما العجب إذن في أن تتكلم نملة ويتكلم هدهد؟ وما العجب في أن يفهم عنهما من عرف لغة كل منهما؟

قال آخر (2): وذلك لا يجر إلى شيء من السفسطة التي ذكروها، فلم يقل القرآن الكريم بشيء من اللوازم التي ابتدعوها، إنما قال بما تدل عليه ملاحظة هذه الأنواع، وهو أن لها منطقا، أما علم الهندسة، والنحو، والتكاليف، والمعجزات؛ فإنما هو من قول الملاحدة الذي يرد عليهم، لأننا لا نحمل القرآن الكريم إلا ما نطق به لا ما قام في أوهام الملاحدة.

قال آخر (3): أما طيران الهدهد من الشام إلي اليمن، ثم الرجوع إلى الشام، فالذي ورد في القرآن الكريم عنه قوله تعالى: ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: 22]، وليس في القرآن الكريم تحديد أن الهدهد مكث لحظة كما يقول هؤلاء، ولا يفهم من ﴿غير بعيد﴾ في سياقها إلا مدة تكفي للطيران، وقد قرئت على صفحاء العرب من المشركين في عصر الرسالة ـ وهم أعلم باللغة، وكانوا يعرفون اليمن والشام ـ فما أثاروا هذا الاعتراض، فعلم منه أن التعبير القرآني يخلوا عن دواعي اعتراض هؤلاء الملاحدة.

قال آخر (4): أما عدم معرفة سليمان عليه السلام حال مملكة سبأ؛ فإن القرآن الكريم

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 367.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 367.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 368.

(4) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 368.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/194)

لم يصفه بأنه كان يعرف الغيب، وقد كان هذا غيبا بالنسبة إليه، وليس فيما وصف القرآن الكريم به سليمان عليه السلام إلا تسخير الرياح والشياطين وتعليم منطق الطير وإيتاء الملك الذي لا ينبغي لأحد بعده، لكن ليس فيه شيء من وصفه بعلم غير ما علمه الله له، فما العجب في أن تكون في الأرض أشياء وممالك كان سليمان عليه السلام ـ مع عظمة ما أعطاه الله له ـ يجهلها؟

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن القرآن الكريم لم يذكر شيئا عن أن سليمان عليه السلام كان ملك الدنيا كلها بأكملها ـ كما يزعم هؤلاء الطاعنون ـ ولعل مستندهم في هذا إنما هو بعض المبالغات الإسرائيلية التي لم يرد لها ذكر في الوحي القرآني.

قال آخر (2): أما استنادهم في ذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ [النمل: 17]، فلا يصح، لأن (من) هنا للتبعيض، وليس المعنى أن كل الأنس ـ دون استثناء ـ كانوا تحت ملكه.

قال آخر (3): أما إن كان استنادهم لما ذكره الحشوية في تفاسيرهم، وهو أنه كان تحت راية ملكة سبأ اثنا عشر الف ملك تحت راية كل منهم مائة ألف؛ فليس في القرآن الكريم شيء من هذا مطلقا، والعدد الذي ذكروه يجاوز بكثير جدا ما يمكن أن يكون موجودا عندئذ من عدد السكان، وهو يذكرنا بما نقده ابن خلدون من مبالغات المؤرخين القدماء، وما حذر منه (فيكو) من غرور الأمم حين تكتب تارخها ـ فكيف تحمل هذه المبالغات على نصوص القرآن الكريم التي لم تعرض لها إطلاقا؟

قال آخر (4): ولهذا، لا عجب أن يجهل سليمان عليه السلام أمر ملكة سبأ مع كل ما

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 368.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 368.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 369.

(4) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 369.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/195)

أعطاه الله له، لأنه لم يعطه علم كل ما في الأرض، ولم تكن هناك اتصالات منتظمة بين المالك بحيث تعرف كل منها الأخرى، وتتصل بها على النحو الذي نعهده في عصرنا والذي حدث بعد ذلك بحكم التطور العمراني، ولم تكن الجن التي سخرت لسليمان عليه السلام أيضا تعرف الغيب كما صرح بذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ [سبأ: 14]

قال آخر (1): أما التشكيك في معرفة الهدهد لله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلي الشيطان وتزيينه؛ فإنما كان الهدهد من جند سليمان عليه السلام، والآيات تتكلم عن أمر غيبي لا يقاس على معرفة البشر الآن بأحوال الطير، وما المانع من أن تكون فطرة كافة المخلوقات عارفة بوجوب السجود لله تعالى وحده؟

قال آخر: وقد صرح القرآن الكريم بذلك، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: 48 ـ 50]، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [النور: 41].. فما العجب بعد هذا كله أن يكون الهدهد من جند سليمان عليه السلام عارفا لوجوب السجود لله تعالى وحده منكرا السجود لغيره؟

قال آخر (2): وبذلك؛ فإن القضية ترتبط بإخبار عن غيب لا تصل معرفة البشر التجريبية أو العقلية إلى شيء منه، فالمؤمنون بالغيب وبصدق الوحي القرآني يؤمنون به،

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 369.

(2) مدخل إلى علم التفسير، ص236.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/196)

والمكذبون ينكرون بكل ما لا يقع منهم تحت حس مباشر أو تجربة مادية، لكنهم في مثل هذه القضايا الغيبية لا مستند لهم في إنكارهم إلا محض الشك والتكذيب وقياس الغائب على الشاهد وتحكيم عقولهم القاصرة فيما هو من علم الغيب.

قصة المسيح

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك في كلام المسيح عليه السلام في المهد؟

قال أحد المشككين: إن الرازي الذي ذكر هذه الشبهة، ونقلها عن المشككين، لم يتركها دون رد، بل رد عليها بعد أن نقل أدلتهم بكل أمانة؛ فقال: (أنكرت النصارى كلام المسيح عليه السلام في المهد، واحتجوا على صحة قولهم بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها، ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم، لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والاثنين لا يجوز، ومتى حدثت الواقعة العجيبة جدا عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوفر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغا حد التواتر، وإخفاء ما يكون بالغا إلى حد التواتر ممتنع، وأيضا فلو كان ذلك لكان ذلك الإخفاء هاهنا ممتنعا لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلها، ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله بل ربما يجعل الواحد ألفا فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى، ولما أطبقوا على إنكارها علمنا أنه ما كان موجودا البتة)(1)

قال آخر: ثم نقل وجوها في الرد عليها عن المتكلمين، منها (أن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة، وكان

__________

(1) التفسير الكبير (8/ 225)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/197)

الحاضرون جمعا قليلين، فالسامعون لذلك الكلام، كان جمعا قليلا، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء، وبتقدير: أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت، فهم أيضا قد سكتوا لهذه العلة؛ فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوما مخفيا إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بذلك)(1)

قال آخر: ومن الوجوه التي ذكرها للرد على الشبهة أنه (ليس كل النصارى ينكرون ذلك، فإنه نُقل عن جعفر بن أبي طالب أنه لما قرأ على النجاشي سورة مريم، قال النجاشي: لا تفاوت بين واقعة عيسى، وبين المذكور في هذا الكلام بذرة)(2)

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن عدم تسجيل التاريخ البشري لهذا لا يعتبر دليلا قاطعا لعدم حدوث ذلك، حتى يدعي أحد تكذيب القرآن في الإخبار به، ويصح ادعاؤه، لأن التواريخ البشرية، أهملت تسجيل كثير من الأحداث الفردية ـ مهما تكن أهميتها في ذاتها ـ حيث لم يتوفر لها من الشهادة الصادقة، وتوفر سبل الإذاعة، والنقل، والبقاء على مر العصور ما يكفل لها ذلك.

قال آخر (4): إذ يكفي أن تنقطع حلقة في هذه السلسة لتصبح الواقعة في حكم المجهول من الأجيال التالية، وعلى العكس من ذلك، فإن بعض الأوهام الكاذبة في ذاتها، قد يتوفر لها من ظروف إيمان بعض الناس بصحتها ـ بناء على بعض الشواهد والظواهر الخادعة ـ وتسجيلهم لها، ثم رعايتها بظروف تضمن إذاعتها وانتقالها عبر الأجيال ـ ما يجعلها تدخل التاريخ من أوسع أبوابه، وهي في أصلها أسطورة كاذبة لا نصيب لها من الحق، وقد تلعب يد التحريف والتجهيل والتعمية ببعض جوانب واقعة صحيحة في

__________

(1) التفسير الكبير (8/ 225)

(2) التفسير الكبير (8/ 225)

(3) مدخل إلى علم التفسير، ص214.

(4) مدخل إلى علم التفسير، ص214.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/198)

أصلها، فإذا بها قد جمعت في نهاية الأمر بين الحق والباطل في قصة واحدة، هذا معروف مسجل عن أوهام التواريخ وأخطائها، فهي تهمل، وتنسى، وتحرف، وتخدع، وتتوهم، وكل هذا يتضمنه ما يسمى بـ[التاريخ البشري]، وخاصة في عصور ما قبل التدوين المنظم، ذي الأساليب والإمكانات المنضبطة شيئا ما، وإذا كان هذا ثابتا لاشك فيه، فهل يقبل منطق البحث العلمي النزيه، أن يتخذ إغفال التواريخ القديمة لحادثة فردية، مثل كلام طفل في المهد، دليلا قاطعا على كذب الوحي في إخباره بها؟

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن مريم عليها السلام لم تكن مخطوبة ولا متزوجة، وقد أحصنت فرجها، أى منعت نفسها عن الزواج طيلة حياتها، وسلكت فى سلك الرهبنة، ثم إنها ابنة كاهن من نسل هارون عليه السلام، وابنة الكاهن إذا زنت فإنها تحرق بالنار، لما جاء فى سفر الأخبار [21: 9]: (وإذا تدنست ابنة كاهن بالزنا؛ فقد دنست أباها، بالنار تحرق)، ومريم عليها السلام قد أتت بولد وهى غير متزوجة، وهذا هو دليل الاتهام فلماذا لم تحرق؟.. إن عدم حرقها يدل على أن ابنها تكلم فى المهد.

قال آخر: ويدل لذلكما جاء فى بعض الأناجيل المرفوضة أنه تكلم فى المهد، ففيه: (وبينما كانوا نياماً؛ حذرهم الطفل من الذهاب إلى هيرودس) [برنابا 7: 10]

قال أحد الحضور: فما تردون على الشبهة التي تذكر أن القرآن الكريم يصرح بأن المسيح عليه السلام خلق من الطين كهيئة الطير، وليس فى الأناجيل المعتمدة هذه المعجزة.

قال أحد المشككين (2): لقد ورد ذكر هذه المعجزة فى إنجيل توما، فقد ذكر فيه أنه صنع من الطين هيئة اثنى عشر عصفوراً، وأمرهم أن يطيروا؛ فطاروا والناس ينظرون إليهم.. وذلك يكفي للاحتجاج عليهم؛ فقبولهم ببعض الكتب ورفض بعضها لا يلزم

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 521.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 521.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/199)

غيرهم.

قال أحد الحضور: فما تردون على إنكار القرآن الكريم للصَّلب، في نفس الوقت الذي يثبته المسيحيون، وكتبهم؟

قال أحد المشككين (1): أول ما ينفي ما ذكروه هو العلّة التي ذكروها لصلب المسيح عليه السلام، وهى غفران خطايا من يؤمن به ربًّا مصلوباً، والغفران لكل من كان فى المدة من آدم عليه السلام إلى المسيح إذا قدّر أنهم لو كانوا له مشاهدين، لكانوا به مؤمنين، وهذه العلة غير صحيحة، ذلك لأن آدم عليه السلام لما أخطأ هدته الحكمة أن يعترف بخطئه وأن يتوب، فتاب الله عليه، وإذ هو قد تاب، فأى فائدة من سريان خطيئة آدم عليه السلام فى بنيه؟ ففى سفر الحكمة [10: 1 ـ 2]: (والحكمة هى التى حمت الإنسان الأول أب العالم الذى خلق وحده لما سقط فى الخطيئة؛ رفعته من سقوطه، ومنحته سلطة على كل شيء)

قال آخر: وتذكر التوراة كذلك أن نجاة المرء من غضب الله يكون بالعمل الصالح حسبما أمر الله، ومن لا يعمل بما أمر الله؛ فإنه لا يكون له نجاة، ففى سفر الحكمة [10: 5] عن نوح عليه السلام وولده: (وعندما غاصت الأمم فى شرورها؛ تعرفت الحكمة برجل صالح، وحفظته من كل عيب فى نظر الله، وجعلته قويًّا يفضل العمل بأمر الله على الاستجابة إلى عاطفته تُجاه ولده).. ومثل ذلك ورد في [تثنية: 24: 16]: (لا يُقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يُقتل)

قال آخر: وهكذا ورد عن المسيح عليه السلام قوله في [متى 12: 36 ـ 37]: (كل كلمة فارغة يقولها الناس؛ يُحاسبون عليها يوم الدين، لأنك بكلامك تُبرّر، وبكلامك تُدان)

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد ورد في الأناجيل أن المسيح عليه السلام بعد حادثة

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 523.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/200)

القتل والصلب المزعومة؛ ظهر أربعين يوماً للحواريين، وتكلم عن ملكوت الله معهم، ففي بدء سفر أعمال الرسل [1: 3]: (الذين أراهم أيضاً نفسه حيًّا ببراهين كثيرة بعدما تألم، وهو يظهر لهم أربعين يوماً، ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله)، وظهوره وكلامه عن الملكوت؛ يدلان على استمراره فى الدعوة.

قال أحد الحضور: فما تردون على إنكار المشككين لطلب الحواريين مائدة من السماء، وقول الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: 112 ـ 115]، ويحتجون لذلك بأن الإنجيل لا يقول ذلك؟

قال أحد المشككين (1): إن المعترض على هذا، والمشكك فيه، غير دارس للإنجيل، بل ولا التوراة، ذلك لأن فى إنجيل يوحنا أن الحواريين أنهم طلبوا آية من السماء، ففيه: (فقالوا له: فأية آية تصنع؛ لنرى ونؤمن بك؟ ماذا تعمل؟ آباؤنا أكلوا المنّ فى البرية، كما هو مكتوب: أنه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا) [يوحنا 6: 30 ـ 31]، ففي قولهم: (آباؤنا أكلوا المن فى البرية) بعد قولهم: (فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك؟) ما يدل على ذلك.

قال آخر: ومما يقوي ذلك ما ذكروا من أكل آبائهم للمن، وهو مسجل فى التوراة، حيث ذكرت أنه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا، وهذا يدل على أن آباءهم أكلوا المن والسلوى فى سيناء، والنص هو: (وأمطر عليهم منّا للأكل وبرّ السماء أعطاهم) [مزمور 78:

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 509.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/201)

24]

قال آخر: ومثل ذلك ما ورد في [مزمور 78: 19]، فقد ذكر داود عليه السلام المائدة فى قوله عنهم: (قالو: هل يقدر الله أن يرتب مائدة فى البرية؟)

قصة ذي القرنين

قال أحد الحضور (1): وعينا هذا؛ فكيف تردون على التشكيك في مدح الله تعالى لذي القرنين، واعتباره عبدا صالحا مع أن جميع مؤرخى الإغريق يجمعون على أن الإسكندر الأكبر، كان من عبدة الأوثان.

قال أحد المشككين: هذا إشكال عجيب جدا، ذلك أن اعتبار ذي القرنين هو الإسكندر الأكبر المقدوني قصص مجرد عن التحقيق التاريخي.. ولذلك لا عبرة به، ما دام القرآن الكريم لم يصرح باسمه.

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن المفسرين الذين أوردوا هذا القصص قد شككوا فى صدقه وصحته، فابن إسحاق مثلاً يروى عن (من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذى القرنين أنه كان من أهل مصر، وأن اسمه [مرزبان بن مردية اليوناني]، أما الذى سماه [الإسكندر] فهو ابن هشام الذى لخص وحفظ السيرة لابن إسحاق، وهو يحدد أنه الإسكندر الذى بنى مدينة الإسكندرية، فنسبت إليه.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فقد جاءت الروايات القائلة إن ذا القرنين هو الإسكندر المقدونى عن وهب بن مُنبِّه وهو مصدر لرواية الكثير من الإسرائيليات والقصص الخرافى.. وقد شكك ابن إسحاق فيما روي من هذا القصص الذى دار حول

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 271.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 272.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 272.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/202)

تسمية ذى القرنين بالإسكندر، أو غيره من الأسماء.. وشكك أيضًا فى صدق ما نسب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حول هذا الموضوع، فقد قال: (فالله أعلم أى ذلك كان؟.. أقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك أم لا؟)

قال آخر (1): وقد أثنى القرطبي على شك وتشكيك ابن إسحاق هذا، عندما أورده، ثم قال: (والحق ما قال).. أى أن الحق هو شك وتشكيك ابن إسحاق فى هذا القصص، الذى لم يخضع للتحقيق والتمحيص وإن يكن موقف ابن إسحاق هذا، وكذلك القرطبى، هو لون من التحقيق والتمحيص.. فليس هناك، إذًا ما يشهد على أن الإسكندر الأكبر المقدونى ـ الملك الوثنى ـ هو ذو القرنين، العادل، والموحد لله.

قال أحد الحضور (2): فما تقولون في التشكيك في قوله تعالى عن ذي القرنين: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ [الكهف: 86]، وأن هذا مخالف للعلم الثابت.

قال أحد المشككين (3): ليس هناك أدنى تعارض ـ ولا حتى شبهة تعارض ـ بين النص القرآنى وبين الحقائق العلمية.. ذلك أن حديث القرآن هنا هو عن الرؤية البصرية للقوم الذين ذهب إليهم ذو القرنين، فمنتهى أفق بصرهم قد جعلهم يرون اختفاء الشمس ـ غروبها ـ فى هذه البحيرة ـ العين الحمئة ـ وذلك مثل من يجلس أحدنا على شاطئ البحر عند غروب الشمس، فإن أفق بصره يجعله يرى قرص الشمس يغوص ـ رويدًا رويدًا ـ فى قلب ماء البحر.

قال آخر (4): فالحكاية هنا عما يحسبه الرائى غروبًا فى العين الحمئة، أو فى البحر

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 272.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 273.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 274.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 274.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/203)

المحيط.. وليست الحكاية عن إخبار القرآن بالحقيقة العلمية الخاصة بدوران الأرض حول الشمس، وعن ماذا يعنيه العلم فى مسألة الغروب.

قال آخر: وقد نقل القفال، أبو بكر الشاشى محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر [توفي 507 هـ] عن بعض العلماء تفسيرًا لهذه الرؤية، متسقًا مع الحقيقة العلمية، فقال: (ليس المراد أنه [أى ذو القرنين] انتهى إلى الشمس مشرقًا ومغربًا حتى وصل إلى جِرْمها ومسَّها.. فهى أعظم من أن تدخل فى عين من عيون الأرض، بل هى أكبر من الأرض أضعافًا مضاعفة، وإنما المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة [أى البقاع المعمورة والمأهولة] من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها فى رأي العين تغرب فى عين حمئة، كما أنا نشاهدها فى الأرض الملساء كأنها تدخل فى الأرض، ولهذا قال: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾ [الكهف: 90]، ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسّهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم)(1)

ب. الحقائق الكونية

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن الشبهات المرتبطة بتوهم التعارض بين القرآن الكريم والحقائق الكونية.

قال أحد المشككين: توهم التعارض بين القرآن الكريم والحقائق الكونية من التشكيكات التي تبرز كل يوم، ولكنها لا تزيد القرآن الكريم إلا قداسة في نفوس الصادقين من الباحثين، ذلك أنها تكشف لهم عن خبايا فيه لم يكونوا يعرفونها لولا ذلك التشكيك.

قال آخر (2): ذلك أن العلم والقرآن لا يمكن أن يتعارضا؛ لأن مصدرهما واحد، وغايتهما واحدة، فمصدرها هو الله سبحانه وتعالى، فالله هو الذي خلق هذا الكون وما فيه

__________

(1) الجامع لأحكام القرآن، ج 11 ص 49، 50.

(2) اتجاهات التجديد في تفسير القرآن في مصر، ص 639.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/204)

من معارف وعلوم، وهو الذي شرع هذا الدين وما فيه من أخبار وأحكام، وما كان من الله فإنه لا يتناقض، فالقرآن والكون ـ وهما مصدر الحقائق الدينية والعلمية ـ كلاهما من عند الله وصنعه، أنزل القرآن بالحق كما خلق الكون بالحق، فلا ينبغي للإنسان طلب الحق إلا فيهما، ومن ثم لا يتصور تصادم الحق مع نفسه.

قال آخر (1): وهما يتفقان أيضا في الغاية والهدف، وهو إسعاد البشرية وتذليل صعوبات الحياة، فما اتفق في المصدر والغاية لا يمكن أن يتعارضا فيما بين ذلك، فالعلم الصحيح لا يعارض القرآن، بل هما أخوان متعاونان.

قال آخر: ويدل لذلك أن المنصفين من الباحثين شهدوا بأن القرآن الكريم لا يتعارض مع العلم أبدا، وقد قال بعضهم في ذلك: (عندما أكملت قراءة القرآن الكريم، غمرني شعور بأن هذا هو الحق، الذي يشتمل على الإجابات الشافية حول مسائل الخلق وغيرها، وإنه يقدم لنا الأحداث بطريقة منطقية، نجدها متناقضة مع بعضها في غيره من الكتب الدينية، أما القرآن فيتحدث عنها في نسق رائع وأسلوب قاطع لا يدع مجالا للشك بأن هذه هي الحقيقة، وأن هذا الكلام هو من عند الله لا محالة)(2).. وقال متسائلا: (كيف استطاع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الرجل الأمي الذي نشأ في بيئة جاهلية، أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم، والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟ لابد إذن أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عز وجل)(3)

قال آخر: ومن الباحثين المنصفين الذين وصلوا إلى هذه النتيجة الدكتور موريس بوكاي، الطبيب والباحث المشهور، فقد قال: (قرأت القرآن بإمعان، ووجدته الكتاب

__________

(1) اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر، ص 628.

(2) قالوا عن الإسلام، ص55.

(3) قالوا عن الإسلام، ص55)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/205)

الوحيد الذي يضطر المثقف بالعلوم العصرية أن يؤمن بأنه من الله، لا يزيد حرفا ولا ينقص، وأما التوراة والأناجيل الأربعة ففيها كذب كثير لا يستطيع عالم عصري أن يصدقها)(1)

قال آخر: وقد قام بدراسة علمية في هذا الجانب بعنوان [التوراة والإنجيل والقرآن بمقياس العلم الحديث]، ومما قاله فيها: (لقد قمت أولا بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق، وبموضوعية تامة بحثا عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث، وكنت أعرف ـ قبل هذه الدراسة وعن طريق الترجمات ـ أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، لكن معرفتي كانت وجيزة، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث، وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل، أما بالنسبة للعهد القديم، فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سفر التكوين فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخا في عصرنا، وأما بالنسبة للأناجيل، فإننا نجد نص إنجيل متى يناقض بشكل جلي إنجيل لوقا، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمرا لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض)(2)

قال أحد الحضور: ما دام الأمر كذلك؛ فما سر تلك التشكيكات إذن؟

قال أحد المشككين: عند بحثنا في تلك التشكيكات وجدنا أنها لا تعدو ثلاث جهات.. أولاها أولئك المتسرعون الذين ينطلقون من مسائل ظنية لم تصل إلى مرحلة الحقيقة العلمية المستقرة المتفق عليها (3)، مثل نظرية التطور التي تنص على أن أصل الإنسان

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 376.

(2) قالوا عن الإسلام، ص56.

(3) التفسير والمفسرون، للذهبي (2/470)، والمدخل إلى علم التفسير، د. بلتاجي ص 208.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/206)

مر بمراحل حتى وصل إلى هذا المستوى (1)، التي تتعارض مع كون ابتداء خلق الناس كان من آدم عليه السلام الذي خلقه الله تعالى مرة واحدة من غير تدرج، والعلماء المتخصصون أنفسهم ينكرون هذه النظرية، ويردون عليها بقوة (2).

قال آخر (3): والثانية أولئك الذين لا يعرفون بيان العربي، وأساليبه في التعبير، ولذلك يحملون ألفاظه على ما يشتهون من المعاني، ومنها تلك التي تخالف العلم، مثل دعوى مخالفة القرآن الكريم لكون الأرض تدور حول الشمس، استنادا لقوله تعالى: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: 17]، حيث نسب فعل الدوران للشمس، وهذا غير صحيح؛ فإن اللفظ ليس قاطعا في هذا المعنى، بل إنه ابتدأ بقول: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ﴾، أي أن هذا الأمر بالنسبة لرؤية الإنسان، وسياق الآية كما هو ظاهر ليس مقصودا في إثبات دوران الأرض حول الشمس أو العكس، فلا ينبغي تحميل النص ما لا يحتمل.

قال آخر (4): والثالثة.. تلك التي تخلط بين ما ورد في القرآن الكريم، وما ذكره الحشويون والكشفيون، ومن الأمثلة على ذلك الشبهات التي يثيرونها حول قوله تعالى في أول سورة (ق): ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق: 1]، حيث قد بنوا على تلك التفاسير أن هذا خطأ؛ لأن العلم يبين أن أعلى قمة هي (إفرست)، مع أن هذه خرافة مصدرها كتاب اليهود الذي يتحدث عن جبل قاف الخرافي؛ أما القرآن الكريم فلم يذكر جبالا ولا قمما، والحرف (ق) أحد الحروف الكثيرة التي بدئت بها سور من القرآن مثل: ص، ن، حم، الر.. وهكذا.. وإذا كانت هذه خرافة منشؤها كتاب يهودي، فكيف يؤاخذ بها القرآن!؟

__________

(1) مدخل إلى علم التفسير، ص 203، حيث نقلها عن ميلر بروز رئيس قسم لغات الشرق الأدنى.

(2) انظر الردود المفصلة على هذه النظرية في كتاب [الحياة تصميم لا صدفة]، سلسلة [الإلحاد والدجل]

(3) التفسير والمفسرون (2/480)

(4) رد مفتريات على الإسلام، ص 142.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/207)

العسل والشفاء

قال أحد الحضور: فهلا ذكرتم لنا نماذج عن تلك التشكيكات، لنحذر منها، ونحذّر.

قال أحد المشككين: لعل من أقدم الطعون في دعوى تعارض القرآن مع العلم، ما ادعاه بعضهم من معارضة قوله تعالى عن العسل: ﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 69]، وما روي من الحديث الذي يفسرها، وهو أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أخي يشتكي بطنه فقال: (اسقه عسلا)، ثم أتى الثانية فقال: (اسقه عسلا)، ثم أتاه الثالثة فقال: (اسقه عسلا)، ثم أتاه فقال: قد فعلت.. فقال: (صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا) فسقاه فبرأ (1).

قال آخر: فقد قال القرطبي تعليقا على الحديث والآية: (اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا الحديث، فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال؟ فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيه عليه صلى الله عليه وآله وسلم، فيستعمله على الوجه الذي عينه وفي المحل الذي أمره بعقد نية وحسن طوية، فإنه يرى منفعته ويدرك بركته، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدم، وأما ما حكي من الإجماع فدليل على جهله بالنقل؛ حيث لم يقيد وأطلق، قال الإمام أبو عبد الله المازري: ينبغي أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة، منها الإسهال الحادث عن التخم والهيضات؛ والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها فضرر، فإذا وضح هذا قلنا: فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم

__________

(1) رواه البخاري، رقم: 5684، ومسلم، رقم: 2217.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/208)

بشرب العسل، فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال، فوافقه شرب العسل، فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة، قال: ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الأطباء، بل لو كذبوه لكذبناهم ولكفرناهم وصدقناه؛ فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه، فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتخريجه على ما يصح، إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب)(1)

قال آخر: ومثل ذلك أجاب ابن حزم ابن النغريلة اليهودي بأن كلمة ﴿فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل: 69]) نكرة فلا تلزم العموم (2)، ومثل ذلك قال الداني (3) أن (ال) في كلمة (للناس) ليست للعموم بل للجنس.

خلق الإنسان

قال آخر: ومن التشكيكات الناتجة عن التسرع ما عبر عنه المستشرق ميلر بقوله: (الإنسان نفسه لم يخلقه الله دفعة واحدة منفصلا عن خلق الحيوان، ولكه جاء نتيجة لتطور طويل من الأشكال الدنيا للحياة، فكيف إذن نتغلب على هذا الإشكال)(4).. وهو يشكك بهذا الإشكال في علمية ما ورد في القرآن الكريم من هيئة خلق الإنسان، كما قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة: 7 ـ 9]، وقال: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 28 ـ 29]

قال آخر (5): والجواب على ذلك هو أن ميلر وغيره يشيرون بهذا إلى نظرية لم تكن في

__________

(1) الجامع لأحكام القرآن (10/91)

(2) الرد على ابن النغريلة اليهودي، ص 62.

(3) رد مفتريات على الإسلام ص: 66.

(4) المدخل إلى علم التفسير، ص 203.

(5) المدخل إلى علم التفسير، ص 203.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/209)

وقت من الأوقات حقيقة علمية قطعية يمكن أن تقاس عليها النصوص الدينية، فهي لم تزد في وقت ما ـ منذ قيل بها ـ عن أن تكون مجرد فرض لم يقم عليه أبدا دليل قاطع، أو قريب من القطع واليقين، ومنذ أعلنها داروين وجد لها معارضون من رجال العلم التجريبي؛ لأنه لم يقم أبدا دليل محسوس على صحتها، وإنما هي مجرد فرضية فسر بها داروين بعض الظواهر والمشاهدات، لكن لم يرصد أحد من المؤمنين بها إطلاقا تطورا ماديا يقطع بصحتها.

قال آخر: ومن تلك التشكيكات توهم التناقض بين الآيات الكريمة التي وصفت مادة خلق الإنسان، مثل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: 8]، وقوله: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق: 5 ـ 6]، وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [يس: 77]، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ [الأنعام: 2]، وقوله: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ [العلق: 2]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: 26]، وقوله: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: 67]

قال آخر (1): والجواب على هذه الشبهة هو أنه ليس هناك أدنى تناقض بل ولا حتى شبهة تناقض بين ما جاء فى القرآن الكريم من معلومات عن خلق الإنسان، وحتى يتضح ذلك، يلزم أن يكون هناك منهج علمي فى رؤية هذه المعلومات، التى جاءت فى عديد من آيات القرآن الكريم.

قال آخر (2):وهذا المنهج العلمى يستلزم جمع هذه الآيات.. والنظر إليها فى تكاملها.. مع التمييز بين مرحلة خلق الله للإنسان الأول آدم عليه السلام ومرحلة الخلق لسلالة آدم، التى توالت وتكاثرت بعد خلق حواء، واقترانها بآدم، وحدوث التناسل عن

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 239.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 239.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/210)

طريق هذا الاقتران والزواج.

قال آخر (1): لقد خلق الله تعالى الإنسان الأول ـ آدم عليه السلام ـ فأوجده بعد أن لم يكن موجودًا.. أى أنه قد أصبح شيئًا بعد أن لم يكن شيئًا موجودًا، وإنما كان وجوده فقط فى العلم الإلهى.. وهذا هو معنى الآية الكريمة: ﴿أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا﴾ [مريم: 67]، وقوله: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان: 1]

قال آخر (2): أما مراحل خلق الله تعالى لآدم عليه السلام؛ فلقد بدأت بـ[التراب] الذى أضيف إليه [الماء] فصار [طينًا] ثم تحول هذا الطين إلى [حمأ] أى أسود منتنًا، لأنه تغير والمتغير هو [المسنون].. فلما يبس هذا الطين من غير أن تمسه النار سمى [صلصالاً] لأن الصلصال هو الطين اليابس من غير أن تمسه نار، وسمى صلصالاً لأنه يصلّ، أى يُصوِّت، من يبسه أى له صوت ورنين.

قال آخر (3): وبعد مراحل الخلق هذه: التراب.. فالماء.. فالطين.. فالحمأ المسنون.. فالصلصال، نفخ الله تعالى فى مادة الخلق هذه من روحه، فغدا هذا المخلوق إنسانًا هو آدم عليه السلام.. وعن هذه المراحل تعبر الآيات القرآنية، فتصور تكامل المراحل ـ وليس التعارض المتوهم والموهوم ـ فتقول هذه الآية الكريمة: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]، فبالتراب كانت البداية ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ﴾ [السجدة: 7]، وذلك عندما أضيف الماء إلى التراب ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ﴾ [الصافات: 11]،

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 239.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 239.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 239.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/211)

وذلك عندما زالت قوة الماء عن الطين، فأصبح لازبًا، أى جامدًا.

قال آخر (1): وفى مرحلة تغير الطين، واسوداد لونه، ونتن رائحته، سمى [حمأً مسنونًا]، لأن الحمأ هو الطين الأسود المنتن.. والمسنون هو المتغير.. بينما الذى ﴿لم يَتَسَنَّه﴾ هو الذى لم يتغير.. وعن هذه المرحلة عبرت الآيات: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الحجر: 26 ـ 35]

قال آخر (2): تلك هى مراحل خلق الإنسان الأول، توالت فيها وتتابعت وتكاملت معانى المصطلحات: التراب.. والماء.. والطين.. والحمأ المسنون.. والصلصال.. دونما أية شبهة للتعارض أو التناقض.

قال آخر (3): وكذلك الحال مع المصطلحات التى وردت في الآيات القرآنية التى تحدثت عن خلق سلالة آدم عليه السلام؛ فكما تدرج خلق الإنسان الأول آدم من التراب إلى الطين.. إلى الحمأ المسنون.. إلى الصلصال.. حتى نفخ الله فيه من روحه.. كذلك تدرج خلق السلالة والذرية بدءاً من [النطفة]ـ التى هى الماء الصافى ـ ويُعَبَّرُ بها عن ماء الرجل [المنىّ].. إلى [العَلَقَة] التى هى الدم الجامد، الذى يكون منه الولد، لأنه يعلق ويتعلق بجدار الرحم إلى [المضغة] وهى قطعة اللحم التى لم تنضج، والمماثلة لما يمضغ بالفم.. إلى

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 240.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 240.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 240.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/212)

[العظام].. إلى [اللحم] الذى يكسو العظام.. إلى [الخلق الآخر] الذى أصبح بقدرة الله فى أحسن تقويم (1).

قال آخر (2): ومن الآيات التى تحدثت عن توالى وتكامل هذه المراحل فى خلق وتكوين نسل الإنسان الأول وسلالته، قول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ [الحج: 5]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 12 ـ 14]

قال آخر (3): وإذا كانت [النطفة] هى ماء الرجل؛ فإنها عندما تختلط ببويضة المرأة، توصف بأنها [أمشاج]ـ أى مختلطة ـ كما جاء فى قوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان: 2]

قال آخر (4): كما توصف هذه [النطفة] بأنها [ماء مهين] لقلته وضعفه، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: 7 ـ 8]، وقوله: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ﴾ [المرسلات: 20 ـ 23]

قال آخر (5): كما توصف هذه [النطفة] بأنها [ماء دافق] لتدفقه واندفاعه.. كما قال

__________

(1) انظر فى معانى هذه المصطلحات [المفردات فى غريب القرآن]

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 241.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 242.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 242.

(5) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 242.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/213)

تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [الطارق: 5 ـ 7]

قال آخر (1): هكذا عبر القرآن الكريم عن مراحل الخلق.. خلق الإنسان الأول.. وخلق سلالات وذريات هذا الإنسان.. وهكذا قامت مراحل الخلق، ومصطلحات هذه المراحل، شواهد على الإعجاز العلمى للقرآن الكريم، عندما جاء العلم الحديث ليصدق على هذه المراحل ومصطلحاتها.. فكيف يجوز ـ بعد ذلك ومعه ـ أن يتحدث إنسان عن وجود تناقضات بين هذه المصطلحات.

الأرض والحركة

قال آخر: ومن تلك الشكيكات، سوء الفهم المرتبط بقوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [النحل: 15]، فقد توهم المشككون أن هذه الآية تفيد أن الأرض راسية وثابتة (2).

قال آخر (3): والجواب على ذلك هو أن معنى ﴿تميد﴾ تضطرب وتتزلزل، ولا يراد بالميدان مجرد حركة متزنة، والمصدر الثلاثي (فعلان) يأتي لإفادة هذا المعنى، مثل ميدان وغليان وثوران وجولان.. وهكذا، والآية تذكر أن الله ثبت الأرض حتى يستطيع البشر أن يستقروا عليها في نومهم، ويزرعوا ويرعوا ماشيتهم، ولو كانت مضطربة ما استطاع الناس أن يطمئنوا عليها وأن يعملوا هذه الأعمال.

قال آخر (4): والدليل على ذلك أننا ننام في الطائرة وفي القطار وفي السفينة، فإذا اضطرب واحد منها استيقظنا وشعرنا بالتعب، وقد نطلب من السائق أن يعمل شيئا

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 242.

(2) رد مفتريات على الإسلام، ص 130)

(3) رد مفتريات على الإسلام، ص 130)

(4) رد مفتريات على الإسلام، ص 130)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/214)

يسكنها لتثبت، ولا يعني تثبيته أنه يقف ولا يتحرك، بل أن ينقطع اضطرابه.

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فقد ذكر القرآن الكريم حركة كل الكواكب والنجوم، فقال: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 40]، و﴿كل﴾ كلمة تشمل الشمس وتوابعها من القمر والأرض والكواكب الأخرى، فالقرآن إذن يقرر حركة كل هذه الكواكب.

السماء والشهب

قال آخر: ومن تلك الشكيكات، سوء الفهم المرتبط بقوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ [الصافات: 6 ـ 10]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 5]، وقد قال المشككون في ذلك: (إن القرآن جعل النجوم والكواكب في حجم الحجارة، ترمي بها الملائكة الشياطين، والعلم الحديث يثبت أن كل كوكب عالم ضخم)

قال آخر (2): وهذا ناتج عن التسرع وعدم التدبر، ذلك أن الآيات الكريمة ذكرت أن هناك أجساما نارية تصيب الشياطين، ولم تذكر أن الشيطان يسقط عليه نجم أو أن الملائكة ترميه به.

قال آخر (3): والعلم الحديث، ورواد الفضاء يتحدثون عن النيازك التي ترى في الفضاء الواسع مذنبات مضيئة، ومنها الناري الذي ينطفئ ويتفتت في سيره، وبعضها يصل

__________

(1) رد مفتريات على الإسلام، ص 130)

(2) رد مفتريات على الإسلام، ص 132.

(3) رد مفتريات على الإسلام، ص 132.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/215)

إلى الأرض، وهي تشبه المقذوفات البركانية، والذين درسوا جغرافية فلكية يعرفون هذا، فهذه المقذوفات قطع تنفصل من الكواكب وتتحرك في الفضاء، خصوصا إذا كان النجم أو الكوكب قريبا من الأرض، والله تعالى يصيب بها من يشاء ويحفظ بها من يشاء، وقد تكون قطعا باردة ولكنها مضيئة كالقمر.

قال آخر (1): أما التشكيك في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 32]، وتوهمهم أن (السماء سقف قابل للسقوط)، فالجواب عليه هو أن كل لغة فيها الحقيقة وفيها المجاز، والتعبير الوارد في الآية الكريمة على المجاز، ذلك أن السماء شبه سقف البيت، والمانع للسقف من السقوط على الحقيقة هو الأعمدة، وعلى المجاز هو الله؛ لأن كل شئ بقدرته.

قال آخر (2): ولذلك نظير فى الكتب المقدس.. ففيه: (بالكسل يهبط السقف)، وفى ترجمة أخرى: (من جراء الكسل ينهار السقف، وبتراخى اليدين يسقط البيت) [جامعة 10: 18]، أي أنه يريد أن يقول: إن الكسل يؤدى إلى الفقر، والفقر يؤدى إلى خراب البيوت، وعبر عن الخراب بانهيار السقف، والسقف لا ينهار بالكسل، وإنما بهدّ الأعمدة التى تحمله.

السموات السبع

قال آخر (3): ومن تلك التشكيكات سوء الفهم لقوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12]، وقوله: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا﴾ [نوح: 19 ـ 20]، وقوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 440.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 440.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 381.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/216)

وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22]، وقوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22]، فقد ذكروا أن الأرض كوكب واحد وليس سبعة، وكذلك السماء.

قال آخر (1): والجواب على ذلك هو أن هذا ناتج عن التسرع، ذلك أن ما ذكروه غيب لم يصل العلم إلى كشفه بعد، فقد تكون السماء التي توصل علمنا إليها بكل ما فيها من كواكب ونجوم وأفلاك إحدى السماوات السبع، والكرة الأرضية التي نعيش عليها هي أيضا كذلك.. فعلم الفلك الحديث يؤيد هذا، ويذكر أن المجموعة الشمسية التي يتعلق بها عالمنا هذا ليست إلا واحدة من مجموعات أخرى لا يعلمها إلا الله الذي خلقها.

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن العدد في اللغة العربية يذكر لإرادة التكثير، ويعبرون عنه بأنه عدد لا مفهوم له، وهذا كما تقول لصديقك: زرتك ألف مرة ولم تزرني، فأنت لا تريد ألفا بعدده، وإنما تريد زرتك مرات كثيرة، فإذا حملنا العدد في الآية هذا المحمل، فالمعنى أن الله خلق سماوات كثيرة وأرضين كثيرة، وهذا حق وواضح.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فقد يكون المراد بالسبع الأرضين أنواعا مختلفة من تربة الأرض، ويسمى كل نوع أرضا، وهذا كما نقول: أصبح فلان ثريا يملك أراض كثيرة، والأرض أنواع بحسب تربتها وما بكل تربة من عناصر تكونت منها، بعضها رملي وبعضها جيري، وببعضها معادن حديدية وبالأخرى عناصر نحاسية وهكذا، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ [فاطر: 27]

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 381.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 381.

(3) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 381.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/217)

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فقد يكون المراد من أنواع الأرض ما تصلح لإنباته، فأرض بها غابات وأرض بها زهور، وثالثة قاحلة لا تنبت شيئا.

قال آخر (2): أما التشكيك في قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ [البقرة: 22]، فمعنى ﴿فراشا﴾ أي مبسوطة تحت أقدامنا، منبسطة كالفراش، ننام عليها ونمشي ونزرع، ونستقر أيضا أنعامنا ومساكننا، ولو جعلها الله تعالى كثيرة التعاريج شديدة التحدب، ما استطعنا أن نستريح عليها، ولا أن نجري كل هذه الأعمال، فالآية تذكر نعمة من نعم الله علينا، وليس في هذا ما يفيد أن الأرض قابلة للسقوط.

الأيام الستة

قال آخر: ومن تلك التشكيكات الناتجة عن سوء الفهم ما ورد قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [الأعراف: 54] حول الأيام الستة للخلق، ومن الذين طرحوا هذه الشبهة من المستشرقين الأستاذ ميلر بروز ـ رئيس قسم لغات الشرق الأدنى وآدابه، وأستاذ الفقه الديني الإنجيلي في جامعة ييل ـ في بحث له بعنوان: (مقترحات في موضوع العلاقة بين الدين والعلم في الإسلام)، حيث قال: (من الذائع المشهور أن النتائج التي وصل إليها العلم الحديث عن أصول العلم، تخالف كل المخالفة ما هو مقرر في الكتاب المقدس، وفي القرآن من أن الله خلق العالم في ستة أيام، صحيح أن القرآن يقرر أن يوما عند الله كألف سنة مما يعد الإنسان، ولكن هذا لا يحل المعضلة؛ فإن فترة الزمان المتطاولة التي مر بها الكون في وجوده، لا يمكن أن تضغط في ستة آلاف أو ستة ملايين سنة)(3)

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 381.

(2) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 382.

(3) انظر: المدخل إلى علم التفسير، ص 203.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/218)

قال آخر (1): والجواب على ذلك هو أن الآيات التي أشار إليها ميلر بروز تقرر أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، لكنها لا تعرض لعمر الكون المخلوق منذ خلقه الله تعالى حتى يومنا هذا.

قال آخر: وميلر بروز وغيره من الذين طرحوا هذه الشبهة يخلطون بين الأمرين، مشيرين إلى (معضلة) لا وجود لها، حيث يتكلمون عن (فترة الزمان المتطاولة التي مر بها الكون في وجوده، والتي لا يمكن أن تضغط في ستة آلاف أوستة ملايين سنة)، فما للآيات القرآنية التي يشير إليها وعمر الكون!؟.. إنها تقرر فحسب الزمن الذي خلق الله تعالى فيه الكون، دون أن تعرض لما بعد الخلق من الزمن الذي مر على الكون المخلوق حتى يومنا هذا.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن ميلر بروز أو غيره لا يستطيع أن يعرض بشيء من التكذيب لما قررته هذه الآيات، من أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، لأن فعل الخلق وزمانه سبقا الوجود البشري، فلا يستطيع أحد إطلاقا أن يزعم أنه شهد ـ بأي وسيلة ـ أو رصد كيفية خلق السماوات والأرض وزمانه، وعلم البشر المادي ـ بكافة فروعه ـ نشأ بعد أن تم الخلق، وليس هناك أمامه سبيل ما لمعرفة تفصيلات خلق السماوات والأرض وما بينهما ـ من حيث الزمان ـ إلا ما أخبر به الوحي الصادق عن الله تعالى في هذه الآيات، ولا يملك الإنسان ـ في علمه البشري وسيلة أخرى يسترجع بها كيفية الخلق أو زمانه ليقيس عليها ما ورد في الوحي، ومن هنا لا يستطيع العلم البشري بحال أن يصل في هذه القضية إلى شيء يستند عليه في تكذيب ما ورد في الوحي؛ لأن الوحي يحكي هنا عن أمر غيبي لم يشهد البشر ولا يصل إليه علمهم المادي بحال، كما قال تعالى: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ

__________

(1) انظر: المدخل إلى علم التفسير، ص 203.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/219)

خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ [الكهف: 51]

قال آخر (1): وهكذا؛ فإن كل زعم من هذا القبيل زعم باطل، يستوي في بطلانه مع دعوى الكفار القدماء، بأن الملائكة ـ الذين لم يشهدوا خلقهم أو يحيطوا بهم علما ـ إناث، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: ﴿أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ [الصافات: 150]، وقوله: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 19]

7. التشكيك واللغة

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فحدثونا عن الشبه التي أثارها المستشرقون وغيرهم حول القرآن الكريم وقواعد اللغة.

قال أحد المشككين: إن منشأ تلك التشكيكات هو الجهل باللغة العربية وسعتها، أو توهم أن القرآن الكريم خاضع للقواعد التي وضعت بناء على ما كتبه الباحثون انطلاقا من الشعر الذي يكاد يكون أكثره ملحونا، مع أن القرآن الكريم هو الحاكم على اللغة، وليست هي الحاكمة عليه.

قال آخر: ومن الأمثلة على النوع الأول من الشبهات ما روي عن بعضهم قال: بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة، قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله، فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب؛ فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس:

__________

(1) دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم، ص 388.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/220)

سلاني عما بدا لكما.. وقد سئل حينها مسائل كثيرة جدا.. استشهد فيها بأبيات كثيرة من الشعر، لتبين الأصول اللغوية لما أشكل من الألفاظ القرآنية (1).

قال آخر: ومن تلك المسائل أنه سئل عن قول الله تعالى: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ﴾ [المعارج: 37]، فقال: العزون الحلق الرقاق، قال السائل: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص، وهو يقول:

فجاؤوا يهرعون إليه حتى... يكونوا حول منبره عزينا

قال آخر: فسأله عن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 35]، فقال: الوسيلة الحاجة.. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عنترة وهو يقول:

إن الرجال لهم إليك وسيلة... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي

قال آخر: فسأله عن قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، فقال: الشرعة الدين، والمنهاج الطريق.. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يقول:

لقد نطق المأمون بالصدق والهدى... وبين للإسلام دين ومنهاجا

قال آخر: فسأله عن قوله تعالى: ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ﴾ [الأنعام: 99]، فقال: نضجه وبلاغه.. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:

إذا ما مشت وسط النساء تأودت... كما اهتز غصن ناعم النبت يانع

قال آخر: فسأله عن قوله تعالى: ﴿وَرِيشًا﴾ [الأعراف: 26]، فقال: الريش المال.. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:

فرشني بخير طالما ما قد ريتني... وخير الموالي من يريش ولا يبري

قال آخر: فسأله عن قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]، فقال: في اعتدال واستقامة.. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة وهو يقول:

يا عين هلا بكيت أربد إذ... قمنا وقام الخصوم في كبد

قال آخر: فسأله عن قوله تعالى: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ [النور: 43] فقال: السنا الضوء.. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث يقول:

يدعو إلى الحق لا يبغي به بدلا... يجلو بوء سناه داجي الظلم

قال آخر: فسأله عن قوله تعالى: ﴿وَحَفَدَةً﴾ [النحل: 72] فقال: ولد الولد، وهم الأعوان.. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:

حفد الولائد حولهن وأسلمت... بأكفهن أزمة الأجمال

قال آخر: فسأله عن قوله تعالى: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا﴾ [مريم: 13] فقال: رحمة من عندنا.. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت طرفة بن العبد يقول:

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا... حنانيك بعض الشر أهون من بعض

قال آخر: فسأله عن قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [الرعد: 31] فقال: أفلم يعلم بلغة بني مالك.. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت مالك بن عوف يقول:

لقد يئس الأقوام أني أنا ابنه... وإن كنت عن أرض العشيرة نائبا

قال آخر: فسأله عن قوله تعالى: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء: 102] فقال: ملعونا محبوسا من

__________

(1) وقد وردت في كتاب الإتقان للسيوطي في أكثر من ثلاثين صفحة، الإتقان للسيوطي (2/55 ـ 88)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/221)

الخير، فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت عبد الله بن الزبعري يقول:

إذ أتاني الشيطان في سنة النو... م ومن مال ميله مثبورا

قال آخر: فسأله عن قوله تعالى: ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ [مريم: 23] فقال: ألجأها، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت حسان بن ثابت يقول:

إذ شددنا شدة صادقة... فأجأناكم إلى سفح الجبل

أ. القواعد العربية

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النوع الثاني، المرتبط بالتشكيكات المرتبطة بلغة القرآن الكريم وقواعدها.

قال أحد المشككين: يمكن تقسيمها إلى نوعين: تشكيكات مرتبطة بقواعد النحو، وتشكيكات مرتبطة بقواعد الصرف.

قواعد النحو

قال أحد الحضور: فحدثونا عن التشكيكات المرتبطة بقواعد النحو.

قال أحد المشككين (1): هي كلها تشكيكات ناشئة عن الجهل بقواعد اللغة العربية وسعتها، ومن أمثلتها التشكيك في إعراب كلمة ﴿الصَّابِئُونَ﴾ في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [المائدة: 69]، حيث أن المشككين نظروا فيما بعد [الواو] فى ﴿الصابئون﴾ وقارنوا بينه وبين ﴿الذين آمنوا﴾ الواقع بعد (إن) وهى حرف ناسخ ينصب المبتدأ ويرفع الخبر، واسم إن هنا هو ﴿الذين﴾ وهو مبنى لأنه اسم موصول.. وقد عطف

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 144.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/222)

عليه ﴿الذين هادوا﴾ أما ﴿الصابئون﴾ فجاءت مرفوعة ب ﴿الواو﴾ لأنها جمع مذكر سالم وجاء بعدها ﴿النصارى﴾

قال آخر (1): وكل من ﴿الذين﴾ فى الموضعين السابقين على ﴿الصابئون﴾ وكذلك ﴿النصارى﴾ إعرابها تقديرى لا يظهر، لا فى الخط ولا فى النطق، وذلك لأن الاسم الموصول ﴿الذين﴾ من المبنيات على حالة واحدة، أما ﴿النصارى﴾ فهو اسم مقصور، يتعذر ظهور حركة الإعراب عليه، وهى هنا الفتحة، و﴿الراء﴾ مفتوحة أصالة، ومحال أن تظهر فتحتان على موضع واحد، سواء كانت الحركتان مختلفتين، كفتحٍ وضمٍ، أو متجانستين، كفتحتين وضمتين.

قال آخر (2): فالمشككون نظروا فى نظم هذه الآية الحكيمة وقالوا إن فيها خطأ لغوياً (نحوياً)؛ لأن ﴿الصابئون﴾ معطوفة على منصوب ﴿إن الذين آمنوا﴾، فكان حقها أن تنصب، فيقال ﴿والصابئين﴾ لكنها جاءت مرفوعة بالواو هكذا ﴿والصابئون﴾

قال آخر (3): أما التشكيك في رفع ﴿الصابئون﴾ فهو ناشئ عن الجهل بقواعد اللغة العربية وسعتها.. ولذلك ذكر النحويون لتوجيه ذلك تسعة توجهات كاملة تكفي لتفنيد هذه الشبهة من كل وجوهها.. وأولها ما قاله جمهور نحاة البصرة، الخليل وسيبويه وأتباعهما، حيث قالوا: إن ﴿الصابئون﴾ مرفوع على أنه ﴿مبتدأ﴾ وخبره محذوف يدل عليه خبر ما قبله ﴿إن الذين آمنوا﴾ قالوا: والنية فيه التأخير، أى تأخير ﴿والصابئون﴾ إلى ما بعد ﴿والنصارى﴾، وتقدير النظم والمعنى عندهم: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 144.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 144.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 144.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/223)

كذلك)(1)

قال آخر (2): ومن شواهد هذا الحذف قول الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما... عندك راض والرأى مختلف

فقد حذف الخبر من المبتدأ الأول، وتقديره (راضون) لدلالة الثاني عليه (راض).. والمعنى: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض.

قال آخر: ومثله قول الشاعر:

ومن بك أمسى بالمدينة رحله... فإنى وقيَّار بها لغريب

والتقدير: فإنى لغريب وقيار كذلك.

قال آخر: ومثله قول الشاعر:

وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم... بغاة ما بقينا فى شقاق

فالشاعر يصف الفريقين أنهم (بغاة) إن استمروا فى الشقاق، والتقدير: اعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك.

قال آخر (3): ومن التوجيهات المرتبطة بهذا، أن الجملة الاسمية المؤكدة ب (إن) يجوز أن يذكر فيها مبتدأ آخر غير اسم (إن) وأن يذكر خبر واحد يكون لاسم (إن) ويحذف خبر المبتدأ الثانى لدلالة خبر اسم (إن) عليه، أو يحذف خبر اسم (إن) ويكون الخبر المذكور للمبتدأ الثانى دليلاً على خبر اسم (إن) المحذوف.. ونظم الآية التى كانت منشأ الشبهة عندهم لا يخرج عن هذه الأساليب الفصيحة، التى عرفناها فى الأبيات الشعرية الثلاثة، وهى لشعراء فصحاء يستشهد بكلامهم.

__________

(1) انظر: الدر المصون للسمين الحلبى (4/ 354).

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 145.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 145.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/224)

قال آخر (1): ومن التوجيهات المرتبطة بهذا، أن (إن) فى قوله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا﴾ ليست هى (إن) الناسخة، التى تنصب المبتدأ وترفع الخبر، بل هى بمعنى: نعم، يعنى حرف جواب، فلا تعمل فى الجملة الاسمية لا نصباً، ولا رفعاً، وعلى هذا فالذى بعدها مرفوع المحل، لأن ﴿الذين﴾ اسم موصول، وهو مبنى فى محل رفع، وكذلك ﴿الصابئون﴾ فإنه مرفوع لفظاً، وعلامة رفعه (الواو) لأنه جمع مذكر سالم، مفرده (صابئ)

قال آخر (2): وقد استعملها العرب كذلك، فقد قال قيس بن الرقيات (3):

برز الغوانى من الشباب... يلمننى، وألومهنَّهْ

ويقلن شيبٌ قد علاك... وقد كبرتَ، فقلت إنَّهْ

أى فقلت: نعم.. وعلى هذا فإن كلا من ﴿الذين﴾ و﴿الصابئون﴾ والنصارى، أسماء مرفوعة إما محلاً، وإما لفظاً.. وعليه كما كان فى المذهب الأول فلا خطأ فى الآية كما زعم المشككون.

قال آخر (4): وقد اختار الكثير من المفسرين التوجيه الأول، ومنهم الشوكانى الذي قال: (الصابئون مرتفع على الابتداء، وخبره محذوف والتقدير: (إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك)(5)

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (6): أجل.. فمنها التشكيك في إعراب كلمة ﴿الْمُقِيمِينَ﴾ من قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 146.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 146.

(3) البيتان فى ديوانه (66) والكتاب لسيبويه (1/ 475).

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 147.

(5) فتح القدير (2/ 71).

(6) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 152.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/225)

وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 162]، حيث نظروا فى هذه الآية، فوقعت أعينهم على كلمة ﴿الْمُقِيمِينَ﴾ فقارنوا بينها وبين ما قبلها: ﴿الراسخون﴾، و﴿المؤمنون﴾.. وبين ما بعدها ﴿المؤتون﴾، و﴿المؤمنون﴾، فوجدوا ما قبلها وما بعدها مرفوعاً بالواو لأنه جمع مذكر سالم؛ أما ﴿الْمُقِيمِينَ﴾ فوجدوها منصوبة بالياء، لأنها كذلك جمع مذكر سالم، حقه أن يرفع بالواو، وينصب ويجر بالياء، وهذا ما جعلهم يتوهمون أن في القرآن الكريم خطأ نحوياً من نوع جديد، هو [عطف المنصوب على المرفوع]، أو [نصب المعطوف على المرفوع]، ثم علقوا قائلين: (كان يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع فيقول: (والمقيمون الصلاة)

قال آخر (1): والجواب على هذا يحتمل وجوها كثيرة منها أن ﴿الْمُقِيمِينَ﴾ منصوبة على الاختصاص، والمراد منه المدح فى هذا الموضع بدلالة المقام؛ لأن المؤدين للصلاة بكامل ما يجب لها من طهارة ومبادرة وخشوع وتمكن، جديرون بأن يُمدحوا من الله والناس، وقد قال الزمخشرى في ذلك: (﴿المقيمين﴾ نُصِبَ على المدح، لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً فى خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم فى النصب على الاختصاص من الافتنان)(2)

قال آخر: وقد سبق الزمخشرى فى هذا التوجيه شيخ النحاة سيبويه وأبو البقاء العكبرى (3).. وهو أسلوب شائع فى الاستعمال اللغوي العربي، وفيه من البلاغة أمر زائد على مجرد التوجيه النحوي، الذي لا يتجاوز بيان عامل النصب أو الجر.

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 153.

(2) الكشاف (1/ 582)

(3) إملاء ما من به الرحمن (1/ 202)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/226)

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (1): أجل.. فمنها التشكيك في نصب كلمة ﴿الصَّابِرِينَ﴾ في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177] لأنها جاءت منصوبة بـ ﴿الياء﴾ بعد قوله تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾، وكان يجب ـ في زعمهم ـ أن ترفع، لأنها معطوفة على ما قبلها.

قال آخر (2): والجواب على هذه الشبهة هو أن فهم السياق الذي وردت فيه الكلمة يزيل عنها ذلك الفهم السيء.. ذلك أنه يمكن تقسم الآية الكريمة إلى ست وحدات.. لكل وحدة مجالها الدلالي الخاص.. فأولها قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: 177].. وثانيها قوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾ [البقرة: 177].. وثالثها قوله: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 177].. ورابعها قوله: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ [البقرة: 177].. وخامسها قوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: 177].. وسادسها قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]

قال آخر: أما الوحدة الأولى؛ فتتضمن قيما إيمانية تنتظم تحت مفهوم العقيدة، وهى: الإيمان بالله، وباليوم الآخر، وبالملائكة، وبالوحى، ثم بالأنبياء والرسل عليهم السلام.

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 157.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 157.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/227)

قال آخر: والوحدة الثانية تنتظم عناصرها تحت مبدأ [الإنفاق المالى الحر] غير الزكاة، ويبين الله فيها الصفات التى تتحقق فى المنفق عليه، وهم: ذوو القربى من النسب.. واليتامى مهما تباعدت صلتهم عن المنفق.. والمساكين، الذين ليس لهم مصدر رزق كسبى، إما لعدم وجود عمل، أو لعجز عنه.. والغرباء الذين تعوزهم الحاجة فى السفر، وليس معهم مال وإن كانوا أغنياء فى بلادهم.. والمحتاجون حقا الذين يستعطفون الناس لسد حاجتهم فى غير معصية.. وعتق الرقاب من الرق.

قال آخر: والوحدة الثالثة، يندرج عنصراها [الصلاة والزكاة] تحت ركنين عمليين من أركان الإسلام، والزكاة إنفاق واجب، وليس حرا.

قال آخر: والوحدة الرابعة، هى حسن المعاملة مع الناس بوفاء الوعد العهد، وهي تشير إلى الأخلاق التي تحكم العلاقات الاجتماعية.

قال آخر: والوحدة الخامسة تنتظم عناصرها تحت مبدأ الصبر الجميل فى كل عمل خير يؤديه المكلف، وبخاصة فى الشدائد والمحن وملاقاة العدو.

قال آخر: أما الوحدة السادسة؛ فهى بيان فضل هؤلاء المذكورين فى الآية، وبخاصة ما ذكر قبل الفاصلة مباشرة، ومنزلتهم عند الله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]

قال آخر: وإذا تأملنا هذه الوحدات، وعناصرها المندرجة تحتها، وجدنا أن أشدها وقعا على النفس، وأشقها كلفة، هي الصبر فى المحن والشدائد والأخطار، وبخاصة فى ملاقاة العدو، والتعرض لزحفه وسلاحه، وقد يفضى بالإنسان إما إلى حدوث عاهات مؤلمة فى الجسم، وإما إلى الموت؛ فالمقاتل فى ساحات الكر والفر إنما يصارع الموت، ومقدمات الموت، ولهذا جاء إعراب ﴿الصابرين﴾ مخالفا لإعراب ما قبلها، ليلفت الله

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/228)

أذهان العباد إلى أهمية الصبر فى هذه المجالات، وهذا الإعراب المخالف لما قبله يفيد مع تركيز الانتباه، وتوفير العناية بتأمل هذا الخلق العظيم، يفيد أمرا آخر مبهجا للنفوس، هو مدح هؤلاء الصابرين شديدى العزيمة، قويى الاحتمال..

قال آخر: وهذا الإعراب المخالف لإعراب ما قبله، ليس خارجا عن قواعد اللغة العربية، بل هو الذى يسميه النحاة واللغويون بـ[القطع] و[الاختصاص]، وهو إما للمدح كما فى هذه الآية، والآية السابقة ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ [النساء: 162].. وإما بقصد الذم، كما فى قوله تعالى فى سورة المسد: ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد: 4]، لأن كلمة ﴿حمالة﴾ جاءت منصوبة بعد رفع ما قبلها، وهى ﴿امرأته﴾ فهذا قطع كذلك، القصد منه الذم، أى: أذم أو ألعن حمالة الحطب.

قال آخر: وأيا كان القطع للمدح أو الذم، فإنه من أرقى الأساليب البلاغية، يحتوى على فضيلة الإيجاز، وهى أن تكون المعانى أكثر وأوفر من الألفاظ التى تدل عليها، أو المستعملة فيها.

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (1): أجل.. فمنها التشكيك في نصب كلمة ﴿الظَّالِمِينَ﴾ في قوله تعالى ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]، حيث توهموا أن فيها خطأً نحوياً؛ لأنها عندهم فاعل، والفاعل حكمه الرفع لا النصب، فكان حقه أن يكون هكذا: (لا ينال عهدى الظالمون)، لأنه جمع مذكر سالم، وعلامة رفعه الواو.

قال آخر (2): والجواب على ذلك هو أن الفعل ﴿يَنَالُ﴾ فعل متعدٍ إلى مفعول واحد،

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 157.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 158.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/229)

كما قال تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا﴾ [الأحزاب: 25]، فالفاعل واو الجماعة، والمفعول ﴿خيراً﴾، أما في هذه الآية التى اتخذوها منشأ لهذه الشبهة، فالفاعل هو ﴿عهدى﴾، وهو مرفوع بضمة مقدرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة لياء المتكلم، والمفعول به هو ﴿الظَّالِمِينَ﴾، وعلامة نصبه هي الياء، لأنه جمع مذكر سالم، ينصب ويجر بالياء، والمعنى: لا ينفع عهدى الظالمين.

قال آخر: وليس في كون ﴿الظَّالِمِينَ﴾ منصوبة على المفعول به خلاف بين العلماء، بل إنهم نصوا على أن من خواص الفعل [نال] أن فاعله يجوز أن يكون مفعولاً، ومفعوله يجوز أن يكون فاعلاً، على التبادل بينهما، حيث قالوا: لأن ما نالك فقد نلته أنت.

قال آخر: ويدل لهذا قوله تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: 37] على خلاف نسق آية البقرة، التى هي محل الشبهة، حيث كان الوالى للفعل فيها هو الفاعل ﴿لا ينال عهدي﴾ والواقع بعد الفاعل هو المفعول ﴿الظالمين﴾.

قال آخر: أما في آية الحج فإن الذي ولى الفعل ﴿لن ينال الله﴾ هو المفعول، وما بعده هو الفاعل ﴿لحومُها﴾.. والمعنى: لن يصل الله لحومُها ولا دماؤها، وكذلك قوله ﴿ولكن يناله التقوى منكم﴾ فالضمير في ﴿يناله﴾ هو المفعول به، أما ﴿التقوى﴾ فهى الفاعل.

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (1): أجل.. فمنها التشكيك في كلمة ﴿قَرِيبٌ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]، حيث توهموا أن فيها خطأً نحوياً منشؤه عدم التطابق بين المبتدأ ﴿رحمة﴾ والخبر ﴿قريب﴾ في التأنيث، لأن المبتدأ ﴿رحمة﴾ مؤنث، أما الخبر ﴿قريب﴾ فهو

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 159.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/230)

في الآية مذكر، فقالوا: (كان يجب أن يتبع خبر (إن) اسمها في التأنيث فيقال: قريبة)

قال آخر: والجواب على ذلك هو أن للتذكير الحاصل بحذف علامة التأنيث من الخبر، عدة وجوه، منها أن ﴿رحمة الله﴾ في معنى الغفران أو الرضوان؛ فلذلك جاء الخبر ﴿قريب﴾ مذكراً.. وقد اختار هذا الرأى النضر بن شميل والزجاج (1).

قال آخر (2): ومنهم من جعل ﴿قريب﴾ صفة لخبر محذوف مذكر تقديره: شيء أو أمر قريب، ودليل هذا الحذف هو تذكير ﴿قريب﴾.. ومنهم من جعله من باب النسب، أى ذات قرب، كقولهم في حائض: ذات حيض.. ومنهم من جعل ﴿قريب﴾ مصدراً مستعملاً استعمال الأسماء مثل النقيق، وهو صوت الضفادع، والضغيب وهو صوت الأرنب، والمصدر يُلتزم فيه الإفراد وإن جرى على جمع، والتذكير وإن جرى على مؤنث كما في هذه الآية الكريمة.

قال آخر (3): ويرى آخرون أن تأنيث ﴿رحمة﴾ لما كان تأنيثاً مجازياً لا حقيقياً جاز في الاستعمال اللغوى تأنيث خبره وصفته، وجاز تذكيرهما على حدٍ سواء، سواء كان في ضرورة الشعر، أو في النثر.

قال آخر: وقال الفراء: [قريبة وبعيدة] إما أن يراد بهما قرابة النسب أو عدمها، فيؤنثها العرب ليس إلا، كقولهم: فلانة قريبة مني، أى في النسب وبعيدة منى أى في النسب، أما إذا أريد بها القرب المكانى أو الزمانى فإنه يجوز الوجهان؛ لأن قريباً وبعيداً قائم مقام المكان أو الزمان، فتقول: فلانة قريبة وقريب، وبعيدة وبعيد، والتقدير هى في مكان قريب وبعيد، قال الشاعر:

عشية لا عفراء منك قريبة... فتدنو ولا عفراء منك بعيد

يعنى أن الشاعر جمع بين الوجهين التأنيث والتذكير والموصوف مؤنث؛ لأن ﴿قريب﴾ و﴿بعيد﴾ أريد بهما القرب في المكان والبعد فيه (4).. والآية الكريمة ليس القرب المذكور فيها مراداً به قرب النسب فيلزم تأنيثه، وإنما المراد قرب الزمان، والعرب تجيز فيه الوجهين: التأنيث والتذكير.

قال آخر (5): ولامرئ القيس، وهو من شعراء الجاهلية، وشعرهم حُجة في إثبات اللغة، بيت نحا فيه هذا المنحى؛ فقال:

له الويل إن أمسى ولا أم سالم قريب... ولا البسباسة ابنته يُشكرا

والشاهد في البيت تذكير [قريب] مع جريانه على مؤنث (أم سالم) وهو نظير ﴿قريب﴾ في الآية الكريمة (6).

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (7): أجل.. فمنها التشكيك في تأنيث ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾ في قوله تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [الأعراف: 160]، والصواب الذي توهموه عبروا عنه بقولهم: (كان يجب أن يُذَكَّر العدد، ويأتى بمفرد المعدود فيقول: اثنى عشر سبطا)

قال آخر (8): والجواب على ذلك هو أن سبب تأنيث العدد في الآية لأن السبط في بنى إسرائيل كالقبيلة عند العرب، يعنى أنه أراد بالأسباط القبائل، ولذلك أنث جزئى العدد

__________

(1) معانى القرآن للزجاح (2/ 380)

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 160.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 160.

(4) معانى القرآن (2/ 382)

(5) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 161.

(6) الدر المصون. الشاهد رقم (562)

(7) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 163.

(8) الدر المصون (5/ 485)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/231)

المركب، وهما: اثنتى، وعشرة.. بالإضافة إلى أنه يمكن تأويل السبط بالجماعة أو الفرقة أو الطائفة.

قال آخر (1): أما جمع أسباط، وكان حقه أن يفرد فقد روعى فيه المعنى دون اللفظ، ومراعاة المعنى دون اللفظ، أو اللفظ دون المعنى كثير الورود في النظم القرآني، حيث كان العرب النازل بلغتهم القرآن يذكِّرون عدد المؤنث مراعاة للفظ فيقولون: ثلاثة أنفس، أي رجال ويقولون عشر أبطن؛ ففي الأول (ثلاثة أنفس) ذكَّروا العدد نظراً للمعنى؛ لأن المعدود مذكر (رجال) وفى الثانى أنثوا العدد (عشر أبطن) لأن المعدود هو القبيلة أى عشر قبائل، وهذا باب واسع لا تحصر شواهده.

قال آخر (2): أما جمع المعدود الذي في الآية ﴿أسباطاً أمماً﴾ فله نظائر في الاستعمال المأثور الوارد عن العرب ومنه قول الشاعر:

فيها اثنتان وأربعون حلوبة... سُوداً كخافية الغراب الأسحم

فقد وصف الشاعر (حلوبة) وهى مفرد، بقوله (سُوداً) وهو جمع سوداء.

قال آخر (3): بالإضافة إلى هذا؛ فلجمع المعدود ﴿أسباطاً أمماً﴾ ملمح بلاغى دقيق، حيث بدأت الآية الكريمة بهذا الفعل ﴿قطَّعناهم﴾ بتشديد الطاء على وزن فَعَّل وهذا التشديد يفيد التكثير، أى كثرة التقطيع والتفريق، وهذا يناسبه بلاغة جمع ﴿أسباطاً أمماً﴾ لا إفرادهما، والمعانى البلاغية من هذا النوع تزال من أجلها كل الموانع، فلغة القرآن وبلاغته أوسع من قواعد اللغة وفنونها البلاغية.

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 164.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 164.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 165.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/232)

قال أحد المشككين (1): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ في قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ [الحج: 19]، حيث ذكروا أنه يجب أن يثنى الضمير العائد على المثنى، فيقول: (خصمان اختصما في ربهما)

قال آخر (2): والجواب على هذه الشبهة هو أن المثنى نوعان: أولهما حقيقي، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، فـ ﴿رجلان﴾ مثنى حقيقى؛ لأن واحده فرد في الوجود؛ أو ذات واحدة؛ وإذا وُصِفَ أو استؤنف الحديث عنه وجب تثنية الضمير العائد عليه.. و(المثنى الحقيقى) يسمى مثنى لفظاً ومعنى.

قال آخر (3): أما النوع الثانى من المثنى، فهو المثنى اللفظي، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود: 24]، وهذا النوع من المثنى ضابطه أن واحده جمع فرد من عدة أفراد، وليس فرداً واحداً.. ويطلق عليه (المثنى غير الحقيقى) لأنه مثنى في اللفظ، وجمعاً في المعنى، وفى وصفه أو استئناف الحديث عنه يجوز أن يراعى فيه جانب اللفظ، أو جانب المعنى.

قال آخر (4): ويدخل في هذا النوع ﴿خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾، ذلك أن معناه جمعاً روعى فيه جانب المعنى، ذلك أن مفرد الخصمين خصم، وهو اسم جنس يندرج تحته ـ هنا ـ أفراد كثيرون، وبهذا نزل القرآن في هذه الآية، حيث تحدث عن الخصمين بضمير

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 166.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 167.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 167.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 167.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/233)

الجمع الذى هو واو الجماعة.

قال آخر (1): ونظيره في القرآن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: 9]، حيث أعاد الضمير جمعاً ﴿اقتتلوا﴾ هذا في جملة الخبر، مع أن المبتدأ مثنى ﴿طائفتان﴾، وذلك لأن هذا اللفظ مثنى غير حقيقى، بل هو مثنى في اللفظ، جمع في المعنى.

قال آخر (2): وكلا المنهجين فصيح صحيح بليغ.. والذى سوَّغ مراعاة المعنى فى ﴿اقتتلوا﴾ وقوعه بعد جمعٍ، هو ﴿المؤمنين﴾، وليس فوق ذلك درجة من الصحة والإصابة.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن ﴿اختصموا في ربهم﴾ أبلغ من (اختصما)، و﴿ربهم﴾ أبلغ من (ربهما)، لأن ﴿اختصموا﴾ يفيد تبادل الخصومة بين جميع أفراد ال ﴿خصمان﴾ من أول وهلة، وكذلك ﴿ربهم﴾ يفيد من أول وهلة ربوبية الله لكل فرد منهم.

قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الاختصام هو الحدث الرئيسى في هذه الواقعة، فعُبِّر عنه بهذا اللفظ الفخم ﴿اختصموا﴾، ومحال أن يستقيم لو قيل بعده ﴿فى ربهما﴾

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (5): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ في قوله تعالى: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [التوبة: 69]، حيث

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 167.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 168.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 168.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 168.

(5) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 169.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/234)

توهموا أنه يجب أن يجمع اسم الموصول العائد على ضمير الجمع فيقول: (خضتم كالذين خاضوا)

قال آخر (1): والجواب على هذه الشبهة هو أن الآية الكريمة ـ بتمامها ـ وردت في سياق الحديث عن المنافقين؛ لأن ما قبلها هو قوله عز وجل: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [التوبة: 68]، والآية مسوقة لتهديد المنافقين والكفار، لعلهم يقلعون عما هم فيه من نفاق وكفر.

قال آخر (2): وقد أدير الحديث فيها على تشبيه المخاطبين (المنافقين والكفار) بالأمم الغابرة، الذين كانوا أشد منهم قوة، وأكثر مالاً وولدا، وانغمسوا في شهواتهم الفانية، فسار المنافقون والكفار سيرتهم فركنوا إلى متع الحياة الدنيا الفانية، ولم يبتغوا ما عند الله، وأن المنافقين والكفار فعلوا كل ما فعله من قبلهم من المعاصى والسيئات.

قال آخر (3): ثم بين الله عز وجل أنهم الخاسرون في الدنيا والآخرة؛ وبذلك، فإن في الآية تتحدث عن فريقين: فريق سابق في الزمن، لم يكن موجوداً في عصر نزول القرآن.. وفريق كان حاضراً في عصر نزول القرآن، وهم الذين خاطبهم الله في هذه الآية الكريمة، وليس في هذه الآية فريق ثالث تحدثت عنه الآية.

قال آخر (4): ولهذا؛ فإنه لو قيل: (خضتم كالذين خاضوا) لانفكت رابطة الكلام، ولبرز في النظم طرف ثالث لا وجود له في سياق الآية، ذلك أن المقارنة جرت في الآية بين الفريقين (المنافقين والكفار) من جهة، و(الأمم الغابرة) من جهة أخرى.

قال آخر (5): فالذى في الآية اسم موصول مفرد، يعود على المصدر المفهوم من الفعل

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 169.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 169.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 169.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 170.

(5) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 171.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/235)

الماضي ﴿خضتم﴾ فشبه الله عز وجل خوض المنافقين بخوض الذين من قبلهم، وهذا هو النسق الذي دارت عليه المقارنة في الآية تشبيه سلوك اللاحقين بسلوك السابقين من الأمم الغابرة، التى عتت عن أمر ربها وعصت رسله.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فقد اختار الشوكانى أن يكون التقدير هكذا: (كالخوض الذي خاضوا)(1)، ومن قبله قدرها الزمخشرى هكذا: (وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا)(2)

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (3): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿أَكُنْ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [المنافقون: 10]، فقد ذكروا أن (﴿أَكُنْ﴾ فعل معتل الوسط بالواو (أجوف) ولا يحذف الواو منه إلا إذا سكن آخره، ولا يسكن آخره إلا إذا كان مجزوماً، ويجزم المضارع إذا دخل عليه جازم أو عطف على مجزوم، ولما لم يدخل على الفعل ـ هنا ـ جازم، ولم يتقدم عليه مجزوم يصح جزمه بالعطف عليه، كان يجب أن ينصب الفعل المعطوف على المنصوب فيقال: (فأصدق وأكون)

قال آخر (4): والجواب على ذلك هو ما ذكره الزمخشري من أن مجيء الفعل ﴿أكن﴾ مجزوماً مردوفاً على الفعل المنصوب ﴿فأصدق﴾ لأن قوله تعالى ﴿لولا أخرتني﴾ جاء في محل جزم لتضمنه معنى الشرط، فكأنه قيل: (إن أخرتنى أصدقْ وأكن من الصالحين)(5)..

__________

(1) فتح القدير (2/ 433)

(2) الكشاف (2/ 201)

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 172.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 174.

(5) الكشاف (4/ 112).

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/236)

وكذلك قال ابن عطية (1)، وأبو على الفارسى (2).

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (3): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾ في قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: 17]، حيث توهموا أنه (يجب أن يجعل الضمير العائد على المفرد مفرداً، فيقول: (استوقد ـ ذهب الله بنوره)

قال آخر (4): والجواب على هذه الشبهة هو أن هذه الآية مضروبة مثلاً لبيان حال المنافقين في تذبذب أحوالهم وتقلبهم في مواقفهم، وانتهازهم الفرص السانحة لتحقيق أغراضهم الدنيوية، وعدم ثباتهم على مبدأ خلقى قويم، وقد تقدم على هذه الآية آية أخرى تصف سعيهم الضال، وإيثارهم منافع الدنيا العاجلة الفانية، على ما عند الله عز وجل مقضياً عليهم بالخسران المبين، وهى قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [البقرة: 16]، ثم استأنف الحديث عنهم فى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: 17]

قال آخر (5): والمَثل هو الشأن والقصة الغريبة التى يكون عليها المتحدث عنه، وهو ـ هنا ـ المنافقون، مَثَّلَ الله حالهم وشأنهم الذي هم عليه، وقصتهم الغريبة الراسخة في طباعهم بمثل رجل، أو فريق من الناس طلب إيقاد نارٍ للانتفاع بها في تحقيق الرؤية، وإبصار الطريق للسير فيه، فلما أضاءت النار ما حوله وفرح بها سرعان ما أطفاها الله

__________

(1) المحرر الوجيز (16/ 23).

(2) الحجة فى القراءات (4/ 386).

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 176.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 176.

(5) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 177.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/237)

فأظلمت عليه الدنيا، فوقع في حيرة وارتباك.

قال آخر (1): ومن الوجوه التي يفسر بها جمع الضمير بعد ﴿الذي﴾ أن ﴿الذي﴾ هنا ليس بمعنى المفرد، بل هو بمعنى ﴿الذين﴾، ذلك أن لـ ﴿الذي﴾ في الاستعمال اللغوى معنيان: الأول: أن يكون بمعنى المفرد، وهو الغالب والكثير فيه.. والثاني: أن يكون بمعنى الجمع، ويُفرَّق بينهما بالقرائن، ففي هذه الآية ﴿الذي﴾ بمعنى الفريق أو الفوج الذي استوقد النار، ولذلك؛ فإن المقصود جنس المستوقد، لا فرداً معيناً.

قال آخر: ويرى الزمخشرى أن ﴿الذي﴾ هو ـ هنا ـ ﴿الذين﴾ حذفت منه ﴿النون﴾ لاستطالته، وهو مثل ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة: 69]، وليس في الكلام تشبيه الجماعة بالواحد على هذا التأويل، وأن المشبه هو حال المنافقين، بحال الذي استوقد ناراً، تشبيه معنى مركب بمعنى مركب، وليس تشبيه ذوات المنافقين بذات الذي استوقد ناراً، فهذا غير مقصود، وإنما المقصود هو تشبيه قصة المنافقين المضروب لها المثل، بقصة المستوقد للنار، وأن وجه الشبه بين القصتين هو: (فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار)(2)

قال آخر: وقال الشوكاني: (﴿الذي﴾ موضوع موضع الذين، أي كمثل الذين استوقدوا، وذلك موجود في كلام العرب، كقول الشاعر:

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم... همُ القوم، كل القوم، يا أم خالد

ومنه ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة: 69] و﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر: 33] (3)

__________

(1) أنوار التنزيل للإمام البيضاوى (1/ 30)

(2) الكشاف (1/ 199)

(3) فتح القدير (1/ 55)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/238)

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (1): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: 177]، فقد توهموا أن الصواب أن يقال: (ولكن البر أن تؤمنوا بالله، لأن البر هو الإيمان، لا المؤمن)، وقد قالوا في العنوان الذي وضعوه لهذه الشبهة العبارة التالية: (أتى باسم الفاعل بدل المصدر)

قال آخر (2): والجواب على ذلك أولا أنه ليس في هذا النص أي اسم فاعل على الإطلاق: فلا ﴿البر﴾ اسم فاعل.. ولا ﴿من﴾ اسم فاعل.. ولا ﴿آمن﴾ اسم فاعل.. ولا ﴿الله﴾ اسم فاعل.. وهذا يدل على جهل واضعي الشبهات باللغة العربية، ذلك أن ﴿مَنْ﴾ هنا اسم موصول، وصلته ﴿آمن﴾ أى الذي آمن.. فمن أين أتوا باسم الفاعل الموضوع موضع المصدر في الآية؟

قال آخر (3): والجواب على ذلك يحتمل وجوها متعددة كلها في قمة البلاغة، وأولها أن في الكلام مضافاً محذوفاً، والتقدير: (ولكن البر بر من آمن)، وهذا التوجيه اشتهر بين جمهور العلماء، وردده كثير منهم.

قال آخر (4): والثاني تأويل ﴿البر﴾ بـ ﴿ذو البر﴾ يعنى أن في الكلام حذف مضاف، لكن تقديره قبل ﴿البر﴾، أما التوجيه الأول فكان تقدير المضاف المحذوف قبل ﴿من آمن﴾، وهذا المضاف خبر ﴿البر﴾ الذي هو اسم ﴿ليس﴾

قال آخر (5): والثالث، هو أن يكون المصدر، وهو ﴿البر﴾ موضوعا موضع اسم

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 190.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 190.

(3) الكشاف (1/ 330)

(4) الكشاف (1/ 330)

(5) الكشاف (1/ 330)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/239)

الفاعل للمبالغة، كما في قول الخنساء تصف فرس أخيها صخر.

ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت... فإنما هى إقبال وإدبار

فإقبال وإدبار مصدران حلا محل اسم الفاعل، والتقدير؛ هى مقبلة مدبرة.

قال آخر (1): والرابع أن ﴿البر﴾ وقع موقع اسم الفاعل لإرادة المبالغة على وزان قول العرب ﴿رجل عدل﴾ حيث عدلوا عن رجل عادل، إلى الإخبار عنه بالمصدر، على اعتبار أن هذا الرجل لما كان كثير العدل صار كأنه العدل نفسه، لا فرق بينهما.

قال آخر (2): والخامس اعتبار ﴿من آمن﴾ واقعاً موقع الإيمان؛ فالعرب تجعل الاسم خبراً للفعل، كما قال الشاعر:

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى... ولكنما الفتيان كل فتى نَدِى

حيث جعل الشاعر نبات اللحية خبراً عن الفتيان، والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى.

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (3): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ في قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]، حيث توهموا أن الصواب أن يقال (قال له كُنْ فكان)

قال آخر (4): والجواب على ذلك هو ما عبر عنه علماء النحو والبلاغة بأنه (حكاية حال ماضية)(5).. ويقصدون بها أن المضارع ﴿يكون﴾ دلالته في الآية أن الله عز وجل يصور للمخاطبين ترتيب الأحداث ساعة حدوثها في الزمن الذي خلق الله فيه آدم، وفائدته

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 193.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 193.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 195.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 195.

(5) الكشاف (1/ 433)

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/240)

نقل أذهانهم إلى تلك اللحظة كأنهم يعاينونها بأبصارهم.. وهذه هى دلالة المضارع إذا وضع موضع الماضى عند علماء المعانى، هى بعث الماضى وتصويره في صورة الذي يحدث في الحال.

قال آخر (1): ومن الأمثلة التي يذكرونها لهذا قول الشاعر يحكى صراعًا حدث بينه وبين الضَّبُع:

فأضربها بلا دهش فخرَّت.. صريعًا لليدين، وللجران

فالشاعر ضرب الضبع في الماضى، فلما حكى صراعه معها للناس عبَّر عن الماضي (فضربتها) بالمضارع (فأضربها)، والدلالة البلاغية للعدول عن الماضى إلى المضارع هى استحضار صورة الحدث الذي وقع في الماضى، كأنه يحدث الآن في زمن التكلم.

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه يجوز أن يكون على بابه من الاستقبال، والمعنى: (فيكون كما يأمر الله فيكون)، حكاية للحال التى يكون عليها آدم عليه السلام حين خلقه الله.. ويجوز أن يكون ﴿فيكون﴾ بمعنى كان، وعلى هذا أكثر النحويين، وبهذا فسره ابن عباس (3).

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (4): أجل.. فمنها التشكيك في حذف جواب ﴿فَلَمَّا﴾ في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [يوسف: 15]، فقد توهموا أن هذا الحذف يؤثر في المعنى والبلاغة.

قال آخر: والجواب على ذلك أن هذه الشبهة تتعلق بفن الحذف، وهو مبحث

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 196.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 196.

(3) الدر المصون (3/ 220 ـ 221)

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 200.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/241)

بلاغي (1) أكثر منه نحويًّا.. وقد قال عبد القاهر الجرجانى ـ شيخ البلاغيين ـ يذكر روائع ثماره، وبديع آثاره: (هو بحث دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تُبن)(2)

قال آخر (3): هذه هى منزلة الحذف في البيان العربي، وقد شاع شيوعاً لا حصر له في القرآن الكريم، إذ لم تكد تخلو منه سورة من سوره، ولا آية من آياته والمعانى التى يدل عليها الحذف في القرآن تكاد تعادل ربع معانى القرآن كله، وهو منهج واسع وحكيم من مناهج اللغة العربية لا مثيل له، ولذلك نجد العلامة اللغوى العظيم ابن جني يسميه في كتابه [الخصائص] اسمًا طريفًا، هو: (شجاعة العربية)

قال آخر (4): وينتمي الحذف البلاغي إلى فن بلاغى حصر بعض العلماء البلاغة فيه، وهو [فن الإيجاز] أي قلة الألفاظ مع كثرة المعاني، وله مقامات يتألق فيها، ومقتضيات يوفي بأغراضها.. ومن مقاماته الحذف الوارد في آية سورة يوسف؛ حيث أن حذف جواب ﴿لما﴾ هنا المراد منه تهويل وتفظيع ما حدث من إخوة يوسف ليوسف، بعد أن أذن لهم أبوهم بالذهاب به إلى الصحراء، وقد روى عنهم أنهم أخذوا يؤذونه بالقول والفعل وهم في الطريق إلى المكان الذي قصدوه، حتى كادوا يقتلونه، والدليل على هذا قوله تعالى حكاية عن أحد إخوته: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [يوسف: 10]، فالنهي عن القتل لا يكون إلا عند العزم عليه ومباشرة أسبابه.

__________

(1) ذكرنا الأمثلة الكثيرة عنه بتفصيل في كتاب: القرآن والبيان الشافي.

(2) دلائل الإعجاز (146)

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 201.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 201.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/242)

قال آخر (1): لذلك فإن حذف جواب ﴿لما﴾ هنا هدفه أن تذهب النفس في تصوره كل مذهب، وفيه دلالة على طول ما حدث منهم، وعلى غرابته وبشاعته، لذلك قدره الزمخشرى فقال: (فعلوا به ما فعلوا من الأذى.. وأظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه، وإذا استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب)(2).. وذهب غيره في تقدير الجواب مذاهب أخرى، والذى أتاح لهم هذا الاختلاف في تقدير الجواب المحذوف هو الحذف نفسه (3).

قال آخر (4): أما اقتراح مثيرى الشبهة أن يحذف ﴿الواو﴾ في ﴿وأوحينا﴾ ليستقيم المعنى فخطأ جسيم؛ لأن ﴿أوحينا﴾ ليس هو جواب ﴿لما﴾ وإنما هو معطوف على الجواب المقدر لأن جواب ﴿لمَّا﴾ هو ما حدث ليوسف من إخوته بمجرد خروجهم به من عند أبيهم وبعدهم عنه قليلاً، ودليل ذلك هو العطف بالفاء في ﴿فلما﴾ لأنها تفيد الفورية والترتيب.

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (5): أجل.. فمنها التشكيك في الضمائر الثلاثة في ﴿تُعَزِّرُوهُ﴾ و﴿تُوَقِّرُوهُ﴾ و﴿تُسَبِّحُوهُ﴾ في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفتح: 8 ـ 9]، فقد توهموا أن هناك اضطراباً في المعنى، بسبب الالتفات من خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خطاب غيره، ولأن الضمير المنصوب في قوله ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ عائد على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المذكور آخرًا.. و﴿تُسَبِّحُوهُ﴾ عائد على اسم الجلالة المذكور أولاً، وذكروا أن (هذا ما يقتضيه المعنى، وليس في اللفظ ما يعينه تعيينًا يزيل اللبس، فإن كان القول: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 202.

(2) الكشاف (3/ 306 ـ 307).

(3) الدر المصون (6/ 453).

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 202.

(5) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 203.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/243)

بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ عائدًا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يكون كفرًا، لأن التسبيح لله فقط، وإن كان عائدًا على الله يكون كفرًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج لمن يعزره ويقويه)

قال آخر: والجواب على ذلك هو أن ما ذكروه ليس عيبا في القرآن الكريم، بل هو سر من أسرار إيجازه وإعجازه، ولذلك دعي إلى تدبره، لاستنباط أنواع المعاني منها، ولو نزل أسلوبه إلى ما يتوهمون لأصبح كتابا عاديا كسائر الكتب، لا يحتاج قارئه لأي تدبر.. فالآية الكريمة التي تأمر بتعزير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوقيره، تعقب في نفس الوقت بالدعوة إلى تسبيح الله وذكره، ليجمع القارئ بين الحسنيين، ولا ينشغل بأولاهما عن أخراهما.

قال آخر (1): أما الضمير وعودته.. فالعبرة فيه بما تفهمه العقول، واللغة العربية تجيز ذلك، وقد ورد مثله في القرآن الكريم، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 232]، حيث نرى الخطاب في الآية واحداً ﴿طلقتم ـ تعضلوهن﴾ والنظرة العجلى تحسب أن المخاطب في الموضعين صنف واحد من الرجال، لكن العقل ـ بمعونة الشرع ـ سرعان ما يفرق بين الذين خوطبوا بـ ﴿طلقتم﴾ والذين خوطبوا بـ ﴿تعضلوهن﴾ فالمخاطب الأول هم الأزواج الذين يطلقون زوجاتهم، والمخاطب الثانى هم أولياء أمور المطلقات، يقول لهم الله تعالى: إذا أراد الزوج المطلق طلاقاً رجعياً في العدة أو بعد العدة أن يعيد زوجته إليه بالمراجعة أو العقد الجديد وكانت الزوجة راغبة في ذلك، فعلى أولياء أمرها ألا يقفوا في طريقها.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه يجوز أن تعود الضمائر جميعا لله تعالى، فلا مانع

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 206.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/244)

عقلاً، ولا شرعاً أن يعود الضير في ﴿وتوقروه﴾ على الله، لأن توقير الله هو إكباره وتعظيمه، وقد قال نوح عليه السلام لقومه موبخاً لهم: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [نوح: 13 ـ 14]، والضمير في ﴿وتسبحوه﴾ عائد على الله قطعاً دون أدنى شك.. وأما ضمير ﴿تُعَزِّرُوهُ﴾ فلا حرج في أن يعود لله تعالى، ويكون معنى التعزير والتوقير حينها نصرة دين الله وتعظيمه وتكريمه دينه..

قال آخر (1): وبذلك تعود جميع الضمائر في الآية على الله، وقد ذهب إلى هذا كبار المفسرين واللغويين من أمثال الزمخشري في (الكشاف) والآلوسي في (روح المعاني) والفيض الكاشاني في (تفسير الصافي) والطباطبائي في (الميزان)

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (2): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة: 196]، فقد توهموا أن كلمة ﴿كاملة﴾ زائدة، لأنها من توضيح الواضح.

قال آخر (3): والجواب على هذا هو أن إضافتها لقصد دفع توهم من يحسب أن الواو بمعنى أو تفيد الإباحة، فليس ببعيد أن يفهم بعض الناس أن المتمتع بالعمرة إلى الحج كفارته الصيام؛ فإن صام في الحج يكفيه ثلاثة أيام، ومن لم يصم حتى رجع إلى بلده فعليه صيام سبعة أيام، وأن يفهم الاكتفاء بالثلاثة في الحج للتخفيف على المحرمين بالحج ويؤدون مناسكه، أما بعد الرجوع إلى الوطن فلا داعى للتخفيف، لأنه غير مشغول بالمناسك، وليس

__________

(1) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، (16/ 440)

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 209.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 214.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/245)

غريباً عن بلده، ليس ببعيد أن يقع هذا الفهم في أذهان بعض الناس حتى الفقهاء المجتهدين، لذلك كان قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ﴾ واصفاً لها بأنها كاملة دافعاً لذلك الفهم.. وبذكر ﴿كاملة﴾ تحوَّل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ﴾ إلى نص محكم غير قابل للاحتمال أو التأويل.

قال آخر (1): أما من حيث البلاغة والبيان، فإن كلمة ﴿كاملة﴾ تفيد تعظيم هذه الأيام العشرة وكمال فضلها عند الله عز وجل، بدليل أنه أشار إليها باسم الإشارة الموضوع للبعيد، تنويهاً ببعد منزلتها، وكان يمكن أن يقال هذه عشرة كاملة، وهذه اسم إشارة للقريب سواء كان قرباً حسياً أو قرباً معنويًّا.. وهذه المعانى والدقائق ما كانت لتُفهَم لولا وجود تلك العبارة، التى عدَّها مثيرو الشبهات عيباً من عيوب الكلام.

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (2): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ في قوله تعالى: ﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء: 3]، فقد توهموا أنه لما كان كل فعل لا يتطلب إلا فاعلاً واحداً، فإن من الخطأ جعل فاعلين للفعل الواحد.

قال آخر: والجواب على هذه الشبهة هو ما ذكره شيخ المفسرين البيانيين جار الله الزمخشرى بقوله: (أبدل الذين ظلموا من ﴿واو﴾ ﴿وأسروا﴾ إشعارًا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به.. أو جاء على لغة من قال: أكلونى البراغيث.. أو هو منصوب المحل على الذم.. أو هو مبتدأ خبره ﴿وأسروا النجوى﴾ قُدِّم عليه والمعنى: هؤلاء أسروا

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 214.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 219.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/246)

النجوى، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم)(1)

قال آخر: وبذلك؛ فإن هذه التوجيهات كلها صحيحة وفصيحة وموافقة للقواعد العربية، بالإضافة إلى جمالها البلاغي..

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك يمكن أن يكون قوله تعالى: ﴿إن الذين ظلموا﴾ فاعل لفعل محذوف تقديره: يقول الذين ظلموا.

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن في أساليب علم المعانى، وهو أحد علوم البلاغة الثلاثة (المعانى ـ البيان ـ البديع) أسلوباً يسميه البلاغيون بـ (الاستئناف البياني)، وضابط هذا الأسلوب أن تتقدم جملة من الكلام تثير في ذهن السامع تساؤلاً لطيفاً يدب في نفسه، فتأتي جملة أخرى تجيب على ذلك التساؤل، الذي ليس له صورة في الكلام.

قال آخر (4): ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾ [الحجر: 66]، فجملة ﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ﴾ جواب على سؤال تقديره: (ما هو ذلك الأمر الذي قضاه الله)(5)

قال آخر: ومثله قوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ [طه: 120]، فجملة ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ﴾ تثير في النفس تساؤلاً لطيفاً (ماذا قال الشيطان لآدم؟) فكان الجواب: (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى)

قال آخر (6): وبهذا تفسر هذه الآية: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [الأنبياء: 3]، فقد جرت على نسق الاستئناف البيانى، لأن جملة ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ تثير في النفس

__________

(1) الكشاف (2/ 562).

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 220.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 222.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 223.

(5) انظر: الإيضاح للخطيب القزوينى: مبحث الفصل والوصل.

(6) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 224.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/247)

التساؤل نفسه: (مَنْ هم الذين أسروا النجوى؟)، فكان الجواب: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾

قال آخر (1): ولا يقال: إن هذا السؤال لا يقتضى المقام إثارته لأن مرجع الضمير، وهو الواو في ﴿أسروا﴾ مذكور قبله في قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 1]، لأن الوقائع المذكورة في مطلع السورة، وقائع عامة، هى أحوال للناس جميعاً، إلا من عصمه الله، أما إسرار النجوى، فهي واقعة خاصة وقعت من المشركين، فليس الناس قبلها هم فاعليها، بل فاعلوها هم الذين قالوا: ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء: 3]

قال آخر (2): وعلى هذا فإن ﴿الذين ظلموا﴾ ليس فاعلا لـ ﴿أسروا﴾ وإنما فاعل ﴿أسروا﴾ الواو.. أما ﴿الذين ظلموا﴾ فواقعة في كلام جديد، هو جواب عن السؤال: من هم الذين أسروا النجوى؟

قال آخر (3): بالإضافة إلى ذلك، فهناك أسلوب آخر من أساليب البلاغة العربية، مرتبط بما استشكلوه، وقد ذكره شيخ البلاغيين بلا منازع عبد القاهر الجرجانى، وأسماه [الإضمار على شريطة التفسير] (4).. وضابط هذا الأسلوب هو أن يؤتى بالضمير أولاً، ثم يفسر بعد ذلك بذكر مرجعه، ومن أمثلته قول الشاعر:

هى الدنيا تقول بملء فيها... حذار حذار من بطشى وفتكي

ولا يغرُركمُ منى ابتسام... فقولى مضحك والفعل مبكي

قال آخر (5): وتخريج ﴿وأسروا النجوى الذين ظلموا﴾ على هذا الأسلوب سائغ رائع؛ فقد أتى بالضمير أولاً ﴿وأسروا﴾ ثم فسره ثانياً هكذا ﴿الذين ظلموا﴾.. وبلاغة

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 224.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 224.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 225.

(4) دلائل الإعجاز (163) تحقيق الشيخ العلامة محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجى، القاهرة.

(5) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 225.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/248)

هذا الأسلوب هى تحريك الشعور، وتشويق النفس إلى عقبى الكلام كيف تكون، فيتمكن المعنى المسوق من أجله الكلام في النفوس كل التمكن؛ لأن النفس إذا ظفرت بالشئ بعد انتظاره استقر ذلك الشئ فيها.

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (1): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿يُرْضُوهُ﴾ في قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 62]، فقد توهموا أن الضمير ما دام عائدا على الاثنين، اسم الجلالة ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فلذلك كان الأصح أن يقال: (أن يُرضوهما)

قال آخر (2): والجواب على هذه الشبهة هو أن هناك شرطاً موضوعيًّا في تثنية المعدود وجمعه، وهو التجانس بين الأفراد في الواقع، فقَلَم يثنى فيقال: قلمان، ويجمع فيقال أقلام.. لكن الإنسان ـ مثلاً ـ لا يثنى مع القلم ولا يجمع.. وحتى الرجل والمرأة، وهما فردان بينهما تجانس من جهة، واختلاف من جهة أخرى، فإننا لا نستطيع أن نثنيهما فنقول: رجلان، أو امرأتان.

قال آخر (3): وبناء على هذا؛ فإنه ليس بين الله، وبين رسوله، ولا بين الله وبين أىِّ شئ في الوجود تجانس من أى نوع من الأنواع.. ومن أجل هذا؛ فإن الله لا يُجمَع ولا يُثنىَّ، لا في ذاته ولا مع أحدٍ من خلقه، وعلى هذا جرى بيان القرآن المعجز، فلم يقل كما يقترح هؤلاء: (والله ورسوله أحق أن يُرضوهما)، لأن الله ليس فرداً من جنس الأفراد الذين ينتمى إليهم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو فرد لا مثيل له في الوجود أبداً، فلا يكون مع غيره ثانى اثنين، أو

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 226.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 227.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 228.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/249)

ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.

قال آخر: ولهذا نظائر كثيرة في القرآن الكريم، فالله تعالى يقول في سورة التوبة نفسها: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: 3]، فلم يقل: (إن الله ورسوله بريئان من المشركين)، لأن وصف الله بالبراءة من المشركين، وصف توحيدي، ولذلك قال: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ أى ورسوله بريء منهم، والذى دل على هذا، ما ذكره في جانب الله أولاً.

قال آخر (1): وفى سورة التوبة نفسها ـ كذلك ـ ورد قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ [التوبة: 59]، فقد روعي التوحيد في النظم القرآنى في هذه الآية في ثلاثة مواطن: الأول: ﴿مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ حيث عطف رسوله على اسم الجلالة، دون عود ضمير مثنى.. الثانى: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ دون عطف رسوله على اسم الجلالة، لأن الحسب لا يكون إلا لله.. والثالث: ﴿سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ﴾ دون أن يُثَنِّى فيقول: من فضلهما، وإنما عُطِف ﴿رسوله﴾ بعد تمام الجملة الأولى، ثم حذف من جملة ﴿ورسوله﴾ ما دل عليه الكلام السابق، أي: وسيؤتينا رسوله من فضله.

قواعد الصرف

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن التشكيكات المرتبطة بقواعد الصرف.

قال أحد المشككين: هي كنظيراتها من التشكيكات المرتبطة بالقواعد النحوية، مجرد أوهام ناشئة عن الجهل بقواعد اللغة العربية.. ومن أمثلتها التشكيك في ﴿مَعْدُودَةً﴾ في

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 229.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/250)

قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 80]، حيث توهموا أن القرآن الكريم أخطأ فيها؛ لأنها ـ عندهم ـ جمع كثرة، والمقام الذي استعملت فيه يتطلب جمع القلة، ثم علقوا قائلين: (كان يجب أن يجمعها جمع قلة، حيث إنهم أرادوا القلة، فيقول: أياماً معدودات)

قال آخر (1): والجواب على هذه الشبهة هو أن هذه الآية نزلت تحكي قولاً قاله اليهود، يكشف عن الغرور الذي ملأ أنفسهم، فقد زعموا أنهم إذا دخلوا النار، فإنها لا تمسهم إلا مساً خفيفاً، وأنهم لن يُخلدوا فيها، بل يقضون عدة أيام، وهذا تطاول منهم، لأن شؤون الآخرة لا يعلمها إلا الله، لذلك كذَّبهم الله، وألزمهم الحُجة البالغة له عليهم وحصر مصدر هذا الذى ادعوه في أمرين: الأول: أن يكون عندهم من الله عهد بما قالوا، والله لا يخلف عهده، وهم في الواقع لا عهد عندهم من الله يحدد فيه مدة مكثهم في النار، ودرجة العذاب الذي سيصيبهم فيها.. والثانى: أو هُمْ يفترون على الله عز وجل، وماداموا ليس عندهم عهد من الله، فهم ـ إذاً ـ كاذبون والذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون.

قال آخر (2): أما مسألة الكثرة والقلة فلا اعتبار لها هنا؛ لأن ﴿معدودة﴾ ليست جمعاً بل مفردًا، فليست جمع كثرة ولا جمع قلة.. بالإضافة إلى أن (معدودات) التى يقولون إنها الصواب وكان حق القرآن أن يعبر بها بدلاً من ﴿معدودة﴾ ظانين أن (معدودات) جمع قلة، وهى ليست جمع قلة كما توهموا، فهى على وزن (مفعولات) وهذا الوزن ليس من أوزان جموع القلة (3) بل من أوزان جموع الكثرة، ولا ينفعهم قولهم إن اليهود أرادوا القلة، لأن هذه القلة يدل عليها سياق الكلام لا المفردات المستعملة في التركيب.

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 180.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 181.

(3) أوزان جموع القلة هى: فِعْلَة، أفْعَال، أفعُل، أفْعِلَة.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/251)

قال آخر (1): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن هذا التعبير يدخل في معاملة غير العاقل معاملة العاقل.. ووصف الأيام بـ ﴿معدودة﴾ فيما حكاه الله عن اليهود هو وصف لها بما هو لائق بها، لأن الأيام لا تعقل، فأجرى عليها الوصف الذي لغير العقلاء، وما جاء على الأصل فلا يسأل عنه.

قال آخر (2): أما معاملة غير العاقل معاملة العاقل، فلها دواعٍ بلاغية، وهى في النظم القرآني كثيرة، ولا يعامل غير العاقل معاملة العاقل إلا بتنزيله منزلة العاقل لداع بلاغي يقتضي ذلك التنزيل.. وإذا كان القرآن الكريم قد عبَّر في وصف ﴿أياماً﴾ في آية البقرة هذه بـ ﴿معدودة﴾ وهو وصف غير العاقل جارٍ على الأصل، فإنه عبَّر عن وصفها بـ ﴿معدودات﴾ في موضع آخر، هو قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 24]

قال آخر (3): فإذا قارنَّا بين الآيتين وجدنا آية البقرة مبنية على الإيجاز هكذا: ﴿وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة﴾، بينما آية آل عمران مبنية على الإطناب هكذا: ﴿ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات﴾.. وعند الموازنة بين صدر آية البقرة ﴿وقالوا﴾، وبين صدر آية آل عمران ﴿ذلك بأنهم قالوا﴾، نجد أن جملة ﴿ذلك بأنهم﴾ اشتملت على اسم الإشارة الموضوع للبعيد، الرابط بين الكلامين السابق عليه، واللاحق به.. ثم تجد ﴿الباء﴾ الداخلة على (إن) في ﴿بأنهم﴾.. ثم (إن) التى تفيد التوكيد، ثم ضمير الجماعة ﴿هم﴾.. وهذه الأدوات لم يقابلها في آية البقرة، إلا واو العطف ﴿وقالوا﴾ إذاً المقامان مختلفان، أحدهما إيجاز، والثانى إطناب.

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 182.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 183.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 183.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/252)

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (1): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿مَعْدُودَاتٍ﴾ في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 183 ـ 184]، فقد توهموا أن ﴿معدودات﴾ جمع قلة، وأن ﴿معدودة﴾ جمع كثرة، وأيام الصيام في شهر رمضان ثلاثون يوماً، فهي أيام كثيرة يناسبها جمع الكثرة عندهم، وهو ﴿معدودة﴾

قال آخر (2): مما يدل على تناقض المشككين أنهم في الآيات السابقة عدوا الأربعين يوما ـ تلك التي زعم اليهود أنهم سيمكثونها في جهنم ـ جمع قلة، وهنا جزموا بأن الثلاثين يوماً الرمضانية، أو التسعة والعشرين يوماً جمع كثرة، وأن القرآن أخطأ مرة أخرى حين عبَّر عنها بجمع القلة ﴿معدودات﴾ فكيف تكون الأربعون أقل من الثلاثين أو التسعة والعشرين؟ وهل يمكن أن يصدر هذا عن عاقل؟

قال آخر (3): والجواب على ذلك أن ما عدوه خطأً في هذه الآية، وهو قوله تعالى: ﴿معدودات﴾ هو عين الصواب لغة وبياناً، ذلك أن معاملة غير العاقل معاملة العاقل أسلوب بلاغى رفيع، وهو عند البلاغيين استعارة، شبه فيها غير العاقل بالعاقل لداعٍ بلاغى، يراعيه البليغ في كلامه.

قال آخر (4): فكلمة ﴿معدودات﴾ فى وصف أيام الصيام أتى بها القرآن الكريم لخصوصية بيانية، هى تعظيم شأن تلك الأيام، حتى لكأنها لرفعة منزلتها عند الله عز وجل صارت من ذوى العقول، وهى أوقات لا روح فيها كالأحياء العاقلين؛ فليس المدار فيها

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 185.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 185.

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 186.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 186.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/253)

اعتبار قلة، أو كثرة، بل المراد التنويه بفضلها، وعلو منزلتها عند الله تعالى.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن القلة تفهم من سياق الكلام، الذي حدد أيام الصيام بالشهر الواحد، كما قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (1): أجل.. فمنها التشكيك في كلمة ﴿إِلْ يَاسِينَ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾ [الصافات: 123 ـ 130]، فقد تصوروا أنها جمع لكلمة إلياس، وأنها جمعت لأجل مراعاة الفاصلة والسجع.

قال آخر: ومثلها تشكيكهم فيما ورد في سورة التين في قوله تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ﴾ [التين: 1 ـ 2]؛ فقد اعتبروا ﴿سينين﴾ جمعا لسيناء، واعتبروا من الخطأ لغوياً تغيير اسم العَلَمَ حباً في السجع المتكلف.

قال آخر: والجواب على ذلك هو أن تعدد اسم العلم مما لا حرج فيه عند العرب وغيرهم، ولهذا نجد في القرآن الكريم أسماء متعددة لمكة المكرمة؛ فمن أسمائها بكة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96]، ومن أسمائها البلد الأمين، كما قال تعالى: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ [التين: 3]، ومنها اسم مكة، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الفتح: 24].. وغيرها.

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 187.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/254)

قال آخر (1): ومن هذا الباب، ذكر المفسرون واللغويون ـ كالزمخشري وغيره ـ أن زيادة الياء والنون لغة في إلياس، كما أن إدريسين لغة في إدريس، وعلى هذا فإن ﴿إِلْ يَاسِينَ﴾ ليس جمعاً (2).. ومثل ذلك كلمة ﴿سينين﴾، فهي ليست جمعاً كما توهم مثيرو هذه الشبهة، بل هى لغة في ﴿سيناء﴾ بكسر السين، كما أن ﴿سَيناء﴾ بفتح السين لغة فيها، وبهاتين اللغتين: سِيناء، بالكسر، وسَيناء بالفتح وردت القراءات، فهى إذن في القرآن لها ثلاثة لغات: سِيناء بكسر السين.. وسَيناء بفتح السين.. وسِنيين، بكسر السين وياءين ونونين.

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (3): أجل.. فمنها التشكيك في تصريف كلمات ﴿سَلَاسِلَ﴾ و﴿قَوَارِيرَا﴾ في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ [الإنسان: 4]، وقوله: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا﴾ [الإنسان: 15]، فقد توهموا أن تنوين الكلمات الثلاث خطأ.

قال آخر: والجواب على ذلك هو أن الكلمتين في القراءة المعتبرة المعتمدة عند عامة المسلمين، وهي المشهورة بقراءة حفص عن عاصم، لا تنونان، وإنما يوقف عليهما بالفتح لا غير، ولا يلتفت إلى الألف الذي في آخر كل منهما.. لأنه تابع للإملاء في ذلك الحين، والذي لم توضع قواعده بعد، والأصل في القرآن الكريم هو النقل الشفهي، لا الكتابة.

قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك؛ فإن بعض العرب كانت تصرف كل الكلام، وليس في لهجتهم كلام مصروف وكلام غير مصروف، بل هو كله مصروف، وعلى هذا قرأ من قرأ بالتنوين، أمثال نافع وابن كثير والكسائى وأبو جعفر.

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 188.

(2) الكشاف (3/ 352)

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 207.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 208.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/255)

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (1): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿قُلُوبُكُمَا﴾ في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: 4]، حيث جاء المضاف (قلوب) جمعا، والمضاف إليه [كما] مثنى، والمتحدث عنه في قوله تعالى: ﴿تتوبا﴾ مثنى كذلك، وقد علقوا على هذا فقالوا: (لماذا لم يقل: (قلباكما) لأنه ليس للاثنين أكثر من قلبين؟

قال آخر (2): والجواب على الشبهة، هو أن العرب كانوا يستثقلون اجتماع تثنيين في كلمة واحدة، ولذلك يعدلون عن التثنية إلى الجمع، لأن أول الجمع عندهم الاثنان، ولذلك يعتبر البلاغيون ما ورد في الآية الكريمة من الفصاحة والبلاغة، وقد قال بعضهم في ذلك: (و ﴿قلوبكما﴾ من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى، استثقالاً لمجيء تثنتين لوقيل (قلباكما)(3)

قال آخر (4): ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة: 38]، فقد أوقع الجمع ﴿أيدي﴾ موقع المثنى (يدي)، جرياً على سُنة العرب في كلامهم، والقرآن بلغتهم نزل.

قال آخر (5): بالإضافة إلى إصلاح اللفظ، فإن لهذا علاقة بالمعنى أيضا، فجمع الأيدي في قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة: 38] دلالة على الجمع فعلاً، ذلك أن المراد من السارق والسارقة ليس فردين، بل نوعين: الذي يسرق من الرجال، سواء كان واحداً أو اثنين أو ثلاثة أو

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 232.

(2) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 232.

(3) الدر المصون (10/ 366).

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 232.

(5) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 233.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/256)

أربعة أو ألف وهكذا؛ لأن المراد النوع لا الفرد.. والتى تسرق من النساء، لا على سبيل الفردية (امرأة) واحدة ولكن كل من ينطبق عليها وصف السرقة، فالسارقون لا يحصرون في عدد معين، من عصر نزول القرآن إلى يوم القيامة.. والسارقات لا يحصرن في عدد محدد، بل هن جمع لا يعلمه إلا الله.. وبذلك؛ فإن اللفظ فى ﴿السارق والسارقة﴾ وإن كان مفرداً، فهو من حيث المعنى جمع لا حصر له في النوعين معاً: الذكور والإناث.

قال آخر (1): أما آية التحريم، فإن ﴿صغت﴾ بمعنى: زاغت وأثمت، وهذا تفسير ابن عباس (2).. وعلى هذا يكون مجئ القلبين جمعاً فيه تهويل وتفظيع لما حدث من زوجتى النبى صلى الله عليه وآله وسلم، من إفشاء سره، لأن في ذلك ما يؤذيه صلى الله عليه وآله وسلم.

قال أحد الحضور: وعينا هذا؛ فهل هناك مثال آخر على هذا النوع من التشكيكات؟

قال أحد المشككين (3): أجل.. فمنها التشكيك في ﴿ضَرَّاءَ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾ [هود: 10]، فقد توهموا أن كلمة ﴿ضَرَّاءَ﴾، وهى مضاف إليه، والمضاف هو كلمة ﴿بعد﴾، ولذلك كان يجب ـ كما زعموا ـ أن يجر المضاف إليه فيقول: (بَعْدَ ضراءِ)

قال آخر (4): والجواب على الشبهة هو أن المضاف إليه في الآية ﴿ضراءَ﴾ مجرور فعلا لا منصوب، وهو ممنوع من الصرف، والمانع له من الصرف ألف التأنيث الممدودة، ذلك أن الممنوع من الصرف يُجر بالفتحة نيابة عن الكسرة، ولذلك وضعت الفتحة فوق الهمزة بعد الراء، فهذه الفتحة علامة جر لا علامة نصب.

ب. الشعر الجاهلي

__________

(1) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 234.

(2) فتح القدير للإمام الشوكانى (5/ 301).

(3) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 236.

(4) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص 236.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/257)

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فما تقولون فيما ذكرتموه لنا عن بعض المستشرقين أمثال (تسدال) و(شيخو) و(شبرنجر) الذين ذكروا أن من مصادر القرآن الكريم الشعر الجاهلي، والذين استدلواعلى ذلك بمقاطع من شعر أمية بن أبي الصلت وامرئ القيس (1).

قال أحد المشككين (2): عندما رجعنا إلى ما جمع من شعر ابن أبي الصلت في تاريخ الأدب العربي؛ لاحظنا أن المستشرقين مثل الأب (شيخو) و(كافنتسكي) قد عنوا بجمع هذا اللون من الشعر الديني أكثر من سواهم حتى إن (كافنتسكي) كتب رسالته للدكتوراة في جمع مثل هذا اللون من الشعر ليظهر العلاقة بين القرآن وبين شعر أمية، وقد أشار لأخذ القرآن من شعر أمية بن أبي الصلت كذلك (كلمنت هاوث) كما أشار تسدال لهذه الموافقة بين القرآن وشعر امرئ القيس في كتابه مصادر الإسلام واعتبره مصدرا من مصادر الإسلام وذلك لموافقة الأبيات لبعض التراكيب القرآنية في سورة القمر والملك وغيرهما (3).

قال آخر: وهذه هي أبيات أمية المقصودة بالتوافق:

ويوم موعدهم أن يحشروا زمرا... يوم التغابن إذ لا ينفع الحذر

مستوسقين مع الداعي كأنهم... رجل الجراد زفته الريح منتشر

وأبرزوا بصعيد مستو جرز... وأنزل والميزان والزبر

فمنهم فرح راض بمبعثه... وآخرون عصوا مأواهم سقر

يقول خزانها ما كان عندكم... ألم يكن جاءكم من ربكم نذر

قالوا: بلى فتبعنا فتية بطروا... وعزنا طول هذا العيش والعمر

قال آخر (4): وأما أبيات امرئ القيس التي ذكرها (تسدال) متوافقة مع آيات من

__________

(1) انظر مصادر الإسلام ص 8 ـ 10، وتاريخ القرآن لنولدكة 1/ 19 ومعجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين ص 152.

(2) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 255.

(3) انظر معجم الشعراء الجاهليين والمخضرمين ص 152، تاريخ القرآن لنولدكة 1/ 19.

(4) آراء المستشرقين حول القرآن: 1/ 256.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/258)

سورة القمر فهي ما نسب إليه من قوله (1):

دنت الساعة وانشق القمر... عن غزال صاد قلبي ونفر

أحور قد حرت في أوصافه... ناعس الطرف بعينه حور

مر يوم العيد في زينته... فرماني فتعاطى فعقر

بسهام من لحاظ فاتك... فتركني كهشيم المحتظر

وأضيف لها أبيات أخرى:

وأقبل والعشاق من خلفه... كأنهم من حدب ينسلون

وجاء يوم العيد في زينته... لمثل ذا فليعمل العاملون

قال آخر: وقد زعموا أن هذه الآيات تتوافق مع بعض الألفاظ والتراكيب في قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ [القمر: 6 ـ 7].. وقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: 7 ـ 8]، وقوله: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى﴾ [الملك: 8 ـ 9]، وقوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ [الأنبياء: 96]

قال آخر: والرد على هذه الفرية سهل وبسيط، ولا يحتاج سوى الرجوع لتلك المصادر التي ذكرت فيها تلك الأبيات، حيث نجد أنها أبيات مولدة في العصور الإسلامية، اقتبس أصحابها بعض الأساليب والكلمات من القرآن الكريم على ما درج عليه أهل الأدب قديما وحديثا.. فنحل الشعر ونسبته لقدماء الشعراء أمر معروف لا يستطيع أحد إنكاره.

قال آخر: وقد قال بعضهم في ذلك: (وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير، لا

__________

(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير 2/ 18.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/259)

خير فيه ولا حجة في عربية ولا أدب يستفاد، ولا معنى يستخرج، ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع، ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسيب مستطرف، وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي.. وقد اختلف العلماء بعد في بعض الشعر كما اختلفت في سائر الأشياء فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه)(1)

قال آخر: وقال يذكر سبب انتحال الشعر وغيره: (فلما راجعت العرب رواية الشّعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قومٌ قلّت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسنة شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد فزادوا في الأشعار التي قيلت، وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون)(2)

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أن خلفا الأحمر كان أروى الناس للشّعر وأعلمهم بجيّده.. وكان مع روايته وحفظه يقول الشعر فيحسن، وينحله الشعراء.. وكذلك كان يفعل حمّادٌ الرواية، يخلط الشعر القديم بأبيات له، قال حماد: ما من شاعر إلا قد زدت في شعره أبياتا فجازت عليه إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قطّ غير بيت فأفسدت عليه الشعر)(3)

قال آخر: ولم يكن ذلك منكرا عند الناس، بل ربما كان مستحسنا، وقد قال بعضهم في ذلك: (كان خلف الأحمر يضرب به المثل في عمل الشعر، وكان يعمل على ألسنة الناس

__________

(1) طبقات فحول الشعراء 1/5.

(2) طبقات فحول الشعراء 1/46.

(3) العقد الفريد 2/319.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/260)

فيشبه كلّ شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه، ثم نسك فكان يختم القرآن في كلّ يوم وليلة، فلما نسك خرج إلى أهل الكوفة فعرّفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم)(1).

قال آخر: وقال آخر يذكر ذلك: (خلف الأحمر الشاعر صاحب البراعة في الآداب، حمل عنه ديوانه أبو نواس، وتوفي في حدود الثمانين ومائة، وكان راوية ثقة علّامة، لم يكن فيه ما يعاب به إلا أنه كان يعمل القصيدة يسلك فيها ألفاظ العرب القدماء، وينحلها أعيان الشعراء، كأبي داود، والإيادي، وتأبّط شرا، والشنفرى وغيرهم، فلا يفرّق بين ألفاظه وألفاظهم، ويرويها جلّة العلماء لذلك الشاعر الذي نحله إيّاها)(2)

قال آخر: بناء على هذا؛ فإن أي عارف باللغة العربية وأشعارها يعرف أن تلك الأبيات مدلسة منحولة لا علاقة لها بالشعر الجاهلي، وقد قال بعضهم عند تفسير قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: 17]: (إن الجملة الأولى تدلى على استحقاقهم أعظم أنواع العقاب عرفا، والثانية تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعا، ولم يسمع ذلك قبل نزول القرآن، وما نسب إلى امرئ القيس (قتل الإنسان ما أكفره) فلا أصل له، ومن له أدنى معرفة بكلام العرب لا يجهل أن قائل ذلك مولد أراد الاقتباس لا جاهلي)(3)

قال آخر: وقد ذكر بعضهم سبب التدليس الكثير في شعر امرئ القيس، فقال: (استفاضت أخباره على ألسنة الرواة، وزخرت بها كتب الأدب والتراجم والتاريخ، ونسجت حول سيرته القصص، وصيغت الأساطير، واختلط فيها الصحيح بالزائف،

__________

(1) المزهر 1/140. 139.

(2) الوافي بالوفيات للصفدي، 4/374.

(3) روح المعاني 30/44.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/261)

وامتزج الحق بالباطل، وتناول المؤرخون والأدباء بالبحث والنقد والتحليل، وخاصة في العصر الحديث.. وفي جميع أطوار حياته منذ حداثته وطراءة سنه، إلى آخر أيامه، قال الشعر وصاغ القريض.. وأصبح عند الناس قدر وافر من قصيده، فنحلوه كل شعر جهل قائله، أو خمل صاحبه، من جيد يعسر تمييزه عن شعره، ورديء سفساف مهلهل النسج، سقيم المعنى)(1)

قال آخر: بناء على هذا؛ فإنه إذا نسبت تلك الأبيات إلى امرئ القيس أو إلى ديوانه دون سند أو برهان، فلا شك في أنها منحولة ومكذوبة عليه.

قال آخر: لذا فإن اعتماد هؤلاء المرجفين على أشعار [فيض القدير] للمناوي مغالطة كبيرة؛ إذ إن المناوي كان اهتمامه في كتابه شرح أحاديث [الجامع الصغير] فلم يعتن بجمع الشعر، أو تمحيص رواياته، وكتابه (فيض القدير) ليس كتابا معتمدا في نقل الشعر أو نسبته، هذا فضلا عن كونه من المتأخرين، حيث توفي سنة 1029 هـ، فكيف يصبح كلامه مقدما على كلام من سبقه من أساطين اللغة، وعلماء الأدب والبيان، خاصة وأنه لم يذكر لهذه الأبيات سندا ولا مصدرا.

قال آخر: بل كيف يسوق أبياتا مكسورة.. فالبيت الأول في (دنت الساعة وانشق القمر) غير مستقيم من ناحية الوزن الشعري، فالشطر الأول مكسور، إلا لو أبدلنا (اقتربت) بـ (دنت)، وعلى ذلك بقية الأبيات، وحينئذ يتبين أن المناوي لم يكن له عناية في كتابه بذكر الشعر أو تحقيقه.

قال آخر (2): وإن أي باحث في الأدب العربي يعلم أن شعر امرئ القيس قد وجد

__________

(1) في مقدمة دراسو عن امرئ القيس وشعره، محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 4/ 275.

(2) محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 4/ 278.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/262)

عناية خاصة، وتضافرت جهود القدماء والمحدثين على جمعه وروايته ونشره، وهناك العديد من النسخ المشهورة لديوانه كنسخة الأعلم الشنتمري، ونسخة الطوسي، ونسخة السكري، ونسخة البطليوسي، ونسخة ابن النحاس وغيرها، ولا يوجد أي ذكر لهذه الأبيات في هذه النسخ، على الرّغم من أنها تذكر ما نحل عليه لتنقده، وكذلك كان أمر الدراسات المعاصرة التي عنيت بشعر امرئ القيس وما نسب إليه وخبر دواوينه، لم تذكر شيئا من هذه الأبيات لا على أنها من قوله، ولا على أنها مما نحل عليه، ومنها دراسة للأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم في أكثر من خمسمائة صفحة حول امرئ القيس وشعره، وقد ذكر فيه ما صحت نسبته إليه وما لم يصح، وما نحل عليه ومن نحله، ولم يذكر مع ذلك بيتا واحدا من هذه الأبيات السابقة.. فهل كان الأعاجم أصحاب هذه الشبهات أعلم بامرئ القيس وشعره من هؤلاء جميعا الذين عنوا بجمعه وتمحصيه ونقده!؟

قال آخر: وعلى عكس كلامهم في اقتباس القرآن، فإن ابن داود الظاهري الأصفهاني (ت: 227 هـ) عقد في كتابه (الزهرة) فصلا لما استعانت به الشعراء من كلام الله تعالى، وكان مما ذكر عن قوله سبحانه: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة: 1 ـ 2] أن الخنساء ضمنته في أبيات لها فقالت (1):

أبعد ابن عمرو من آل الشّريد... حلّت به الأرض أثقالها

فخر الشّوامخ من فقده... وزلزلت الأرض زلزالها

قال آخر (2): بالإضافة إلى ذلك، فإنه لو صحت نسبة تلك الأبياء لأصحابها، فإن هذا يدعو إلى التساؤل عن عدم مواجهة فصحاء قريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا التشابه وهم أحفظ للشعر من مستشرقي عصرنا؟ ولماذا عندما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن أو بمثل آية منه لم

__________

(1) الزهرة 1/234.

(2) محاسن الإسلام ورد شبهات اللئام: 4/ 279.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/263)

يقتبسوا من هذه الأشعار كما اقتبس هو؟

قال آخر: وقد قال الباقلاني في ذلك: (الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن، لو كانوا يعتقدونه شعرا ولم يروه خارجا عن أساليب كلامهم ـ لبادروا إلى معارضته؛ لأن الشعر مسخّر لهم مسهّل عليهم، ولهم فيه ما علمت من التصرف العجيب والاقتدار اللطيف؛ فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك ولا عولوا عليه ـ علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء في الصنعة، والمرمدون في هذا الشأن، وإن استدراك من يجيء الآن على فصحاء قريش وشعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان وبلغائهم وخطبائهم وزعمه أنه قد ظفر بشعر في القرآن، وقد ذهب أولئك النفر عنه، وخفي عليهم مع شدة حاجتهم عندهم إلى الطعن في القرآن، والغض منه، والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه، فلن يجوز أن يخفي على أولئك وأن يجهلوه ويعرفه من جاء الآن وهو بالجهل حقيق)(1)

__________

(1) إعجاز القرآن للباقلاني ص 53.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/264)

رابعا ـ القرآن.. والمبدلون

في اليوم الرابع، وبينما كنت مع معلمي أمام المسجد الجامع للمدينة، ونحن نحمد الله تعالى على تخليصها من التشكيكات التي كان يخطط المرجفون لنشرها بين عامة الناس؛ فإذا بهم، لا ينجون منها فقط، وإنما يتعلمون كل مناهج الرد عليها، مما يحصنهم في المستقبل من أي تشكيك أو تضليل، بل يجعل لهم من القدرة ما يمكنهم من تحصين أهالي كل المدن المجاورة.

بينما نحن كذلك إذا بنا نرى جموعا كثيرة تجتمع إلى الحكماء السبعة، ومعهم مجموعة كبيرة من الرجال لم أرهم من قبل، ولم تكن هيئتهم ولا سمتهم يشبه أهل تلك المدينة.

قال أحد الحكماء، وهو يشير إلى الرجال الذين حضروا معهم: لعلكم لا تعرفون هؤلاء.. ولذلك اسمحوا لنا أن نعرفكم بهم، قبل أن يتحدثوا إليكم.

قال آخر: إنهم نفر من إخوانكم الذين اعتزلوكم قبل فترة طويلة بعد أن ضاقت نفوسهم بخرافات الحشوية، وتشويهات الكشفية؛ فصاروا أكثر ميلا إلى الإلحاد منهم إلى الدين.

قال آخر: وقد تلقفهم كل المشككين؛ فزادوهم شكا إلى شكهم، ونفورا إلى نفورهم، وضلالا إلى ضلالهم.

قال آخر: ولم يكتفوا بذلك، بل راح بعض رؤسائهم يوحي إليهم أن يقاوموا كل تلك التشكيكات والتحريفات، لا بما يقاومها به الحكماء من تمييز الخبيث عن الطيب، والمنحرف عن الصالح.. بل بإلغاء الجميع، لاستبداله بما تمليه الأهواء، أهواؤهم، أو أهواء الذين شككوهم.

قال آخر: لكنهم بعد أن تأملوا وراجعوا أنفسهم وعادوا إلى أصول الإيمان التي

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/265)

كانوا عليها.. وقرؤوا القرآن الكريم بصدق وإخلاص وتدبر.. تركوا كل ما كانوا عليه.. وهدموا البناء الذي بنوه في أقصى مدينتكم، لأنهم روأه لا يختلف عن مسجد الضرار الذي هدمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر: وها هم يعودون إليكم، وهم خجلون مما كانوا عليه، ويرجون منكم أن تعذروهم لانصرافهم عنكم، واعتزالهم لكم.

قال آخر: وهم يريدون ـ مثلما فعل إخوانهم المشككون ـ أن يبثوا إليكم كل ما حصل لهم، وكل ما كانوا يفعلونه، لتحموا أنفسكم من كل من يريد أن يضللكم عن ربكم وكلماته المقدسة.

ما إن انتهى الحكماء من حديثهم هذا، حتى قام أحد المبدلين، وقال: لسنا ندري ما نقول لكم، ونحن الذين كنا نستعمل كل الوسائل لهدم مدينتكم المضمخة بعطر القرآن الكريم لنبني بدلها مدينة قائمة على الأهواء والزخارف التي أملاها علينا شياطين الإنس والجن.

قال آخر: لقد كنا نمثل بتفكيرنا وسلوكنا ما حكاه الله تعالى عن الذين ضلوا سواء السبيل، أولئك الذين ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾ [النساء: 46]

قال آخر: ووصفهم بأن ﴿قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة: 13]

قال آخر: ووصفهم بأنهم ﴿يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾ [المائدة: 41]

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/266)

قال آخر: لقد كانت هذه الآيات الكريمة منطبقة علينا تماما، لأنا لم نؤمن بالقرآن الكريم حق الإيمان؛ فقد كنا نعتبره كتابا بشريا، ومنتوجا ثقافيا، وأننا يمكننا أن نفهمه كما نشاء، ونتلاعب بألفاظه كما يحلو لنا.. ولذلك جرتنا الشياطين إلى كل أنواع الضلالة، وكيف لا تفعل، ونحن قد قطعنا الحبل الذي مده الله لنجاتنا.

قال آخر: لكن الله تعالى بمنه وكرمه أرسل إلينا هؤلاء الحكماء، الذين جادلونا بالتي هي أحسن، وقد استطاعوا بفضل الله تعالى، وبما أوتوا من العلم والتقوى، أن يجيبوا عن كل شبهاتنا، ويصلحوا كل ما فسد منا.

قال آخر: وقد طلبوا منا أن نخبركم عن كل ما حصل لنا لتصلح توبتنا، ويغفر الله لنا؛ فلا توبة لمنحرف من غير بيان.

قال آخر: وقد أخبرونا أيضا أن هناك من أصحاب الأقلام من سيسجلون كل ما نقوله، ونشهد به، ليكون ذلك موعظة للمتعظين، وعبرة للمعتبرين.

قال آخر: ولذلك سنحدثكم بحالنا.. وما حصل لنا.. وكيف تسربت الشبهات إلينا إلى أن صرنا إلى ما كنا عليه.

قال آخر: وحتى تتضح لكم صورة ما حصل لنا؛ فسنذكر لكم المراحل الأربعة التي مررنا بها، والتي قادنا فيها شياطين الإنس والجن.

قال آخر: أما أولها؛ فتلك المنابع المدنسة التي جعلتنا ننصرف عن الهدي الإلهي المقدس.. وهي لا تختلف كثيرا عن المنابع التي استقى منها الحشوية والكشفية والمشككون.

قال آخر: وأما الثاني؛ فجرأتنا على القرآن الكريم، وتعاملنا معه ككتاب عادي كسائر الكتب، بل أقل من ذلك، حيث اعتبرناه منتوجا ثقافيا لرجل كان في بيئة جاهلية، وكان كل همه تصحيح أوضاعها، لا هداية العالم أجمع.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/267)

قال آخر: وأما الثالث؛ فجرأتنا على تبديل الحقائق القرآنية عن معانيها ومواضعها، حيث رحنا نشذ عن كل ما ذكره علماء المسلمين من كل المدارس، لنجعل منها أوهاما متناسبة مع الفلسفات المادية، والحضارة الغربية، لا مع الدين الحق، ولا مع العقل السليم والفطرة النقية، ولا مع القرآن الكريم الذي حملناه ما لا يحتمل من المعاني.

قال آخر: وأما الرابع؛؛ فجرأتنا على تبديل القيم القرآنية بأنواعها المختلفة، لنجعل من أحكام الإسلام وتشريعاته أحكاما متناسبة مع أهوائنا، ومع المتآمرين علينا، والذين رأوا عدم جدوى تشكيكاتهم وتحريفاتهم؛ فراحوا يستعملوننا وسيلة لذلك الغرض الخبيث.

1. منابع التبديل

قال أحد الحضور: بورك فيكم، وفي تقواكم التي جعلتكم لا تكتفون بإسرار التوبة، وإنما رحتم تعلنونها بيننا، ونحن نطلب منكم أن تفعلوا مثلما فعل إخوانكم الحشوية والكشفية والمشككين، بأن تبصرونا بالمنابع التي جعلتكم تقعون فيما وقعتم فيه، حتى نحصن ديننا من كل من يريد تدنيسه أو تبديله أو التلاعب به.

قال أحد المبدلين: يمكننا تصنيف تلك المنابع إلى أربعة منابع، وكلها نابعة من نفوسنا الأمارة، لا من العقل ولا من الدين.

قال آخر: أما أولها وأخطرها؛ فهو كبرنا واستعلاؤنا ومحاولتنا التميز عن نظرائنا من المؤمنين، حيث رحنا نستعلي عليهم، وندعي أننا أكثر فهما للقرآن والدين منهم، بل ندعي أننا مجددون ومجتهدون، مع أننا في الحقيقة لم نكن سوى أتباعا ومقلدين لكل الحاقدين والمبغضين للقرآن والدين.

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/268)

قال آخر: وأما الثاني؛ فهو طمعنا في تلك التحفيزات التي وضعها المتآمرون على ديننا وأمتنا، حيث رحنا نقدم لهم خدماتنا مقابل دعمهم وتشجيعهم لنا.

قال آخر: وأما الثالث؛ فقد دفعنا إليه الثاني، وهو التتلمذ على أولئك الذين لا يمكن أن يشجع أو يحفز أو ينال الجوائز من لم يجعلهم أساتذته؛ فيسير على دربهم، وينسخ دينه وعقله وكل شيء لأجلهم.

قال آخر: وأما الرابع؛ فهو النتيجة التي خلصنا إليها من كل ذلك.. وهي التبعية العمياء الصماء البكماء التي لا تفرق بين الصالح والطالح، ولا بين الطيب والخبيث.. ولذلك صرنا بسببها مجرد أذناب، وإن ادعينا أننا سادة ومتنورون.. ومقلدون، وإن ادعينا أننا مجتهدون ومجددون.

أ. الكبر والتميز

قال أحد الحضور: فحدثونا عن المنبع الأول من المنابع المدنسة.

قال أحد المبدلين: إنه ذلك الذي وصفه الله تعالى بقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [غافر: 83]؛ فهذه الآية الكريمة تصف حالنا النفسية بكل دقة، ذلك أن فرحنا بما عندنا، وغرورنا بأنفسنا هو الذي حال بيننا وبين تلقي أنوار الهداية التي خص الله تعالى بها من يقرؤون كتابه.

قال آخر: ذلك أن كتاب الله عزيز، مثلما الله عزيز، ولا يناله إلا من تضمخوا بعطر التواضع والعبودية؛ فلم يستكبروا على الله ولا على عباده ولا على كتابه.

قال آخر: كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [السجدة: 15 ـ 16]، وقال: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

القرآن.. وانتحال المبطلين (2/269)

مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: 107 ـ 109]؛ فالسجود الذي يمارسه هؤلاء عند سماعهم للقرآن الكريم ليس مجرد حركات جسدية، بل هو ينبع من كل لطائفهم التي تعلن خضوعها لله، ولكلماته المقدسة.

قال آخر: ولذلك يصيبها الوجل عند تلاوة كلام ربها لمعرفتها بعظم الكلام والمتكلم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 2 ـ 4]

قال آخر: ولذلك كان فعل القرآن الكريم عكسيا فينا، لأننا لم نستقبل هداية الله بقلوب واعية متواضعة، وإنما بكبر وتعال، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 123 ـ 125]

قال آخر: وهكذا؛ فإن كل الآيات التي تخبر عن المجادلين المستكبرين كانت تنطبق علينا، ذلك أنا لم نكن نقدم علما، ولا بحثا، وإنما كنا نقدم سفسطة وجدلا.

قال آخر: ولذلك كان ينطبق علينا تماما قوله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا﴾ [الكهف: 56]، وقوله: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غافر: 4 ـ 5]، وقوله: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِي