×

الكتاب: القرآن.. وانتحال المبطلين ج1

الوصف: رواية حول الشبهات المثارة على القرآن الكريم والرد عليها

السلسلة: التنزيل والتأويل

المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية مزيدة ومنقحة، 1443 هـ

عدد الصفحات: 515

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-4-72151-4

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

هذا الكتاب هو المقدمة الضرورة الرابعة لهذه السلسلة، ويتناول القسم الثاني من أقسام المنحرفين عن القرآن الكريم، وهو القسم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [انتحال المبطلين]

ومن خلال تحليل ذلك التعبير النبوي المقدس، رأينا أن المقصود منه تلك الجهات التي تريد نشر الباطل، وتشويه الحق، لا بالمواجهة المباشرة، وإنما بالانتحال، وأصناف الحيل.

وقد رأينا من خلال استقرائنا للواقع أن ذلك الانتحال قد تم من طرف أربع جهات، أولها وأسبقها من يطلق عليهم لقب [الحشوية]، وهم أولئك الرواة والمدلسين الذين امتلأت بهم كتب الحديث والتفسير، والذين كان لهم دور كبير في نشر الخرافة والدجل والشعوذة وتشويه الحقائق والقيم القرآنية.

وأما الجهة الثانية؛ فيمثلها من أطلقنا عليهم لقب [الكشفية]، وهم أولئك الذين اعتبروا الكشف والإلهام المجرد أداة من أدوات تأويل القرآن الكريم وتفسيره وفهمه، من غير مراعاة لأي ضابط أو قانون.

وأما الجهة الثالثة؛ فيمثلها من أطلقنا عليهم لقب [المشككين]، ونقصد بهم كل من حاول أن يشكك في القرآن الكريم، ابتداء من السابقين من المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المبشرين والمستشرقين والحداثيين وغيرهم.

وأما الجهة الرابعة؛ فيمثلها من أطلقنا عليهم لقب [المبدلين]، ونقصد بهم كل الذين حاولوا أن ينحرفوا بالقرآن الكريم عن معانيه الظاهرة الواضحة التي فهمها المتقدمون والمتأخرون إلى معاني بديلة، متأثرين في ذلك بموجة الحداثة الغربية ومناهجها المختلفة، ولذلك تعاملوا مع القرآن الكريم، مثلما تعامل حداثيو الغرب مع الكتاب المقدس، من غير أن يراعوا الفوارق بين الكتابين.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/7)

مقدمة الكتاب

هذا الكتاب هو المقدمة الضرورة الرابعة لهذه السلسلة، ويتناول القسم الثاني من أقسام المنحرفين عن القرآن الكريم، وهو القسم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [انتحال المبطلين]

ومن خلال تحليل ذلك التعبير النبوي المقدس، رأينا أن المقصود منه تلك الجهات التي تريد نشر الباطل، وتشويه الحق، لا بالمواجهة المباشرة، وإنما بالانتحال، وأصناف الحيل.

وقد رأينا من خلال استقرائنا للواقع أن ذلك الانتحال قد تم من طرف أربع جهات، أولها وأسبقها من يطلق عليهم لقب [الحشوية]، وهم أولئك الرواة والمدلسين الذين امتلأت بهم كتب الحديث والتفسير، والذين كان لهم دور كبير في نشر الخرافة والدجل والشعوذة وتشويه الحقائق والقيم القرآنية.. وقد رأينا تأثرهم خصوصا باليهود، وعلى رأسهم كعب الأحبار الذي تتلمذ عليه وعلى تلاميذه الكثير من الذين حشوا الدين بتلك الأباطيل.

وأما الجهة الثانية؛ فيمثلها من أطلقنا عليهم لقب [الكشفية]، وهم أولئك الذين اعتبروا الكشف والإلهام المجرد أداة من أدوات تأويل القرآن الكريم وتفسيره وفهمه، من غير مراعاة لأي ضابط أو قانون.

ولذلك أدخلوا في تأويل القرآن الكريم من حيث لا يشعرون الكثير من الخرافات والأباطيل التي حاولت إلغاء قدسيته، وتحريف معانيه.. وقد رأينا تأثرهم أيضا ببعض الفلسفات والديانات القديمة، والتي لا سند لها من العقل أو من النقل.

وقد اخترنا تلقيبهم بهذا، بدل تلقيبهم بأهل العرفان، لنميز أهل العرفان الصحيح،

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/8)

والذين يهتمون بالسلوك والتربية والمعاني النبيلة والأذواق السامية، عن أولئك الذين يهتمون بالكشف عن أسرار الكون من غير أي برهان ولا دليل سوى تلك الكشوف والإلهامات التي يدعونها، والتي لا تملك العصمة الكافية لاعتبارها أدوات للمعرفة الحقيقية المقدسة.

وأما الجهة الثالثة؛ فيمثلها من أطلقنا عليهم لقب [المشككين]، ونقصد بهم كل من حاول أن يشكك في القرآن الكريم، ابتداء من السابقين من المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المبشرين والمستشرقين والحداثيين وغيرهم.. والذين استعملوا سلاح التشكيك، وسيلة لإلغاء قداسة القرآن الكريم، وذلك عبر بث شبه وإشكالات يكررونها بصيغ مختلفة.

وأما الجهة الرابعة؛ فيمثلها من أطلقنا عليهم لقب [المبدلين]، ونقصد بهم كل الذين حاولوا أن ينحرفوا بالقرآن الكريم عن معانيه الظاهرة الواضحة التي فهمها المتقدمون والمتأخرون إلى معاني بديلة، متأثرين في ذلك بموجة الحداثة الغربية ومناهجها المختلفة، ولذلك تعاملوا مع القرآن الكريم، مثلما تعامل حداثيو الغرب مع الكتاب المقدس، من غير أن يراعوا الفوارق بين الكتابين.

وقد قسمنا فصول الكتاب إلى أربعة أقسام، كل قسم يضم صنفا من أصناف المبطلين، وقد راعينا فيه ما راعيناه في كل أجزاء هذه السلسلة، وأول ذلك تبسيط القضايا المطروحة قدر الإمكان، بحيث يفهمها الجميع، وبسهولة ويسر، ومن غير إخلال بالمعاني المطروحة، وقد كان للحوار والجانب الروائي دور كبير في ذلك.

بالإضافة إلى محاولة استيعاب كل ما يرتبط بتلك الجهات التي ذكرناها، إما بالتعريف بها، أو بالمنابع التي تستقي منها، أو بالشبهات والإشكالات التي تطرحها، أو بالردود العلمية عليها.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/9)

ومن الأمثلة على ذلك أننا في الفصل الثالث المرتبط بالمشككين، تحدثنا عن المدارس الاستشراقية، وإشكالاتها المختلفة، مع الرد العلمي عليها، ومن الجهات المتعددة، بحيث يشكل ذلك مادة كافية لكل من يريد أن يطلع على موقف المستشرقين من القرآن الكريم، وشبههم نحوه، وكيفية الرد عليها.

ومثل ذلك فعلنا في الفصل الخاص بالمبدلين، والذي تحدثنا فيه عن الحداثيين والقرآنيين، حيث عرفنا بهم، وبالمنابع التي يستمدون منها، والمناهج التي يعتمدونها، والأفكار التي يطرحونها، مع الرد العلمي عليها.

وهكذا فعلنا في سائر الفصول، مع العلم أن تفاصيل الردود في بعض المسائل أو الكثير منها تركناه لمحله في سائر أجزاء السلسلة، لأن غرض هذا الجزء هو التعرف على الباطل الذي حاول أن يقتحم حصن القرآن الكريم وقداسته، وليس الرد المفصل الذي يحتاج إلى المقدمات الكثيرة.

أما الجانب الروائي من الكتاب؛ فهو يحكي رحلة المؤلف مع أستاذه الجديد [معلم الحقائق] إلى مدينة قرآنية جميلة، تنعم بكل البركات والخيرات بفضل تمسكها بالقرآن الكريم، لكن المبطلين أرادوا أن ينحرفوا بها عنه، ولذلك أرسلوا لها أولئك الأصناف الأربعة من الحشوية والكشفية والمشككين والمبدلين.

لكن الله تعالى قيض لها من الحكماء من يحاوروا أولئك الأصناف، ويناقشوهم في شبهاتهم وإشكالاتهم إلى أن استطاعوا أن يهدوهم سواء السبيل، وهو ما حمى المدينة من كل تلك الأباطيل، ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الأنفال: 8]

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/10)

البداية

بعد أن طلب مني معلم القرآن أن أهيء نفسي للرحلة الخاصة بتعلم ما يتعلق بـ[القرآن.. وانتحال المبطلين] رحت أبحث في الأسفار القديمة والحديثة عن المبطلين المضللين الذين أبى عليهم كبرهم واستعلاؤهم التسليم لكلمات الله المقدسة، والإذعان لها، والاستفادة مما فيها من حقائق ينادي كل شيء بصدقها.

أولئك الذين لم يكتفوا بكلمات ربهم؛ وإنما راحوا يعقدون حلفهم مع كل شياطين الإنس والجن، ليشوهوا تلك الأنوار المقدسة التي ملأ الله بها حياة عباده، ليوهموهم أنها ليست سوى دياجير وظلمات، لأن أعينهم كأعين الخفافيش لا تطيق العيش إلا في الظلمات.

وبعد أن رأيت كثرتهم وكثرة الشبهات والأباطيل التي يقذفونها، أصابني ضيق شديد؛ لأني خشيت على نفسي ـ أنا العبد البسيط الضعيف ـ أن يتسرب إلي من أوهامهم وتضليلاتهم وتشكيكاتهم ما يفسد علي ديني، وهو أغلى ما أملك، بل كل ما أملك.

وقد تذكرت حينها أقوال مشايخ التقوى والورع، والذين نصحوا كل ضعيف بالابتعاد عن مواضع الفتنة والشبه، حتى لا تتسرب إلى قلبه وعقله وروحه ولطائفه؛ فتفسد عليه صبغة الله الصافية التي صبغه بها، وفطرته الجميلة النقية التي جبله عليها.

وقد اشتد ذلك الخاطر على نفسي إلى درجة أني قررت، أو تجرأت أن أرفع يدي إلى السماء، ثم أقول: يا رب.. أنا عبدك الضعيف؛ فجنب عقلي ما يشوشه، وجنب نفسي ما يكدرها، وجنب قلبي كل الأهواء التي تحول بينه وبين رؤية الحقائق الصافية الجميلة، كما هي بصفائها وجمالها.. فأنا لا أريد علما يحولني إلى جاهل، ولا عقلا يحولني إلى ضال.

بعد أن قلت ذلك الدعاء، توهمت أو زينت لي نفسي أن معلم القرآن سيحضر

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/11)

شخصيا، ليخبرني عن إلغاء تلك الرحلة المقررة، والدخول مباشرة إلى عالم الحقائق والقيم القرآنية من دون الولوج على تلك السراديب والمستنقعات.

لكن الأمر لم يكن كذلك.. فما هي إلا لحظات بعد انتهائي من الدعاء، حتى شعت أنوار في البيت، وفي منتصف الليل.. فخرجت أنظر إلى مصدرها، وإذا بي أرى شخصا لا يختلف عن سائر المعلمين، قال لي: لقد استجاب الله دعاءك.. وها أنذا بين يديك، أرسلني معلم القرآن إليك.. لأسير بك حيث يزداد تمسكك بكتاب ربك، وبالحقائق العظيمة التي جاء بها.

لم أملك إلا أن أسجد لله تعالى شاكرا، لكني ما إن قمت من سجودي، حتى قال لي: خذ قلمك وقراطيسك ودواتك، لنسير إلى تلك الرحلة التي طلب منك معلم القرآن أن تهيء نفسك لها.

قلت ـ من حيث لا أشعر ـ: لكن.. ألم تُلغَ تلك الرحلة؟.. لقد توهمت أن الله استجاب دعائي عندما طلبت منه أن يجنبني الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

قال: أجل.. لقد استجاب الله دعاءك لا على ما ترغب، بل على ما تقتضيه تربيتك وإصلاحك.. فالله رب العالمين، وهو أكرم من أن يستجيب لعباده فيما قد يضر بتربيتهم وصلاحهم.

قلت: لكن كيف ذلك؟

قال: ألم تطلب في دعائك صفاء الروح، وسلامة القلب والعقل.. وأن يظل تمسكك بالحق قائما ثابتتا لا تزعزعه الأعاصير؟

قلت: أجل.. ولكن هذه الرحلة قد تتسبب فيما أخشاه على نفسي من الفتنة، وعلى قلبي من الكدر، وعلى عقلي من التشويش.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/12)

قال: بل ستكون سببا فيما طلبته.. فالحق الذي تخشى عليه الأعاصير وهم وليس حقا.. والحق الذي لا يثبت في وجه كل باطل سراب لا يطفئ ظمأك.. ألم تسمع قوله تعالى في وصف الكلمة الطيبة التي تصف الحقائق المقدسة: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم: 24 ـ 25]؟

قلت: بلى.. وقد سمعت معها قوله تعالى في وصف الأباطيل المدنسة: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ [إبراهيم: 26]

قال: فاسمع معها قوله تعالى بعدها في وصف عباده الصادقين المخلصين: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27].. فالله تعالى وعد عباده الصادقين بالثبات في وجه كل الفتن والأعاصير، ما داموا قد سلموا كل شؤونهم له.. وقد أخبر أن الضلال مصير الظالمين المستعلين المستكبرين لا العبيد المتواضعين.

قلت: لكني أخشى ألا أكون أهلا لذلك التثبيت.. فالله تعالى لا يعطي عباده إلا بحسب استعداداتهم.

قال: ستكتشف ذلك بنفسك، وحينها، سترى كيف تعالجها، فالتشخيص نصف العلاج، وأن تكتشف خطأك في هذه الدنيا؛ فتصححه، خير من أن تذهب به إلى تلك الدار، ولات ساعة مندم.

قلت: وعيت هذا.. لكني لم أدرك كيف يكون الضلال الذي تريد مني أن أرحل إليه سببا للهداية.. وهل يمكن للغواية أن تكون طريقا للهداية؟

قال: لاشك أنك من قوم يرددون كثيرا (الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/13)

إلا المرضى)

قلت: صحيح.. وهو ليس مجرد مثل أو حكمة.. بل هو واقع؛ فالإنسان السليم المعافى لا يشعر بنعمة العافية والصحة إلا بعد أن يقع في المرض.

قال: لكنه قد لا يمرض، ومع ذلك يشعر بنعمة الصحة.

قلت: أجل.. وخاصة إن زار المرضى، ورأى آلامهم، حينها يشعر بنعمة الله عليه بالعافية.

قال: وهذا ما سنفعله.. فعندما ترى المرضى الذين تدنست أرواحهم بوحي الشياطين، ستعرف قيمة تسليمك وإذعانك لوحي ربك.

قلت: بورك فيك.. لقد ذكرتني برحلتي مع معلمي إلى النبي المعصوم.. فقد قال لي كلاما شبيها بهذا.. وبالفعل؛ فعندما سمعت كل شبهات المغرضين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسمعت ردود الحكيم عليها، ازاد تعلقي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أضعافا مضاعفة على ما كان عليه.

قال: وهكذا في هذه الرحلة، فسيزداد حبك لكتاب ربك، وعشقك له.. وسيصحبك فيها سبعة من الحكماء، وليس حكيما واحدا.

قلت: سبعة.. لقد ذكرتني بالحكماء السبعة الذين استطاعوا أن يجتثوا داء الطائفية من أصولها.. أولئك الذين دلني معلم السلام عليهم.. والذين ذكرتهم في كتاب [الطائفيون والحكماء السبعة].. لكني لم أتشرف بلقياهم، وقد ظللت متحسرا على ذلك.

قال: فستلقاهم في هذه الرحلة؛ فهم سيرافقونك فيها.. وفي كل محل من المحال التي تذهب إليها..

استبشرت كثيرا بذكر هؤلاء الذين عرفتهم في شبابي الباكر، وقلت: وأنت.. أي معلم تكون؛ فأنت لم تعرفني عن نفسك بعد؟

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/14)

قال: أنا نقطة تحت الباء.

قلت: كلكم كذلك.. فمن أنت من بينهم؟

قال: أنا معلم الحقائق التي لم تتدنس بالأهواء.. وقد اكتسبت هذا بتلمذتي الخالصة على القرآن الكريم؛ فلا يمكن للحقائق أن تتقدس من دونه.

قلت: لقد كان كل المعلمين في رحلاتي السابقة، يخبرونني عن مسار رحلتي، لأكون على بينة من أمري.

قال: ستسير في هذه الرحلة إلى مدينة تمتلئ بالصفاء والنور والسلام، وهي تمثل القرآن الكريم أحسن تمثيل.. لكن شياطين الإنس والجن، راحوا يستعملون كل الوسائل لتحويلها عن صفائها وطهارتها.. ومن جملتها نشر الأباطيل والشبه حول القرآن الكريم؛ لأنهم يعلمون أن كل ما في تلك المدينة من بركات، سببها تمسكهم به، وإخلاصهم له.

قلت: فأنت تريد مني في رحلتي هذه أن أشارك الحكماء في مواجهتهم لتلك الأباطيل؟

قال: لا.. دورك محصور في دواتك وقلمك وقراطيسك.. فتلك الشبه التي غزت تلك المدينة غزت غيرها.. ونحن نريد من الحكمة التي ستُبث في تلك المدينة أن تنتشر إلى غيرها عبر تسجيلك لكل ما يحصل، وبدقة، كما عهدنا منك.

قلت: وعيت هذا.. فمن هم المبطلون الذين يريد الحكماء أن يقضوا على انتحالاتهم؟

قال: هم أربعة أصناف، تجتمع عندهم كل أصناف الأباطيل والمبطلين.

قلت: فما أولها؟

قال: الحشوية والمدلسون والوضاعون والكذابون.. أولئك الذين راحوا يدسون في تفسير الوحي المقدس كل ما أملت عليهم شياطينهم من الوحي المدنس.. فتمكنوا من

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/15)

تحريف المعاني بعد أن استعصى عليهم تحريف الألفاظ، وتشبهوا في ذلك بما أخبر الله تعالى به عن الأمم السابقة حين قال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 13]

قلت: فما الثاني؟

قال: الكشفية والغنوصيون الذين استعملوا الكشف والإلهام وسيلة لمزاحمة النبوة، بل ومعارضتها، وحولوا كتاب ربهم الذي يسره للذاكرين المتدبرين إلى ألغاز وطلاسم غامضة لا يفهمها إلا من يمر على أوكارهم، ويستمع لما يوحي شياطين الإنس والجن إليهم.

قلت: فما الثالث؟

قال: المشككون.. أولئك الذين أصغوا لأصحاب القلوب المريضة من الشرق والغرب، والقديم والحديث؛ فامتلأت نفوسهم بالشكوك والأوهام التي منعتهم من تقديس كلمات ربهم ا لمقدسة، أو الإذعان لها، ولذلك حرموا من الاستفادة منها؛ ففضل الله يأبى أن يتنزل على من يرفضه أو يرتاب فيه.

قلت: فما الرابع؟

قال: المبدلون والمغيرون الذين اغتروا بعقولهم ودنياهم؛ فتوهموا أنهم فهموا من القرآن الكريم ما لم يفهمه غيرهم.. ولذلك بدل أن يرتقوا به إلى سموات الحقيقة والجمال، راحوا ينزلون به إلى نفوسهم المدنسة بالأهواء والضلال.. ويدخل فيهم ومعهم أولئك الذين راحوا يزكون أنفسهم بكونهم قرآنيين؛ فلذلك ادعوا أنهم في غنى عن كل بيان حتى لو كان بيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو ورثته الصادقين المخلصين.

 ـ  ـ  ـ

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/16)

بعد أن سمعت تلك الكلمات الطيبة من معلمي الجديد، وجدت نفسي في مدينة جميلة، بل في غاية النظام والجمال؛ فقد كانت الروائح الطيبة تملأ نسيمها العليل.. وكانت معه أصوات عذبة للقرآن الكريم، وفي كل المحال التي مررت بها.. أما أهلها؛ فلا يمكن أن أصف ما كانوا عليه من صحة وعافية وقوة.. وفوق ذلك ما يعلو أساريرهم من سلام وطمأنينة وأنوار.. وفوق ذلك ما يطبع علاقاتهم من رحمة ولطف ولين.

فسألت معلمي عن المدينة، وسرها، ومحلها، فقال: هذه مدينة الصادقين مع كلام ربهم.. لقد تنزلت عليهم البركات من كل الجهات.. بسبب ذلك التمسك الصادق.

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى عن أهل الكتاب من قبلنا: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 66]

قال: هي في كل الكتب؛ فعدالة الله ولطفه بعباده يأبيان أن يميزا أمة عن أمة.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف: 170]؟

قلت: بلى.. وقد سمعت معها قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: 29 ـ 30]

قال: وقد قال بعدها: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [فاطر: 31] ليبين أنه لا يمكن التمسك بالكتاب، ولا التحقق بمعانيه، ولا الارتفاع إلى قيمه قبل الإيمان بكونه حقا من عند الله.. فالحقيقة قبل التحقق.

قلت: أجل.. وقد أخبر بعدها عن الوارثين لكتاب الله، وبين المواقف منهم؛ فقال:

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/17)

﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر: 32]، ثم ذكر المصير الذي يصيرون إليه، فقال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ [فاطر: 33 ـ 35]

قال: فهذه الآيات الكريمة تصف هذه المدينة، وتصف أهلها الصادقين الذين أبت لهم همهم العالية أن يكونوا من الظالمين أو المقتصدين.. بل راحت تطلب السبق والقرب.. وقد آتاها الله ما طلبت.

قلت: ولكن يا معلمي.. ما علاقة هذه المدينة بالمبطلين وانتحالاتهم الكاذبة؟

قال: بعد أن سمع المبطلون بهذه المدينة، اجتمعوا بقضهم وقضيضهم ليتآمروا عليها؛ فيفسدوا عليها صفاءها وجمالها وبركاتها.. وقد استغلوا في ذلك طيبة أهلها، وإكرامهم لكل ضيف، وسماعهم لكل حديث بحسن نية.

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة: 61].. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصدق المؤمنين، ويحكم على ظواهرهم، حتى اتهم بكونه أذنا يسمع لكل حديث، ويمر عليه نفاق المنافقين، وكيد الكائدين.

قال: لقد كان لأهل هذه المدينة بعض هذه الصفات.. فهم يحسنون الظن بكل أحد.. ولذلك أرسلنا معلم القرآن لننقذ المدينة من كيدهم ومكرهم؛ فهم ـ مع صدقهم وإخلاصهم ـ ليسوا مؤيدين ولا مسددين بالوحي الذي كان يسدد ويؤيد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/18)

فيعرف المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب.

قلت: ألهذا أرسل الحكماء لتنبيههم؟

قال: أجل.. فقد آتى الله الحكماء من العلم ما يميزون به بين الحق والباطل.. وهم ورثة النبوة في ذلك.. ألم تسمع قوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 269]

قال: فقد آتى الله هؤلاء الحكماء الحكمة بسبب تلاوتهم الحقة للقرآن الكريم، وإدمانهم عليها، وكثرة تدبرهم لما يتلونه.

قلت: فهلا سرت بي إليهم.. فقد شوقتني إلى رؤيتهم بعد أن عرفت دورهم الكبير في منع الحرب بين الطائفتين الكبيرتين من المسلمين (1).

قال: نحن سائران إليهم.. أو هم سائرون إلينا.. وسنلتقي في المحل الذي شاء الله أن نلتقي فيه.

__________

(1) نشير إلى ما ذكرناه في كتاب [الطائفيون والحكماء السبعة]

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/19)

أولا ـ القرآن.. والحشوية

بعد أن قطعنا مسافات طويلة في تلك المدينة، ونحن لا نشم إلا الروائح الطيبة، ولا نسمع إلا الأصوات العذبة، ولا نشاهد إلا الطيبين المتواضعين الذين يصدق عليهم ما وصف الله به عباده الصالحين من المخبتين وعباد الرحمن والمتبتلين وغيرهم.. إذا بي أرى حلقة كبيرة يجتمع فيها بعض سكان المدينة مع مجموعة من المشايخ، وقد تعجبت عندما شممت رائحة كريهة تنبعث منهم، فتوقفت، وقلت للمعلم: ما الذي حصل؟.. أرى أن البركات قد توقفت هنا.

قال: أجل.. ففي هذه الحلقة ينشر هؤلاء المشايخ سمومهم التي ورثوها من الفئة الباغية، وأصحاب الملك العضوض، لتحريف معاني القرآن الكريم بعد أن عجزوا عن تحريف ألفاظه.. وقد انتقوا لذلك بعض من شموا منهم روائح ضعف الإيمان؛ فراحوا يغرونهم بالأموال، ليحولوهم إلى أدوات ينخرون بها وحدة المدينة وقوتها وجمالها.

قلت: ويل لهذه المدينة إذن من هؤلاء، ومما يعد لها.. فستتحول روائحها الطيبة إلى هذه الروائح الكريهة التي تتقزز منها النفس.

قال: لا تخف.. فبسبب كثرة ما في المدينة من الصادقين والمخلصين والصالحين، أرسل الله لهم من الحكماء من ينقذهم.

قلت: لقد ذكرتني بقصة الخضر مع موسى عليهما السلام، فقد أخبر الله عن العلة التي ذهبا بسببها إلى ذلك الجدار الذي يريد أن ينقض لإصلاحه، فقال: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [الكهف: 82]

قال: أجل.. فبركات الصالحين، لا تقتصر عليهم، ولا على أهليهم، بل تشمل كل

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/20)

من يحيط بهم؛ فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.

قلت: فسيخلصهم الحكماء من هؤلاء الدجالين الحشوية المدلسين في النهاية إذن؟

قال: أجل.. وسترى كيف سيخلصونهم بعدها من كل المبطلين وأباطيلهم.. لا تنس أن تكتب كل ما يذكرونه حتى تعم حكمتهم سائر المدن.

1 ـ تعظيم المدنس

ما إن قال معلمي هذا، حتى سمعت أحد الشيوخ الجالسين في الحلقة يقول بغضب شديد: كيف تسمعون لمن يشكك في ذلك الحبر الكبير، والإمام العظيم من أئمة الإسلام.. كعب الأحبار.. ذلك الذي شهد له بالعلم السلف والخلف، ابتداء من كبار الصحابة والتابعين؟

قال آخر: فهل أنتم أفضل من أولئك الصحابة والتابعين الذين رووا عن كعب الأحبار، أو تتلمذوا على يديه، من أمثال (أبي هريرة وعمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي بردة بن أبي موسى الأشعري وروح بن زنباع وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وأنس بن مالك وأبي الدرداء)(1)

قال آخر: ألم تعلموا المكانة العظيمة التي توفرت له في المدينة النبوية، حيث استطاع أن يربي مجموعة من التلاميذ الكبار، كأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وغيرهم كثير (2).. ولم يكتف بذلك، بل سعى بكل جهده لرفع مكانتهم، ومساعدتهم في نشر العلم بين المسلمين، فقد قال عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنت أفقه العرب.. ودعا الناس لسؤاله، ولما أجابهم، قال: (صدق الرجل.. عالم والله)(3).. ومدح أبا هريرة

__________

(1) ميزان الاعتدال 4/ 173 وتهذيب التهذيب 8/ 439.

(2) تفسير ابن كثير 3/ 104.

(3) تاريخ الطبري 1/ 402.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/21)

فقال: (ما رأيت أحدا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة)(1)

قال آخر: وقد استطاع فوق ذلك أن ينشر علمه وتفسيره للقرآن الكريم، ويكشف كل المشكلات المرتبطة بالعقيدة في الله وأنبيائه من خلال الروايات الكثيرة التي تلقتها الأمة بالقبول عنه، أو عن تلاميذه وزملائه من أمثال وهب بن منبه، وابن جريج، وابن إسحاق، والسدي الكبير وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهد.. وغيرهم كثير.

قال آخر: وقبل ذلك كله.. ألم يعلموا ما قاله ابن كثير في بيان علاقته الجيدة مع الخليفة الثاني عمر، فقد قال: (فإن كعب الأحبار لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب بأشياء من علوم أهل الكتاب، فيستمع له عمر تأليفا له وتعجبا مما عنده مما يوافق كثير منه الحق الذي ورد به الشرع المطهر، فاستجاز كثير من الناس نقل ما يورده كعب الأحبار لهذا المعنى، ولما جاء من الإذن في التحديث عن بني إسرائيل)(2)

قال آخر: بل ورد من الروايات ما يدل على كونه أسلم على يديه، فقد ذكر المؤرخون أنه أسلم في زمان عمر، حيث أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر، فقال: يا كعب أسلم، قال ألستم تقرأون في كتابكم ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة: 5]، وأنا قد حملت التوراة، فتركه، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص.. ثم عاد كعب إلى المدينة وأعلن إسلامه بعد أن فكر جيدا فيما قاله له عمر (3).

قال آخر: ومنذ ذلك اليوم صار مقربا جدا من عمر، ومما يروى من شدة العلاقة بينهما، أنه قال له: يا أمير المؤمنين هل ترى في منامك شيئا؟.. فانتهره، فقال: إنا نجد رجلا

__________

(1) تذكرة الحفاظ 1/ 36، الإصابة 4/ 206.

(2) البداية والنهاية (1/ 34 ـ 35)

(3) فضائح يهود متلبسون بالإسلام، ص 14.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/22)

يرى أمر الأمة في منامه (1).

قال آخر: بل ورد من الروايات ما يدل على كونه كان مستشاره الديني الخاص، فقد قال ابن تيمية عنه: (لما دخل عمر بن الخطاب البيت المقدس، وأراد أن يبني مصلى للمسلمين، قال لكعب؟ أين أبنيه؟ قال ابنه خلف الصخرة، قال: خالطتك يهودية يا ابن اليهودية؛ بل أبنيه أمامها ـ وذلك لأن اليهود تعظم تلك الصخرة ـ ولهذا كان عبد الله بن عمر إذا دخل بيت المقدس صلى في قبليه ولم يذهب إلى الصخرة، وكانوا يكذبون ما ينقله كعب: أن الله قال لها: أنت عرشي الأدنى ويقولون: من وسع كرسيه السموات والأرض كيف تكون الصخرة عرشه الأدنى؟)(2)

قال آخر: ومن تلك الروايات ما روي أن عمر قال لكعب: أنشدك الله يا كعب أتجدني خليفة أم ملكا؟ قال: بل خليفة فاستحلفه، فقال كعب: (خليفة والله من خير الخلفاء وزمانك خير زمان)(3)

قال آخر: ومثل ذلك تلك الروايات التي تذكر علاقته مع عائشة، وكيف كانت تستشيره، فقد روي عن عبد الله بن الحارث قال: كنت عند عائشة وعندها كعب الحبر، فذكر إسرافيل، فقالت عائشة: يا كعب أخبرني عن إسرافيل، فقال كعب: عندكم العلم، فقالت: أجل فأخبرني، قال: له أربعة أجنحة جناحان في الهواء، وجناح قد تسربل به، وجناح على كاهله، والعرش على كاهله، والقلم على أذنه، فإذا نزل الوحي كتب القلم، ثم درست الملائكة، وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه، وقد نصبت الأخرى، فالتقم الصور، محني ظهره شاخص بصره إلى إسرافيل، وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحه

__________

(1) مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور 18/ 287.

(2) مجموع الفتاوى (15/ 153)

(3) رواه نعيم بن حماد في الفتن، ص 241.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/23)

أن ينفخ في الصور، فقالت عائشة: (هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول)(1)

قال آخر: وهكذا رووا عن عبد الله بن الزبير أنه قال: (ما أصبت فى سلطانى شيئاً إلا قد أخبرنى به كعب قبل أن يقع).. ورووا عن معاوية قوله: (ألا إنَّ أبا الدرداء أحد الحكماء، ألا إنَّ عمرو بن العاص أحد الحكماء، ألا إنَّ كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عنده علم كالثمار وإن كنا المفرطين)(2)

قال آخر: وكيف لا تكون له كل تلك المناقب والمكارم والفضل، وهو الذي جمع بين الحسنيين، بين كتاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكتاب موسى عليه السلام، وقد ورد في الحديث في فضائل عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه قال: (رأيت فيما يرى النائم لكأن في إحدى أصبعي سمنا وفي الأخرى عسلا فأنا ألعقهما، فلما أصبحت ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (تقرأ الكتابين التوراة والفرقان، فكان يقرؤهما)(3)

قال آخر: وكل هذا يدل على أن كمال المؤمن ليس في أخذه من القرآن الكريم، واقتصاره عليه فقط.. بل الكمال في أن يأكل السمن مع العسل.. وينهل من القرآن ومن كتب أهل الكتاب.

قال آخر: وكيف لا يكون الكمال في ذلك.. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ـ كما يذكرنا شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من مشايخ السلف ـ كان يستفيد من اليهود، ويفرح لما يلقونه له من العلم بالله، وقد ورد في الحديث الذي ورد في صحيح البخاري أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا محمد إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول

__________

(1) رواه الطبراني في الأوسط، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 331)

(2) الإصابة في تمييز الصحابة (5/ 650)

(3) أحمد 2/ 222 (7067)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/24)

الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67])(1)

قال آخر: لقد فرح شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية وسلفه وخلفه بهذا الحديث فرحا عظيما حتى اعتبروه أصلا من أصول الدين، بل اعتبروه من الأحاديث الدالة على صفات الله عز وجل وكمالاته، وقد بنى عليه اعتبار الإصبع صفة من صفات الله تعالى، فقد قال في كتابه [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية]: (وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، وأنه عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع)(2)

قال آخر: بل إنه ـ بحذقه وذكائه وحضور بديهته وعلمه العظيم ـ استطاع أن يكتشف من خلاله كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستمع لأحاديث اليهود، ويصدقها، ثم يأتيهم بالآيات التي تدل على ما قالوا، لقد قال: (وكان اليهود إذا ذكروا بين يديه أحاديث في ذلك يقرأ من القرآن ما يصدقها كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن يهودياً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يوم القيامة يمسك السموات على إصبع..)(3)

قال آخر: وقد قال ذلك في مواضع كثيرة، ولذلك هو يقبل أحاديث كعب الأحبار وغيره من اليهود، لأن مرجعهم فيما يذكرونه هي التوراة الصحيحة، ومن الأمثلة على ذلك قوله في كتابه دقائق التفسير: (وعمر بن الخطاب لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال: يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها، فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به، ولم يجزم عمر بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما

__________

(1) رواه البخاري (9/ 148)(7414) ومسلم (4/ 2147)

(2) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 112)

(3) درء التعارض 7/ 96

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/25)

فيها، والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما ما أنزله الله عز وجل، والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر، ولا حاجة بنا إلى ذكره، ولا علم لنا بذلك، ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد، فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختياره)(1)

قال آخر: وهذا ليس موقفا خاصا بابن تيمية، فقد قال العلامة ابن العثيمين في تفسير سبب ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سبب ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو سروره حيث جاء في القرآن ما يصدق ما وجد هذا الحبر في كتابه، لأنه لا شك أنه إذا جاء ما يصدق القرآن، فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سوف يسر به، وإن كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعلم علم اليقين أن القرآن من عند الله لكن تضافر البينات مما يقوي الشيء)(2)

قام بعض الجالسين، وقال: لكن مع كل ما ذكرتموه عن كعب الأحبار، وفضله، ومكانته في الدين إلا أني قرأت أن من الصحابة أنفسهم من يتهمه بالكذب، والقاعدة التي نعرفها في التعامل مع هؤلاء هو أن من عرف الكذب عنه، ولو مرة واحدة يطرد من قائمة الرواة الموثوقين.

قال أحد الحشوية: كل ذلك مدسوس وكذب؛ فكعب الأحبار وغيره، من العلماء العدول الثقاة، كانوا مقربين جدا من الصحابة، بل من كبارهم، ولسنا أحرص على الدين من الصحابة.

قال آخر: لقد كتب بعض أصحابنا من الملتزمين بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمنافحين عنها

__________

(1) دقائق التفسير (2/ 58)

(2) القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 363.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/26)

رسالة في الدفاع عنه سماها [كعب الأحبار المفترى عليه] (1)، وقد قال في مقدمتها: (فهذا بحث أدفع فيه بعض الافتراءات على كعب الأحبار، التي ذكرها أبورية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية)، وقلده بعد ذلك كثيرون، وهو في الأساس أخذ عن محمد رشيد رضا وبعض المستشرقين، وهؤلاء إنما أرادوا الطعن في السنة، وذلك لأن جمعاً من الصحابة رووا عن كعب الأحبار واحترموه، فأراد هؤلاء إظهار الصحابة في صورة السذج الذين خدعهم كعب)، ثم نقل النصوص الكثيرة عن أئمة السلف التي تمجده، وتجعله قطبا من أقطاب الدين، خاصة في تفسير القصص القرآني.

قال أحد الجالسين: فما تقولون في مقولة معاوية عنه، والتي تتهمه بالكذب، وهي قوله: (إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا ـ مع ذلك ـ لنبلو عليه الكذب)(2)

قال أحد الحشوية: مع أن هذه المقولة صحيحة إلا أن المحققين من علمائنا استطاعوا أن يبينوا معناها، وأن المراد ليس الكذب المعروف.. فقد قال ابن حجر: (وقوله (عليه الكذب) أي: يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به، قال ابن التين: وهذا نحو قول ابن عباس في حق كعب المذكور: (بدل من قبله فوقع في الكذب)، قال: والمراد بالمحدثين في قوله: (إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب) أنداد كعب ممن كان من أهل الكتاب وأسلم، فكان يحدث عنهم، وكذا من نظر في كتبهم فحدث عما فيها، قال: ولعلهم كانوا مثل كعب، إلا أن كعبا كان أشد منهم بصيرة، وأعرف بما يتوقاه)(3)

__________

(1) هو لعبد بن فهد الخليفي.

(2) صحيح البخاري (13/ 345)، رقم (7361)

(3) فتح الباري (13/ 346)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/27)

قال آخر: ومثل ذلك قال ابن حبان في كتاب الثقات: (أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به، ولم يرد أنه كان كذابا، وقال غيره: الضمير في قوله: (لنبلو عليه) للكتاب لا لكعب، وإنما يقع في كتابهم الكذب لكونهم بدلوه وحرفوه)(1)

قال آخر: ومثل ذلك قال ابن الجوزي: (المعنى: أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبا لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار)(2)

2 ـ إقصاء المقدس

ما إن انتهى حديث الحشوية إلى ذلك الموضع، وبعد أن رأوا جمهور الحاضرين قد خضعوا لهم؛ فلم يبدوا أي اعتراض، قال كبيرهم: إن لم يكن لديكم أي شبهة أخرى.. فسنعود لحديثنا الذي بدأنا به، وهو أن كعب الأحبار وتلاميذه هم الوحيدون الذين حلوا كل المعضلات، وأجابوا عن كل المشكلات، فلا يمكن لأحد أن يفهم القرآن الكريم من دون المرور عليهم، والتلمذة على أيديهم.

قال آخر: وبما أننا لا نستطيع في هذا المجلس أن نذكر لكم تفاصيل ذلك.. فلذلك ندع لكم أن تسألونا عن أي إشكال في أي آية من القرآن الكريم لنذكر لكم كيف وجدوا حلولا لها.

ما إن قال ذلك، حتى رأيت سبعة من الفتيان الذين تلوح على ملامحهم أنوار الحكمة والإيمان، كما تلوح عليهم أنوار الشجاعة والجرأة والصدع بقول الحق، يقومون في المجلس، ثم يخاطب أحدهم الحضور قائلين: هل تعرفون هؤلاء الذين تجلسون إليهم؟

قال آخر: إنهم أولئك الحشوية المدلسين المدنسين للدين، أولئك الذين أرسلتهم

__________

(1) فتح الباري (13/ 346)

(2) فتح الباري (13/ 346)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/28)

الشياطين إلى الأمة ليحجبوها عن كتاب ربها وتدبره وتعظيمه.

قال آخر: ويججبوها عن نبيها صلى الله عليه وآله وسلم وهدايته ورحمته.

قال آخر: ويحجبوها عن ورثته الطاهرين الصادقين المخلصين.

قال آخر: ويحجبوها عن كل صادق مخلص من هذه الأمة ابتداء من الصحابة المنتجبين.

قال آخر: وكل ذلك ليحل بدلهم المنحرفون المحرفون.

قال آخر: لقد أقصوا كل هؤلاء، لأنهم يعلمون أن مؤامراتهم في تحريف الدين لا يمكن أن تتم في وجود هذه المصادر المقدسة.

أ. إقصاء النبوة

قال أحد الحشوية: كيف تتهموننا زورا وبهتانا بأننا نقوم بإقصاء القرآن، وها أنت ترانا نرتل نفس آياته.. بل ندعو هؤلاء الحضور ليسمعوا معنا تفسيره.

قال أحد الحكماء: فهل سمعتم وصايا النبوة في التحذير من خلط الإسلام بغيره من الأديان..

قال آخر: وهل رأيتم كيف غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضبا شديدا، حين أتاه عمر بكتاب من كتب اليهود، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب!؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)(1)

قال آخر: فهذا الحديث العظيم يخبر أن دين الله أبيض نقي صاف ليس فيه أي دنس

__________

(1) أحمد: 3/ 387 ح (15195)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/29)

أو شبهة تمنع العقل السليم من التسليم له.. لكن هذا الأبيض يمكنه أن يتحول إلى أسود إذا ما اختلط بغيره.. فهو لشدة بياضه وجماله أسرع الأشياء إلى التلوث إذا لم يحافظ عليه.

قال أحد الحشوية: لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال ذلك، هو نفسه الذي قال: (لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه.. وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)(1).. فهل تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببضع؟

قال آخر: ألا ترون من العجيب أن ينهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كتابة حديثه، وفي نفس الوقت يجيز الحديث عن بني إسرائيل، وهو الذي غضب تلك الغضبة الشديدة، وأخبر أن دينه أبيض نقي، وأن خلطهم له بغيره من الأديان سيشوهه، ويدنسه، بل يحوله إلى دين بشري، بدلا أن يكون دينا إلهيا.

قال آخر: الفهم الصحيح للحديث عن (بني إسرائيل بلا حرج)، هو ما ذكره الإمام الصادق عندما سأله بعضهم قائلا: حديث يرويه الناس أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج؟) قال: (نعم) قيل: فنحدّث بما سمعنا عن بني إسرائيل ولا حرج علينا؟ قال: (أما سمعت ما قال: كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمع) قيل: كيف هذا؟ قال: (ما كان في الكتاب أنّه كان في بني إسرائيل فحدّث أنّه كان في هذه الأمّة ولا حرج)(2)

قال آخر: وبذلك فإن هذا الحديث، وبهذا الفهم الراقي، يجتمع مع ذلك التحذير الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ففيما ورد في القرآن الكريم عن بني إسرائيل وقصصهم ما يغني عن غيرها.. والتعامل معها بعد ذلك بالاعتبار والتدبر، لا بالبحث فيما لا يغني ولا يجدي.

قال آخر: وهكذا حصل مع الكثير من الأحاديث؛ فسلفكم من الحشوية المدلسين

__________

(1) البخاري (6/ 496) والترمذي (7/ 431)

(2) قصص الأنبياء ص 187.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/30)

الذين تدعون لهم إما يسيئون فهمها، أو يكذبون في روايتهم لها.. ولذلك دسوا باسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من الأحاديث التي تشوه الدين وتحرفه، مستغلين تلك القوانين التي وضعها المحدثون، والتي تكتفي بالثقة في الرواة، دون محاكمة الأحاديث إلى ما أمرنا الله تعالى بالمحاكمة إليه.

قال آخر: ومن الأمثلة على تلك الروايات التي تسللت إلى السنة النبوية، فشوهتها أعظم تشويه، ذلك الحديث الذي يعارض قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ [الأعراف: 54]، ويعارض معه الحقائق العلمية في الفلك والجيولوجيا وعلوم الحياة وغيرها من العلوم، وهو ما روي عن أبي هريرة، أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي فقال: (خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل)(1)

قال آخر: هذا الحديث مجرد مثال على تلك الأحاديث التي اختلط فيها المقدس بالمدنس، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر، وقد روى ابن كثير عن عروة بن الزبير بن العوام، قال: قال لى أبي الزبير: أدننى من هذا اليمانى (يعني أبا هريرة) فإنه يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فأدنيته منه فجعل أبو هريرة يحدث، وجعل الزبير يقول صدق كذب صدق كذب، قال: قلت يا أبة ما قولك صدق كذب، قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا أشك، ولكن منها ما يضعه على مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه)(2)

__________

(1) مسلم (2789)

(2) البدابة والنهاية ج 8 ص 109.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/31)

قال آخر: ومثله ما حدث به ابن كثير عن مسلم صاحب الصحيح بسنده عن بكير بن الأشج، قال: قال لنا بشر بن سعيد: (اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا تجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم فأسمع بعض ما كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كعب وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(1)

قال آخر: وهكذا أصبح لأي شخص يتزين أمام المحدثين أو علماء الجرح والتعديل بزينة التقوى والصلاح أن يروي أي حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يقبل ذلك الحديث من دون مناقشة، بل يتهم راده، بكل صنوف التهم.. لا حرصا على النبوة، وإنما حرصا على قداسة الرواة.

قال آخر: بل إن الأمر وصل بهم إلى حد القول بتخطئة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرصا على صدق الرواة.. ومن الأمثلة على ذلك ما رواه محمد بن سيرين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فقدت أمة من بني إسرائيل، لم يدر ما فعلت، وإني لا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لا تشربه، وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته؟)، قال أبو هريرة: حدثت بهذا الحديث كعبا، فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقلت: نعم، فقال لي ذلك مرارا، فقلت: أتقرأ التوراة!؟)(2).. فمع أن هذا الحديث يتعارض معارضة تامة مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لم يجعل لمسخ نسلاً ولا عقباً، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك)(3).. والأصل في هذه الحال، أي عند التعارض بين الأخبار، قبول أحدهما ورفض الآخر؛ إلا أنهم التمسوا حلا لدرء التعارض أدى بهم إلى أن المخطئ في الحديث ليس أبا هريرة، وإنما

__________

(1) البداية والنهاية ج 8 ص 109.

(2) رواه البخارى (3/ 1203)، ومسلم (4/ 2294)

(3) فتح الباري 353/ 6.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/32)

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه.. ذلك أنهم كما يذكرون: اجتهد في ذلك، ولم يقل عن علم أو وحي.

قال آخر: لقد عبر عن هذا المعنى ابن حجر بقوله: (وذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم القردة والخنازير فقال: (إن الله لم يجعل للمسخ نسلاً ولا عقباً، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك)، وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أراها إلا الفأر)، وكأنه كان يظن ذلك ثم أعلم بأنها ليست هي)(1)

قال آخر: وهذا التعليل الحشوي المشوه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عجيب جدا، لأنه يتناقض مع كل تلك القيم التي دعا إليها لقرآن الكريم، وأولها تناقضه مع قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].. ويتناقض مع قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3 ـ 4].. ويتناقض مع كل تلك الأحاديث الصحيحة المتواترة، التي تبين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول إلا حقا، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو، قال: قلت: يا رسول الله، إنى أسمع منك أشياء أفأكتبها؟ قال: نعم، قلت: فى الغضب والرضا؟ قال: (نعم، فإنى لا أقول فيهما إلا حقا)(2)

ب. إقصاء القرآن

قال أحد الحضور: قد نقبل هذا منكم.. لكن لم ذكرتم أن هؤلاء يقومون بإقصاء القرآن، وها أنتم ترونهم يرتلون نفس آياته.. بل دعونا لنسمع منهم تفسيره.

قال أحد الحكماء: تحريف القرآن وكلمات الله ليست قاصرة على تغيير ألفاظها، بل الأخطر منها تغيير معانيها، لتصبح ألفاظها بعد ذلك كسوة لكل أنواع الدنس.

قال آخر: لقد قال الإمام الجواد محذرا من ذلك: (وكل أمة قد رفع الله عنهم علم

__________

(1) فتح الباري: 6/ 353.

(2) الدارمي (490) وأبو داود (3646)، وابن خزيمة (2280)، وغيرهم.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/33)

الكتاب حين نبذوه وولاهم عدوهم حين تولوه، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية)(1)

قال آخر: وهكذا حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل أئمة الهدى من التلاعب بالمعاني القرآنية وتأويلها وتفسيرها بما يخرجها عن مضامينها المقصودة.

قال آخر: وقد وقع ذلك في هذه الأمة على يد أولئك الحشوية الذين وضعوا الأحاديث والروايات الكثيرة المزاحمة للقرآن الكريم، وبدل أن يحاكموها إليه، حاكموه إليها.

قال آخر: أجل.. فمع أن الله تعالى وضع لنا معيارا مقدسا نتحاكم إليه في كل شيء، وهو ما عبر عنه قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]؛ والذي من مستلزماته الرجوع إلى القرآن الكريم لمحاكمة أي رواية أو حديث أو رأي أو اجتهاد في أي قضية عقدية أو سلوكية.. بل كل ما يتعلق بجميع قضايا الحياة.. إلا أن الذين قاموا بهذا الإقصاء رفضوا هذا الاحتكام، لأنه يحطم كل مشروع الدين البشري الذي أسسته الفئة الباغية في مقابل الدين الإلهي الذي يقوم على مركزية القرآن الكريم ومرجعيته الكبرى في كل شيء.

قال آخر: ولهذا فإنهم إن وردهم أي حديث ووجدوا فيه مخالفة صريحة للقرآن الكريم، فإنهم لا يستغربون من ذلك، ولا يتهمون رواة الحديث، ولا يقولون باستحالة التعارض بين القرآن الكريم والسنة المطهرة.. وإنما يلجؤون إلى أنواع من التوفيق المتكلف، والذي ينتهي باعتبار الحديث هو الحاكم، أما ما ذكر في القرآن فهو مجرد إرشاد أو نصح أو

__________

(1) الكافي: 8/ 53 /16.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/34)

كلام عام لا يستفاد منه أي معنى تنفيذي.

قال آخر: ولهذا اشتدوا في إنكار ما ورد في الدعوة إلى عرض الأحاديث على القرآن الكريم، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني)(1).. وقوله: (ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله)(2).. وقوله: (إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه، فصدقوا به قلته أو لم أقله فإني أقول ما تعرفونه ولا تنكرونه، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به، فإني لا أقول ما تنكرونه، وأقول ما تعرفونه)(3).. وقوله: (إني والله لا يمسك الناس علي بشيء إلا أني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه)(4).. وغيرها من الأحاديث الكثيرة الواردة في مصادر المدارس الإسلامية المختلفة (5).

قام أحد الحشوية، وقال: كل هذه الأحاديث التي أوردتها مكذوبة، وقد وضعها الطاعنون في السنة، ليجعلوها وسيلة لإنكارها.. ألم تسمع ما قال شيخنا الكبير العلامة ابن بطة، بعد عرض تلك الأحاديث: (قال ابن الساجي: قال أبي رحمه الله: هذا حديث موضوع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وبلغني عن علي بن المديني، أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل، والزنادقة وضعت هذا الحديث)(6).. ثم علق على ذلك بقوله: (وصدق ابن الساجي، وابن المديني رحمهما الله، لأن هذا الحديث كتاب الله يخالفه، ويكذب قائله وواضعه، والحديث الصحيح، والسنة الماضية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترده قال الله عز وجل: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى

__________

(1) البيهقي في (معرفة السنن والآثار)(1/ 9) وابن المقرئ في معجمه (3/ 239)

(2) البيهقي في (معرفة السنن والآثار)(1/ 116)

(3) الطحاوي في (شرح مشكل الآثار)(15/ 347)، والدار قطني في سننه (4/ 208)

(4) الشافعي في مسنده (1/ 129)، رقم (116)، والبيهقي في (معرفة السنن والآثار)(3/ 360)

(5) ذكرت تلك الأحاديث بتفصيل في كتاب: منابع الهداية الصافية، ص 13، فما بعدها.

(6) الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 266)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/35)

يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، والذي أمرنا الله عز وجل أن نسمع ونطيع، ولا نضرب لمقالته صلى الله عليه وآله وسلم المقاييس، ولا نلتمس لها المخارج، ولا نعارضها بالكتاب، ولا بغيره، ولكن نتلقاها بالإيمان والتصديق والتسليم إذا صحت بذلك الرواية)(1)

قال آخر: وهكذا قال العلامة ابن عبد البر: (وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم فقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله عز وجل وجدناه مخالفا لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله ألا نقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته ويحذر المخالفة عن أمره جملة على كل حال)(2)

قال آخر: وبناء على هذا، وقف علماؤنا الربانيون موقفا متشددا من كل داعية للرجوع إلى القرآن للتحاكم إليه عند التنازع في تصحيح الأحاديث، وقد صبوا جام غضبهم على الشيعة في هذا، واعتبارهم هم السبب في هذه الفتنة الخبيثة، كما قال شيخنا الكبير العلامة الجامي عند حديثه عن هذه المسألة: (لقد حاول هؤلاء الزنادقة والروافض إزالة السنن من الوجود والقضاء عليها ـ لو استطاعوا ـ أو أن يجعلوا وجودها وجوداً شكلياً فاقداً للقيمة، إلا أنهم لم ينالوا خيراً، ولم يستطيعوا أن ينالوا من السنة شيئاً، فانقلبوا خاسرين ومهزومين، مثلهم كمثل الذي يحاول قلع جبل أحد مثلاً فأخذ يحوم حوله وفي سفحه لينقل من أحجاره حجراً حجراً ظناً من أنه يمكنه بصنيعه هذا قلع الجبل وإزالته من مكانه، أو

__________

(1) الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 266)

(2) جامع بيان العلم وفضله (4/ 17)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/36)

كالذي يغترف من البحر اغترافاً بيده أو بدلوه محاولاً بذلك أن ينفد البحر أو ينقص)(1)

قال أحد الحكماء: هل تعرفون أيها الحضور الكرام العواقب الخطيرة التي انجرت وراء هذه المقولات والأحكام التي عُزل بها القرآن الكريم؟

قال آخر: لقد وصل بهم الأمر بعد أن قاموا بإقصاء التحاكم إلى القرآن الكريم إلى حد معارضة آياته بالروايات الواردة عن الصحابة والتابعين.. حتى لو ضعف سندها.. والأمثلة على ما رووه من روايات في نسخ القرآن الكريم كثيرة جدا، وتنسخ أجمل القيم والمعاني القرآنية.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكروه من تعطيل قيم العفو والمصافحة المذكورة في قوله تعالى: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ [البقرة:109]، فقد قال الشيخ مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلى عنها: (أصل العفو الترك والمحو والصفح الإعراض والتجاوز نسخ بقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة:29]، وأمر الله القتل والسبي لبني قريظة، والجلاء والنفي لبني النضير، قال المحققون: إن مثل هذا لا يسمى منسوخا، لأن الله جعل العفو والصفح مؤقتا بغاية، وهو إتيان أمره بالقتال، ولو كان غير مؤقت بغاية لجاز أن يكون منسوخا)(2)

قال آخر: ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُون﴾ [البقرة:139]، فقد اعتبروها أيضا منسوخة، نسختها آية السيف (3).. فما حاجة المسلمين إلى محاجة خصومهم ومجادلتهم وحوارهم بعد

__________

(1) الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه، ص 31.

(2) قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن (ص 54)

(3) الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص 44 ـ 45.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/37)

أن أن أمدهم الله بقوة السيف؟ فكفى بالسيف شافيا، وكفى بالسيف محاورا.

قال آخر: ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى: ﴿وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين﴾ [البقرة:190]، فهي مثل أخواتها منسوخة آية السيف، وقد قال النيسابوري فيها: (قوله ﴿وَلاَ تَعْتَدُوا﴾، هذا كان في الابتداء، عندما كان الإسلام ضعيفا)(1)

قال آخر: ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى: ﴿أولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا﴾ [النساء:63]، فقد ذكروا أن هذا (كان في بدء الإسلام، ثم صار الوعظ والإعراض منسوخاً بآية السيف)(2)

قال آخر: ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾ [المائدة:13]، فقد ذكروا أن سلفهم ذكر أنها (نزلت في اليهود، ثم نسخ العفو والصفح بآية السيف)(3)

قال آخر: ومثل ذلك قولهم في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين﴾ [النحل:125]، فقد نصوا على أنها منسوخة نسختها آية السيف (4).. فما حاجة المسلمين للحكمة والموعظة وقد من الله عليهم بنعمة القوة والعزة والتسلط.

قال آخر: وهكذا نسخوا كل القيم القرآنية بآية السيف.. ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا لغيرها من الآيات يخصوص عمومها، ويقيدون مطلقها بالاجتهاد المجرد، أو بما يروونه من الروايات، ومن الأمثلة على ذلك إقصاؤهم للآية الكريمة التي تضع قانون

__________

(1) الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص 65 ـ 66.

(2) الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص 135.

(3) الناسخ والمنسوخ للنيسابوري، ص 150.

(4) قلائد المرجان، ص 210.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/38)

التعامل مع المخالف في الدين أيا كان كتابيا أو غير كتابي، وهي قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]؛ فالآية الكريمة تدعو إلى البر والقسط بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان المختلفة، بل حتى مع الملحدين منهم، لأن القيد فيها مرتبط بالمحاربة، ولا علاقة له بالدين، وهي بذلك تقسم الناس إلى معتدين ومسالمين، كما تقسمهم آيات أخرى إلى مستضعفين ومستكبرين، لكن المفسرين ـ وباسم علم أسباب النزول ـ عطلوا الآية الكريمة تعطيلا تاما، حيث أنهم جعلوها خاصة بقوم مخصوصين في زمان مخصوص، وأن علاقتنا بها لا تتعدى الترتيل.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قول مجاهد في تفسيره لها: (الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا).. وقال عبد الله بن الزبير، (عنى بها من غير أهل مكة من لم يهاجر).. وقد روى عنه الطبري وغيره في سبب نزول الآية قوله: (نزلت في أسماء بنت أبي بكر، وكانت لها أم فى الجاهلية يقال لها قتيلة ابنة عبد العزى، فأتتها بهدايا وصناب وأقط وسمن، فقالت: لا أقبل لك هدية، ولا تدخلي علي حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله الآية (1).. ومنها قول بأنه عني بها من مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين، ولم يخرجوهم من ديارهم؛ ونسخ الله ذلك بعد بالأمر بقتالهم، وهو قول ابن زيد، فقد قال: (هذا قد نسخ، نسخه القتال، أمروا أن يرجعوا إليهم بالسيوف، ويجاهدوهم بها، يضربونهم، وضرب الله لهم أجل أربعة أشهر، إما المذابحة، وإما الإسلام)(2)

قال آخر: وبناء على هذا فقد عطلت هذه الآية الكريمة تعطيلا تاما.. وعطل بنفس السبب قوله تعالى في شأن رقة النصارى مقارنة باليهود: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ

__________

(1) انظر هذه الروايات في تفسير الطبري (23/ 322)

(2) تفسير الطبري (23/ 323)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/39)

آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوَا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون﴾ [المائدة:82]، فقد ذكروا عن سلفهم أن هذا ليس عاما بكل النصارى، بل خاص بالنجاشي ووفده الذين أسلموا لما قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم اثنان وثلاثون أو أربعون أو سبعون أو ثمانون رجلا، وليس المراد كل النصارى لأنهم في عداوتهم كاليهود (1).

قال آخر: وهكذا عطلت هذه الآيات الكريمة بسلاح أسباب النزول، كما عطل غيرها بسلاح الناسخ والمنسوخ.

قال آخر: ولهذا تحول القرآن الكريم إلى أضعف المصادر.. فيمكن لأي رواية أو حديث أن يعطل آياته.. كإجازتهم تعطيل قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 180]، والتي تجيز الوصية للوالدين والأقربين وهم من الورثة، بحديث يرفعونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)(2)

قال آخر: وهم يصرحون بذلك، ويعتبرون السنة أقوى من القرآن الكريم، بل حاكمة عليه، وقد عقد الزركشي في ذلك فصلا بعنوان [مسألة حاجة الكتاب إلى السنة]، فقال: (قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب، وقال أبو عمر: يريد أنها تقضي عليه، وتبين المراد منه.. وقال يحيى بن أبي كثير: السنة قاضية على الكتاب)(3)

قال آخر: وبعد كل هذا الإقصاء للقرآن الكريم من دوره في قبول الأحاديث ورفضها، مرروا الكثير من الروايات والأحاديث المدسوسة المدلسة المكذوبة، بحجة أن

__________

(1) قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن (ص 100)

(2) رواه أبو داود (2870)، والترمذي (2120)، وابن ماجة (2713)

(3) البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 11)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/40)

رواتها ثقاة، ولسنا ندري من أين لهم الثقة المطلقة بذلك، مع أن الله تعالى قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شأن المنافقين: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ [التوبة: 101]؛ فإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخفى عليه ـ بحسب الآية الكريمة ـ بعض المنافقين، فكيف لا يخفى على ابن معين أو ابن أبي حاتم أو البخاري بعض الرواة الذين تسللوا لكتب الحديث، ليجعلوها وسيلة لتحريف الدين وتشويه قيمه.

ج. إقصاء الورثة

قال أحد الحضور: قد نقبل هذا منكم.. لكن لم ذكرتم أن هؤلاء يقومون بإقصاء الورثة.. فمن الورثة؟.. وكيف تم إقصاؤهم؟

قال أحد الحكماء: الورثة هم أولئك الذين أُمرنا بالتسليم لهم، وأخذ الدين عنهم، أولئك الذين قال الله تعالى في شأنهم: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: 32]

قال آخر: الورثة هم أولئك الذين حددهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدقة، بل عينهم بأعيانهم وأسمائهم وصفاتهم وكل ما يتعلق بهم.. لكن البغي الذي مارسته الأمم السابقة في حق ورثتها مارسته هذه الأمة؛ فبغت عليهم، وحسدتهم، وأعرضت عنهم، ثم أحلت بدلهم كعب الأحبار وأمثاله من اليهود وتلاميذ اليهود.

قال آخر: الورثة هم أولئك الذين وردت الأحاديث الصحيحة المتواترة، وفي كل المصادر الإسلامية بالوصية بهم، والدعوة إلى التمسك بحبلهم، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/41)

تخلفوني فيهما)(1).. وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيها الناس، إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما، وهما: كتاب الله، وأهل بيتي عترتي)(2)

قال آخر: وسيد أولئك الورثة ذلك الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقه: (أنا مدينة العلم، وعلى بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب)(3)

قال آخر: بل ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَة﴾ [الحاقة:12] أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له عند نزولها: (سألت الله أن يجعلها أُذنك يا عليّ).. وقد استجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان الإمام علي يقول: (فما نسيت شيئاً بعد ذلك وما كان لي أن أنسى)(4)

قال آخر: لكن الأمة فرطت في هذه الوصايا، وبدل أن يأخذ الناس دينهم منه ومن أبنائه وأحفاده الذين أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. راحوا يأخذونه عن كعب الأحبار وغيره من اليهود الذين أسلموا، أو الصحابة الذين تتلمذوا عليهم، في نفس الوقت الذي يعرضون عن ذلك الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه مفتاح باب العلم والحكمة.

قال آخر: ألم تسمعوا أيها الحضور الكرام للإمام علي، هو يقول متأسفا: (هاه إن ههنا لعلما جما ـ وأشار بيده إلى صدره ـ لو أصبت له حملة، بل أصيب لَقِنا غير مأمون عليه مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهرا بنعم الله على عباده وبحججه على أوليائه أو منقادا لحملة الحق لا بصيرة في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذلك، أو منهوما باللذة سلس القيادة للشهوة، أو مغرما بالجمع شيء شبها بهما الأنعام

__________

(1) رواه الترمذي (3788)، والفسوي في (المعرفة والتاريخ)(1/ 536)

(2) رواه الحاكم (4577)، والشجري في (ترتيب الأمالي)(712)

(3) الترمذى (5/ 637، رقم 3723)، والحاكم (3/ 138، رقم 4639)، وغيرهما.

(4) انظر: تفاسير: الطبري، والسيوطي، والرازي، وابن كثير، والقرطبي، والشوكاني، وغيرهم عند تفسيرهم للآية.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/42)

السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه)(1)

قال آخر: ألم تسمعوا إلى ما حدث أبو الطفيل عنه، فقال: (شهدت عليا يخطب وهو يقول: (سلوني؛ فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، وسلوني عن كتاب الله؛ فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم: أبليل نزلت أم بنهار؟ أم في سهل أم في جبل؟)(2)

قال آخر: ألم تسمعوا قوله محذرا من إقصاء الورثة والإقبال على المدلسين المدنسين: (لو تعلمون ما أعلم ممّا طوي عنكم غيبه، إذا لخرجتم إلى الصّعدات تبكون على أعمالكم، وتلتدمون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا خالف عليها، ولهمّت كلّ امرئ منكم نفسه لا يلتفت إلى غيرها.. ولكنّكم نسيتم ما ذكّرتم، وأمنتم ما حذّرتم، فتاه عنكم رأيكم، وتشتّت عليكم أمركم، ولوددت أنّ اللّه فرّق بيني وبينكم، وألحقني بمن هو أحقّ بي منكم: قوم واللّه ميامين الرّأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحقّ، متاريك للبغي، مضوا قدما على الطّريقة، وأوجفوا على المحجّة، فظفروا بالعقبى الدّائمة، والكرامة الباردة)(3)

قال آخر: لقد استطاعت الفئة الباغية التي تحكمت في الأمور أن تحول دون وصول علم هؤلاء الورثة إلى جمهور الأمة، والحيلة التي احتالوها لذلك بسيطة، وهي أن كل من يتحدث عن هؤلاء الذين أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر شيعيا، وكل شيعي مبتدع، وما دام كذلك، فإنه لا تحل الرواية عنه.

قال آخر: في نفس الوقت الذي لم يقصوا فيه أولئك اليهود الذين تتلمذوا على أيديهم، لسبب بسيط، وهو علاقتهم الطيبة مع تلك السلطات الحاكمة، وكأن دين الله يحدده

__________

(1) نهج البلاغة (4/ 36)

(2) الإصابة: ج 2 ص 509.

(3) نهج البلاغة: الخطبة رقم (116)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/43)

الحكام، لا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

د. إقصاء الصادقين

قال أحد الحضور: قد نقبل هذا منكم.. لكن لم ذكرتم أن هؤلاء يقومون بإقصاء السابقين الصادقين.. فمن هم هؤلاء؟.. وكيف تم إقصاؤهم؟

قال أحد الحكماء: لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك الإقصاء، فقال مخاطبا الأنصار: (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)(1)

قال آخر: وقد حدث بعضهم عن وقوع ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر أن أبا أيوب أتى معاوية فذكر حاجة له، فجفاه ولم يرفع به رأسا، فقال أبو أيوب: أما ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد خبرنا أنه ستصيبنا بعده أثرة قال: فبم أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض، قال: فاصبروا إذا، فغضب أبو أيوب، وحلف أن لا يكلمه أبدا (2).

قال آخر: وقد روي أن معاوية لما قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري فقال: تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار فما منعكم أن تلقوني؟ قال: لم تكن لنا دواب، قال معاوية: فأين النواضح؟ قال أبو قتادة: عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، ثم قال أبو قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لنا إنا لنرى بعده أثرة، قال معاوية: فما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتى نلقاه، قال: (فاصبروا حتى تلقوه!)(3)

قال آخر: فهذه الأحاديث لا تشير فقط إلى الأثرة المادية التي مارسها معاوية، وإنما إلى ما هو أخطر من ذلك، وهو توفير المنابر ومجالس العلم لليهود وتلاميذهم في نفس الوقت الذي أُبعد فيه خيرة المهاجرين والأنصار.

__________

(1) رواه أحمد والبخاري ومسلم والبيهقي والترمذي والنسائي، سبل الهدى والرشاد (10/ 115)

(2) رواه الحاكم، سبل الهدى والرشاد (10/ 115)

(3) مصنف عبد الرزاق (ج 11 /ص 60)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/44)

قال آخر: ولهذا؛ فإنا لو جمعنا الروايات والأحاديث الواردة عن جميع الصحابة الذين حضروا بدرا في تفسير القرآن الكريم، لم نجدها تعادل جزءا بسيطا من الروايات التي يروونها عن كعب الأحبار، وتلاميذه الذين تتلمذوا على يديه.

قال آخر: ولهذا؛ فإن الذي يدعون إلى العودة إلى السلف في تفسير القرآن الكريم لا يقصدون أولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: 100]

قال آخر: ولا يقصدون أولئك البسطاء المستضعفين الذين شهد الله تعالى على صدقهم، فقال: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: 52]

قال آخر: ولا أولئك الذين وصفهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]

قال آخر: وإنما يقصدون أولئك اليهود، أو الذين تتلمذوا عليهم من الصحابة الصغار، أو من الصحابة الذين أسلموا متأخرين، أو من الطلقاء الذين شغلوا أول حياتهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشغلوا آخر حياتهم بحرب ورثته وتشويه دينه.

قام بعض الحشوية، وقال: لكن الصحابة الذين تذكرهم هم أنفسهم من أثنى على كعب الأحبار، وقربه، واعتبره من أوعية العلم.

قال أحد الحكماء: أنتم تنتقون من الصحابة من تشاؤون.. ولو تحاكمتم إلى القرآن الكريم لعرفتم أن الصحابة المنتجبين أولئك الذين امتثلوا وصايا نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم في عدم خلط الإسلام بأي دين من الأديان.

قال آخر: وهؤلاء كان موقفهم متشددا من كعب وأمثاله من الذين دسوا في الدين

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/45)

ما ليس منه.. لقد روي عن ابن مسعود أنه جاءه رجل، فقال له: من أين جئت؟، قال: من الشام، قال: من لقيت؟ قال: لقيت كعبا، فقال: ما حدثك كعب؟ قال: حدثني أن السماوات تدور على منكب ملك، قال: فصدقته أو كذبته؟ قال: ما صدقته ولا كذبته، قال ابن مسعود: (لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه، براحلتك ورحلها.. وكذب كعب!.. إن الله يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: 41].. ثم قال: (ما تنتكت اليهودية في قلب عبد فكادت أن تفارقه)، وقال: (كذب كعب.. ما ترك يهوديته)(1)

قال آخر: ومثل ذلك ما روي عن حذيفة بن اليمان أعلم الناس بالمنافقين، فقد روى قتادة قال: بلغ حذيفة أن كعبا يقول: (إن السماء تدور على قطب كالرحى)، فقال حذيفة: (كذب كعب! إن الله يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: 41] (2)

قال آخر: ومثل ذلك ما روي عن ابن عباس، فقد روي عنه قوله: (يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يشب!؟ وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، وغيروا بأيديهم الكتاب؛ فقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم!؟ ولا والله ما رأينا منهم رجلا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم)(3)

3 ـ تحريف المقدس

__________

(1) الطبري في تفسيره (22/ 144)، قال ابن كثير في تفسيره (3/ 562): (وهذا إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود)، وانظر: تفسير القرطبي (14/ 357)

(2) الإصابة في تمييز الصحابة (5/ 650)

(3) صحيح البخاري 3: 237.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/46)

ما إن انتهى الحكماء من أقوالهم تلك، حتى رأيت الظلمة بدأت تنقشع من وجوه الحاضرين، ليحل بدلها نور الإيمان، وحينها قال أحد الحكماء: لا بأس.. دعونا نستمع لهؤلاء المشايخ الذين يريدون أن يفسروا القرآن لكم بحسب ما ورثوه عن أسلافهم.. لنحاكمهم للقرآن الكريم نفسه.

قال أحد الحشوية متوجها للحضور: ها هم أخيرا يسلمون لنا، ويعرفون أنه لا يمكن أن يُفهم القرآن الكريم أو تعرف تفاصيل أخباره من دوننا.. ولذلك نقول لكم: سلونا ما شئتم من الأسئلة.. فستجدون عند سلفنا الأجوبة التي لا يمكن معرفتها من دونهم.

قال آخر: وسترون كيف يتعمق فهمكم للقرآن الكريم، فليس من عرف التفاصيل كمن اكتفى بالعموميات التي يستوي فيها جميع الناس.

من قصة نوح

قال أحد الحضور، متوجها لبعض الشيوخ: هيا حدثنا عن سفينة نوح عليه السلام، تلك التي ذُكرت في قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ [الأعراف: 64]، وقوله: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [هود: 37]، وقوله: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [المؤمنون: 27]

قال أحد الحشوية: بورك فيك وفي سؤالك الوجيه، والذي يدل على كونك من الذين يتلون القرآن الكريم حق تلاوته، ويتدبرونه حق تدبيره.. والحمد لله ورد في مصادرنا الإجابة على كل تلك الأسئلة، وبتفصيل.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/47)

قال آخر: فمما ورد في ذلك من الأحاديث ما روي أن الحواريين قالوا لعيسى بن مريم عليهما السلام لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا بها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه، ثم قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: هذا كعب حام بن نوح! قال: فضرب الكثيب بعصاه، فقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب، قال له عيسى: هكذا هلكت؟ قال: لا، مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت، قال: حدثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع ومئتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدواب والوحوش، وطبقة فيها الأنس، وطبقة فيها الطير، فلما كثرت أرواث الدواب، أوحى الله تعالى إلى نوح، أن اغمز ذنب الفيل، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الأرواث، فلما وقع الفأر تجوز بالسفينة يقرضها وحبالها، وذلك أن الفأر توالدت في السفينة، فأوحى الله تعالى إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد، فضرب فخرجت من منخره سنور وسنورة، فأقبلا على الفأر، قال له عيسى: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر، فوجد جيفة فوق عليها، فدعا عليه بالخوف؛ فلذلك لا يألف البيوت، ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها، فعلم أن البلاد قد غرقت.. فطوقها الخضرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في أنس وأمان، فمن ثم تألف البيوت، فقالوا: يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلنا فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له!؟ قال: فقال له عبد بإذن الله فعاد ترابا (1).

قال آخر: وروي أنه كان في سفينة نوح ثمانون إنسانا، أحدهم جرهم (2).

__________

(1) رواه الطبري في تفسيره 15/ 311، وفي تاريخ الرسل والملوك 1/ 184.

(2) الطبري في تفسيره 15/ 326، وفي تاريخ الرسل والملوك 1/ 187، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 6/ 2030.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/48)

قال آخر: وروي أن نوحا حمل معه جسد آدم جعله معترضا بين الرجال والنساء، وقصد نوح جميع الدواب من البهائم والوحوش والطيور وغيرها ليحملها (1).

قال آخر: وروي أن أول ما حمل نوح في الفلك من الدواب، الذرة، وآخر ما حمل الحمار، فلما دخل الحمار ودخل صدره، تعلق إبليس بذنبه، فلم تستقل رجلاه، فجعل نوح يقول: ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع، حتى قال نوح: ويحك ادخل، ولو كان الشيطان معك، كلمة زلت على لسانه، فلما قالها نوح خلى الشيطان سبيله فدخل، ودخل الشيطان معه، فقال له نوح: ما أدخلك علي يا عدو الله؟ (فقال: ألم تقل: ادخل ولو كان الشيطان معك، قال: اخرج عني يا عدو الله)، قال: مالك بد من أن تحملني معك.. وكان فيما يزعمون في ظهر الفلك (2).

قال آخر: وروي أن الحية والعقرب أتيا نوحا، فقالتا: احملنا، فقال نوح: إنكما سبب الضر والبلايا والأوجاع لا أحملكما، قالتا: احملنا فنحن نضمن لك أن لا نضر أحدا ذكرك، فمن قرأ حين خاف مضرتهما ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات: 79 ـ 81] ما ضرتاه (3).

قال آخر: وروي أن نوحا لما أمر أن يصنع الفلك قال: يا رب، وأين الخشب؟ قال: اغرس الشجر، فغرس الساج عشرين سنة، وكف عن الدعاء، وكفوا عن الاستهزاء، فلما أدرك الشجر أمره ربه فقطعها، وجففها، فقال: يا رب، كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: اجعله على ثلاثة صور؛ رأسه كرأس الديك، وجؤجؤه كجؤجؤ الطير، وذنبه كذنب الديك، واجعلها مطبقة، واجعل لها أبوابا في جنبها، وشدها بدسر ـ يعني: مسامير الحديد ـ، وبعث

__________

(1) معالم التنزيل للبغوي 4/ 177، لباب التأويل للخازن 3/ 303.

(2) الطبري في تفسيره 15/ 314، وفي تاريخ الرسل والملوك 1/ 184.

(3) معالم التنزيل للبغوي 4/ 177، لباب التأويل للخازن 3/ 304.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/49)

الله جبريل، فعلمه صنعة السفينة، فكانوا يمرون به ويسخرون منه، ويقولون: ألا ترون إلى هذا المجنون، يتخذ بيتا يسير به على الماء، وأين الماء!؟ ويضحكون، وذلك قوله: ﴿وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه﴾، فجعل السفينة ستمائة ذراع طولها، وستين ذراعا في الأرض، وعرضها ثلاثمائة ذراع وثلاثة وثلاثون، وأمر أن يطليها بالقار، ولم يكن في الأرض قار، ففجر الله له عين القار حيث تنحت السفينة تغلي غليانا حتى طلاها، فلما فرغ منها جعل لها ثلاثة أبواب وأطبقها، فحمل فيها السباع والدواب، فألقى الله على الأسد الحمى، وشغله بنفسه عن الدواب، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني، ثم أطبق عليها، وجعل ولد آدم أربعين رجلا وأربعين امرأة في الباب الأعلى، ثم أطبق عليهم، وجعل الدرة معه في الباب الأعلى؛ لضعفها ألا تطأها الدواب (1).

قال آخر: وروي أن نوحا اتخذ السفينة في سنتين، وكان طول السفينة ثلثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد (2).

قال أحد الحضور: لكن هذا الذي ذكرته يتناقض مع ما ذكرتموه في روايات سابقة؛ فبأي رواية نصدق، أبهذه الرواية أم بالرواية السابقة؟

قال أحد الحشوية بغضب: صدق بالجميع.. فما الضرر في أن تكون السفينة بتلك الأبعاد التي تراها أنت متناقضة.. بينما هي في الحقيقة ليست متناقضة.. التناقض في عقلك وليس في الرويات.

قال آخر: دعنا من هذا.. ولنواصل وصف تلك السفينة العجيبة.. لقد ذكر رواتنا

__________

(1) ابن عساكر 62/ 248.

(2) ابن عساكر 62/ 248.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/50)

الكبار الثقاة العدول أن الله تعالى أمر نوحا عليه السلام أن يطليها بالقار، وهو الدهان الأسود الذي يطلى به الخشب والإبل وهو ما يعرف بالزفت أو شيء من هذا المعنى، أمر أن يطليها بالقار، ولم يكن في الأرض قار؛ ففجر الله له عين القار حيث تنحت السفينة تغلي غليانا حتى طلاها؛ فلما فرغ منها جعل لها ثلاثة أبواب، وأطبقها وحمل فيها السباع والدواب؛ فألقى الله على الأسد الحمى وشغله بنفسه عن الدواب، وجعل الوحش والطير في الباب الثاني، ثم أطبق عليهما (1).

من قصة إبراهيم

بعد أن انتهوا من إيراد كل تلك الروايات العجيبة الغريبة المملوءة بالخرافات، قال أحد الحشوية: هل رأيتم العجائب الواردة في هذا الأحاديث العظيمة.. وهل يمكنكم من دونها أن تعرفوا تلك الأسرار العظيمة المتعلقة بعلم الحيوان، والتي عجز العلم الحديث عن الوصول إليها، فلذلك راح يتبنى معلومات خاطئة بدلها؟.. وهل يمكنكم أن تعرفوا تلك المعارف التي تعينكم على تصور السفينة من دونها؟.. أليس ذلك وحده ما يجعلكم تفهمون القرآن الكريم حق فهمه، وتتدبرونه حق تدبره؟

قال أحد الحضور: فأخبرونا عما ورد في الكتب التي أشدتم بها عن تفسير قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102] فمن المقصود في الآية الكريمة، هل هو إسماعيل أم إسحق عليهما السلام؟

قال أحد الحشوية: لاشك أنه إسحق عليه السلام.. وقد قال شيخنا ابن جرير الطبري في ذلك: (وكان فيما ذكر أن إبراهيم عليه السلام نذر حين بشرته الملائكة بإسحاق

__________

(1) ابن عساكر 62/ 248.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/51)

ولدا أن يجعله إذا ولدته سارة لله ذبيحا، فلما بلغ إسحاق مع أبيه السعي أري إبراهيم في المنام، فقيل له: أوف لله بنذرك، ورؤيا الأنبياء يقين، فلذلك مضى لما رأى في المنام، وقال له ابنه إسحاق ما قال)(1)

قال آخر: ثم ذكر من الروايات التي تدل على هذا رواية عن السدي، يقول فيها: (قال جبرائيل لسارة: أبشري بولد اسمه إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فضربت جبهتها عجبا.. قالت سارة لجبريل: ما آية ذلك؟ فأخذ بيده عودا يابسا، فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فقال إبراهيم: هو لله إذن ذبيح، فلما كبر إسحاق أتي إبراهيم في النوم، فقيل له: أوف بنذرك الذي نذرت، إن الله رزقك غلاما من سارة أن تذبحه، فقال لإسحاق: انطلق نقرب قربانا إلى الله، وأخذ سكينا وحبلا ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام: يا أبت أين قربانك؟ ﴿قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102] فقال له إسحاق: يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء، فتراه سارة فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقي؛ ليكون أهون للموت علي، فإذا أتيت سارة فاقرأ عليها مني السلام، فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي، حتى استنقع الدموع تحت خد إسحاق، ثم إنه جر السكين على حلقه، فلم تحك السكين، وضرب الله صفيحة من النحاس على حلق إسحاق، فلما رأى ذلك ضرب به على جبينه، وحز من قفاه، فذلك قوله (فلما أسلما) يقول: سلما لله الأمر (وتله للجبين) فنودي يا إبراهيم (قد صدقت الرؤيا) بالحق فالتفت فإذا بكبش، فأخذه وخلى عن ابنه، فأكب على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بني وهبت لي؛ فلذلك يقول الله: (وفديناه

__________

(1) تفسير الطبري (21/ 74)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/52)

بذبح عظيم) فرجع إلى سارة فأخبرها الخبر، فجزعت سارة وقالت: يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني!)(1)

قال آخر: وروى عن عبد الله بن عمير قال: (قال موسى: يا رب يقولون يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبم قالوا ذلك؟ قال: إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلا اختارني عليه، وإن إسحاق جاد لي بالذبح، وهو بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن)(2)

قال آخر: وروى عن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن حارثة الثقفي، أخبره أن كعبا قال لأبي هريرة: ألا أخبرك عن إسحاق بن إبراهيم النبي؟ قال أبو هريرة: بلى، قال كعب: لما رأى إبراهيم ذبح إسحاق، قال الشيطان: والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن أحدا منهم أبدا، فتمثل الشيطان لهم رجلا يعرفونه، فأقبل حتى إذا خرج إبراهيم بإسحاق ليذبحه دخل على سارة امرأة إبراهيم، فقال لها: أين أصبح إبراهيم غاديا بإسحاق؟ قالت سارة: غدا لبعض حاجته، قال الشيطان: لا والله ما لذلك غدا به، قالت سارة: فلم غدا به؟ قال: غدا به ليذبحه! قالت سارة: ليس من ذلك شيء، لم يكن ليذبح ابنه! قال الشيطان: بلى والله! قالت سارة: فلم يذبحه؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك؛ قالت سارة: فهذا أحسن بأن يطيع ربه إن كان أمره بذلك، فخرج الشيطان من عند سارة حتى أدرك إسحاق وهو يمشي على إثر أبيه، فقال: أين أصبح أبوك غاديا بك؟ قال: غدا بي لبعض حاجته، قال الشيطان: لا والله ما غدا بك لبعض حاجته، ولكن غدا بك ليذبحك، قال إسحاق: ما كان أبي ليذبحني! قال: بلى؛ قال: لم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك؛ قال إسحاق: فوالله لئن أمره بذلك ليطيعنه، قال: فتركه الشيطان وأسرع إلى إبراهيم، فقال: أين أصبحت غاديا بابنك؟

__________

(1) تفسير الطبري (21/ 75)

(2) تفسير الطبري (21/ 80)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/53)

قال: غدوت به لبعض حاجتي، قال: أما والله ما غدوت به إلا لتذبحه، قال: لم أذبحه؟ قال: زعمت أن ربك أمرك بذلك؛ قال: الله فوالله لئن كان أمرني بذلك ربي لأفعلن؛ قال: فلما أخذ إبراهيم إسحاق ليذبحه وسلم إسحاق، أعفاه الله وفداه بذبح عظيم، قال إبراهيم لإسحاق: قم أي بني، فإن الله قد أعفاك؛ وأوحى الله إلى إسحاق: إني قد أعطيتك دعوة أستجيب لك فيها؛ قال، قال إسحاق: اللهم إني أدعوك أن تستجيب لي، أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئا، فأدخله الجنة (1).

قال آخر: وروى عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار أن الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه إسحاق، وأن الله لما فرج له ولابنه من البلاء العظيم الذي كان فيه، قال الله لإسحاق: إني قد أعطيتك بصبرك لأمري دعوة أعطيك فيها ما سألت، فسلني، قال: رب أسألك أن لا تعذب عبدا من عبادك لقيك وهو يؤمن بك، فكانت تلك مسألته التي سأل (2).

قال آخر: وقد حكى الطبري وغيره هذا القول عن أعلام السلف كابن عباس وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة، بالإضافة لأكثر من عشرة من سادات التابعين (3).

قال آخر: وبعد أن حكى الأقوال المختلفة في هذا عقب عليها مرجحا بقوله: (وأولى القولين بالصواب في المفدي من ابني إبراهيم خليل الرحمن على ظاهر التنزيل قول من قال: هو إسحاق، لأن الله قال: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107] فذكر أنه فدى الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم حين سأله أن يهب له ولدا صالحا من الصالحين، فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 100] فإذ كان المفدي بالذبح من ابنيه هو المبشر به، وكان

__________

(1) تفسير الطبري (21/ 81)

(2) تفسير الطبري (21/ 82)

(3) انظر: تفسير الطبري (21/ 79)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/54)

الله تبارك اسمه قد بين في كتابه أن الذي بشر به هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فقال جل ثناؤه: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: 71] وكان في كل موضع من القرآن ذكر تبشيره إياه بولد، فإنما هو معني به إسحاق، كان بينا أن تبشيره إياه بقوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: 101] في هذا الموضع نحو سائر أخباره في غيره من آيات القرآن، وبعد: فإن الله أخبر جل ثناؤه في هذه الآية عن خليله أنه بشره بالغلام الحليم عن مسألته إياه أن يهب له من الصالحين، ومعلوم أنه لم يسأله ذلك إلا في حال لم يكن له فيه ولد من الصالحين، لأنه لم يكن له من ابنيه إلا إمام الصالحين، وغير موهم منه أن يكون سأل ربه في هبة ما قد كان أعطاه ووهبه له، فإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن الذي ذكر تعالى ذكره في هذا الموضع هو الذي ذكر في سائر القرآن أنه بشره به وذلك لا شك أنه إسحاق، إذ كان المفدي هو المبشر به)(1)

قال آخر: وقد فند كل الأدلة التي استدل بها القائلون بأن المفدى هو إسماعيل عليه السلام، فقال: (وأما الذي اعتل به من اعتل في أنه إسماعيل، أن الله قد كان وعد إبراهيم أن يكون له من إسحاق ابن ابن، فلم يكن جائزا أن يأمره بذبحه مع الوعد الذي قد تقدم، فإن الله إنما أمره بذبحه بعد أن بلغ معه السعي، وتلك حال غير ممكن أن يكون قد ولد لإسحاق فيها أولاد، فكيف الواحد؟ وأما اعتلال من اعتل بأن الله أتبع قصة المفدي من ولد إبراهيم بقوله ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 112] ولو كان المفدي هو إسحاق لم يبشر به بعد، وقد ولد، وبلغ معه السعي، فإن البشارة بنبوه إسحاق من الله فيما جاءت به الأخبار جاءت إبراهيم وإسحاق بعد أن فدي تكرمة من الله له على صبره لأمر ربه فيما امتحنه به من الذبح، وقد تقدمت الرواية قبل عمن قال ذلك، وأما اعتلال من اعتل بأن

__________

(1) تفسير الطبري (21/ 86)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/55)

قرن الكبش كان معلقا في الكعبة فغير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعبة، وقد روي عن جماعة من أهل العلم أن إبراهيم إنما أمر بذبح ابنه إسحاق بالشام، وبها أراد ذبحه)(1)

من قصة يوسف

بعد أن انتهوا من إيراد كل تلك الروايات المخالفة لدلالة القرآن الكريم الواضحة في كون الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، قال أحد الحضور: فأخبرونا عما ورد في الكتب التي أشدتم بها عن أسماء الكواكب الواردة في قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: 4]

قال أحد الحشوية: بوركت في هذا السؤال، والجواب عنه وحده كاف للدلالة على أن كل ما ذكره هؤلاء المثرثرون ليس سوى جعجعة بلا طحين.. فلن تجدوا أسماء هذه الكواكب إلا في تفاسيرنا المعتمدة، تلك التي أثنى عليها شيخ الإسلام، واعتبرها الكتب الوحيدة المفسرة للقرآن الكريم بعيدا عن البدع والمبتدعة.

قال آخر: وبخصوص سؤالكم المهم والوجيه، والدال على اهتمامكم بالمعارف القرآنية، فقد روى أئمتنا العظام أن بستانيا يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف عليه السلام ساجدة له، ما أسماؤها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجبه بشيء؛ فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البستاني اليهودي فقال: (هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها)، قال: نعم: قال: (حرثان، والطارق والذيال وذو الكفتان، وقابس، ودنان، وهودان، والفيلق، والمصبح، والضروح، والفريخ، والضياء، والنور، رآها في آفق السماء ساجدة له فلما قص يوسف على يعقوب قال: هذا أمر

__________

(1) تفسير الطبري (21/ 86)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/56)

مشتت يجمعه الله من بعد) فقال اليهودي: إي والله، إنها لأسماؤها (1).

قال أحد الحضور: فما قالوا في تفسير قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَجَاؤا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: 7 ـ 17]

قال أحد الحشوية: في هذه الآيات عجائب كثيرة، لا يمكن معرفتها من دون علمائنا الربانيين الذين ذكرناهم لكم.. ومن تلك العجائب أن يعقوب أرسل يوسف معهم، فأخرجوه وبه عليهم كرامة، فلما برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه، فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيما، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويقول: يا ابتاه! يا يعقوب! لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء.. فلما كادوا أن يقتلوه، قال لهم يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقا لا تقتلوه؛ فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه، فجعلوا

__________

(1) الحديث سعيد بن منصور في سننه 5/ 377، والبيهقي في دلائل النبوة 6/ 277، ابن الجوزي في الموضوعات 1/ 145. والحديث ضعفه البزار والعقيلي، بل قال ابن حبان: لا أصل له من حديث رسول الله (، وقال أبو زرعة: هذا حديث منكر ليس بشيء، وقال ابن الجوزي: موضوع، وتفرد به الحكم بن ظهير الفزاري الكوفي، وهو ضعيف باتفاق، وتركه البخاري وجماعة، واتهمه بعضهم، توفي سنة (180 هـ) انظر: تهذيب الكمال للمزي 2/ 427، تقريب التهذيب لابن حجر (1454)، انظر: هامش تفسير الثعلبي (14/ 491)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/57)

يدلونه في البئر؛ فيتعلق بشفير البئر؛ فربطوا يديه ونزعوا قميصه؛ فقال: يا إخوتاه! ردوا علي القميص أتوارى به في الجب، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، قال: إني لم أر شيئا، فدلوه في البئر، حتى إذا بلغ نصفها ألقوه؛ إرادة أن يموت، فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صحرة فيها فقام عليها، فلما ألقوه في الجب جعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بالحجارة فيقتلوه، فقام يهوذا فمنعهم، وقال: قد أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه، وكان يهوذا يأتيه بالطعام (1).

قال آخر: وروي أن الله تعالى أمر الصخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر فوقع يوسف عليها وهو عريان، وكان إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار جرد من ثيابه وقذف في النار عريانا، فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فكان ذلك القميص عند إبراهيم، فلما مات ورثه إسحاق، فلما مات إسحاق ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلقه في عنقه، وكان لا يفارقه، فلما ألقي في البئر عريانا جاءه جبريل ـ وكان عليه ذلك التعويذ ـ فأخرج القميص منه، فألبسه إياه (2).

قال أحد الحضور: فأخبرونا عن تفسير قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ [يوسف: 20]

قال أحد الحضور: لقد رويت في ذلك روايات عديدة تبدو متعارضة، لكنا نصدق بها جميعا، فعقولنا أقل من تفهم الدين.. ومن تلك الروايات ما روي عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي أن المبلغ كان: عشرين درهما، فاقتسموها درهمين درهمين (3).. ومنها

__________

(1) الطبري 15/ 574 بتمامه، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 7/ 2110.

(2) زاد المسير لابن الجوزي 4/ 190 عن كعب.

(3) الطبري 16/ 13، وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم كما في الدر المنثور للسيوطي 4/ 18.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/58)

ما قال مجاهد، وهو أنها اثنان وعشرون درهما (1).. وقال عكرمة: أربعون درهما (2).

من قصة موسى

قال أحد الحضور: فأخبرونا عما ورد في الكتب التي أشدتم بها عن تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ [طه: 17 ـ 18]

قال أحد الحشوية: بورك فيك، وفي سؤالك الوجيه.. وقد ذكر علماؤنا لتلك العصا عجائب وأخبارا كثيرة.. ومنها أن موسى عليه السلام كان يحمل على عصاه زاده وسقاه، فجعلت تماشيه وتحدثه، وكان يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل يومه، ويركزها فيخرج الماء، فإذا رفعها ذهب الماء، وكان يرد بها غنمه، وتقيه الهوام بإذن الله، وإذا ظهر له عدو حاربت وناضلت عنه، وإذا أراد الاستقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو حتى يستقي، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل تضيء له ويهتدي بها، وإذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض فتغصنت غصن تلك الشجرة وأورقت ورقها وأثمرت ثمرها فهذه المآرب (3).

قال أحد الحضور: فما معنى قوله تعالى: ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾ [طه: 20]

قال أحد الحشوية: روي عن أئمتنا الكبار في تفسيرها أنها صارت حية صفراء لها عرف كعرف الفرس، وجعلت تتورم حتى صارت ثعبانا وهو أكبر ما يكون من الحيات (4).

قال آخر: وروي أنه لما قيل لموسى عليه السلام: ألقها يا موسى، ألقاها، فإذا هي

__________

(1) الطبري 16/ 14.

(2) ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 7/ 2116.

(3) معالم التنزيل للبغوي 5/ 269، مختصرا، مفاتيح الغيب للرازي 22/ 27 بمعناه، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 11/ 187 مختصرا، لباب التأويل للخازن 3/ 266، مختصرا. قال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 9/ 320: ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية.

(4) معالم التنزيل 5/ 269.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/59)

حية تسعى، ولم تكن قبل ذلك حية، فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها، فولى مدبرا، فنودي أن يا موسى خذها، فلم يأخذها، ثم نودي الثانية: أن خذها ولا تخف، فلم يأخذها، فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين، فأخذها (1).

قال أحد الحضور: فما معنى قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ [الأعراف: 132 ـ 135]

قال أحد الحشوية (2): بورك فيك، وفي سؤالك الوجيه، وقد روي عن أئمتنا الكبار في تفسيرها أنه لما آمنت السحرة، رجع فرعون عدو الله مغلوبا معلولا، ثم أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر، فتابع الله عز وجل عليهم بالآيات، وأخذهم بالسنين، ونقص من الثمرات، فلما عالج موسى عليه السلام منهم بالآيات الأربع: العصا واليد والسنين ونقص من الثمار، دعا فقال: يارب إن عبدك فرعون علا في الأرض، وبغى وعتا وإن قومه قد نقضوا عهدك، وأخلفوا وعدك، رب فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة، ولقومي عظة ولمن بعدهم من الأمم الباقية آية وعبرة، فبعث الله عز وجل عليهم الطوفان، وهو الماء أرسل الله تعالى عليهم السماء حتى كادوا أن يهلكوا، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة بعضها في بعض، فامتلأت بيوت القبط ماء، حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، من جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، وفاض الماء

__________

(1) تفسير الطبري (18/ 295)

(2) تفسير الثعلبي (12/ 483)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/60)

على وجه أرضهم وركد، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا حتى جهدوا، ودام عليهم ذلك سبعة أيام من السبت إلى السبت، فقالوا لموسى عليه السلام: ادع لنا ربك يكشف عنا المطر، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، وعادوا بشر ما بحضرتهم، فأنبت الله تعالى لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته لهم قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر وأعشبت بلادهم وأخصبت، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، وما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصبا، وما يسرنا أنا لم نمطر.

قال آخر (1): فأقاموا شهرا في عافية، فبعث الله تعالى عليهم الجراد، فأكلت عامة زروعهم وثمارهم وأوراق الشجر وأنواع الزهر، حتى إن كانت لتأكل الأبواب، وسقوف البيت والخشب والثياب والأمتعة ومسامير الأبواب من الحديد، حتى تقع دورهم، وابتلي الجراد بالجوع فجعلت لا تشبع، غير أنه لايدخل بيوت بني إسرائيل، ولا يصيبهم من ذلك شيء، فعجوا وضجوا، وقالوا: ياموسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، وأعطوه عهد الله وميثاقه، فدعا موسى عليه السلام، فكشف الله تعالى عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، وروي أن موسى عليه السلام برز إلى الفضاء، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجعت الجراد من حيث جاءت، حتى كأن لم يكن قط، وكان قد بقيت من زروعهم وغلاتهم بقية، فقالوا: قد بقي لنا ما هو كافينا، وما نحن بتاركي ديننا، ولا نرسل معك بني إسرائيل، ولم يفوا بما عهدوا، وعادوا إلى أعمالهم السوء.

قال آخر (2): فأقاموا شهرا في عافية، ثم بعث الله عز وجل عليهم القمل، وأمر موسى عليه السلام أن يمشي إلى كثيب أعفر، بقرية من قرى مصر، تدعى عين الشمس

__________

(1) تفسير الثعلبي (12/ 484)

(2) تفسير الثعلبي (12/ 485)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/61)

فمشى موسى عليه السلام إلى ذلك الكثيب وكان أهيل عظيما، فضربه بعصاه فانثال عليهم قملا، فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم ونباتهم، فأكله ولحس الأرض كلها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضه، وكان يأكل أحدهم الطعام، فيمتلئ قملا، حتى إن أحدهم ليبني الاسطوانة بالجص، فيزلقها حتى لا يرتقي فوقها شيء، يرفع فوقها الطعام، فإذا صعد إليه ليأكله، وجده ملآن قملا.. وكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا، فلا يرد منها ثلاثة أقفزة، فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل، وأخذت أشعارهم وأبشارهم وأشفار عيونهم وحوا جبهم، ولزم جلودهم كأنه الجدري عليهم، ومنعتهم النوم والقرار، فلم يستطيعوا له حيلة، فصرخوا وصاحوا إلى موسى عليه السلام إنا نتوب ولا نعود، فادع لنا ربك فيكشف عنا هذا البلاء، فدعا موسى عليه السلام فرفع الله تعالى القمل عنهم بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم، وقالوا: ما كنا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم، يجعل الرمل دواب، وعزة فرعون لا نصدقه أبدا ولا نتبعه.

قال آخر (1): فدعا موسى عليه السلام عليهم بعدما أقاموا شهرا في عافية، فأرسل الله عليهم الضفادع، فدخلت عليهم دورهم، وامتلأت منها بيوتهم وأطعمتهم وأفنيتهم وأنديتهم، فلا يكشف أحد ثوبا ولا إناء ولا طعاما ولا شرابا إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، وكانت تثب في قدورهم تفسد عليهم طعامهم، وتطفئ نيرانهم، وكان أحدهم يضطجع، فتركبه الضفادع فتكون عليه ركاما، حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر، ويفتح فاه لأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه، ولا يعجن عجينا إلا تسدحت فيه، ولا يطبخ قدرا إلا أمتلأت

__________

(1) تفسير الثعلبي (12/ 487)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/62)

ضفادع، فلقوا منها أذى شديدا.. وروي أن الضفادع كانت برية، فلما أرسلها الله تعالى على آل فرعون سمعت وأطاعت، فجعلت تقذف أنفسها في القدور، وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء.. فلما رأو ذلك بكوا وشكوا إلى موسى عليه السلام، وقالوا: هذه المرة نتوب ولا نعود، فأخذ عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا ربه فكشف الله تعالى عنهم الضفادع، بعدما أقام عليهم سبعا من السبت إلى السبت، فأقاموا شهرا في عافية ثم نقضوا العهد، وعادوا لكفرهم وتكذيبهم.

قال آخر (1): فدعا عليهم موسى عليه السلام، فأرسل الله تعالى عليهم الدم، فسال النيل عليهم دما، وصارت مياههم دما كلها، فما يستقون من الآبار والأنهار إلا وجدوا دما عبيطا أحمر، فشكوا إلى فرعون، وقالوا: إنا قد ابتلينا بهذا الدم، وليس لنا شراب، فقال: إنه قد سحركم، فقالوا: من أين سحرنا؟ ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا دما عبيطا أحمر، فكان فرعون يجمع بين الرجلين على الإناء الواحد، القبطي والآخر الإسرائيلي، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء، وما يلي القبطي دما، وكان القبطي والإسرائيلي يستقيان من ماء واحد، فيخرج ماء هذا القبطي دما، ويخرج للإسرائلي ماء عذبا، فيقومان إلى الجر فيه الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطي دما، حتى إن المرأة من آل فرعون كانت تأتي المرأة من بني إسرائيل، حين جهدهم العطش فتقول: اسقيني من مائك، فتغرف لها من جرتها، أو تصب لها من قربتها، فيعود في الإناء دما، حتى إن كانت لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مجيه في في، فتأخذ في فيها ماء، فإذا مجته في فيها صار دما، قالوا: والنيل على ذلك يسقي الزروع، فإذا ذهبوا ليستقوا من بين الزرع عاد الماء دما عبيطا، وإن فرعون اعتراه العطش، حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة، فإذا مضغها يصير ماؤها في فيه ملحا أجاجا، فمكثوا في

__________

(1) تفسير الثعلبي (12/ 488)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/63)

ذلك سبعة أيام لا يأكلون إلا الدم، ولا يشربون إلا الدم، فأتوا موسى عليه السلام وقالوا: ياموسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم؛ فنؤمن بك ونرسل معك بني اسرائيل، فدعا ربه عز وجل فكشف، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل.

ب ـ ردود وإجابات

بعد أن ذكر الحشوية هذا وغيره مما سبق أن ذكرت أمثلة عنه في الرحلة السابقة عند بيان [القرآن وعقبات التأويل] التفت أحد الحشوية إلى الحكماء، وقال: بعد أن سمعتم كل هذه العلوم العظيمة، نتحداكم أمام هذه الجمع المبارك أن تأتوا بمثلها من غير هذه المصادر التي تنتقدونها، بل تتهمونها، بل تحتقرونها.. بل نتحداكم أن تأتوا بأقصر قصة منها.

قال أحد الحكماء: إن عجزنا عن جوابكم إلى ما طلبتم لا يعني أننا مبطلون، بل قد يعني أننا محقون.. فعدم إجابتك للص الذي يتحداك في أن تتقن اللصوصية كإتقانه لها، أو القاتل الذي يتحداك بأن تقتل مثله وبدم بارد، لا يعني أنك فشلت.. بل يعني أنك انتصرت.. لأنك وقفت في صف الحق، ولم تقف في صف الجريمة والباطل.

قال أحد الحشوية: هل وصل بكم الأمر إلى مقارنتنا بهؤلاء المجرمين؟

قال الحكيم: معاذ الله أن نقرنكم بهم؛ فهم مع جرائمهم الشديدة، أقل جرما منكم.. فجرائمهم ترتبط بحياة الناس الدنيوية المادية التي سرعان ما تنقضي، وجرائمكم ترتبط بالدين، وبالدار الآخرة، والحياة الأبدية.

قال أحد الحضور: نرجو أن توضحوا لنا أدلتكم على ذلك، حتى لا ننزل بكم الأحكام الواردة في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: 112]

قال أحد الحكماء: معاذ الله أن نكون مدعين في ذلك.. فجرائم هؤلاء في حقكم وحق

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/64)

الدين أكثر من أن يحصى خطرها، وأدناها أربعة جرائم: الكذب والتزوير.. والتساهل والتمييع.. والفضول والتكلف.. والغفلة والتناقض.

الكذب والتزوير

قال أحد الحضور: فحدثنا عن أدلتكم على الجريمة الأولى.. جريمة الكذب والتزوير.

قال الحكيم: لاشك أنكم تعلمون أن الكذب والتزوير يشتدان ويعظمان كلما عظمت الجهة التي يتوجهان إليها.

قال أحد الحضور: صحيح.. ولهذا اعتبر الله تعالى في آيات عديدة الكذب على الله والافتراء على دينه أعظم أنواع الظلم، ذلك أنه يشبه من يضع السموم في الأدوية، فيصبح ملاذ الشفاء سبب الموت، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: 21].. ثم بين أن الكذب الذي أدمنوا عليه في الدنيا، يبقى معهم في الآخرة، وأنهم يلجؤون إلى ما كانوا يلجؤون إليه في الدنيا من الاحتيال على تشويه الحقائق بالقسم ونحوه، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 22 ـ 24]

قال آخر: وقبل هذه الآيات الكريمة أشار الله تعالى إلى أن تكذيب هؤلاء للحقائق ليس ناشئا عن ضعف أدلتها، وإنما لما أدمنت عليه نفوسهم من الكذب؛ فصاروا يتصورون كل الخلق مثلهم، حتى أنبياء الله، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 20]

قال آخر: وفي آية أخرى ذكر الله تعالى أن الذين يفترون على الله الكذب، قد يتفاقم

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/65)

وضعهم، إلى أن يدعو تنزل وحي الله عليهم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [الأنعام: 93]، ثم بين عاقبة هؤلاء لينفر النفوس منها، فقال: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنعام: 93].. وهي تبين أن المنبع الذي نبع منه هذا النوع من الكذب هو الكبرياء، ذلك أن المستكبر لا يستطيع أن يسلم لغيره، ولهذا يلجأ إلى الكذب والافتراء ليشكل دينا على مقاسه ومزاجه.

قال الحكيم: ولهذا؛ فإن الكاذب على الله من أخطر المجرمين، لأنه لا يقتل أجساد الناس، وإنما يقتل أرواحهم، ويسمم منابع الهداية التي أنزلها الله عليهم، وقد قال تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: 17]

قال أحد الحشوية: لكن كيف تطبقون علينا كل تلك الآيات التي وصف الله بها الكفرة المضللين؛ فأين نحن منهم، وأين هم منا؟

قال الحكيم: ألم تسمعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذارع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم)، فقلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فمن هما)(1)

قالوا: بلى.. فما علاقتها بهذا؟

قال الحكيم: كما أن أولئك قاموا بتحريف كتبهم وتبديل ألفاظها لتتناسب مع أمزجتهم؛ فقد قام أسلافكم الذين تدعون لهم أيضا بنفس الشيء؛ فقد راحوا يمارسون الكذب من خلال تصديقهم للكذبة؛ فتصديق الكاذب، ونشر كذبه كذب محقق.. بل إن

__________

(1) البخاري (4356) ومسلم (2669)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/66)

ناشر الكذب أكثر جرما من الكاذب نفسه.

قالوا: كيف ذلك؟

قال الحكيم: أنتم تعلمون أن الله تعالى أخبر عن كذب اليهود، وتزوريهم لكتبهم، فهل تشكون في ذلك؟

قال أحد الحضور: وكيف نشك في ذلك، وقد قال تعالى عنهم: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 75]، وقال: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 46]، وقال: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 13]

الأسانيد

قال أحد الحكماء: وأنتم تعلمون أن أكثر تلك الروايات التي أوردتموها إما أنها نقلت عن كعب الأحبار وغيره من اليهود، أو من تلاميذهم الذي تتملذوا على أيديهم.. وهم في ذلك بين أمرين: إما أن يكونوا قد نقلوها من كتبهم التي أخبر الله تعالى عن تحريفها وتزويرها، وإما أن يكونوا قد اخترعوها من عند أنفسهم.

قال آخر: وفي كلا الحالتين هم كذبة ومزورون، لأن الذي ينقل من كتاب في كذب وتزوير، ولا يبين ذلك، مشارك في جريمة الكذب والتزوير.

قال أحد الحشوية: ولكن من تلك الروايات التي أوردناها ما روي عن ابن عباس

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/67)

ذلك الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلم تأويل القرآن.. فهل تعتبرون ابن عباس كاذبا ومدلسا.

قال آخر: ألم تعلموا أن كل جهابذة التفسير والحديث رووا أحاديثه، وزينوا بها تفاسيرهم؛ فهل أنتم أكثر ورعا وحرصا على الدين منهم؟

قال آخر: ألم تطلعوا على تفسيره العظيم المسمى [تنوير المقياس من تفسير ابن عباس]، ذاك الذي جمعه أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادى الشافعي، صاحب القاموس المحيط؟

قال الحكيم: وكيف لا نطلع عليه، وعلى ما في غيره من الروايات، وهل يمكن لأحد أن يرد أمرا دون أن يبذل كل جهده في البحث عنه؟

قال آخر: لقد وجدنا من خلال اطلاعنا على الكتاب المذكور أن جميع ما روي عن ابن عباس فيه يدور على محمد بن مروان السدى الصغير، عن محمد بن السائب الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس.. وقد قال الذهبي في ترجمته للسدي: (محمد بن مروان السدي الكوفي، وهو السدي الصغير، يروي عن هشام بن عروة والأعمش، تركوه، واتهمه بعضهم بالكذب، وهو صاحب الكلبي)(1)

قال آخر: وأما الكلبي، فهو محمد بن السائب الكلبي، أبو النضر الكوفي المفسر، وهو وضاع مشهور.. قال سفيان: قال لي الكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب.. وقال أحمد بن زهير: قلت لأحمد بن حنبل: يحل النظر في تفسير الكلبى؟ قال: لا.. وقال ابن حبان: مذهبه في الدين ووضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، يروي عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير، وأبو صالح لم ير ابن عباس، ولا سمع الكلبي

__________

(1) ميزان الاعتدال (4/ 32)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/68)

من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، لا يحل ذكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به)(1).. ومثل ذلك قال ابن معين: (بالعراق كتاب ينبغي أن يدفن: تفسير الكلبي عن أبى صالح)(2)

قال آخر (3): وهكذا لو تتبعنا أكثر الطرق التي رويت عن ابن عباس في التفسير لوجدنا صدق ما روي عن الشافعي بشأنه، فقد قال: (لم يثبت عن ابن عباس فى التفسير إلا شبيه بمائة حديث)

قال أحد الحشوية: نحن نعرف ذلك أيضا.. ولهذا نحن ننتقي أجود الطرق إليه، وأكثرها وثاقة؟

قال الحكيم: فما هي أجودها عندكم؟

قال الحشوي (4): طريق ابن إسحاق صاحب السير، عن محمد بن أبى محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهى طريق جيدة وإسنادها حسن وقد أخرج منها ابن جرير وابن أبى حاتم كثيراً، وأخرج الطبرانى منها فى معجمه الكبير.

قال الحكيم: ما دمتم تعتبرون هذه الطريق أفضل الطرق عندكم.. فأخبروني عن موقفكم من مالك بن أنس، وهل تقبلونه حكما بيننا؟

قال الحشوي: طبعا؛ فالإمام مالك من كبار أئمة السلف، وقد أشاد به به كل علمائنا الربانيين ابتداء من ابن تيمية، والذي اعتبره من كبار مراجع السنة، والذين يرجع إليهم عند الخلاف؛ ومما قاله عنه: (لا ريب عند أحد أن مالكا أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا؛ فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه كان له من المكانة عند أهل الإسلام

__________

(1) ميزان الاعتدال (3/ 557 ـ 559)

(2) ميزان الاعتدال (1/ 645)

(3) التفسير والمفسرون، الذهبي: 1/ 61.

(4) التفسير والمفسرون، الذهبي: 1/ 60.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/69)

الخاص منهم والعام ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام.. ولهذا قال الشافعي: ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صوابا بعد كتاب الله من موطأ مالك، وهو كما قال الشافعي)(1)

قال الحكيم: لقد ذكر ابن حبان موقف مالك منه، وسببه، فقال: (.. لما صنف مالك الموطأ قال ابن إسحاق: ائتوني به فأنا بيطاره، فنقل إلى مالك فقال: هذا دجال من الدجاجلة، يروي عن اليهود، وكان بينهم ما يكون بين الناس حتى عزم محمد بن إسحاق على الخروج إلى العراق فتصالحا حينئذ فأعطاه مالك عند الوداع خمسين دينارا ونصف ثمرته تلك السنة، ولم يكن يقدح فيه مالك من أجل الحديث إنما كان ينكر عليه تتبعه غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر وبني قريظة، والنضير، ما أشبهها من الغزوات عن أسلافهم، وكان ابن إسحاق يتتبع هذا عنهم ليعلم من غير أن يحتج بهم، وكان مالك لا يرى الرواية إلا عن متقن صدوق فاضل يحسن ما يروي ويدري ما يحدث)(2).. وهذا يدل على أن مالكا ـ على حسب هذه الرواية ـ من الذين يشككون في تلك القصص التي رواها ابن إسحق عن اليهود، ذلك أنه كان ينقل عنهم، من غير أن يكون لهم ـ كما يذكر مالك ـ الإتقان والصدق والفضل.

قال الحشوي: وما أدرانا بصدق ما أورده ابن حبان عنه.. فقد يكون من المتوهمين المخطئين في حقه.

قال الحكيم: لم يكن اتهامه قاصرا على ما ذكره ابن حبان من اتهام مالك له بالكذب والأخذ عن اليهود، وإنما ذكره غيره أيضا، فهم يتفقون جميعا على موقف مالك المتشدد من كل روايات ابن إسحق، فقد حدث ابن إدريس قال: (قلت لمالك بن أنس وذكر المغازي فقلت: قال ابن إسحاق: أنا بيطارها، فقال: قال لك: أنا بيطارها؟ نحن نفيناه عن

__________

(1) مجموع الفتاوى (20/ 320)

(2) الثقات، 7/ 381 ـ 383.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/70)

المدينة)(1).. وقال أبو جعفر العقيلي: (حدثني أسلم بن سهل، حدثني محمد بن عمرو بن عون، حدثنا محمد بن يحيى بن سعيد القطان قال: قال أبي: سمعت مالكا يقول: يا أهل العراق من يغت ـ أي يفسد ـ عليكم بعد محمد بن إسحاق)(2).. وقال محمد بن الحسين القطان: (أنبأنا دعلج بن أحمد، قال: أنبأنا أحمد بن علي الأبار قال: نبأنا إبراهيم بن زياد سبلان قال: نبأنا حسين بن عروة قال: سمعت مالك بن أنس يقول: محمد بن إسحاق كذاب)(3)

قال آخر: ولم يكن ذلك موقف مالك لوحده، بل شاركه فيه غيره من كبار العلماء والمحدثين المتقدمين، ومنهم هشام بن عروة؛ فقد روى الرازي عن يحيى بن سعيد القطان قال: (قال هشام بن عروة: هو كان يدخل على امرأتي؟ ـ يعني محمد بن إسحاق ـ كالمنكر)، وقال في رواية أخرى قال: (أهو كان يصل إليها؟ وقال الرازي: قال عمر بن حبيب: قلت لهشام بن عروة: حدثنا محمد بن إسحاق قال: ذاك كذاب)(4)

قال آخر: ومنهم يحيى القطان، فقد روى الغلاس عنه قال: (كنا عند وهب بن جرير، فانصرفنا من عنده فمررنا بيحيى القطان فقال: أين كنتم؟ فقلنا: كنا عند وهب بن جرير ـ يعني نقرأ عليه كتاب المغازي عن أبيه، عن ابن إسحاق ـ فقال: (تنصرفون من عنده بكذب كثير)، وقال عنه: (ما تركت حديثه إلا لله، أشهد أنه كذاب)(5).. وقال ـ يذكر مصادره على كذبه: (قال لي وهيب بن خالد: إنه كذاب، قلت لوهيب: ما يدريك؟ قال: قال لي مالك: أشهد أنه كذاب، قلت لمالك: ما يدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة: أشهد أنه كذاب، قلت لهشام: ما يدريك؟ قال: حدث عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، ودخلت علي

__________

(1) الجرح والتعديل 7/ 192 ـ 193، سير أعلام النبلاء 7/ 251، تاريخ بغداد 1/ 223.

(2) سير أعلام النبلاء 7/ 53.

(3) تاريخ بغداد 1/ 223.

(4) الجرح والتعديل 7/ 193، تاريخ بغداد 1/ 222.

(5) سير أعلام النبلاء 7/ 49 ـ 52.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/71)

وهي ابنة تسع سنين، وما رآها حتى لقيت الله)(1)

قال آخر: وهكذا قال عنه كبار علماء الجرح والتعديل، والذين ذكروا مدى صلته باليهود، فقد قال ابن المديني: (ثقة، لم يضعه عندي إلا روايته عن أهل الكتاب)

قال الحشوي: لكن هناك الكثير ممن لم يتهمه بالكذب.. فلم تقبلون من اتهمه بالكذب، وترفضون غيرهم من الذين وثقوه.

قال آخر: لقد بحثنا في غير هؤلاء الذين اتهموه بالكذب؛ فوجدناهم يتهمونه بأخي الكذب، وهو التدليس، وهو لا يقل عن الكذب، ولعل الإجماع قائم على ذلك، فقد قال الرازي: (قال الأثرم لأبي عبد الله: ما تقول في محمد بن إسحاق؟ قال: هو كثير التدليس جدا، فكان أحسن حديثه عندي ما قال: أخبرني وسمعت)(2).. وقال أبو داود: (سمعت أحمد بن حنبل ذكره فقال: كان رجلا يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه)(3).. وقال ابن حبان: (وإنما أتى لأنه كان يدلس على الضعفاء فوقع المناكير في روايته من قبل أولئك، فأما إذا بين السماع فيما يرويه فيما يرويه فهو ثبت، يحتج بروايته)(4)

قال آخر: ولهذا ذكره ابن حجر في الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين، وهم (من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع؛ لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل)(5).. وقال عنه الذهبي: (إنه أول من دون العلم بالمدينة قبل مالك وذويه، وكان في العلم بحراً عَجَّاجاً، ولكنه ليس بالمجود كما ينبغي)(6)، وذكر أنه أهل الجرح والتعديل اعتبروه صدوقا يدلس، وأنه (يروي الغرائب، ويحدِّث عن المجهولين بأحاديث باطلة)

__________

(1) سير أعلام النبلاء 7/ 49 ـ 52.

(2) الجرح والتعديل 7/ 194، عيون الأثر 1/ 12.

(3) عيون الأثر 1/ 12، التهذيب 9/ 43.

(4) الثقات لابن حبان 7/ 383.

(5) طبقات المدلسين ص 22 ـ 79.

(6) سير أعلام النبلاء للذهبي، 7/ 53.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/72)

قال آخر: ويظهر ذلك بوضوح لمن طالع سيرته، حيث أنه يعتمد على مجهولين في أسانيده، فيقول مثلا: (حدثني بعض أهل العلم) أو (حدثني بعض أهل مكة) أو (حدثني من لا أتهم)، وإذا ما شك في صحة الرواية عبر عن ذلك بقوله: (فيما يذكرون) أو (فيما يزعمون).. كما أنه يجمع الروايات أحياناً مع بعضها دون تمييز لها، ويقدم لها بذكر الأسانيد مجموعة، ويسوق ملخصها.

قال الحشوي: لكنا نروي أحاديث ابن عباس من طرق أخرى.. ومنها مثلا طريق عبد الملك بن جريج، عن ابن عباس.

قال الحكيم (1): وهي أيضا تحتاج إلى دقة في البحث، ليُعرف الصحيح منها والسقيم، فإن ابن جريج لم يقصد الصحة فيما جمع، وإنما روى ما ذُكِرَ فى كل آية من الصحيح والسقيم، فلم يتميز فى روايته الصحيح من غيره.

قال الحشوي: لا بأس.. فما تقول في طريق الضحاك بن مزاحم الهلالى عن ابن عباس، فقد وَثَّقه نفر كبير من المحدثين؟

قال الحكيم (2): لكن طريقه إلى ابن عباس منقطعة، لأنه روى عنه ولم يلقه، فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة، عن أبى روق، عن الضحَّاك، وهي ضعيفة لضعف بشر، وقد أخرج من هذه النسخة كثيراً ابن جرير وابن أبى حاتم.. وإن كان من رواية جويبر عن الضحاك فأشد ضعفاً، لأن جويبر شديد الضعف متروك، ولم يُخَرِّج ابن جرير ولا ابن أبى حاتم من هذه الطريق شيئاً، إنما خرَّجها ابن مردويه، وأبو الشيخ بن حبان.

قال الحشوي (3): لا بأس.. فما تقول في طريق مقاتل بن سليمان الأزدى الخراسانى،

__________

(1) التفسير والمفسرون، الذهبي: 1/ 60.

(2) التفسير والمفسرون، الذهبي: 1/ 60.

(3) التفسير والمفسرون، الذهبي: 1/ 60.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/73)

وهو المفسِّر الذى يُنسب إلى الشافعى أنه قال فيه: (إن الناس عيال عليه فى التفسير).. وله هو الآخر تفسير جميل للقرآن الكريم، ونحن ننقل منه كثيرا.

قال الحكيم: أجل.. وقد قال ابن المبارك عنه: (ما أحسن تفسير مقاتل لو كان ثقة)(1)

قال آخر: ولو رجعنا إلى الكتب المؤرخة للملل والنحل نجد من أقواله العجب العجاب، فقد قال الأشعري ـ والذي يرجع إليه ابن تيمية وغيره كثيرا عند إيراد أقوال أصحاب الفرق المختلفة ـ: (حكي عن أصحاب مقاتل أن الله جسم، وأن له جثةً، وأنه على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم وجوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين مصمت، وهو مع ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره)(2)

قال آخر: وقال ابن حبان عنه: (كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبهاً يشبه الرب بالمخلوقين وكان يكذب مع ذلك في الحديث)(3)

قال آخر: وقال الذهبي: (ظهر بخراسان الجهم بن صفوان ودعا إلى تعطيل صفات الله عز وجل.. وظهر في خراسان في قبالته مقاتل بن سليمان المفسر وبالغ في إثبات الصفات حتى جسم وقام على هؤلاء علماء التابعين وأئمة السلف وحذروا من بدعهم)(4)

قال الحشوي: لا بأس.. فما تقول فيما رواه تلميذه النجيب عكرمة عنه.. وما ترى في رواياته في تفسير القرآن الكريم، فهي من مصادرنا المعتبرة؟

قال الحكيم: ما أعرفه عنه هو ما روي عن ابن عمر أنه قال لنافع: (لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس).. وذكر عن جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد، قال: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيد، فقلت: ما لهذا؟ قال: إنه يكذب

__________

(1) ميزان الاعتدال للذهبي 4/ 173.

(2) مقالات الإسلاميين 152 و209.

(3) الضعفاء لابن الجوزي 1/ 136.

(4) طبقات الحفاظ 1/ 159.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/74)

على أبي (1).

قال آخر: وليس ذلك فقط، بل كان ـ كما يذكر الكثير من المؤرخين ـ يرى رأي المتشددين من الخوراج، والذين يحكم عليهم أصحابكم بأنهم كلاب أهل النار ـ فقد قال ابن حجر في (مقدمة فتح الباري): (وفد عكرمة على نجدة الحروري فأقام عنده تسعة أشهر ثم رجع إلى ابن عباس فسلم عليه، فقال: قد جاء الخبيث قال: فكان يحدث برأي نجدة، وكان يعني نجدة أول من أحدث رأي الصفرية وقال الجوزجاني قلت لأحمد بن حنبل أكان عكرمة إباضيا فقال: يقال: إنه كان صفرياً، وقال أبو طالب عن أحمد كان يرى رأي الخوارج الصفرية، وقال يحيى بن معين كان ينتحل مذهب الصفرية ولأجل هذا تركه مالك، وقال مصعب الزبيري كان يرى رأي الخوارج)(2)

قال الحشوي: لا بأس.. فما تقولون فيما رواه محمد بن السائب الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس؟.. والكلبى مشهور بالتفسير، وليس لأحد تفسير أطول منه.

قال الحكيم (3): إن وُجِدَ مَن قال: رضوه فى التفسير، فقد وُجِد مَن قال: أجمعوا على ترك حديثه، وليس بثقة، ولا يُكتب حديثه، واتهمه جماعة بالوضع.. وممن يروي عن الكلبى، محمد بن مروان السدى الصغير، وقد قالوا فيه: إنه يضع الحديث، وذاهب الحديث متروك.

قال آخر: ولهذا قال السيوطى: (إن انضم إلى ذلك ـ أى طريق الكلبى ـ رواية محمد بن مروان السدى الصغير، فهى سلسلة الكذب).. وقال: (الكلبى: اتهموه بالكذب وقد مرض فقال لأصحابه فى مرضه: كل شئ حدثتكم عن أبى صالح كذب.. ومع ضعف

__________

(1) انظر: وفيات الأعيان 1: 320، وتهذيب التهذيب 7: 238 وسير أعلام النبلاء للذهبي 5: 22.

(2) مقدمة فتح الباري 425.

(3) التفسير والمفسرون، الذهبي: 1/ 61.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/75)

الكلبى فقد روى عنه تفسيره مثله أو أشد ضعفاً، وهو محمد بن مروان السدى الصغير)(1)

التفاسير

قال الحشوي: لكنا لا ننتقي نحن الروايات.. بل ننقلها من كبار المفسرين الذين شهد لهم أئمتنا بالصدق والوثاقة.

تفسير البغوي

قال آخر: ومنهم الإمام الحافظ محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه الشافعي المحدث المفسر، صاحب التصانيف الجليلة كشرح السنة، ومعالم التنزيل، والمصابيح، وغيرها.. ونحن ننقل كثيرا من تفسيره المسمى بـ[معالم التنزيل]، والذي سُئل عنه شيخ الإسلام والمسلمين ابن تيمية، فقيل له: (أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة الزمخشري، أم القرطبي، أم البغوي، أم غير هؤلاء؟)، فقال: (أما التفاسير الثلاثة المسئول عنها فأسلمها من البدعة، والأحاديث الضعيفة البغوي، لكنه مختصر من تفسير الثعلبي، وحذف منه الأحاديث الموضوعة، والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك)(2)

قال الحكيم (3): اطلعنا عليه ودرسنا رواياته وأسانيدها؛ فقد ذكر في مقدّمة تفسيره أسانيده إلى تفسير كلّ من عبدالله بن عباس، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، ورفيع بن مهران، ومحمد بن كعب القرظي، وزيد بن أسلم، ومحمد بن السائب الكلبي، والضحاك بن مزاحم الهلالي، ومقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان، والسدّي (4).

__________

(1) الدر المنثور (ج 6 ص 423)

(2) مجموع الفتاوى (13/ 386)

(3) انظر مقالا بعنوان: التفسير الأثري في التراث الإسلامي دراسة مقارنة بين الطبرسي والبغوي، الدكتور مرتضى الايرواني، مجلة نصوص معاصرة، ع 9.

(4) معالم التنزيل 1/ 28 ـ 30.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/76)

قال آخر: وقد رأينا أنه اقتصر في تخريج تفسير ابن عباس على ما رواه معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة الوالي عن عبدالله بن عباس، مع ما في هذا الطريق من الانقطاع لأنّ ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير.

قال آخر: وهكذا اعتمد في تفسيره على ما روي عن طريق عطية العوفي وعكرمة عن ابن عباس، دون ذكر بقية الطرق التي تزيد على ذلك بكثير.. وقال عند ذكره سند تفسير الكلبي: (وأما تفسير الكلبي، فقد قرأت بمَرو على الشيخ أبي عبدالله محمد بن الحسن المروزي في شهر رمضان سنة أربع وستين وأربعمائة، قال: ثنا أبو مسعود محمد بن أحمد بن محمد بن يونس الخطيب الكشمهيني، في محرّم سنة خمسين وأربعمائة، قال: ثنا أبو إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معروف الهرمروزي، ثنا محمد بن علي الأنصاري المفسّر، ثنا علي إسحاق وصالح بن محمد السمرقندي قالا: ثنا محمد بن مروان عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي نضر عن أبي صالح، ثنا ذاذان مولى أم هانئ بنت أبي طالب، عن أبن عباس)(1).. وهذا طريق آخر لتفسير ابن عباس وليس طريقاً لتفسير الكلبي خاصّة.

قال آخر: وهكذا نراه لا يلتزم ذكر السند كاملاً عندما ينقل عمّن لم يذكرهم في صدر كتابه، فهو كثيراً ما ينقل عن بعض الصحابة آراء تفسيرية دون ذكر سنده إليهم، لا في مقدّمة الكتاب، ولا عند ذكر الرأي.

قال آخر: لكن مع ذلك كله صار محترما ومقبولا بسبب كثرة الإسرائيليات التي ذكرها في تفسيره، فمنها ـ مثلا ـ في موضوع دخول إبليس الجنّة وإغواء آدم وحواء ـ على حدّ زعمه ـ ذكر: دخول إبليس الجنّة بواسطة الحيّة.. صفة الحيّة.. محاورته آدم وحواء وبكاءه لخداعهما.. أكلهما من الشجرة والأقوال في كيفية أكل آدم.. هبوط آدم من الجنّة.. تعليم الله

__________

(1) معالم التنزيل 1/ 29.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/77)

آدم صنعة الحديد والزراعة.. جزاء حواء على إغوائها آدم بالأكل.. بدوّ السوءات (1).

قال آخر: بالإضافة إلى الفضول والتكلف الذي ملأ به تفسيره، فقد ذكر في تفسير قوله تعالى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255] الروايات المكذوبة في عدد حَمَلة الكرسي، وعدد وجوه كلّ ملك، ومكان أقدامهم، وصورة كلّ ملك، وما يسأله كلّ ملك من الله تعالى، والمسافة بين حَمَلة العرش وحمَلة الكرسي.. وهكذا فعل في قصّة طالوت وجالوت وغيرها (2).

تفسير الثعلبي

قال أحد الحشوية: فما تقولون في تفسير أبي إسحاق النيسابوري الثعلبي صاحب (تفسير الثعلبي) والذي هو في الحقيقة (الكشف والبيان في تفسير القرآن)، والذي قال عنه الصفدي: (كان أوحد زمانه في علم القرآن)(3).

قال آخر: وقال عنه ياقوت: (المقرئ، المفسر، الواعظ، الأديب، الثقة، الحافظ، صاحب التصانيف الجليلة، من التفسير الحاوي أنواع الفرائد، من المعاني والإشارات، ولكمال أرباب الحقائق، ووجوه الإعراب والقراءات، ثم كتاب العرائس والقصص، وغير ذلك مما لا يحتاج إلى ذكره لشهرته، وهو صحيح النقل موثوق به)(4)

قال آخر: وقال عنه ابن كثير: (المفسر المشهور، له التفسير الكبير، وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء (عليهم السلام) وغير ذلك، وكان كثير الحديث واسع السماع، ولهذا يوجد في كتبه من الغرائب شيء كثير، وذكره عبد الغفار بن إسماعيل الفارسي في تاريخ نيشابور وأثنى عليه وقال: هو صحيح النقل موثوق به)(5)

__________

(1) معالم التنزيل 1/ 64.

(2) معالم التنزيل 1/ 226 ـ 235.

(3) الوافي بالوفيات (7: 307 ترجمة 3299)

(4) معجم الأدباء (5: 36/ 5)

(5) البداية والنهاية (12/ 43)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/78)

قال آخر: وروى عنه السبكي ما يدل على صلاحه وتقواه، فمن أشعاره قوله (1):

وإني لأدعو الله والأمر ضيق... علي فما ينفك أن يتفرجا

ورب فتى سدت عليه وجوهه... أصاب له في دعوة الله مخرجا

قال آخر: وفوق ذلك؛ فقد أثنى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرا، واعتبره من العلماء بالسنة، واعتبر تفسيره من تفاسيرهم المعتمدة.

قال أحد الحكماء: أجل، هو قال ذلك عنه، لأن الأهم عنده هو تلك العقائد المرتبطة بالتجسيم والتشبيه وتخطئة الأنبياء عليهم السلام، لا صفاء القرآن الكريم وبعده عن كل شبهة وتدليس وتحريف.

قال آخر: ولذلك هو نفسه من قال عنه: (ثم علماء الحديث متفقون على أن الثعلبي وأمثاله يروون الصحيح والضعيف، ومتفقون على أن مجرد روايته لا توجب اتباع ذلك، ولهذا يقولون في الثعلبي وأمثاله: إنه حاطب ليل يروي ما وجد، وسواء كان صحيحاً أو سقيماً، فتفسيره وإن كان غالب الأحاديث التي فيه صحيحة ففيه ما هو كذب موضوع، باتفاق أهل العلم)(2)

قال آخر: وقال عنه: (أما ما نقله من تفسير الثعلبي، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعة، كالحديث الذي يرويه في أول سورة عن أبي أمامة في فضل تلك السورة، وكأمثال ذلك، ولهذا يقولون: هو كحاطب ليل، وهكذا الواحدي تلميذه، وأمثالهما من المفسرين، ينقلون الصحيح والضعيف)(3)

قال آخر: وقال في وصف الثعلبي نفسه: (والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين،

__________

(1) طبقات الشافعية الكبرى (4: 58 ـ 59/ترجمة 267)

(2) منهاج السنة (7/ 90)

(3) منهاج السنة (7/ 12)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/79)

وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع، والواحدي صاحبه كان أبصر منه بالعربية، لكن هو أبعد عن السلامة، واتباع السلف، والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة، والآراء المبتدعة)(1)

قال آخر: بل إنه شهد بهذه الشهادة في كل التفاسير التي زعم أنها تفاسير تمثل السنة، فقد قال: (الثعلبي، والواحدي، وأمثالهما.. وهؤلاء من عادتهم يروون ما رواه غيرهم، وكثير من ذلك لا يعرفون هل هو صحيح أم ضعيف، ويروون من الأحاديث الإسرائيليات ما يعلم غيرهم أنه باطل في نفس الأمر، لأن وظيفتهم النقل لما نقل، أو حكاية أقوال الناس، وإن كان كثير من هذا وهذا باطلاً، وربما تكلموا على صحة بعض المنقولات وضعفها، لكن لا يطردون هذا، ولا يلتزمون)(2)

قال آخر: وبذلك؛ فإن المهم عند ابن تيمية ليس تنقية السنة من كل الأحاديث التي تشوهها، وإنما في تلك العقائد المرتبطة بالتجسيم والتشبيه وتشويه الدين، والتي جعلها معيارا من خلاله يحكم بكون المسلم سنيا أو مبتدعا.

تفسير الطبري

قال أحد الحشوية: فما تقولون في تفسير جامع البيان للطبري، ذاك الذي شهد له الخطيب البغدادي بأنه (جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله

__________

(1) مجموع الفتاوى (13/ 354)

(2) منهاج السنة (7/ 177)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/80)

الكتاب المشهور في [تارخ الأمم والملوك]، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه [تهذيب الآثار] لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء.. وتفرد بمسائل حفظت عنه.. وسمعت علي بن عبيد الله بن عبد الغفار اللغوي المعروف بالسمسماني يحكي: أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة)(1)

قال آخر: وقال عنه أبو حامد الإسفراييني: (لو سافر رجلٌ إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرًا)(2)

قال آخر: وذكر صاحب (لسان الميزان) أن ابن خزيمة استعار تفسير ابن جرير ممن كتبه عن الطبري فردّه بعد سنين ثم قال: (نظرتُ فيه من أوله إلى آخره؛ فما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير)(3)

قال آخر: وقال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: (أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري؛ فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المُتَّهمِين)(4)

قال أحد الحكماء: وهو مع كل ما ذكرتم كان كسائر الحشوية حاطب ليل، يهمه الجمع أكثر من التحقيق.. وقد حكى الخطيب عنه أنه قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن، قالوا: كم يكون قدره؟ فقال ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير فأجابوه بمثل ذلك..

__________

(1) تاريخ بغداد ت بشار (2/ 548)

(2) سير أعلام النبلاء (14/ 272)

(3) لسان الميزان، ت: أبو غدة (7/ 25)

(4) مقدمة في أصول التفسير (ص 51)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/81)

فقال: إنا لله، ماتت الهمم (1).

قال آخر: ولذلك كان يهتم بجمع أكبر عدد من الروايات حتى لو كان هو نفسه يعلم كذبها، وكمثال على ذلك أنه كان يعلم عدم أهلية سيف بن عمر (2) للرواية، لكنه مع ذلك روى له.. لأنه لو أزال من كتابه تلك الروايات فسينقص عدد صفحات كتابه، وسينقص معها تقدير المحدثين له.

التساهل والتمييع

بعد أن ذكر الحكماء الأدلة الكثيرة على الكذب والتزوير الذي وقع فيه الحشوية نتيجة اهتمامهم بالرواية أكثر من الدراية، وبالجمع أكثر من التحقيق، والذي اكتفيت ببعضه هنا، قام أحد الحضور، وقال: وعينا هذا.. فما الجريمة الثانية؟

قال أحد الحكماء: الجريمة الثانية هي التساهل في الروايات المرتبطة بتفسير القرآن الكريم، مع أن الاحتياط فيها أوجب.. لكنهم لم يبالوا بذلك، بل راحوا يتشددون في الأحاديث التي تصف الجزئيات البسيطة في الوضوء والغسل، مع كون الأمر فيها بسيطا، ويتساهلون في نفس الوقت في تلك الروايات التي تشوه الدين بكل أجزائه.

قال آخر: وقد شهد كبار العلماء على أنفسهم بذلك، ومن الأمثلة على ذلك ما روي أن الإمام أحمد بن حنبل سئل عن موسى بن عُبيدة الربَذَي، وعن محمد بن إسحاق، فقال: (أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث ـ كأنه يعني المغازي ونحوها ـ وأما موسى بن عبيدة فلم يكن به بأس، ولكنه حدث بأحاديث مناكير عن عبد الله بن دينار،

__________

(1) تاريخ بغداد وذيوله (2/ 161)

(2) هو سيف بن عمر الأسديّ التميمي وهو مؤرخ كوفي كتب ما كتبه زمن هارون الرشيد، وقد تجاهله أغلب المؤرخين المبكرين؛ كالبلاذري وعمر بن شبة، بالإضافة إلى أن أصحاب الجرح والتعديل ضعفوه واتهموه بالكذب، فقد قال فيه النسائي صاحب السنن (المتوفى 303 هـ)، والمعاصر للطبري: (ضعيف متروك الحديث، ليس بثقة، ولا مأمون)(الضعفاء والمتروكين: 187) لكنّ الطبري استند إليه استناداً واسعاً فيما تعلق بتاريخ الخلافة المبكرة من أبي بكر إلى علي. وعبر نقول الطبري عنه أثرت رواية سيف هذا تأثيراً بالغاً في الكتابة التاريخية.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/82)

عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قوما هكذا)، وقبض الراوي على أصابع يديه الأربع من كل يد، ولم يضم الإبهام (1).. أي أنهم يتشددون في الروايات المرتبطة بالأحكام، ويتساهلون في غيرها، ولذلك ذكر أنه يمكن الرواية عن ابن إسحق، لكن فيما يتعلق بالسيرة فقط، أما ما عداها، فلا تقبل روايته.

قال آخر: وهكذا قال الحاكم في الأحاديث التي أراد استدراكها على الصحيحين، فقد قال: (وأنا بمشيئة الله أُجري الأخبار التي سقطت على الشيخين في كتاب الدعوات على مذهب أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي في قبولها، فإني سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري، يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، يقول: كان أبي يحكي، عن عبد الرحمن بن مهدي، يقول: إذا روينا، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحلال والحرام والأحكام: شددنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال، وإذا روينا في فضائل الأعمال، والثواب والعقاب، والمباحات والدعوات: تساهلنا في الأسانيد)(2)

قال آخر: وهكذا اتفق جميع المحدثين على التساهل في الرواية فيما عدا الحلال والحرام، ولهذا نرى كتب التفسير والتاريخ والسيرة مملوءة بالأحاديث التي لا سند لها، بل الأحاديث الموضوعة، باعتبارهم لا يلقون كبير بال لها.

قال آخر: وقد عقد الخطيب البغدادي في كتابه [الكفاية في علم الرواية] الذي يعتبر مصدرا من مصادر علم الحديث الأولى، بابا بعنوان [باب التشدد في أحاديث الأحكام، والتجوز في فضائل الأعمال]، وقد قال في مقدمته: (قد ورد عن غير واحد من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إلا عمن كان بريئا من التهمة، بعيدا من

__________

(1) تاريخ ابن معين برواية الدوري، ابن معين (3/ 60)

(2) رواه الحاكم في المستدرك (1/ 666)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/83)

الظنة، وأما أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك فإنه يجوز كتبها عن سائر المشايخ)(1)، وهم يعتبرون أن التفسير والسيرة والتاريخ ونحوها من أبواب المواعظ والقصص، وهي بذلك أدنى درجة من أحاديث الترغيب والترهيب نفسها.

قال آخر: وقد نقل البغدادي عن سفيان الثوري، وهو من يعتبرونه أمير المؤمنين في الحديث قوله: (لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم، الذين يعرفون الزيادة والنقصان، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ)(2)

قال آخر: ونقل عن ابن عيينة قوله: (لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره)(3)

قال آخر: وبناء على هذا، فإن كل من رووا أحداث التفسير والسيرة ابتداء من العصر الأول كانوا من المتساهلين في روايتها، حيث غلب عليهم التدليس وغيره، حتى لو كانوا ثقاة في مسائل الحلال والحرام، وقد عبر عن ذلك ابن تيميّة في [مقدمة أصول التفسير] بقوله: (ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثرُهُ كالمنقول في المغازي والملاحم؛ ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاثةُ أمورٍ ليس لها إسناد: التفسيرُ، والملاحمُ، والمغازي، ويروى: ليس له أصلٌ، أي: إسنادٌ؛ لأن الغالبَ عليها المراسيل، مثل ما يذكره عروة بن الزبير، والشعبي، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، ومَنْ بعدهم، كيحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم، والواقدي ونحوهم في المغازي)(4)

قال آخر: وهذا كله خلاف لما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من ضرورة التثبت في الأحاديث والأخبار، بغض النظر عن القضايا المطروحة فيها.. فالكذب كذب

__________

(1) الكفاية في علم الرواية (ص 133)

(2) الكفاية في علم الرواية، ص 134.

(3) الكفاية في علم الرواية، ص 134.

(4) مجموع الفتاوى (13/ 346)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/84)

سواء كان في التفسير والسيرة، أو في الطهارة والصلاة.

قال آخر: ولهذا استطاع المدلسون والحقدة أن يدخلوا من هذه الأبواب لتشويه الدين، بل وتحريفه، وتحويل القرآن الكريم من كتاب للعلم والحكمة إلى مصدر للدجل والخرافة.

الفضول والتكلف

بعد أن ذكر الحكماء الأدلة على التمييع والتساهل الذي وقع فيه الحشوية، قام أحد الحضور، وقال: وعينا هذا.. فما الجريمة الثالثة؟

قال أحد الحكماء: الجريمة الثالثة هي الفضول والتكلف والبحث فيما لا يجدي، وهو ما نهى عنه القرآن الكريم، والذي دعانا إلى الاعتبار بالقصص لا بالبحث في تفاصيل أحداثها، وقد قال تعالى عند عرضه لقصة أصحاب الكهف: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 22]

قال آخر: وقد علق بعض العلماء على الآية الكريمة بقوله: (ومرّ التاريخ، وبدأ الناس يتناقشون في أمور لا فائدة فيها ولا غنى، بينما كان من المفترض أن يكون نقاشهم في دراسة تجربتهم، وموقفهم، وطبيعة الدرس الذي يمكن استفادته للمستقبل.. وهذا هو ما يفعله التخلّف في حياة الناس، عند ما يتجمدون في مسألة المعرفة على الأمور التافهة التي لا تمثل شيئا في مصلحة الإنسان في ما يتصل بحياته العملية، فيغرقون في الأمور التجريدية، أو في الخلافات اللفظية، أو في القضايا الشكلية، أو في الأعداد التي لا تعني شيئا، أو في الأسماء أو الأنساب التي لا توحي بشيء، وغير ذلك مما لا ينفع من علمه ولا يضرّ من

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/85)

جهله.. وهذا ما يحدثنا القرآن عنه، كمظهر من مظاهر التخلّف التي ينبغي للإنسان أن يبتعد عنها.. ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ وسيقولون الكثير مما قد يعلمون منه القليل، ويجهلون منه الكثير، ويريد الله لرسوله، وللمسلمين من خلاله، أن يختصروا المسألة بكلمة حاسمة تنهي الخلاف: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾ فلنترك الأمر لله، في ما يعلمه من خفايا الأشياء التي لا نملك أساسا لمعرفتها، ولا نجد أيّة فائدة في البحث عنها ﴿ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ ممن استطاعوا التعرّف على مصادر التاريخ الموثوقة من وحي أو غير ذلك)(1)

قال آخر: وقد أشار إلى هذا بعض العلماء فقال: (وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا ـ أي بكثرة الكلام ـ فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين، فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض! وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم، كيف كان كلامهم أقل من كلام التابعين، والصحابة أعلم منهم، وكذلك تابعو التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين، والتابعون أعلم منهم.. فليس العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يقذف في القلب، يفهم به العبد الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا، ولهذا ورد النهي عن كثرة الكلام، والتوسع في القيل والقال.. وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم)(2)

قال آخر: وأشار آخر إلى هذه الظاهرة في العقل الحشوي، فقال منكرا لها: (وأكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين والضعفاء،

__________

(1) تفسير من وحي القران (14/ 298)

(2) فضل علم السلف على الخلف، ص 26 و28 و47.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/86)

حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبا، والثابت مصدوفا عنه مطرحا، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين)(1)

قال آخر: ثم روى عن أحمد قوله: (شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها)، وقوله: (تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب، ما أقل الفقه فيهم)(2)

قال آخر: وما ذكره أحمد صحيح ودقيق، ولكن العقل الحشوي لا يقبل من أحمد إلا ما يوافق مزاجه.. لأن كل عقل ممتلئ بالحشو لابد أن يكون عقلا مزاجيا، ذلك أنه لا ينطلق للوصول إلى الحقيقة من البحث العلمي الجاد، وإنما ينطلق من إرضاء غريزته وفضوله.

قال أحد الحضور: لكن مع ما ذكرتموه؛ فإن تلك التفاسير تلبي الكثيرمن الحاجات الفطرية؛ فكل البشر يحبون التفاصيل، ولا نستطيع أن نمنعهم منها.

قال آخر: وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون في الاعتذار لهؤلاء، فقد قال: (وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار من النصارى، وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك.. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم؛ فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل، وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات.. وأصلها كما قلناه عن أهل

__________

(1) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص 141)

(2) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص 141)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/87)

التوراة الذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ)(1)

قال الحكيم: لكن ذلك يشبه ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [لقمان: 6]، ثم قوله بعدها: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [لقمان: 7].. فقد روي في سبب نزولها أنها نزلت في النضر بن الحارث، وذلك أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم، فيرويها ويحدّث بها قريشا ويقول لهم: إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن (2).. وهو نفس ما يستعمله هؤلاء حين يشغلون قراء القرآن الكريم بتلك الأساطير المملوءة بالخرافات والتناقضات عن التدبر والاعتبار.

قال أحد الحضور: إن ما ذكرته من الاستدلال بالآية الكريمة جميل.. ونحن نريد منكم أن تفسروا لنا تلك الآيات الكريمة التي فسرها لنا هؤلاء المشايخ بحسب الرؤية التي تذكرها.. لنقارن بعد ذلك بين ما ذكروه، وما ذكرتموه.

قال أحد الحكماء: لا بأس.. ولنبدأ بأول ما سألتموهم عنه، وهو سفينة نوح عليه السلام.. فبدل البحث في طولها وعرضها، والحيوانات التي ركبت فيها، والخرافات المرتبطة بذلك.. يمكن فهم الآيات الكريمة بما يعمق الإيمان، وبما يعلمنا كيف نسير في حياتنا على منهج الأنبياء عليهم السلام.

__________

(1) تاريخ ابن خلدون (1/ 555)

(2) النيسابوري، أسباب النزول، ص 192.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/88)

قال آخر: ومن الأمثلة على التأويلات النافعة التي يمكن أن تؤول بها تلك الآيات الكريمة المرتبطة بنوح عليه السلام وسفينته، ما عبر عنه بعضهم بقوله: (انتهت مهمة نوح في الدعوة، فقد استنفذ كل التجارب والأساليب، فلم يؤمن له إلا نفر من قومه، أما الباقون فقد ازدادوا تمردا وطغيانا، فلم ينفع ترغيب معهم أو ترهيب، بحيث لم يبق أمل في هدايتهم وإيمانهم، وجاء دور العذاب، ولكن الله أراد أن يعلن ذلك لنوح بأسلوب ينعش روحيته ولا يشعر معه بالهزيمة، أو بالتقصير، لقيامه بمهمته كنبيّ خير قيام، وصبره علي ما لا يملك عليه أحد صبرا خلال مسيرة دعوته التي امتدت طويلا، امتداد عمره، دون تأفف أو ضجر، ولم يسقط أمام كل تحديات الكفار، ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [هود: 36] من كفر وعصيان، لأنّك قد أقمت عليهم الحجة بمختلف الوسائل، ويسّرت لهم كل سبل الهداية فامتنعوا عن السير فيها، وبذلك فإنهم يتحملون مسئولية أفعالهم كلها)(1)

قال آخر (2): وبعدها جاءه الأمر الإلهي بصنع السفية.. ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾ أى السفينة ﴿بِأَعْيُنِنا﴾ أى برعايتنا، باعتبار أن عمله كان بنظر الله بحيث لا يستطيع أن يمنعه أحد من ذلك ﴿وَوَحْيِنا﴾ في ما أمره الله، وفي ما علّمه من طريقة الصنع، ومهّد له من تبيان وسائله، ﴿وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بالعفو عنهم، انطلاقا من طهارة مشاعرك وطيبة قلبك، فقد صدر الحكم عليهم من الله، وانتهى أمرهم بذلك، لأنهم لا يستحقون الرحمة من الله بعد أن رفضوا رحمته في رسالته وفي شريعته، فحق عليهم العذاب، ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ بطريقة عجيبة معجزة لا يتصورها أحد منهم، ولا تخطر لهم على بال.

__________

(1) تفسير من وحي القران (12/ 63)

(2) تفسير من وحي القران (12/ 64)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/89)

قال آخر (1): ثم ذكر الله تعالى سخريتهم منه، وهو يصنع السفينة، فقال: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾، أي ويستمر في صناعته بجدّ واجتهاد في الليل والنهار.. لكن عمله ذاك كان محلّ استغراب، لأن المنطقة التي يعيش فيها كانت فلاة لا وجود للماء فيها، أو في المواقع القريبة منها، بما يوحي أن عمله ذاك كان حالة من العبث، أو مظهرا لغياب العقل، لذا كان موضع سخرية قومه.. ﴿وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾ بما يحملونه من عقد خبيثة ضدّه، تجعلهم يعملون على إذلاله، وبما يحمله حكمهم على الأشياء من سطحية وتسرع لا ينفذ إلى أعماق الأمور، فلو فكروا بطريقة موضوعيّة، لنظروا إلى تاريخ حياته الذي يكشف لهم عن قوّة فكره، وسلامة نظره، ولسألوه عن سرّ عمله الغامض في الظاهر، باعتباره صادرا عن شخص يملك العقل الكامل، والذهنية المتوازنة ليتمكنوا بعد استجماع كل عناصر الموضوع الحكم، ولكنهم ينطلقون من موقع الرغبة في تحطيمه، لا من موقع الرغبة في الفهم الصحيح للأمور.

قال آخر (2): لكن الله أراد لنوح عليه السلام أن يردّ الأسلوب بمثله، لأن الفكر إنما يكون لمن يحترمون الفكر، والحوار ينشأ مع من يريدون الحوار، أما من يريدون التحطيم والتدمير، عن قصد وتصميم شرّير فلا بد من مواجهتهم بأسلوبهم، لأن ذلك ما تقتضيه الحكمة في مواجهة الموقف بما يتطابق مع مقتضى الحال، وهكذا أراد الله له أن يقول، في ما ألهمه من وحي الحكمة: ﴿قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ﴾، فذلك هو ردّ الفعل على الموقف، ولكنه يختلف في دوافعه عما انطلقتم فيه، فإذا كانت سخريتكم ناشئة عن عقدة، أو عن جهل لطبيعة العمل الذي أقوم به، فإنا نسخر منكم من موقع اطلاعنا على النهاية السيئة التي ستنتهون إليها، ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ

__________

(1) تفسير من وحي القران (12/ 64)

(2) تفسير من وحي القران (12/ 64)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/90)

عَذابٌ مُقِيمٌ﴾ من دون أن تشعروا، أو تفكروا، أو تواجهوا ذلك بجدّية ومسئوليّة.

قال آخر: وهكذا اكتفى القرآن الكريم بذكر ما ينفعنا ويفيدنا، ويعلمنا كيف نسلم للحق، ونستسلم له، حتى لا ينزل بنا العذاب الذي نزل بالمعاندين؛ فـ (هذه القصة واضحة الدلالة كغيرها من القصص القرآني على أن نزول العذاب ـ عذاب الاستئصال والهلاك ـ كان بسبب العناد والإصرار على الكفر، وملازمة الشرك والوثنية)(1)

قال أحد الحضور: إن ما ذكرتموه جميل جدا.. وهو أنفع لنا من تلك التفاصيل التي ذكرها هؤلاء المشايخ.. فحدثونا عما فسروه لنا من قصة يوسف عليه السلام لنقارن بين ما تذكرونه، وما يذكرونه.

قال أحد الحكماء: قصة يوسف عليه السلام مجال رحب للكثير من العلوم والحقائق والقيم النافعة التي يغنينا التدبر فيها عن كل ذلك الفضول والتكلف الذي لا حاجة إليه.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في رؤياه.. فهي مجال للبحث في سر الرؤى وحقيقتها ودورها في الحياة.. وقد قال بعض المفسرين عند ذكره لتلك الآيات الكريمة: (إن مسألة الرؤيا في المنام من المسائل التي تستقطب أفكار الأفراد العاديين من الناس والعلماء في الوقت نفسه.. فما هذه الأحلام التي يراها الإنسان في منامه من أحداث سيئة أو حسنة، وميادين موحشة أو مؤنسة، وما يثير السرور أو الغم في نفسه!؟.. أهي مرتبطة بالماضي الذي عشعش في أعماق روح الإنسان وبرز الى الساحة بعد بعض التبديلات والتغييرات؟.. أم هي مرتبطة بالمستقبل الذي تلتقط صوره عدسة الروح برموز خاصة من الحوادث المستقبلية!؟.. أو هي أنواع مختلفة، منها ما يتعلق بالماضي، ومنها ما يتعلق بالمستقبل، ومنها ناتج عن الميول النفسية والرغبات وما الى ذلك!؟)(2).. ثم أجاب على

__________

(1) التفسير المنير (18/ 36)

(2) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي (7/ 128)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/91)

هذه الأسئلة جميعا.

قال آخر: أرأيتم.. هذه التساؤلات هي التي يمكنها أن تفيد في البحث والتحقيق، لنصل إلى المعارف التي تفيدنا في ديننا وحياتنا.. أما أسماء الكواكب، فما فائدتها؟

قال أحد الحضور: وما ضررها؟

قال الحكيم: هي تضر.. لأنها معلومات غير صحيحة، والكذب ضار مطلقا.. بالإضافة إلى أنه لو قرأ تلك الأسماء فلكي فسيجعلها وسيلة للتفكه والسخرية بالدين؛ وقد أمرنا ألا نكون حجابا بين الخلق والإيمان.

قال أحد الحضور: ما ذكرتموه جيد جدا.. فما قال هؤلاء الذين ذكرتموهم في تفسير تلك الآيات الكريمة التي تتحدث عن موسى عليه السلام وعصاه؟

قال أحد الحكماء: لقد قال أحدهم في تفسيره للآيات التي تتحدث عن ذلك: (لا شك أن الأنيباء يحتاجون إلى المعجزة لإثبات ارتباطهم بالله، وإلا فإن أي واحد يستطيع أن يدعي النبوة، وبناء على هذا فإن معرفة الأنبياء الحقيقيين من المزيفين لا يتيسر إلا عن طريق المعجزة.. وهذه المعجزة يمكن أن تكون بذاتها دعوة وكتابا سماويا للنبي، ويمكن أن تكون أمورا أخرى من قبيل المعجزات الحسية والجسمية، إضافة إلى أن المعجزة مؤثرة في نفس النبي، فهي تزيد من عزيمته وإيمانه وثباته.. على كل حال، فإن موسى عليه السلام بعد تلقيه أمر النبوة، يجب أن يتلقى دليلها وسندها أيضا)(1)

قال آخر: ثم ذكر نوع المعجزة التي تلقاها موسى عليه السلام، فقال: (تلقى موسى عليه السلام في تلك الليلة المليئة بالذكريات والحوادث معجزتين كبيرتين من الله، ويبين القرآن الكريم هذه الحادثة فيقول: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ [طه: 17].. إن هذا السؤال

__________

(1) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي (9/ 539)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/92)

البسيط المقترن باللطف والمحبة، إضافة إلى أنه بث الطمانينة في نفس موسى عليه السلام الذي كان غارقا حينئذ في دوامة من الاضطراب والهيجان فإنه كان مقدمة لحادثة مهمة.. فأجاب موسى عليه السلام: ﴿هِيَ عَصَايَ﴾ [طه: 18]، ولما كان راغبا في أن يستمر في حديثه مع محبوبه الذي فتح الباب بوجهه لأول مرة، وربما كان يظن أيضا أن قوله: ﴿هِيَ عَصَايَ﴾ غير كاف، فأراد أن يبين آثارها وفوائدها فأضاف: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾ [طه: 18] أي أضرب بها على اغصان الشجر فتتساقط اوراقها لتأكلها الأغنام

قال أحد الحشوية: كل هذه الفوائد للعصا معروفة.. لكن المهم ما قاله بعدها، وهو الذي كان سببا في تلك التفاصيل التي ذكرها السلف، وهو قوله تعالى: ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ [طه: 18] (1)

قال الحكيم: ذلك أيضا واضح وبسيط، ولا يحتاج كل ذلك التكلف.. فمن المعلوم ما للعصا لأصحابها من فوائد، وخاصة للبدو والرعاة؛ فهم يستعملونها أحيانا كسلاح للدفاع عن أنفسهم أمام الحيوانات المؤذية والأعداء، وأحيانا يصنعون منها مظلة في الصحراء تقيهم حر الشمس، وأحيانا أخرى يربطون بها وعاء أو دلوا ويسحبون الماء من البئر العميق (2).

قال آخر: أليس هذا أكثر تأثيرا في موسى عليه السلام وغيره، وأكثر دلالة على القدرة.. من أن تكون العصا التي خصت بتلك الآيات عصا خاصة.. فأيهما أكثر إعجازا أن تكون تلك الآيات مرتبطة بأي عصا، أو بعصا معينة محدودة؟

قال أحد الحضور: فما تقولون فيما ذكره هؤلاء المشايخ من أن الذبيح هو إسحق وليس إسماعيل عليهما السلام؟

__________

(1) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي (9/ 539)

(2) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي (9/ 540)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/93)

قال أحد الحكماء: مع أن كليهما نبي من الأنبياء المحترمين إلا أن تدبر القرآن الكريم وحده كاف للدلالة على أن المقصود هو إسماعيل عليه السلام.. ومن أهم الأدلة على ذلك قوله تعالى بعد قصة الذبح: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 112]، (وهذه الآية توضح بصورة جيدة، أن الله سبحانه وتعالى بشر إبراهيم بولادة إسحاق بعد قضية الذبح، نتيجة تضحياته، ولهذا فإن قضية الذبح لا تخصه أبدا، إضافة إلى أن الباري عزوجل عندما يبشر أحدا بالنبوة، فذلك يعني بقاء ذلك الشخص حيا، وهذا لا يتناسب مع قضية الذبح التي خصت غلاما)(1)

قال آخر: ويدل لذلك من القرآن الكريم أيضا قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: 71]، فهذه الآية الكريمة توضح أن إبراهيم عليه السلام كان مطمئنا على بقاء ولده إسحاق، وأن الله سيرزق إسحاق ولدا اسمه يعقوب، وهذا يعني أن الذبح لا يشمله أبدا.. فالذين اعتبروا إسحاق هو الذبيح، يبدو أنهم لم يأخذوا بنظر الإعتبار حقيقة هذه الآيات)(2)

قال آخر: وهكذا ترون كيف أثرت غلبة الرواية والحشو على التدبر البسيط، والذي يمكننا من الوصول إلى الحقيقة من غير أي تكلف.

الغفلة والتناقض

بعد أن ذكر الحكماء الأدلة على الفضول والتكلف الذي وقع فيه الحشوية، قام أحد الحضور، وقال: وعينا هذا.. فما الجريمة الرابعة؟

قال أحد الحكماء: الجريمة الرابعة هي الغفلة والتناقض.. وذلك ما يمكن لأي عاقل أن يكتشفه.. ولعلكم معشر الحضور قد مررتم ببعض ذلك.

__________

(1) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي (14/ 369)

(2) الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي (14/ 369)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/94)

قال أحد الحضور (1): إن شئتم الصدق.. فقد مررت أثناء دراستي لهذه التفاسير على الكثير من ذلك، لكني لم أكن أجرؤ على الإفصاح عنها خشية أن أكون من الذين يستعملون عقولهم في فهم الدين.. ومن الأمثلة على ذلك ما قرأته في تفسير قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 49]، فقد قرأت قول السدّي: (كان عيسى عليه السلام في الكتاب يحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم، ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا وكذا، فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء، فيقولون: من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى، فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم فقالوا: ليسوا ها هنا، فقال: فما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير..)(2).. ولا أدري كيف جُمع الصبيان كلّهم في بيت واحد، ولو قال: حبست كلّ عائلة صبيّها عنه لكان مقبولاً!؟

قال آخر: ومثل ذلك ما روي عن وهب بن منبّه أنه قال عند تفسير قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 259].. فقد ذكر خبرا طوبلا ورد فيه أن بختنصر اختار من صبيان بني إسرائيل (سبعين ألف صبي فقسّمهم بين الملوك الذين كانوا معه، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة)(3).. وهذا يعني

__________

(1) انظر مقالا بعنوان: التفسير الأثري في التراث الإسلامي دراسة مقارنة بين الطبرسي والبغوي، الدكتور مرتضى الايرواني، مجلة نصوص معاصرة، ع 9.

(2) معالم التنزيل 1/ 204.

(3) معالم التنزيل 1/ 244.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/95)

أن الملوك الذين كانوا معه يزيد عددهم على سبعة عشر ألف ملك، فهل يعقل أن يكون معه هذا العدد من الملوك؟

قال آخر: ومثل ذلك قوله في ذلك الخبر: (ثم ربط أرمياء حماره بحبل جديد، فألقى الله تعالى عليه النوم، فلمّا قام نزع الله منه الروح مائة عام.. فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس يقال له: نوشك، فقال: إنّ الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا حتى يعود أعمر ما كان، فانتدب الملك بألف قهرمان مع كلّ قهرمان ثلاثمائة ألف عامل وجعلوا يعمرونه..)(1)، فهل يُعقل أن ينتدب الملك ألف قهرمان مع كلّ قهرمان ثلاثمائة ألف عامل، أي ثلاثمائة مليون عامل لبناء بيت المقدس وإعماره!؟ فمن أين جيئ بهؤلاء العمال؟ وأين أسكنوهم ليعملوا؟ وكيف أطعموهم؟ وكيف نسّقوا العمل بينهم؟ وهل يحتاج بناء مدينة إلى مثل هذا العدد من العمّال؟

4 ـ تشويه المقدس

بعد أن أجاب الحكماء على كل الإشكالات التي طرحها الحضور قام أحد الحشوية، وقال: ولكن ـ مهما يكن ـ فقد كان لتلك القصص والروايات دورها في توضيح وتفصيل ما ورد في القرآن الكريم، وهو ما يميل إليه أكثر الناس.. بالإضافة إلى أنه لولاها لكانت تفاسير القرآن الكريم مختصرة جدا، وكان التراث الإسلامي الذي نفتخر به محدودا أيضا.

قال أحد الحكماء: إن مثلكم أيها الشيخ الجليل مثل شخص استدعى ضيوفا ليقدم لهم وليمة، وكان لديه طعام طيب يكفيهم.. لكنه لشرهه للكثرة، وحبه للتمدح بها، راح يضيف إليها طعاما كثيرا خبيثا.. فهل تراكم تأكلون ذلك الطعام؟

__________

(1) معالم التنزيل 1/ 245.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/96)

قال الحشوي: سننتقي منه الطيب ونأكله.

قال الحكيم: فإن عسر عليكم التمييز؟

سكت الحشوي، فقال الحكيم: طبعا لو تجرأتم فأكلتموه؛ فستتسممون بذلك.. وسيكون ذلك الطعام وبالا عليكم لا منفعة لكم.

قال الحشوي: لكن ما علاقة ذلك بما نحن فيه؟

قال الحكيم: هذا ما فعله أسلافكم الذين تقدسونهم، فقد جرهم التساهل مع الكذب في الأخبار إلى التساهل من المتجرئين على الكذب على الله؛ فالمدمن على الكذب، لا يكتفي بالكذب على الخلق والافتراء عليهم، وإنما تطالبه نفسه بالمزيد والمزيد إلى أن يفتري على الله نفسه، مثلما تفعل المخدرات بأصحابها، والذين يحتاجون إلى زيادة الجرعات كل حين، حتى يلبوا الحاجات التي لا تنقطع لإدمانهم.

قال آخر: لقد قال الله تعالى يشير إلى ذلك عند إخباره عن افتراءات اليهود على الله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [آل عمران: 181]، وقال: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: 64].. وهي تشير إلى أن اليهود ـ مع كثرة الأنبياء الذين أرسلهم الله إليهم ـ إلا أن نفوسهم الأمارة الممتلئة بالكذب وتزوير الحقائق جعلتهم لا يستفيدون منهم، وهو ما يدل على أن الكذب والافتراء هو الحجاب الأعظم بين الإنسان والحقائق.

بعد أن قال الحكماء هذا، دب صمت في ذلك المجلس، وقد رأيت خلاله وجوه

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/97)

الحشوية قد تغيرت، ورأيت عليها بعض الأنوار التي لم أرها من قبل، وبعد لحظات قليلة، قام كبيرهم، وقال: لست أدري ما أقول لكم معشر الحكماء، لكن ما ذكرتموه صحيح جدا.. وأنا الآن بين زملائي الشيوخ، وبين هؤلاء الحضور الكرام أقر وأشهد بأني كنت ضحية لكل تلك الإسرائيليات والخرافات التي دست في الدين.. والتي كنت أحسن الظن بها بسبب ثقتي الزائدة في رواتها، بل قولي بعصمتهم من حيث لا أشعر.. لكني الآن وبعد أن سمعت هذه الكلمات الطيبة، أقر أمامكم بأني كنت أحمل الكثير من العقائد المشوهة، والتي لا تتناسب مع جلال الله وجماله، ولا مع رسل الله عليهم السلام وكمالهم، ولا مع الدين وقيمه.

قال آخر: ليس هناك أجمل من الحقيقة.. وأنا أشكر كثيرا شيخنا الشجاع الذي استطاع أن يقهر نفسه الأمارة، ويعلن توبته أمامكم.. وأنا بدوري أفعل ذلك.. ومستعد لأن أبين أمامكم كل الأخطاء التي كنا نمارسها من حيث لا نشعر في تخريب الإسلام وتشويهه.

وهكذا نطق جميع الحشوية بذلك، وأمثاله، وبعد أن انتهوا من حديثهم، قال بعض الحكماء: بارك الله فيكم، وفي إيمانكم وتقواكم وورعكم، ونحن نلتمس منكم أن تذكروا للحاضرين ما يحميهم من الشبهات التي قد تعرض لهم أو لأمثالهم في المستقبل؛ فلعل هناك من بيننا من يكتب ما تقولونه لينقله لغير أهل هذه المدينة.

قام كبير الحشوية، وقال: الأباطيل والخرفات التي دسها قومنا من الحشوية في الدين، لا يمكن إحصاؤها في هذا المجلس، ولذلك سنكتفي بذكر خمسة منها، ترتبط بالحقائق الكبرى التي جاء القرآن الكريم بالتعريف بها.. أما أولاها؛ فيرتبط بالعقيدة في الله.. وأما الثاني؛ فيرتبط بالعقيدة في رسله.. وأما الثالث؛ فيرتبط بالعقيدة في ملائكته..

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/98)

وأما الرابع؛ فيرتبط بالعقيدة في المعاد.. وأما الخامس، فيرتبط بحقائق الكون، وعلاقتها بالعلم.

أ. الحشوية.. والله

قام بعض الحاضرين، وقال: فحدثونا عن الأول.. حدثونا عن التشويه المتعلق بالعقيدة في الله.

قال كبير الحشوية: الأمثلة والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر.. وهي تمتلئ بها تلك الكتب التي نعظمها ونقدسها، بل نقدمها على القرآن الكريم نفسه.. ومنها كتب التفسير وكتب السنة وكتب ذلك الذي كنا لا نسميه إلا بشيخ الإسلام.

قال أحد الحضور: فهلا ذكرت لنا بعضها لنتجنبه ونحذر منه.

قال كبير الحشوية: منها (كتاب السنة) لابن أبي عاصم، ففي هذا الكتاب الكثير من الأخبار المنكرة الغريبة، مثل خلق الله آدم على صورة وجهه، أو على صورة الرحمن، وأن الله تعالى تجلى للجبل منه مثل الخنصر، وأن العرش يئط به من ثقله، وأنه يقعد محمداً صلى الله عليه وآله وسلم معه على العرش، وأن المؤمنين يجالسون الله عز وجل في الجنة وغير ذلك.. وقد عقد بابا في هذا الكتاب يذكر فيه أن الله يمكن أن يسمى شخصا أورد فيه هذا الحديث: (لا شخص أغير من الله تعالى، ولا شخص أحب إليه العذر من الله عز وجل، ومن أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدح من الله تعالى، ومن أجل ذلك وعد الجنة)(1)

قال آخر: ومنها (كتاب السنة) المنسوب إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل.. فمما اشتمل عليه هذا الكتاب من التجسيم: وصفُه الله تعالى بالجلوس على العرش، وإثبات صدر له

__________

(1) السنة لابن أبي عاصم (1/ 230)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/99)

وذراعين، وإثبات الثقل والصورة التي صور عليها آدم، وأنه على كرسي من ذهب تحمله أربعة من الملائكة، وأنه واضع رجليه على الكرسي، وأن الكرسي قد عاد كالنعل في قدميه، وأنه إذا أراد أن يخوف أحداً من عباده أبدى عن بعضه، وأنه قرَّب داودَ عليه السلام حتى مس بعضه وأخذ بقدمه وغير ذلك مما سيكشف عنه البحث.

قال آخر: ومنها (كتاب السنة) لأبي بكر الخلال، والذي قرر فيه قعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الباري سبحانه على الفضلة التي تفضل من العرش.. وفيه أن الله عز وجل ينادي: يا داود اُدن مني فلا يزال يدنيه حتى يمس بعضه ويقول: كن أمامي فيقول رب ذنبي ذنبي، فيقول الله له كن خلفي خذ بقدمي (1).

قال آخر: ومنها (كتاب التوحيد) لأبي بكر بن خزيمة.. والذي عقد فيه بابا بعنوان إثبات الأصابع لله عز وجل، وبابا في إثبات القدم، ونحو ذلك.. ومنها ما جاء في أن الكرسي موضع قدميه، وأن العرش يئط به، وأنه تجلى منه مثل طرف الخنصر، وأنه يهبط ثم يرتفع، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا بروحه وملائكته فينتفض تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وأن جنة عدن مسكنه، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب يحمله أربعة من الملائكة، وغير ذلك.

قال آخر: ومنها كتاب (إبطال التأويلات) لأبي يعلى الفراء، والذي شحنه بأوصاف كثيرة لله يعف اللسان عن قولها، من أمثال (2): (شاب، أمرد، أجعد، في حلة حمراء، عليه تاج، ونعلان من ذهب، وعلى وجهه فَرَاش من ذهب).. وهو ينص كل حين على أن من لم يؤمن بهذه الصفات العظيمة فهو (زنديق)، (معتزلي)، (جهمي)، (لا تقبل شهادته)، (لا يسلم عليه)، (لا يعاد)، ثم يقول: (وليس في قوله: شاب وأمرد وجعد وقطط وموفور

__________

(1) السنة لأبي بكر بن الخلال (1/ 263)

(2) إبطال التأويلات: 1/ 133.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/100)

إثبات تشبيه، لأننا نثبت ذلك تسمية كما جاء الخبر لا نعقل معناها، كما أثبتنا ذاتا ونفسا، ولأنه ليس في إثبات الفَرَاش والنعلين والتاج وأخضر أكثر من تقريب المحدث من القديم، وهذا غير ممتنع كما لم يمتنع وصفه بالجلوس على العرش..)(1)

قال آخر: وهو يرجع كثيرا إلى اليهود وتلاميذهم، فينقل عن كعب الأحبار أنه قال: (إن الله تعالى نظر إلى الأرض فقال: إني واطئ على بعضك، فانتسفت إليه الجبال فتضعضعت الصخرة فشكر الله لها ذلك فوضع عليها قدمه)(2)، ثم يعتبر هذا لإفك حقيقة عقدية، يدلل لها بالرواية التالية: (آخر وطأة وطئها رب العالمين بوَجّ)، ثم يذكر قول كعب الأحبار: (وَجّ مقدس، منه عَرَجَ الرب إلى السماء يوم قضى خلق الأرض)، ويعلق على هذه الترهات بقوله: (اعلم أنه غير ممتنع على أصولنا حمل هذا الخبر على ظاهره، وأن ذلك على معنى يليق بالذات دون الفعل)(3)

قال أحد الحضور: فهل هناك من خص هذه المعاني بالتأليف؟

قال كبير الحشوية: أجل.. وكثيرون هم.. ومن أمثلتها ما كتب حول إثبات الجهة والمكان لله تعالى، كالكتب المؤلفة حول العرش، مثل (كتاب العرش وماروي فيه) لمحمد بن عثمان بن أبي شيبة.. وقد ذكر في هذا الكتاب أن أقرب الخلق إلى الله جبريل وميكائيل وإسرافيل، بينهم وبين ربهم مسيرة خمسمائة عام، وأن السماء منفطرة من ثقل الله، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في روضة خضراء وغير ذلك.

قال آخر: ومنها (كتاب إثبات الحد لله عز وجل وبأنه قاعد وجالس على عرشه)، لأبي محمد محمود بن أبي القاسم بن بدران الآنمي الدشتي، والذي ذكر في مقدمته دوافعه

__________

(1) إبطال التأويلات: 1/ 146.

(2) إبطال التأويلات: 1/ 202.

(3) إبطال التأويلات (ص 379)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/101)

لتأليفه، فقال: (فإن سائلاً سألني، وقال: أحب أن تجمع ما جاء في إثبات الحد لله تعالى، ويعني بذالك حدٌ لا يعلمه إلا الله، وأما من زعم أن لله عز وجل حداً يعلمه غيره فهو ضالٌ مضل مبتدع، فأجبت إلى ذلك، وجمعت في كتابي هذا شيئاً يسيراً من مذهب علماء السلف وأئمتهم، وما روي وصح عنهم، وما احتجوا في ذالك من الكتاب والسنة، وما ذكروه في كتبهم وتصانيفهم، منهم: الإمام عبدالله بن المبارك، والإمام أبو عبدالله أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبو عبد الله ابن بطة، وأبو إسماعيل الأنصاري، وأبو القاسم بن منده، وإسماعيل بن الفضل الأصبهاني، والقاضي أبو يعلى بن الفراء، والإمام أبو الحسن ابن الزاغوني، والحافظ أبو العلاء الهمذاني، رضي الله عنهم، وكل واحد منهم له تصانيف كثيرة، وإمام من أئمة الإسلام، وحافظ من الحفاظ، وعالم من العلماء، وفقيه من الفقهاء، وشيخ من المشايخ فكلهم من أصحاب الحديث، يعرفون تفسير القرآن العظيم، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتأويلها، واحتجوا في إثبات الحد لله عز وجل بنص الكتاب والسنة، وما قالوا في ذلك بالمقاييس والآراء، ولا بأهواء أنفسهم، وإنما قالوا بدلائل وبراهين من الكتاب والسنة، ولا يكون على وجه الأرض أحدٌ أعلم بالكتاب والسنة من أصحاب الحديث، فمن يخالفهم ولا يقول ما قالوه، ولا يعتقد ما اعتقدوه؛ فهو مبتدع ضال مضل)(1)

قال آخر: ومنها كتاب (عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن)، للشيخ حمود بن عبدالله بن حمود التويجري، وهو منتشر كثيرا، وقد ذكر مؤلفه دوافع تأليفه، فقال: (ولا يزال القول بمذهب الجهمية مستمرا إلى زماننا.. وقد رأيت ذلك في بعض مؤلفات المعاصرين وتعليقاتهم الخاطئة، وذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم أنه ألقى ذلك على

__________

(1) إثبات الحد لله عز وجل، ص 8.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/102)

الطلبة في بعض المعاهد الكبار في مدينة الرياض. ولما ذكر له بعض الطلبة قول أهل السنة أعرض عنه وأصر على قول الجهمية. عافانا الله وسائر المسلمين مما ابتلاه به)(1)، وهو يقصد بالجهمية كل منزهة الأمة، لأنهم جميعا، حتى مع تصحيح الحديث لا يقولون بمقتضاه الظاهر، بل يؤولونه بمختلف صنوف التأويلات.

قال أحد الحضور: بورك فيكم.. فهلا ذكرتم لنا بعض الأمثلة والنماذج عنها.

قال كبير الحشوية: هي كثيرة جدا.. لكنا سنقتصر لكم على سبعة نماذج منها (2) لتتأكدوا مما نقول.

الحدود والجسمية

قال أحد الحضور: فحدثونا عن النموذج الأول منها؟

قال كبير الحشوية: النموذج الأول، وهو أخطرها، إثبات الحدود والجسمية لله تعالى، وذلك خلافا لما يعتقده جميع المسلمين من أن الله مطلق لا حدود له، بينما كنا نرى عكس ذلك.. بل كنا نرى أن المطلق عدم محض لا وجود له، ولذلك كنا نكفر جميع مخالفينا بسبب ذلك، ونسميهم جهمية ومعطلة.

قال آخر: وقد أولى شيوخنا هذا الركن اهتماما كبيرا، بل جعلوه المقدمة الأولى لكل صفات الله تعالى، بل اعتبروه من أصول العقائد التي تفرق بين السني والبدعي، بل بين المؤمن والكافر.. فالمؤمن والسني هو الذي يقول بمحدودية الله.. والكافر والبدعي هو من يقول بعدم محدوديته.

قال آخر: ومن الكتب التي ألفها شيوخنا في تقرير هذا المعنى والبرهنة عليه ما كتبه

__________

(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (1/ 6)

(2) سنكتفي هنا بذكر بعض ما يذكره الحشوية مما يتعلق بصفات الله تعالى، وهو بعض ما سنذكره ونرد عليه بتفصيل في كتاب: القرآن وتأويل الجاهلين.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/103)

الحافظ محمود الدشتي بعنوان [إثبات الحد لله عز وجل وبأنه قاعد وجالس على عرشه]، والذي لقي العناية الكبيرة من المتأخرين من أصحابنا تحقيقا وطبعا ونشرا.

قال آخر: وقد قال شيخنا عثمان بن سعيد الدارمي في ذلك: (زعمت الجهمية أن ليس لله حد، وإنما يعنون بهذه الكلمة أن الله تعالى لا شيء، إذ كان معلوما عند الخلق كلهم أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وصفة، فقولهم: لا حد له أنه لا شيء، وقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ﴾ [الأنعام: 19]، ومذهب علماء السلف: أن الله هو الأول القديم، وله حد لا يعلمه غيره، ولكن ليس لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن عليهم أن يؤمنوا بذلك، ويكلوا علم ذلك إلى الله تعالى)(1)

قال آخر: وقد خص شيخنا ابن تيمية ـ الذي كنا نعتبره ناطقا باسم الإسلام ـ هذه المسألة بالكثير من التفاصيل في كتبه ورسائله، ومنها ما ذكره في كتابه [بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية] حيث اعتبر إثباب الحد لله، من العقائد الأساسية التي يقتضيها الإيمان.

قال آخر: ومن ذلك ما نقله عن الدارمي ـ مقرا له ـ في كتابه [نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله تعالى في التوحيد] قوله فيه: (باب الحد والعرش: وادعى المعارض أيضا أنه ليس له حد ولا غاية ولا نهاية، قال: وهذا الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهما إليها أحد من العالمين، فقال له قائل ممن يحاوره: قد علمت مرادك أيها الأعجمي، تعني أن الله تعالى لاشيء، لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة، وأن لاشيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة، فالشيء أبدا موصوف لامحالة،

__________

(1) إثبات الحد لله عز وجل، الدشتي، ص 12.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/104)

ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية، وقولك لا حد له تعني أنه لا شيء)(1)

قال آخر: ونقل عن الخلال وعن أبي يعلى وغيرهم ممن يسميهم أهل السنة (2) النقول الكثيرة التي تنص على أن من ضروريات المعرفة الإلهية إثبات الحد لله، ومن تلك الروايات ما رواه الخلال عن محمد بن إبراهيم القيسي، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك ـ وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ ـ قال: (في السماء السابعة على عرشه بحد)، فقال أحمد: (هكذا هو عندنا)(3)

قال آخر: ومنها ما رواه عن حرب بن إسماعيل قال: قلت لإسحاق بن راهويه: (هو على العرش بحد؟) قال: (نعم بحد)، وعن ابن المبارك أنه قال: (هو على عرشه بائن من خلقه بحد)(4)

قال آخر: وقد علق ابن تيمية على هذه الروايات بقوله: (ولما كان الجهمية يقولون ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها، ويجحدون قَدْرَهُ؛ حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي، عالم، قدير: قد عرفنا حقيقته وماهيته، ويقولون إنه لا يباين غيره. بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم؛ فيقولوا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا كذا ولا كذا، أو يجعلوه حالاً في المخلوقات أو وجوده وجود المخلوقات، فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه، وذكر الحد.. لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد، وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد)(5)

قال آخر: وهكذا كنا نرى أنه لا يمكن فهم الروايات والأحاديث الكثيرة إلا من

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 605)

(2) بيان تلبيس الجهمية (2/ 612)

(3) نقض تأسيس الجهمية (1/ 428)

(4) نقض تأسيس الجهمية (2/ 34)

(5) نقض تأسيس الجهمية (1/ 442 ـ 443)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/105)

خلال إثبات المحدودية والتجسيم.. ومن الأمثلة على ذلك ما كنا نرويه عن عبد الله بن سلمة أنه قال: أرسل ابن عمر إلى ابن عباس يسأله، هل رأى محمد ربه، فأرسل إليه ابن عباس: أن نعم، قال: فرد عليه ابن عمر رسوله: أن كيف رآه، قال: (رآه في روضة خضراء روضة من الفردوس دونه فراش من ذهب، على سرير من ذهب، يحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة رجل، وملك في صورة ثور، وملك في صورة أسد، وملك في صورة نسر)(1)

قال آخر: فقد كنا نروي هذا الحديث، ونستعمل كل الوسائل لإثبات صحته، ثم نذكر للمتبعين لنا، أنه لا يمكن حمله إلا على محدود ومن الجهات الست، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم رآه في روضة خضراء تحيط به من كل الجوانب.

قال آخر: ومثل ذلك كنا نردد في كل المجالس تلك الرواية التجسيمية الغريبة، والتي نرويها عن أنس بن مالك أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أتاني جبريل فقال: إن الرب اتخذ في الجنة واديا من مسك أفيح، فإذا كان يوم الجمعة فينزل عن كرسيه من عليين، وحف الكرسي بمنابر من ذهب مكللة بالجواهر، ويجيء النبيون فيجلسون على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف فيجلسون على ذلك الكثيب، ويتجلى لهم ربهم، فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي فاسألوني قال: فيسألونه الرضا، قال: فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا النظر إلى وجه ربهم عز وجل)(2)، وقد كنا نذكر عند شرحنا للحديث أنه واضح في دلالته على كون الله تعالى محدودا من الجهات جميعا.

قال آخر: ومن الروايات التي كنا نوردها في هذا، ما نرويه عن أبي النضرة قال:

__________

(1) رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد: ص 198، والآجري في الشريعة: ص 494، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: ص 35، والبيهقي في الأسماء والصفات: ص 557 ـ 558.

(2) الدارمي في الرد على الجهمية: ص 45، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: ص 48، 49، والذهبي في العلو: ص 28. قال الذهبي: هذا حديث مشهور وافر الطرق.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/106)

خطبنا ابن عباس بالبصرة على هذا المنبر فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (آتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب، فأقرع الباب، فيقال لي: من أنت؟ فأقول: أنا محمد؟ فيفتح لي، فيتجلى لي ربي عز وجل فأخر له ساجدا وهو على سريره أو على كرسيه)(1)، وفي رواية: (حتى آتي الجنة فأخذ بحلقة الباب، فأستفتح، فيفتح لي، وأحيا ويرحب بي؟ فإذا دخلت الجنة نظرت إلى ربي ـ عز وجل ـ على عرشه فخررت ساجدا)

قال آخر: ومثل ذلك تلك الرواية التجسيمية الغريبة الواردة في صحيح البخاري من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأذن على الله في داره، فقد ورد فيها الحديث بهذه الصيغة، قال ابن القيم: (وفي بعض ألفاظ البخاري في صحيحه (فاستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه)(2)، قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين هكذا قال في داره في المواضع الثلاث يريد مواضع الشفاعات التي يسجد فيها ثم يرفع رأسه)(3)

قال آخر: وقد قال شيخنا ابن عثيمين في شرحه على كتاب التوحيد من صحيح البخاري معلقا عليها: (هذا الحديث ليس فيه إشكال إلا قوله: (أستأذن على ربي في داره)، فيقال: إن دار الله عزوجل التي جاءت في هذا الحديث لا تشبه دور البشر، تكنه من الحر ومن البرد ومن المطر، ومن الرياح، لكن هي دار الله أعلم بها)(4)

قال آخر: وهكذا ذكر شيخنا ابن تيمية في غرائب حديث النزول هذه الرواية التي تثبت الحد لله تعالى ومن جميع الجهات، وهي: (ثم تبعث الصيحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد فأرسل ربك عز وجل السماء.. قلت: يا رسول الله فما يعمل بنا ربنا جل

__________

(1) الدارمي في الرد على بشر المريسي: ص 347، أحمد: (1/ 281 ـ 282، 295 ـ 296)

(2) البخاري (7002) معلَّقًا.

(3) اجتماع الجيوش الإسلامية (53)

(4) ابن عثيمين في شرحه على كتاب التوحيد من صحيح البخاري، 104.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/107)

وعز إذا لقيناه؟ قال: تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح قبلكم بها فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة)(1)

قال آخر: فهذه الرواية تذكر أن الله العلي العظيم يطوف في الأرض، وأنه يأخذ بيده غرفة من الماء فينضح بها.. وقد قال شيخنا ابن القيم بعد إيراده الرواية: (هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري، وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري، ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته. فممن رواه الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وفي كتاب السنة.. ومنهم الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب السنة له، ومنهم الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في كتاب المعرفة، ومنهم الحافظ أبو محمد عبدالله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة، ومنهم الحافظ أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة حافظ أصبهان،.. وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم)(2)

قال آخر: بل إنه لم يكتف بذلك، وإنما راح ينقل عن شيخنا أبي عبد الله بن منده مقرا له قوله: (ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة)(3)

__________

(1) مجموع الفتاوى (4/ 184)

(2) زاد المعاد 3/ 677 ـ 682.

(3) زاد المعاد 3/ 677 ـ 682.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/108)

قال آخر: بل إنه لم يكتف بذلك.. وإنما راح يفسر الحديث حرفا حرفا يستنبط منه الكثير من الصفات التي ينكرها أهل التجهيل والتعطيل والتأويل، فيقول: (وقوله فيظل يضحك هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته، وقد وردت هذه الصفة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها.. وكذلك فأصبح ربك يطوف في الأرض هو من صفات فعله.. والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل بلا تحريف ولا تعطيل.. وقوله: فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فيه إثبات صفة اليد له سبحانه بقوله وإثبات الفعل الذي هو النضح)(1)

قال آخر: ومثله شيخنا الدارمي الذي رد بشدة على إشكالات المعطلة التي يطرحونها على هذه الرواية، فقال: (يقال لهذا البَقْبَاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق، ولم يحمله العرش عِظَمًا ولاقوة ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته، وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضَعفوا عن حمله واستكانوا وجَثَوا على رُكَبِهم حتى لُقّنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقلّ به العرش، ولا الحملة، ولا السموات والأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به)(2)

قال آخر: وبناء على هذا؛ فإننا مع عدم اعتبارنا [الجسم] صفة لله تعالى، إلا أنا كنا نعتبر أن نسبة الجسمية لله كمعنى صحيحة، وإن لم يصح إطلاق الجسمية عليه كاسم أو صفة.. وقد قال شيخنا ابن تيمية في تفسير قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ

__________

(1) زاد المعاد 3/ 677 ـ 682.

(2) نقض الدارمي على المريسي (1/ 457)، وبيان تلبيس الجهمية (3/ 242)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/109)

الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وقوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]: (فإنه لا يدل على نفي الصفات بوجه من الوجوه، بل ولا على نفي ما يسميه أهل الاصطلاح جسما بوجه من الوجوه)(1).. ومراده من الصفات اليد والوجه والساق، وغيرها، فهو يعتقد أن الجميع يوصف به سبحانه من غير تأويل ولا تعطيل، بل بنفس المعنى اللغوي.

قال آخر: وورد في نفس الكتاب: (وأما ذكر التجسيم وذم المجسمة، فهذا لا يعرف في كلام أحد من السلف والأئمة، كما لا يعرف في كلامهم أيضا القول بأن الله جسم أو ليس بجسم)(2)

قال آخر: وعندما راح يبين سبب عدم إطلاق السلف لفظ الجسم لا نفيا ولا إثباتا لله تعالى لم يذكر أن ذلك لتناقضه مع العقل أو مع القرآن، وإنما ذكر لذلك وجهين: (أحدهما: أنه ليس مأثورا لا في كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة.. والثاني: أن معناه يدخل فيه حق وباطل، فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل، والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل)(3)، ومراده من التعطيل والتحريف ـ كما هو معلوم ـ تعطيل الله عن لوازم الجسمية كالحيز والحدود ونحوها.

قال آخر: بل إنه كان يستعمل كل ما أوتي من قوة المنطق أن يبرهن على ضرورة أن يكون الله جسما حتى يكون موجودا.. فالوجود عنده يقتضي الجسمية، وقد قال في ذلك: (فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجوداً معيناً مخصوصاً قائماً بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه، وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا

__________

(1) درء تعارض العقل والنقل، 1/ 100.

(2) درء تعارض العقل والنقل:1/ 189.

(3) منهاج السنة النبوية 2/ 225

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/110)

متحيز، كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره.. فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه، ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم.. فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره.. ومن قيل له هل تعقل شيئاً قائماً بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا إنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسا له ولا محايثا له وأنه لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكماً بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود)(1)

قال آخر: ولهذا نراه يطبق جميع أوصاف الأجسام على كل الموجودات، لا يفرق في ذلك بين الله تعالى واجب الوجوب، وبين الممكنات التي خلقها، فيقول: (الوجه السادس أن يقال ما عُلم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسما أو عرضا أو لا يكون إلا جوهرا أو جسما أو عرضا أو لا يكون إلا متحيزاً أو قائما بمتحيز أو لا يكون إلا موصوفا أو لا يكون إلا قائما بنفسه أو بغيره يُعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك.. فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود، ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم، لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك، ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري، فإن هذا من باب المعارض،

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 364)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/111)

وسنتكلم عليه، وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقا)(1)

قال آخر: وهو لا يكتفي بهذه التصريحات فقط، بل إنه في كتابه [بيان تلبيس الجهمية] يكاد يدافع عن لفظ [الجسم] بعينه، فيقول: (وليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها أنّه ليس بجسم، وأنّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً)(2)

قال آخر (3): وسبب ذلك أن الإخبار عن الله تعالى ـ كما يذكر أصحابنا ـ لا يشترط فيه التوقيف، وهو أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كـ (الشيء) و(الموجود) و(القائم بنفسه)، فإنه يخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالإخبار عنه قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيء، أي باسم لا ينافي الحسن، ولا يجب أن يكون حسناً، ولا يجوز أن يخبر عن الله باسم سيء؛ فيخبر عن الله بما لم يرد إثباته ونفيه (4).

قال آخر: لقد كنا نردد كل ذلك وندافع عنه في نفس الوقت الذي نعرض فيه على الأدلة الكثيرة التي تكذب ذلك، وأولها ما ورد عن العترة الطاهرة الذين استبدلناهم باليهود وتلاميذ اليهود.

قال آخر: ولهذا كنا نكذب ما روي عن الإمام علي الذي صرح بنفي الحد عن الله تعالى، فقال: (ليس له حد ينتهي إلى حده)(5).. وقال: (وحد الأشياء كلها عند خلقه، إبانة لها من شبهه، وإبانة له من شبهها، لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات، ولا بالجوارح والأدوات.. تعالى الله عما ينحله المحددون من صفات الأقدار، ونهايات الأقطار، وتأثل المساكن، وتمكن الأماكن، فالحد لخلقه مضروب، وإلى غيره منسوب)(6)

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 370)

(2) بيان تلبيس الجهمية:1/ 101.

(3) العرش للذهبي (1/ 239)

(4) بدائع الفوائد (1/ 161)، مجموع الفتاوى (6/ 142 ـ 143)

(5) الكافي: 1/ 142 / 7، التوحيد: 33/ 1.

(6) نهج البلاغة: الخطبة 163.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/112)

قال آخر: ومثله ذكر كل الأئمة من العترة الطاهرة الذين لم يخلطوا دينهم بما تسرب إلى الأمة من تحريفات الأمم، ومنهم الإمام الحسين الذي قال: (لا يقدر الواصفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوب مبلغ جبروته؛ لأنه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلا بالتحقيق إيقانا بالغيب؛ لأنه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين، وهو الواحد الصمد، ما تصور في الأوهام فهو خلافه، ليس برب من طرح تحت البلاغ، ومعبود من وجد في هواء أو غير هواء)(1)

قال آخر: ومنهم الإمام السجاد الذي قال: (إن الله لا يوصف بمحدودية، عظم ربنا عن الصفة، فكيف يوصف بمحدودية من لا يحد، و﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103])(2)

قال آخر: وقال في دعائه: (ضلت فيك الصفات، وتفسخت دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام)(3).. وقال: (اللهم يا من لا يصفه نعت الواصفين)(4).. وقال: (الحمد لله الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين)(5).. وقال في دعائه يوم عرفة: (أنت الذي لا تحد فتكون محدودا، ولم تمثل فتكون موجودا، ولم تلد فتكون مولودا)(6)

قال آخر: ومنهم الإمام الصادق الذي قال: (هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه)(7).. وقال: (إن الله لا يوصف، وكيف يوصف وقد قال في كتابه: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزمر: 67]، فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من

__________

(1) تحف العقول: 244، بحار الأنوار: 4/ 301.

(2) الكافي: 1/ 100 / 2.

(3) الصحيفة السجادية: 129 الدعاء 32.

(4) الصحيفة السجادية: 123 الدعاء 31.

(5) الصحيفة السجادية: 19 الدعاء 1.

(6) الصحيفة السجادية: 187 الدعاء 47.

(7) الكافي: 1/ 145 / 6.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/113)

ذلك)(1)

قال آخر: وقال: (إن الله عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كنه عظمته، ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103]، ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث، وكيف أصفه بالكيف!؟ وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفا، فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف، أم كيف أصفه بأين!؟ وهو الذي أين الأين حتى صار أينا، فعرفت الأين بما أين لنا من الأين، أم كيف أصفه بحيث!؟ وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثا، فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث، فالله ـ تبارك وتعالى ـ داخل في كل مكان وخارج من كل شيء، ﴿﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 103]، لا إله إلا هو العلي العظيم، ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14] (2)

قال آخر: وقال لبعض أصحابه: (أي شيء (الله أكبر)؟ قال: الله أكبر من كل شيء، فقال: (وكان ثم شيء فيكون أكبر منه؟)، قيل: وما هو؟ قال: (الله أكبر من أن يوصف)(3)

قال آخر: ومنهم الإمام الكاظم الذي قال: (من ظن بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه، بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، أو زوال أو استنزال، أو نهوض أو قعود؛ فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين)(4)

قال آخر: ومنهم الإمام الرضا الذي قال: (ولو حد له وراء؛ إذا حد له أمام، ولو التمس له التمام؛ إذا لزمه النقصان)(5).. وقال: (لا يتغير الله بانغيار المخلوق، كما لا يتحدد بتحديد المحدود)(6)

__________

(1) الكافي:1/ 103 / 11.

(2) الكافي: 1/ 103 / 12، التوحيد: 115/ 14.

(3) الكافي: 1/ 118 / 9.

(4) الكافي: 1/ 125 / 1، التوحيد: 183/ 18.

(5) التوحيد: 40/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 153 / 51.

(6) التوحيد: 37/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 151 / 51.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/114)

قال آخر: ولما سمع كلاما في التشبيه، خر ساجدا، وقال: (سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك، فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك)(1)

قال آخر: وقال الإمام الجواد: قام رجل إلى الإمام الرضا، فقال له: يا ابن رسول الله، صف لنا ربك؛ فإن من قبلنا قد اختلفوا علينا، فقال: (إنه من يصف ربه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس، مائلا من المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير الجميل، أعرفه بما عرف به نفسه من غير رؤية، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة؛ لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه)(2)

قال آخر: ومنهم الإمام الهادي الذي قال: (سبحان من لا يحد ولا يوصف! ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11])(3)

قال آخر: وقبل ذلك ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وكيف يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والأبصار الإحاطة به!؟.. جل عما يصفه الواصفون، نأى في قربه وقرب في نأيه، كيف الكيفية؛ فلا يقال له: كيف، وأين الأين؛ فلا يقال له أين، وهو منقطع الكيفية فيه والأينونية، فهوالأحد الصمد كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد)(4)

قال آخر: وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو سيد العارفين في دعائه: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك،

__________

(1) الكافي: 1/ 101 / 3، التوحيد: 114/ 13.

(2) التوحيد: 47/ 9.

(3) الكافي: 1/ 102 / 5.

(4) كفاية الأثر: 12، كشف الغمة: 3/ 176، الكافي: 1/ 138 / 3 والتوحيد: 61/ 18.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/115)

أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي)(1).. فأسماء الله الحسنى فيض من فيوضات كمال الله.. وبما أن كمال الله لا حد له.. فأسماؤه لا نهاية لها.

قال آخر: بل كنا نعرض عن القرآن الكريم نفسه، فقد قال تعالى في الأمر بتكبيره: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ [الإسراء: 111].. وتكبير الله يعني أنه أكبر من كل وهم وتصور وحدود.. وهو يعني أن الله أكبر من تصوراتنا وتعقلاتنا وتوهماتنا وأفكارنا وتأملاتنا.. وأنه أكبر من أن ينحصر في حيز محدود، أو أمد معدود، أو مكان أو زمان.. وأنه أكبر من أن تجري عليه القوانين التي تجري علينا، أو تحكمه السنن التي تقيدنا.. وأنه أكبر في ذاته وصفاته وكل ما يرتبط به.

قال آخر: ولهذا كان التحديد والتقدير من عقائد المشركين الذين اعتبروا الله جرما من الأجرام له نهاية ومقادر وحدود، وقد قال تعالى يذكرهم: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 74]، وقال: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67]

قال آخر: وهكذا لو رجعنا إلى العلماء العدول لوجدنا الكثير من الأدلة القرآنية التي تنفي ما كنا نتوهمه من تحديد الله وتجسيمه، ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه بعضهم من قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ [الحديد: 3]، حيث ذكر أن (الله تعالى وصف نفسه بكونه ظاهرا وباطنا، ولو كان جسما لكان ظاهره غير باطنه، فلم يكن الشيء الواحد موصوفا بأنه ظاهر وبأنه باطن لأنه على تقدير كونه جسما يكون الظاهر منه سطحه

__________

(1) أحمد (1/ 391)(3712)(1/ 452)(4318)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/116)

والباطن منه عمقه، فلم يكن الشيء الواحد ظاهرا وباطنا.. وأيضا المفسرون قالوا إنه ظاهر بحسب الدلائل، باطن بحسب أنه لا يدركه الحس ولا يصل إليه الخيال، ولو كان جسما لما أمكن وصفه بأنه لا يدركه الحس ولا يصل إليه الخيال)(1)

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ [الحديد: 3]، حيث ذكر أن (هذا يقتضي أن يكون ذاته متقدما في الوجود على كل ما سواه وأن يكون متأخرا في الوجود عن كل ما سواه، وذلك يقتضي أنه كان موجودا قبل الحيز والجهة، ويكون موجودا بعد فناء الحيز والجهة)(2)

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110] وقوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: 103]، حيث ذكر أن (ذلك يدل على كونه تعالى منزها عن المقدار والشكل والصورة، وإلا لكان الإدراك والعلم محيطين به، وذلك على خلاف هذين النصين.. فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه وإن كان جسما لكنه جسم كبير، فلهذا المعنى لا يحيط به الإدراك والعلم، قلنا لو كان الأمر كذلك لصح أن يقال بأن علوم الخلق وأبصارهم لا تحيط بالسماوات ولا بالجبال ولا بالبحار ولا بالمفاوز، فإن هذه الأشياء أجسام كبيرة والأبصار لا تحيط بأطرافها والعلوم لا تصل إلى تمام أجزائها، ولو كان الأمر كذلك لما كان في تخصيص ذات الله تعالى بهذا الوصف فائدة)(3)

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ﴾ [الأنعام: 12]، حيث ذكر أن (هذا مشعر بأن المكان وكل ما فيها ملك لله تعالى، ومثله قوله تعالى: ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: 13]، وذلك يدل على أن

__________

(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 29.

(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 33.

(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 30.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/117)

الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى.. ومجموع الآيتين يدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى، وذلك يدل على تنزيهه عن المكان والزمان)(1)

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما استنبطه من قوله تعالى: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة: 17]، وقوله: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ [غافر: 7]، حيث ذكر أنه (لو كان الخالق في العرش لكان حامل العرش حاملا لمن في العرش، فيلزم إحتياج الخالق إلى المخلوق)(2)

الجهات والأماكن

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج الثاني.

قال كبير الحشوية: النموذج الثاني هو ما كنا نعتقده من لوازم الجسمية والحدود، وهو إثبات الجهة لله تعالى، حيث كنا نعتبر هذه المسألة من أهم المسائل العقدية، والتي ينبني عليه الإيمان والكفر.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما كنا نرويه عن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن ـ قاضي الري ـ أنه حبس رجلاً في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ قال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: (ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب)(3)

قال آخر: وكنا نروي عن عبدالله بن أبي جعفر الرازي أنه كان يضرب قرابة له بالنعل على رأسه يرمي برأي جهم ويقول: (لا حتى تقول (الرحمن على العرش استوى بائن من

__________

(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 31.

(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 32.

(3) اجتماع الجيوش الإسلامية (140)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/118)

خلقه)(1)

قال آخر: وهكذا كنا ننقل من شيوخنا الكثير من النصوص، والتي كنا نعتبرها مثل آيات القرآن الكريم تماما، ومنها ما ذكره ابن أبي شيبة، حيث قال: (توفرت الأخبار على أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته، ثم خلق الأرض والسموات، فصار من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى العرش، فهو فوق السموات وفوق العرش بذاته)(2)

قال آخر: وقال الدارمي: (الآثار التي جاءت عن رسول الله في نزول الرب تبارك وتعالى تدل على أن الله عز وجل فوق السموات على عرشه بائن من خلقه)(3).. وقال: (إن الأمة كلها، والأمم السالفة قبلها، لم يكونوا يشكون في الله تعالى أنه فوق السماء، بائن من خلقه، غير هذه العصابة الزائغة عن الحق المخالفة للكتاب وأثارات العلم كلها)(4)

قال آخر: وقال ابن خزيمة: (من لم يقرّ بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سمواته، بائن من خلقه؛ فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه)(5)

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك إجماعهم على معنى القرب والبعد، وأنهما على معناهما الظاهر الواضح، على عكس ما يقوله المؤولة المعطلة، وقد عبر عن هذا شيخنا الدارمي بقوله: (.. فيقال لهذا المعارض المدعي ما لا علم له من أنبأك أن رأس الجبل ليس بأقرب إلى الله تعالى من أسفله؟ لأنه من آمن بأن الله فوق عرشه فوق سمواته علم يقيناً أن رأس الجبل أقرب إلى الله من أسفله، وأن السماء السابعة أقرب إلى عرش الله تعالى من السادسة والسادسة أقرب إليه من الخامسة ثم كذلك إلى الأرض)(6)

__________

(1) الذهبي في العرش (239)

(2) كتاب العرش، لابن أبي شيبة (291)

(3) الرد على الجهمية (73)

(4) الرد على الجهمية (ص 21)

(5) الذهبي في العرش (277)

(6) نقض عثمان بن سعيد 1/ 504. وانظر الفواكه العذاب لحمد بن ناصر 157 وإثبات علوالله لحمود التويجري 84

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/119)

قال آخر: وبناء على هذا اتفقوا على أن أقرب الخلق إلى الله هو العرش، ثم الملائكة الحاملين للعرش.. وهكذا.. وقد استدلوا على ذلك بما روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم، فيخبرونهم ماذا قال)(1)

قال آخر: وقد استدل شيوخنا بهذا الحديث على أن (حملة العرش هم أول من يتلقى أمر الله، ثم يبلغونه للذين يلونهم من أهل السموات، فكونهم أقرب الخلق إلى الله دليل على أن العرش أقرب منهم إليه سبحانه لأنهم إنما يحملونه)(2)

قال آخر: بل ورد في بعض الروايات ما يدل على المسافة التي تفصل الله تعالى عن أقرب الخلق إليه، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أقرب الخلق إلى الله تعالى جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وإنهم من الله تعالى بمسيرة خمسين ألف سنة)(3)

قال آخر: وقد ذكر سلفنا الذين كنا نرجع إليهم الكثير من الشروح والتوضيحات المرتبطة بذلك، ومنها ما روي عن وهيب بن الورد، أنه قال: (بلغني أن أقرب الخلق من الله عز وجل إسرافيل العرش على كاهله.. فإذا نزل الوحي دلي لوح من تحت العرش، فيقرع جبهة إسرافيل، فينظر فيه فيدعو جبريل فيرسله، فإذا كان يوم القيامة أتى بإسرافيل ترعد فرائصه، فيقال: ما صنعت فيما أدى إليك اللوح؟ فيقول: بلغت جبريل. فيدعى جبريل ترعد فرائصه فيقال: ما صنعت فيما بلغك إسرافيل؟ فيقول: بلغت الرسل. فيؤتى بالرسل ترعد فرائصهم فيقال: ما صنعتم فيما أدى إليكم جبريل؟ فيقولون: بلغنا الناس)(4)

__________

(1) رواه مسلم (2229)

(2) محمد بن عثمان بن أبي شيبة وكتابه العرش 81

(3) العلو للعلي الغفار 1/ 90. أبو الشيخ في العظمة 2/ 684 (276)

(4) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (3/ 846)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/120)

قال آخر: وبناء على هذا فسروا قوله تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ [الأعراف: 6، 7]

قال آخر: فقد روي عن وهب بن منبه أنه قال: (إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل: يا إسرافيل، هات ما وكلتك به فيقول: نعم يا رب في الصور كذا وكذا ثقبة، وكذا وكذا روحا، للإنس منها كذا وكذا، وللجن منها كذا وكذا، وللشياطين منها كذا وكذا، وللوحوش منها كذا وكذا، وللطير كذا، ومنها كذا وكذا للحيتان، وللبهائم منها كذا وكذا وللهوام منها كذا وكذا، فيقول الله عز وجل: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول الله عز وجل: هات ما وكلتك به يا ميكائيل فيقول: نعم يا رب أنزلت من السماء كذا وكذا كيلة كذا وكذا مثقالا وزنة كذا وكذا مثقالا وزنة كذا وكذا قيراطا وزنة كذا وكذا خردلة وزنة كذا وكذا ذرة، أنزلت في سنة كذا وكذا، وفي شهر كذا وكذا كذا وكذا، وفي جمعة كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا للزرع كذا وكذا وأنزلت منه للشياطين كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وأنزلت للإنس منه كذا وكذا في يوم كذا وكذا كذا وكذا، وأنزلت للبهائم كذا وكذا وزنة كذا وكذا، وأنزلت للوحوش كذا وكذا وزنة كذا، وكذا، وللطير منه كذا وكذا، وللباد منه كذا وكذا، وللحيتان منه كذا وكذا وللهوام منه كذا وكذا فذلك كذا وكذا فيقول: خذه من اللوح، فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول: يا جبريل هات ما وكلتك به، فيقول: نعم يا رب أنزلت على نبيك فلان كذا وكذا آية في شهر كذا وكذا في جمعة كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وأنزلت على نبيك فلان كذا وكذا آية وعلى نبيك فلان كذا وكذا سورة فيها كذا وكذا آية، فذلك كذا وكذا أحرفا، وأهلكت كذا وكذا مدينة، وخسفت بكذا وكذا، فيقول: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص، ثم يقول عز وجل: هات ما وكلتك به يا عزرائيل. فيقول: نعم يا رب قبضت روح كذا وكذا إنسي وكذا

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/121)

وكذا جني، وكذا وكذا شيطان وكذا وكذا غريق، وكذا وكذا حريق، وكذا وكذا كافر، وكذا وكذا شهيد وكذا وكذا هديم وكذا وكذا لديغ وكذا وكذا في سهل، وكذا وكذا في جبل، وكذا وكذا طير، وكذا وكذا هوام، وكذا وكذا وحش فذلك كذا، وكذا جملته كذا وكذا فيقول: خذه من اللوح فإذا هو مثلا بمثل لا يزيد ولا ينقص فالله تبارك وتعالى علم قبل أن يكتب وأحكم)(1)

قال آخر: وبهذا الحديث فسروا قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 3]، بل ذكروا أن جبريل عليه السلام كان إذا احتاج إلى سؤال الله رحل إليه، ودنا منه، ليسأله.

قال آخر: ومن تلك الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل جبريل عليه السلام: أي بقاع الأرض أشر؟، قال: الله أعلم، قال: ألا تسأل ربك عز وجل؟ قال: ما أجرأكم يا بني آدم إن الله لا يسئل عما يفعل، ثم عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إني دنوت من ربي حتى كنت منه بمكان لم أكن قط أقرب منه، كنت بمكان بيني وبينه سبعون حجابا من نور، فأوحى الله تبارك وتعالى إلي أن شر بقاع الأرض السوق)(2)

قال آخر: وفي رواية أخرى أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد رحلته الطويلة: (يا محمد، لقد وقفت اليوم موقفا لم يقفه ملك قبلي ولا يقفه ملك بعدي، كان بيني وبين الجبار تبارك وتعالى سبعون ألف حجاب من نور، الحجاب يعدل العرش والكرسي والسماوات والأرض بكذا وكذا ألف عام، فقال: أخبر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أن خير البقاع المساجد، وخير أهلها أولهم دخولا، وآخرهم خروجا، وشر البقاع الأسواق، وشر أهلها أولهم

__________

(1) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (3/ 847)

(2) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 672)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/122)

دخولا، وآخرهم خروجا)(1)

قال آخر: وهكذا فسروا قوله تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52]، فعن مجاهد قال: (بين السماء السابعة، وبين العرش سبعون ألف حجاب: حجاب نور، وحجاب ظلمة، وحجاب نور، وحجاب ظلمة، فما زال موسى عليه السلام يقرب حتى كان بينه وبينه حجاب، فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم، قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 143])(2)

قال آخر: وهكذا فسروا قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: 25] فقد رووا عن مجاهد قوله: (إن داود عليه السلام يجيء يوم القيامة خطيئته مكتوبة في كفه، فيقول: يا رب خطيئتي مهلكتي، فيقول له: كن بين يدي، فينظر إلى كفه فيراها، فيقول: يا رب خطيئتي مهلكتي، فيقول: خذ بحقوي، فذلك قوله، عز وجل: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: 25])(3)

قال آخر: وهكذا فسروا قوله تعالى عن المعراج: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ [النجم: 8 ـ 10]، فقد رووا عن أنس بن مالك قوله: (ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع علي أحداً، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى،

__________

(1) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 675)

(2) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 690)، وأخرجه الطبري في تفسيره 16/ 95 والبيهقي في الأسماء والصفات 508.

(3) السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 503)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/123)

فاحتبسه موسى فقال: يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة. قال إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم. فالتفت النبي إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار فقال وهو مكانه يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات..)(1)

قال آخر: وقد ذكر شيخنا ابن تيمية قصة عجيبة ذكرها البغوي في تفسيره عن أيوب عليه السلام، رواها عن وهب بن منبه، كتفسير لقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 41]، فقد ذكر أن أيوب لم يقل تلك الكلمة التي ذكرها القرآن الكريم فقط، وإنما قال أيضا: (لو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي بما كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، فلا نظر إلي فيرحمني، ولا دنا مني، ولا أدناني فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي، وأخاصم عن نفسي)(2)

قال آخر: ويروي أن الله تعالى أجابه بنزوله على الغمام وخطابه له، قال وهبه بن منبه: (فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب أليم، ثم نودي يا أيوب إن الله عز وجل يقول: ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا ثم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك، وقم مقام جبار يخاصم جبار إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي ولا شبه لي لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا ما تبلغه بمثل قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها هل كنت معي تمد بأطرافها وهل علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي شيء وضعت أكنافها أبطاعتك

__________

(1) البخاري 6/ 370 (7079)

(2) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/ 464.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/124)

حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا محفوظا في الهواء..)(1)

قال آخر: وقد استدل شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه القصة على دنو الله من خلقه، فقال: (وقد جاء أيضاً من حديث وهب بن منبه وغيره من الاسرائيليات قربه من أيوب عليه السلام وغيره من الأنبياء عليهم السلام، ولفظه الذي ساقه البغوي أنه أظله غمام ثم نودى يا أيوب أنا الله، يقول أنا قد دنوت منك أنزل منك قريبا، لكن الاسرائيليات إنما تذكر على وجه المتابعة لا على وجه الاعتماد عليها وحدها)(2)

قال آخر: وبناء على هذا المفهوم للقرب اتفق سلفنا على أن معنى قرب أهل الجنة من الله هو القرب الحسي لا كما يتوهمه المنزهة من القرب المعنوي.. وقد روي في ذلك عن عبد الله بن مسعود قوله: (سارعوا إلى الجمع في الدنيا فإن الله تعالى ينزل لأهل الجنة كل جمعة في كثيب من كافور أبيض، فيكونون في القرب منه على قدر تسارعهم إلى الجمع في الدنيا)(3)

قال آخر: وبناء على هذا أيضا فسروا المقام المحمود الذي وعد الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: ﴿عَسَى رَبُّكَ أَنْ يَبْعَثَكَ مَقَامًا مَحْمُوْدًا﴾ [الإسراء:79]، حيث ذكروا أن معناه إقعاد الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم على العرش، فقد روي عن أبي هريرة، أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79] قال: (نعم، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين حبيب الله؟ فأتخطى صفوف الملائكة حتى أصير إلى جانب العرش، ثم يمد يده فيأخذ بيدي فيقعدني على العرش)(4)

قال آخر: وقد كنا نعرض أيما إعراض على ما ورد في القرآن الكريم من الأدلة الكثيرة

__________

(1) تفسير البغوي (3/ 303)

(2) كتب ورسائل ابن تيمية في العقيدة 5/ 464.

(3) العلو 1/ 60.

(4) انظر: الرد بالعدة والعتاد على من أنكر أثر مجاهد في الإقعاد، ص 15.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/125)

على تنزيه الله تعالى عن الجهة والمكان، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه، واستدلاله بحصول التغير في الكواكب على ذلك، وقد عبر عن هذا الدليل الفخر الرازي بقوله: (فقد حكى الله تعالى عنه في كتابه بأنه استدل بحصول التغير في أحوال الكواكب على حدوثها، ثم قال عند تمام الإستدلال: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا﴾ [الأنعام: 79])(1)

قال آخر: ثم ذكر وجوه دلالة الآية الكريمة على تنزيه الله تعالى وتقديسه عن التحيز والجهة، ومنها أنه ما دام قد ثبت بالبرهان أن (الأجسام متماثلة.. فإنه ما صح على أحد المثلين وجب أن يصح على المثل الآخر، فلو كان تعالى جسما، أو جوهرا وجب أن يصح عليه كل ما صح على غيره، وأن يصح على غيره كل ما صح عليه، وذلك يقتضي جواز التغير عليه ولما حكم الخليل صلى الله عليه وآله وسلم بأن المتغير من حال إلى حال لا يصلح للإلهية، وثبت أنه لو كان جسما لصح عليه التغير لزم القطع بأنه تعالى ليس بمتحيز أصلا)(2)

قال آخر (3): ومنها أن إبراهيم عليه السلام قال عند تمام الإستدلال: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا﴾ [الأنعام: 79]، فلم يذكر من صفات الله تعالى إلا كونه خالقا للعالم، والله تعالى مدحه على هذا الكلام وعظمه، فقال: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ [الأنعام: 83]، (ولو كان إله العالم جسما موصوفا بمقدار مخصوص وشكل مخصوص لما كمل العلم به تعالى إلا بعد العلم بكونه جسما متحيزا، ولو كان كذلك لما كان مستحقا للمدح والتعظيم بمجرد معرفة كونه خالقا للعالم، فلما كان هذا القدر من المعرفة كافيا في كمال معرفة الله تعالى دل ذلك على أنه تعالى

__________

(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 26.

(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 26.

(3) أساس التقديس في علم الكلام، ص 27.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/126)

ليس بمتحيز)(1)

قال آخر: ومنها أنه تعالى لو كان جسما (لكان كل جسم مشاركا له في تمام الماهية فالقول بكونه جسما يقتضي إثبات الشريك لله تعالى، وذلك ينافي قوله: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 79]، فثبت بما ذكرناه أن العظماء من الأنبياء عليهم السلام كانوا قاطعين بتنزيه الله تعالى وتقديسه عن الجسمية والجوهرية والجهة)(2)

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإن كل ما ذكر شيوخنا من الحشوية من الآيات والأحاديث التي يرون كونها مثبتة للجهة معارضة بآيات وأحاديث كثيرة تبين تنزهه عنها، ولذلك هم يضطرون لتأويلها، وبذلك يقعون فيما ينهون عنه.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكثيرة التي تخبر عن قرب الله تعالى من خلقه، ومعيته لهم، وفي كل الأحوال.. وأنه أدنى إليهم من حبل الوريد، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]

قال آخر: ومنها الآيات التي تذكر حضور الله ومعيته مع كل شيء، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد 4]، وقال: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7]

قال آخر: ومثل ذلك ذكره لمعيته مع المؤمنين الصالحين، حيث قال تعالى: ﴿وَقَالَ

__________

(1) أساس التقديس في علم الكلام، ص 27.

(2) أساس التقديس في علم الكلام، ص 27.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/127)

الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضًا حَسَنًا﴾ [المائدة: 12]، وقال: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا﴾ [التوبة 40]، وقال: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال: 12]

قال آخر: ومثل ذلك ذكر قرب المؤمنين، والصالحين منهم خصوصا، فقال: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ [سبأ: 37]

قال آخر: وبهذا تفسر الآيات التي تدل على البعد في حق الله تعالى، فقد ذكر الله تعالى بعد الكفار عن ربهم وحجابهم عنه، فقال: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: 44]

قال آخر: وكل ذلك يستحيل أن يراد به المكان والجهة، ولذلك، نرى مثبتو الجهة مضطرين لتأويل كل تلك النصوص في سبيل إثبات ما رأوا إثباته، فوقعوا في التناقضات الكثيرة.

قال آخر: ولو أنهم نزهوا الله تعالى عن المكان، لما احتاجوا إلى كل ذلك التكلف في الإثبات والتأويل.

التركيب والأبعاض

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج الثالث.

قال كبير الحشوية: النموذج الثالث هو ما كنا نعتقده من لوازم الجسمية والحدود، وهو عدم استحالة التركيب على الله تعالى، على عكس ما يقوله المنزهة، ذلك أننا مع عدم

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/128)

اعتبار هذا من صفات الله تعالى؛ إلا أنا كنا نعتبر معناه صحيحا.

قال آخر: وقد كنا نستدل على ذلك بإجماع سلفنا الذين كنا نعتبرهم قدوتنا في ديننا، والذين ذكروا أن صفة الأنامل مرتبطة بصفة الأصابع، والأصابع مرتبطة بصفة اليد، وأن لله تعالى يدين، وغيرها، ولذلك لا يمكن معرفة صفات الله تعالى من دون الإيمان بالتركيب.

قال آخر: ومن الأحاديث التي كنا نستدل بها على جواز البعضية والتركيب على الله، ما أورده علماؤنا في تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً﴾ [الأعراف: 143]، فقد رووا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ [الأعراف: 143] قال: هكذا، يعني أنه أخرج طرف الخنصر، قال أحمد: أرانا معاذ، فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد، قال: فضرب صدره ضربة شديدة، وقال: (من أنت يا حميد؟ وما أنت يا حميد؟ يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتقول أنت ما تريد إليه)(1).. وفي رواية أخرى عن أنس: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً﴾ [الأعراف: 143] قال حماد هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى، قال: (فساخ الجبل وخَرَّ موسى صعقاً)(2)

قال آخر: ومن تلك الروايات ما يذكره علماؤنا عند حديثهم عن صفتي [الْحُجْزَةُ وَالْحَقْوُ]، واللذان يعنيان في ظاهرهما [موضع عقد الإزار وشده]، فهم يذكرون أنهما (صفتان ذاتيان خبريتان ثابتتان بالسنة الصحيحة)، ويستدلون لهما بما روي عن ابن عباس قال: (إن الرحم شجنة آخذة بحجزة الرحمن؛ يصل من وصلها، ويقطع من قطعها)(3)

__________

(1) أحمد: (3/ 125)

(2) الترمذي: (5/ 115)

(3) أحمد (2956) وابن أبي عاصم في السنة (538))

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/129)

قال آخر: ويستدلون لذلك أيضا بما روي عن أبي هريرة قال: (خلق الله الخلق، فلما فرغ منه؛ قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن، فقال: مه!.. قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة)(1)، وهم يذكرون أن هذا الحديث صريح في اعتبار الحقو بعضا من الله، ولهذا تمسكت به الرحم، كما يتمسك أحدنا بآخر عند التوسل إليه، وقد قال بعض شيوخنا في شرحه: (وهذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات، التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء، وردوا على من نفى موجبه، وما ذكره الخطابي وغيره أن هذا الحديث مما يتأول بالاتفاق؛ فهذا بحسب علمه، حيث لم يبلغه فيه عن أحد من العلماء أنه جعله من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت)(2)، ثم نقل عن ابن حامد قوله: (ومما يجب التصديق به أن لله حقوا)، وعن المروزي قوله: قرأت على أبي عبد الله كتابا، فمر فيه ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله خلق الرحم، حتى إذا فرغ منها؛ أخذت بحقو الرحمن)، فرفع المحدث رأسه، وقال: أخاف أن تكون كفرت، قال أبو عبد الله: هذا جهمي)(3)

قال آخر: ونقل عن القاضي أبو يعلى قوله: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، وأن (الحقو) و(الحجزة) صفة ذات، لا على وجه الجارحة والبعض، وأن الرحم آخذة بها، لا على وجه الاتصال والمماسة، بل نطلق ذلك تسمية كما أطلقها الشرع، وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله هذا الحديث في كتابه، وأخذ بظاهره، وهو ظاهر كلام أحمد)(4)

قال آخر: ثم عقب عليه بقوله: (قلت: قوله: (لا على وجه الجارحة والبعض)، وقوله: (لا على وجه الاتصال والمماسة)؛ قول غير سديد، وهو من أقوال أهل البدع التي أفسدت عقول كثير من الناس؛ فمثل هذا الكلام المجمل لا يجوز نفيه مطلقا، ولا إثباته

__________

(1) رواه البخاري (4830) وغيره.

(2) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)

(3) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)

(4) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/130)

مطلقا؛ لأنه يحتمل حقا وباطلا، فلا بد من التفصيل في ذلك، والإعراض عنه أولى؛ لأن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خال منه، وليس هو بحاجة إليه؛ فهو واضح، وليس ظاهر هذا الحديث أن لله إزارا ورداء من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس، مما يصنع من الجلود والكتان والقطن وغيره، بل هذا الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد؛ فإنه لو قيل عن بعض العباد: إن العظمة إزاره والكبرياء رداؤه؛ لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء اللذين ليسا من جنس ما يلبس من الثياب. فإذا كان هذا المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق؛ لأن تركيب اللفظ يمنع ذلك، وبين المعنى المراد؛ فكيف يدعى أن هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله تعالى، فإن كل من يفهم الخطاب ويعرف اللغة؛ يعلم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يخبر عن ربه بلبس الأكسية والثياب)(1)

قال آخر: ومن الآثار التي كنا نستدل بها على جواز التركيب على الله ما كنا نرويه عن عكرمة أنه قال: (إن الله عز وجل إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تزلزل، وإذا أراد أن تدمدم على قوم تجلى لها)(2)، وقد صرح ابن القيم بصحة هذه الرواية، بل اعتبر ما ورد فيها من العقائد التي أثبتها في نونيته المشهورة (3).

قال آخر: وقد استشهد شيخنا ابن تيمية بهذه الرواية على صحة إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف، فقال: (وأما إطلاق القول بأن الصفة بعض الموصوف وأنها ليست غيره، فقد قال ذلك طوائف من أئمة أهل الكلام وفرسانهم، وإذا حقق الأمر في كثير من هذه المنازعات لم يجد العاقل السليم العقل ما يخالف ضرورة العقل لغير غرض، بل كثير من المنازعات يكون لفظيا أو اعتباريا، فمن قال إن الأعراض بعض الجسم أو أنها ليست

__________

(1) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (2/ 383)

(2) السنة 2/ 470 (1069) الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي 1/ 248 (961) وعزاه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 5/ 87 إلى الطبراني في كتاب السنة.

(3) انظر شرح قصيدة ابن القيم لأحمد بن إبراهيم 1/ 230

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/131)

غيره، ومن قال إنها غيره يعود النزاع بين محققيهم إلى لفظ واعتبار واختلاف اصطلاح في مسمى (بعض) و(غير) كما قد أوضحنا ذلك في بيان تلبيس الجهمية الذي وضعه أبو عبد الله الرازي في نفي الصفات الخبرية وبنى ذلك على أن ثبوتها يستلزم افتقار الرب تعالى إلى غيره وتركيبه من الأبعاض، وبينا ما في ذلك من الألفاظ المشتركة المجملة.. فهذا إن كان أحد أطلق البعض على الذات وغيره من الصفات وقال إنه بعض الله وأنكر ذلك عليه لأن الصفة ليست غير الموصوف مطلقا، وإن كان الإنكار لأنه لا يقال في صفات الله لفظ البعض، فهذا اللفظ قد نطق به أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم ذاكرين وآثرين)(1)

قال آخر: ثم نقل الرواية التي ذكرناها، ثم قال: (وقد جاء في الأحاديث المرفوعة في تجليه سبحانه للجبل والتي فيها أنه ما تجلى منه إلا مثل الخنصر، وفي قصة داود: قال: يدنيه حتى يمس بعضه، وهذا متواتر عن هؤلاء.. ولا ريب أن لفظ البعض والجزء والغير ألفاظ مجملة فيها إيهام وإبهام، فإنه قد يقال ذلك على ما يجوز أن يوجد منه شيء دون شيء بحيث يجوز أن يفارق بعضه بعضاً وينفصل بعضه عن بعض، أو يمكنُ ذلك فيه كما يقال حدُّ الغيرين ما جاز مفارقة أحدهما للآخر كصفات الأجسام المخلوقة من أجزائها وأعراضها فإنه يجوز أن تتفرق وتنفصل والله سبحانه منزه عن ذلك كله مقدس عن النقائص والآفات.. وقد يراد بذلك ما يعلم منه شيء دون شيء فيكون المعلوم ليس هو غير المعلوم وإن كان لازما له لا يفارقه والتغاير بهذا المعنى ثابت لكل موجود فإن العبد قد يعلم وجود الحق ثم يعلم أنه قادر ثم أنه عالم.. فمن نفى عنه وعن صفاته التغاير والتبعيض بهذا المعنى فهو معطل جاحد للرب فإن هذا التغاير لا ينتفي إلا عن المعدوم.. فقول السلف والأئمة ما وصف به الله من الله وصفاته منه وعِلم الله من الله ونحو ذلك مما استعملوا فيه لفظ (من)

__________

(1) الفتاوى الكبرى 5/ 85 ـ 92 وانظر كلام الفراء في إبطال التأويلات 2/ 340.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/132)

وإن قال قائل معناها التبعيض فهو تبعيض بهذا الاعتبار كما يقال إنه تغاير بهذا الاعتبار)(1)

قال آخر: ومن الروايات التي استدل بها سلفنا كذلك ما أوردوه عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: 25]، فقد رووا عن مجاهد عن عبيد بن عمير قوله: (حتى يضع بعضه عليه)(2)، وفي رواية: (ذكر الدنو منه حتى ذكر أنه يمس بعضه)(3)، وفي رواية: (ما يأمن داود عليه السلام يوم القيامة حتى يقال له اُدنه فيقول ذنبي ذنبي حتى بلغ فيقال اُدنه فيقول ذنبي ذنبي فيقال له اُدنه فيقول ذنبي ذنبي حتى بلغ مكاناً الله أعلم به قال سفيان كأنه يمسك شيئا)(4)، وفي رواية عن مجاهد: (حتى يأخذ بقدمه)(5)، وفي رواية عن مجاهد: (إذا كان يوم القيامة ذكر داود ذنبه فيقول الله عز وجل له كن أمامي فيقول رب ذنبي ذنبي فيقول الله له كن خلفي فيقول رب ذنبي ذنبي فيقول الله عز وجل خذ بقدمي)(6) وفي رواية: (حتى يضع يده في يده)(7)

قال آخر: وغيرها من الروايات، والتي لا يستفاد منها غير تركيب الله تعالى من أجزاء وأبعاض.. ولهذا قال القاضي أبو يعلى تعليقا عليها: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره إذ ليس فيه ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه لأنا لا نثبت قدماً وفخذاً وجارحة ولا أبعاضاً، بل نثبت ذلك صفة كما أثبتنا الذات والوجه واليدي)(8)

قال آخر: وقال ابن القيم مشيرا إلى أمثال هذه الروايات معتبرا المنكر لها جهميا معطلا: (وقد قال غير واحد من السلف: كان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قالوا ولهذا قال سبحانه: ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: 25]، فزاده

__________

(1) الفتاوى الكبرى 5/ 85 ـ 92.

(2) السنة 2/ 475 (1086) و2/ 507 (1180) الخلال في السنة 1/ 262 (319)

(3) السنة 2/ 503 (1165)

(4) السنة 2/ 502 (1161)

(5) السنة 2/ 507 (1182)

(6) السنة 1/ 262 (322) ابن أبي شيبة في المصنف 6/ 342 (31888)

(7) السنة 2/ 502 (1163)

(8) انظر حاشية المرجع السابق 1/ 207 ـ 210

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/133)

على المغفرة أمرين الزلفى وهي درجة القرب منه، وقد قال فيها سلف الأمة وأئمتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم، ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسير السلف)(1)

قال آخر: وسبب كل هذا الذي حصل لنا من الانحراف هو إعرضنا عن أئمة الهدى الذين أوصانا بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن الأحاديث الصريحة عنهم في ذلك، قول الإمام علي في وصف الله تعالى: (لا يتغير بحال، ولا يتبدل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال: له حد ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أن الأشياء تحويه فتقله أو تهويه، أو أن شيئا يحمله فيميله أو يعدله)(2)

قال آخر: وسئل الإمام الصادق: (كيف هو الله؟)، فقال: (واحد في ذاته، فلا واحد كواحد؛ لأن ما سواه من الواحد متجزئ، وهو تبارك وتعالى واحد لا يتجزأ، ولا يقع عليه العد)(3)

قال آخر: وعن يونس بن ظبيان،: دخلت على الإمام الصادق، فقلت له: إن هشام بن الحكم يقول قولا عظيما، إلا أني أختصر لك منه أحرفا، فزعم أن الله جسم؛ لأن الأشياء شيئان: جسم وفعل الجسم، فلا يجوز أن يكون الصانع بمعنى الفعل، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل، فقال الإمام الصادق: (ويحه.. أما علم أن الجسم محدود متناه، والصورة محدودة متناهية، فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة والنقصان، وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا)، قلت: فما أقول؟ قال: (لا جسم ولا صورة وهو مجسم الأجسام ومصور الصور، لم يتجزأ ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق

__________

(1) طريق الهجرتين 1/ 357

(2) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 477 / 116.

(3) الاحتجاج: 2/ 217 / 223، بحار الأنوار: 10/ 167.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/134)

والمخلوق فرق، ولا بين المنشئ والمنشأ، لكن هو المنشئ، فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا)(1)

قال آخر: ويروى أنه دخل رجل من الزنادقة على الإمام الرضا، فقال: حدّ لي ربك، فقال: لا حد له، قال: ولم؟ قال: (لأن كل محدود متناه إلى حد، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزي ولا متوهم)(2)

قال آخر: وقال الإمام الجواد: (كل متجزى أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له)(3)

قال آخر: ولهذا، فإن العلماء الذين لم يتأثروا بمن تأثرنا بهم من المجسمة وجد في القرآن الكريم الأدلة الكثيرة على تنزيه الله تعالى عن ذلك، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره بعضهم من الآيات الكريمة الدالة على نفي التركيب والأبعاض عن الله، فقال: (ولم يكتف القرآن حتى صرح بهذه اللوازم تفصيلا لمن تدبره مستدلا بها لعباده فقال: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا﴾ [الرحمن: 7] ﴿وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا﴾ [الرحمن: 10] فهذا بين لك أن الارتفاع والانضاع الحسيين كما يشاهد في السماء والأرض هما من صفات الحادثات الممكنات لا بد لهما من فاعل، وأنه فاعل ذلك فهو الرافع الخافض، وما هو من دلائل الحدوث يستحيل أن يكون وصفا للواجب المتعالي، وكذلك قال سبحانه ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ﴾ [الرعد: 2] ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ﴾ [الرعد: 3] أي خفضها وجعلها بحيث تصلح للمشي في مناكبها قال ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [الرعد: 3] ثم ذكر

__________

(1) الكافي: 1/ 106 / 6، التوحيد: 99/ 7.

(2) التوحيد: 250 و252/ 3، عيون أخبار الرضا: 1/ 132/28.

(3) الكافي: 1/ 116 / 7، التوحيد: 193/ 7.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/135)

انقسام الأرض إلى أجزاء مختلفة واتصاف ثمار الجنات والزروع بتفاضل بعضها على بعض في الأكل، وأنه هو فاعل ذلك ومجزئه ومقسمه، كما أشار في آية أخرى إلى أنه مجزئ جسم الإنسان إلى أجزاء، وجاعل لكل منها وظيفة، فقال ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾ [البلد: 8، 9] واحتج على الإنسان بوجوده على القدر المخصوص وتجزئته إلى الأجزاء المسماة المعدولة عما يجوز عليها من الصفات إلى ما هي عليه من الحسن والنظام وتركبه، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار: 6 ـ 8] فالعقول تفهم ببداهتها أن الانقسام إلى الأجزاء لا سيما إذا كانت مسواة، والتركب من الجوارح والأعضاء لا بد له من موجد مقسم مركب، ولذلك احتج الله به على ابن آدم، ومحال أن يحتج الله على الحدوث بوصف، ثم يكون هذا الوصف في ذاته عز وجل، فمن قال بتركب ذات الله من الأجزاء وحمل اليدين والعين والأعين والوجه واليمين الواردة في كتاب الله في وصف الله والقدمين والساق في الحديث على الأعضاء والأجزاء، وحمل العلو الوارد في وصفه تعالى على العلو الحسى المكاني، والنزول على مثل ذلك، وأن ذلك مقتضى الكتاب والسنة، وأنه بذلك يكون سلفيا، فما فهم الكتاب ولا السنة ولا تابع السلف الصالح، فهذا كتاب الله يرد عليه أبلغ رد)(1)

قال آخر: وبعد أن ساق نصا لناصر الدين البيضاوي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ [الزخرف: 15] قال: (فإنه تعالى لو جاز عليه الانقسام أو صح عليه الصغر أو الامتداد لكان مقدرا، وقد علمت أن كتابه سبحانه ينادي بأن كل مقدر حادث مخلوق، فيكون ممكنا، والممكن يستحيل أن يكون خالقا وموجدا، وقد ثبت أنه الخلاق فيجب أن يكون متصفا بوجوب الوجود وتوابع هذا الوجود الواجب من الكمالات العليا، فوجب

__________

(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 60.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/136)

أن يكون منزها عن التركب وقبول الانقسام، وكل ما هو من خصائص المادة والأجسام، بذلك نطق كتاب الله لقوم يسمعون، ونادت بهذا آياته من ألقى إليها السمع وهو شهيد، وعلى ذلك أطبق أهل السنة الذين لم يصابوا بما أصيب به أهل الهوى من مرض التشبيه والتجسيم الذي أصيب به اليهود من قبلهم، ووقع فيه النصارى من بعدهم)(1)

قال آخر: ثم ذكر موقف المخالفين متعجبا منه، فقال: (والعجب أنك ترى إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه وشيخ إسلام أهل التجسيم ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدثين الذين يحفظون وليس لهم فقه فيما يحفظون، أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية، يرمي إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي بأنهما أشد كفرا من اليهود والنصارى، لقولهما بالتنزيه، وهما لم ينفردا به، بل هو قول المحققين من علماء الملة الإسلامية من الصحابة فمن بعدهم إلى زمانه وإلى زماننا، وإلى أن يأتي أمر الله)(2)

التغير والحركة

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج الرابع.

قال كبير الحشوية: النموذج الرابع هو ما كنا نعتقده من لوازم الجسمية والحدود، وهو إثبات التغير والحركة على الله تعالى، على عكس ما يقوله المنزهة، ذلك أننا مع عدم اعتبار الحركة والتغير من صفات الله تعالى؛ إلا أنا كنا نعتبر معناها صحيحا في حق الله تعالى.

قال آخر: وقد كنا نستدل لذلك بإجماع سلفنا الذين اعتبروا المجيء والنزول والهرولة من صفات الله تعالى، وهي صفات لا يمكن فهمها من دون إثبات الحركة لله تعالى.

قال آخر: ولهذا اعتبر شيوخنا نفي الحركة والانتقال عن الله حكم عليه بالإعدام، كما قال ابن القيم: (وقد دل القرآن والسنة والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة،

__________

(1) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 61.

(2) فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات والأكوان، ص 61.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/137)

وينزل لفصل القضاء بين عباده، ويأتي في ظلل من الغمام والملائكة، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وينزل عشية عرفة، وينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، وينزل إلى أهل الجنة.. وهذه أفعال يفعلها بنفسه في هذه الأمكنة فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقين، فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به، فما كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له، وحركة الحي من لوازم ذاته، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالحركة والشعور، فكل حي متحرك بالإرادة وله شعور، فنفي الحركة عنه كنفي الشعور، وذلك يستلزم نفي الحياة)(1)

قال آخر: وقال شيخنا ابن تيمية مشيرا إلى ذلك: (وهكذا يقال لهم فى أنواع الفعل القائم به كالإتيان والمجيء والنزول وجنس الحركة، إما أن يقبل ذلك وإما أن لايقبله؛ فإن لم يقبله كانت الأجسام التى تقبل الحركة ولم تتحرك أكمل منه، وإن قبل ذلك ولم يفعله كان ما يتحرك أكمل منه، فإن الحركة كمال للمتحرك، ومعلوم أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه التحرك وما يقبل الحركة أكمل ممن لايقبلها)(2)

قال آخر: وقال في شرح حديث النزول: (لفظ [الحركة] هل يوصف الله بها أم يجب نفيه عنه؟ اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل وغير أهل الملل من أهل الحديث وأهل الكلام وأهل الفلسفة وغيرهم على ثلاثة أقوال، وهذه الثلاثة موجودة في أصحاب الآئمة الأربعة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم)(3)

قال آخر: ثم ذكر معنى الحركة عند المدارس المختلفة، مبتدئا بمن يطلق عليهم المعطلة، فقال: (والمقصود هنا أن الناس متنازعون في جنس الحركة العامة التي تتناول ما

__________

(1) مختصر الصواعق (2/ 257 ـ 258)

(2) مجموع الفتاوى 8/ 23

(3) مجموع الفتاوى 5/ 565

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/138)

يقوم بذات الموصوف من الأمور الاختيارية؛ كالغضب والرضى والفرح، وكالدنو والقرب والاستواء والنُّزول، بل والأفعال المتعدية كالخلق والإحسان وغير ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها: قول من ينفي ذلك مطلقاً وبكل معنى.. وهذا أول من عرف به هم الجهمية والمعتزلة)(1)

قال آخر: ثم ذكر قول السلف المثبتين للحركة، فقال: (والقول الثاني: إثبات ذلك، وهو قول الهشامية والكرامية وغيرهم من طوائف أهل الكلام الذين صرحوا بلفظ الحركة.. وذكر عثمان بن سعيد الدارمي إثبات لفظ الحركة في كتاب نقضه على بشر المريسي، ونصره على أنه قول أهل السنة والحديث، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني ـ لما ذكر مذهب أهل السنة والأثر ـ عن أهل السنة والحديث قاطبة، وذكر ممن لقي منهم على ذلك: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وهو قول أبي عبد الله بن حامد وغيره.. وكثير من أهل الحديث والسنة يقول: المعنى صحيح، لكن؛ لا يطلق هذا اللفظ؛ لعدم مجيء الأثر به؛ كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر وغيره في كلامهم على حديث النُّزول، والقول المشهور عن السلف عند أهل السنة والحديث: هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة؛ من أنه يأتي وينْزل وغير ذلك من الأفعال اللازمة)(2)

قال آخر: ثم نقل عن أبي عمرو الطلمنكي قوله: أجمعوا (يعني: أهل السنة والجماعة) على أنَّ الله يأتي يوم القيامة والملائكة صفَّاً صفَّاً لحساب الأمم وعرضها كما يشاء وكيف يشاء؛ قال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [البقرة: 210]، وقال تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: 22].. وأجمعوا على أنَّ الله يَنْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به الآثار كيف شاء، لا يحدون في ذلك

__________

(1) مجموع الفتاوى (5/ 577)

(2) مجموع الفتاوى (5/ 577)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/139)

شيئا.. ثم روى بإسناده عن محمد بن وضاح؛ قال: وسألت يحيى بن معين عن النُّزول؟ فقال: نعم؛ أقر به، ولا أحِدُّ فيه حَدَّاً)(1)

قال آخر: ثم ذكر القول الثالث، وهو الذي لا ينفي إطلاق وصف الحركة على الله ولا يثبته، وإن لم ينف معناها، فقال: (القول الثالث: الإمساك عن النفي والإثبات، وهو اختيار كثيرٌ من أهل الحديث والفقهاء والصوفية؛ كابن بطة وغيره، وهؤلاء فيهم من يعرض بقلبه عن تقدير أحد الأمرين، ومنهم من يميل بقلبه إلى أحدهما، ولكن؛ لا يتكلم لا بنفي ولا بإثبات)(2)

قال آخر: وهكذا عبر عن إثبات الحركة لله تعالى شيخنا ابن عثيمين بقوله: (النصوص في إثبات الفعل والمجيء والاستواء والنُّزول إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله؛ فالحركة له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولازمها، وإن كنا لا نعقل كيفية هذه الحركة)(3)

قال آخر: وسبب كل هذا الذي حصل لنا من الانحراف هو إعرضنا عن أئمة الهدى الذين أوصانا بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن الأحاديث الصريحة عنهم في ذلك، قول الإمام علي في وصف الله تعالى: (ولا يتغير بحال، ولا يتبدل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام)(4)

قال آخر: وقال في تنزيه الله تعالى: (المشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها)(5).. وقال: (لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه،

__________

(1) مجموع الفتاوى (5/ 577)

(2) مجموع الفتاوى (5/ 577)

(3) إزالة الستار عن الجواب المختار (ص 32)

(4) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 477 / 116.

(5) الكافي: 1/ 142 / 7، التوحيد: 33.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/140)

ولكان له وراء إذ وجد له أمام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره!؟)(1)

قال آخر: وقال: (إن ربي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون، ولا بالقيام قيام انتصاب، ولا بجيئة ولا بذهاب.. هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة.. داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل وخارج منها لا كشيء من شيء خارج)(2).. وقال: (الخالق لا بمعنى حركة)(3)

قال آخر: وقال الإمام الحسين: (لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث)(4)

قال آخر: وسئل الإمام الباقر عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ [طه: 81]، ما ذلك الغضب؟.. فقال: (هو العقاب، إنه من زعم أن الله قد زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق، وإن الله تعالى لا يستفزه شيء فيغيره)(5)

قال آخر: وقال الإمام الصادق في قول الله عز وجل: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الزخرف: 55]: (إن الله عز وجل لا يأسف كأسفنا، ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه؛ لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه، فلذلك صاروا كذلك، وليس أن ذلك يصل إلى الله ما يصل إلى خلقه، لكن هذا معنى ما قال من ذلك، وقد قال: (من أهان لي وليا

__________

(1) نهج البلاغة: الخطبة 186، الاحتجاج: 1/ 476.

(2) التوحيد: 305/ 1، الأمالي للصدوق: 423.

(3) الكافي: 1/ 140 / 5.

(4) تحف العقول: 244.

(5) الكافي: 1/ 110 / 5، التوحيد: 168/ 1.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/141)

فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها)، وقال: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10]، فكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك، ولو كان يصل إلى الله الأسف والضجر، وهو الذي خلقهما وأنشأهما لجاز لقائل هذا أن يقول: إن الخالق يبيد يوما ما؛ لأنه إذا دخله الغضب والضجر دخله التغيير، وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، ثم لم يعرف المكون من المكون، ولا القادر من المقدور عليه، ولا الخالق من المخلوق، تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا)(1)

قال آخر: وقال: (إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا!)(2)

قال آخر: وقال الإمام الكاظم: (أما قول الواصفين: إنه ينزل ـ تبارك وتعالى ـ فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة، وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به، فمن ظن بالله الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، أو زوال أو استنزال، أو نهوض أو قعود، فإن الله ـ جل وعز ـ عن صفة الواصفين، ونعت الناعتين، وتوهم المتوهمين)(3)

قال آخر: وقال الإمام الرضا: (لم يتغير عز وجل بخلق الخلق، ولكن الخلق يتغير بتغييره)(4)

قال آخر: وقال: (فاعل لا بمعنى الحركات والآلة)(5)، وقال: (مدبر لا بحركة)(6)

__________

(1) الكافي: 1/ 144 / 6، التوحيد: 168/ 2.

(2) التوحيد: 184/ 20، الأمالي للصدوق: 353.

(3) الكافي: 1/ 125 / 1، التوحيد: 183/ 18.

(4) التوحيد: 433/ 1، عيون أخبار الرضا: 1/ 171 / 1.

(5) نهج البلاغة: الخطبة 1، الاحتجاج: 1/ 473.

(6) التوحيد: 37/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 151 / 51.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/142)

النظير والمثيل

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج الخامس.

قال كبير الحشوية: النموذج الخامس هو ما كنا نعتقده من لوازم الجسمية والحدود، وهو إثبات النظير والمثيل، وقد كنا نستدل لذلك بإجماع سلفنا الذين كنا نعتبرهم قدوتنا في ديننا، والذين اعتبروا اليد والساق والعين والوجه وغيرها من صفات الله تعالى.. ولا يمكن فهمها من دون إثبات أمثالها في كلامنا، وإن كنا ننزه الله تعالى عن كونها مشابهة لنا.

قال آخر: وقد شرح ذلك بتفصيل إمام أئمتنا ابن خزيمة عند رده على من يتهمنا بالتشبيه، حيث قال: (زعمت الجهمية عليهم لعائن الله أن أهل السنة ومتبعي الآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، المثبتين لله عز وجل من صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله المثبت بين الدفتين وعلى لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بنقل العدل عن العدل موصولا إليه مشبهة، جهلا منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وقلة معرفتهم بلغة العرب، الذين بلغتهم خوطبنا)(1)

قال آخر: ثم رد على هذا بذكر مثال عن صفة الوجه لله تعالى، وأن هناك فرقا بين من يثبتها كصفة، وبين من يشبه وجه الله بوجوه عباده، فقال: (اسمعوا الآن أيها العقلاء، ما نذكر من جنس اللغة السائرة بين العرب، هل يقع اسم المشبهة على أهل الآثار ومتبعي السنن؟.. نحن نقول ـ وعلماؤنا جميعا في جميع الأقطار ـ: إن لمعبودنا عز وجل وجها كما أعلمنا الله في محكم تنزيله، فذواه بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء، ونفى عنه الهلاك، ونقول: إن لوجه ربنا عز وجل من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، محجوب عن أبصار أهل الدنيا، لا يراه بشر ما دام في

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 54)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/143)

الدنيا الفانية ونقول: إن وجه ربنا القديم لا يزال باقيا، فنفى عنه الهلاك والفناء)(1)

قال آخر: ثم ذكر الفرق بين وجه الله تعالى ووجوه خلقه، فقال: (ونقول: إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك، ونفى عنها الجلال والإكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء التي وصف الله بها وجهه، تدرك وجوه بني آدم أبصار أهل الدنيا، لا تحرق لأحد شعرة فما فوقها، لنفي السبحات عنها، التي بينها نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لوجه خالقنا ونقول: إن وجوه بني آدم محدثة مخلوقة، لم تكن، فكونها الله بعد أن لم تكن مخلوقة، أوجدها بعد ما كانت عدما، وإن جميع وجوه بني آدم فانية غير باقية، تصير جميعا ميتا، ثم تصير رميما، ثم ينشئها الله بعد ما قد صارت رميما، فتلقى من النشور والحشر والوقوف بين يدي خالقها في القيامة، ومن المحاسبة بما قدمت يداه وكسبه في الدنيا ما لا يعلم صفته غير الخالق البارئ، ثم تصير إما إلى جنة منعمة فيها، أو إلى النار معذبة فيها)(2)

قال آخر: وبناء على هذا بين مدى الفرق بين وجه الله ووجوه عباده، وأن ذلك هو المراد بنفي المثلية عن الله في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، فقال: (فهل يخطر يا ذوي الحجا ببال عاقل مركب فيه العقل، يفهم لغة العرب، ويعرف خطابها، ويعلم التشبيه، أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه؟.. وهل هاهنا أيها العقلاء، تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا وبينا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم، التي ذكرناها ووصفناها؟ غير اتفاق اسم الوجه، وإيقاع اسم الوجه على وجه بني آدم، كما سمى الله وجهه وجها، ولو كان تشبيها من علمائنا لكان كل قائل: أن لبني آدم وجها، وللخنازير والقردة، والكلاب، والسباع، والحمير، والبغال، والحيات، والعقارب، وجوها، قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة، والكلاب وغيرها مما ذكرت، ولست أحسب أن

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 54)

(2) التوحيد لابن خزيمة (1/ 54)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/144)

عقل الجهمية المعطلة عند نفسه، لو قال له أكرم الناس عليه: وجهك يشبه وجه الخنزير والقرد، والدب، والكلب، والحمار، والبغل ونحو هذا إلا غضب، لأنه خرج من سوء الأدب في الفحش في المنطق من الشتم للمشبه وجهه بوجه ما ذكرنا، ولعله بعد يقذفه، ويقذف أبويه ولست أحسب أن عاقلا يسمع هذا القائل المشبه وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا إلا ويرميه بالكذب، والزور، والبهت أو بالعته، والخبل، أو يحكم عليه بزوال العقل، ورفع القلم، لتشبيه وجه ابن آدم بوجوه ما ذكرنا فتفكروا يا ذوي الألباب، أو وجوه ما ذكرنا أقرب شبها بوجوه بني آدم، أو وجه خالقنا بوجوه بني آدم؟ فإذا لم تطلق العرب تشبيه وجوه بني آدم بوجوه ما ذكرنا من السباع واسم الوجه، قد يقع على جميع وجوهها كما يقع اسم الوجه على وجوه بني آدم، فكيف يلزم أن يقال لنا: أنتم مشبهة؟ ووجوه بني آدم ووجوه ما ذكرنا من السباع والبهائم محدثة، كلها مخلوقة، قد قضى الله فناءها وهلاكها وقد كانت عدما، فكونها الله وخلقها وأحدثها، وجميع ما ذكرناه من السباع والبهائم لوجوهها أبصار، وخدود وجباة، وأنوف وألسنة، وأفواه، وأسنان، وشفاه ولا يقول مركب فيه العقل لأحد من بني آدم: وجهك شبيه بوجه الخنزير، ولا عينك شبيه بعين قرد، ولا فمك فم دب، ولا شفتاك كشفتي كلب، ولا خدك خد ذئب إلا على المشاتمة، كما يرمي الرامي الإنسان بما ليس فيه)(1)

قال آخر: وبناء على هذه الأوهام التي اعتبرها أدلة، قال: (فإذا كان ما ذكرنا على ما وصفنا ثبت عند العقلاء وأهل التمييز، أن من رمى أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم بالتشبيه فقد قال الباطل والكذب، والزور والبهتان، وخالف الكتاب والسنة، وخرج من لسان العرب)(2)

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)

(2) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/145)

قال آخر: ثم ذكر الانحرافات التي وقع فيها المنزهة بسبب عدم سوء فهمها لنفي الشبيه عن الله تعالى، فقال: (وزعمت المعطلة من الجهمية: أن معنى الوجه الذي ذكر الله في الآي التي تلونا من كتاب الله، وفي الأخبار التي روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تقول العرب: وجه الكلام، ووجه الدار، فزعمت لجهلها بالعلم أن معنى قوله: وجه الله: كقول العرب: وجه الكلام، ووجه الثوب، ووجه الدار، ووجه الثوب، وزعمت أن الوجوه من صفات المخلوقين وهذه فضيحة في الدعوى، ووقوع في أقبح ما زعموا أنهم يهربون منه، فيقال لهم: أفليس كلام بني آدم، والثياب والدور مخلوقة؟، فمن زعم منكم أن معنى قوله: ﴿وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115] كقول العرب: وجه الكلام، ووجه الكلام، ووجه الثوب، ووجه الدار، أليس قد شبه ـ على أصلكم ـ وجه الله بوجه الموتان؟ لزعمكم ـ يا جهلة ـ أن من قال من أهل السنة والآثار، القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم لله وجه وعينان، ونفس، وأن يبصر ويرى ويسمع: أنه مشبه عندكم خالقه بالمخلوقين، حاشا لله أن يكون أحد من أهل السنة والأثر شبه خالقه بأحد من المخلوقين فإذا كان على ما زعمتم بجهلكم، فأنتم شبهتم معبودكم بالموتان)(1)

قال آخر: ثم ذكر الفرق الكبير بين المثبتة ومن يسميهم المعطلة في هذا، فقال: (نحن نثبت لخالقنا جل وعلا صفاته التي وصف الله عز وجل بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مما ثبت بنقل العدل عن العدل موصولا إليه ونقول كلاما مفهوما موزونا، يفهمه كل عاقل نقول: ليس إيقاع اسم الوجه للخالق البارئ بموجب عند ذوي الحجا والنهى أنه يشبه وجه الخالق بوجوه بني آدم قد أعلمنا الله جل وعلا في الآي التي تلوناها قبل أن الله وجها، ذواه بالجلال والإكرام، ونفى الهلاك عنه، وخبرنا في محكم تنزيله

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/146)

أنه يسمع ويرى، فقال جل وعلا لكليمه موسى ولأخيه هارون عليهما السلام: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعَ وَأَرَى﴾ [طه: 46]، وما لا يسمع ولا يبصر: كالأصنام، التي هي من الموتان، ألم تسمع مخاطبة خليل الله صلى الله عليه وآله وسلم أباه: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: 42]؟ أفلا يعقل ـ يا ذوي الحجا ـ من فهم عن الله تبارك وتعالى هذا: أن خليل الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلامه لا يوبخ أباه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ثم يدعو إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر، ولو قال الخليل صلى الله عليه وآله وسلم لأبيه: أدعوك إلى ربي الذي لا يسمع ولا يبصر، لأشبه أن يقول: فما الفرق بين معبودك ومعبودي؟ والله قد أثبت لنفسه أنه يسمع ويرى، والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله جل وعلا وصف بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لجهلهم بالعلم، وقال عز وجلَ: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: 44] فأعلم الله عز وجل أن من لا يسمع ولا يعقل كالأنعام، بل هم أضل سبيلا، فمعبود الجهمية عليهم لعائن الله كالأنعام التي لا تسمع ولا تبصر والله قد ثبت لنفسه: أنه يسمع ويرى، والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله وصف بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لجهلهم بالعلم، وذلك أنهم وجدوا في القرآن أن الله قد أوقع أسماء من أسماء صفاته على بعض خلقه، فتوهموا لجهلهم بالعلم أن من وصف الله بتلك الصفة التي وصف الله بها نفسه، قد شبهه بخلقه)(1)

قال آخر: ثم ذكر ما ورد في القرآن الكريم من إثبات المثلية بين الله وعباده في أصول الصفات لا في كيفياتها، فقال: (فاسمعوا يا ذوي الحجا ما أبين من جهل هؤلاء المعطلة أقول: وجدت الله وصف نفسه في غير موضع من كتابه، فأعلم عباده المؤمنين أنه سميع

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/147)

بصير، فقال: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وذكر عز وجل الإنسان فقال: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان: 2]، وأعلمنا جل وعلا أنه يرى، فقال: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونِ﴾ [التوبة: 105]، وقال لموسى وهارون عليهما السلام: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46]، فأعلم عز وجل أنه يرى أعمال بني آدم، وأن رسوله وهو بشر يرى أعمالهم أيضا، وقال: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ﴾ [النحل: 79] وبنو آدم يرون أيضا الطير مسخرات في جو السماء، وقال عز وجل: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [هود: 37]، وقال: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ [القمر: 14]، وقال: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48]، فثبت ربنا عز وجل لنفسه عينا، وثبت لبني آدم أعينا، فقال: ﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ [المائدة: 83] فقد خبرنا ربنا: أن له عينا، وأعلمنا أن لبني آدم أعينا، وقال لإبليس عليه لعنة الله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِي﴾ [ص: 75]، وقال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: 64]، وَقَالَ: ﴿الْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: 67]، فثبت ربنا جل وعلا لنفسه يدين، وخبرنا أن لبني آدم يدين، فقال: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [آل عمران: 182]، وقال: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: 10]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10]، وقال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] وخبرنا: أن ركبان الدواب يستوون على ظهورها، وقال في ذكر سفينة نوح: ﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾ [هود: 44])(1)

قال آخر: وبعد استعراضه لهذه الآيات الكريمة الواضحة، قال: (أفيلزم ـ ذوي الحجا ـ عند هؤلاء الفسقة أن من ثبت لله ما يثبت الله في هذه الآي أن يكون مشبها خالقه بخلقه، حاشا الله أن يكون هذا تشبيها كما ادعوا لجهلهم بالعلم، نحن نقول: إن الله سميع

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 57)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/148)

بصير كما أعلمنا خالقنا وبارئنا، ونقول من له سمع وبصر من بني آدم: فهو سميع بصير، ولا نقول: إن هذا تشبيه المخلوق بالخالق ونقول: إن لله عز وجل يدين، يمينين لا شمال فيهما، قد أعلمنا الله تبارك وتعالى أن له يدين، وخبرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنهما: يمينان لا شمال فيهما، ونقول: إن من كان من بني آدم سليم الجوارح والأعضاء فله يدان: يمين وشمال ولا نقول: إن يد المخلوقين كيد الخالق، عز ربنا عن أن تكون يده كيد خلقه، وقد سمى الله لنا نفسه عزيزا، وسمى بعض الملوك عزيزا، فقال: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾ [يوسف: 30]، وسمى أخوة يوسف أخاهم يوسف: عزيزا، فقالوا: ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا﴾ [يوسف: 78]، وقال: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ﴾ [يوسف: 88]، فليس عزة خالقنا العزة التي هي صفة من صفات ذاته، كعزة المخلوقين الذين أعزهم الله بها)(1)

قال آخر: ولو أنا عدنا إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحاديث عترته الطاهرة لما وقعنا في هذا، فمن الأحاديث الصريحة في نفي المثيل والنظير عن الله تعالى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس شيء إلا وله شيء يعدله، إلا الله عز وجل، فإنه لا يعدله شيء)(2).. وقال: (قال الله جل جلاله: ما عرفني من شبهني بخلقي)(3)

قال آخر: وقال الإمام علي: (لا له مثل فيعرف بمثله)(4).. وقال: (الذي نأى من الخلق فلا شيء كمثله)(5).. وقال: (اتقوا الله أن تمثلوا بالرب الذي لا مثل له، أو تشبهوه بشيء من خلقه، أو تلقوا عليه الأوهام، أو تعملوا فيه الفكر، أو تضربوا له الأمثال، أو تنعتوه بنعوت المخلوقين؛ فإن لمن فعل ذلك نارا)(6).. وقال: (من وحد الله سبحانه لم يشبهه

__________

(1) التوحيد لابن خزيمة (1/ 62)

(2) ثواب الأعمال: 17/ 6.

(3) التوحيد: 68/ 23، عيون أخبار الرضا: 1/ 116.

(4) الكافي: 1/ 142 / 7، التوحيد: 33/ 1.

(5) الكافي: 1/ 141 / 7، التوحيد: 32.

(6) روضة الواعظين: 46.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/149)

بالخلق)(1)

قال آخر: وقال في تنزيه الله تعالى: (وأشهد أن من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك، ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك (2)

قال آخر: وقال: (فأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لاند لك، وكأنه لم يسمع تبرؤ التابعين من المتبوعين إذ يقولون: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 97 ـ 98])(3)

قال آخر: وقال في تفسير قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: 2]: (تأويل الصمد لا اسم ولا جسم ولا مثل ولا شبه ولا صورة ولا تمثال ولا حد ولا حدود ولا موضع ولا مكان ولا كيف ولا أين ولا هنا ولا ثمة ولا ملأ ولا خلأ، ولا قيام ولا قعود، ولاسكون ولا حركة، ولا ظلماني ولا نوراني، ولا روحاني ولا نفساني ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع ولا على لون، ولا على خطر قلب، ولا على شم رائحة، منفي عنه هذه الأشياء)(4)

قال آخر: وقال الإمام الحسين: (أيها الناس، اتقوا هؤلاء المارقة الذين يشبهون الله بأنفسهم، يضاهؤون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضى المشيئة والإرادة والقدرة والعلم بما هو كائن، لا منازع له في شيء من أمره، ولا كفو له يعادله، ولا ضد له ينازعه، ولا سمي له يشابهه، ولا مثل له يشاكله)(5)

__________

(1) غرر الحكم: 8648.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 91، التوحيد: 54.

(3) نهج البلاغة: الخطبة 91.

(4) بحار الأنوار، ج 3 ص 230.

(5) تحف العقول: 244.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/150)

قال آخر: وقال الإمام الصادق: (من شبه الله بخلقه فهو مشرك، إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شيء، وكل ما وقع في الوهم فهو بخلافه)(1)

قال آخر: وقال لمحمد بن مسلم: (يا محمد، إن الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إله إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء)(2)

قال آخر: وقال الإمام الرضا ـ في تمجيد الله جل وعلا ـ: (إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة، فجهلوك وقدروك والتقدير على غير ما به وصفوك، وإني بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء، إلهي ولن يدركوك، وظاهر ما بهم من نعمتك دليلهم عليك لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحة أن يتناولوك بل سووك بخلقك، فمن ثم لم يعرفوك، واتخذوا بعض آياتك ربا فبذلك وصفوك، تعاليت ربي عما به المشبهون نعتوك)(3)

قال آخر: وقام إليه رجل فقال له: يا ابن رسول الله، صف لنا ربك؛ فإن من قبلنا قد اختلفوا علينا، فقال الإمام الرضا: (إنه من يصف ربه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس، مائلا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير الجميل، أعرفه بما عرف به نفسه من غير رؤية، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه، ومتدان في بعده لا بنظير، لا يمثل بخليقته)(4)

قال آخر: وقال الإمام الجواد: (ربنا ـ تبارك وتعالى ـ لا شبه له، ولا ضد ولا ند ولا كيف ولا نهاية ولا تبصار بصر)(5)

قال آخر: وهكذا انطلق علماؤنا من تدبرهم للقرآن الكريم، ولأمثال هذه الأحاديث الواردة عن أئمة الهدى، واستنبطوا البراهين العقلية الكثيرة الدالة على استحالة المثلية على

__________

(1) التوحيد: 80.

(2) الكافي: 1/ 92 / 3، التوحيد: 456.

(3) التوحيد: 125/ 2، عيون أخبار الرضا: 1/ 117.

(4) التوحيد: 47.

(5) الكافي: 1/ 117 / 7، التوحيد: 194.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/151)

الله تعالى، وقد صاغوا براهينهم بأشكال مختلفة.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، فقد ذكر في تفسيرها الكثير من وجوه دلالتها على ذلك، فقال: (احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء وحاصلا في المكان والجهة، وقالوا لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11])(1)

قال آخر: ثم فصل وجه الاستدلال بها، فقال: (ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال إما أن يكون المراد ليس كمثله شيء في ماهيات الذات، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء، والثاني باطل، لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين، كما أن الله تعالى يوصف بذلك، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك، فثبت أن المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات، فيكون المعنى أن شيئا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية، فلو كان الله تعالى جسما، لكان كونه جسما ذاتا لا صفة، فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة، فحينئذ تكون سائر الأجسام فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتا، والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسما)(2)

قال آخر: وقد رد على ما ذكره ابن خزيمة الذي ذكرتم أقواله في وجه نفي المماثلة بين الله وعباده، فقال: (هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين، ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية، فنقول

__________

(1) مفاتيح الغيب (27/ 582)

(2) مفاتيح الغيب (27/ 582)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/152)

المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته، وتحقيق الكلام فيه مسبوق بمقدمة أخرى فنقول: المعتبر في كل شيء، إما تمام ماهيته وإما جزء من أجزاء ماهيته وإما أمر خارج عن ماهيته، ولكنه من لوازم تلك الماهية، وإما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية، وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به)(1)

الشكل والصورة

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج السادس.

قال كبير الحشوية: النموذج السادس هو ما كنا نعتقده من لوازم الجسمية والحدود، وهو إثبات الشكل والصورة لله تعالى، وقد كنا نستدل على ذلك باتفاق أئمتنا على إثباتها، وقد قال ابن قتيبة: (والذي عندي ـ والله تعالى أعلم ـ أن الصُّورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حدٍّ)(2)

قال آخر: وقال شيخنا ابن تيمية في ذلك: (الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه تعالى يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف، وعند هؤلاء هو كل آتٍ، وما في الدنيا والآخرة، وأما أهل الإلحاد والحلول الخاص، كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو علي أو بعض المشايخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع؛ فقد يتأولون أيضاً هذا الحديث كما تأوله أهل الاتحاد والحلول المطلق؛ لكونه قال: فيأتيهم الله في صورة، لكن يقال لهم: لفظ (الصُّورة) في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله مختصة به؛ مثل

__________

(1) مفاتيح الغيب (27/ 583)

(2) تأويل مختلف الحديث، ص 261.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/153)

العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير، ومثل خلقه بيديه واستوائه على العرش ونحو ذلك)(1)

قال آخر: وقال: (لفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله اختصت به، مثل العليم، والقدير، والرحيم، والسميع، والبصير، ومثل خلقه بيديه، واستوائه على العرش، ونحو ذلك)(2)

قال آخر: والأعجب من هذا، أنا كنا نروي من الأحاديث ما يحدد تلك الصورة بدقة، ومن الأمثلة على ذلك ما كنا نرويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا)(3).. وكنا نروي وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقبحوا الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)(4)

قال آخر: والحديث الأخير، وإن ضعفه كبار أئمتنا كابن خزيمة (5)، والألباني (6) إلا أنهم تلقوا معناه بالقبول.. بالإضافة إلى ذلك كنا نذكر أن للحديث شواهد تقويه، ومنها ما كنا نرويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه؛ فإن الله ـ تعالى ـ خلق آدم على صورة وجهه)(7)

قال آخر: ولهذا رد علماؤنا على ما ذكره ابن خزيمة في هذا الموضع، حيث قال:

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية (7/ 131)

(2) نقض التأسيس 3/ 396.

(3) البخاري (3326) ومسلم (2841)

(4) عبدالله بن أحمد في السنة 498، وابن أبي عاصم في السنة 529، وابن خزيمة في التوحيد 1/ 85، والدارقطني في الصفات 45.

(5) ضعف هذا الحديث ابن خزيمة في كتاب [التوحيد 1/ 87]، وقد أعله بثلاث علل: الأولى: أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسله. الثانية: عنعنة الأعمش، وهي مردودة؛ لأنه مدلس ما لم يصرح بالسماع من حبيب بن أبي ثابت. والثالثة: لا يعلم لحبيب بن أبي ثابت سماع من عطاء.

(6) بالإضافة للعلل السابقة ذكر الألباني علة رابعة، وهي تغير جرير بن عبدالحميد وسوء حفظه، وقد اضطربت روايته برواية لفظ (على صورته) عند ابن أبي عاصم 530، واللالكائي 716. وقد قوى الشيخ طارق عوض الله هذه العلة في حاشيته على [المنتخب من العلل] للخلال بذكر الإمام الدارقطني لتفرد جرير بن عبدالحميد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء؛ انظر [المنتخب من علل الخلال، لابن قدامة ص 269]. والخامسة: الانقطاع بين عطاء وابن عمر.

(7) السنة لابن أبي عاصم (1/ 227 ـ 228)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/154)

(توهم بعض من لم يتحر العلم أن قوله (على صورته) يريد صورة الرحمن، عز ربنا وجل عن أن يكون هذا معنى الخبر، بل معنى قوله (خلق آدم على صورته) الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب والمشتوم، أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب، والذي قبح وجهه)(1)

قال آخر: ومن الأمثلة على ردودهم ما عبر عنه ابن قتيبة بقوله في [تأويل مختلف الحديث] بعد سرد الأقوال في تأويل هذا الحديث: (ومنها أن المراد أن الله خلق آدم على صورة الوجه، قال: وهذا لا فائدة فيه، والناس يعلمون أن الله تبارك وتعالى خلق آدم على خلق ولده، وجهه على وجوههم، وزاد قوم في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يضرب وجه رجل آخر، فقال (لا تضربه، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته) أي صورة المضروب، وفي هذا القول من الخلل ما في الأول)(2)

قال آخر: ومثله الطبراني فقد اعتبر هذا التأويل تجهما، فقال في كتاب السنة: (حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال (قال رجل لأبي: إن رجلاً قال: خلق الله آدم على صورته، أي صورة الرجل، فقال: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا)(3)

قال آخر: ومثله الذهبي، فقد قال معاتبا من يشتدون على ابن خزيمة بسبب ذلك: (وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة، فليعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه، وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه)(4)

__________

(1) التوحيد (1/ 84 ـ 85)

(2) تأويل مختلف الحديث ص (319)

(3) ميزان الاعتدال (1/ 603)

(4) سير أعلام النبلاء (14/ 374)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/155)

قال آخر: ومثلهم جميعا شيخنا ابن تيمية؛ فقد ذكر ثلاثة عشر وجهاً للرد على هذا التأويل، وقد قدم لها بقوله: (والكلام على ذلك أن يقال هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين من الكتب كالتوراة وغيرها، ولكن كان من العلماء في القرن الثالث من يكره روايته، ويروي بعضه كما يكره رواية لعض الأحاديث لمن يخاف على نفسه ويفسد عقله أو دينه كما قال عبد الله بن مسعود: (ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم) وفي البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله)، وإن كان مع ذلك لا يرون كتمان ما جاء به الرسول مطلقاً، بل لابد أن يبلغوه حيث يصلح ذلك)(1)

قال آخر: ثم ذكر اتفاق الأمة على ثبوته، فقال: (ولهذا اتفقت الأمة على تبليغه وتصديقه، وإنما دخلت الشبهة في الحديث لتفريق ألفاظه فإن من ألفاظه المشهورة إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته، ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته، وهذا فيه حكم عملي يحتاج إليه الفقهاء، وفيه الجملة الثانية الخبرية المتعلقة بلا وكثير من الفقهاء روى الجملة الأولى فقط وهي قوله فإذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، ولم يذكر الثانية وعامة أهل الأصول والكلام إنما يروون الجملة الثانية وهي قوله خلق الله آدم على صورته ولا يذكرون الجملة الطلبية فصار الحديث متواتراً بين الطائفتين وصاروا متفقين على تصديقه لكن مع تفريق بعضه عن بعض وإن كان محفوظاً عند آخرين من علماء الحديث وغيرهم)(2)

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية (6/ 373)

(2) بيان تلبيس الجهمية (6/ 375)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/156)

قال آخر: ثم ذكر كيف تصرف المتأخرون في تأويله وتحريفه، حتى من أهل الحديث أنفسهم، فقال: (وقد ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتداء في إخباره بخلق آدم في ضمن حديث طويل إذا ذكر على وجهه زال كثير من الأمور المحتملة، ولكن ظهر لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله تعالى حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم كأبي ثور وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم)(1)

قال آخر: وبناء على هذا المعنى كتب شيخنا الكبير حمود بن عبدالله بن حمود التويجري كتابه العظيم [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]، والذي قدم له شيخنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، بقوله: (اطلعت على ما كتبه صاحب الفضيلة الشيخ حمود بن عبدالله التويجري وفقه الله وبارك في أعماله فيما ورد من الأحاديث في خلق آدم على صورة الرحمن.. فألفيته كتاباً قيماً كثير الفائدة قد ذكر فيه الأحاديث الصحيحة الواردة في خلق آدم على صورة الرحمن، وفيما يتعلق بمجيء الرحمن يوم القيامة على صورته، وقد أجاد وأفاد، وأوضح ما هو الحق في هذه المسألة، وهو أن الضمير في الحديث الصحيح في خلق آدم على صورته يعود إلى الله عز وجل، وهو موافق لما جاء في حديث ابن عمر أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، وقد صححه الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والآجري وابن تيمية وآخرون من الأئمة رحمة الله عليهم جميعاً، وقد بين كثير من الأئمة خطأ الإمام ابن خزيمة في إنكار عود الضمير إلى الله سبحانه في حديث ابن عمر والصواب ما قاله الأئمة المذكورون وغيرهم في عود الضمير إلى الله عز وجل بلا كيف ولا تمثيل، بل صورة الله سبحانه تليق به وتناسبه كسائر صفاته ولا يشابهه فيها شيء من خلقه سبحانه وتعالى)(2)

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية (6/ 376)

(2) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (7)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/157)

قال آخر: وقد ذكر شيخنا التويجري دوافع تأليفه، وهي الدوافع التي لا تختلف كثيرا عن تلك الدوافع التي كان ينطلق منها شيوخنا وأئمتنا من أمثال الدارمي وابن خزيمة وابن تيمية وغيرهم، فقال: (ولا يزال القول بمذهب الجهمية مستمرا إلى زماننا، وقد رأيت ذلك في بعض مؤلفات المعاصرين وتعليقاتهم الخاطئة، وذكر لي عن بعض المنتسبين إلى العلم أنه ألقى ذلك على الطلبة في بعض المعاهد الكبار في مدينة الرياض، ولما ذكر له بعض الطلبة قول أهل السنة أعرض عنه وأصر على قول الجهمية، عافانا الله وسائر المسلمين مما ابتلاه به)(1)

قال آخر: بل إننا كنا نورد الأحاديث التي اتفق على صحتها علماؤنا ما يعرض صورة الله تعالى بالتدقيق، سواء تلميحا أو تصريحا.. وبما أن ذكر ذلك من الصعب تقبله، فلذلك كنا نقدم لذلك بالكثير من المقدمات، ومنها المباحث الكثيرة الواردة في كتب التوحيد والسنة من المسألة المعروفة بـ[رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه]، وهي مسألة حظيت باهتمام كبير من شيوخنا وأئمتنا.. وأكثرهم يميل إلى أنها وقعت.

قال آخر: وحتى الذي لا يميل إلى ذلك يذكر بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في الرؤيا.. ثم يعقب على ذلك بأن رؤيا الأنبياء حق.. وبذلك فإن ما وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه من الصفات الحسية مقبول سواء قيل برؤية اليقظة، أم بالرؤيا المنامية.

قال آخر: ولأن النتيجة في كليهما واحدة، فقد تعامل شيوخنا بهدوء مع هذه المسألة على الرغم من وجود آثار كثيرة تثبت الرؤية، والمثبت عندهم مقدم على النافي، قال الذهبي: (ولا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا في الدنيا، ولا من نفاها، بل نقول الله ورسوله أعلم، بل نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة ثبتت بنصوص متوافرة)(2)

__________

(1) عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن (6)

(2) سير أعلام النبلاء 10/ 114

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/158)

قال آخر: أما الفريق الذي يرى أنها قد وقعت، ويصف بالضبط صورة الله بدقة، فهم أكثر شيوخنا، كما قال ابن تيمية: (وأكثر علماء أهل السنة يقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه ليلة المعراج)(1)

قال آخر: ويستند هذا الفريق إلى بعض الآثار عن الصحابة والتابعين، والتي يجزمون فيها، ويحلفون برؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه، وأهمها ما رووه عن عكرمة عن ابن عباس قال: (أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم)(2)

قال آخر: ومنها ما رووه عن قتادة أن أنسًا قال: (رأى محمدٌ ربَّه)(3).. ومنها ما رووه أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ربَّه عز وجل؟ فقال: (نعم، قد رآه)(4)

قال آخر: ومثل ذلك رووا عن التابعين أن عكرمة سئل عن قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم 11]، فقال: (أتريد أن أقول لك: قد رآه.. نعم قد رآه، ثم قد رآه، ثم قد رآه، حتى ينقطع النفس)(5).. ورووا عن المبارك بن فضالة قال: (كان الحسن يحلف ثلاثة لقد رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه)(6)

قال آخر: وقد ورد في بعض تلك الروايات وصفا دقيقا لكيفية رؤيته له، وهو ما روي عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [النجم 13]، حيث روي عن عبد الله بن عمر أنه بعث إلى عبد الله بن عباس يسأله: هل رأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربه؟ فبعث إليه: (أن نعم قد رآه)، فرد رسوله إليه وقال: كيف رآه؟ فقال: (رآه على كرسي من

__________

(1) مجموع الفتاوى 3/ 386.

(2) ابن أبي عاصم في السنة (1/ 192)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1/ 299)، والنسائي في الكبرى (5/ 165)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 479، ح 272)، والآجري في الشريعة (3/ 1541، ح 1031)(2/ 1048، ح 627)

(3) ابن أبي عاصم في السنة 1/ 188 432. وابن خزيمة في كتاب التوحيد 2/ 487، 280.

(4) عبد الله بن أحمد في السنة 1/ 176، 218، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/ 571، 908.

(5) ابن جرير في تفسيره 27/ 48. وعبد الله بن أحمد في السنة 1/ 178 221. واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 3/ 571 907

(6) ابن خزيمة في التوحيد 2/ 488 281. وتفسير عبد الرزاق 2/ 204. والشفا للقاضي عياض 1/ 258.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/159)

ذهب، تحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة رجل، وملك في صورة أسد، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، في روضة خضراء، دونه فراش من ذهب)(1)

قال آخر: وبعد تثبيت شيوخنا لهذه المقدمات بمختلف أنواعها، يذكرون أهم نتيجة، وهي تحديد صورة الله تعالى بدقة، حتى إذا ظهر للمؤمنين المثبتين يوم القيامة لم يخطئوا فيه.

قال آخر: والحديث الذي يدل على هذا هو ما رووه عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر أنه رأى ربه عز وجل في المنام في صورة شاب موفر في خضر على فراش من ذهب، في رجليه نعلان من ذهب)، وفي رواية (رأيت ربي في المنام في صورة شاب موقر في خضر، عليه نعلان من ذهب، وعلى وجهه فراش من ذهب)، وفي رواية: (أنه رأى ربه عز وجل في النوم في صورة شاب ذي وفرة، قدماه في الخضرة، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب)(2)

قال آخر: وفي رواية عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (رأيت ربي، عز وجل، في حلة خضراء في صورة شاب عليه تاج يلمع منه البصر)، وفي وراية: (أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في صورة شاب أمرد من دونه ستر من لؤلؤ، قدميه، أو قال: رجليه في خضرة)، وفي رواية (رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلة خضراء)(3)

قال آخر: وقد دافع شيخنا ابن تيمية عن هذا الحديث والروايات الواردة فيه أيما

__________

(1) ابن أبي شيبة في كتاب العرش ص 391 38، وابن خزيمة في التوحيد 2/ 483 ب 275، وعبد الله بن أحمد في السنة 1/ 175. والآجري في الشريعة 3/ 1543.

(2) ابن أبي عاصم في السنة 1/ 205 471. والطبراني في المعجم الكبير 25/ 143 346. والبيهقي في الأسماء والصفات 2/ 367 ـ 369 942. والدارقطني في الرؤية ص 190 316.

(3) هذا الحديث صححه جمعٌ من أعلام السلفية الكبار منهم: الإمام أحمد (المنتخب من علل الخلال: ص 282، وإبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 139)، وأبو زرعة الرازي (إبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 144)، والطبراني (إبطال التأويلات لأبي يعلى 1/ 143)، وأبو الحسن بن بشار (إبطال التأويلات 1/ 142، 143، 222)، وأبو يعلى في (إبطال التأويلات 1/ 141، 142، 143)، وابن صدقة (إبطال التأويلات 1/ 144)(تلبيس الجهمية 7/ 225)، وابن تيمية في (بيان تلبيس الجهمية 7/ 290، 356)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/160)

دفاع، فقال: (قال الخلال أبوبكر المروذي: قرئ على أبي عبد الله شاذان حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن محمدًا رأى ربه، فذكر الحديث، قلت إنهم يطعنون في شاذان يقولون ما رواه غير شاذان، قال بلى قد كتبته عن عفان عن رجل عن حماد عن سلمة عن قتادة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رأيت ربي، وقال المروذي في موضع آخر قلت لأبي عبد الله: فشاذان كيف هو؟ قال: ثقة، وجعل يثبته، وقال: في هذا يشنع به علينا، قلت: أفليس العلماء تلقته بالقبول، قال بلى قلت إنهم يقولون إن قتادة لم يسمع من عكرمة قال هذا لايدري الذي قال وغضب وأخرج إليَّ كتابه فيه أحاديث بما سمع قتادة من عكرمة، فإذا ستة أحاديث سمعت عكرمة حدثنا بهذا المروذي عن أبي عبد الله قال أبو عبد الله: قد ذهب من يحسن هذا وعجب من قول من قال لم يسمع وقال سبحان الله هو قدم البصرة فاجتمع عليه الخلق)(1)

قال آخر: وقال في موضع آخر: (شاذان يقول أرسلت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل أستأذنه في أن أحدث بحديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، قال: رأيت ربي، قال: حدث به فقد حدث به العلماء، قال الخلال أبنا الحسن بن ناصح قال: حدثنا الأسود بن عامر شاذان ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه جعدًا قططا أمرد في حلة حمراء والصواب حلة خضراء)(2)

قال آخر: ثم روى أحاديث الرؤية المنامية، ويبين انطباقها على الأحاديث الدالة على الرؤية في اليقظة، فقد روى عن امرأة أبي بن كعب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (رأيت ربي في المنام في خضر من الفردوس إلى أنصاف ساقيه في رجليه نعلان من ذهب)(3)

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية (7/ 194)

(2) بيان تلبيس الجهمية (7/ 196)

(3) بيان تلبيس الجهمية (7/ 194)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/161)

قال آخر: ثم علق عليه بقوله: (وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرح فيه بأنه رأى ذلك في المنام، وهذه الألفاظ نظير الألفاظ التي في حديث ابن عباس)(1)

قال آخر: بل إن ابن تيمية فوق ذلك، وحتى يبين إمكانية الاستدلال بحديث الرؤية المنامية على صفة الله، قال: (وإذا كان كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلا، ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقا أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس.. وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى وإنما ذلك بحسب حال الرائي وصحة إيمانه وفساده واستقامة حاله وانحرافه)(2)

قال آخر: وما يريده شيخنا ابن تيمية من هذا الكلام واضح، ذلك أنه يعرف أن المسلمين جميعا يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أعرف الخلق بربه، ولذلك رؤيته مقاربة أو مطابقة لله نفسه.. خاصة إذا انضم إليها ما صححه من الأحاديث المتعلقة بالرؤية الحسية.

قال آخر: ولو أنا رجعنا إلى أئمة الهدى الذين عزلناهم، واستبدلناهم بأولئك المشايخ ما وقعنا فيما وقعنا فيه، ومن ذلك قول الإمام الصادق في تنزيه الله تعالى: (سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا يحد ولا يحس ولا يجس (3)، ولا تدركه الأبصار ولا الحواس، ولا يحيط به شيء ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد)(4)

قال آخر: وقال في تنزيه الله: (لا جسم ولا صورة، وهو مجسم الأجسام ومصور

__________

(1) بيان تلبيس الجهمية (7/ 194)

(2) بيان تلبيس الجهمية (1/ 73)

(3) الجس: المس باليد.

(4) الكافي: 1/ 104 / 1.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/162)

الصور، لم يتجزأ ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص، لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق، ولا بين المنشىو المنشا؛ لكن هو المنشئ، فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا)(1)

قال آخر: وسئل الإمام الكاظم عن الجسم والصورة، فقال: (سبحان من ليس كمثله شيء، لا جسم ولا صورة)(2)

قال آخر: وسئل الإمام الرضا عن التوحيد، فقال: (الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء، ومبتدعها ابتداعا بقدرته وحكمته، لا من شيء فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداع، خلق ما شاء، كيف شاء، متوحدا بذلك لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته، لا تضبطه العقول ولا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأبصار ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة وكلت دونه الأبصار، وضل فيه تصاريف الصفات، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير رؤية، ووصف بغير صورة، ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال)(3)

قال آخر: وقيل له: يا ابن رسول الله، إن الناس يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله خلق آدم على صورته)، فقال: (قاتلهم الله، لقد حذفوا أول الحديث، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر برجلين يتسابان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبح الله وجهك ووجه من يشبهك! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا عبد الله، لا تقل هذا لأخيك؛ فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته)(4)

الرؤية والإدراك

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن النموذج السابع.

__________

(1) الكافي: 1/ 106 / 6.

(2) الكافي: 1/ 104 / 2.

(3) الكافي: 1/ 105 / 3.

(4) التوحيد: 153/ 11، عيون أخبار الرضا: 1/ 119/12.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/163)

قال كبير الحشوية: النموذج السابع هو ما كنا نعتقده من لوازم الجسمية والحدود، وهو إثبات الرؤية الحسية لله تعالى؛ وقد اتفق جميع أئمتنا على ذلك، وقد قال شيخنا ابن تيمية في ذلك: (وإنما يكذب بها أو يحرفها ـ أي: أحاديث الرؤية في الآخرة ـ الجهمية، ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم، من الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته، وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة)(1)

قال آخر: وقد نقل أئمتنا الإجماع على ذلك، فقد قال عبدالغني المقدسي: (وأجمع أهل الحق واتفق أهل التوحيد والصدق أن الله تعالى يرى في الآخرة كما جاء في كتابه وصح عن رسوله)(2)

قال آخر: وقال ابن أبي العز الحنفي: (وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة)(3)

قال آخر: ولهذا حكم أئمتنا على كفر جاحد الرؤية، وقد قال شيخنا ابن تيمية في ذلك: (والذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة، فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم ذلك، عرف ذلك كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له، فهو كافر)(4)

قال آخر: وقال العلامة ابن باز: (رؤية الله في الآخرة ثابتة عند أهل السنة والجماعة من أنكرها كفر، يراه المؤمنون يوم القيامة ويرونه في الجنة كما يشاء بإجماع أهل السنة)(5)

قال آخر: وقد اتفق أئمتنا على أن رؤية الله تعالى هي أعظم نعيم لأهل الجنة، وقد

__________

(1) مجموع الفتاوى (3/ 391 ـ 392)

(2) عقيدة الحافظ عبدالغني المقدسي (58)

(3) شرح الطحاوي (153)

(4) مجموع الفتاوى (6/ 486)

(5) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (28/ 412)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/164)

قال ابن القيم في ذلك: (فأعظم نعيم الآخرة ولذاتها، هو النظر إلى وجه الرب جل جلاله، وسماع كلامه منه، والقرب منه؛ كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية)(1)، وقال: (فأطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته، وألذ ما في الآخرة رؤيته ومشاهدته)

قال آخر: وأما رؤية الله تعالى في الدنيا، فقد قال فيها شيخنا ابن تيمية: (وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤيا، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها، ضعف عن رؤيتها لا لامتناع في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقهم رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل خر موسى صعقا؛ قال: سبحانك تبت إليك، وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله كما أيد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم)(2)

قال آخر: ولو أنا رجعنا إلى أئمة الهدى الذين عزلناهم، واستبدلناهم بأولئك المشايخ ما وقعنا فيما وقعنا فيه، ومن ذلك ما روي عن هشام، قال: كنت عند الإمام الصادق إذ دخل عليه معاوية بن وهب، وعبد الملك بن أعين، فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله، ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه، على أي صورة رآه؟.. وعن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة، على أي صورة يرونه؟ فتبسم، ثم قال: يا فلان، ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة، أو ثمانون سنة، يعيش في ملك الله، ويأكل من نعمه، لا يعرف الله حق معرفته، ثم قال: يا معاوية، إن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم ير ربه تبارك وتعالى بمشاهدة العيان، وإن الرؤية على وجهين: رؤية القلب ورؤية البصر؛ فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، ومن عنى برؤية البصر فقد كفر بالله وبآياته؛ لقول رسول الله

__________

(1) الداء والدواء (283 ـ 284)

(2) منهاج السنة النبوية (2/ 332)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/165)

صلى الله عليه وآله وسلم: من شبه الله بخلقه فقد كفر)(1)

قال آخر: وقيل له: أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟.. فقال: نعم، وقد رأوه قبل يوم القيامة، قيل: متى؟ قال: حين قال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172]، ثم سكت ساعة، ثم قال: (وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟) قال السائل: فقلت له: جعلت فداك؛ فأحدث بهذا عنك؟ فقال: (لا، فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله، ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون)(2)

قال آخر: وقال: (رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب، وإحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته)(3)

قال آخر: وقال لمن سأله: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه؟: (نعم، رآه بقلبه، فأما ربنا ـ جل جلاله ـ فلا تدركه أبصار الناظرين، ولا تحيط به أسماع السامعين)(4)

قال آخر: وهكذا روي عن إمام أئمة الهدى الإمام علي، فقد روي أنه كان يخطب على منبر الكوفة، إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب، ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ قال: ويلك يا ذعلب، ما كنت أعبد ربا لم أره، فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال: ويلك يا ذعلب، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب، إن ربي لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف

__________

(1) كفاية الأثر: 256.

(2) التوحيد: 117/ 20، بحار الأنوار: 4/ 44 / 24.

(3) الاحتجاج: 2/ 212 / 223، بحار الأنوار: 10/ 164 / 2.

(4) الأمالي للسيد المرتضى: 1/ 103، روضة الواعظين: 41.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/166)

بالغلظ، قبل كل شيء لا يقال شيء قبله، وبعد كل شيء لا يقال له بعد، شاء الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة في الأشياء كلها، غير متمازج بها ولا بائن منها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، ناء لا بمسافة، قريب لا بمداناة (1)

قال آخر: وروي أن رجلا من اليهود أتاه، فقال: يا علي، هل رأيت ربك؟ فقال: ما كنت بالذي أعبد إلها لم أره، ثم قال: لم تره العيون في مشاهدة الأبصار، غير أن الإيمان بالغيب بين عقد القلوب (2).

قال آخر: وهكذا روي عن سائر أئمة الهدى، فعن سنان، قال: حضرت الإمام الباقر، فدخل عليه رجل من الخوارج، فقال له: يا أبا جعفر، أي شيء تعبد؟ قال: الله تعالى، قال: رأيته؟ قال: (بل لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان)(3)

قال آخر: وعن المدائني، قال: بينما محمد بن علي بن الحسين (الإمام الباقر) في فناء الكعبة، فإذا أعرابي فقال له: هل رأيت الله حيث عبدته؟ فأطرق وأطرق من كان حوله، ثم رفع رأسه إليه فقال: (ما كنت لأعبد شيئا لم أره، فقال: وكيف رأيته؟ قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور في قضيته، بان من الأشياء وبانت الأشياء منه، ليس كمثله شيء، ذلك الله لا إله إلا هو)، فقال الأعرابي: الله أعلم حيث يجعل رسالاته (4).

ب. الحشوية والنبوة

__________

(1) الكافي: 1/ 138 / 4، التوحيد: 308/ 2.

(2) المحاسن: 1/ 373.

(3) الكافي: 1/ 97 / 5، التوحيد: 108/ 5.

(4) تاريخ دمشق: 54/ 282؛ الإرشاد: 1/ 225، الاحتجاج: 1/ 493.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/167)

بعد أن انتهى الحشوية التائبون من ذكر الأدلة على ما في كتبهم من تجسيم وتشبيه، قام بعض الحضور، وقال: وعينا هذا.. فحدثونا عن التشويه الذي تعرضت له النبوة؟

قال كبير الحشوية: أجل.. وربما يكون أعظم خطرا مما ذكرناه؟

قال أحد الحضور: فهل هناك ما هو أخطر من تشويه العقيدة في الله؟

قال الحشوي: نعم إن تشويه العقيدة في الله خطير جدا، وهي تجعل صاحبها وثنيا من حيث لا يشعر، لكن تشويه الأنبياء والرسل وأعلام الهداية خطير أيضا، لأنه يرفع كل القيم النبيلة.. فالأنبياء هم الهداة؛ فإذا استطاع المدلسون تشويههم استطاعوا بعد ذلك أن ينسخوا ويمحوا كل القيم النبيلة التي دعوا إليها.

قال الحضور: فهل حصل هذا؟

قال الحشوي: أجل.. ذلك أننا لم نترك نبيا من الأنبياء عليهم السلام إلا وأغرقنا تفاسيرنا بالروايات والأخبار والأساطير التي تجعل القارئين يغفلون عنه وعن المعاني القرآنية النبيلة التي ارتبطت به، لينشغلوا بما نذكره، من غير تمييز بين الغث والسمين (1).

الحشوية وآدم

قال أحد الحضور: فحدثونا عن آدم عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن القرآن الكريم اقتصر عند ذكره له على تلك المعاني العظيمة التي تعرف بحقيقة الإنسان وكرامته ووظائفه إلا أن رواياتنا الكثيرة أغرقت قصته بالأساطير والتفاصيل التي لا حاجة لها، بل إنها تشوهه، وتشوه كل المعاني القرآنية التي وردت في حقه باعتبار الأب الأول للبشرية.

__________

(1) سنكتفي هنا بذكر بعض ما يذكره الحشوية مما يتعلق بالأنبياء عليهم السلام، وهو بعض ما سنذكره ونرد عليه بتفصيل في كتاب: القرآن وتأويل الجاهلين.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/168)

قال آخر: ومن تلك الروايات ما رووه عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن آدم عليه السلام كان رجلا طوالا؛ كأنه نخلةٌ سحوقٌ، كثير شعر الرأس، فلما وقع بما وقع به بدت له عورته، وكان لا يراها قبل ذلك فانطلق هاربا، فأخذت برأسه شجرةٌ من شجر الجنة، فقال لها: أرسليني قالت: لست مرسلتك قال: فناداه ربه عز وجل: أمني تفر؟ قال: أي رب لا؛ أستحييك، قال: فناداه: وإن المؤمن يستحيي ربه عز وجل من الذنب إذا وقع به، ثم يعلم بحمد الله أين المخرج؛ يعلم أن المخرج في الاستغفار، والتوبة إلى الله عز وجل)(1)

قال آخر: ومنها ما روي عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: (بعث الله عزوجل جبريل في الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني، فرجع ولم يأخذ، وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل.. فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة بيضاء وحمراء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين.. فصعد به فبل التراب حتى عاد طينا لازبا.. ثم قال للملائكة: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: 71، 72]، فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه، فخلقه بشرا، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم منه فزعا إبليس، فكان يمر به فيضربه، فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة، فذلك حين يقول: ﴿مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ [الرحمن: 14]، ويقول: لامر ماخلقت، ودخل من فيه وخرج من دبره، وقال

__________

(1) الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 43)(265) والبعث والنشور للبيهقي (ص: 139)(175) والمستدرك على الصحيحين (2/ 288)(3038)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/169)

للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمدٌ وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكنه.. فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس، فقالت الملائكة قل: الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخلت الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، وذلك حين يقول الله تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: 37،] ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر: 30، 31])(1) إلى آخر القصة الطويلة.

قال آخر: ومن تلك الأحاديث والآثار ما يتناقض مع الأدلة التاريخية، وخاصة من علم الآثار؛ فتلك الروايات تذكر أن تاريخ البشرية جميعا من مبتدئه إلى منتهاه لا يتعدى سبعة آلاف سنة، كما عبر عن ذلك بعض مشايخنا بقوله ـ تحت عنوان [الباب الخامس في مدة العالم وعدة الرسل]ـ: (مدة الدنيا من ابتداء خلق العالم إلى انقضائه وفنائه سبعة آلاف سنة على ما جاءت به التوراة المنزلة على موسى عليه السلام وذكره أنبياء بني إسرائيل، وقد وافق عليه من قال بتسيير الكواكب، وأنها مسير الكواكب السبعة فسير كل كوكب منها ألف سنة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الدنيا سبعة آلاف سنة أنا في آخرها ألفا) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بعثت والساعة كهاتين)، وجمع بين أصبعيه الوسطى والسبابة يعني أن الباقي منها كزيادة الوسطى على السبابة، وروى سلمة بن عبد الله الجهنى عن أبى مسجعة الجهني عن أبي رحاب الجهني أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم رأيتك على منبر فيه سبع درجات وأنت على أعلاها فقال: (الدنيا سبعة الاف سنة أنا في آخرها ألفا)، وروى أبو نضرة عن أبي سعيد

__________

(1) رواه السدي، قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 39.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/170)

الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد صلاة العصر يقول: (أيها الناس إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون)، وأخذ في خطبته إلى أن قال: (لأعرفن رجلا منعته مهابة الناس أن يتكلم بحق إذا رآه وشهده) ثم قال: (وقد أزف غروب الشمس أن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منه كبقية يومكم هذا فيما مضى منه يوفى بكم سبعون أمة قد توفي تسع وستون وأنتم آخرها)، فصارت هذه المدة المقدرة في عمر الدنيا سبعة آلاف سنة متفقا عليها فيما تضمنته الكتب الإلهية ووردت به الأنباء النبوية مع ما سلك به الموافق من تسيير الكواكب السبعة، وإن كان المعول في المغيب على الأنباء الصادقة الصادرة عن علام الغيوب الذي لم يشرك في غيبه إلا من أطلعه عليه من رسله فخلق العالم في ستة أيام ابتداؤها يوم الأحد وانقضاؤها يوم الجمعة)(1)

قال آخر: وكل هذه النصوص التي أوردها من الأحاديث التي دلست على النبوة، وأضيفت لها في الفترة التي سيطر فيها اليهود وتلاميذ اليهود على الرواية والأخبار، ولذلك لا تعتبر سندا دينيا ولا تاريخيا، وهي مردودة جملة وتفصيلا.

قال آخر: ومن تك الروايات ما ورد حول طول آدم عليه السلام، هو ونسله من بعده، وهو ما يتنافى مع ما دل عليه العلم، ومن تلك الروايات ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك. فقال السلام عليكم فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)(2)، وفي رواية: (خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)، وفي رواية: (فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً فلم يزل

__________

(1) أعلام النبوة: (1/ 53)

(2) رواه البخاري (3326) ومسلم (2841)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/171)

الخلق ينقص حتى الآن)(1)

قال آخر: والحديث يدل ـ كما يذكر شارحوه (2) ـ على أن كل قرن يكون له أقصر من القرن الذي قبله، إلى انتهى تناقص الطول إلى هذه الأمة واستقر الأمر على ذلك.

قال آخر: وقد حسب بعضهم طول آدم ـ بناء على اختلاف حساب الذراع ـ فقال: (مما جاء حول الذراع في ملحق الموازين والمكاييل والأطوال التالي: الذراع عند الحنفية يساوي 46.375 سنتيمترا.. الذراع عند المالكية يساوي 53 سنتيمترا.. الذراع عند الشافعية والحنابلة يساوي 61.834 سنتيمترا.. وبعد إجراء معادلة رياضية بسيطة يتبين بان طول آدم (60 ذراعا × 61.834 سنتيمترا = 3710.04 سنتيمترا)، وهو ما يعادل (37.1004 مترا). وبعبارة اخرى، يبلغ طول أدم عليه السلام حوالي سبعة وثلاثين مترا (37 مترا).. أما عرضه (فإنه (7 ذع × 61.834 سم = 432.838 سم)، وهو ما يعادل (4.32838 م

قال آخر: وكل هذا لم يثبت بدليل قطعي من العلم، ولا من النصوص القطعية المتواترة، ولذلك فإنه من الأساطير التي يرددها اليهود وغيرهم، والذين يهتمون لأمثال هذه القضايا الغريبة.

قال آخر: وكانت آخر جناية جناها قومنا عليه اتهامه بالحرص على الحياة بعد أن ذكروا أنه عاش ألف سنة كاملة.. وقد رووا في ذلك الروايات الكثيرة.. والتي تعاملوا معها جميعا، وكأنها حقائق قطعية مقدسة لا يصح نقدها، ولا الكلام فيها.

قال آخر: ومن تلك الروايات ما رووه عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

__________

(1) مسلم (7092)

(2) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/ 367): (أي أن كل قرن يكون نشأته في الطول أقصر من القرن الذي قبله، فانتهى تناقص الطول إلى هذه الأمة واستقر الأمر على ذلك)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/172)

(أول من جحد آدم عليه السلام قالها ثلاث مرات، إن الله لما خلقه مسح ظهره فأخرج ذريته فعرضهم عليه فرأى فيهم رجلا يزهر فقال: أى رب من هذا؟ قال ابنك داود قال: كم عمره؟ قال: ستون، قال: أى رب زد فى عمره، قال: لا إلا أن تزيده أنت من عمرك، فزاده أربعين سنة من عمره فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما أراد أن يقبض روحه، قال: بقى من أجلى أربعون فقيل له: إنك جعلته لابنك داود قال: فجحد، قال: فأخرج الله عز وجل الكتاب وأقام عليه البينة فأتمها لداود، عليه السلام، مائة سنة وأتمها لآدم عليه السلام عمره ألف سنة)(1)

قال آخر: وفي رواية عن أبي هريرة يرفعها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اتفق السلفيون على صحتها: (لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا فأعجبه وبيص مابين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ قال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود، قال: رب وكم جعلت عمره؟ قال ستين سنة، قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمرى أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته)(2)

قال آخر: غهذه الرواية العجيبة تصور آدم عليه السلام بهذه الصورة الحقيرة التي لا تتناسب مع عامة الناس، فكيف بنبي كريم علمه الله أسماء كل شيء، ورضيه خليفة، وأسجد له ملائكته، ومع ذلك، وبعد أن نزل من الجنة، وتألم بآلام الأرض يصورونه وكأنه

__________

(1) أحمد 1/ 251 (2270)

(2) الترمذي (3076) قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2683) وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 325 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/173)

حريص على البقاء مدة أطول.. ومن الملاحظات الجديرة بالانتباه في الرواية زيادة على تشويهها لآدم عليه السلام هو ما يبدو فيها من علامات اليهودية.. فالروايات بطرقها المختلفة تنص على أنه عندما عرضت ذريته جميعا عليه، بما فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يشد انتباهه إلا لداود عليه السلام لأنه كان مميزا بكثرة نوره.. والنور يعني القرب والكمال.. وهم بذلك يصورون داود عليه السلام بأنه الأقرب والأكمل.. وهو موقف اليهود الذي لا زالوا يؤمنون به، فهم يعتبرون داود هو مثلهم الأعلى، بل يعتبرونه أكثر من موسى، لأن الهدف عندهم هو الملك، وقد تحقق في داود، ولم يتحقق في موسى عليهم السلام جميعا.

الحشوية وإدريس

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن إدريس عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن القرآن الكريم اقتصر عند ذكره له على ذكر اسمه وفضله وصبره ورفعة مكانته، كما قال تعالى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الأنبياء: 85، 86]، وقال ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: 56، 57] إلا أن مفسرينا ومؤرخينا أغرقوا حياته بتفاصيل كثيرة لا أثارة من العلم تدل عليها.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكروه من أن اسمه (خنوخ)، و(هرمس الهرامسة)، وأنه في عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه أول بني آدم أعطي النبوة بعد آدم وشيث عليهما السلام.. وأنه أول من خط بالقلم.. وأنه أدرك من حياة آدم ثلاثمائة سنة وثماني سنين.. وأنه المشار إليه في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما سئل عن الخط بالرمل فقال: (إنه

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/174)

كان نبي يخط به فمن وافق خطه فذاك)(1).. وغيرها من البيانات الكثيرة المرتبطة بحياته، والتي لم يدل الدليل عليها.

قال آخر: ومثل ذلك ما ينسب للإمام الباقر من القصة الطويلة عن حياته، والتي لا يمكن الوثوق بما ورد فيها جميعا، فقد نسب إليه أنه قال: (كان نبوة إدريس عليه السلام أنه كان في زمنه ملك جبار وأنه ركب ذات يوم في بعض نزهة، فمر بأرض خضرة نضرة لعبد مؤمن فأعجبته، فسأل وزراءه لمن هذه؟ فقالوا: لفلان، فدعا به، فقال له: أمتعني بأرضك هذه، فقال: عيالي أحوج إليها منك، فغضب الملك وانصرف إلى أهله.. وكانت له امرأة يشاورها في الأمر إذا نزل به، فخرجت إليه فرأت في وجهه الغضب، فقالت: أيها الملك إنما يغتم ويأسف من لا يقدر على التغيير، فان كنت تكره أن تقتله بغير حجة، فأنا أكفيك أمره وأصير أرضه بيدك بحجة لك فيها العذر عند أهل مملكتك، فقال: ما هي؟.. قالت: أبعث أقواما من أصحابي حتى يأتوك به، فيشهدون لك عليه عندك أنه قد برئ من دينكم، فيجوز لك قتله وأخذ أرضه، قال: فافعلي وكان أهلها يرون قتل المؤمنين، فأمرتهم بذلك، فشهدوا عليه أنه برئ من دين الملك، فقتله واستخلص أرضه، فغضب الله تعالى للمؤمن فأوحى إلى إدريس عليه السلام أن ائت عبدي الجبار فقل له: أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت أرضه، فأحوجت عياله من بعده وأجعتهم، أما وعزتي لأنتقمن له منك في الآجل، ولأسلبنك ملكك في العاجل، ولأطعمن الكلاب ولحمك، فقد غرك حلمي)(2)

قال آخر: ثم ذكرت الرواية أن إدريس عليه السلام أتته رسالة ربه، وهو في مجلسه وحوله أصحابه، فقال الجبار: اخرج عني يا إدريس، ثم أخبر امرأته بما جاء به إدريس عليه

__________

(1)، قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 71.

(2) قصص الأنبياء للراوندي، ص 71.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/175)

السلام، فقال: لا تهولنك رسالة إدريس أنا أرسل إليه من يقتله وأكفيك أمره، وكان لإدريس عليه السلام أصحاب مؤمنون يأنسون به ويأنس بهم، فأخبرهم بوحى الله ورسالته إلى الجبار، فخافوا على إدريس منه.. ثم بعثت امرأة الجبار أربعين رجلا ليقتلوا إدريس، فأتوه فلم يجدوه في مجلسه، فانصرفوا ورآهم أصحاب إدريس، فأحسوا بأنهم يريدون قتل إدريس عليه السلام، فتفرقوا في طلبه وقالوا له: خذ حذرك يا إدريس، فتنحى عن القرية من يومه ذلك ومعه نفر من أصحابه، فلما كان في السحر ناجى ربه، فأوحى الله إليه أن تنح عنه وخلني وإياه، فقال إدريس عليه السلام: أسألك أن لا تمطر السماء على أهل هذه القرية، وإن خرجت وجهدوا وجاعوا، قال الله تعالى: إني قد أعطيتك ما سألته، فأخبر إدريس أصحابه بما سأل الله من حبس المطر عليهم وعنهم، وقال: اخرجوا من هذه القرية إلى غيرها من القرى، فتفرقوا وشاع الخبر بما سأل إدريس عليه السلام ربه (1).

قال آخر: ثم ذكرت الرواية أن إدريس عليه السلام تنحى إلى كهف في جبل شاهق، وظهر في المدينة جبار آخر، فسلب ملك الأول وقتله وأطعم الكلاب لحمه ولحم امرأته، فمكثوا بعد إدريس لم تمطر السماء عليهم، فلما جهدوا ومشى بعضهم إلى بعض قالوا: إن الذي نزل بنا مما ترون بسؤال إدريس عليه السلام ربه، وقد تنحى عنا ولا علم لنا بموضعه، والله أرحم بنا منه، فأجمعوا أمرهم على أن يتوبوا إلى الله تعالى، فقاموا على الرماد، ولبسوا المسوح، وحثوا على رؤوسهم التراب، وعجوا إلى الله بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرع إليه (2).

قال آخر: ثم ذكرت الرواية أن إدريس عليه السلام مضى حتى جلس على موضع مدينة الجبار الأول وهي تل، فاجتمع إليه الناس من أهل قريته، فقالوا مسنا الجوع والجهد

__________

(1) قصص الأنبياء للراوندي، ص 71.

(2) قصص الأنبياء للراوندي، ص 71.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/176)

في هذه العشرين سنة، فادع الله تعالى لنا أن يمطر علينا، قال إدريس عليه السلام: لا أدعوا حتى يأتيني جباركم وجميع أهل قريتكم مشاة حفاة، فبلغ الجبار قوله، فبعث إليه أربعين رجال يأتوه بادريس، فأتوه وعنفوا به، فدعا عليهم فماتوا، فبلغ الجبار الخبر، فبعث إليه خمسمائة رجل، فقالوا له: يا إدريس إن الملك بعثنا إليك لنذهب بك إليه، فقال لهم إدريس عليه السلام: انظروا إلى مصارع أصحابكم قالوا: متنا بالجوع فارحم وادع الله أن يمطر علينا فقال: حتى يأتي الجبار، ثم إنهم سألوا الجبار أن يمضي معهم، فأتوه وقفوا بين يديه خاضعين، فقال إدريس عليه السلام: الآن، فنعم.. فسأل الله أن يمطر عليهم فاظلتهم سحابة من السماء، فارعدت وأبرقت وهطلت عليهم)(1)

قال آخر: ومثل ذلك ما ينسب إلى ابن عباس أنه قال: (كان إدريس النبي صلوات الله عليه يسيح النهار ويصومه، ويبيت حيث ما جنه الليل، ويأتيه رزقه حيث ما أفطر، وكان يصعد له من العمل الصالح مثل ما يصعد لأهل الأرض كلهم، فسأل ملك الموت ربه في زيارة إدريس عليه السلام وأن يسلم عليه، فأذن له فنزل وأتاه، فقال: إني أريد أن أصحبك، فأكون معك فصحبه، وكانا يسيحان النهار ويصومانه، فإذا جنهما الليل أتى إدريس فطره فيأكل، ويدعو ملك الموت إليه فيقول: لا حاجة لي فيه، ثم يقومان يصليان وإدريس يفتر وينام، وملك الموت يصلي ولا ينام ولا يفتر، فمكثا بذلك أيام.. ثم إنهما مرا بقطيع غنم وكرم قد أينع، فقال ملك الموت: هل لك أن تأخذ من ذلك حملا، أو من هذا عناقيد فتفطر عليه؟ فقال: سبحان الله أدعوك إلى ما لي فتأبى، فكيف تدعوني إلى مال الغير؟.. ثم قال إدريس عليه السلام: قد صحبتني وأحسنت فيما بيني وبينك من أنت؟ قال: أنا ملك الموت قال إدريس: لي إليك حاجة فقال: وما هي؟ قال: تصعد بي إلى السماء فاستأذن ملك الموت

__________

(1) قصص الأنبياء للراوندي، ص 71.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/177)

ربه في ذلك، فأذن له فحمله على جناحه فصعد به إلى السماء.. ثم قال له إدريس عليه السلام: إن لي إليك حاجة أخرى قال: وما هي؟ قال: بلغني من الموت شدة فأحب أن تذيقني منه طرفا فانظر هو كما بلغني؟ فاستأذن ربه له، فأخذ بنفسه ساعة ثم خلى عنه فقال له: كيف رأيت؟ قال: بلغني عنه شدة، وأنه لأشد مما بلغني ولي إليك حاجة اخرى تريني النار فاستأذن ملك الموت صاحب النار، ففتح له، فلما رآها إدريس عليه السلام سقط مغشيا عليه.. ثم قال له: لي إليك حاجة اخرى تريني الجنة، فاستأذن ملك الموت خازن الجنة فدخلها فلما نظر إليها قال: يا ملك الموت ما كنت لأخرج منها إن الله تعالى يقول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185]، وقد ذقته ويقول: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ [مريم: 71]، وقد وردتها ويقول في الجنّة: ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: 48])(1)

الحشوية ونوح

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن نوح عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن القرآن الكريم اقتصر عند ذكره له على تلك المعاني العظيمة التي تعرف بجهوده العظيمة في الدعوة إلى الله، ومن غير كلل ولا ملل، وبكل الوسائل والأساليب، حتى استحق أن يكون من أولي العزم من الرسل إلا أن رواياتنا الكثيرة أغرقت قصته بالأساطير والتفاصيل التي لا حاجة لها، بل إنها تشوهه، وتشوه كل المعاني القرآنية التي وردت في حقه.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكر من التفاصيل المرتبطة بنسبه وتاريخ ميلاده.. والتي لا دليل عليها من القرآن الكريم ولا من السنة المطهرة، ولا من التاريخ، بل هي مجرد

__________

(1) قصص الأنبياء للراوندي، ص 77.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/178)

أراجيف نقلها مفسرونا ومؤرخونا من اليهود وتلاميذ اليهود، فقد ذكروا أنه (نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ ـ وهو إدريس ـ بن يرد بن مهلاييل بن قينن بن أنوش بن شيث بن آدم أبى البشر عليه السلام.. وكان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة، فيما ذكره ابن جرير وغيره.. وعلى تاريخ أهل الكتاب المتقدم يكون بين مولد نوح وموت آدم مائة وست وأربعون سنة، وكان بينهما عشرة قرون كما قال الحافظ أبو حاتم ابن حبان في صحيحه)(1)

قال آخر: وقد أقر ابن كثير أن كل ذلك أو أكثره مروي عن أهل الكتاب، وهو يقصد بذلك اليهود طبعا، فقد ساق حديثا يرفعونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو (مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة ـ يعني إلا خمسين عاما ـ وغرس مائة سنة الشجر، فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها ثم جعلها سفينة، ويمرون عليه ويسخرون منه، ويقولون: تعمل سفينة في البر كيف تجري؟ قال: سوف تعلمون.. فلما فرغ ونبع الماء وصار السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبى)(2)، ثم علق عليه بقوله: (وهذا حديث غريب، وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وغير واحد، شبيه لهذه القصة، وأحرى بهذا الحديث أن يكون موقوفا متلقى عن مثل كعب الأحبار)(3)

قال آخر: ومثل ذلك ما ورد من التفاصيل المرتبطة بأولاده والأنساب المتعلقة بها، وكلها مما لا دليل عليه، وللأسف فإن علم الأنساب قائم عليها، مع عدم وجود ما يدل

__________

(1) قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 74.

(2) رواه بن جرير وابن أبى حاتم في تقسيريهما من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن قائد مولى عبد الله ابن أبي رافع، أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة أم المؤمنين، أخبرته. وساق الحديث، قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 105.

(3) قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 105.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/179)

عليها من المصادر المعصومة الموثوقة.

قال آخر: ومن الأمثلة عنها ما عبر عنه ابن كثير بقوله: (وأما امرأة نوح وهي أم أولاده كلهم: وهم حام وسام، ويافث، ويام، ويسميه أهل الكتاب كنعان وهو الذي قد غرق، وعابر، فقد ماتت قبل الطوفان، وقيل إنها غرقت مع من غرق، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها.. وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك، أو أنها أنظرت ليوم القيامة)(1)، وقال: (وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة: فعن ابن عباس: كانوا ثمانين نفسا معهم نساؤهم، وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفسا.. وقيل كانوا عشرة.. وقيل إنما كانوا نوحا وبنيه الثلاثة وكنائنه الأربع بامرأة يام الذى انخزل وانعزل، وسلك عن طريق النجاة فما عدل إذ عدل)(2)

قال آخر: بل إنهم يروون في ذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه قال: (سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم)(3)، ويروون أنه قال: (ولد لنوح: سام وحام ويافث، فولد لسام: العرب وفارس والروم والخير فيهم.. وولد ليافث: يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم.. وولد لحام: القبط والبربر والسودان)(4)

قال آخر: والحديث مخالف لقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]، وذلك في اعتباره جنسا كاملا من أجناس البشرية، لا خير فيه، وهم من يطلق عليهم (ولد يافث)، ويقصد بهم يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة.

قال آخر: لكن مع هذه المخالفة الصريحة إلا أن ابن كثير التفت في تعليقه عليه إلى

__________

(1) قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 100.

(2)، قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 100.

(3) رواه الترمذي، قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 108.

(4) قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 109.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/180)

السند، ولم يلتفت إلى تلك المعاني الخطيرة، فقال: (لا نعلم يروى مرفوعا إلا من هذا الوجه.. تفرد به محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، وقد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه.. ورواه غيره عن يحيى بن سعيد مرسلا ولم يسنده، وإنما جعله من قول سعيد.. قلت: وهذا الذي ذكره أبو عمر، هو المحفوظ عن سعيد قوله، وهكذا روي عن وهب بن منبه مثله والله أعلم)(1)

قال آخر: بل إن ابن كثير ـ ومثله كل من أرخوا للأنبياء عليهم السلام ـ يقعون في طامات عظيمة عندما يصورونهم بصورة لا تليق، بل يصورون أن الأنبياء عليهم السلام ليسوا رحمة للبشرية، وإنما سبب نقمتهم، فقد قال: (وقد ذكر أن حاما واقع امرأته في السفينة، فدعا عليه نوح أن تشوه خلقة نطفته، فولد له ولد أسود وهو كنعان بن حام جد السودان.. وقيل بل رأى أباه نائما وقد بدت عورته فلم يسترها وسترها أخواه، فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته، وأن يكون أولاده عبيدا لإخوته)(2)

قال آخر: وهكذا نجد في هذه المصادر الكثير من الخرافات المبنية على هذه الأسس الهشة، وهي تتقبل بكل سهولة، لأن رواتها ثقاة مفسرون للقرآن الكريم، ورواة للحديث الشريف.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قول قتادة: (عمران الأرض المقسم أربعة وعشرون ألف فرسخ في مثلها، فالسند والهند من ذلك اثنا عشر ألف فرسخ في مثلها، وهم ولد حام بن نوح، والصين من ذلك ثمانية آلاف فرسخ في مثلها، وهم ولد يافث، والروم من ذلك ثلاثة آلاف فرسخ في مثلها، والعرب ألف فرسخ في مثلها، وهم والروم جميعا من ولد سام

__________

(1) قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 109.

(2) قصص الأنبياء (1/ 110)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/181)

بن نوح.. والخراب أكثر)(1)

قال آخر: ولم يكتف سلفنا بنسبة تلك الأوهام والخرافات إلى شيوخهم، بل راحوا يدسون أمثالها إلى أئمة الهدى، ومن الأمثلة على ذلك ما ينسب إلى الإمام العسكري أنه قال: (عاش نوح عليه السلام ألفين وخمسمائة سنة، وكان يوما في السفينة نائما فهبت ريح فكشفت عورته فضحك حام ويافث فزجرهما سام ونهاهما عن الضحك، وكان كلما عطى سام شيئا تكشفه الريح كشفه حام ويافث، فانتبه نوح عليه السلام فرآهم وهم يضحكون، فقال: ماهذا؟ فأخبره سام بما كان، فرفع نوح عليه السلام يده إلى السماء يدعو ويقول: (اللهم غيرماء صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان، اللهم غير ماء صلب يافث) فغير الله ماء صلبيهما، فجميع السودان حيث كانوا من حام، وجميع الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج والصين من يافث حيث كانوا، وجميع البيض سواهم من سام، وقال نوح عليه السلام لحام ويافث: جعل ذريتكما خولا لذرية سام إلى يوم القيامة، لانه بر بي وعققتماني، فلا زالت سمة عقوقكما لي في ذريتكما ظاهرة، وسمة البر بي في ذرية سام ظاهرة ما بقيت الدينا)(2)، وهي منافية تماما للقرآن الكريم، بل معارضة له أشد المعارضة.

قال آخر: ومثلها تلك الروايات التي تصور الشيطان بصورة الناصح، لخلافها الواضح لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ [فاطر: 6]، ومن الأمثلة عنها ما ينسب للإمام الباقر أنه قال: (إن نوحا عليه السلام حين أمر بالغرس كان إبليس إلى جانبه، فلما أراد أن يغرس العنب قال: هذه الشجرة لي، فقال له نوح عليه السلام: كذبت، فقال إبليس: فمالي منها؟ فقال نوح عليه السلام: لك الثلثان، فمن هناك طاب الطلاء على الثلث)(3)

__________

(1) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (1/ 129)

(2) علل الشرائع: 22.

(3) علل الشرائع: 163.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/182)

قال آخر: وقريب من هذه الرواية ـ وهو ما يدل على أصلها الإسرائيلي ـ ما روي عن وهب بن منبه أنه قال: (لما خرج نوح عليه السلام من السفينة غرس قضبانا كانت معه في السفينه من النخل والاعناب وسائر الثمار فأطعمت من ساعتها وكانت معه حبلة العنب وكانت آخر شئ أخرج حبلة العنب فلم يجدها نوح عليه السلام، وكان إبليس قد أخذها فخبأها، فنهض نوح عليه السلام ليدخل السفينة فيلتمسها فقال له الملك الذي معه: اجلس يا نبي الله ستؤتى بها، فجلس نوح عليه السلام فقال له الملك: إن لك فيها شريكا في عصيرها فأحسن مشاركته، قال: نعم له السبع ولي ستة أسباع، قال له الملك: أحسن فأنت محسن، قال نوح عليه السلام: له السدس ولي خمسة أسداس، قال له الملك: أحسن فأنت محسن، قال نوح عليه السلام: له الخمس ولي الاربعة الاخماس، قال له الملك: أحسن فأنت محسن، قال نوح عليه السلام: له الربع ولي ثلاثة أرباع، قال له الملك: أحسن فأنت محسن، قال: فله النصف ولي النصف ولي التصرف، قال له الملك: أحسن فأنت محسن، قال عليه السلام: لي الثلث وله الثلثان فرضي، فما كان فوق الثلث من طبخها فلابليس وهو حظه، وما كان من الثلث فما دونه فهو لنوح عليه السلام وهو حظه وذلك الحلال الطيب ليشرب منه)(1)

قال آخر: وقريب منها ما ينسب للإمام الباقر أنه قال: (لما هبط نوح عليه السلام من السفينة غرس غرسا فكان فيما غرس النخلة ثم رجع إلى أهله فجاء إبليس لعنه الله فقلعها، ثم إن نوحا عليه السلام عاد إلى غرسه فوجده على حاله ووجد النخلة قد قلعت ووجد إبليس عندها فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره أن إبليس لعنه الله قلعها، فقال نوح عليه السلام لابليس لعنه الله: ما دعاك إلى قلعها فوالله ما غرست غرسا أحب إلي منها، ووالله لا

__________

(1) علل الشرائع: 163..

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/183)

أدعها حتى أغرسها، وقال إبليس لعنه الله: وأنا والله لا أدعها حتى أقلعها، فقال له: اجعل لي منها نصيبا، قال: فجعل له منها الثلث، فأبى أن يرضى فجعل له النصف فأبى أن يرضى وأبى نوح عليه السلام أن يزيده، فقال جبريل عليه السلام لنوح: يا رسول الله أحسن فإن منك الاحسان، فعلم نوح عليه السلام أنه قد جعل الله له عليها سلطانا فجعل نوح له الثلثين، فقال أبوجعفر عليه السلام: فإذا أخذت عصيرا فاطبخه حتى يذهبا الثلثان نصيب الشيطان فكل واشرب حينئذ)(1)

قال آخر: وقريب منها ما ينسب للإمام الصادق أنه قال: (إن إبليس نازع نوحا في الكرم فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إن له حقا فأعطه فأعطاه الثلث فلم يرض إبليس، ثم أعطاه النصف فلم يرض، فطرح جبريل نارا فأحرقت الثلثين وبقي الثلث، فقال: ما أحرقت النار فهو نصيبه، وما بقي فهولك يا نوح)(2)

قال آخر: وقريب منها ما ينسب لابن عباس أنه قال: (قال إبليس لنوح عليه السلام: لك عندي يد ساعلمك خصالا، قال نوح: وما يدي عندك؟ قال: دعوتك على قومك حتى أهلكهم الله جميعا، فإياك والكبر، وإياك والحرص، وإياك والحسد، فإن الكبر هوالذي حملني على أن تركت السجود لآدم فأكفرني وجعلني شيطانا رجيما، وإياك والحرص فإن آدم أبيح له الجنة ونهي عن شجرة واحدة فحمله الحرص على أن أكل منها، وإياك والحسد فإن ابن آدم حسد أخاه فقتله، فقال نوح: فأخبرني متى تكون أقدر على ابن آدم؟ قال: عند الغضب)(3)

قال آخر: وقريب منها ما ينسب للإمام الباقر أنه قال: (لما دعا نوح عليه السلام ربه

__________

(1) فروع الكافى 2: 189.

(2) فروع الكافى 2: 189.

(3) بحار الأنوار (11/ 293)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/184)

عز وجل على قومه، أتاه إبليس لعنه الله فقال: يا نوح.. إن لك عندي يدا أريد أن أكافيك عليها.. فقال له نوح عليه السلام: إنه ليبغض إلي أن يكون لك عندي يد فما هي؟.. قال: بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم فلم يبق أحد أغويه، فأنا مستريح حتى ينسق قرن آخر وأغويهم.. فقال له نوح عليه السلام: ما الذي تريد أن تكافيني به؟.. قال: اذكرني في ثلاث مواطن، فإني أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في إحداهن: اذكرني إذا غضبت، واذكرني إذا حكمت بين اثنين، واذكرني إذا كنت مع امرأة خاليا ليس معكما أحد)(1)

الحشوية وهود

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن هود عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن القرآن الكريم اقتصر عند ذكره له على جهوده العظيمة التي بذلها في دعوته لقومه، والأساليب التي استعملها في ذلك إلا أن مفسرينا ومؤرخينا راحوا يغرقون حياته بالتفاصيل التي لا دليل عليها.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في نسب هود عليه السلام، وأنه (هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام.. ويقال إن هودا هو عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.. ويقال هود بن عبد الله بن رباح الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.. وأنه من قبيلة يقال لهم عاد بن عوض بن سام بن نوح)(2)، فكل هذه التفاصيل التي ترد في كتب التفسير والحديث وغيرها، لا دليل يدل عليها، بالإضافة إلى أنها تصرف عن الحقائق القرآنية.

قال آخر: ومثل ذلك ما ورد حول قوم هود عليه السلام، و(أنهم قبائل كثيرة: منهم عاد، وثمود، وجرهم، وطسم، وجديس، وأميم، ومدين، وعملاق، وعبيل، وجاسم،

__________

(1) بحار الأنوار: 11/ 318، والخصال 1/ 65.

(2) قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 120.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/185)

وقحطان، وبنو يقطن، وغيرهم)(1)

قال آخر (2): ومثل ذلك ما ذكروه من الخلاف في أجسامهم، حيث ذكر بعضهم أن طول كل رجل اثنا عشر ذراعا، وذكر آخر أن أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا.. وذكر آخر أن طولهم سبعون ذراعا وذكر آخر أن طولهم ثمانون وذكر آخر أن رأس أحدهم مثل قبة عظيمة وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم.

قال آخر (3): ومثل ذلك ما ذكروه من أن الناس في ذلك الزمان كانوا إذا نزل بهم بلاء أو جهد، فطلبوا إلى الله الفرج منه، كانت طلبتهم إلى الله تعالى عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى، مختلفة أديانهم وكلهم معظم لمكة، عارف بحرمتها ومكانها من الله.. وأهل مكة يومئذ العماليق، وإنما سموا العماليق لأن أباهم عمليق بن لاوذ ابن سام بن نوح، وكان سيد العماليق إذ ذلك بمكة رجل يقال له: معاوية بن بكر، وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري رجل من عاد، فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا، قالوا: جهزوا منكم وفدا إلى مكة فيستسقوا لكم، فبعثوا قيل بن عنز، ولقيم بن هزال بن هزيل، وعثيل بن ضد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عفير، وكان مسلما يكتم إسلامه، وجلهمة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر، ثم بعثوا لقمان بن عاد الاصغر بن صد بن عاد الأكبر، فانطلق كل واحد من هؤلاء القوم ومعه رهط من قومه، حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلا.

قال آخر (4): ثم ذكروا أنهم لما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون

__________

(1) قصص الأنبياء لابن كثير، 1/ 120.

(2) تفسير الثعلبي (4/ 249)

(3) تفسير الثعلبي (12/ 396)

(4) تفسير الثعلبي (12/ 397)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/186)

الخمر، وتغنيهم الجرادتان: قينتان لمعاوية بن بكر، وكان مسيرهم شهرا، ومقامهم شهرا؛ فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتغوثون من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه، وقال: هلك أخوالي وأصهاري! وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي! والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه، فيظنون أنه ضيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا! فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به، لا يدرون من قاله، لعل ذلك أن يحركهم! فقال معاوية بن بكر:

ألا يا قيل ويحك! قم فهينم... لعل الله يصبحنا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا... قد أمسوا ما يبيتون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو... به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير... فقد أمست نساؤهم عيامى

وإن الوحش يأتيهم جهارا... ولا يخشى لعادي سهاما

وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم... نهاركم وليلكم التماما

فقبح وفدكم من وفد قوم... ولا لقوا التحية والسلاما

قال آخر (1): ثم ذكروا أنه لما غنتهم الجرادتان بهذا، قال بعضهم لبعض: ياقوم، إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، فقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم، فقال مرثد بن سعد بن عفير ـ وكان قد آمن بهود عليه السلام ـ سرا من قومه ـ: إنكم لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وأنبتم إلى ربكم سقيتم، فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال جلهمة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر حين سمع قوله،

__________

(1) تفسير الثعلبي (12/ 399)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/187)

وعرف أنه قد اتبع دين هود عليه السلام قال:

أبا سعد فإنك من قبيل... ذوي كرم وأمك من ثمود

فإنا لن نطيعك ما بقينا... ولسنا فاعلين لما تريد

(أبا سعد أتأمرنا لنترك... دين قوم أطارق معيد)

أتأمرنا لنترك دين رفد... ورمل وآل صد والعبود

ونترك دين آباء كرام... ذوي رأي ونتبع دين هود

قال آخر (1): ثم ذكروا أنهم قالوا لمعاوية بن بكر وأبيه، وكان حييا شيخا كبيرا: احبسا عنا مرثد بن سعد، فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا، ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتى أدركهم بها، قبل أن يدعو الله بشيء مما خرجوا له، فلما انتهى قام يدعو الله، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعون، فجعل يقول: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعونك به وفد عاد، وكان قيل بن عنز رأس وفد عاد، وقال وفد عاد: اللهم أعط قيلا ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله، وقد كان تخلف عن وفد عاد حين دعا، لقمان بن عاد، وكان سيد عاد.. حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي، فأعطني سؤلي، وسأل الله طول العمر. فعمر عمر سبعة أنسر.

قال آخر (2): وذكروا أن قيل بن عنز قال: يا إلهنا، إن كان هود صادقا فاسقنا، فإنا قد هلكنا، وقال: اللهم إني لم أجئ لمريض فأداويه ولا لأسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه، فأنشأ الله له سحائب ثلاثا: بيضاء، وحمراء، وسوداء، ثم نادى مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب، فقال قيل: اخترت السحابة السوداء، فإنها

__________

(1) تفسير الثعلبي (12/ 401)

(2) تفسير الثعلبي (12/ 401)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/188)

أكثر السحابات ماء، فناداه مناد اخترت ياقيل رمادا رمددا، لا تبقي من آل عاد أحدا، لا والدا تترك ولا ولدا، إلا جعلتهم همدا، إلا بني اللوذية المهدا.. وبنو اللوذية: رهط بنو لقيم بن هزال بن هزيلة بن بكر، وكانوا سكانا بمكة مع أخوالهم، لم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عاد الآخرة، من كان من نسلهم الذي بقوا من عاد.

قال آخر (1): ثم ذكروا أن الله تعالى ساق السحابة السوداء، التي اختارها قيل بما فيها من النقمة والعذاب إلى عاد، حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له: المغيث؛ فلما رأوها استبشروا بها، وقالوا: ﴿قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: 24] يقول الله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف: 24 ـ 25]، أي: كل شيء مرت به، وكان أول من أبصر ما فيها وعرفت إنها ريح، امرأة من عاد يقال لها: مهدد، فلما تبينت ما فيها صاحت، ثم صعقت، فلما أفاقت قالوا: ما رأيت؟.. قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها؛ فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، أي: دائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك، فاعتزل هود عليه السلام، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، وما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود، وتلتذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالظعن فتحملهم ما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة.

قال آخر (2): ثم ذكروا أن وفد عاد خرج من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر، فنزلوا عليه فبينا هم عنده، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة مسيرة ثلاثة أيام من مصاب عاد، فأخبرهم الخبر، فقالوا: فأين فارقت هودا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر؛ فكأنهم شكوا فيما حدثهم به، فقالت هزيلة بنت بكر: صدق ورب مكة! وذكروا أن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد، وقيل بن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم: قد أعطيتم مناكم، فاختاروا

__________

(1) تفسير الثعلبي (12/ 402)

(2) تفسير الثعلبي (12/ 403)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/189)

لأنفسكم، إلا أنه لا سبيل إلى الخلود، ولابد من الموت، فقال مرثد: اللهم أعطني برا وصدقا، فأعطي ذلك، وقال لقمان: أعطني يارب عمرا، فقيل له: أختر لنفسك، بقاء أبعار ضأن عفر في جبل وعر لا يلقى به القطر، أم سبعة أنسر إذا مضى نسر تحول إلى نسر، فاستحير لقمان عمر الأبعار، فاختار عمر النسور)، فعمر لقمان عمر سبعة أنسر، يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضه، فيأخذ الذكر منها لقوته ويربيه، حتى إذا مات أخذ غيره، فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع، وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة، وكان آخرها لبد، فلما مات لبد مات لقمان معه.. وأما قيل فإنه قال: أختار أن يصيبه ما أصاب قومه، فقيل له: إنه الهلاك، فقال: لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم، فأصابه الذي أصاب عادا من العذاب والهلاك فهلك.

قال آخر: وذكروا أن الله تعالى أوحى إلى الريح العقيم أن يخرج على قوم عاد فتنتقم له منهم، فخرجت بغير كيل على قدر منخر ثور، حتى رجفت الأرض ما بين المشرق إلى المغرب، فقال الخزان: يارب لن نطيقها، ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها فأوحى الله تعالى إليها أن ارجعي فاخرجي على قدر خرت الخاتم، فرجعت فخرجت على قدر خرت خاتم، وهي الحلقة (1).

الحشوية وصالح

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن صالح عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن القرآن الكريم اقتصر عند ذكره له على جهوده العظيمة التي بذلها في دعوته لقومه، والأساليب التي استعملها في ذلك، وذلك حتى يكون أسوة لنا في صبره ورساليته إلا أن مفسرينا ومؤرخينا أغرقونا في التفاصيل الكثيرة التي تنسينا كل

__________

(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور 3/ 179 وابن الجوزي في المنتظم 1/ 173.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/190)

ذلك.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكروا من نسبه، وأنه صالح بن عبيد بن آسف بن ماشج بن عبيد بن حادر بن ثمود (1).

قال آخر: ومثل ذلك ما ذكروه من قصته، مما لم يرد فيه أي دليل، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق والسدي ووهب بن منبه وكعب وغيرهم من اليهود وتلاميذهم (2).

قال آخر (3): فقد ذكروا أن عادا لما هلكت وتقضى أمرها عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض فربلوا فيها وكثروا وعمروا، حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل منهم حي، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا فنحتوها وجابوها وجوفوها، وكانوا في سعة من معائشهم، فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله، فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا، وكان صالح من أوسطهم نسبا، وأفضلهم موضعا، فبعثه الله سبحانه إليهم شابا فدعاهم إلى الله عز وجل حتى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون.

قال آخر (4): وذكروا أنه لما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ، وأكثر لهم التخويف والتحذير، سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لقوله، فقال لهم: أي آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا هذا، وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم، في يوم معلوم من السنة، فتدعو إلهك وندعو آلهتنا، فإن أستجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال لهم صالح: نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك، وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به، ثم قال جندع بن عمرو بن حواس وهو سيد ثمود

__________

(1) ذكره البغوي في معالم التنزيل 3/ 247.

(2) انظر: جامع البيان للطبري 8/ 224، تاريخ الرسل والملوك للطبري 1/ 26، البداية والنهاية لابن كثير 1/ 130، الكامل في التاريخ لابن الأثير 1/ 89.

(3) المراجع السابقة.

(4) المراجع السابقة.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/191)

يومئذ: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة، لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها: الكاثبة، ناقة مخترجة جوفاء وبراء، والمخترجة ما شاكل البخت من الإبل، فإن فعلت ذلك صدقناك وآمنا بك، فأخذ صالح عليهم مواثيقهم لإن فعلت لتصدقني ولتومنن بي، قالوا: نعم.

قال آخر (1): وذكروا أن صالح عليه السلام صلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء، كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله عز وجل عظما، وهم ينظرون ثم نتجت سقبا مثلها في العظم، فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه، فنهاهم عن ذلك ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صمعر، وكانوا من أشراف ثمود.

قال آخر (2): وذكروا أنه كان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد فأراد أن يسلم فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم، فقال رجل من ثمود:

وكانت عصبة من آل عمرو... إلى دين النبي دعوا شهابا

عزيز ثمود كلهم جميعا... فهم بأن يجيب ولو أجابا

لأصبح صالح فينا عزيزا... وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا

ولكن الغواة من آل حجر... تولوا بعد رشدهم ذيابا

قال آخر (3): وذكروا أنه لما خرجت الناقة قال صالح عليه السلام: هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرض ثمود ترعى الشجر، وتشرب

__________

(1) المراجع السابقة.

(2) المراجع السابقة.

(3) المراجع السابقة.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/192)

الماء فكانت ترد الماء غبا، فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر من الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفعه حتى تشرب كل ماء فيها فلا تدع قطرة ماء فيها ثم ترفع رأسها، فتفشج حتى تفجج لهم فيحتلبون ما شاءوا من لبن فيشربون ويدخرون، حتى يملأوا أوانيهم كلها، ثم تصدر من غير الفج الذي منه وردت لا تقدر على أن تصدر من حيث ترد تضيق عنها فلا ترجع منه حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاءوا من الماء ويدخرون ما شاءوا ليوم الناقة، فهم في ذلك في سعة ودعة.

قال آخر (1): وذكروا أن الناقة صارت تؤذيهم بتصرفاتها، وكأنهم يبررون بذلك ما فعله الأشقياء بها، حيث ذكروا أنها كانت تصيف إذا كان الحر على ظهر الوادي، فتهرب منها أغنامهم وبقرهم وإبلهم، فتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه، وذلك أن المواشي كانت تنفر منها إذا رأتها، وتشتو ببطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب، فأضر ذلك بمواشيهم، للبلاء والاختبار، وكانت مراتعها في ما يزعمون الجناب وحسمى كل ذلك ترعى مع واد الحجر، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة، فأجمعوا على عقرها.

قال آخر (2): وكعادتهم في نسبة كل خيانة للمرأة، فقد ذكروا أن امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بنت عمرو بن مجلز تكنى أم غنم، وهي من بني العبيد بن المهل، وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو، وكانت عجوزا مسنة، وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وغنم وبقر، وامرأة أخرى يقال لها: صدوف بنت المحيا بن زهرة، وكانت جميلة غنية ذات مال من إبل وبقر وغنم، وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام، فكانتا تحتالان في عقر الناقة مع كفرهما به لما أضرت به من مواشيهما، وكانت صدوق عند ابن خال

__________

(1) المراجع السابقة.

(2) المراجع السابقة.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/193)

لها يقال له صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف بن هلال، فأسلم وحسن إسلامه، وكانت صدوق قد فوضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح عليه السلام حتى رق المال، فاطلعت على ذلك من إسلامه صدوق، فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه ودعاها إلى الله وإلى الإسلام، فأبت عليه وشنفت له، فأخذت أبناءها وبناتها منه فغيبتهم في بني عبيد بطنها التي هي منه، وكان صنتم زوجها من بني هليل، وكان ابن خالها فقال لها: ردي علي ولدي، فقالت: حتى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني جندع بن عبيد، فقال لها صنتم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد، وذلك أن بني مرداس كانوا مسلمين، فقالت: لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه، فقال بنو مرداس: والله لتعطينه ولده طائعة أو كارهة، فلما رأت ذلك أعطته إياهم.

قال آخر (1): وذكروا أن صدوق وعنيزة احتالتا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل بهم، فدعت صدوق رجلا من ثمود يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل، فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له: مصدع بن مهرج بن المحيا، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن النساء حالا وأكثرهن مالا، فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة قدار بن سالف بن جندع رجلا من أهل قزح، واسم أمه قديرة، وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا، يزعمون أنه كان لزنية من رجل يقال له: هسان، ولم يكن لسالف الذي يدعى إليه، ولكنه قد ولد على فراش سالف، فقالت: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة، وكان قدار عزيزا منيعا في قومه، فانطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهرج فاستغويا غواة ثمود، فاتبعهم سبعة نفر، فكانوا تسعة رهط أحدهم هذيل بن مبلغ خال قدار، وكان عزيزا من أهل حجر، ودعين بن غنم بن ذاغر بن مهرج وداود بن مهرج أخو مصدع، وخمسة لم

__________

(1) المراجع السابقة.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/194)

يذكر لنا أسماؤهم، فاجمعوا على عقر الناقة.

قال آخر (1): وذكروا من التشويهات العظيمة لرسالة صالح عليه السلام أن الله تعالى أوحى إليه: إن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم ذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل، فقال صالح عليه السلام: إنه يولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون هلاككم على يديه، فقالوا: لا يولد لنا ابن في هذا الشهر إلا قتلناه، قال: فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا أبناءهم، ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه، وكان لم يولد له قبل ذلك شيء، وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا، وكان إذا مر بالتسعة فرأوه، قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح عليه السلام، لأنه كان سبب قتلهم أبناءهم، فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، قالوا: نخرج فنري الناس أنا قد خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل، وخرج صالح عليه السلام إلى مسجده أتيناه فقتلنا، ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه، ثم رجعنا فقلنا ﴿مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [النمل: 49] يصدقوننا يعلمون أنا قد خرجنا إلى سفرنا، وكان صالح عليه السلام لا ينام معهم في القرية، وكان له مسجد يقال له مسجد صالح فيه يبيت بالليل، فإذا أصبح أتاهم ووعظهم وذكرهم، وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه، فانطلقوا فلما دخلوا الغار وأرادوا أن يخرجوا من الليل فسقط عليهم الغار فقتلهم، فانطلق رجال ممن قد اطلع على ذلك منهم، فإذا هم رضخ، فرجعوا وجعلوا يصيحون في القرية، أي: عباد الله أما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم، فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة.

قال آخر (2): وذكروا أنه إنما اجتمع التسعة على تبييت صالح بعد عقرهم الناقة، وإنذار صالح إياهم بالعذاب، ذلك أن التسعة الذين عقروا الناقة قالوا: هلم فلنقتل صالحا،

__________

(1) المراجع السابقة.

(2) المراجع السابقة.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/195)

وإن كان صادقا عجلناه، وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته، فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله، فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطؤوا على أصحابهم، أتوا منزل صالح، فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة، فقالوا لصالح عليه السلام: أنت قتلتهم! ثم هموا به، فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح، وقالوا لهم: والله لا يقتلونه أبدا، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون! فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك.

قال آخر (1): وذكروا أنه لما ولد ابن العاشر يعني قدار شب في اليوم شباب غيره في الجمعة، وشب في الشهر شباب غيره في السنة، فلما كبر جلس مع أناس يصيبون من الشراب، فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة، واشتد ذلك عليهم، وقالوا في شأن الناقة وشدتها عليهم، وقالوا ما نصنع نحن باللبن، لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا، فقال ابن العاشر: هل لكم في أن أعقر لكم؟ قالوا: نعم.

قال آخر (2): ونقلوا عن كعب الأحبار أنه قال: كان سبب عقرهم الناقة، أن امرأة يقال لها ملكا كانت قد ملكت ثمود، فلما أقبل الناس على صالح، وصارت الرئاسة إليه حسدته، فقالت لامرأة يقال لها قطام، وكانت معشوقة قدار بن سالف، ولامرأة أخرى يقال لها قيال، كانت معشوقة مصدع بن بردهز، ويقال ابن مهرج، وكان قدار ومصدع يجتمعان معهما كل ليلة، ويشربون الخمر، فقالت لهما ملكا: إن أتاكم الليلة قدار ومصدع فلا تطيعانهما، وقولا لهما: إن الملكة حزينة لأجل الناقة، ولأجل صالح، فنحن لا نطيعكما حتى

__________

(1) المراجع السابقة.

(2) جامع البيان للطبري 12/ 526، وذكره البغوي في معالم التنزيل 3/ 253.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/196)

تعقرا الناقة فإن عقرتماها أطعناكما، فلما أتياهما قالت لهما هذه المقالة، فقالا: نحن نكون من وراء عقرها.. فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما السبعة، فرصدوا الناقة حين صدرت من الماء، وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل صخرة أخرى، فمرت على مصدع فرما بسهم فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت أم غنم بنت عنيزة، وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس فاسفرت لقدار، ثم أمرته فشد على الناقة بالسيف، فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة، تحذر سقبها، ثم طعن في لبتها فنحرها، فخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه.

قال آخر (1): وذكروا أنه لما رأى سقبها ذلك انطلق حتى أتى جبلا منيفا يقال له صنو، وقيل: اسمه قارة، وأتي صالح فقيل له: أدرك الناقة فقد عقرت، فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه، يانبي الله إنما عقرها فلان، فلا ذنب لنا، فقال صالح عليه السلام: انظروا هل تدركون فصيلها، فإن أدركتموها فعسى أن يرفع عنكم العذاب، فخرجوا يطلبونه، فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله تعالى إلى الجبل، فتطاول في السماء حتى ما تناله الطير، وجاء صالح عليه السلام، فلما رآه الفصيل بكي حتى سالت دموعه ثم رغا ثلاثا، وانفجرت الصخرة فدخلها، فقال صالح عليه السلام: (لكل رغاة أجل يوم) ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود: 65].

قال آخر (2): وذكروا أن السقب اتبعه أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة، وفيهم مصدع بن مهرج، وأخوه ذؤاب بن مهرج، فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه، ثم جر برجله فأنزله، فألحقوا لحمه مع لحم أمه، فقال لهم صالح: انتهكتم حرمة الله تعالى، فأبشروا

__________

(1) جامع البيان للطبري 12/ 526، وذكره البغوي في معالم التنزيل 3/ 253.

(2) الطبري في جامع البيان 8/ 228.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/197)

بعذاب الله ونقمته، قالوا وهم يهزأون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ وكان يسمون فيهم الأيام فيوم الأحد أول، والاثنين أهون، والثلاثاء دبار، والأربعاء جبار، والخميس مؤنس، والجمعة العروبة، والسبت شيار، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء، فقال لهم صالح عليه السلام حين قالوا ذلك: تصبحون غداة مؤنس ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة، ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة، كأنما طليت بالخلوق، صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم، فأيقنوا العذاب وعرفوا أن صالحا قد صدقهم، فطلبوه ليقتلوه، وخرج صالح عليه السلام هاربا حتى لجأ إلى بطن من ثمود، يقال لهم: بنو غنم، فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له: نفيل ويكنى أبا هدب وهو مشرك، فغيبه فلم يقدروا عليه.

قال آخر (1): وذكروا أنهم عدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح عليه السلام يقال له ميدع بن هرم: يا نبي الله إنهم ليعذبونا لندلهم عليك أفندلهم؟ قال: نعم، فدلهم عليه ميدع، فأتوا أبا هدب فكلموه في ذلك، فقال: نعم عندي صالح، وليس لكم إليه سبيل، فأعرضوا عنه وتركوه، وشغلهم عنه ما أنزل الله تعالى بهم من عذاب، فجعل بعضهم يخبر بعضا ما يرون في وجوههم، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا قد مضى يوم من الأجل، فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدماء، فصاحوا وبكوا وعرفوا أنه العذاب، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب، فلما أصبحوا اليوم الثالث، إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار، فصاحوا جميعا: ألا قد حضركم العذاب.

__________

(1) الطبري في جامع البيان 8/ 228.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/198)

قال آخر (1): وذكروا أنه لما كان ليلة الأحد خرج صالح عليه السلام من بين أظهرهم، ومن أسلم معه إلى الشام، فنزل رملة فلسطين، فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا، وكان حنوطهم الصبر والمقر، وكانت أكفانهم الأنطاع، ثم ألقوا بأنفسهم بالأرض، فجعلوا يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء، فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء له صوت في الأرض، فقطعت قلوبهم في صدورهم، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك، كما قال الله تعالى: ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [الأعراف: 78] إلا جارية مقعدة، يقال لها: ذريعة بنت سلق، وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام، فأطلق الله تعالى لها رجليها بعدما عاينت العذاب أجمع، فخرجت كأسرع ما رؤي قط، حتى أتت قرح وهي وادي القرى فأخبرتهم بما عاينت من العذاب، وما أصاب ثمود من العذاب، ثم استسقت من الماء، فسقيت فلما شربت ماتت.

الحشوية وإبراهيم

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن صالح عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن القرآن الكريم اقتصر عند ذكره له على جهوده العظيمة التي بذلها في دعوته لقومه، والأساليب التي استعملها في ذلك، وذلك حتى يكون أسوة لنا في صبره ورساليته إلا أن مفسرينا ومؤرخينا أغرقونا في التفاصيل الكثيرة التي تنسينا كل ذلك.

قال آخر: بل إن القرآن الكريم يعتبر إبراهيم عليه السلام نموذجا مثاليا للرجل الأمة، أو الرجل الذي يشكل بمفرده أمة كاملة من القيم، كما قال تعالى في وصفه: ﴿إِنَّ

__________

(1) الطبري في جامع البيان 8/ 228.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/199)

إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120].. فهو أمة بروحانيته العميقة التي أهلته لأن يكون خليلا لله ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: 125].. وهو أمة بقنوته وخشوعه وتوحيده الخالص لله، كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67]، وقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114]، وقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: 75]

قال آخر: وهو أمة بوقوفة تلك المواقف النبيلة في الدعوة إلى الله مع كل من لقيه ابتداء من أقاربه وقومه، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 74]، وانتهاء بالملك المستبد الظالم، الذي ناظره بكل رباطة جأش، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258]

قال آخر: ولذلك، تعرض للتهديد الشديد من أقاربه وقومه، فواجهه بكل قوة قائلا: ﴿أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 80، 81]

قال آخر: ولم يقف قومه عند تهديده، بل راحوا يجمعون الحطب الكثير، وراحوا يرمونه فيه، ولم يكن يبالي بكل الحطب الذي يجمع له، ولا بتلك النيران التي أوقدت من أجله، قال تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 51 ـ 70]، ومع ذلك كله لم يتزحزح قيد أنملة، بل ظل ثابتا.. حتى وهو في النار لم يغب ربه عنه لحظة واحدة..

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/200)

فقد كان مستغرقا فيما يستغرق فيه الأنبياء من توجه للملأ الأعلى.

قال آخر: هذه بعض صورة إبراهيم عليه السلام كما يصورها القرآن الكريم، لكن مصادرنا وشيخنا أغاروا على هذه الصورة الجميلة، فانحرفوا بها انحرافا شديدا.. إذ جعلوه جبانا أمام الموت، ليس لديه ذلك الإيمان العظيم الذي واجه به قومه أو الملك أو النار.. وليس لديه ذلك اليقين العظيم الذي جعله يقدم ابنه قربانا لله..

قال آخر: بل جعلوه ضحية لتلك المخاوف التي تعتري البسطاء عندما يعلمون بقرب الموت منهم.. وقد صوروا في ذلك مشهدا غريبا أدى دور البطولة فيه ملك الموت، ليحاول من خلاله أن يقنع إبراهيم عليه السلام بضرورة الموت.

قال آخر (1): فقد ذكروا أن إبراهيم عليه السلام كثير الطعام يطعم الناس، ويضيفهم، فبينا هو يطعم الناس إذا هو بشيخ كبير يمشي في الحره، فبعث إليه بحمار، فركبه حتى إذا أتاه أطعمه، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه، فيدخلها عينه وأذنه ثم يدخلها فاه، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره، وكان إبراهيم قد سأل ربه عز وجل ألا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت، فقال للشيخ حين رأى من حاله ما رأى: ما بالك يا شيخ تصنع هذا؟ قال: يا إبراهيم، الكبر، قال: ابن كم أنت؟ فزاد على عمر إبراهيم سنتين، فقال إبراهيم: إنما بيني وبينك سنتان، فإذا بلغت ذلك صرت مثلك! قال: نعم، قال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل ذلك، فقام الشيخ فقبض روحه، وكان ملك الموت.. وهكذا تصور الرواية الكيفية التي احتال بها ملك الموت على إبراهيم عليه السلام ليقنعه بلقاء ربه.

قال آخر: ولم يكتف قومنا بهذه الرواية الدالة على حرص إبراهيم عليه السلام على

__________

(1) تاريخ الطبري (1/ 312)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/201)

الحياة، بل رووا رواية أخرى أعظم خطرا، حيث صوروا إبراهيم عليه السلام، وهو يضحي بزوجته في سبيل نجاته.. وهو فعل لا يقدم عليه حتى عوام الناس.. بل حتى ذكور بعض الحيوانات تضحي بنفسها في سبيل نجاة إناثها، والمشكلة في هذه الرواية عند قومنا هو حرمة نقدها أو الحديث عنها لأن راويها أبو هريرة، ومخرجها البخاري ومسلم.

قال آخر: ونص الرواية كما رواها أبو هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لم يكذب ابراهيم عليه السلام غير ثلاث: ثنتين في ذات الله، قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: 89]، وقوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [الأنبياء: 63]، وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة، إذ نزل منزلا، فأتى الجبار رجل فقال: إن في أرضك رجلا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه، فجاء فقال: ما هذه المرأة منك؟ قال: هي أختي، قال: اذهب فأرسل بها إلي، فانطلق إلى سارة، فقال: إن هذا الجبار قد سألني عنك، فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده، فإنك أختي في كتاب الله، فإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، قال: فانطلق بها وقام ابراهيم عليه السلام يصلي قال: فلما دخلت عليه فرآها أهوى إليها وذهب يتناولها، فأخذ أخذا شديدا، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له فأرسل فأهوى إليها، فذهب يتناولها، فاخذ أخذ شديدا، فقال: ادعى الله ولا أضرك، فدعت له فأرسل، ثم فعل ذلك الثالثة، فأخذ، فذكر مثل المرتين فأرسل قال: فدعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان، ولكنك أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر، فأخرجت وأعطيت هاجر، فأقبلت بها، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته، فقال: مهيم! فقالت: كفى الله كيد الفاجر الكافر! وأخدم هاجر)(1)

__________

(1) رواه البخاري 6/ 277 ـ 280، ومسلم رقم (2371)، وأبو داود رقم (2212)، والترمذي رقم (3165)، وأحمد (2/ 403) والنسائي في فضائل الصحابة (268)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/202)

قال آخر: فهذه الرواية تتناقض تماما مع ما ورد في القرآن الكريم من شجاعة إبراهيم عليه السلام وفي كل المواقف.. وهل يمكن لمن هو مثله أن يقبل أن يترك امرأته عند الجبارين من دون أن يدافع عنها؟ ثم كيف تنظر المرأة بعد ذلك لزوجها الذي فرط فيها من أجل نفسه أحوج ما تكون إليه؟ ثم ما الذي جعل إبراهيم عليه السلام يذهب إلى ذلك المكان الذي يعلم أنه ستأخذ منه زوجته قهرا؟

قال آخر: ثم كيف نطبق هذه السنة الإبراهيمية في حياتنا لأن الله تعالى أمرنا بأن نتبع ملته، ونسير سيرته، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: 130]، وقال: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 95]، بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه مكلف باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 123].. فكيف نحيي هذه السنة الإبراهيمية العظيمة كما يتصور قومنا؟

قال آخر: ومثل ذلك ما ورد من الروايات التي تشوه صورته التي رسمها القرآن الكريم، والتي تجعل حياته كلها جدا وكدا في الدعوة إلى الله ابتداءه من أقاربه الأدنين، وانتهاء بالملك إلا أن قومنا جعلوه يتقاعد عن هذه المهام العظيمة التي قضى حياته من أجلها، ركونا إلى الدنيا.

قال آخر: ومن الروايات التي أوردوها في هذا في تفسير قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 55] عن السدي، أن ابراهيم عليه السلام احتاج ـ وقد كان له صديق يعطيه ويأتيه ـ فقالت له ساره: لو أتيت خلتك فأصبت لنا منه طعاما! فركب حمارا له، ثم أتاه، فلما أتاه تغيب منه، واستحيا إبراهيم أن يرجع إلى

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/203)

أهله خائبا، فمر على بطحاء، فملأ منها خرجه، ثم أرسل الحمار إلى أهله، فأقبل الحمار وعليه حنطة جيده، ونام ابراهيم عليه السلام فاستيقظ، وجاء إلى أهله، فوجد سارة قد جعلت له طعاما، فقالت: ألا تأكل؟ فقال: وهل من شيء؟ فقالت: نعم من الحنطة التي جئت بها من عند خليلك، فقال: صدقت، من عند خليلي جئت بها، فزرعها فنبتت له، وزكا زرعه وهلكت زروع الناس، فكان أصل ماله منها، فكان الناس يأتونه فيسألونه فيقول: من قال: لا إله إلا الله فليدخل فليأخذ، فمنهم من قال فاخذ، ومنهم من أبى فرجع، وذلك قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 55] فلما كثر مال إبراهيم ومواشيه احتاج إلى السعة في المسكن والمرعى، وكان مسكنه ما بين قرية مدين ـ فيما قيل ـ والحجاز إلى أرض الشام، وكان ابن أخيه لوط نازلا معه، فقاسم ماله لوطا، فأعطى لوطا شطره فيما قيل، وخيره مسكنا يسكنه ومنزلا ينزله غير المنزل الذي هو به نازل، فاختار لوط ناحية الأردن فصار إليها، وأقام إبراهيم عليه السلام بمكانه، فصار ذلك فيما قيل سببا لآثاره بمكة وإسكانه إياها إسماعيل، وكان ربما دخل أمصار الشام)(1).. وهكذا تصور الرواية إبراهيم عليه السلام منشغلا بماله بعد أن كثر لديه، وبعد أن أعطى جزءا منه للوط عليه السلام.

قال آخر: والخطر ليس في هذا التقاعد الذي منحوه لإبراهيم عليه السلام فقط، وإنما في ذلك المنهج الغريب الذي صوروه يدعو إلى الله به.. وهو الدعاء بالقمح والشعير، فقد ذكروا في الرواية أن الناس كانوا يأتونه بعد أن اغتنى، فيسألونه فيقول: من قال: لا إله إلا الله فليدخل فليأخذ، فمنهم من قال فاخذ، ومنهم من أبى فرجع.. وكأن الدعوة إلى الله مختصرة في كلمة تقال، وليس في حياة تغير تغيرا تماما.

__________

(1) تاريخ الطبري (1/ 308)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/204)

قال آخر: ومثل هذا الاختزال أيضا لذلك المنهج الدعوي العظيم الذي مارسه إبراهيم السلام، والذي أمرنا بالاقتداء به فيه، ذلك التفسير العجيب لقوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]، وهي الآية الكريمة التي تشهد لإبراهيم عليه السلام بالوفاء بجميع ما تتطلبه الدعوة إلى الله من جهود، كما شهد له قوله تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 37]، فقد اختصروا الابتلاء بالكلمات التي تعني كل أنواع البلاء التي تعرض لها ابتداء بالنفي، وانتهاء بالحرق، في هذا التفسير الذي يروونه عن أئمتهم.

قال آخر: وقد رووا في ذلك عن ابن عباس، أنه قال: (ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء)(1).. ورووا عن قتادة قال: (ابتلاه بالختان، وحلق العانة، وغسل القبل والدبر، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط) قال أبو هلال: ونسيت خصلة (2).. ورووا عن أبي الخلد قال: (ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء، هن في الإنسان: سنة: الاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، ونتف الإبط، وقلم الأظفار، وغسل البراجم، والختان، وحلق العانة، وغسل الدبر والفرج)(3)

قال آخر: بل ذكروا في الرواية التي يرفعونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اختصار الكلمات في بعض الأذكار، فقد رووا عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 37]، لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى:

__________

(1) تفسير الطبري (2/ 9)، ورواه الحاكم 2: 266.

(2) تفسير الطبري (2/ 9)

(3) تفسير الطبري (2/ 10)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/205)

﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17] حتى يختم الآية)(1).. أو في بعض الركعات، كما رووا عن عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 37]، قال، أتدرون ماوفى؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وفي عمل يومه، أربع ركعات في النهار)(2)

قال آخر: أما الإمامة التي هي مرتبطة عظيمة في الدين، تشمل جميع مناحي الحياة، فقد اختصروها في الإمامة في الحج (3)، وكأن رسالة إبراهيم عليه السلام كلها مختصرة في أن يقص شاربه ويقلم أظافره، وينتف إبطه، ثم يقوم بعد ذلك بإمامة الناس بالحج.

قال آخر: ولم يكتف قومنا بهذا، بل راحوا يغرقون قصة حياته بالتفصيل التي لا دليل عليها، ولا حاجة لها، ومن أمثلتها ما ذكروه من نسبه، حيث ذكروا أنه (ابراهيم بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن أرغوا بن فالغ بن عابر بن شالخ بن قينان بن ارفخشد بن سام بن نوح)(4)

قال آخر (5): وهكذا شغلونا بالتحقيق في الموضع الذي كان منه، والموضع الذي ولد فيه، حيث قال بعضهم: كان مولده بالسوس من أرض الأهواز.. وقال بعضهم: كان مولده ببابل من أرض السواد.. وقال بعضهم: كان بالسواد بناحية كوثى.. وقال بعضهم: كان مولده بالوركاء بناحية الزوابي وحدود كسكر، ثم نقله أبوه إلى الموضع الذي كان به نمرود من ناحية كوثى.. وقال بعضهم: كان مولده بحران، ولكن أباه تارخ نقله إلى أرض بابل.

قال آخر (6): وذكروا أنه لما أراد الله عز وجل أن يبعث ابراهيم عليه السلام حجة على قومه ورسولا إلى عباده، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم عليه السلام من نبي قبله إلا

__________

(1) رواه أحمد في المسند: 15688 ج 3 ص 439.

(2) تفسير الطبري (2/ 16)

(3) تفسير الطبري (2/ 10)

(4) تاريخ الطبري (1/ 233)

(5) تاريخ الطبري (1/ 233)

(6) تاريخ الطبري (1/ 234)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/206)

هود وصالح، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله تعالى ذكره ما أراد، أتى أصحاب النجوم نمرود، فقالوا له: تعلم أنا نجد في علمنا أن غلاما يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم، يفارق دينكم، ويكسر أوثانكم، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته، فحبسها عنده، إلا ما كان من أم إبراهيم امرأة آزر فإنه لم يعلم بحبلها، وذلك أنها كانت جارية لم يعرف الحبل في بطنها، فجعل لا تلد امرأة غلاما في ذلك الشهر من تلك السنة إلا أمر به فذبح، فلما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبا منها، فولدت فيها ابراهيم عليه السلام، وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود، ثم سدت عليه المغارة، ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل، فتجده حيا يمص إبهامه، وذكروا أن الله جعل رزق ابراهيم عليه السلام فيها ما يجيئه من مصه.

قال آخر (1): وذكروا أن آزر سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل، فقالت: ولدت غلاما فمات فصدقها فسكت عنها، وكان اليوم ـ فيما يذكرون ـ على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة، ولم يمكث ابراهيم عليه السلام في المغارة إلا خمسة عشر شهرا، حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر، فأخرجته عشاء، فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي، ما لي إله غيره ثم نظر في السماء ورأى كوكبا، فقال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: 76]، ثم اتبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب ﴿فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ [الأنعام: 76]، ثم اطلع للقمر فرآه بازغا فقال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: 76] ثم أتبعه ببصره حتى غاب ﴿فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ [الأنعام: 77] فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس رأى عظم الشمس ورأى شيئا هو أعظم نورا

__________

(1) تاريخ الطبري (1/ 235)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/207)

من كل شيء رآه قبل ذلك، فقال: ﴿هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 78 ـ 79]

قال آخر (1): وذكروا أن إبراهيم عليه السلام رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته، وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم يبادهم بذلك، فأخبره أنه ابنه، فأخبرته أم إبراهيم عليه السلام أنه ابنه، فأخبرته بما كانت صنعت في شأنه، فسر بذلك آزر وفرح فرحا شديدا، وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدون، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم عليه السلام فيقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه! فلا يشتريها منه أحد، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فصوب فيه رؤوسها، وقال: اشربي ـ استهزاء بقومه، وبما هم عليه من الضلالة ـ حتى فشا عيبه إياها، واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته من غير أن يكون ذلك بلغ نمرود الملك.

قال آخر (2): وذكروا من التشويهات العظيمة للأنبياء عليهم السلام أن سارة قالت لإبراهيم: تسر هاجر، فقد أذنت لك، فتسرى بها، فحملت بإسماعيل، ثم إنه حملت سارة بإسحاق، فلما ولدته وكبر اقتتل هو وإسماعيل، فغضبت سارة على أم إسماعيل، وغارت عليها، فأخرجتها، ثم إنها دعتها فأدخلتها ثم غضبت أيضا فأخرجتها ثم أدخلتها، وحلفت لتقطعن منها بضعة، فقالت: أقطع أنفها، أقطع أذنها، فيشينها ذلك، ثم قالت: لا بل أخفضها، فقطعت ذلك منها، فاتخذت هاجر عند ذلك ذيلا تعفي به عن الدم، فلذلك خفضت النساء، واتخذت ذيولا، ثم قالت: لا تساكني في بلد وأوحى الله إلى إبراهيم أن يأتي مكة، وليس يومئذ بمكة بيت، فذهب بها إلى مكة وابنها فوضعهما، وقالت له هاجر: إلى من

__________

(1) تاريخ الطبري (1/ 235)

(2) تاريخ الطبري (1/ 254)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/208)

تركتنا هاهنا؟ ثم ذكر خبرها، وخبر ابنها.

الحشوية ولوط

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن لوط عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن القرآن الكريم اقتصر عند ذكره له على جهوده العظيمة التي بذلها في دعوته لقومه، والأساليب التي استعملها في ذلك، وذلك حتى يكون أسوة لنا في صبره ورساليته إلا أن مفسرينا ومؤرخينا أغرقونا في التفاصيل الكثيرة التي تنسينا كل ذلك.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكروا من نسبه، وأنه لوط بن هاران ابن تارخ بن أخي إبراهيم عليهما السلام (1).

قال آخر: ومما ذكر اليهود وتلاميذهم من قصته التي أغرقوا بها كتب التفسير والتاريخ والحديث مما لم يدل الدليل الصحيح عليه، أنه كانت لقومه ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ فقال: إن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فأبوا، فلما ألح الناس عليهم قصدوهم فأصابوا غلمانا صباحا فأخبثوا واستحكم فيهم ذلك (2).

قال آخر (3): وذكروا أن أول من عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان، فتمثل لهم إبليس في صورة شاب، ثم دعا إلى دبره فنكح في دبره، ثم عبثوا بذلك العمل، فلما كثر ذلك فيهم عجت الأرض إلى ربها، فسمعت السماء فعجت إلى ربها، فسمع العرش فعج إلى ربه، فأمر الله تعالى السماء أن يحصبهم، وأمر الأرض

__________

(1) ذكره البغوي في معالم التنزيل 3/ 254.

(2) ذكره البغوي في معالم التنزيل 3/ 255.

(3) تفسير الثعلبي (12/ 436)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/209)

أن تخسف بهم.

قال آخر (1): وذكروا أنه لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها ـ وكانت له ابنتان: اسم الكبرى ريثا واسم الصغرى رعزيا ـ فقالوا لها: يا جارية، هل من منزل؟ قالت: نعم، فمكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم، فرقت عليهم من قومها، فأتت أباها، فقالت: يا أبتاه، أرادك فتيان على باب المدينة، ما رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم ـ وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلا ـ فقالوا له: خل عنا فلنضف الرجال، فجاء بهم فلم يعلم أحد إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها فقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثلهم ومثل وجوههم حسنا قط، فجاءه قومه يهرعون اليه.

قال آخر (2): وذكروا أنهم دخلوا على الملائكة فتناولتهم الملائكة، فطمست أعينهم فقالوا: يا لوط جئتنا بقوم سحرة، سحرونا كما أنت حتى نصبح قال: فاحتمل جبريل عليه السلام قريات لوط الأربع، في كل قرية مائة ألف، فرفعهم على جناحه بين السماء والأرض حتى سمع أهل السماء الدنيا أصوات ديكتهم ثم قلبهم، فجعل الله عاليها سافلها.

الحشوية ويعقوب

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن يعقوب عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن القرآن الكريم اقتصر عند ذكره له على حرصه على إسلام أهله وولده، ووصيته لهم، وحرصه على ابنه يوسف، وتفويضه أمره فيما حصل له لله تعالى إلا أن الروايات التي كنا نرويها عنه مستندين لأولئك الكذبة كانت تنحرف بسيرته انحرافا تاما.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك هذه القصة الطويلة التي سأذكرها لكم، ففي كل

__________

(1) تاريخ الطبري (1/ 299)

(2) تاريخ الطبري (1/ 302)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/210)

حرف منها تشويهات عظيمة، لا بنبي الله يعقوب عليه السلام فقط، وإنما بكل القيم النبيلة التي يقوم عليها الكون.

قال آخر (1): فقد ذكروا أن إسحاق عليه السلام تزوج امرأة فحملت بغلامين في بطن، فلما أرادت أن تضعهما اقتتل الغلامان في بطنها، فأراد يعقوب أن يخرج قبل عيص، فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لأعترضن في بطن أمي ولأقتلنها، فتأخر يعقوب، وخرج عيص قبله، وأخذ يعقوب بعقب عيص، فخرج فسمي عيصا لأنه عصى، فخرج قبل يعقوب، وسمي يعقوب لأنه خرج آخذا بعقب عيص، وكان يعقوب أكبرهما في البطن، ولكن عيصا خرج قبله.

قال آخر (2): ثم ذكروا أن الغلامين كبرا، فكان عيص أحبهما إلى أبيه، وكان يعقوب أحبهما إلى أمه، وكان عيص صاحب صيد، فلما كبر إسحاق، وعمي، قال لعيص: يا بني أطعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلا أشعر، وكان يعقوب رجلا أجرد، فخرج عيص يطلب الصيد، وسمعت أمه الكلام فقالت ليعقوب: يا بني، اذهب إلى الغنم فاذبح منها شاة ثم اشوه، والبس جلده وقدمه إلى أبيك، وقل له: أنا ابنك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه كل، قال: من أنت؟ قال: أنا ابنك عيص، قال: فمسه، فقال: المس مس عيص، والريح ريح يعقوب، قالت أمه: هو ابنك عيص فادع له، قال: قدم طعامك، فقدمه فأكل منه، ثم قال: ادن مني، فدنا منه، فدعا له أن يجعل في ذريته الأنبياء والملوك، وقام يعقوب.

قال آخر (3): ثم ذكروا أن عيصا جاء فقال: قد جئتك بالصيد الذي أمرتني به، فقال:

__________

(1) تاريخ الطبري (1/ 319)

(2) تاريخ الطبري (1/ 320)

(3) تاريخ الطبري (1/ 320)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/211)

يا بني قد سبقك أخوك يعقوب، فغضب عيص وقال: والله لأقتلنه، قال: يا بني قد بقيت لك دعوة، فهلم أدع لك بها، فدعا له فقال: تكون ذريتك عددا كثيرا كالتراب ولا يملكهم أحد غيرهم، وقالت أم يعقوب ليعقوب: الحق بخالك فكن عنده خشية أن يقتلك عيص، فانطلق إلى خاله، فكان يسري بالليل ويكمن بالنهار، ولذلك سمي إسرائيل، وهو سري الله.

قال آخر (1): ثم ذكروا أنه أتى خاله، وقال عيص: أما إذ غلبتني على الدعوى فلا تغلبني على القبر، أن أدفن عند آبائي: إبراهيم وإسحاق، فقال: لئن فعلت لتدفنن معه، ثم ان يعقوب عليه السلام هوى ابنة خاله ـ وكانت له ابنتان ـ فخطب إلى أبيهما الصغرى منهما، فأنكحها إياه على أن يرعى غنمه إلى أجل مسمى، فلما انقضى الأجل زف إليه أختها ليا، قال يعقوب: إنما أردت راحيل، فقال له خاله: إنا لا ينكح فينا الصغير قبل الكبير، ولكن ارع لنا أيضا وأنكحها، ففعل فلما انقضى الأجل زوجه راحيل أيضا، فجمع يعقوب بينهما، فذلك قول الله: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 23]، يقول: جمع يعقوب بين ليا وراحيل.

قال آخر (2): ثم ذكروا أن ليا ولدت يهوذا، وروبيل، وشمعون وولدت راحيل يوسف، وبنيامين، وماتت راحيل في نفاسها ببنيامين، من وجع النفاس الذى ماتت فيه، وقطع خال يعقوب ليعقوب قطيعا من الغنم، فأراد الرجوع إلى بيت المقدس، فلما ارتحلوا لم يكن له نفقة، فقالت امرأة يعقوب ليوسف: خذ من أصنام أبي لعلنا نستنفق منه فأخذ، وكان الغلامان في حجر يعقوب، فأحبهما وعطف عليهما ليتمهما من أمهما، وكان أحب الخلق اليه يوسف عليه السلام، فلما قدموا أرض الشام، قال يعقوب لراع من الرعاة: إن

__________

(1) تاريخ الطبري (1/ 320)

(2) تاريخ الطبري (1/ 320)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/212)

أتاكم أحد يسألكم: من أنتم؟ فقولوا: نحن ليعقوب عبد عيص، فلقيهم عيص فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن ليعقوب عبد عيص، فكف عيص عن يعقوب، ونزل يعقوب بالشام، فكان همه يوسف وأخوه، فحسده إخوته لما رأوا من حب أبيه له.

قال آخر: انظروا إلى الغرائب التي تصور بها هذه القصة الأنبياء عليهم السلام، والتشويهات العظيمة التي تحملها لهم وللقيم التي جاءوا بها.

الحشوية ويوسف

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن يوسف عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن القرآن الكريم اعتبر يوسف عليه السلام نموذجا للكثير من القيم الإنسانية الرفيعة، والتي تتناول الكثير من جوانب الحياة، والتي أشار إليها إخبار القرآن الكريم عند حديثه عن إعداده إعدادا خاصا، حيث ذكر اجتباءه من بداية حياته وصباه، وتعليمه من تأويل الأحاديث، وإتمام نعمته عليه.. إلا أن أهمها جميعا، أو أصلها جميعا هو تلك الروح الطاهرة الممتلئة بالعفاف، والتي صورها القرآن الكريم أحسن تصوير.

قال آخر: وأول تصوير لها هو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله ـ بعد ذكر حادثة الإغواء التي تعرض لها ـ ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24]، فقد علل الله تعالى تلك القوة التي استطاع أن يواجه بها الإغراء بكل جوانبه بكونه من المخلَصين، والمخلَصون هم أولئك الطاهرون الذين تخلصوا من رق أنفسهم وشهواتهم، وصاروا أحرارا بعبوديتهم لله وحده، ولذلك لا يستطيع أي شيء في الدنيا ولا في الآخرة أن يأسرهم، بعد أن فنوا في محبوبهم الأول، واستغرقوا في رحلتهم إليه.

قال آخر: لكن قومنا راحوا يرسمون له صورة مختلفة تماما، والمشكلة أنهم جعلوها

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/213)

تفسيرا لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ﴾ [يوسف: 24]، فقد فسرها رواة تلك الآثار المستمدة من اليهود ـ كما فسروا اليد والساق والرجل بالنسبة لله تعالى ـ فجعلوا همها وهمه واحدا.. أي أنه هم بالمخالطة، وأن همه بها كان كهمها به، ولولا أنه رأى برهان ربه لفعل، وقد صانته عن ارتكاب الجريمة ـ بعد الهم بها ـ رؤية البرهان، مع أنه كان يمكنهم أن يفسروها على مقتضى اللغة وعلى مقتضى عصمة الأنبياء بسهولة ويسر.. ولذلك وجوه كثيرة، وبجميعها نطق العرب، وأبسطها أن يقدروها (لولا أن رأى برهان ربه لهم بها)، لأن ذلك يدل على عدم تحقق الهم منه لما رأى برهان ربه.

قال آخر: مع أن ﴿برهان ربه﴾ كما فسره القرآن الكريم هو تلك الحجج اليقينية التي تجلي الحق ولا تدع ريبا لمرتاب، كما قال تعالى: ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [القصص: 32]، وقال: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [النساء: 174]، وقال: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]، وهذا البرهان هنا هو (العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يجر النفس الإنسانية إلى طاعة لا تميل معها إلى معصية، وانقياد لا تصاحبه مخالفة.. ذلك أن إحدى أُسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم وعواقب المخالفة علماً لا يغلب، وانكشافاً لا يقهر، وهذا العلم الذي كان يصاحب يوسف هو الذي صدّه عمّا اقترحت عليه امرأة العزيز)(1)

قال آخر: كان يمكن لشيوخنا أن يرددوا هذا، خاصة وأن الكثير منهم يعرفون اللغة العربية ويتقنونها، لكنهم لم يلتفتوا إلى هذه المعاني القرآنية واللغوية.. فراحوا يفسرون الآية بالروايات، لأن الروايات والقصص هي الوحيدة التي يسمح عقلهم الخرافي بمرورها، ولهذا نجد مفسرا كبيرا كالطبري عند تفسيره للآية الكريمة ينقل الروايات الكثيرة التي

__________

(1) مفاهيم القرآن: 4/ 385 ـ 392.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/214)

نقلت بعد ذلك إلى كتب التاريخ وقصص الأنبياء.. ومنها نقلت إلى كتب العقائد لتنحرف بالصورة القرآنية ليوسف عليه السلام إلى الصورة اليهودية.

قال آخر: ومن تلك الروايات ما وراه عن السدي أنه قال: قالت له: يا يوسف، ما أحسن شعرك!.. قال: هو أول ما ينتثر من جسدي.. قالت: يا يوسف، ما أحسن وجهك.. قال: هو للتراب يأكله، فلم تزل حتى أطمعته، فهمت به وهم بها، فدخلا البيت، وغلقت الأبواب، وذهب ليحل سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب قائما في البيت، قد عض على إصبعه، يقول: (يا يوسف لا تواقعها، فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع إلى الأرض لا يستطع أن يدفع عن نفسه، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه)، فربط سراويله، وذهب ليخرج يشتد، فأدركته، فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه فخرقته، حتى أخرجته منه وسقط، وطرحه يوسف واشتد نحو الباب (1).

قال آخر: ومن تلك الروايات ما رووا عن ابن إسحاق، أنه قال: (أكبت عليه ـ يعني المرأة ـ تطمعه مرة وتخيفه أخرى، وتدعوه إلى لذة من حاجة الرجال في جمالها وحسنها وملكها، وهو شاب مستقبل يجد من شبق الرجال ما يجد الرجل؛ حتى رق لها مما يرى من كلفها به، ولم يتخوف منها حتى هم بها وهمت به، حتى خلوا في بعض بيوته)(2)

قال آخر: ونسبوا إلى ابن عباس أنه سئل عن هم يوسف ما بلغ؟ قال: (حل الهميان، وجلس منها مجلس الخاتن)(3).. وأنه قال: (استلقت له، وجلس بين رجليها)(4)

__________

(1) تفسير الطبري (16/ 33)، ورواه في تاريخه 1: 173.

(2) تفسير الطبري (16/ 34)

(3) تفسير الطبري (16/ 35)

(4) تفسير الطبري (16/ 35)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/215)

قال آخر: وبعد أن روى الطبري أمثال هذا الغثاء عن سلفنا من أمثال مجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم.. طرح هذا الإشكال الخطير، فقال: (فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا، وهو لله نبي؟)(1)، ثم أجاب عليه بقوله: (قيل: إن أهل العلم اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: كان من ابتلي من الأنبياء بخطيئة، فإنما ابتلاه الله بها، ليكون من الله عز وجل على وجل إذا ذكرها، فيجد في طاعته إشفاقا منها، ولا يتكل على سعة عفو الله ورحمته.. وقال آخرون: بل ابتلاهم الله بذلك، ليعرفهم موضع نعمته عليهم، بصفحه عنهم، وتركه عقوبته عليه في الآخرة.. وقال آخرون: بل ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله، وترك الإياس من عفوه عنهم إذا تابوا)(2)

قال آخر: وكعادة الكثير من المحدثين في الجمع بين طرحهم لآرائهم، ووصفها بالسنية، ثم ذكر المخالفين لهم بغية التحذير منها، ورميها بالبدعة، فقد قال الطبري بعدما ذكر إجابات أهل العلم من شيوخنا عن سر تصرفات يوسف عليه السلام: (وأما آخرون ممن خالف أقوال السلف وتأولوا القرآن بآرائهم، فإنهم قالوا في ذلك أقوالا مختلفة، فقال بعضهم: معناه: ولقد همت المرأة بيوسف، وهم بها يوسف أن يضربها أو ينالها بمكروه لهمها به مما أرادته من المكروه، لولا أن يوسف رأى برهان ربه، وكفه ذلك عما هم به من أذاها لا أنها ارتدعت من قبل نفسها، قالوا: والشاهد على صحة ذلك قوله: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾ [يوسف: 24]، قالوا: فالسوء هو ما كان هم به من أذاها، وهو غير الفحشاء.. وقال آخرون منهم: معنى الكلام: ولقد همت به، فتناهى الخبر عنها، ثم ابتدئ الخبر عن يوسف، فقيل: (وهم بها يوسف لولا أن رأى برهان ربه)، كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن يوسف لم يهم بها، وأن الله إنما أخبر أن يوسف لولا رؤيته برهان ربه لهم بها،

__________

(1) تفسير الطبري (16/ 37)

(2) تفسير الطبري (16/ 38)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/216)

ولكنه رأى برهان ربه فلم يهم بها، كما قيل: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83])(1)

قال آخر: ثم رد على هذه الأقوال التنزيهية الجارية على وفق مقتضى اللغة، بل على مقتضى القرآن الكريم، فقال: (قال أبو جعفر: ويفسد هذين القولين: أن العرب لا تقدم جواب لولا قبلها، لا تقول: (لقد قمت لولا زيد)، وهي تريد: (لولا زيد لقد قمت)، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن، الذين عنهم يؤخذ تأويله)(2)، ولسنا ندري من أين له هذا المعنى اللغوي، والذي قال به كبار علماء اللغة، وهم أدرى بها، وأكثر تخصصا منه.

قال آخر: وبعد أن فسر الطبري الهم راح يفسر البرهان، فقال: (أما البرهان الذي رآه يوسف، فترك من أجله مواقعة الخطيئة، فإن أهل العلم مختلفون فيه.. فقال بعضهم: نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة)(3)

قال آخر (4): ومن الروايات التي ساقها للدالة على ذلك ما رواه عن ابن عباس، أنه قال: (نودي: يا يوسف، أتزني، فتكون كالطير وقع ريشه، فذهب يطير فلا ريش له؟)، وروى عنه: (لم يعط على النداء، حتى رأى برهان ربه، قال: تمثال صورة وجه أبيه عاضا على أصبعه، فقال: يا يوسف، تزني، فتكون كالطير ذهب ريشه؟)، وروى عنه: (نودي: يا ابن يعقوب، لا تكن كالطير إذا زنى ذهب ريشه، وبقي لا ريش له! فلم يطع على النداء، ففزع)، وروى عنه: (نودي: يا ابن يعقوب لا تكونن كالطائر له ريش، فإذا زنى ذهب ريشه ـ أو قعد لا ريش له ـ فلم يعط على النداء شيئا، حتى رأى برهان ربه، ففرق ففر)

__________

(1) تفسير الطبري (16/ 38)

(2) تفسير الطبري (16/ 39)

(3) تفسير الطبري (16/ 39)

(4) انظر هذه الروايات في تفسير الطبري (16/ 39)، وما بعدها.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/217)

قال آخر (1): وروى عن قتادة قوله: (نودي يوسف فقيل: أنت مكتوب في الأنبياء، تعمل عمل السفهاء؟)، وروى عن الحسن قوله: (رأى تمثال يعقوب عاضا على إصبعه يقول: يوسف! يوسف!)، وروى عن القاسم بن أبي بزة قوله: (نودي: يا ابن يعقوب، لا تكونن كالطير له ريش، فإذا زنى قعد ليس له ريش، فلم يعرض للنداء وقعد، فرفع رأسه، فرأى وجه يعقوب عاضا على إصبعه، فقام مرعوبا استحياء من الله، فذلك قول الله: (لولا أن رأى برهان ربه)، وجه يعقوب)، وروى عن سعيد بن جبير: (رأى تمثال وجه يعقوب، فخرجت شهوته من أنامله)، وروى عنه، أنه قال: (رأى صورة فيها وجه يعقوب عاضا على أصابعه، فدفع في صدره، فخرجت شهوته من أنامله، فكل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر رجلا إلا يوسف، فإنه نقص بتلك الشهوة، ولم يولد له غير أحد عشر)

قال آخر: وهكذا أصبح إخوة يوسف عليه السلام ـ بحسب الرؤية التي أوحاها لنا شيوخنا من السلف ـ أفضل من أخيهم، وأطهر منه، لأنه هم ولم يهموا، ولهذا أكرموا بالمزيد من الولد على خلافه.

قال آخر: بل إنهم يروون أنه رأي آيات قرآنية، وباللغة العربية، ولسنا ندري كيف رآها، وهل أنزلت عليه قبل أن تنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ومن تلك الروايات ما وراه الطبري عن محمد بن كعب، أنه قال: (رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين هم، فرأى كتابا في حائط البيت: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 32])(2)

قال آخر: وروى عن أبي صخر، قال: سمعت القرظي يقول في البرهان الذي رأى يوسف: ثلاث آيات من كتاب الله: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ [الانفطار: 10]، وقوله: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ﴾ [يونس: 61]، وقوله: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: 33]،

__________

(1) انظر هذه الروايات في تفسير الطبري (16/ 39)، وما بعدها.

(2) تفسير الطبري (16/ 48)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/218)

قال نافع: سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي، وزاد آية رابعة: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء: 32] (1)

قال آخر: وبعد أن أورد الطبري جميع هذه الأقوال وغيرها، قال بورع بارد: (قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن هم يوسف وامرأة العزيز كل واحد منهما بصاحبه، لولا أن رأى يوسف برهان ربه، وذلك آية من الله، زجرته عن ركوب ما هم به يوسف من الفاحشة، وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حجة للعذر قاطعة بأي ذلك كان من أي، والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى، والإيمان به، وترك ما عدا ذلك إلى عالمه)(2)

الحشوية وأيوب

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن أيوب عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن القرآن الكريم اقتصر عند ذكره له على صبره وتضرعه لله تعالى، وكونه من عباد الله الصالحين الذين جعلهم محل هداية وقدوة لعباده، إلا أنا رحنا نغرق حياته بالتفاصيل الكثيرة التي لا دليل عليها، وفوق ذلك التشويهات التي أساءت إليه، وللقيم النبيلة التي يمثلها.

قال آخر (3): وأول ذلك، تلك التفاصيل التي ذكرها شيوخنا، والتي لا دليل عليها، معرفه نسبه وبلده ونحوهما، فقد رووا عن وهب بن منبه، أنه كان رجلا من الروم، وهو أيوب بن موص بن رازح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم.. وذكر غيره أنه أيوب بن موص

__________

(1) تفسير الطبري (16/ 48)

(2) تفسير الطبري (16/ 48)

(3) تاريخ الطبري (1/ 322)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/219)

بن رغويل بن العيص ابن إسحاق بن ابراهيم.. وذكر آخر أنه أيوب بن موص بن رعويل، ويقول: كان أبوه ممن آمن بابراهيم عليه السلام يوم إحرقه نمرود.

قال آخر (1): وهكذا اختلفوا في زوجته أيضا، فبعضهم ذكر أنها ابنة ليعقوب بن إسحاق، يقال: لها ليا، كان يعقوب زوجها منه.. وذكر آخر أنها ابنة للوط بن هاران.. وذكر آخر أنها رحمه بنت افراييم بن يوسف بن يعقوب، وكانت لها البثنية من الشام كلها بما فيها.

قال آخر (2): وهكذا ذكروا أن عمر أيوب عليه السلام كان ثلاثا وتسعين سنة، وأنه أوصى عند موته إلى ابنه حومل، وأن الله عز وجل بعث بعده ابنه بشر بن أيوب نبيا، وسماه ذا الكفل وأمره بالدعاء إلى توحيده، وأنه كان مقيما بالشام عمره حتى مات، وكان عمره خمسا وسبعين سنة، وأن بشرا أوصى إلى ابنه عبدان، وأن الله عز وجل بعث بعده شعيب بن صيفون بن عيفا بن نابت بن مدين ابن إبراهيم إلى أهل مدين.

قال آخر (3): وذكروا أنه قد كان معه ثلاثة نفر، آمنوا به وصدقوه وعرفوا فضله، رجل من أهل اليمن يقال له أليفز، ورجلان من أهل بلاده، يقال: لأحدهما بلدد، والآخر ظافر، وكانوا كهولا.

قال آخر (4): وقد بدأوا قصته بمشهد الثناء عليه من الملائكة عليهم السلام، وقد أطنبوا في ذلك أيما إطناب، فقد ذكروا أن لجبريل عليه السلام بين يدي الله عز وجل مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة والفضيلة، وإن جبريل عليه السلام هو الذي يتلقى الكلام، فإذا ذكر الله تعالى عبدا بخير تلقاه جبريل، ثم تلقاه ميكائيل عليه السلام، وحوله

__________

(1) تاريخ الطبري (1/ 322)

(2) تاريخ الطبري (1/ 325)

(3) تفسير الثعلبي (18/ 177) وانظر: جامع البيان 17/ 65 عرائس المجالس (ص 106)، والبغوي في معالم التنزيل 5/ 338.

(4) ذكر القصة بطولها الطبري في جامع البيان 17/ 57، قال عنها ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 9/ 427: وقد روي عن وهب ابن منبه في خبره قصة طويلة ذكرها ابن جرير وابن أبي حاتم وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين وفيها غرابة تركناها لحال الطول.. وقال عنها كذلك في البداية والنهاية 1/ 222: وقد روي عن وهب بن منبه وغيره من علماء بني إسرائيل في قصة أيوب خبر طويل في كيفية ذهاب ماله وولده وبلائه في جسده، والله أعلم بصحته.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/220)

الملائكة المقربون حافين من حول العرش، فإذا شاع ذلك في الملائكة المقربين صارت الصلوات على ذلك العبد من أهل السماوات، فإذا صلت عليه ملائكة السماوات هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض.

قال آخر (1): وذكروا أن إبليس لعنه الله كان لا يحجب عن شيء من السماوات، وكان يقف فيهن حيثما أراد، من هنالك وصل إلى آدم عليه السلام حين أخرجه من الجنة فلم يزل على ذلك يصعد في السماوات حتى رفع الله تعالى عيسى ابن مريم عليهما السلام، فحجب عن أربع، وكان يصعد في ثلاث، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وآله وسلم حجب من الثلاث الباقية، فهو وجنوده محجوبون من جميع السماوات إلى يوم القيامة،

قال آخر (2): وذكروا أن إبليس سمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب عليه السلام، وذلك حين ذكره الله عز وجل وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد وصعد سريعا حتى وقف من السماء موقفا كان يقفه، فقال: يا إلهي، نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ثم لم تجربه بشدة ولا بلاء، وأنا لك زعيم لئن جربته بالبلاء ليكفرن بك ولينسينك،

قال آخر: وهكذا أصبح إبليس عند شيوخنا هو الذي يشير على الله بنوع البلاء الذي يصلح لعباده، غافلين عما ورد في القرآن الكريم من أن اختبارات الله تعالى لعباده خاضعة لعلمه بهم، وبما يصلحهم، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يقول الله عز وجل: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغني ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي لا يصلح إيمانه إلا بالسقم ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالصحة

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 178)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 179)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/221)

ولو أسقمته لكفر)(1)

قال آخر (2): ثم ذكروا أن الله تعالى قال لإبليس: انطلق فقد سلطتك على ماله، فانقض لعنه الله حتى رجع إلى الأرض ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين وعظماءهم وقال لهم: ماذا عندكم من القوة والمعرفة، فإني قد سلطت على مال أيوب، فهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال، فقال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار وأحرقت كل شيء آتي عليه، فقال له إبليس: فأت الإبل ورعاتها، فانطلق يؤم الإبل، وذلك حين وضعت رؤوسها وثبتت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار تنفخ منها أرواح السموم، لا يدنو منها أحد إلا احترق فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها.

قال آخر (3): ثم ذكروا أنه لما فرغ منها تمثل إبليس على قعود منها براعيها، ثم انطلق يؤم أيوب عليه السلام حتى وجده قائما يصلي فقال: يا أيوب، قال: لبيك، قال: هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترته وعبدته بإبلك ورعاتها؟.. قال أيوب عليه السلام: إنها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه، وقديما ما وطنت مالي ونفسي على الفناء، قال إبليس: فإن ربك أرسل عليها نارا من السماء فأحرقتها، هي ورعاتها كلها، فتركت الناس مبهوتين وقوفا عليها يتعجبون منها، منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور.. ومنهم من قال: لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئا لمنع وليه.. ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه ويفجع به صديقه.

قال آخر (4): ثم ذكروا أن أيوب عليه السلام قال لإبليس: الحمد لله حين أعطاني

__________

(1) أبو نعيم في (حلية الأولياء/ 8: 318) وابن الجوزي في (العلل المتناهية/ 1: 45 رقم 27)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 179)

(3) تفسير الثعلبي (18/ 180)

(4) تفسير الثعلبي (18/ 181)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/222)

وحين نزع مني، عريانا خرجت من بطن أمي، وعريانا أعود في التراب، وعريانا أحشر إلى الله عز وجل، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك الله وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لتقبل روحك مع تلك الأرواح فأجرني فيك وصرت شهيدا، ولكنه علم منك شرا فأخرك وخلصت من البلاء كما تخلص الزوان من القمح الخالص.

قال آخر (1): ثم ذكروا أن إبليس لعنه الله رجع إلى أصحابه خاسئا ذليلا، فقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلبه، قال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت مهجة نفسه، قال له إبليس: فأت الغنم ورعاتها، فانطلق يؤم الغنم ورعاتها، حتى إذا توسطها صاح صوتا تجثمت أمواتا عن آخرها، ومات رعاتها، ثم خرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاة حتى إذا جاء أيوب عليه السلام وهو قائم يصلي فقال له مثل القول الأول، ورد عليه أيوب الرد الأول.

قال آخر (2): ثم ذكروا أن إبليس رجع إلى أصحابه خائبا فقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب، قال له عفريت من عظمائهم: عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفا ينسف كل شيء يأتي عليه حتى لا أبقي شيئا، قال له إبليس: فأت الفدادين والحرث، فانطلق يؤمهم وذلك حين قربوا الفدادين وانشأوا في الحرث والأتن وأولادها رتوع ولم يشعروا حتى هبت ريح عاصف فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن، ثم خرج إبليس لعنه الله متمثلا بقهرمان الحرث حتى جاء أيوب عليه السلام وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الأول، ورد عليه أيوب مثل رده الأول.

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 182)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 183)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/223)

قال آخر (1): ثم ذكروا أن إبليس جعل يصيب ماله مالا مالا حتى مر على آخره، كلما انتهى إليه هلاك مال من ماله حمد الله عز وجل وأحسن الثناء عليه ورضي منه بالقضاء ووطن نفسه للصبر على البلاء حتى لم يبق له مال.

قال آخر (2): ثم ذكروا أن إبليس لما رأى أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء، صعد سريعا حتى وقف الموقف الذي كان يقفه فقال: إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بنفسه وولده فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده، فإنها الفتنة المضلة والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ولا يقوى عليها صبرهم.

قال آخر (3): ثم ذكروا أن الله تعالى قال له: انطلق فقد سلطتك على ولده، فانقض عدو الله حتى جاء بني أيوب عليه السلام وهم في قصرهم فلم يزل يزلزله بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل حتى إذا مثل بهم كل مثلة رفع بهم القصر وقلبه فصاروا منكسين، فانطلق إلى أيوب عليه السلام متمثلا بالمعلم الذي يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، فأخبره بذلك وقال يا أيوب: لو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف قلبوا وكانوا منكسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأشفاههم وأجوافهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك.

قال آخر (4): ثم ذكروا أنه لم يزل يقول هذا ونحوه ويرققه حتى رق أيوب عليه السلام فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فاغتنم إبليس عليه اللعنة ذلك وصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا ثم إنه لم يلبث أيوب عليه السلام أن فاء

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 184)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 184)

(3) تفسير الثعلبي (18/ 185)

(4) تفسير الثعلبي (18/ 186)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/224)

وأبصر واستغفر وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فبدروا إبليس إلى الله تعالى وهو أعلم، فوقف إبليس خازيا ذليلا.

قال آخر (1): ثم ذكروا أن إبليس قال لله: يا إلهي إنما هون على أيوب خطر المال والولد، أن يرى أنك ما متعته بنفسه، فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده؟ فأنا لك زعيم لئن أبتليته في جسده لينسينك وليكفرن بك وليجحدنك نعمتك.

قال آخر (2): ثم ذكروا أن الله تعالى قال له: انطلق فقد سلطتك على جسده ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه، ولا على عقله، وكان الله سبحانه هو أعلم به لم يسلطه عليه إلا رحمة له، ليعظم له الثواب، ويجعله قدوة للصابرين، وعبرة وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم، ليتأسوا به ويقتدوا به في الصبر، ورجاء الثواب، فانقض عدو الله سريعا، فوجد أيوب عليه السلام ساجدا فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل الأرض في موضع وجهه من سجوده فنفخ في منخريه نفخة اشتعل منها جسده، فذهل وخرج به من قرنه إلى قدميه ثآليل مثل أليات الغنم ووقعت فيه حكة لا يملكها فحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها ثم حكها بالفخارة والحجارة الخشنة فلم يزل يحكها حتى نغل لحمه وتقطع وتغير وأنتن.

قال آخر (3): ثم ذكروا أن أهل القرية أخرجوا أيوب عليه السلام فجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشا ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته وهي رحمة (4) بنت أفرانيم بن يوسف بن يعقوب، وكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه.

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 186)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 187)

(3) تفسير الثعلبي (18/ 188)

(4) قال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 9/ 430: وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النجعة، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح عنهم ذلك فهو مما لا يصدق ولا يكذب.. وطبعا فإن قوله: لا يصدق ولا يكذب هي سبب كل الخرافات التي دست في التراث الإسلامي.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/225)

قال آخر (1): ثم ذكروا أنه لما رأى الثلاثة من أصحابه وهم: إلفيز وبلدد وظافر ما ابتلاه الله به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه وهو في بلائه فبكتوه ولاموه، وقالوا له: تب إلى الله سبحانه من الذنب الذي عوقبت به، وحضر معهم فتى حديث السن وكان قد آمن به وصدقه، فقال لهم: إنكم تكلمتم أيها الكهول، وكنتم أحق بالكلام لأسنانكم، ولكن قد تركتم من القول أحسن من الذي قلتم، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم، وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم، ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض في يومكم هذا، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله عز وجل من أمره على أنه سخط شيئا من أمره منذ آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا، ولا على أنه نزع شيئا من الكرامة التي أكرمه بها، ولا أن أيوب غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا.

قال آخر (2): وذكروا من كلام الفتى قوله: فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم، ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله يبتلي النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم ليس بلاؤه لأوليائه بدليل على سخطه عليهم ولا لهوانه لهم، ولكنها كرامة وخيرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة، إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة، لكان لا يجمل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء، ولا يعيره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكنه يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ويحزن لحزنه ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول، وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم.

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 189)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 190)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/226)

قال آخر (1): وذكروا من كلام الفتى قوله: ألم تعلموا أن لله عبادا أسكتتهم خشيته من غير عي ولا بكم، وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله وبآياته، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم، واقشعرت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاما لله وإعزازا وإجلالا، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية، يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأنزاه براء، ومع المقصرين المفرطين وإنهم لأكياس أقوياء لا يستكثرون لله الكثير، ولا يرضون لله بالقليل، ولا يدلون عليه بالأعمال، فهم مروعون مفزعون خاشعون مستكينون.

قال آخر (2): ثم ذكروا أن أيوب عليه السلام قال لهم: إن الله سبحانه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى نبتت في القلب أظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة قبل السن والشيبة ولا بطول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصبا، لم تسقط منزلته عند الحكماء، وهم يرون من الله سبحانه عليه نور الكرامة.

قال آخر (3): ثم ذكروا أن أيوب عليه السلام أقبل على الثلاثة فقال: أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، كيف بي لو قلت لكم: تصدقوا عني بأموالكم، لعل الله أن يخلصني، أو قربوا عني قربانا؛ لعل الله يتقبله ويرضى عني، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم وظننتم أنكم عوفيتم حسانكم، فهنالك بغيتم وتعززتم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقرونني وأنا مسموع كلامي، معروف حقي، منتصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فأنتم كنتم أشد علي من مصيبتي.

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 191)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 192)

(3) تفسير الثعلبي (18/ 192)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/227)

قال آخر (1): ثم ذكروا أن أيوب عليه السلام أعرض عنهم وأقبل على ربه مستغيثا به متضرعا إليه، وفيها من الشكوى ما يتنافى مع الصبر والرضى الذي وصفه الله تعالى به، فقد ذكروا أنه قال: رب، لأي شيء خلقتني، ليتني إذ كرهتني لم تخلقني، يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، أو يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت، والعمل الذي عملت، فصرفت به وجهك الكريم عني، ولو كنت أمتني وألحقتني بآبائي فالموت كان أجمل بي، ألم أكن للغريب دارا، وللمسكين قرارا ولليتيم وليا، وللأرملة قيما، إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمن لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء عرضا وللفتنة نصبا، وقد وقع على بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله، كيف يحمله ضعفي.

قال آخر (2): وذكروا أنه كان من دعاء أيوب عليه السلام قوله: إلهي، تقطعت أصابعي، فإني لأرفع الأكلة من الطعام بيدي جميعا فلا يبلغان فمي إلا على الجهد مني، تساقطت لهواتي ولحم رأسي فما بين أذني من سداد حتى إن إحداهما ترى من الأخرى، وإن دماغي ليسيل من فمي، تساقط شعر عيني فكأنما حرق بالنار وجهي، وحدقتاي هما متدليتان على خدي.. ورم لساني حتى ملأ فمي فما أدخل فيه طعاما إلا غصني، ورمت شفتاي حتى غطت العليا أنفي والسفلى ذقني، تقطعت أمعائي في بطني، فإني لأدخله الطعام فيخرج كما دخل ما أحسه ولا ينفعني، ذهبت قوة رجلي فكأنهما قربتا ماء لا أطيق حملهما، ذهب المال فصرت أسأل بكفي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة فيمنها على ويعيرني، هلك أولادي ولو بقي أحد منهم أعانني على بلائي ونفعني.

قال آخر (3): وذكروا أنه كان من دعاء أيوب عليه السلام قوله: قد ملني أهلي وعقني

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 193)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 194)

(3) تفسير الثعلبي (18/ 195)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/228)

أرحامي، وتنكرت معارفي، ورغب عني صديقي، وقطعتني أصحابي، وجحدت حقوقي، ونسيت صنائعي، أصرخ فلا يصرخونني، وأعتذر فلا يعذرونني، دعوت غلامي فلم يجبني، وتضرعت لأمتي فلم ترحمني، وإن قضاءك هو الذي أذلني وأهانني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في قلبي، وأطلق لساني حتى أتكلم وأحاج عن نفسي بملء فمي ثم كان ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه، لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إلى فرحمني ولا دنا مني ولا أدناني، فأدلي بعذري فأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.

قال آخر (1): وذكروا أنه لما قال ذلك أيوب عليه السلام وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب، ثم نودي منه: يا أيوب، إن الله تعالى يقول: ها أنا ذا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا منك، فقم فأدل بعذرك، وتكلم ببراءتك، وخاصم عن نفسك، واشدد إزارك، وقم مقام جبار إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي، ولا ينبغي أن يخاصمني إلا من يجعل الزمام في فم الأسد، والسخال في فم العنقاء، واللجام في فم التنين، ويكيل مكيالا من الثور، ويزن مثقالا من الريح، ويصر صرة من الشمس، ويرد أمس، لقد منتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوتك، ولو كنت إذ منتك نفسك ذلك، ودعتك إليها تذكرت أي مرام رامت أردت أن تخاصمني بعيبك، أم أردت أن تحاجني بخطابك، أم أردت أن تكابرني بضعفك.

قال آخر (2): وذكروا من خطاب الله تعالى لأيوب عليه السلام قوله له: أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها، هل علمت بأي مقدار قدرتها، أم كنت معي تمد

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 196)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 197)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/229)

بأطرافها، أم تعلم ما بعد زواياها، أم على أي شيء وضعت أكنافها أبطاعتك حمل الماء الأرض، أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء، أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء، لا بعلائق شيلت ولا يحملها دعم من تحتها، هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها، أو تسير نجومها، أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها، أين أنت مني يوم سجرت البحار، وأنبعت الأنهار.. أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها، أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها، أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب، ونصبت شوامخ الجبال هل تدري على أي شيء أرسيتها؟ أم هل لك من ذراع يطيق حملها؟.. أم هل تدري كم من مثقال فيها؛ أم أين الماء الذي أنزلت من السماء، هل تدري أم تلده أو أب يولده، أحكمتك أحصت القطر، وقسمت الأرزاق، أم قدرتك تثير السحاب وتغشيه الماء.

قال آخر (1): وذكروا من خطاب الله تعالى لأيوب عليه السلام قوله له: هل تدري ما أصوات الرعود؟.. أم من أي شيء لهب البرق؟.. وهل رأيت عمق البحر؟.. أم هل تدري ما بعد الهواء؟.. أم هل خزنت أرواح الأموات؟.. أم هل تدري أين خزانة الثلج؟.. وأين خزانة البرد؟.. (أم أين جبال البرد؟)، أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار؟.. وأين خزانة النهار بالليل؟.. وأين طريق النور؟.. وبأي لغة تتكلم الأشجار؟ وأين خزانة الريح؟.. وكيف تحبسه الأغلاق؟.. أم من جعل العقول في أجواف الرجال؟.. ومن شق الأسماع والأبصار؟.. ومن ذلت الملائكة لملكه؟.. وقهر الجبارين بجبروته، وقسم أرزاق الدواب بحكمته؟.. ومن قسم للأسد أرزاقها، وعرف الطير معايشها وعطفها على أفراخها، من أعتق الوحش من الخدمة، وجعل مساكنها البرية لا تستأنس بالأصوات ولا تهاب المسلطين؟.. أم من حكمتك عطفت أمهاتها عليها حتى أخرجت لها الطعام من

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 199)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/230)

بطونها؛ وآثرتها بالعيش على نفوسها، أم من حكمتك يبصر العقاب الصيد البعيد؟.. وأصبح في أماكن القتلى، أين أنت مني يوم خلقت يهموت مكانه في منقطع التراب والوثيان يحملان الجبال والقرى والعمران؟.. آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال ورؤوسهما كأنها كوم الجبال، وعروق أفخاذهما كأنها عقد النحاس، اأنت ملأت جلودهما لحما؛ أم أنت ملأت رؤوسهما دماغا؛ أم هل لك في خلقهما من شرك؟ أم هل لك بالقوة التي عملتهما يدان؟

قال آخر (1): وذكروا من خطاب الله تعالى لأيوب عليه السلام قوله له: أم هل يبلغ من قوتك أن تضع يدك على رؤوسهما، أو تقعد لهما على الطريق فتحبسهما أو تصدهما عن قوتهما، أين أنت مني يوم خلقت التنين؟ رزقه في البحر، ومسكنه في السحاب، عيناه توقدان نارا، ومنخراه يثوران دخانا، أذناه مثل قوس السحاب يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج، جوفه يحترق ونفسه تلتهب، وزبده جمر كأمثال الصخور، وكأن صريف أسنانه أصوات الصواعق، وكأن نظر عينيه لهب البروق، تمر به الجيوش وهو متكئ لا يفزعه شيء، ليس فيه مفصل، الحديد عنده مثل التبن، والنحاس عنده مثل الخيوط، لا يفزع من النشاب ولا يحس وقع الصخور على جسده، ويسير في الهواء كأنه عصفور، ويهلك كل شيء يمر به، هل أنت آخذه بأحبولتك، أو واضع اللجام في شدقيه، هل تحصي عمره، أم هل تعرف أجله أو تفوت رزقه، أم هل تدري ماذا خرب من الأرض، أم ماذا يخرب فيما بقي من عمره، أتطيق غضبه حين يغضب، أم تأمره فيطيعك الله تبارك وتعالى؟

قال آخر (2): ثم ذكروا أن أيوب عليه السلام قال لربه بعد أن سمع هذا العتاب الشديد منه: صغر شأني، وكل لساني وعقلي ورائي، وضعفت قولي وقصرت عن هذا الأمر

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 201)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 202)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/231)

الذي تعرض على، ليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخط ربي، اجتمع علي البلاء، إلهي، قد جعلتني لك مثل العدو، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي، وقد علمت أن كل الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك، وأعظم من هذا ما شئت عملت لا يعجزك شيء، ولا تخفى عليك خافية، ولا تغيب عنك غائبة، من هذا الذي يظن أن يسر عنك سرا، وأنت تعلم ما يخطر على القلوب، وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم، وخفت حين بلوت أمرك أكثر مما كنت أخاف، إنما كنت أسمع بسطوتك سمعا، فأما الآن فهو نظر العين، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكت حين سكت لترحمني، كلمة زلت فلن أعود، قد وضعت يدي على فمي، وعضضت على لساني، وألصقت بالتراب خدي، ودسست فيه وجهي لصغاري، وسكت لما أسكتتني خطيئتي، أعوذ بك اليوم منك، وأستجيرك من جهد البلاء فأجرني، وأستغيث بك من عقابك فأغثني، وأستعين بك فأعني، وأعتصم بك فاعصمني، وأستغفرك فاغفر لي ما قلت، فلن أعود يا سيدي لشيء تكرهه مني.

قال آخر (1): ثم ذكروا أن الله عز وجل قال له: يا أيوب، نفذ فيك علمي، وسبقت رحمتي غضبي، إن أخطأت فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، لتكون لمن خلفك آية، وتكون عبرة لأهل البلاء، وعزاء للصابرين، ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 42] فيه شفاؤك، وقرب عن صحابتك قربانا، واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك.

قال آخر (2): ثم ذكروا أنه ركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء، ثم خرج فجلس فأقبلت امرأته فقامت تلتمسه في

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 204)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 204)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/232)

مضجعه فلم تجده فقامت كالوالهة متلددة، ثم قالت: يا عبد الله، هل لك من علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا، فقال لها: وهل تعرفينه إذا رأيتيه؟ فقالت: نعم، ومالي لا أعرفه، فتبسم فقال: أنا هو فعرفته بمضحكه فاعتنقته.

قال آخر (1): وهكذا اختلفوا في وقت قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ [الأنبياء: 83]، وفي مدة بلائه، حيث رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن أيوب نبي الله عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: والله، لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راحا إلى أيوب، لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب فقال أيوب: ما أدري ما تقولان، غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله عز وجل، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله في غير حق..: وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، وأوحي إلى أيوب في مكانه: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 42] فاستبطأنه فتلقته تنظر ما شأنه، وأقبل عليها وقد أذهب الله تعالى ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: يا عبد الله، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا، قال: إني أنا هو وكان له أندران أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض (2).

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 207)

(2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 8/ 2460 (13698)، وذكره ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 9/ 429 من رواية ابن أبي حاتم وتعقبه بقوله: رفع هذا الحديث غريب جدا.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/233)

قال آخر (1): وهكذا أساء شيوخنا وسلفنا إلى زوجته أيما إساءة، ومن الروايات التي ذكروها عنها أن إبليس صرخ صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر أيوب عليه السلام، فلما اجتمعوا إليه قالوا: ما أحزبك، قال: أعياني هذا العبد الذي سألت ربي أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده، فلم أدع له مالا ولا ولدا، فلم يزدد بذلك إلا صبرا وثناء على الله عز وجل، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل لا يقربه إلا امرأته، فقد افتضحت بربي فاستعنت بكم لتعينوني عليه، فقالوا له: أين مكرك؟.. أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟.. قال: بطل ذلك كله في أيوب، فأشيروا علي، فقالوا: نشير عليك، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال: من قبل امرأته، قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته، فإنه لا يستطيع أن يعصيها، وليس أحد يقدر به غيرها، قال: أصبتم.

قال آخر (2): ثم ذكروا أن الشيطان انطلق حتى أتى امرأته، وهي تأخذ الصدقات، فتمثل لها في صورة رجل، فقال لها: أين بعلك يا أمة الله؟.. قالت: هو ذاك يحك قروحه ويتردد الدود في جسده، فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع، فوسوس إليها فذكرها ما كانت فيه من النعيم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه، وما هو فيه من الضر، وأن ذلك لا ينقطع عنه أبدا، فصرخت، فلما صرخت علم أن قد جزعت، فأتاها بسخلة، فقال: ليذبح هذه إلى أيوب ويبرأ، فجاءت تصرخ: يا أيوب، حتى متى يعذبك ربك، ألا يرحمك، أين المال، أين الماشية، أين الولد، أين الصديق، أين لونك الحسن قد تغير وصار مثل الرماد، أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردد فيه الدود، اذبح هذه السخلة واسترح.

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 210)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 211)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/234)

قال آخر (1): ثم ذكروا أن أيوب عليه السلام قال لها: أتاك عدو الله فنفخ فيك وأجبتيه، ويلك أرأيت ما تبكين عليه مما تذكرين مما كنا فيه من المال والولد والصحة، من أعطانيه؟ قالت: الله قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء قالت: مثذ سبع سنين وأشهر، قال: ويلك والله ما عدلت ولا أنصفت ربك، ألا صبرت في هذا البلاء الذي ابتلانا ربنا به ثمانين سنة، كما كنا في الرخاء ثمانين سنة، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، هيه، أمرتيني أن أذبح لغير الله طعامك وشرابك الذي تأتيني به، على حرام أن أذوق شيئا مما تأتيني به بعد إذ قلت لي هذا، فاغربي عني فلا أراك، فطردها فذهبت.

قال آخر (2): ثم ذكروا أنه لما نظر أيوب عليه السلام إلى امرأته قد طردها وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجدا وقال: رب ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ [الأنبياء: 83]، ثم رد ذلك إلى ربه فقال: ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأعراف: 151] فقال الرب الرحيم: له ارفع رأسك يا أيوب، قد استجبت لك ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ [ص: 42]، فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط عنه فأذهب الله كل ألم وكل سقم، وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان وأفضل ما كان، ثم ضرب برجله فنبعت عين ماء أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج منه فقام صحيحا فكسي حلة.

قال آخر (3): ثم ذكروا أنه جعل يلتفت، فلا يرى شيئا مما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله تعالى له حتى أن الماء الذي اغتسل به تطاير على صدره جرادا من ذهب، فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه: يا أيوب، ألم أغنك؟ قال: بلى، ولكنها بركتك، فمن يشبع

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 212)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 213)

(3) تفسير الثعلبي (18/ 214)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/235)

منها، فخرج حتى جلس على مكان مشرف.

قال آخر (1): ثم ذكروا أن امرأته قالت: أرأيتك إن كان طردني إلى من أكله أدعه يموت جوعا ويضيع فتأكله السباع، لأرجعن إليه، فرجعت فلا كناسة ترى ولا تلك الحال التي كانت، وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب عليه السلام، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأل عنه، فأرسل إليها أيوب فدعاها، فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة، لا أدري أضاع أم ما فعل؟.. فقال لها أيوب: وما كان منك؟ فبكت، وقالت: بعلي، فهل رأيته؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت: وهل يخفى على أحد رآه، ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت: أما إنه ما كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا، قال: فإني أنا أيوب الذي أمرتيني أن أذبح لإبليس، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان، ودعوت الله سبحانه وتعالى فرد على ما ترين.

قال آخر (2): وذكر آخرون من أصحابنا أنه لما غلب أيوب عليه السلام إبليس ولم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم، في العظم والجسم والجمال، على مركب ليس من مراكب الناس، له عظم وبهاء وجمال، فقال لها: أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت: نعم، قال: هل تعرفيني؟ قالت: لا، قال: فأنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت، وذلك إنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد فإنه عندي، ثم أراها إياه فيما يرى ببطن الوادي الذي لقيها فيه.

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 214)

(2) تفسير الثعلبي (18/ 216)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/236)

قال آخر (1): وذكر آخرون من أصحابنا أنه إنما قال لها: لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم عليه لعوفي مما به من البلاء.. وقال آخرون أن إبليس قال لرحمة: إن شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك، فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها وما أراها، قال: لقد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم إن الله عافاه ليضربنها مائة جلدة، وقال: عند ذلك مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له ودعائه إياها وإياي إلى الكفر، قالوا: إن الله تعالى رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء وخفف عنها وأراد أن يبر بيمين أيوب فأمره أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها بها ضربة واحدة كما قال الله عز وجل: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ [ص: 44]

الحشوية وموسى

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن موسى عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن موسى عليه السلام يمثل في القرآن الكريم نموذج الرجل المؤمن القوي الأمين الذي أعده الله منذ صباه الباكر لنصرة المستضعفين وتخليصهم من نير المستكبرين، ولذلك كان يملك كل مقومات الشجاعة من شبابه الباكر، مثلما يمتلك كل القيم النبيلة التي جاء الأنبياء عليهم السلام جميعا للدعوة إليها وتمثيلها في الواقع، إلا أن قومنا من الحشوية، وبالأساطير الكثيرة التي فسروا بها القرآن الكريم صرفونا عن ذلك جميعا.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما يوردونه في تفسير قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها﴾، فمع أن معناها واضح، وهو يشير إلى ما ورد في القرآن الكريم من الأذى الكبير الذي تعرض له موسى

__________

(1) تفسير الثعلبي (18/ 216)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/237)

عليه السلام أثناء قيامه بمهماته التي كلف بها.

قال آخر: إلا أن قومنا فسروها بخلاف ذلك تماما، حيث اتفقت تفاسيرنا على إيراد هذه الرواية عند تفسير تلك الآية الكريمة (1).. ونصها هو ما رواه أبو هريرة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن بني إسرائيل كانوا (يغتسلون عراة، وينظر بعضهم إلى سواة بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، قال: فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، قال: فجمع موسى عليه السلام بإثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر حتى نظر إليه، قال: فأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضربا) قال أبو هريرة: والله إن بالحجر ستة أو سبعة، ضرب موسى بالحجر (2).

قال آخر: ومع أن الرواية تخلو من أي حكم تربوي أو توجيهي، بل هي لم تزد سوى أن تسيء لنبي الله موسى عليه السلام بتصويره عريانا يراه بنو إسرائيل أجمعون، وكل ذلك لتنفي عنه تلك الآفة الخلقية التي اتهموه بها، والتي فسر شيوخنا على أساسها قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب: 69]، وكأن بني إسرائيل لم يؤذوا موسى عليه السلام إلا بتلك التهمة التي لا قيمة لها، إلا أن شيوخنا لم يكتفوا بالدفاع عن الرواية دفاع المستميت، بل وانشغلوا بتبديع كل منكر لها.

قال آخر: ومن الخرافات المتعلقة بموسى عليه السلام، والتي شغلنا بها قومنا من الحشوية، بالإضافة إلى هذا، ما وضعوه في كتب التفسير والتاريخ عند تفسير قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا

__________

(1) انظر مثلا: تفسير الخازن لباب التأويل في معاني التنزيل (3/ 437)

(2) البخاري (1/ 107)، مسلم (1/ 267، 4/ 1841)، أحمد (2/ 315)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/238)

فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ [المائدة: 22]، وما يبرر خوف بني إسرائيل وعدم استجابتهم لموسى عليه السلام، لأنهم سيلقون بشرا غير عاديين.

قال آخر: فهم يوردون عند تفسيرها قصة عوج بن عوق، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع، وأنه كان يمسك الحوت، فيشويه في عين الشمس، وأن طوفان نوح لم يصل إلى ركبتيه، وأنه امتنع عن ركوب السفينة مع نوح، وأن موسى كان طوله عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع، ووثب في الهواء عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسرا لأهل النيل سنة.

قال آخر: وقد قدم الطبري لتلك الروايات بقوله: (وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن جواب قوم موسى عليه السلام، إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة: أنهم أبوا عليه إجابته إلى ما أمرهم به من ذلك، واعتلوا عليه في ذلك بأن قالوا، إن في الأرض المقدسة التي تأمرنا بدخولها، قوما جبارين لا طاقة لنا بحربهم، ولا قوة لنا بهم. وسموهم جبارين، لأنهم كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم، فيما ذكر لنا، قد قهروا سائر الأمم غيرهم)(1)

قال آخر: ومما ذكروه حول هؤلاء الجبارين وعظم خلقهم، ما حدث به السدي في قصة ذكرها من أمر موسى عليه السلام وبني إسرائيل، حيث قال: (ثم أمرهم بالسير إلى أريحا، وهي أرض بيت المقدس، فساروا، حتى إذا كانوا قريبا منهم، بعث موسى اثنى عشر نقيبا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبارين، فلقيهم رجل من الجبارين، يقال له عوج، فأخذ الاثنى عشر فجعلهم في حجزته، وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته فقال، انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خل عنهم

__________

(1) تفسير الطبري (10/ 171)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/239)

حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك)(1)

قال آخر: ورووا عن مجاهد في قول الله: ﴿وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ [المائدة: 12]: (من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم، يلقونهم إلقاء، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة)(2)

قال آخر: ومما شوه به قومنا موسى عليه السلام ما رووه تفسير قوله تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81]، فمع أن الآية واضحة في أن الله تعالى هو الذي خسف بقارون، وهو الذي عاقبه بذلك إلا أن شيوخنا يروون بأن موسى عليه السلام هو الذي فعل ذلك، وأنه كان قاسيا في عقابة لقارون، وأن الله عاتبه على تلك القسوة.

قال آخر: فقد رووا عن عن ابن عباس، قال: (لما نزلت الزكاة أتى قارون موسى، فصالحه على كل ألف دينار دينارا، وكل ألف شيء شيئا ـ أو قال: وكل ألف شاة شاة ـ ثم أتى بيته فحسبه فوجده كثيرا، فجمع بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل، إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه، وهو الآن يريد أن يأخذ من أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وأنت سيدنا، فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي، فتجعلوا لها جعلا فتقذفه بنفسها، فدعوها فجعل لها جعلا على أن تقذفه بنفسها، ثم أتى موسى، فقال لموسى: إن بني إسرائيل قد اجتمعوا لتأمرهم ولتنهاهم، فخرج إليهم وهم في براح من الأرض، فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة جلدناه حتى يموت، أو رجمناه حتى يموت [الطبري يشك] فقال

__________

(1) تفسير الطبري (10/ 172)، وهو في تاريخ الطبري 1: 221، 222.

(2) تفسير الطبري (10/ 174)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/240)

له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. قال: ادعوها، فإن قالت، فهو كما قالت؛ فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة، قالت: يا لبيك، قال: أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا وكذبوا، ولكن جعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي، فوثب، فسجد وهو بينهم، فأوحى الله إليه: مر الأرض بما شئت، قال: يا أرض خذيهم! فأخذتهم إلى أقدامهم. ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم. ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى حقيهم، ثم قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم؛ قال: فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، ويتضرعون إليه. قال: يا أرض خذيهم، فانطبقت عليهم، فأوحى الله إليه: يا موسى، يقول لك عبادي: يا موسى، يا موسى فلا ترحمهم؟ أما لو إياي دعوا، لوجدوني قريبا مجيبا)(1)

قال آخر: ومثل ذلك ما رووه عن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (نزل نبي من الأنبياء (2) تحت شجرة فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثم أمر ببيتها فأحرق بالنار، فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة؟)(3) وفي رواية لمسلم: (فأوحى الله إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح؟)

قال آخر: وهذه رواية خطيرة لا تتوافق أبدا مع رحمة الأنبياء ولطفهم وأخلاقهم العالية.. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك التواضع الذي تواضع به سليمان عليه السلام أمام النملة، وما كان لموسى عليه السلام أن يختلف عن سليمان عليه السلام في ذلك.

قال آخر: وقد ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت

__________

(1) تفسير الطبري (19/ 629)

(2) روى الحكيم الترمذي في النوادر أنه موسى عليه السلام وبذلك جزم الكلاباذي في معاني الأخبار والقرطبي في التفسير، انظر: فتح الباري لابن حجر (6/ 358)

(3) أحمد (2/ 402) والبخاري (4/ 75) ومسلم (7/ 43)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/241)

تعرش، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها، ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال: من أحرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بعذاب النار إلا رب النار (1).

قال آخر: هؤلاء هم الأنبياء عليهم السلام كما يصورهم القرآن الكريم، وكما تصورهم السنة النبوية، لا كما يصورهم شيوخنا، وما كان موسى عليه السلام ليختلف عن إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في ذلك وغيره.

قال آخر: ولم يكتف قومنا من الحشوية برمي موسى عليه السلام بكل هذه الموبقات، بل راحوا يصورون خوفه من الموت إلى الدرجة التي لم يصل إليها حتى عامة الناس وبسطاؤهم.

قال آخر: وقد رووا في ذلك حديثا غريبا نسبوه زورا وبهتانا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو: (أرسل ملك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله إليه عينه، فقال: ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور فله بكل ما غطت يده من شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)(2)

قال آخر: وقد لقي هذا الحديث ـ مع التشويهات العظيمة التي يحملها في حق الأنبياء والملائكة عليهم السلام ـ من أصحابنا المحدثين في القديم والحديث اهتماما كبيرا، حتى أنهم رووا عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه أنهما سئلا عن هذا الحديث في جملة من

__________

(1) أحمد (1/ 396)(3763) وفي (1/ 423)(4018) والبخاري في (الأدب المفرد)(382) وأبو داود (2675 و5268)

(2) أحمد (2/ 269) والبخاري (2/ 113) وفي (4/ 191) ومسلم (7/ 99) والنسائي (4/ 118)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/242)

أحاديث الصفات، فقال أحمد: كل هذا صحيح، وقال إسحاق: (هذا صحيح ولا يدفعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي)(1)

قال آخر: بل إن بعض حفاظنا جعل الإيمان بما في هذا الحديث من عقائد أهل السنة، فمن أنكره خرج عنهم مذؤوما مدحورا، فقال عند ذكر العقيدة التي أمرنا باعتقادها حتى نتميز عن سائر المبتدعة: (ونؤمن بأن ملك الموت أرسل إلى موسى عليه السلام فصكه ففقأ عينه، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ينكره إلا ضال مبتدع أو ضعيف الرأي)(2)

قال آخر: وقد اجتهد أصحابنا في تبرير كل ما ورد في الحديث حرفا حرفا، مما لم يزد موسى عليه السلام إلا تشويها، ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم: (كان مجيء ملك الموت إلى موسى على غير الصورة التي كان يعرفه موسى عليه السلام عليها، وكان موسى غيورا، فرأى في داره رجلا لم يعرفه، فشال يده فلطمه، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يتصور بها، لا الصورة التي خلقه الله عليها..، ولما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، أو الناظر إلى بيته بغير أمره، أنه لا جناح على فاعله، ولا حرج على مرتكبه، للأخبار الجمة الواردة فيه..، كان جائزا اتفاق الشريعة بشريعة موسى، بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحا له، ولا حرج عليه في فعله، فلما رجع ملك الموت إلى ربه، وأخبره بما كان من موسى فيه، أمره ثانيا بأمر آخر، هو أمر اختبار وابتلاء، فلما علم موسى كليم الله أنه ملك الموت، وأنه جاءه بالرسالة من عند الله، طابت نفسه بالموت، ولم يستمهل، وقال: الآن، فلو عرف موسى في المرة الأولى أنه ملك الموت، لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به)(3)

__________

(1) انظر: الشريعة، أبو بكر الآجري (2/ 94) التمهيد (7/ 147، 148)

(2) أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، ص 533.

(3) صحيح ابن حبان (14/ 112)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/243)

قال آخر: بل إن بعض أصحابنا ألف في ذلك كتابا بعنوان [توضيح طرق الرشاد لحسم مادة الإلحاد في حديث صك الرسول المكلم موسى عليه السلام للملك الموكل بقبض أرواح العباد]، وقد حاول أن يبين فيه أن الملاك الذي فقأ موسى عليه السلام هو ملاك الموت، وأن عينه فقئت حقيقة، ولولا أن الله ردها عليه لبقي أعور.. يقول في ذلك: (إن ملك الموت جاء في صورة يمكن فقء البشر لعينها، والمعهود في مجيء الملك للبشر هو مجيئه له على صورة البشر، كما قال تعالى: ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم: 17]، وكما أفادته النصوص القرآنية التي ذكر فيها مجيء الملائكة لإبراهيم وللوط وداود، وكذا نصوص الأحاديث التي ذكر فيها مجيء جبريل ـ عليه السلام ـ لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وبه تبين أن فقأ العين هنا هو على ظاهره، وأنه وقع في الصورة البشرية التي جاء ملك الموت عليها، وهو ممكن غير متعذر إلا في الصورة الملكية الأصلية النورانية البعيدة عن ذلك، إذ لم يعهد مجيء الملائكة للبشر فيها، أما رؤية نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل على صورته الأصلية في السماء مرة، وبين السماء والأرض أخرى، فهي خارجة عن مجيء الملك الذي عليه مدار الحديث هنا، وبمجموع هذا الذي قررناه يكون قد حل استشكال صك موسى لعين الملك، وحصول فقء عين الملك من أثره)(1)

قال آخر: ولم يكتف قومنا من الحشوية بهذا، بل راحوا يذكرون رواية أخرى تصور خوف موسى عليه السلام من الموت، وهي الرواية التي تصور حادثة وفاة هارون عليه السلام، والذي لم يكن يختلف عن موسى عليه السلام في أي صفة من صفات الكمال.

قال آخر: والرواية كما رووها عن عن عبد الله بن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقول: (ثم إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى، أني متوف هارون، فأت به جبل

__________

(1) توضيح طرق الرشاد، ص 196 بتصرف.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/244)

كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هما بشجرة لم ير مثلها، وإذا هما ببيت مبني، وإذا هما فيه بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، فقال: يا موسى إني لأحب أن أنام على هذا السرير، قال له موسى: فنم عليه، قال: إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي، قال له موسى: لا ترهب أنا أكفيك رب هذا البيت فنم، قال: يا موسى بل نم معي، فإن جاء رب البيت غضب علي وعليك جميعا، فلما ناما أخذ هارون الموت، فلما وجد حسه قال: يا موسى خدعتني، فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل، وليس معه هارون قالوا: فان موسى قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له، وكان هارون أكف عنهم وألين لهم من موسى، وكان في موسى بعض الغلظ عليهم، فلما بلغه ذلك قال لهم: ويحكم! كان أخي، أفترونني أقتله! فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه ثم إن موسى بينما هو يمشي ويوشع فتاه إذا أقبلت ريح سوداء، فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة والتزم موسى، وقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبي الله، فاستل موسى من تحت القميص وترك القميص في يد يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص أخذته بنو إسرائيل، وقالوا: قتلت نبي الله! قال: لا والله ما قتلته، ولكنه استل مني، فلم يصدقوه وأرادوا قتله قال: فإذا لم تصدقوني فأخروني ثلاثة أيام، فدعا الله فأتي كل رجل ممن كان يحرسه في المنام، فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى، وأنا قد رفعناه إلينا، فتركوه ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح)(1)

قال آخر: فهذه الأسطورة تصور أنبياء الله الكرام، وهم خائفون وجلون من الموت

__________

(1) تاريخ الطبري (1/ 432)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/245)

إلى الدرجة التي فاقوا فيها أدنى العوام من الناس.

الحشوية وداود

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن داود عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن داود عليه السلام يمثل في القرآن الكريم نموذج النبي الممتلئ بالشكر والعفاف والطهر، فهو منشغل بتسبيحه الجميل لله، والذي تتجاوب معه لرقته وعذوبته وطهره الجبال والطير.. وهو ـ مع الملك الذي آتاه الله، والتسخيرات العظيمة التي سخرت له ـ كان يعمل كسائر الناس بيده في تليين الحديد، ليأكل الحلال الصرف الذي لا شبهة فيه، وليكون مثلا أعلى لأمته التي كلف بقيادتها.

قال آخر: وقد أشار الله تعالى إلى هذه المعاني السامية في شخصية داود عليه السلام، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [سبأ: 10، 11]، وقال: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: 79، 80]، وقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ [النمل: 15، 16]

قال آخر: بل إن الله تعالى يشير إلى أنه جعل داود عليه السلام خليفة.. فهو خليفة بجعل إلهي، لا باختيار بشري.. وهذا يعني أنه تتوفر فيه كل صفات الخليفة النظرية والعملية، ولذلك فإنه لابد أن تتوفر فيه كل القيم النبيلة، لأن الخلافة الإلهية تقتضي ذلك، فالجور والظلم والانحراف.. كل ذلك يحول بين الخليفة وأداء وظيفته التي كلف بها، قال

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/246)

تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26]

قال آخر: وكان الأصل أن يحاكم شيوخنا كل ما ورد عن داود عليه السلام من روايات في ضوء هذه الآيات المحكمات الواضحات.. لكنهم لم يفعلوا، بل راحوا يبحثون عن أي ثغرة من المتشابه يمكنها أن تشوه بها كل تلك المعاني السامية التي أراد القرآن الكريم من خلال عرضها على هذه الأمة أن يكون فيها أمثال داود من الممتلئين بالعدالة والشكر والنبل والعفاف.

قال آخر: وقد وجدوا تلك الثغرة في قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: 21 ـ 25]

قال آخر: فمع أن الآيات الكريمة واضحة في دلالتها من خلال ظاهر ألفاظها، وهي تنسجم تماما مع تلك الشفافية الروحية التي وصفه الله بها.. خاصة وأن الله تعالى قدم لذلك بقوله: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 17 ـ 19]

قال آخر: وهي آيات كريمة تشير إلى تلك الشفافية، وتشير معها إلى ذلك التحليق

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/247)

الروحي الجميل الذي تجاوبت له الكائنات من حوله، والذي لم يمنعه من أداء وظيفته المرتبطة بالرعية والخلافة عليها، ولذلك بمجرد أن تسور الرجلان عليه المحراب، وأخبره أولهما بالظلم الذي لحق به، سارع فانتصر له، مثلما فعل قبل ذلك أخوه موسى عليه السلام حين سارع لنصرة المستضعف.. وهنا عاتبه الله لأنه لم يستمع للثاني من الخصمين.. ولكونه أوابا وصاحب روحانية عالية، فقد تأثر لذلك العتاب تأثرا شديدا، وهوى ساجدا لله بكل رقة وعبودية وخضوع.

قال آخر: هذه هي الدلالة الظاهرة للقصة كما وردت في القرآن الكريم، وهذا هو تفسير القائلين بالعصمة المطلقة لها.. وهو تفسير يتوافق مع القرآن الكريم كما يتوافق مع اللغة العربية.. لكن شيوخنا من الحشوية لم يلتفتوا إلى هذه المعاني القرآنية واللغوية.. فراحوا يفسرون الآيات الكريمة بالروايات والقصص.. فالعقل الخرافي لا يفسر الأشياء إلا بالأساطير والقصص والحكايات.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الطبري في تفسيره لتلك الآيات الكريمة، والتي قدم لها بخلاصة رأيه فيها ورأي السلف، فقال: (القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص: 23]، وهذا مثل ضربه الخصم المتسوّرون على داود محرابه له، وذلك أن داود كانت له فيما قيل: تسع وتسعون امرأة، وكانت للرجل الذي أغزاه حتى قُتل امرأة واحدة؛ فلما قتل نكح فيما ذكر داود امرأته، فقال له أحدهما: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي﴾ [ص: 23] يقول: أخي على ديني)(1)

قال آخر: ومن العجب أن شيوخنا الذين ينكرون القول بالمجاز والكناية وغيرها في حق الله تعالى حتى لو أدى ذلك للتجسيم، نراهم هنا يفسرون [النعجة] بالمرأة من باب

__________

(1) تفسير الطبري (21/ 177)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/248)

الكناية، يقول الطبري: (وإنما كنى بالنعجة ها هنا عن المرأة، والعرب تفعل ذلك، ومنه قول الأعشى:

قد كنت رائدها وشاة محاذر... حذرا يقل بعينه إغفالها

يعني بالشاة: امرأة رجل يحذر الناس عليها، وإنما يعني: لقد ظلمت بسؤال امرأتك الواحدة إلى التسع والتسعين من نسائه)(1)

قال آخر: وبعد أن مهد الطبري بكل هذه التمهيدات، فأصبح نص الآية يدل على أن النعجة ليست سوى امرأة، وأصبح لداود عليه السلام تسعة وتسعين امرأة.. بموجب ذلك.. وفوق ذلك لم تكفه تلك النساء جميعا، فراح يضم امرأة أخرى لرجل آخر لا يملك غيرها.

قال آخر (2): بعد أن مهد لهذا، أخذ يذكر الروايات عن السلف التي تفسر ذلك، وهي تذكر أن داود عليه السلام قال: يا رب قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتني مثله، قال الله: إني ابتليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم، قال: نعم، قال له: فاعمل حتى أرى بلاءك؛ فكان ما شاء الله أن يكون، وطال ذلك عليه، فكاد أن ينساه.

قال آخر (3): ثم ذكر أنه بينا هو في محرابه، إذ وقعت عليه حمامة من ذهب فأراد أن يأخذها، فطار إلى كوة المحراب، فذهب ليأخذها، فطارت، فاطلع من الكوة، فرأى امرأة تغتسل، فنزل من المحراب، فأرسل إليها فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها، فأخبرته أن زوجها غائب، فكتب إلى أمير تلك السرية أن يؤمره على السرايا ليهلك زوجها، ففعل،

__________

(1) تفسير الطبري (21/ 179)

(2) تفسير الطبري (21/ 181)

(3) تفسير الطبري (21/ 181)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/249)

فكان يصاب أصحابه وينجو، وربما نصروا، وإن الله عز وجل لما رأى الذي وقع فيه داود، أراد أن يستنقذه؛ فبينما داود ذات يوم في محرابه، إذ تسور عليه الخصمان من قبل وجهه.

قال آخر (1): ثم ذكر أنه لما رآهما ـ وهو يقرأ ـ فزع وسكت، وقال: لقد استضعفت في ملكي حتى إن الناس يستورون علي محرابي، قالا له: ﴿لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ [ص: 22] ولم يكن لنا بد من أن نأتيك، فاسمع منا؛ قال أحدهما: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ [ص: 23] أنثى ﴿وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا﴾ [ص: 23] يريد أن يتمم بها مئة، ويتركني ليس لي شيء ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص: 23] قال: إن دعوت ودعا كان أكثر، وإن بطشت وبطش كان أشد مني، فذلك قوله ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص: 23] قال له داود: أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾ [ص: 24].. إلى قوله ﴿وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص: 24] ونسي نفسه، فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك، فتبسم أحدهما إلى الآخر، فرآه داود وظن أنما فتن ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [ص: 24] أربعين ليلة، حتى نبتت الخضرة من دموع عينيه، ثم شدد الله له ملكه.

قال آخر: ولم يكتفوا بهذا، بل نسبوا هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد رووا عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن داود النبي حين نظر إلى المرأة فأهم، قطع على بني إسرائيل، فأوصى صاحب البعث، فقال: إذا حضر العدو، فقرب فلانا بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به، ومن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو يهزم عنه الجيش، فقتل زوج المرأة ونزل الملكان على داود يقصان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه)(2)

قال آخر: ولم يكتفوا بهذه التشويهات، بل راحوا يفسرون قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ

__________

(1) تفسير الطبري (21/ 181)

(2) تفسير الطبري (21/ 187)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/250)

مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 246، 247] بما يتناقض مع ما ذكره الله تعالى تماما.

قال آخر: فقد ذكر الله تعالى أنه اختار لهم ذلك الملك الحكيم القوي الذي يمكنه أن يؤدي هذا الدور بأحسن وجه، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ [البقرة: 247]، لكن بني إسرائيل لم يعجبهم اختيار الله، فاعترضوا عليه، قال تعالى: ﴿قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ [البقرة: 247]

قال آخر: وقد رد الله عليهم بأن الله هو الذي اصطفاه، وفوق ذلك آتاه من مقومات الحاكم ما يستطيع أن يؤدي دوره بأحسن الوجوه، قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 247]

قال آخر: لكن بني إسرائيل ـ بطبعهم الجدلي ـ زاد اعتراضهم، وطلبوا آية من الله تدل على صدق نبيهم، فأعطاهم الله ما طلبوا، قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 248]

قال آخر: ثم ذكر الله تعالى ما مارسه طالوت مع جنوده من أنواع الاختبار حتى يميزهم، فلا يسير معه إلى المؤمن القوي، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ [البقرة: 249]

قال آخر: وفي ذلك إشارة إلى ذكاء طالوت، والذي عرف أنه لا ينتصر على جالوت

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/251)

إلا المؤمنين أصحاب العزائم القوية.. وكان من أصحاب تلك العزائم ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ داود، الذي استطاع أن يقتل جالوت، ويتسبب في هزيمة طالوت وجنوده، قال تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251]

قال آخر: وتنتهي القصة القرآنية بهذا.. لكن شيوخنا من الحشوية راحوا يذكرون من الروايات ما يجعل الحق للإسرائيليين في رفضهم لطالوت، لأنهم جعلوا منه ظالما مستبدا، بل ساعيا لقتل داود عليه السلام.. وبذلك فإن من يقرأ القصة القرآنية، ويفسرها بالقصة الإسرائيلية لاشك أنه سيميل إلى موقف اليهود في بغضهم لطالوت.. وكيف لا يبغضونه، وهم يرون أنه يريد أن يقتل نبيا من الأنبياء الكرام؟

قال آخر (1): ومن الأمثلة على ما ذكره مفسرونا من السلف ـ بألفاظ متشابهة ومعان متفقة ـ أنه عبر النهر مع طالوت، وفيمن عبر إيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود أصغرهم، فأتاه ذات يوم، فقال: يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته فقال: أبشر يا بني؛ فإن الله عز وجل جعل رزقك في قذافتك، ثم أتاه مرة أخرى، فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال، فوجدت أسدا رابضا، فركبته، وأخذت بأذنه فلم يهجني!؟ فقال: أبشر يا بني؛ فإن هذا خير يريده الله بك، ثم أتاه يوما آخر، وقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال، فأسبح فما يبقى جبل إلا سبح معي، فقال: أبشر يا بني؛ فإن هذا خير أعطاكه الله عز وجل، فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز إلي، أو أبرز إلي من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم، فشق ذلك على طالوت، فنادى في عسكره: من قتل جالوت زوجته بنتي،

__________

(1) تفسير الثعلبي (7/ 7)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/252)

وناصفته ملكي، فهاب الناس جالوت، فلم يجبه أحد.

قال آخر (1): ثم ذكروا أن طالوت سأل نبيهم عليه السلام أن يدعو، فدعا الله عز وجل في ذلك، فأتي بقرن فيه دهن القدس، وتنور من حديد، وقيل له: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه، فيغلي الدهن، (ثم يدهن به) رأسه، ولا يسيل على وجهه؛ يكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنور فيملؤه ولا يتقلقل فيه، فدعا طالوت بني إسرائيل، فجربهم، فلم يوافقه منهم أحد.. فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم: أن في ولد إيشا من يقتل الله به جالوت، فدعا طالوت إيشا، وقال له: أعرض علي بنيك، فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري، وفيهم رجل بارع عليم، فجعل يعرضهم على القرن، فلا يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع، فيرده عليه، فأوحى الله عز وجل إليه: أنا لا نأخذ الرجال على صورهم؛ ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم، فقال لإيشا: هل بقي لك ولد غيرهم؟ فقال: لا، فقال النبي: رب زعم أن لا ولد له غيرهم، فقال: كذب، فقال النبي: إن ربي كذبك، قال: صدق الله يا نبي الله، إن لي ابنا صغيرا، يقال له: داود استحييت أن يراه الناس؛ لقصر قامته، وحقارته، فخلفته في الغنم يرعاها، وهو في شعب كذا.

قال آخر (2): ثم ذكروا أن داود عليه السلام كان رجلا قصيرا، مسقاما، مصفارا، أزرق، أثغر، فدعاه طالوت، أو خرج طالوت إليه، فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزريبة التي كان يريح إليها، فوجده يحمل شاتين شاتين يجيزهما السيل، ولا يخوض بهما الماء، فلما رآه قال: هذا هو لا شك فيه، هذا يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم، فدعاه، ووضع القرن على رأسه، ففاض، فقال له طالوت: هل لك أن تقتل جالوت، وأزوجك ابنتي، وأجري

__________

(1) تفسير الثعلبي (7/ 8)

(2) تفسير الثعلبي (7/ 10)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/253)

خاتمك في ملكي؟ قال: نعم، قال: وهل آنست من نفسك شيئا تتقوى به على قتله؟ قال: نعم أنا أرعى، فيجيء الأسد، أو النمر، أو الذئب فيأخذ شاة، فأقوم له، فأفتح لحييه عنها، وأخرقهما إلى قفاه.

قال آخر (1): ثم ذكروا أنه رده إلى عسكره، فمر داود عليه السلام في الطريق بحجر، فناداه: يا داود احملني؛ فإني حجر هارون الذي قتل به ملك كذا، فحمله في مخلاته، ثم مر بحجر آخر، فناداه: يا داود احملني؛ فإني حجر موسى الذي قتل به ملك كذا، فحمله في مخلاته، ثم مر بحجر آخر، فقال له: احملني؛ فإني حجرك الذي تقتل به جالوت، وقد خبأني الله تعالى لك، فوضعه في مخلاته.. فلما تصافوا للقتال، وبرز جالوت وسأل المبارزة انتدب له داود، فأعطاه طالوت فرسا، ودرعا، وسلاحا، فلبس السلاح وركب الفرس، فسار قريبا، ثم انصرف، فرجع إلى الملك، فقال من حوله: جبن الغلام، فجاء فوقف على الملك، فقال: ما شأنك؟ قال: إن الله تعالى إن لم ينصرني لم يغن عني هذا السلاح شيئا، فدعني أقاتل كما أريد، قال: نعم، فأخذ داود مخلاته، فتقلدها، وأخذ المقلاع، ومضى نحو جالوت، وكان جالوت من أشدهم، وأقواهم، وكان يهزم الجيوش وحده، وكان له بيضة فيها ثلاثمائة من حديد، فلما نظر إلى داود ألقي في قلبه الرعب، فقال له: أنت تبرز إلى!؟ قال: نعم، وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام، قال: فأتيتني بالمقلاع، والحجر كما يؤتى الكلب!؟ قال: نعم، لأنت شر من الكلب، قال: لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض، وطير السماء، فقال داود: أو يقسم الله لحمك، فقال داود: باسم إله إبراهيم، وأخرج حجرا، ثم وضعه في مقلاعه، ثم أخرج الآخر، وقال: باسم إله إسحاق، ووضعه في مقلاعه، ثم أخرج الثالث، وقال: باسم إله يعقوب، ووضعه في مقلاعه، فصارت كلها حجرا واحدا،

__________

(1) تفسير الثعلبي (7/ 12)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/254)

ودور المقلاع، ورماه به، فسخر الله له الريح حتى أصاب الحجر أنف البيضة، وخالط دماغه، وخرج من قفاه، وقتل من ورائه ثلاثين رجلا، وهزم الله تعالى الجيش، وخر جالوت قتيلا، فأخذه يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرح المسلمون فرحا شديدا، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، والناس يذكرون داود.

قال آخر: هذا هو الشطر الأول من القصة، وهو بالإضافة إلى الغرائب والعجائب التي قد نغض الطرف عنها، يجعل هدف داود عليه السلام من جهاده في سبل الله هو الحصول على تلك الهدية التي وعده بها طالوت، كما ذكر في الرواية: (هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي).. وبهذا وحده ينهار كل ذلك البنيان الذي بناه القرآن الكريم من تلك القصة العظيمة التي تهدف إلى بيان شروط نصر الله لعباده من الإخلاص والتجرد والصدق.

قال آخر: لكن الرواية لا تكتفي بذلك الهدم للمعنى القرآني، بل تضيف إليه هدم طالوت نفسه الذي يمثل اصطفاء الله.. وكأن الله خدع بني إسرائيل حين اصطفى لهم شخصا لا يصلح لحكمهم، وكأن بني إسرائيل كانوا أعلم من الله حين رفضوا ذلك الاختيار الإلهي.

قال آخر (1): فقد ذكروا أن داود عليه السلام جاء طالوت، فقال له: أنجزني ما وعدتني، وأعطني امرأتي، فقال له: أتريد ابنة الملك بغير صداق!؟ قال داود: ما شرطت علي صداقا، وليس لي شيء، قال: لا أكلفك إلا ما تطيق، أنت رجل حربي، وفي جبالنا أعداء لنا غلف، فإذا قتلت منهم مائتي رجل، وجئتني بغلفهم؛ زوجتك ابنتي، فأتاهم، فجعل كلما قتل منهم رجلا نظم غلفته في خيط، حتى نظم غلفهم، فجاء بها إلى طالوت، وألقاها

__________

(1) تفسير الثعلبي (7/ 15)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/255)

إليه، وقال: ادفع لي امرأتي، فزوجه ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه.. وهكذا تحول داود عليه السلام حسب شيوخنا وتفاسيرنا من مجاهد في سبيل الله إلى مجاهد في سبيل ابنة طالوت.

قال آخر (1): ولا تكتفي الرواية بهذا، بل تضيف إلى ذلك شناعات أخرى، لا تقل عن السابقة، حيث تذكر أن الناس مالوا إلى داود، وأحبوه، وأكثروا ذكره، فوجد طالوت من ذلك، وحسده، وأراد قتله، فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال له: ذو العينين، فقالت لداود: إنك مقتول الليلة، قال: ومن يقتلني!؟ قالت: أبي، قال: وهل أجرمت جرما؟ قالت: حدثني من لا يكذب، ولا عليك أن تغيب الليلة حتى تنظر مصداق ذلك، فقال: لئن كان أراد ذلك لا أستطيع خروجا، ولكن ائتيني بزق من خمر، فأتته به، فوضعته في مضجعه على السرير، وسجاه، ودخل تحت السرير، فدخل طالوت نصف الليل وأراد أن يغتال داود، فقال لها: أين بعلك؟ قالت: هو نائم على السرير، فضربه ضربة بالسيف، فسال الخمر، فلما وجد ريح الشراب قال: يرحم الله داود ما أكثر شربه للخمر! وخرج.

قال آخر (2): ثم ذكروا أنه لما أصبح علم أنه لم يفعل شيئا، قال: إن رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتى يدرك مني ثأره، فاشتد حجابه، وحراسه، وأغلق دونه أبوابه..

ثم إن داود أتاه ليلة، وقد هدأت العيون، فأعمى الله تعالى الحجبة عنه، وفتح الأبواب، فدخل عليه، وهو نائم على فراشه، فوضع سهما عند رأسه، وسهما عند رجليه، وسهما عن يمينه، وسهما عن شماله، ثم خرج، فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها، فقال: يرحم الله داود هو خير مني، ظفرت به، فقصدت قتله، وظفر بي، فكف عني، ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي، وما أنا بالذي آمنه.

__________

(1) تفسير الثعلبي (7/ 16)

(2) تفسير الثعلبي (7/ 17)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/256)

قال آخر (1): ثم ذكروا أنه لما كانت القابلة أتاه ثانيا، وأعمى الله الحجاب، فدخل عليه وهو نائم، فأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوضأ منه، وكوزه الذي كان يشرب منه، وقطع شعرات من لحيته، وشيئا من هدب ثيابه، ثم خرج وهرب، وتوارى.. فلما أصبح طالوت، ورأى ذلك؛ سلط على داود العيون، وطلبه أشد الطلب، فلم يقدر عليه.

قال آخر (2): ثم ذكروا أن طالوت ركب يوما فوجد داود يمشي في البرية، فقال طالوت: اليوم أقتل داود أنا راكب وهو ماش، وكان داود إذا فزع لم يدرك، فركض طالوت على إثره فاشتد داود، فدخل غارا، فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت، فنسجت عليه بيتا، فلما انتهى طالوت إلى الغار، ونظر إلى بناء العنكبوت، فقال: لو كان دخل هاهنا لخرق بناء العنكبوت، فتركه، ومضى، وانطلق داود، وأتى الجبل مع المتعبدين، فتعبد فيه.

قال آخر (3): ثم ذكروا أن العلماء والعباد طعنوا على طالوت في شأن داود، فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلا قتله، وأغرى بقتل العلماء، فلم يكن يقدر على عالم في بني إسرائيل يطيق قتله إلا قتله، ولم يكن يحارب جيشا إلا هزم، حتى أتي بامرأة تعلم اسم الله الأعظم، فأمر جباره بقتلها، فرحمها الجبار، وقال: لعلنا نحتاج إلى عالم، فتركها.

قال آخر (4): ثم ذكروا أنه وقع في قلب طالوت التوبة، وندم على ما فعل، وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس، وكان كل ليلة يخرج إلى القبور، فيبكي، وينادي: أنشد الله عبدا يعلم أن لي توبة إلا أخبرني بها، فلما أكثر عليهم ناداه مناد من القبور: يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتى تؤذينا أمواتا، فازداد بكاء، وحزنا، فرحمه الجبار، فكلمه فقال: ما لك أيها الملك!؟ فقال: هل تعلم لي في الأرض عالما أسأله هل لي من توبة؟ فقال له الجبار: هل تدري

__________

(1) تفسير الثعلبي (7/ 18)

(2) تفسير الثعلبي (7/ 19)

(3) تفسير الثعلبي (7/ 19)

(4) تفسير الثعلبي (7/ 19)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/257)

ما مثلك؟ إنما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء، فصاح الديك، فتطير منه، فقال: لا تتركوا في القرية ديكا إلا ذبحتموه، فلما أراد أن ينام، قال لأصحابه: إذا صاح الديك، فأيقظونا حتى ندلج، فقالوا له: وهل تركت ديكا يسمع صوته!؟ ولكن هل تركت عالما في الأرض!؟ فازداد حزنا، وبكاء.

قال آخر (1): ثم ذكروا أنه لما رأى الجبار ذلك قال: أرأيت إن دللتك على عالم لعلك أن تقتله، قال: لا، فتوثق عليه الجبار، وأخبره أن المرأة العالمة عنده، قال: انطلق بي إليها؛ أسألها: هل لي من توبة؟ وكان إنما يعلم ذلك الاسم أهل بيت، إذا فنيت رجالهم علمت نساؤهم، فلما بلغ طالوت الباب، قال الجبار: أيها الملك إنها إن رأتك فزعت، فخلفه خلفه، ثم دخل عليهم، فقال لها: ألست أعظم الناس عليك منة أنجيتك من القتل، وآويتك عندي؟ قالت: بلى، قال: فإن لي إليك حاجة، هذا طالوت يسأل: هل له من توبة؟ فغشي عليها من الفرق، فقال لها: إنه لا يريد قتلك، ولكن يسألك؛ هل له من توبة؟ فقالت: لا والله؛ لا أعلم لطالوت توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي.

قال آخر (2): ثم ذكروا أنه انطلق بها إلى قبر أشمويل، فصلت، ودعت، ثم نادت صاحب القبر، فخرج أشمويل من القبر ينفض رأسه من التراب، فلم انظر إليهم ثلاثتهم: المرأة، وطالوت، والجبار، قال: ما لكم أقامت القيامة؟ قالت: لا، ولكن طالوت يسألك: هل له من توبة؟ قال أشمويل: يا طالوت ما فعلت بعدي؟ قال: لم أدع من الشر شيئا إلا فعلته، وجئت أطلب التوبة، قال: كم لك من الولد؟ قال: عشرة رجال، قال: ما أعلم لك توبة، إلا أن تتخلى من ملكك، وتخرج أنت وولدك في سبيل الله، ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك، ثم تقاتل أنت حتى تقتل في آخرهم، ثم رجع أشمويل إلى القبر وسقط ميتا.

__________

(1) تفسير الثعلبي (7/ 21)

(2) تفسير الثعلبي (7/ 22)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/258)

قال آخر (1): ثم ذكروا أن طالوت رجع أحزن ما كان رهبة أن لا يتابعه ولده، وقد بكى حتى سقطت أشفار عينيه، ونحل جسمه، فدخل عليه أولاده فقال لهم: أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تفدونني؟ قالوا: بلى نفديك بما قدرنا عليه، قال: فإنها النار إن لم تفعلوا ما أقول لكم، قالوا: فاعرض علينا، فذكر لهم القصة، قالوا: وإنك لمقتول، قال: نعم، قالوا: فلا خير لنا في الحياة بعدك، طابت أنفسنا بالذي سألت، فتجهز بماله وولده، فقدم ولده، وكانوا عشرة، فقاتلوا حتى قتلوا بين يديه، ثم شد هو بعدهم حتى قتل، فجاء قاتله إلى داود عليه السلام ليبشره، فقال له: قد قتلت عدوك، فقال داود: ما أنت بالذي تحيا بعده، فضرب عنقه.. وأتى بنو إسرائيل بداود، فأعطوه خزائن طالوت، وملكوه على أنفسهم.

قال آخر: هذه قصة طالوت كما ذكرها مفسرونا الكثيرون (2)، ومن غير تعليق عليها، أو رد عليها، وهي وحدها كفيلة بأن تهدم كل القيم التي جاء بها القرآن الكريم، لا تلك الآيات التي تحدثت عن داود عليه السلام وحده.

الحشوية وسليمان

قال أحد الحضور: وعينا هذا.. فحدثونا عن سليمان عليه السلام؟

قال الحشوي: مع أن سليمان عليه السلام يمثل في القرآن الكريم ـ مع والده داود

__________

(1) تفسير الثعلبي (7/ 23)

(2) ممن ذكر هذه القصة: وهب بن منبه، فقد رواها عبد الرزاق في تفسير القرآن 1/ 103 والطبري في جامع البيان 2/ 625 ـ 626 وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 2/ 477 (2526) وعزاه السيوطي في الدر المنثور 1/ 565 لابن المنذر، كلهم من طريق بكار بن عبد الله.. ورواها الطبري في جامع البيان 2/ 627 ـ 628 وفي تاريخ الرسل والملوك 1/ 477 من طريق عبد الصمد بن معقل.. ورواها في جامع البيان 2/ 626 ـ 627 من طريق ابن إسحاق قال: حدثني بعض أهل العلم كلهم عن وهب بن منبه بها.. وذكرها السدي رواها عنه الطبري في جامع البيان 2/ 629 ـ 630، وفي تاريخ الرسل والملوك 1/ 472، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 2/ 478 (2530) وابن زيد رواها عنه الطبري في جامع البيان 2/ 630 ـ 631، وفي تاريخ الرسل والملوك 1/ 476، والربيع رواها عنه الطبري في جامع البيان 2/ 630.. ورواها مجاهد في تفسيره 1/ 113 ومن طريقه رواه الطبري في جامع البيان 2/ 629 وعزاه السيوطي للفريابي، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور للسيوطي 1/ 565.

وأما قصة توبة طالوت وقصته مع المرأة العابدة، فقد رواها الطبري في جامع البيان وفي تاريخ الرسل والملوك 1/ 473 ـ 474 عن السدي.. وقصة النبي الذي ذهبوا إلى قبره هو يوشع، ذكرها ابن حجر في فتح الباري 7/ 292 مختصرة، وعزاها لابن إسحاق في المبتدأ، وأخرجها عن ابن إسحاق ابن المنذر كما في الدر المنثور للسيوطي 1/ 566 ـ 567. وذكر السيوطي في الدر المنثور 1/ 566 ـ 567 أن ابن عساكر روى عن مكحول بمعناها، ووقع عنده أن النبي هو اليسع.. وذكرها مقاتل بن سليمان في تفسيره 1/ 132 والثعلبي في عرائس المجالس (ص 273 ـ 274) [انظر هامش: تفسير الثعلبي (7/ 25)]

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/259)

عليه السلام الذي يذكر معه في كل محل يُذكر فيه ـ القيم العظيمة التي تحكم تلك الأسرة الطيبة الممتلئة بالروحانية، والتي استحقت أن يفتح لها الكثير من الخزائن التي وصدت على غيرها، وما فتح لها ذلك إلا بعبوديتها وخضوعها لله.. إلا أن شيوخنا انحرفوا بقصته كما انحرفوا بقصة أبيه انحرافا تاما.

قال آخر: والمشكلة في ذلك أنهم جعلوا من القرآن الكريم مطية لذلك، حتى لا تُقرأ آياته إلا ومعها تلك المعاني المحرفة التي تفسرها.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك تلك الروايات المفسرة لقوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 54]، فقد فسروا قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: 54] بقولهم (قالت اليهود: انظروا إلى هذا الذي لا والله، ما يشبع من الطعام، لا والله ما له هم إلا النساء، لو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن النساء.. حسدوه على كثرة نسائه، وعابوه بذلك، وقالوا: لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء، فأكذبهم الله تعالى)(1)

قال آخر (2): وقالوا في تفسير قوله تعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء: 54] (يعني بالحكمة: النبوة، ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 54] فأخبرهم بما كان لداود وسليمان، عليهما السلام من النساء يوبخهم بذلك، فأقرت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، ثلثمائة مهرية، وسبعمائة سرية، وعند داود عليه السلام مائة امرأة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألف امرأة عند رجل، ومائة امرأة عند رجل أكثر، أو تسع نسوة؟) وكان يومئذ تسع نسوة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسكتوا (3).

__________

(1) ابن سعد في الطبقات الكبرى 8/ 163.

(2) تفسير الثعلبي (10/ 413)

(3) الطبري في جامع البيان 5/ 140، ونسبه ابن الجوزي زاد المسير 2/ 111 لابن عباس.

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/260)

قال آخر: ومنها الروايات المفسرة لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: 34]، فقد كانت هذه الآية الكريمة فرصة كبيرة لهم، ليعبثوا بمعناها كما يحلو لهم.. مع أنه كان يمكنهم أن يفهموها وفق الأوصاف التي ذكرها القرآن الكريم، أو كان يمكنهم أن يفوضوا علمها لله تعالى.. أو يمروها كما جاءت، كما يذكرون في الصفات، ويجعلون حكايتها تفسيرها، وتفسيرها حكايتها.

قال آخر: وكان في إمكانهم أن يفسروها بما فسرها به بعضهم من أنه كان لسليمان عليه السلام ولد شاب ذكي، وكان يحبّه حبّاً شديداً، فأماته الله على بساطه فجأة بلا مرض، اختباراً من الله تعالى له، وابتلاءً لصبره في إماتة ولده، وألقى جسمه على كرسيّه (1).

قال آخر: لكنهم لم يفعلوا.. لأن هذه القصة ليس فيها أي جوانب إثارة.. بالإضافة إلى أنه ليس فيها أي امرأة واحدة، وهم لا يحبون القصص التي لا تحوي على النساء من الحرائر والجواري.. ولذلك لجأوا إلى اليهود، ليلبوا لهم رغبتهم.. وقد وجدوا عندهم ذلك، فقد حكوا لهم قصصا في تفسير الآية الكريمة تحول من سليمان عليه السلام، ذلك العبد الأواب الخاشع الخاضع المتواضع إلى زير نساء.. لا هم له إلا النساء حتى لو كان على حساب القيم النبيلة التي ما استخلفه الله إلا لتوفرها فيه.

قال آخر: ومن تلك القصص ما حدث به وهب بن منبه (2)، حيث ذكر أن سليمان

__________

(1) تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى: 99.

(2) قال فيه ابن كثير [تفسير القرآن العظيم 4/ 92، 93] بعد أن أورد عدة روايات ومنها عن ابن عباس ـ وهي قول السدي ـ قال: (لكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس إن صح عنه ـ من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء، فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله سبحانه وتعالى منه تشريفا وتكريما لنبيه عليه السلام، وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف، كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب)

وقال الشنيقيطي في [أضواء البيان 4/ 85]: وما يذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ [ص: 34] الآية، من قصة الشيطان الذي أخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان، وطرد سليمان عن ملكه، حتى وجد الخاتم في بطن السمكة التي أعطاها من كان يعمل عنده بأجر مطرودا عن ملكه، إلى آخر القصة، لا يخفى أنه باطل لا أصل له، وأنه لا يليق بمقام النبوة، فهو من الإسرائيليات التي لا يخفى أنها باطلة.

وقال أبو حيان وغيره: (إن هذه المقالة من أوضاع اليهود وزنادقة السوفسطائية ولا ينبغي لعاقل أن يعتقد صحة ما فيها، وكيف يجوز تمثل الشيطان بصورة نبي حتى يلتبس أمره عند الناس ويعتقدوا أن ذلك المتصور هو النبي، ولو أمكن وجود هذا لم يوثق بإرسال نبي، نسأل الله تعالى سلامة ديننا وعقولنا، ومن أقبح ما فيه زعم تسلل الشيطان على نساء نبيه حتى وطئهن وهن حيض، الله أكبر هذا بهتان عظيم وخطب جسيم ونسبة الخبر إلى ابن عباس لا تسلم صحتها، وكذا لا تسلم دعوى قوة سنده وإن قال بها من قال) انظر: روح المعاني للألوسي 23/ 199، وهامش تفسير الثعلبي (22/ 538)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/261)

عليه السلام سمع بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها [صيدون] لها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر، وكان الله قد أتى سليمان عليه السلام سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها جنوده من الجن والإنس فقتل ملكها واستبى ما فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها جرادة، لم ير مثلها حسنا وجمالا، فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها، فشق ذلك على سليمان فقال لها: ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ!؟ قالت: إن أبي أذكره وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك، قال سليمان عليه السلام: فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه وسلطانه هو أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله، قالت: إن ذلك لك، ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزني وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي.

قال آخر (1): ثم ذكر أن سليمان عليه السلام أمر الشياطين فقال: مثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئا، فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها إلا أنه لا روح فيه، فعمدت عليه حين صنعوه فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبس، ثم كانت إذا خرج سليمان عليه السلام من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له ويسجدون له كما

__________

(1) تفسير الثعلبي (22/ 533)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/262)

تصنع به في ملكه وتروح كل عشية بمثل ذلك، وسليمان عليه السلام لا يعلم شيئا من ذلك أربعين صباحا،

قال آخر: هذا هو الجزء الأول من القصة، وهو يظهر سليمان عليه السلام بصورة المتسلط الظالم الجبار، الذي يتسلط على غيره من الملوك، ثم يأسر بناتهم.. ثم يطلب منهن أن يتعاملن معه بلطف مع أنه هو الذي قتل والدهن.. وكل هذا كان مما تقبله عقولنا وبسهولة، لأنه لا قيم ثابتة عندنا.

قال آخر (1): وكما أن رواياتنا تظهر الصحابة أعظم وأحكم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد اجتهد الرواة هنا أيضا أن يجعلوا من صاحب سليمان عليه السلام أعلم وأحكم، وقد ذكر ذلك وهب، وهو يحكي قصة الجسد الملقى على الكرسي، فقال: (وبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صديقا وكان لا يرد عن باب سليمان، أي ساعة أراد دخول شيء من بيوته دخل حاضرا كان سليمان أو غائبا، فأتاه وقال: يا نبي الله كبرت سني ورق عظمي ونفد عمري وقد حان مني ذهاب وقد أحببت أن أقدم مقاما قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله فأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل.

قال آخر (2): ثم ذكر أن سليمان عليه السلام جمع له الناس، فقام فيهم خطيبا فذكر من مضى من أنبياء الله فأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضله الله به حتى انتهى إلى سليمان عليه السلام فقال: ما كان أجملك في صغرك وأروعك في صغرك وأفضلك في صغرك وأحكم أمرك في صغرك وأبعدك من كل مكروه في صغرك ثم انصرف، فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتى تملى غضبا، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه فقال: يا آصف ذكرت من

__________

(1) تفسير الثعلبي (22/ 534)

(2) تفسير الثعلبي (22/ 534)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/263)

مضى من أنبياء الله فأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني علي بخير في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري وكبري فما الذي أحدثت في آخر عمري!؟ قال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة، فقال: في داري! قال: في دارك، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك.

قال آخر (1): ثم ذكر أن سليمان عليه السلام رجع إلى داره وكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة وولائدها ثم أمر بثياب الطهرة فأتي بها ثياب لا يغزلها إلا الأبكار ولم تسمها امرأة ذات دم، فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده فأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائبا إلى الله عز وجل حتى جلس على ذلك الرماد وتمحك فيه بثيابه تذللا لله عز وجل وتضرعا إليه، يبكي ويدعو ويستغفر بما كان في داره ويقول فيما يقول: رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرك وأن يقروا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرك فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى ثم رجع إلى دراه وكانت أم ولد له يقال لها: الأمينة كان إذا دخل مذهبه وأراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتى يتطهر وكان لا يلمس خاتمه إلا وهو طاهر وكان ملكه في خاتمه.

قال آخر (2): ثم ذكر أن سليمان عليه السلام وضع خاتمه يوما من تلك الأيام عندها كما كان يضعه ثم دخل مذهبه، وأتاها الشيطان صاحب البحر، وكان اسمه صخرا على صورة سليمان عليه السلام لا تنكر منه شيئا فقال: يا أمينة خاتمي، فناولته إياه فجعله في يده، ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان عليه السلام فأتى الأمينة وقد غيرت حاله وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة خاتمي!

__________

(1) تفسير الثعلبي (22/ 535)

(2) تفسير الثعلبي (22/ 536)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/264)

فقالت: ومن أنت، قال: أنا سليمان بن داود، فقالت: كذبت لست سليمان بن داود وقد جاء سليمان فأخذ خاتمه وهو جالس على سريره في ملكه، فعرف سليمان عليه السلام أن خطيئته قد أدركته فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل، فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول، يزعم أنه سليمان بن داود، فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق فيعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها.

قال آخر (1): ثم ذكر أن سليمان عليه السلام مكث بذلك أربعين صباحا عدة ما كان عبد ذلك الوثن في داره، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين اليوم، فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل، هل رأيتم من اختلاف في حكم ابن داود ما رأيت!؟ قالوا: نعم، قال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه فأسألهن هل أنكرن منه في خاصة أمره ما أنكرناه في عامة الناس، فدخل على نسائه فقال: ويحكن، هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرنا!؟ فقلن: أشده، ما يدع امرأة منا في دمها، ولا يغتسل من جنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن هذا لهو البلاء المبين، ثم خرج إلى بني إسرائيل فقال: ما في الخاصة أعظم مما في العامة.

قال آخر (2): ثم ذكر أنه لما مضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه فبلعته سمكة وأخذها بعض الصيادين وقد عمل له سليمان عليه السلام صدر يومه ذلك حتى إذا كان العشي أعطاه سمكتيه، فأعطي السمكة التي أخذت الخاتم، وخرج سليمان بسمكتيه فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة ثم عمد إلى

__________

(1) تفسير الثعلبي (22/ 536)

(2) تفسير الثعلبي (22/ 537)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/265)

السمكة الأخرى فبقرها ليشويها فاستقبله خاتمه في جوفها وأخذه فجعله في يده ووقع ساجدا وعكفت عليه الطيور والجن وأقبل عليه الناس، وعرف أن الذي كان دخل عليه أحدث في داره، فرجع إلى ملكه، وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين فقال: أتوني بصخر، وطلبته له الشياطين حتى أخذته فأتي به فجاب له صخرة فأدخله فيها ثم شد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم أمر به فقذف في البحر.

قال آخر (1): هذه هي الرواية كما رواها وهب بن منبه، وهناك رواية قريبة منها رواها السدي، جاء فيها: كان لسليمان عليه السلام مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة وهي آثر نسائه وآمنهن عنده كان إذا أجنب وأتى حاجة نزع خاتمه ولم يأمن عليه أحدا من الناس غيرها فجاءته يوما من الأيام فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك، فقال: نعم، ولم يفعل فابتلي بقوله، فأعطاها خاتمه ودخل المخرج.

قال آخر (2): ثم ذكر أن الشيطان خرج في صورته فقال لها: هاتي الخاتم فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان عليه السلام، وخرج سليمان بعد فسألها أن تعطيه خاتمه فقالت: ألم تأخذه قبل! قال: لا، وخرج مكانه تائها ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما فأنكر الناس حكمه واجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا: إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه، فبكى النساء عند ذلك، قال: فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرأوها فلما قرأوا التوراة طار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت.

__________

(1) تفسير الثعلبي (22/ 538)

(2) تفسير الثعلبي (22/ 539)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/266)

قال آخر (1): ثم ذكر سليمان عليه السلام أقبل في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه فاستطعم من صيدهم وقال: إني أنا سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه، فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه، وقالوا: بئس ما صنعت حيث ضربته، فقال: إنه زعم أنه سليمان فأعطوه سمكتين مما قد مذر، عندهم، فلم شغله ما كان له من الضرب، حتى قام إلى شط البحر فشق بطونها وجعل يغسلها فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فرد الله عليه ملكه وبهاءه، وجاءت الطير حتى حافت عليه فعرف القوم أنه سليمان فقاموا يعتذرون مما صنعوا فقال: ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم، هذا أمر لابد منه ثم جاء حتى أتى ملكه وأمر حتى أتي بالشيطان الذي أخذ خاتمه وجعله في صندوق، ثم أطبق عليه وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه، ثم أمر به فألقي في البحر وهو حي كذلك حتى الساعة.

قال آخر (2): ومن الروايات التي ذكروها في تفسير الآية الكريمة أن سليمان عليه السلام لما افتتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه فأخذه سليمان فأعاده إلى يده، فسقط من يده فلما رآه سليمان عليه السلام لا يثبت في يده أيقن بالفتنة، وأن آصف قال لسليمان عليه السلام: إنك مفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك في يدك أربعة عشر يوما ففر إلى الله تائبا من ذنبك، وأنا أقوم مقامك وأسير في عالمك وأهل بيتك بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك ويردك إلى ملكك، ففر سليمان عليه السلام هاربا إلى ربه، وأخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت.

__________

(1) تفسير الثعلبي (22/ 539)

(2) تفسير الثعلبي (22/ 540)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/267)

قال آخر (1): وذكروا بحسب هذه الرواية أن الجسد الذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا﴾ [ص: 34] كان هو آصف كاتب سليمان عليه السلام وكان عنده علم من الكتاب، فقام آصف في ملك سليمان عليه السلام وعالمه يسير بسيرته ويعمل بعمله أربعة عشر يوما إلى أن رجع سليمان عليه السلام إلى منزله تائبا إلى الله عز وجل ورد الله عليه ملكه، فقام آصف من مجلسه وجلس سليمان عليه السلام على كرسيه، وأعاد الخاتم في يده فثبت فيها.

قال آخر: وهكذا أصبحت تلك الآية الكريمة مطية لكل من يريد أن يخترع حكاية أو أسطورة لا ليتسلى بها فقط، وإنما ليشوه بها أنبياء الله، ويشوه معها كل القيم العظيمة التي جاءوا بها.

قال آخر: ولم يكتفوا بهذا، بل راحوا إلى الكرسي المذكور في الآية الكريمة ليجعلوه وسيلة ليرموا سليمان عليه السلام بالترف والبذخ الذي يقع فيه الملوك، فقد ذكروا أن (سليمان عليه السلام لما ملك بعد أبيه أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء، وأمر أن يعمل بديعا ومهولا بحيث أن لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيب)(2)

قال آخر (3): ثم ذكروا صفته، وكأنهم شاهدوه رأي العين.. فقد ذكروا أنه عُمل له كرسي من أنياب الفيلة، وفصصوه بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد وأنواع الجواهر وحففوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر على رأس نخلتين منها طاووسان من ذهب وعلى رأس الأخريين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض، وجعلوا من جنبتي الكرسي أسد من ذهب على رأس كل واحد منها عمود من الزمرد الأخضر، وقد

__________

(1) تفسير الثعلبي (22/ 541)

(2) تفسير الثعلبي (22/ 550)

(3) تفسير الثعلبي (22/ 551)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/268)

عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر بحيث أظل عريش الكرم النخل والكرسي.

قال آخر (1): ثم ذكروا أن سليمان عليه السلام إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها ويبسط الأسدان أيديهما فيضربان الأرض بأذنابهما، وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان عليه السلام فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان عليه السلام ثم يستدير الكرسي بما فيه ويدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلات برؤوسها إلى سليمان عليه السلام ينضحن عليه من أجوافها المسك والعنبر ثم تناوله حمامة من ذهب قائمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسي التوراة فيفتحها سليمان عليه السلام ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء.

قال آخر (2): ثم ذكروا كيف يجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة بالجواهر ـ وهي ألف كرسي عن يمينه ـ ويجيء عظماء الجن وتجلس على كراسي من الفضة على يساره وهو ألف كرسي حافين جميعا به، ثم يحف بهم الطير يظلهم ويتقدم إليه الناس للقضاء، فإذا دعي بالبينات وتقدمت الشهود لإقامة الشهادات دار الكرسي بما فيه من جميع ما حوله دوران الرحى المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما وينشر النسران والطاووسان أجنحتها، فيفزع منها الشهود ويدخلهم من ذلك رعب شديد، فلا يشهدون إلا بالحق.

قال آخر: ولم يكتفوا بكل هذا لتشويه سليمان عليه السلام، فهم يعلمون أن وهب

__________

(1) تفسير الثعلبي (22/ 551)

(2) تفسير الثعلبي (22/ 552)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/269)

بن منبه والسدي وغيرهما لن تصل أحاديثهم إلى رتبة الأحاديث النبوية، فلذلك راحوا يدسون في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يشوه سليمان عليه السلام أعظم تشويه.

قال آخر: فقد روى البخاري ومسلم وهما ـ عند شيوخنا أكثر حرمة من القرآن الكريم نفسه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على مائة امرأة ـ أو تسع وتسعين ـ كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون)(1)

قال آخر: وهم يستدلون بهذا الحديث في مواضع كثيرة، أهمها تلك القوة الغرائزية العظيمة التي لا يمكن تصورها، والتي وهبها الله ـ في تصورهم ـ للأنبياء عليهم السلام.. ربما هدية لهم على الجهود التي يقومون بها في الدعوة إلى الله، ولذلك نراهم يذكرون للأنبياء النساء الكثيرات كما في هذا الحديث، وإن كان الخلاف قد وقع في عدد نسوته بالضبط، لأن أبا هريرة أو رواة الحديث لم يضبطوا عددهن جيدا، فمرة يذكرون أنهن مائة، وتارة أنهن تسعون، وتارة أنهن سبعون، وتارة أنهن ستون.

قال آخر: ومع ذلك فقد حاول شيوخنا أن يجدوا حلا لتلك الأعداد المتناقضة المتضاربة.. بل إن أكبر هيئة دينية في السعودية، وهي اللجنة الدائمة للفتوى تولت التحقيق في ذلك، وقد نصوا على نتائج التحقيق، فقالوا ـ ردا على من رمى الحديث بالاضطراب ـ: (الحديث المضطرب: هو الذي روي من طرق مختلفة متساوية في القوة، ولم يمكنه الجمع بينهما، أما إن كان بعضها أقوى أو أمكن الجمع فلا اضطراب، وعلى هذا فلا يعتبر الاختلاف في عدد النساء في الحديث المسؤول عنه اضطرابا يرد به الحديث لأمرين: رجحان

__________

(1) صحيح البخاري (3424)، صحيح مسلم (1654)، سنن النسائي (3831)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 506)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/270)

الرواية التي ذكر فيها أن عددهن تسعون، فقد قال البخاري في صحيحه: قال شعيب وأبو الزناد: تسعين، وهو أصح، إمكان الجمع بين هذه الروايات، وقد ذهب إلى ذلك ابن حجر في كتابته على هذا الحديث في الباب الذي ذكرته في السؤال، قال رحمه الله: (فمحصل الروايات ستون وسبعون وتسعون وتسع وتسعون ومائة، والجمع بينها أن الستين كن حرائر، وما زاد عليهن كن سراري أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون والمائة فكن دون المائة وفوق التسعين، فمن قال: تسعون، ألغى الكسر، ومن قال: مائة، جبره، ومن ثم وقع التردد في رواية جعفر)(1))(2)

قال آخر: وهكذا استطاعوا أن يحل مشكلة العدد بهذه الطريقة.. لكن المسألة الأخرى التي عرضت لهم، والتي وردهم السؤال بشأنها أخطر، وصاحبها ربما يكون قد استعمل عقله، فقد قال لهم سائلا: (ولا ريب في صحة هذا الحديث باعتبار الرواة والإسناد، ولكن مفهوم الحديث خلاف للعقل والشعور صريحا، ومفهومه يعلن ويجهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قال هكذا كما نقل الراوي، بل ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أباطيل وخرافات اليهود مثالا، وفهم الراوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله بيانا واقعيا؛ لأن كل إنسان إن حاسب في نفسه فوضح عليه أن فرض عدد الأزواج ستون 60، إن باشرهن سليمان عليه السلام في ساعة 6 أزواج باشرهن كل الليل بغير توقف متواليا عشر ساعة، فهل هذا ممكن عقلا؟)(3)

قال آخر: لكن اللجنة الدائمة للفتوى بما لديها من عقول جبارة استطاعت أن تحل هذه المشكلة أيضا، وبكل سهولة، فقد قالوا جوابا للسائل: (دعوى مخالفة هذا الحديث للعقل الصريح دعوى باطلة؛ لبنائها على قياس الناس بعضهم على بعض في الصحة، وقوة

__________

(1) فتح الباري (6/ 460.

(2) فتاوى اللجنة الدائمة (4/ 295)

(3) فتاوى اللجنة الدائمة (4/ 294)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/271)

البدن، والقدرة على الجماع، وسرعة الإنزال وبطئه، وهو قياس فاسد لشهادة الواقع بتفاوتهم فيما ذكر وفي غيره وخاصة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالنسبة لغيرهم، فقد أوتوا من قوة البدن والقدرة على الجماع مع كمال العفة وضبط النفس، وكبح جماح الشهوة ما لم يؤت غيرهم، فكانت العفة وصيانة الفرج عن قضاء الوطر في الحرام مع القدرة على الجماع وقوة دواعيه معجزة لهم عليهم الصلاة والسلام، وكان من السهل على أحدهم أن يطأ عشر نسوة في ساعة ومائة امرأة في عشر ساعات أو أقل، لتحقق الاختصاص بالقوة، وإمكان الإنزال في خمس دقائق أو أقل منها)(1)

وقال آخر: لأن عقول الحشوية لا تحن لشيء كما تحن لكثرة النقول، وخاصة من الأئمة الحفاظ البارعين، فقد نقلوا له ما يكبح جماح عقله عن التفكير، فذكروا له من أقوال أعلام السلف والخلف ما يدل على إجماعهم على القوة الجبارة التي وهبت للنبي في هذا الجانب.

قال آخر: ومن تلك النقول ما نقلوه عن العيني أنه قال: (وفيه ما كان الله تعالى خص به الأنبياء من صحة البنية وكمال الرجولية، مع ما كانوا فيه من المجاهدات في العبادة، والعادة ـ في مثل هذا لغيرهم ـ الضعف عن الجماع، لكن خرق الله تعالى لهم العادة في أبدانهم، كما خرقها لهم في معجزاتهم وأحوالهم، فحصل لسليمان عليه الصلاة والسلام من الإطاقة أن يطأ في ليلة مائة.. وليس في الأخبار ما يحفظ فيه صريحاً غير هذا إلا ما ثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أعطي قوة ثلاثين رجلاً في الجماع (2)..، وكان إذا صلى الغداة دخل على نسائه فطاف عليهن بغسل واحد ثم يبيت عند التي هي ليلتها (3)، وذلك لأنه كان قادراً

__________

(1) فتاوى اللجنة الدائمة (4/ 296)

(2) رواه عبد الرزاق في مصنفه: (7/ 507) رقم (14052)، وابن خزيمة في صحيحه: (1/ 426) رقم (233)

(3) صحيح ابن خزيمة: (5/ 423) رقم (1225)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/272)

على توفية حقوق الأزواج وليس يقدر على ذلك غيره مع قلة الأكل)(1)

قال آخر: وهكذا استطاعوا أن يجيبوا عما ورد في الحديث من ذلك الجزم من سليمان عليه السلام، من غير إرجاع الأمر لله، مع تذكير الملاك أو غيره له، والذي قد يوهم بأن هبة الولد ليست لله، وإنما هي نتيجة الطواف ـ كما ورد في الحديث ـ فقد نقلوا عن الطبري قوله: (إن النسيان على وجهين: أحدهما: على وجه التضييع من العبد والتفريط.. والآخر: على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله.. فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو ترك منه لما أمر بفعله، فذلك الذي يرغب العبد إلى الله في تركه مؤاخذته به، وهو النسيان الذي عاقب الله به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة)(2)

قال آخر: ونقلوا عن العيني قوله: (قوله (فلم يقل إن شاء الله): فلم يقل سليمان إن شاء الله بلسانه، لا أنه غفل عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه، فإنه لا يليق بمنصب النبوة، وإنما هذا كما اتفق لنبينا لما سئل عن الروح والخضر وذي القرنين فوعدهم أن يأتي بالجواب غدا جازما بما عنده من معرفة الله تعالى، وصدق وعده، في تصديقه وإظهار كلمته، لكنه ذهل عن النطق بها لا عن التفويض بقلبه، فاتفق أن يتأخر الوحي عنه ورمي بما رمي به لأجل ذلك)(3)

قال آخر: ونقلوا عن ابن الجوزي قوله في بيان فضل الاستثناء: (وهذه الكلمة لما أهمل ذكرها سليمان في قوله (لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلاماً) لم يحصل له مقصوده، وإذا أطلقت على لسان رجل من يأجوج ومأجوج فقال (غداً يحفر السد إن شاء

__________

(1) عمدة القاري: (21/ 244 ـ 245)

(2) جامع البيان: (6/ 133)

(3) عمدة القاري: (21/ 242 ـ 243)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/273)

الله) نفعتهم فقدر على الحفر، فإذا فات مقصود نبي بتركها وحصل مراد كافر بقولها، فليُعرف قدرها، وكيف لا وهي تتضمن إظهار عجز البشرية وتسليم الأمر إلى قدرة الربوبية)(1)

قال آخر: ولو أن هؤلاء جميعا راحوا يبحثون في القرآن الكريم عن كيفية طلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام للولد، وهل كان ذلك بالطريقة التي وردت في هذا الحديث، أم أنهم كانوا متواضعين جدا أمام ربهم سبحانه وتعالى، يعلمون أن الولد وغير الولد هبة من الله لا يمكن لأحد أن يزعم أنه من دون الله يمكن أن ينال هذه الهبة العظيمة.

قال آخر: أجل.. فلو رجعوا إلى القرآن الكريم لوجدوا إبراهيم عليه السلام، وبعد تلك المعاناة الشديدة التي واجهه بها قومه، وبعد بلوغه من الكبر عتيا، يتوجه إلى الله بحياء عظيم يطلب منه أن يرزقه من الصالحين.. ولم يحدد لا عددا ولا نوعا.. يكفي فقط أن يكون من الصالحين، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: 99 ـ 101]

قال آخر: وهكذا لو رجعوا إلى القرآن الكريم لوجدوا زكريا عليه السلام يقف نفس موقف جده إبراهيم عليه السلام، يطلب من الله الولد بتواضع وحياء عظيم، قال تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 38، 39]

قال آخر: بل إن القرآن الكريم يشير إلى احترام أنبياء الله لسنن الله في الولد كاحترامهم لغيرهم من السنن، ولذلك لما بشرت الملائكة زكريا عليه السلام أجابهم: ﴿رَبِّ

__________

(1) كشف المشكل من حديث الصحيحين: (1/ 332)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/274)

أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران: 40]

قال آخر: وهكذا لو رجعوا إلى القرآن الكريم لوجدوا سليمان عليه السلام العبد الشكور، وهو يلجأ إلى الله كل حين، لا يغفل عنه أبدا.. فكيف يغفل عنه، وهو يطلب ـ وفي ليلة واحدة ـ أن يرزق مائة ولد كلهم يعيش إلى أن يجاهد في سبيل الله.

قال آخر: إن هذا التألي على الله يستحيل على عوام الناس من المسلمين، فكيف يقع من عبد شكور أواب ممتلئ بالطاعة لله والعبودية لله.

قال آخر: هذه هي صورة الأنبياء عند شيوخنا، وهي صورة لا تختلف عن صور الملوك والمتكبرين والمتجبرين الذين يباهون بكثرة النساء والجواري، ولعله لأجل هذا لا نستغرب أن يجمع شيخنا وإمامنا الطبري، في اسم تاريخه بين الرسل والملوك، حيث سماه [تاريخ الرسل والملوك]، فالرسل بحسب تصوراتهم ليسوا سوى ملوك.. ولهذا هم يحبون الملوك، ويجلونهم، ويقدرونهم، ويحرمون نقدهم، أو الحديث عنهم، لأنهم لا يختلفون عن الرسل إلا في ناحية واحدة ـ بحسب الرؤية السلفية ـ هي ذلك الوحي الذي ينزل من السماء عليهم.

قال آخر: وهكذا انطلق شيوخنا إلى الآيات الواردة في قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ، والتي تذكر منهجه في دعوتها إلى الله، إلى تشويهه من خلالها، والإساءة إلى كل القيم النبيلة التي جاء بها.

قال آخر: تبدأ الآيات الكريمة ـ التي حرف شيوخنا معناها ـ بحكاية الهدهد عن ملكة سبأ التي وجدها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، كما قال تعالى: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/275)

الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [النمل: 23 ـ 26]، فالهدهد لم يذكر جمال الملكة، ولا أصلها ولا فصلها كما ذكر شيوخنا، وإنما اهتم لدينها ونوع الإله الذي تعبده، وقد استنكر ـ وهو هدهد ـ ذلك أيما استنكار، فلذلك راح يشكوهم لسليمان عليه السلام.

قال آخر: وبما أن وظيفة سليمان عليه السلام هي الدعوة إلى الله، فقد أرسل إليهم يدعوهم إلى الحضور عنده، ليبلغهم دعوة ربه، كما قال تعالى: ﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 27 ـ 32]

قال آخر: وكان لذكاء ملكة سبأ دوره في ذهابها إلى سليمان عليه السلام.. وكان سليمان عليه السلام يعرف المدخل الذي يدخل به إليها وإلى قومها، فقد رأى حبهم للترف.. بدليل أنه كان لها عرش عظيم.. فلذلك راح يبين لهم أنهم بإسلامهم وجوههم لله لن يفقدوا ذلك النعيم الذي كانوا يعيشونه.

قال آخر: ولذلك فإن ذكر الله تعالى ما أظهر لسليمان عليه السلام لملكة سبأ من مظاهر الملك الذي أعطاه الله له لم يكن غرضه منه الفخر عليها، وإنما كان غرضه تعريفها بالله، لأنها انشغلت بالعرش العظيم الذي كان لها عن الله، فلذلك كان أول ما لاقاها به سليمان عليه السلام هو عرشها الذي حجبها عن الله، وعن التسليم له، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ [النمل:42]، فلما قالت ذلك، وفي غمرة انبهارها بما رأت أخبرها سليمان عليه السلام بأنه مع هذا الملك كان مسلما لله، فلم يحجب به عن الله، فقال تعالى على لسانه: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 42]

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/276)

قال آخر: فلما رأى سليمان عليه السلام حاجتها إلى المزيد من الأدلة، أحضرها إلى الصرح الممرد من القوارير، وقد كان من الجمال بحيث لا يساوي عرشها الذي شغلها عن الله شيئا بجانبه، وحينذاك لم تملك إلا أن تسلم لله، قال تعالى: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل:44]

قال آخر: وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى حين ذكر ذكاء ملكة سبأ الذي استطاعت به أن تميز به الملوك من المؤمنين، فقد أرسلت بهدية قيمة لسليمان عليه السلام لتختبر موقفه من المال، قال تعالى على لسانها: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل:35]، لكن سليمان عليه السلام نظر إلى ما أعطاه الله من الإيمان والفضل فوجده أعظم بكثير من أن ينحجب بهديتهم، فقال: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ [النمل:36]

قال آخر: ولعله لأجل هذا ورد في القرآن الكريم ذلك الطلب الغريب من سليمان عليه السلام والذي أساء شيوخنا فهمه، وشوهوه بسببه أيما تشويه، وهو طلبه من ربه سبحانه وتعالى أن يعطيه ملكا لم يعطه أحدا من عباده، كما نص على ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [ص: 35]

قال آخر: مع أن سليمان عليه السلام ـ بحسب ما يدل عليه النص القرآني ـ ما طلب ذلك الملك، وبتلك الصورة التي لا ينازعه فيها أحد إلا ليكون حجة على من شغله ملكه عن الله، وكأن سليمان عليه السلام يقول لربه: (يارب هب لي من الملك ما تشاء.. بل هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يحصل عليه.. فإن هذا الملك مهما كان عظيما.. وذلك الفضل مهما كان وفيرا لن يحجباني عنك، ولن يبعدا قلبي عن الرغبة فيك.. فإني لا أرى

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/277)

الأشياء مهما كثرت إلا منك.. ولا أرى نفسي إلا بك.. فكيف أحجب بهداياك الواصلة إلي.. أم كيف أنشغل بفضلك عنك؟)

قال آخر: لكن شيوخنا أعرضوا عن كل تلك المعاني النبيلة التي تنص عليها تلك الآيات الكريمة، وراحوا يذكرون التفاصيل الكثيرة عن تلك القصة.. وأولها اسم ملكة سبأ ونسبها وكل التفاصيل المرتبطة بها، والتي لم يذكرها القرآن الكريم، ولا الأحاديث الصحيحة، ولذلك فإن مصدرها واضح، وهم أولئك اليهود الذين تتملذوا على أيديهم.

قال آخر (1): فقد ذكروا أن اسمها بلقيس بنت اليشرح، بن ذي جدن، بن اليشرح بن الحرث بن قيس بن صيفى بن سبأ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان.. وذكروا أن أبا بلقيس الذي يسمى اليشرح ـ ويلقب بالهدهاد ـ ملكا عظيم الشأن، وقد ولد له أربعون ملكا، وكان يملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفوا لي، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن، فولدت تلمقة، وهي بلقيس ولم يكن له ولد غيرها.. بل إنهم دسوا في ذلك حديثا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: (كان أحد أبوي بلقيس جنيا)(2)

قال آخر (3): وذكروا أنه لما مات أبو بلقيس ولم يخلف ولدا غيرها طمعت في الملك فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون، فاختاروا عليها رجلا فملكوه عليهم، وافترقوا فرقتين كل فرقة منها استولت بملكها على طرف من أرض اليمن، ثم إن هذا الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حريم رعيته،

__________

(1) تفسير الثعلبي (20/ 223)

(2) أخرجه ابن عدي في الكامل 3/ 372، وقال: لا أعلم رواه عن قتادة غير سعيد ابن بشير، وهو ضعيف، والذهبي في ميزان الاعتدال 2/ 129، وذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق 69/ 67، وعزاه الشوكاني في فتح القدير 4/ 168 للطبري، وأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه وابن عساكر، من حديث أبي هريرة، وكذا الديلمي في الفردوس 3/ 277.

(3) تفسير الثعلبي (20/ 225)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/278)

ويفجر بهن، وأراد أصحابه أن يخلعوه فلم يقدروا عليه، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها الملك: والله ما منعني أن أبتديك بالخطبة إلا اليأس منك، فقالت: لا أرغب عنك فإنك كفؤ كريم فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا: لا نراها تفعل هذا، فقال لهم: إنما هي ابتدأتني وأنا أحب أن تسمعوا قولها فتشهدوا عليها فلما جاؤوها وذكروا لها، قالت: نعم أحببت الولد ولم أزل، كنت أرغب عن هذا، فالساعة قد رضيت به فزوجوها منه.

قال آخر (1): ثم ذكروا أنها لما زفت إليه خرجت في ناس كثير من خدمها وحشمها حتى غصت منازله ودوره بهم، فلما جاءته سقته الخمر حتى سكر، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوبا على باب دارها، فعلموا أن تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها، فاجتمعوا إليها فقالوا لها: أنت أحق بهذا الملك من غيرك، فقالت: لولا العار والشنار ما قتلته، ولكن عم فساده فأخذتني الحمية حتى فعلت ما فعلت فملكوها، واستتب أمرها.

قال آخر (2): وذكروا في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: 23] أنه سرير ضخم حسن وكان مقدمه من ذهب مفصص بالياقوت الأحور والزمرد الأخضر ومؤخره من فضة مكلل بأنواع الجواهر وله أربع قوائم: قامة من ياقوت أحمر وقائمة من ياقوت أخضر وقائمة من زمرد وقائمة من در وصفائح السرير من ذهب وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق.

قال آخر: ونقلوا عن ابن عباس أن عرش بلقيس ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا

__________

(1) تفسير الثعلبي (20/ 226)

(2) تفسير الثعلبي (20/ 228)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/279)

وطوله في الهواء ثلاثون ذراعا (1).. وقال مقاتل: كان ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا وطوله في الهواء ثمانون ذراعا مكلل بالجواهر (2).

قال آخر (3): وذكروا في تفسير قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل: 28] أن الهدهد أخذ الكتاب، وأتى به بلقيس وكانت بأرض يقال له مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام فوافاها في قصرها وقد غلقت الأبواب، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب، وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها، وأوت إلى فراشها، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها.

قال آخر (4): وذكر آخر أن الهدهد حمل الكتاب بمنقاره فطار حتى وقف على رأس المرأة، وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت المرأة رأسها، فألقى الكتاب في حجرها.

قال آخر (5): وذكر آخر أنه كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع؛ فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد تلك الكوة فسدها بجناحيه فارتفعت الشمس ولم تعلم فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى بالصحيفة إليها، فأخذت بلقيس الكتاب، وكانت كاتبة قارئة عربية من قوم تبع بن شراحيل الحميري، فلما رأت الخاتم أرعدت وخضعت؛ لأن ملك سليمان عليه السلام كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل هذا الكتاب هو أعظم ملكا منها؛ لأن ملكا رسله الطير إنه لملك عظيم، فقرأت الكتاب،

__________

(1) ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 9/ 2867 عن ابن عباس بنحوه، وذكره البغوي في معالم التنزيل 6/ 156 ولم ينسبه، ونسبه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 10/ 401 لمحمد بن إسحاق..

(2) تفسير مقاتل 3/ 301، وذكره عنه البغوي في معالم التنزيل 6/ 156، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 13/ 184، وذكر نحوه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 10/ 401، عن زهير بن محمد بلفظ: طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا، والبيضاوي في أنوار التنزيل 4/ 115، والشوكاني في فتح القدير 4/ 133.

(3) تفسير الثعلبي (20/ 236)

(4) تفسير الثعلبي (20/ 237)

(5) تفسير الثعلبي (20/ 238)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/280)

وتأخر الهدهد غير بعيد، فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها، وجعلت الملأ من قومها.

قال آخر (1): وقد استطاع شيوخنا أن يعدوا الملأ من قومها، فذكروا أنهم اثنا عشر ألف قائد، مع كل قائد مائة ألف مقاتل.. وقال آخر: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، كل رجل منهم على عشرة آلاف.

قال آخر: وذكروا في تفسير قوله تعالى حكاية على لسان ملكة سبأ: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل: 35 ـ 36] الأخبار الطويلة في ذكر الهدية التي أرسلتها (2).

قال آخر (3): ومن ذلك أنهم ذكروا أن بلقيس كانت امرأة لبيبة أريبة قد سيست وساست، فقالت للملأ من قومها: إني مرسلة إلى سليمان وقومه بهدية أصانعه بذلك عن ملكي، وأختبره بها: أملك هو أم نبي فإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف، وإن لم يكن ملكا لم يقبل الهدية ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه فأهدت إليه وصفاء ووصائف.

قال آخر (4): وقد اختلفوا في ذلك اختلافا شديدا، حيث ذكر بعضهم أنها ألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى.. وذكر آخر أنها ألبست الغلمان لباس الجواري وألبست الجواري لبسة الغلمان.. وهكذا اختلفوا في عددهم، فقال بعضهم: مائة وصيف ومائة وصيفة وقال آخر: مائتي غلام ومائتي جارية.. وقال آخر: عشرة غلمان وعشر

__________

(1) تفسير الثعلبي (20/ 238)

(2) رويت هذه الأخبار الطويلة في أغلب كتب التفسير عن وهب بن منبه مع اختلاف في بعض ألفاظها؛ انظر: جامع البيان للطبري 19/ 156، تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم عن السدي 9/ 2878، معالم التنزيل للبغوي 6/ 162 والسيوطي في الدر المنثور 11/ 366 ذكر جزءا من القصة، ونسبت لابن عباس في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/ 197، روح المعاني للألوسي 19/ 199، وقال الألوسي بعد ذكرها: وكل ذلك أخبار لا يدرى صحتها ولا كذبها، ولعل في بعضها ما يميل القلب إلى القول بكذبه والله تعالى أعلم، وذكره الزمخشري في الكشاف 3/ 147، وابن عطية في المحرر الوجيز 4/ 259، وأبو السعود في إرشاد العقل السليم 6/ 284 ـ 285، ولم ينسبوه، وذكر ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 10/ 405 ـ 406 بعضها، ثم قال: وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لابن أبي حاتم عن السدي وذكر جزء منها عن قتادة. [هامش تفسير الثعلبي (20/ 254)]

(3) تفسير الثعلبي (20/ 245)، وذكره الطبري في جامع البيان 19/ 155، عن وهب بن منبه، وذكره البغوي في معالم التنزيل 6/ 160.

(4) تفسير الثعلبي (20/ 246)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/281)

جواري.. وقال آخر: خمسمائة غلام وخمسمائة جارية وقال آخر: أهدت له صفائح الذهب، في أوعية الديباج، وقيل: كانت أربع لبنات من ذهب.

قال آخر (1): ثم ذكروا أنه لما بلغ ذلك سليمان عليه السلام أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب، ثم أمر به فألقي في الطريق، فلما جاءوا رأوه ملقى في الطريق في كل مكان قالوا: قد جئنا نحمل شيئا نراه هاهنا ملقى، ما يلتفت إليه فصغر ذلك في أعينهم ما جاءوا به.

قال آخر (2): ورووا عن وهب وغيره من اليهود الذين أسلموا أنها عمدت إلى خمسمائة جارية وخمسمائة غلام فألبست الجواري لباس الغلمان الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان لباس الجواري، وجعلت في أساعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب، وفي آذانهم أقراطا وشنوفا، مرصعات بأنواع الجوهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس لجام من ذهب مرصع بأنواع الجواهر وغواشيها من الديباج الملونة وبعثت فيه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع وأرسلت إليه أيضا المسك والعنبر وعود الألنجوج وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب، ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت معه كتابا بنسخة الهدية، وقالت: إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصايف، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقبا مستويا، وأدخل خيط الخرزة، وأمرت بلقيس الغلمان فقالت: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول: انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك ولا

__________

(1) تفسير الثعلبي (20/ 248)

(2) تفسير الثعلبي (20/ 248)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/282)

يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قوله ورد الجواب.

قال آخر (1): ثم ذكروا أن الرسول انطلق بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان عليه السلام، فأخبره الخبر كله فأمر سليمان عليه السلام الجن أن يضربوا لبنات الذهب والفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسع فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضة، وأن يجعلوا حول الميدان حائطا شرفها من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قالـ: أي الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر؟ قالوا: يا نبي الله إنا رأينا دواب في بحر كذا وكذا منمرة منقطة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواصي قال: على بها الساعة فأتوا بها فقال: شدوها على يمين الميدان وعن يساره وعلى لبنات الذهب والفضة وألقوا لها علوفاتها، ثم قال للجن: علي بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم عن يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان عليه السلام في مجلس على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفا فراسخ، وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره.

قال آخر (2): ثم ذكروا أنه لما دنا القوم من الميدان، ونظروا إلى ملك سليمان عليه السلام، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم تروث على لبنات الذهب والفضة تقاصرت إليهم أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا.

قال آخر (3): وفي بعض الروايات أن سليمان عليه السلام لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع اللبنات التي معهم

__________

(1) تفسير الثعلبي (20/ 250)

(2) تفسير الثعلبي (20/ 251)

(3) تفسير الثعلبي (20/ 251)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/283)

فلما رأوا الرسل موضع اللبنات خاليا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الجن فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين فقالوا: نرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة وأخذت شعرة في فيها ودخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان عليه السلام: حاجتك؟ فقالت تصير رزقي في الشجرة، قال: لك ذلك، ثم قال: من لهذه، درة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا رسول الله، فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال سليمان عليه السلام: حاجتك؟ قالت: تجعل رزقي في الفواكه، قال: لك ذلك.

قال آخر (1): ثم ذكروا أن سليمان عليه السلام ميز بين الغلمان والجواري بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكان الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على الأخرى ثم تضرب به على الوجه، والغلام كان يأخذ الماء من الآنية يضرب به وجهه، وكانت الجارية تصب على باطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، وكانت الجارية تصب الماء صبا، وكان الغلام يحدر على يده حدرا، فميز بينهن بذلك ثم رد سليمان عليه السلام الهدية.

قال آخر: وذكروا في تفسير قوله تعالى حكاية على لسان سليمان عليه السلام: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [النمل: 37] الكثير من الأخبار المسيئة لسليمان عليه السلام، والقيم العظيمة التي جاء بها.

قال آخر (2): ومن ذلك ما رووه عن وهب وغيره من اليهود الذين أسلموا أنه لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان عليه السلام قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك،

__________

(1) تفسير الثعلبي (20/ 253)

(2) تفسير الثعلبي (20/ 256)

القرآن.. وانتحال المبطلين (1/284)

وما لنا به من طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئا، فبعثت إلى سليمان عليه السلام إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من سبعة قصور لها، ثم أغلقت دونه الأبواب، ووكلت به حراسا يحفظونه، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك وسرير ملكي فلا يخلص إليه أحد ولا يرينه حتى آتيك، ثم أمرت مناديا فنادى في أهل مملكتها يؤذنونهم بالرحيل، وشخصت إلى سليمان عليه السلام في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل ألوف كثيرة.

قال آخر (1): ثم ذكروا أن سليمان عليه السلام كان رجلا مهيبا لا يُبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فخرج يوما فجلس على سرير ملكه فرأى رهجا قريبا منه فقال: ما هذه؟ قالوا: بلقيس يا رسول الله، قال: وقد نزلت منا بهذا المكان؟

قال آخر: وهكذا اخترعوا الكثير من الخرافات عند تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿قال ياأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين﴾، ومن ذلك قول بعضهم، وهم أكثر شيوخنا: أن سليمان عليه السلام علم أنها إن أسلمت حرم عليه مالها، فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها.. وقال آخر: لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد فأحب أن يراه.. وقال آخر: أراد أن يختبر عقلها فيأمر بتنكيره وتغييره لينظر هل تثبته إذا رأته أم تنكره؟ (2).

قال آخر (3): وقالوا في تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ

__________

(1) رواه الطبري في جامع البيان عن وهب بن منبه 19/ 154، وفي تاريخ الرسل والملوك 1/ 290 مطولا، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم 9/ 288