×

الكتاب:القرآن .. وتحريف الغالين ج1

الوصف: رواية حول الدعوة للتعامل المقاصدي مع القرآن الكريم

السلسلة: التنزيل والتأويل

المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية، 1443 هـ

عدد الصفحات: 672

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-4-72145-3

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

هذا الكتاب هو الجزء الأول من أجزاء ثلاثة من هذه السلسلة تحاول أن تصحح الأخطاء الكبرى التي وقعت أثناء التعامل مع القرآن الكريم، وهي التي أشار إليها الحديث المعروف المشهور، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)

وبناء على هذا؛ فإن هذا الجزء يعالج المبالغات والغلو الذي ارتبط ببعض العلوم القرآنية، أو الفهوم المتعلقة به، والتي صرفت عن التدبر الحقيقي للقرآن الكريم، وجعلت من أولئك الغلاة، مثل الذي يهتم بالقشر أكثر من اللباب، وبالأجزاء أكثر من الكل.

ولذلك؛ فهو لا يدعو لطرح تلك العلوم أو الفهوم طرحا كليا، وإنما يدعو إلى تصحيحها، ونفي الغلو عنها، ووضعها في محالها المناسبة، حتى لا تكون سببا يصرف عن تدبر القرآن الكريم، أو يؤثر في فاعليته في الواقع.

وقد رأينا أنه يمكن انحصار تلك المبالغات في سبعة قضايا وعلوم كبرى، هي: الرسم والإملاء .. والتجويد والقراءات .. وأسباب النزول .. ومحال النزول .. ومصاديق التنزيل، أو ما يطلق عليه [الجري والتطبيق] .. والناسخ والمنسوخ .. وعقبات التأويل، وقد تناولنا فيه سبع عقبات كبرى، هي: عقبة الفضول، وعقبة الخرافة، وعقبة الوهم، وعقبة المحدودية، وعقبة الحرفية، وعقبة الأهواء، وعقبة الدجل.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/5)

كالطرف الأول مؤمنين صادقين ـ وإنما هم منحرفون مغرضون متبعون للباطل، ولا يستبعد أن يكون منهم من يكون صاحب نية سيئة، ولا يبعد أيضا أن يكون منهم الضالون الذين اشتبهت عليهم الأمور؛ فتوهموا الباطل حقا، والضلال هداية .. وقد خصصنا الجزء الرابع من هذه السلسلة للرد والتصحيح المرتبط بهؤلاء.

وأما الثالث؛ فهو التأويل الزائغ عن الحق، وأهله هم الجهلة الذين لا يفرقون بين المحكم والمتشابه، ولا يرجعون للراسخين في العلم منهم، ولذلك انحرف فهمهم عن المعاني القرآنية إلى أضدادها .. وقد خصصنا الجزء الخامس من هذه السلسلة للرد والتصحيح المرتبط بهؤلاء.

وبناء على هذا؛ فإن هذا الجزء يعالج المبالغات والغلو الذي ارتبط ببعض العلوم القرآنية، أو الفهوم المتعلقة به، والتي صرفت عن التدبر الحقيقي للقرآن الكريم، وجعلت من أولئك الغلاة، مثل الذي يهتم بالقشر أكثر من اللباب، وبالأجزاء أكثر من الكل.

ولذلك؛ فهو لا يدعو لطرح تلك العلوم أو الفهوم طرحا كليا، وإنما يدعو إلى تصحيحها، ونفي الغلو عنها، ووضعها في محالها المناسبة، حتى لا تكون سببا يصرف عن تدبر القرآن الكريم، أو يؤثر في فاعليته في الواقع.

وقد رأينا أنه يمكن انحصار تلك المبالغات في سبعة قضايا وعلوم كبرى، وضعنا كل قضية أو علم منها في فصل خاص، سنشرحها هنا، ونشرح معها الجانب الروائي من الكتاب، والذي يهدف إلى التبسيط والتيسير والاستيعاب.

الجانب العلمي من الكتاب

القرآن.. وتحريف الغالين (1/6)

قسمنا الكتاب من خلال القضايا الكبرى المطروحة فيه إلى سبعة فصول، وهي:

أولا ـ القرآن .. ورسم التنزيل: وقد تناولنا فيه الاهتمام المبالغ فيه بما يطلق عليه [الرسم العثماني]، واعتباره موقوفا، لا يجوز الاجتهاد فيه، وبينا أن ذلك الرسم مرتبط فقط بتلك البيئة التي لم تنضج فيه الكتابة العربية بعد، ولذلك لا علاقة له بالقرآن الكريم، ويمكن كتابة المصاحف بالرسم الإملائي العادي الذي ييسر لعامة الناس قراءة القرآن الكريم من دون حاجة لمن يصحح لهم، مع إمكانية الاحتفاظ بمصاحف كتبت بالرسم العثماني لتكون في متناول الخاصة من الناس لا عامتهم.

ثانيا ـ القرآن .. وقراءات التنزيل: وقد تناولنا فيه الاهتمام المبالغ فيه بعلمين أصبحا عند كثير من الناس حجابا دون تدبر القرآن الكريم، وهما [علم التجويد] و [علم القراءات]، وبينا أن أكثر تلك الاهتمامات من التكلف والغلو الذي لا علاقة له بالقرآن الكريم، والذي جعله الله تعالى يسيرا سهلا لكل قارئ، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 22]

ثالثا ـ القرآن .. وأسباب النزول: وقد تناولنا فيه الاهتمام المبالغ فيه بأسباب النزول إلى الدرجة التي تحول فيها القرآن الكريم إلى وثيقة تاريخية لا علاقة لها بالحياة، وقد بينا من خلال استعراض أسباب النزول كيفية التعامل الصحيح معها.

رابعا ـ القرآن .. ومحال النزول: وقد تناولنا فيه الاهتمام المبالغ فيه بما يطلق عليه [المكي والمدني]، وبينا كيفية الاستثمار الصحيح لها.

خامسا ـ القرآن .. ومصاديق التنزيل: وقد تناولنا فيه خصوصا ما يطلق عليه [الجري

القرآن.. وتحريف الغالين (1/7)

والتطبيق]، وخصوصا في تطبيقاته الخاطئة التي قام بها غلاة الشيعة الذين حملوا كل آيات القرآن الكريم على أئمة الهدى، من غير مراعاة أي مناسبة تدعو إلى ذلك .. وقد بينا فيه أقوال العلماء العدول من الشيعة في الرد على تلك المبالغات، سواء من خلال نقد أسانيدها، أو من خلال بيان تفسيراتهم لتلك الآيات.

سادسا ـ القرآن .. وتعطيل التنزيل: وقد تناولنا فيه بتفصيل شديد ما يطلق عليه [الناسخ والمنسوخ]، وبينا أنه ـ بأنواعه جميعا ـ معارض لتفعيل القرآن الكريم في الواقع، ثم استعرضنا كل الآيات التي قيل بنسخها، وبينا إمكانية الاستفادة منها، وتفعيلها فيما نزلت من أجله.

سابعا ـ القرآن .. وعقبات التأويل: وقد تناولنا فيه العقبات الكبرى التي وقع فيها المفسرون، وقد رأينا أنها سبعة عقبات، ذكرنا نماذج عن كل واحدة منها، لأننا سنستعرض تفاصيلها في سائر الأجزاء، وهي:

1 ـ عقبة الفضول: ونقصد بها التكلف في البحث عن القضايا والأخبار التي لم يرد في القرآن الكريم تفصيلها، ولم تكن هناك حاجة تدعو إلى ذلك.

2 ـ عقبة الخرافة: ونقصد بها الخرافات التي ألصقت بالقرآن الكريم، وجعلته يتعارض مع العقل أو العلم.

3 ـ عقبة الوهم: ونقصد بها تلك الأوهام التي تسربت خصوصا إلى التفاسير الباطنية؛ فجعلت للكشف والإلهام دورا في تفسير القرآن الكريم من غير أي دليل أو حجة.

4 ـ عقبة المحدودية: ونقصد بها ما تعلق به المتأثرون بالتفسير المأثور من قصر فهم القرآن الكريم على سلف الأمة دون خلفها.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/8)

5 ـ عقبة الحرفية: ونقصد بها ما نشأ عن التعلق بالظواهر القرآنية، من انحرافات ترتبط بالتجسيم والتشبيه ونحوها.

6 ـ عقبة الأهواء: ونقصد بها تلك التفاسير التي انطلق فيها أصحابها من تعصبهم لطوائفهم؛ فجعلوه متحكما في القرآن الكريم، وحاكما عليه.

7 ـ عقبة الدجل: ونقصد بها ربط القرآن الكريم بالشعوذة والدجل، كنوع من الاستغلال الخاطئ لما ورد فيه من البركات وتحقيق الشفاء ونحوهما.

الجانب الروائي من الكتاب

تبدأ الرواية من زيارة معلم القصد والاعتدل لتلميذ القرآن الكريم، ليدعوه للرحيل إلى بلدة الغالين، للمساهمة معه في الدعوة للاعتدال والوسطية والتعامل المقاصدي مع القرآن الكريم.

وعندما ذهب تلميذ القرآن الكريم للبلدة تفاجأ باهتمامها الكبير بالقرآن الكريم، في نفس الوقت الذي لم تظهر عليهم آثاره العملية، لا في حياتهم، ولا في سلوكهم، ثم يكتشف أن سبب ذلك هو غلوهم في بعض قضاياه أو علومه عن التدبر والتأثر والانفعال.

وأول تلك المحال التي رأى مبالغة أهل تلك المدينة فيها، هي الرسم والإملاء القرآني، وقد سمع منهم وجوه المبالغة فيه، وأسبابها، لكن تدخل المعلم، وطريقته الحكيمة في التعامل مع تلك القضية، جعلتهم يميلون إليه، ويقبلون قوله في كتابة المصاحف وتعليم القرآن الكريم بالإملاء العادي .. وقد كان ذلك أول توجيه وتصحيح لأهل تلك المدينة، جعلهم يثقون في المعلم، والذي استطاع بطريقته الخاصة أن يؤثر فيهم، ويجعلهم يقبلون

القرآن.. وتحريف الغالين (1/9)

كل ما يطلبه منهم.

وهكذا، انتقل إلى المهتمين بالقراءات والتجويد، وصحح لهم ما يقعون فيه من مبالغات، ودعاهم إلى ما ورد في القرآن الكريم من اليسر والسهولة.

ثم انتقل إلى المبالغين في أسباب النزول، وصحح لهم كيفية التعامل معها، وبين لهم من خلال تعليقه على أسباب النزول التي يوردونها كيفية التعامل الصحيح معها ومع الآيات المرتبطة بها.

وهكذا سرت تعاليم المعلم في الذين يبالغون في محال النزول، وعلم المكي والمدني؛ فصاروا يبحثون في أسرارها وكيفية الاستفادة منها.

وهكذا استطاع أن يصل إلى القضاء، ويدعو إلى محاكمة متهمين معطلة أحكامهم، بتهمة التفسير الباطني للقرآن الكريم والقول بتحريفه، وقد كانت المحاكمة فرصة لأولئك الفتية ليدافعوا عن أنفسهم، ويبينوا أن ما نسب لهم غير صحيح، بل هو من فعل الغلاة الذين يتبرؤون منهم، وقد كان ذلك فرصة لتحقيق الوحدة والتآلف بين أهل المدينة.

وبفعل كل تلك التغييرات الطارئة على المدينة بسبب توجيهات المعلم خرج أحفاد قتادة، وهو من ينسب إليه أول كتاب في الناسخ والمنسوخ، ليتبرؤوا من مقولات جدهم، ويجيبوا عن كل الأسئلة التي طرحت عليهم، والتي من خلال أجوبتهم لها، بينوا أن القرآن الكريم كله محكم لا تعطيل في أي كلمة من كلماته، أو آية من آياته.

وبعد أن حصل كل ذلك قرر أهل المدينة، وبإشراف المعلم، القيام بمراجعة شاملة للتفاسير القرآنية، ليميز ما فيها من غلو وتحريف وانحراف.

وفي آخر الرحلة، وببركات ذلك كله تحولت المدينة إلى مدينة قرآنية حقيقية، تحاول

القرآن.. وتحريف الغالين (1/10)

أن تتدبر القرآن الكريم، وتعيش معانيه، بعيدا عن الغلو والتحريف.

وقد حاولنا في هذا الجانب أن نطرح كل القضايا بسهولة ويسر واستيعاب، ولذلك كثر المتحدثون في الرواية، سواء من الغلاة المنحرفين، أو من غيرهم.

وننبه في الأخير إلى أن التوثيقات الواردة قبل ذكر القول، تبين مصدر الكلام المطروح، لكن ليس بالضرورة أن يكون نفس الكلام موجودا في المصدر، لأني أتصرف فيه بحسب المقام، وأحيانا يكون لصاحب الكتاب غرض مختلف تماما، لكني أصححه في النص، بخلاف النصوص التي تكون في ثنايا الكلام، أو بين قوسين، فهي منقولة بدقة وأمانة.

وذلك لأن هذه السلسلة وغيرها من السلاسل تهدف إلى التقريب والوحدة بين المسلمين، ولذلك أحذف كل ما يسيء إلى تلك الوحدة، ومثلها ما قد يصرف القارئ عن المقصد من الكتاب.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/11)

البداية

بعد أن طلب مني معلمي معلم القرآن الاستعداد للسفر للرحلة الخاصة بتعلم ما يتعلق بـ[القرآن .. وتحريف الغالين] رحت أبحث في كل الكتب التي تتحدث عن الغلو، وأسبابه، وكيف واجه القرآن الكريم هذه الظاهرة الخطيرة التي تنتشر في كل المجتمعات، وبين أهل كل الأديان.

وحين قرأت كل ذلك، عرفت سر قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، وكيف اعتبر الغلو سببا لاتباع الأهواء .. ثم سببا لكل أنواع الضلالة.

ما إن عرفت ذلك، حتى رأيت رجلا لا يختلف عن كل المعلمين الذين رأيتهم؛ ففرحت كثيرا، وقلت مخاطبا له: من أنت من المعلمين؟

قال: أنا معلم القصد والاعتدال.

قلت: إذن أنت الذي سأرحل معه إلى [القرآن .. وتحريف الغالين]

قال: أجل .. فقد كلفني معلمي معلم القرآن بذلك .. وأنا طوع أمره .. فعليك أن تكون طوع أمري، حتى لا يحصل لك ما حصل لموسى عليه السلام مع الخضر.

قلت: لا تخف .. {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69]

قال: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70]

قلت: لك ذلك .. فقد علمني معلمي معلم السلام أن أكون لينا سهلا متسامحا.

قال: وشديدا في ذات الله .. فنحن سنقوم برحلة تقتضي منا بعض الشدة، أو الكثير

القرآن.. وتحريف الغالين (1/12)

منها.

قلت: أنحن ذاهبون إلى بلاد الكفار .. فقد وصف الله المؤمنين بالشدة على الكفار، فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29]

قال: لا .. نحن ذاهبون إلى بلاد المؤمنين .. ولكنهم خلطوا إيمانهم بما يشوهه، حتى صاروا وسيلة يتذرع بها الكفار لكفرهم.

قلت: فما تريد أن نفعل لهم؟

قال: ننصحهم بكل لين ورأفة .. وبكل قوة وشدة حتى يرتدعوا.

قلت: وعيت اللين والرأفة لكني لم أع القوة والشدة.

قال: القوة في الحق .. والشدة في تبليغه، حتى لا تأخذنا في الحق لومة لائم.

قلت: فهمت .. كنت أتوهم أن الشدة عنف وبطش.

قال: معاذ الله .. فنحن ليس لدينا سوى سلاح الكلمة وأنوارها .. الكلمة القوية الشديدة التي لا تداري ولا تماري.

قلت: فلأي بلاد المؤمنين تريد أن نسير لنؤدي واجبنا في الأمر والنهي والنصح والإرشاد.

قال: إلى مدينة أساءت فهم القرآن الكريم، فزاحمته بعلوم كثيرة، فيها ما يجدي، وفيها ما لا يجدي، وفيها النافع، وفيها الضار .. ونحن سنسير إليها لنؤدي واجبنا في نصحها .. لعلهم يعقلون ويهتدون.

قلت: فهل تريد مني أن أشاركك في التوجيه والنصح؟

قال: أجل .. لقد طلب مني معلمنا معلم القرآن ذلك .. فلك أن تشارك لكن بعد أن

القرآن.. وتحريف الغالين (1/13)

ترى مني ما يدل على إذني لك .. حتى لا نخرب ما نريد بناءه.

قلت: لقد تعودت من كل المعلمين أن أعرف مسار رحلتي قبل البدء بها.

قال: سنسير إلى سبعة محال كبرى.

قلت: فما أولها؟

قال: أولها المحل الذي نوجه فيه أولئك الذين غالوا في كتابة القرآن الكريم ورسمه حتى توهموا أنه لابد أن يكتب بما كتبه به الأولون، حتى لو خالف كل أعراف الكتابة وقوانينها، وحتى لو أدى لأن يقرأه عامة الناس على خلاف ما أنزل.

قلت: أعرف هؤلاء جيدا، وأعرف غلوهم ومبالغاتهم، والتي جعلتهم يتوهمون أن جبريل عليه السلام نزل بالقرآن الكريم بنفس تلك الكتابة التي يكتبونه بها .. فما المحل الثاني؟

قال: أولئك الذين غالوا وبالغوا فيما يطلقون عليه [علم التجويد] و [علم القراءات]، فجعلوه عسير المنال، صعب النطق، خلافا لما أنزل الله تعالى به كتابه، فقد قال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 22]

قلت: أعرف هؤلاء كذلك، ومبالغاتهم وغلوهم .. فما الثالث؟

قال: أولئك الذين بالغوا في أسباب النزول إلى الدرجة التي تحول فيها القرآن الكريم عندهم إلى وثيقة تاريخية ترتبط كل آية منها بشخص أو حدث.

قلت: فما الرابع؟

قال: أولئك الذين بالغوا في محال النزول إلى الدرجة التي توهموا فيها أن القرآن

القرآن.. وتحريف الغالين (1/14)

الكريم لا يمكن تدبره من دون معرفتها.

قلت: فما الخامس؟

قال: أولئك الذين بالغوا في مصاديق التنزيل، وغالوا فيها إلى أن ألغوا كل المعاني القرآنية من أجلها.

قلت: فما السادس؟

قال: أولئك الذين توهموا أن بعض القرآن الكريم معطل، وأن الغرض منه ليس سوى تلاوته والتبرك به دون الاستفادة منه أو تفعيله في الحياة.

قلت: فما السابع؟

قال: أولئك الذين انحرفوا بالتأويل عن مساره الذي رسمه الله تعالى؛ فخلطوا المدنس بالمقدس، وحولوا من تفاسير القرآن الكريم إلى كتب خرافة ودجل وفضول وتكلف.

قلت: فهل سنسير الآن إلى تلك البلاد؟

قال: ستسير أنت .. أما أنا فلا أحتاج إلى السير.

قلت: ولكني قد أضيع عنك .. أو تضيع عني .. فكيف نلتقي؟

قال: سر فقط .. وستراني في كل محل تحتاج أن تراني فيه .. وإياك أن تتصرف من غير استئذان حتى لا يساء إليك.

قلت: أهناك عنف في تلك المحال؟

قال: وشديد .. أنسيت أنك سترحل إلى بلاد الغلاة؟

قلت: أفيهم إرهابيون؟

القرآن.. وتحريف الغالين (1/15)

قال: هم ليسوا إرهابيين .. ولكن أكثر الإرهابيين أو جلهم أو كلهم تخرجوا من مدارسهم.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/16)

أولا ـ القرآن .. ورسم التنزيل

فجأة لاحت لي مدينة جميلة، يبدو عليها النظافة والنظام والهدوء التام، لكني ما إن اقتربت منها حتى بدأت أغير نظري إلى الصورة التي كنت أحملها عنها .. وأول ذلك تلك الحفر الكثيرة التي كانت تملأ الطرقات، والتي جعلتني أقع كل حين على وجهي، مع أنه كان في الإمكان لمن بنى تلك المدينة الجميلة أن يسدها، ومن غير تكلفة، لكنه لم يفعل، وربما عمدا، ولست أدري السبب.

لا تظنوا أني قلت ذلك حدسا، أو شقا على القلوب، فمعاذ الله أن أفعل ذلك .. ولكني رأيت أن تلك الحفر، وكأنهم قصدوها، بل إنه صرفوا عليها ـ على ما يبدو ـ أموالا أكثر من الأموال التي صرفوها على الطريق المعبد، ذلك أنها كانت حفرا معبدة، وبأشكال مختلفة، ولم تكن مجرد حفر عادية.

وهكذا في كل المحال التي دخلت إليها؛ فعندما دخلت بعض المطاعم قدم لي طعاما لذيذا .. لكني ما إن قربته من فمي حتى شممت رائحة كريهة، جعلتني أنفر منه، ولم أستطع أن أسأل صاحب المطعم عن تلك الرائحة الكريهة، خشية أن أؤذيه، لكني تعجبت عندما رأيت الداخلين، يستلذون تلك الرائحة، بل يطلبون من صاحب المطعم أن يضيف لطعامهم بعض ما يجعلهم يشمونها.

اتهمت نفسي وأنفي وذوقي، ورحت آكل الطعام، فإذا باللذة والغصة تكتنف كل لقمة؛ فلم أجد إلا أن أطرحه، وأخرج من المطعم، وأدفع ثمنا غاليا من غير أن أستلذ لقمة واحدة.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/17)

وهكذا عندما شربت من العين التي كتب عليها قوله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27]، فاستبشرت، لكن ما إن شربت منها حتى وجدت ماءها مكدرا، لا يختلف عن كدورة الطعام الذي طعمته في شيء.

وهكذا في كل المحال التي سرت إليها، وهو ما جعلني أتعجب منها، وخاصة عندما رأيت كل لافتاتها مزينة بالآيات القرآنية المرسومة بالرسم القرآني لا الإملائي .. وكل أهلها يتكلمون بالقرآن وعن القرآن .. وهذا ما سرب إلي الريب والشك الذي كنت أسمعه من العلمانيين والحداثيين والملاحدة وغيرهم، وقلت في نفسي: كيف يمكن أن تكون هناك مدينة لا تتغنى إلا بالقرآن، ثم يكون حالها هذا الحال، ألم يسمعوا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]؟

ما قلت هذا في نفسي من غير أن أتفوه بحرف واحد، حتى قال لي بعضهم، وهو يربت على كتفي: أتقن قراءة الآية أولا، ثم استدل بها .. أين الغنات والمدود .. فكيف بلعتها جميعا في نفسك؟ .. هل ترى من حرمة القرآن الكريم أن يُقرأ كما يقرأ سائر الكلام؟

قلت: من أنت؟ .. وكيف عرفت ما جال بخاطري؟

قال: نحن أهل هذه المدينة القرآنية وهبنا الله ـ لصدقنا وصفائنا وإخلاصنا للقرآن الكريم ـ قراءة الخواطر، والتفرس في الوجوه .. فلذلك احذر أن يخطر على بالك في هذه المدينة ما قد تعاقب عليه.

قلت: إن مدينتكم غريبة .. ما اسمها .. فأنا لم أقرأ في التاريخ والجغرافية عن مدينة تشبهها؟

القرآن.. وتحريف الغالين (1/18)

قال: هذه مدينة الغالين ..

قلت: أهي تلك التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)(1)

قال: لا .. ومعاذ الله أن تكون مدينة كذلك .. بل هي مدينة الغالين .. من الغلاء، وليس من الغلو .. فانتبه لما تقول، واحذر أن تخلط بين عقلك والدين .. فالدين مصدره الوحي، والعقل مصدره الهوى.

قلت: أجل .. صحيح .. وشكرا جزيلا .. بالفعل مدينتكم كذلك، وكيف لا تكون كذلك، وهي مملوءة باللافتات القرآنية .. لكن تمنيت لو أنكم كتبتموها بالرسم الإملائي العادي ليفهمها سائر الناس .. فقل من يتقن الرسم القرآني.

أشرت إلى لافتة كتب عليها قوله تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وقلت: انظر إلى تلك اللافتة التي كتبت هكذا {إنّه لا يايئس}، فالكثير قد يخطئ في قراءتها.

قال: هل تريد منا أن نبدلها إذن بالرسم الإملائي العادي؟

قلت: أجل .. إن لم يكن هناك مانع .. فالرسم مجرد اصطلاح، والعبرة بالقراءة الصحيحة.

ما إن قلت هذا حتى أخذ بتلابيبي، ثم صار يبطش بي بشدة، فقلت: ما الذي حصل؟ .. ما الذي فعلته لك حتى تؤذيني هكذا؟ .. هذا مجرد رأي .. وليس عليكم أن تعملوا به.

__________

(1)  معاني الأخبار/33.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/19)

قال: أنا لم أبطش بك، وإنما بطشت بالشيطان الذي تكلم على لسانك .. اذهب، ولا تعد إلى هنا، فلو رأيتك مرة أخرى، سيكون لي معك شأن آخر.

ما إن أطلقني حتى أسرعت مهرولا مبتعدا عنه، خشية أن يدور بخاطري ما يجعله يستبيح دمي ..

وفي أثناء فراري أمسك بي أحدهم، وهو يقول: أرجو ألا تكون لصا .. وإلا فسأحملك إلى قاض يقطع يدك من غير حاجة لبينة؛ فيكفي أن أشهد له بذلك.

امتلأ قلبي خوفا، وخشيت على يدي التي لا أملك غيرها .. فقلت مترجيا: لا .. لا .. معاذ الله أن أكون كذلك .. أنا كاتب فقط .. دوري في الحياة هو الكتابة .. فلذلك لا أهتم لا بمال ولا بجاه .. والكاتب لا يحتاج سوى للأقلام والقراطيس، وهو في غنى عن كل أموال الدنيا .. ولذلك لا حاجة له للسرقة وغيرها.

قال بكل شدة وقوة: كاتب .. ما أكثر كتاب السوء .. بل إن بعضهم أو أكثرهم أحوج إلى حد الردة منه إلى حد السرقة.

ازداد خوفي، وقلت: مهلا سيدي .. فأنا كاتب عند معلم القرآن .. وإن شئت فتشني، فإن وجدت في كتابتي أي هرطقة أو زندقة أو ضلالة؛ فلك أن تأخذني للقاضي الذي تشاء.

1 ـ التحريف والغلو

عندما قلت له هذا، انقلب رأسا على عقب؛ حيث أخذ يدي، وراح يقبلها، ويعتذر بشدة .. وهو يقول: أعتذر لك .. ما كنت أظن أنك من المهتمين بالرسم والإملاء القرآني .. هلم معي؛ فأنا أيضا أعمل في تلك المدرسة التي لا هم لها سوى الدعوة للرسم القرآني، بل

القرآن.. وتحريف الغالين (1/20)

بيان إعجازه وعظمته، وهي تقف بشدة في وجه أولئك المحرفين الذين يهونون من شأنه.

لم أدر، إلا وأنا أدخل تلك المدرسة التي وصفها .. ولست أدري هل كان ذلك بسبب اعتذاره وأدبه .. أم خوفا من أن يعود من جديد لشدته وقسوته.

عندما دخلت وجدت حلقة مجتمعة .. وكانوا يتحدثون بأدب وهدوء ولطف .. مما أغراني بالجلوس إليهم .. لكني كنت أمسك بلساني أن يزل بأي كلمة قد تودي بي إلى ما لا تحمد عقباه .. بل إني لورعي وحيطتي كنت أصرف كل خواطر السوء عن ذهني، حتى لا يقرأ فيه ما قد يؤذيني.

قال أحد الجالسين في الحلقة (1): اسمعوني أيها الكتبة الكرام البررة .. إن القرآن الكريم ليس أمرا ونهيا فقط .. أو كلمات ومعاني فقط .. بل هو رسم أيضاً .. والمقصود بالرسم القرآني هو رسم الكلمات القرآنية من حيث نوعية حروف كل كلمة وردت في القرآن الكريم، وعدد حروفها .. وليس المقصود منه ـ كما يفهم المغفلون ـ نوعية خط الكتابة من نسخ أوكوفي أوغيرها.

قال آخر (2): ولهذا أجمع علماء الأمة على أن رسم المصحف توقيفي، لا يجوز مخالفته؛ واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 1 ـ 5]

أردت أن أتكلم، وأذكر خطأ هذا، وأنه لم ينعقد في يوم من الأيام الإجماع على هذا، لكني خشيت على نفسي؛ فآثرت الصمت على الكلام .. لكن الجميع التفتوا لي، وكأنهم

__________

(1)  تأملات في إعجاز الرسم القرآني وإعجاز التلاوة والبيان، محمد شملول، ص 15.

(2)  تأملات في إعجاز الرسم القرآني، ص 17.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/21)

أحسوا بما قلت؛ فلذلك رحت أرفع صوتي بالاستغفار حتى صرفوا أبصارهم عني.

قال آخر: فقد سُئل مالك: أرأيت من استكتب مصحفاً اليوم أترى أن يُكتب على ما أحدثه الناس من الهجاء اليوم، قال: (لا أرى ذلك ولكن يُكتب على الكِتْبة الأولى)، قال أبوعمروالدَّاني: (ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة)(1) .. وقال في موضع آخر: سُئل الإمام مالك عن الحروف تكون في القرآن مثل الواووالألف: أترى أن تُغير من المصحف إذا وجدت فيه كذلك؟ فقال: لا. قال الدَّاني: (يعني الواووالألف المزيدتين في الرسم لمعنى المعدومتين في اللفظ)(2) .. وعقّب السَّخاوي على قول مالك فقال: (والذي ذهب إليه مالك هوالحق، إذ فيه بقاء الحال الأولى إلى أن يعلمها الآخر، وفي خلاف ذلك تجهيل الناس بأوليتهم)(3)

قال آخر: وهومذهب الأئمة الأربعة، فقد قال الجَعْبَري معقباً على قول الإمام مالك: (وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وخص مالكاً؛ لأنه حكى فتياه، ومستندهم مستند الخلفاء الأربع)(4) .. وقال مُلاَّ علي بن سلطان القاري: والمعنى أن الإمام مالكاً قال: (إن المصحف ينبغي أن يُكتب على منهاج رسم الكتاب الأول الذي كتبه الصحابة، لا حال كون مستحدثاً على مسطور اليوم عند العامة)(5)

قال آخر: وهذا ما نص عليه كل المتقدمين، فقد قال الفرَّاء: (اتباع المصحف إذا وجدت له وجهاً من كلام العرب، وقراءة القراء، أحب إليَّ من خلافه)(6) .. وقال البيهقي: (من كتب مصحفاً فينبغي له أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف

__________

(1)  المقنع/9.

(2)  المقنع/28.

(3)  الوسيلة/80.

(4)  جميلة أرباب المراصد 1/ 265 ـ 266.

(5)  الهبات السنية العلية على أبيات الشاطبية الرائية 1/ 294.

(6)  انظر البرهان 2/ 12.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/22)

ولا يخالفهم فيها، ولا يُغير مما كتبوه شيئاً، فإنهم كانوا أكثر علماً، وأصدق قلباً ولساناً، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي لنا أن نظن بأنفسنا استدراكاً عليهم، ولا سقطاً لهم)(1) ..

قال آخر: وقال النسائي في السنن الكبرى بعد أن نقل قول زيد بن ثابت: (القراءة سنة): (وإنما أراد والله أعلم أن اتباع من قبلنا في الحروف وفي القراءات سنة متبعة لا يجوز مخالفة المصحف الذي هو إمام ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة، وإن كان غير ذلك سائغاً في اللغة أوأظهر منها)(2).

قال آخر: وقال الإمام أحمد: (تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في ياء أوواوأوألف أوغير ذلك)(3) .. ونُقل عن أبي عبيد القاسم بن سلام قوله: (وترى القراء لم يلتفتوا إلى مذاهب العربية في القراءة إذا خالف ذلك خط المصحف، ورأوا تتبع حروف المصاحف عندهم كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها)(4).

قال آخر: وقال المَهْدوي: (ولا يسع أحداً اكتتاب مصحف على خلاف خط المصحف الإمام ورتبته)(5) .. وقال البَغَوي: (ثم إن الناس كما أنهم متعبّدون باتباع أحكام القرآن، وحفظ حدوده، فهم متعبدون بتلاوته، وحفظ حروفه على سنن خط المصحف الإمام الذي اتفقت عليه الصحابة)(6).

قال آخر: وعلى هذا اتفق المتأخرون، فقد قال الزمخشري: (خط المصحف سنة لا تغير)(7) .. وقال اللبيب في شرح العقيلة: (وقد اجتمع على كتب المصاحف حين كتبت

__________

(1)  شعب الإيمان 2/ 548.

(2)  السنن الكبرى، 2/ 539، ولمزيد من الأقوال انظر إيقاظ الأعلام/19، وسمير الطالبين/20، ومناهل العرفان 1/ 298.

(3)  البرهان 1/ 379، والإتقان 2/ 443، وشرح منتهى الإرادات: للبهوتي 1/ 74، وكشاف القناع: له 1/ 136.

(4)  انظر شعب الإيمان 2/ 548، والبرهان 2/ 15.

(5)  هجاء مصاحف الأمصار/135.

(6)  معالم التنزيل 1/ 37.

(7)  الكشاف 3/ 270.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/23)

اثناعشر ألفاً من الصحابة ونحن مأجورون على اتباعهم ومأثمون على مخالفتهم)، ثم نص بعد ذلك على وجوب التزام الرسم العثماني (1).

قال آخر: وقال ابن الحاج في المدخل: (ويتعين عليه ـ أي ناسخ المصحف ـ أن يترك ما أحدثه بعض الناس في هذا الزمان وهوأن ينسخ الختمة على غير مرسوم المصحف الذي اجتمعت عليه الأمة على ما وجد به بخط عثمان بن عفان .. ولا يجوز غير ذلك)(2).

قال آخر: وقال السَّمرْقَندي: (وعلمتُ أن الكتابة منقولة كما أن القراءة منقولة، فكما لا يجوز لأحد أن يُغير ما نُقل عن الأئمة السبعة في قراءةٍ كذلك لا ينبغي أن يتجاوز عن الرسم في كتابة المصحف؛ لأنها سنة متبعة ومخالفتها بدعة، وإنما جُعل الإمام إماماً ليؤتم به)(3)

قال آخر: وقال نظام الدين النيسابوري: (وقال جماعة من الأئمة: إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف)(4).

قال آخر: ونقل الوَنْشَريسي المالكي في المعيار المعرَّب أنه: (لا يجوز لهم أن يقرؤوا قراءة تخالف صور الخط، ولا أن يكتبوا كتابة مخالفة للرسوم التي وضعها الصحابة في المصاحف المجمع عليها، فالمكتوب متواتر بتواتر نقل دليله المتحد، والمقرُوء هوالمكتوب بعينه)(5)

قال آخر: وقال الخوارزمي: (اعلم أن اتباع مصحف عثمان في هجائه واجب ومن طعن في شيء من إيجابه؛ فهوكالطاعن في تلاوته)، ثم قال مستدلاً على ذلك: (أما خطه

__________

(1)  الدرة الصقيلة، 17.

(2)  المدخل 4/ 86.

(3)  انظر مجلة المورد. مج 15. ع 4 (1986 م) /419.

(4)  غرائب القرآن ورغائب الفرقان 1/ 43.

(5)  المعيار المعرب 12/ 150.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/24)

ورسمه فالدليل عليه قول الصحابي وهوحجة فكيف إجماع الصحابة زمن عثمان، وإجماع التابعين من بعدهم، وإجماع القراء والفقهاء، وجملة المفسرين)(1).

قال آخر: وقال عبد الرحمن بن القاضي: (اعلم ـ رحمنا الله وإياك ـ أن متابعة مرسوم الإمام أمر واجب محتم على الأنام كما نص عليه الأئمة الأعلام، فمن حاد عنه فقد خالف الإجماع ومن خالفه فحكمه معلوم في الشرع الشريف بلا نزاع)(2)

قال آخر: وعلى هذا اتفق المتأخرون .. فقد بحث مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في المؤتمر السادس المنعقد في الفترة من (30 محرم 1391 هـ إلى 5 صفر 1391 هـ) موضوع رسم المصاحف العثمانية، وأوصى بأن يعتمد المسلمون على الرسم العثماني للمصحف الشريف؛ حفظاً له من التحريف (3).

قال آخر: ومثل ذلك أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية القرار رقم (71) بتاريخ 21/ 10/1399 هـ، وجاء فيه: (يرى مجلس هيئة كبار العلماء أن يبقى رسم المصحف على ما كان بالرسم العثماني، ولا ينبغي تغييره ليوافق قواعد الإملاء الحديثة؛ محافظة على كتاب الله من التحريف، واتباعاً لما كان عليه الصحابة وأئمة السلف) .. وفيه: (فالمحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم هوالمتعين، اقتداءً بعثمان وعلي وسائر الصحابة وعملاً بإجماعهم)(4).

قال آخر: ومثل ذلك أصدر المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في دورته السابعة المنعقدة عام 1404 هـ تأييد ما جاء في قرار مجلس هيئة كبار

__________

(1)  موجز كتاب التقريب في رسم المصحف العثماني/17 ـ 18.

(2)  انظر إيقاظ الأعلام/16، نقلاً عن (بيان الخلاف والتشهير والاستحسان): لعبد الرحمن القاضي ق (24)

(3)  انظر مجمع البحوث الإسلامية تاريخه وتطوره 1403 هـ/1983/ 425 ـ 426.

(4)  مجلة البحوث الإسلامية. الرياض. ع 33 (1412 هـ) /327.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/25)

العلماء في المملكة العربية السعودية بالإجماع على عدم جواز تغيير رسم المصحف العثماني ووجوب بقاء رسم المصحف على ما هوعليه؛ لنفس الأسباب (1).

قال آخر (2): لهذا اهتم العلماء بالكلام على رسم القرآن، وحصر تلك الكلمات التي جاء خطها على غير مقياس لفظها .. بل أفرده بعضهم بالتآليف النافعة من أمثال الإمام العلامة أبي عمروالداني في كتابه [المقنع] .. ومنهم العلامة أبو عباس المراكشي في كتابه [عنوان الدليل في رسوم خط التنزيل]، ومنهم العلامة الشيخ محمد بن أحمد الشهير بالمتولي، إذ نظم أرجوزة سماها [اللؤلؤ المنظوم في ذكر جملة من المرسوم]، ثم جاء العلامة الشيخ محمد خلف الحسيني ـ شيخ المقارئ بالديار المصرية ـ فشرح تلك المنظومة، وذيل الشرح بكتاب سماه [مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن]

قال أحدهم (3): وليس الأمر قاصرا على ذلك فقط، بل إن كل الأدلة تشير إلى أن الكتابة توقيفية لا اصطلاحية؛ فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كُتّاب يكتبون الوحي كلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته، مبالغة في تسجيله وتقييده، وزيادة في التوثيق والضبط والاحتياط في كتاب الله تعالى، حتى تظاهر الكتابة الحفظ، ويعاضد النقش اللفظ .. وقد كتبوا القرآن فعلا بهذا الرسم وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كتابتهم، وكان هؤلاء الكُتَّاب من خيرة الصحابة، ثم جاء من بعده؛ فكتبوا القرآن بهذا الرسم في صُحُف، ثم جاء من بعدهم من استنسخ تلك الصحف في مصاحف، وأقرَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك كله، وانتهى الأمر إلى التابعين وتابعي التابعين، فلم يُخالف أحد منهم في هذا الرسم .. ثم يأتي بعض الأغبياء من

__________

(1)  انظر مجلة المجمع الفقهي الإسلامي. ع 4 (1410 هـ) /486.

(2)  مناهل العرفان (1/ 368)

(3)  تأملات في إعجاز الرسم القرآني، ص 23.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/26)

قومنا؛ فيريدون أن يردوا ذلك كله .. أهم أعلم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم من الصحابة أم من التابعين الذين أقروا ذلك؟

قال آخر: بل إن ذلك من الأسرار التي خصّ الله بها كتابه العزيز، ولا ينتبه لها إلا العارفون المحققون من أمثال العارف بالله عبد العزيز الدباغ؛ الذي نقل عنه تلميذه العلاَّمة أحمد بن المبارك السجلماسي في كتابه (الذهب الإبريز) قوله: (رسم القرآن سرٌّ من أسرار الله المشاهدة، وكمال الرفعة، وهوصادرٌ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهوالذي أمر الكُّتاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة، فما نقصوا ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هوتوقيف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهوالذي أمرهم أن يكتبوه على هذه الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها؛ لأسرار لا تهتدي إليها العقول، وهوسر من الأسرار خصَّ الله تعالى به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، وكما أن نَظْم القرآن مُعجز، فرسمه مُعجز، وكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية، وإنما خفيت على الناس؛ لأنها أسرار باطنية لا تُدرك إلا بالفتح الربّاني؛ فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة التي في أوائل السور؛ فإن لها أسراراً عظيمة، ومعاني كثيرة، وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها، ولا يُدركون شيئاً من المعاني الإلهية التي أُشيرَ إليها، فكذلك أمرُ الرسم الذي في القُرآن حرفاً بحرف)(1)

قال آخر (2): صدقت .. فكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في مائة دون فئة، وإلى سر زيادة الياء في {بِأَيْيدٍ} من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} .. أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في {سعوا} من قوله تعالى في الحج: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ

__________

(1)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 135)

(2)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 135)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/27)

أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، وعدم زيادتها في سبأ من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ} .. وإلى سر زيادتها في قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ}، وحذفها من قوله تعالى: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} .. وإلى سر زيادتها في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}، وإسقاطها من قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ}

قال آخر (1): وكيف تهتدي إلى سر زيادتها في {آمنوا وكفروا وخرجوا}، وإسقاطها من {باؤ وجاؤ وتبوؤ وإن فاؤ}؟

قال آخر (2): أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف الألف في بعض الكلمات المتشابهة دون بعض، فحذفت {قرآنا} في يوسف والزخرف، وأثبتت في سائر المواضع؟

قال آخر: ومثله إثبات الألف بعد الواو في {سموات} فصلت وحذفها في غيرها، وإثبات {الميعاد} مطلقا وحذفه في الأنفال، وإثبات {سراجا} حيثما كان وحذفه في الفرقان، وكذا في إطلاق بعض التاءات وربطها نحو: {رحمة، ونعمة، وقرة، وشجرة}، فإنها في بعض المواضع كتبت بالتاء، وفي مواضع أخر كتبت بالهاء.

قال آخر: ومثله {الصلاة والحياة} في بعض المواضع، حيث كتبت بالواو فيهما نحو: {أَقِيمُوا الصَّلَوة} و {الْحَيَوةِ الدُّنْيَا} و {عَلَى حَيَوةٍ} .. وفي بعضها بالألف نحو: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي}، و {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}، و {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}، و {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}، إلى غير ذلك مما لا يكاد ينحصر.

__________

(1)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 136)

(2)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 136)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/28)

قال آخر (1): وكل ذلك ـ كما يذكر العارفون بالله ـ لأسرار إلهية وأغراض نبوية، وإنما خفيت على الناس لأنها من الأسرار الباطنية التي لا تدرك إلا بالفتح الرباني؛ فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة في أوائل السور؛ فلها أسرار عظيمة ومعان كثيرة، حتى إن جميع ما في السورة التي في أولها تلك الحروف من المعاني والأسرار كلها مندرج تحت تلك الحروف، فجميع ما في سورة (ص) مندرج تحت حرف (ص)، وجميع ما في (ق) و (ن) و (يس) و (طه) وغير ذلك مندرج في هذه الرموز، وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها ولا يدركون شيئا من المعاني الإلهية التي أشير إليها، حتى ظن جماعة من الناس أنها أسماء للسور، وظنت جماعة أخرى أنها أشير بها إلى أعداد معلومة، وظنت جماعة أخرى أنها من الحروف المهملة التي ليس وراءها معان، وكلهم حجبوا الإطلاع على المعاني الباهرة العجيبة التي فيها، فكذا أمر الرسم الذي في القرآن حرفا بحرف.

قال آخر (2): عجبا للمغفلين الذين يتوهمون أن الصحابة هم الذين اصطلحوا على الرسم المذكور .. أفلا يعلمون أن القرآن العزيز كُتب في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم وبين يديه على هيئة من الهيئات، وحينئذ فلا يخلو ما اصطلح عليه الصحابة من أن يكون هو عين الهيئة أو غيرها؛ فإن كان عينها بطل الإصطلاح لأنه اختراع وابتداع، وسبقية التوقيت تنافي ذلك وتوجب الإتباع، فإن نسب اتباعهم حينئذ للإصطلاح كان بمنزلة من قال إن الصحابة اصطلحوا على أن الصلوات خمس وعلى أن عدد الركعات مثلا أربع.

قال آخر (3): وإن كان غير ذلك، فكيف يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب على هيئة كهيئة الرسم

__________

(1)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 136)

(2)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 137)

(3)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 137)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/29)

القياسي مثلا، والصحابة خالفوا، وكتبوا على هيئة أخرى؟

قال آخر (1): وفي ذلك ما فيه من نسبة الصحابة وأعلام الهدى إلى المخالفة وذلك محال .. فكيف وسائر الأمة من الصحابة وغيرهم أجمعوا على أنه لا يجوز أن يزاد في القرآن حرف، ولا أن ينقص منه حرف.

قال آخر (2): وفوق ذلك كله؛ فإن الكتابة أحد الوجودات الأربع، وما بين الدفتين كلام الله، فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثبت {الرحمن} و {العالمين} ولم يزد الألف في {مائة} ولا في {كفروا وأخرجوا}، ولا الياء في {بأييد} ولا في {أفإن مت} ونحو ذلك، والصحابة عاكسوه في ذلك وخالفوه لزم أنهم ـ وحاشاهم من ذلك ـ تصرفوا في القرآن الكريم بالزيادة والنقصان، ووقعوا فيما أجمعوا هم وغيرهم على أنه لا يحل لأحد فعله.

قال آخر (3): بل يلزم عنه تطرق الشك إلى جميع ما بين الدفتين، لأنا مهما جوزنا أن تكون فيه حروف زائدة على ما في علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى ما عنده، وأنها ليست بوحي، ولا من عند الله، ولم نعلمها بعينها شككنا في الجميع.

قال آخر (4): ولو جوّزنا لصحابي أن يزيد في كتابته حرفا ليس بوحي لزمنا أن نجوز لصحابي آخر نقصان حرف من الوحي إذ لا فرق بينهما، وحينئذ تنحل عروة الإسلام بالكلية.

قال آخر (5): إنما يصح أن يدعى الإصطلاح من الصحابة لو كانت كتابة القرآن العزيز إنما حدثت في عصرهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فثبت أن الرسم توقيفي لا اصطلاحي،

__________

(1)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 137)

(2)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 137)

(3)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 138)

(4)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 138)

(5)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 138)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/30)

وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الآمر بكتابته على الهيئة المعروفة.

قال آخر (1): أما دعواهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يعرف الكتابة، وأن الله تعالى قال في وصفه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]، فغير صحيح .. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرفها بالإصطلاح والتعلم من الناس، وأما من جهة الفتح الرباني فيعلمها ويعلم أكثر منها، وكيف لا والأولياء الأميون من أمته الشريفة المفتوح عليهم يعرفون خطوط الأمم والأجيال من لدن آدم عليه السلام وأقلام سائر الألسن وذلك ببركة نوره صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف به صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال آخر (2): وقد ذكر الأولياء العارفون بالله أن من فتح الله عليه ونظر في أشكال الرسم التي في ألواح القرآن، ثم نظر في أشكال الكتابة التي في اللوح المحفوظ، وجد حينئذ تشابها كثيرا وعاين زيادة الألف في اللوح المحفوظ في {كفروا} أو {آمنوا} وغير ذلك، وعلم أسرارا في ذلك كله، وعلم أن تلك الأسرار من وراء العقول.

قال آخر (3): وقد سمعت من بعض شيوخنا ـ وهو من الأميين ـ أسرار جميع ما ذكرتم، وقابلته مع ما ذكره أئمة الرسم وفحوله فوجدت كل ما ذكرته صحيحا .. بل إني سألته على سبيل الإمتحان، وأنا أعلم أنه لا يعجز عن الجواب مع كونه لا يحفظ حزب (سبح) عن الزائد في {بأييد}، هل الياء الأولى أو الياء الثانية؟ فقال: الياء الثانية؛ فشككته، فجزم بأنها الثانية .. وهذا ما قاله فحول العلماء المختصين بالرسم القرآني.

قال آخر (4): ولهذا فإن التأمل في قواعد الرسم القرآني التي ذكرها العلماء يفيد فوائد

__________

(1)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 138)

(2)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 139)

(3)  الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز (ص 139)

(4)  مناهل العرفان (1/ 372)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/31)

كثيرة جدا، وفي كل الجوانب .. ولعل أقلها شأنا الدلالة على القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة بقدر الإمكان، وذلك أن قاعدة الرسم لوحظ فيها أن الكلمة إذا كان فيها قراءتان أو أكثر كتبت بصورة تحتملها جميعا .. فإن كان الحرف الواحد لا يحتمل ذلك بأن كانت صورة الحرف تختلف باختلاف القراءات جاء الرسم على الحرف الذي هو خلاف الأصل، وذلك ليعلم جواز القراءة به، وبالحرف الذي هوالأصل .. وإذا لم يكن في الكلمة إلا قراءة واحدة بحرف الأصل رسمت به.

قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك أن الكلمة تُكتب بصورة واحدة، وتقرأ بوجوه متعددة، نحو قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} رسمت في المصحف العثماني هكذا: (إن هدان لساحران) من غير نقط ولا شكل ولا تشديد ولا تخفيف في نوني إن وهذان ومن غير ألف ولا ياء بعد الذال من هذان .. ومجيء الرسم هكذا كان صالحا عندهم لأن يقرأ بالوجوه الأربعة التي وردت كلها بأسانيد صحيحة .. أولها: قراءة نافع ومن معه إذ يشددون نون إن ويخففون هذان بالألف .. وثانيها: قراءة ابن كثير وحده إذ يخفف النون في إن ويشدد النون في هذان .. وثالثها: قراءة حفص إذ يخفف النون في إن وهذان بالألف .. ورابعها: قراءة أبي عمرو بتشديد إن وبالياء وتخفيف النون في هذين.

قال آخر (2): ومن الفوائد التي يفيدها الرسم القرآني إفادة المعاني المختلفة بطريقة تكاد تكون ظاهرة، وذلك نحوقطع كلمة [أم] في قوله تعالى: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} ووصلها في قوله تعالى: {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إذ كتبت هكذا [أمن] بإدغام الميم الأولى في الثانية وكتابتهما ميما واحدة مشددة فقط [أم] الأولى في الكتابة للدلالة

__________

(1)  مناهل العرفان (1/ 372)

(2)  مناهل العرفان (1/ 373)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/32)

على أنها أم المنقطعة التي بمعنى بل، ووصل أم الثانية للدلالة على أنها ليست كتلك.

قال آخر (1): ومن الفوائد التي يفيدها الرسم القرآني الدلالة على معنى خفي دقيق، كزيادة الياء في كتابة كلمة {أيد} من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} إذ كتبت هكذا {بِأَيْيدٍ} وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء، وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة وهي: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

قال آخر (2): ومن هذا القبيل كتابة هذه الأفعال الأربعة بحذف الواو، وهي: {ويدعو الإنسان، ويمحوالله الباطل، يوم يدعو الداع، سندعوا الزبانية}، فإنها كتبت في المصحف العثماني هكذا: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ، وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}، ولكن من غير نقط ولا شكل في الجميع.

قال آخر (3): والسر في حذفها من {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ} هوالدلالة على أن هذا الدعاء سهل على الإنسان يسارع فيه كما يسارع إلى الخير، بل إثبات الشر إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير.

قال آخر (4): والسر في حذفها من {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} الإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله.

قال آخر (5): والسر في حذفها من {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} الإشارة إلى سرعة الدعاء وسرعة إجابة الداعين.

قال آخر (6): والسر في حذفها من {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} الإشارة إلى سرعة الفعل

__________

(1)  مناهل العرفان (1/ 373)

(2)  مناهل العرفان (1/ 373)

(3)  مناهل العرفان (1/ 374)

(4)  مناهل العرفان (1/ 374)

(5)  مناهل العرفان (1/ 374)

(6)  مناهل العرفان (1/ 374)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/33)

وإجابة الزبانية وقوة البطش.

قال آخر (1): وقد جمع هذه الأسرار المراكشي في قوله: (والسر في حذفها من هذه الأربعة سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود)

قال آخر (2): وزيادة على هذا؛ فإن من الفوائد التي يفيدها الرسم القرآني الدلالة على أصل الحركة، مثل كتابة الكسرة ياء في قوله تعالى: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}، إذ تكتب هكذا {وإيتاءى ذي القربى}، ومثل كتابة الضمة واوا في قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} إذ كتبت هكذا سأوريكم ومثل ذلك الدلالة على أصل الحرف نحوالصلاة والزكاة إذ كتبا هكذا: الصلوة الزكوة ليفهم أن الألف فيهما منقلبة عن واو. من غير نقط ولا شكل كما سبق.

قال آخر (3): ومن الفوائد التي يفيدها الرسم القرآني إفادة بعض اللغات الفصيحة مثل كتابة [هاء التأنيث] تاء مفتوحة دلالة على لغات العرب .. مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، فقد كتبت بحذف الياء للدلالة على لغة هذيل.

قال آخر (4): ومن الفوائد التي يفيدها الرسم القرآني حمل الناس على أن يتلقوا القرآن من صدور ثقات الرجال ولا يتكلوا على هذا الرسم العثماني الذي جاء غير مطابق للنطق الصحيح في الجملة.

قال آخر (5): ويضاف إلى هذا التوثق من ألفاظ القرآن وطريقة أدائه وحسن ترتيله وتجويده؛ فإن ذلك لا يمكن أن يعرف على وجه اليقين من المصحف مهما تكن قاعدة رسمه

__________

(1)  مناهل العرفان (1/ 374)

(2)  مناهل العرفان (1/ 374)

(3)  مناهل العرفان (1/ 374)

(4)  مناهل العرفان (1/ 375)

(5)  مناهل العرفان (1/ 375)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/34)

واصطلاح كتابته، فقد تخطئ المطبعة في الطبع وقد يخفى على القارئ بعض أحكام تجويده كالقلقلة والإظهار والإخفاء والإدغام والروم والإشمام ونحوها فضلا عن خفاء تطبيقها.

قال آخر (1): ولهذا قرر العلماء أنه لا يجوز التعويل على المصاحف وحدها، بل لا بد من التثبت في الأداء والقراءة بالأخذ عن حافظ ثقة.

قال آخر (2): لقد رحت أتأمل في هذه القواعد التي ذكرها علماء الرسم؛ فوجدتها مملوءة بالأسرار العجيبة .. ففي قاعدة الأولى من قواعد الرسم القرآني، وهي قاعدة الحذف، وجدت الكثير من الفوائد والأسرار العجيبة التي لا يمكن التعبير عنها .. ولكم أن تتأملوا فيها لتكتشفوا أسرارها العجيبة المملوءة بالإعجاز .. فالألف تحذف من ياء النداء نحو {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} .. ومن ها التنبيه نحو {هَا أَنْتُمْ} .. ومن كلمة نا إذا وليها ضمير نحو {أَنْجَيْنَاكُمْ} .. ومن لفظ الجلالة {اللَّهِ} .. ومن كلمة {إِلَهَ} .. ومن لفظي {الرَّحْمَنِ وَسُبْحَانَ} وبعد لام نحوكلمة {خَلائِفَ} وبين اللامين في نحو {الْكَلالَةِ} .. ومن كل مثنى نحو {رَجُلانِ} .. ومن كل جمع تصحيح لمذكر أولمؤنت نحو {سَمَّاعُونَ} {الْمُؤْمِنَاتِ} .. ومن كل جمع على وزن مفاعل وشبهه نحو {الْمَسَاجِدِ} {وَالنَّصَارَى} .. ومن كل عدد نحو {ثَلاثَ}

قال آخر (3): وتحذف الياء من كل منقوص منون رفعا وجرا نحو {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} .. ومن هذه الكلمات {وَأَطِيعُونِ، وَاتَّقُونِ، وَخَافُونِ، فَارْهَبُونِ، فَأَرْسِلُونِ، فَاعْبُدُونِ} إلا ما استثني .. وتحذف الواو: إذا وقعت مع واوأخرى في نحو: {لا يَسْتَوُونَ،

__________

(1)  مناهل العرفان (1/ 375)

(2)  مناهل العرفان (1/ 369)

(3)  مناهل العرفان (1/ 369)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/35)

فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} .. وتحذف اللام: إذا كانت مدغمة في مثلها نحو: الليل والذي إلا ما استثني.

قال آخر (1): وهناك حذف لا يدخل تحت قاعدة كحذف الألف من كلمة مالك، وكحذف الياء من إبراهيم، وكحذف الواو من هذه الأفعال الأربعة: {ويدعو الإنسان، ويمحو الله الباطل، يوم يدعو الداع، سندعوالزبانية}

قال آخر (2): وهكذا أنا .. فقد وجدت في القاعدة الثانية، وهي قاعدة الزيادة، الكثير من المعاني والأسرار .. فأنتم تعلمون أن الألف تزاد بعد الواو في آخر كل اسم مجموع، أوفي حكم المجموع مثل: {ملاقوا ربهم، بنوا إسرائيل، أولوا الألباب}، وبعد الهمزة المرسومة واوا نحو {تَاللَّهِ تَفْتَأُ}، فإنها ترسم هكذا: {تالله تفتؤا}، وفي كلمات {مائة ومائتين والظنون والرسول والسبيل} في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، وقوله: {وَأَطَعْنَا الرَّسُولا}، وقوله: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}؛ فكل هذه الأمثلة ترسم بدون ألف هكذا: {أنجينكم .. الله .. إله .. الرحمن}، وغيرها.

قال آخر (3): وهكذا تزاد الياء في هذه الكلمات: {نَبَأَ، آنَاءَ، مِنْ تِلْقَاءِ، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، بِأَيْدٍ}، وتزاد الواو في نحو {أُولُو، أُولَئِكَ، أُولاءِ، أُولاتِ}

قال آخر (4): وهكذا أنا .. فقد وجدت في القاعدة الثالثة، وهي قاعدة الهمز، الكثير من المعاني والأسرار .. فأنتم تعلمون أن الهمزة إذا كانت ساكنة تكتب بحرف حركة ما قبلها نحو {ائْذَنْ، اؤْتُمِنَ، الْبَأْسَاءِ} إلا ما استثني .. أما الهمزة المتحركة فإن كانت أول الكلمة

__________

(1)  مناهل العرفان (1/ 369)

(2)  مناهل العرفان (1/ 370)

(3)  مناهل العرفان (1/ 370)

(4)  مناهل العرفان (1/ 370)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/36)

واتصل بها حرف زائد كتبت بالألف مطلقا سواء أكانت مفتوحة أم مكسورة نحو {أَيُّوبَ، أُولُو، إِذَا، سَأَصْرِفُ، سَأُنْزِلُ، فَبِأَيِّ} إلا ما استثني.

قال آخر (1): وإن كانت الهمزة وسطا فإنها تكتب بحرف من جنس حركتها نحو {سَأَلَ، سُئِلَ، تَقْرَأَهُ} إلا ما استثني .. وإن كانت متطرفة كتبت بحرف من جنس حركة ما قبلها نحو {سَبَأٍ، شَاطِئِ، لُؤْلُؤٌ} إلا ما استثني .. وإن سكن ما قبلها حذفت نحو {مِلءُ الْأَرْضِ، يُخْرِجُ الْخَبْءَ} إلا ما استثني .. والمستثنيات كثيرة في الكل.

قال آخر (2): وهكذا أنا .. فقد وجدت في القاعدة الرابعة، وهي قاعدة البدل، الكثير من المعاني والأسرار .. فأنتم تعلمون أن الألف تكتب واوا للتفخيم في مثل الصلاة والزكاة والحياة إلا ما استثني، وترسم ياء إذا كانت منقلبة عن ياء نحو {يَتَوَفَّاكُمْ يَا حَسْرَتَى يَا أَسَفَىْ} .. وكذلك ترسم الألف ياء في هذه الكلمات: {إِلَى، عَلَى، أَنَّى ـ بمعنى كيف ـ مَتَى، بَلَى، حَتَّى، لَدَى} ما عدا {لَدَى الْبَابِ} في سورة يوسف فإنها ترسم ألفا.

قال آخر (3): وهكذا ترسم النون ألفا في نون التوكيد الخفيفة وفي كلمة إذن .. وتُرسم هاء التأنيث تاء مفتوحة في كلمة {رَحْمَتَ} بالبقرة والأعراف وهود ومريم والروم والزخرف، وفي كلمة {نِعْمَةَ} بالبقرة وآل عمران والمائدة وإبراهيم والنحل ولقمان وفاطر والطور، وفي كلمة {لَعْنَةُ اللَّهِ}، وفي كلمة معصية بسورة قد سمع .. وفي هذه الكلمات: إن شجرة الزقوم قرة عين جنة نعيم بقية الله وفي كلمة امرأة أضيفت إلى زوجها نحوامرأة عمران امرأة نوح وفي غير ذلك.

__________

(1)  مناهل العرفان (1/ 370)

(2)  مناهل العرفان (1/ 370)

(3)  مناهل العرفان (1/ 371)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/37)

قال آخر (1): وهكذا أنا .. فقد وجدت في القاعدة الخامسة، وهي قاعدة الوصل والفصل، الكثير من المعاني والأسرار .. فأنتم تعلمون أن كلمة [أن] بفتح الهمزة توصل بكلمة لا إذا وقعت بعدها، ويستثنى من ذلك عشرة مواضع. منها: {أن لا تقولوا، أن لا تعبدوا إلا الله} .. وكلمة [من] توصل بكلمة ما إذا وقعت بعدها، ويستثنى {مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} في النساء والروم و {مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} في سورة المنافقين .. وكلمة [من] توصل بكلمة من مطلقا .. وكلمة [عن] توصل بكلمة [ما] إلا قوله تعالى {عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} .. وكلمة [إن] بالكسر توصل بكلمة [ما] التي بعدها إلا قوله تعالى: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ}، وكلمة [أن] بالفتح توصل بكلمة [ما] مطلقا من غير استثناء .. وكلمة [كل] توصل بكلمة [ما] التي بعدها إلا قوله تعالى {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ}، و {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} .. وتوصل كلمات {نِعِمَّا، ورُبَمَا، وكَأَنَّمَا، وَيْكَأَنَّهُ} ونحوها.

قال آخر (2): وهكذا أنا .. فقد وجدت في القاعدة السادسة، وهي قاعدة ما فيه قراءتان، الكثير من المعاني والأسرار .. فأنتم تعلمون أن الكلمة إذا قرئت على وجهين تكتب برسم أحدهما كما رسمت الكلمات الآتية بلا ألف في المصحف وهي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ، وَوَاعَدْنَا مُوسَى، تُفَادُوهُمْ} ونحوها وكلها مقروءة بإثبات الألف وحذفها .. وكذلك رسمت الكلمات الآتية بالتاء المفتوحة وهي {غيابة الجب، أنزل عليه ـ في العنكبوت ـ ثمرة من أكمامها ـ في فصلت ـ وهم في الغرفة آمنون ـ في سبأ ـ}، وذلك لأنها جمعاء مقروءة بالجمع والإفراد .. وغير هذا كثير.

قال آخر: اسمحوا لي أن أذكر لكم بعض ما أداني إليه التدبر والتأمل في هذا الجانب

__________

(1)  مناهل العرفان (1/ 370)

(2)  مناهل العرفان (1/ 370)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/38)

الإعجازي العظيم .. لقد رأيت أن وجود كلمة قُرآنية برسم مختلف في آية يلفت النظر إلى أن هناك أمراً عظيماً يجب تدبره.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك أني وجدت أنه في حالة زيادة أحرف الكلمة عن الكلمة المعتادة؛ فإنّ هذا يعني زيادة في المبْنى، يتبعه زيادة في المعْنى.

قال آخر: ووجدت أن زيادة المبنى يُمكن أن يؤدي إلى معنى التراخي، أوالتمهل، أوالتأمل والتفكر، أوانفصال أجزاءه.

قال آخر: ووجدت أنه في حالة نقص حروف الكلمة؛ فإنّ هذا يعني إما سُرعة الحدث، أوانكماش المعنى وضغطه، أوتلاحم أجزائه.

قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك، أني وجدت الإعجاز قائما في حذف بعض الأحرف من بعض الكلمات .. فمثلا إن حذف الألف من كلمة (بسم)، والتي جاء بعدها لفظ الجلالة (الله)، يدل ويُوحي بأنه يجب علينا الوصول إلى الله تعالى، والمبادرة إلى الصلة معه تعالى بأقصر الطرق، وأسرع الوسائل؛ وهوما يدل عليه قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وهوالذي يُوصل بأسرع وأقصر الطرق .. والحرف الوحيد الذي يمكن حذفه من كلمة (باسم) دون تغيير نُطق الكلمة هو (حرف الألف) .. لذا فقد تم حذفه للتوجه إلى الله وأخذ البركة منه في أي عمل نعمله بأسرع ما يمكن وبأقصر طريق.

قال آخر: أما في الحالات الأخرى والتي ورد فيها (باسم)، بإثبات الألف، كقوله تعالى: قال الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، وقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ

__________

(1)  انظر في هذه الأمثلة وغيرها: كتاب تأملات في إعجاز الرسم القرآني وإعجاز التلاوة والبيان، محمد شملول، وهو من أشهر الكتب المعاصرة التي كتبت في الدفاع عن الرسم العثماني، بل بيان إعجازه.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/39)

الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فإن ذلك بسبب أن كلمة {رَبِّكَ} تأتي مُشتركة بين الله تعالى وخلقه، كما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام، قوله لزميله في السّجن: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك، فإن حذف حرف من الكلمة يضغط مبناها، ويُسرع من وَقْعِهَا؛ فَتُؤدي المعنى المطلوب، وهوالسرعة على خير وجه، وهذا إعجاز القرآن الكريم والرسم القرآني ..

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك، أن كلمة {سموات} وردت هكذا، بهذا الرسم بدون ألف صريحة (189 مرة) في القرآن الكريم كله .. ووردت (مرة واحدة) فقط بألف صريحة بعد حرف (و) بالرسم القرآني (سموات)، وذلك في قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12] .. وحين نتدبر هذه الآية الكريمة وما قبلها من آيات، نجد أن القرآن الكريم يتعرض لقضية كُبرى هي قضية خلق السماوات والأرض، وترتيب هذا الخلق ومدته، وتقدير الأقوات في الأرض؛ لذا فإن القضية مُهمة جداً، وتحتاج إلى تدبُّر وتفكر؛ ولهذا، فقد جاءت كلمة (سموات) بالرسم غير العادي هذه المرة لتلفت النّظر إلى ضرورة الوقوف، وتدبر المعاني الجليلة لهذه الآيات، والتي صعب فهمها على بعض الناس، خاصة في حساب أيام الخلق الستة.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك، أن كلمة {الميعاد} وردت بألف صريحة في وسط الكلمة (5 مرات) في القرآن الكريم كله، وكلها تتكلم عن الميعاد الذي وَعَده الله؛ لذلك جاء هذا (الميعاد) واضحاً وصريحاً ولا ريب فيه .. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا

القرآن.. وتحريف الغالين (1/40)

إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]، وقوله: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 31]، وقوله: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ} [سبأ: 30]، وقوله: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20]، غير أن هذه الكلمة وردت مرة واحدة فقط، وذلك برسم يختلف بدون ألف صريحة على شكل {الميعد}؛ وذلك حين نُسب هذا الميعاد إلى (البشر) حيث قال تعالى: {وَلَوتَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَدِ} [الأنفال: 42]

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك، أن كلمة {سعوا} وردت بشكلها العادي مرة واحدة، ووردت {سعو} بشكلها غير العادي بدون ألف في آخرها مرة واحدة أيضاً في القرآن الكريم كله، وتُوحي كلمة {سعو} بنقص الألف في آخرها؛ أن هذا السعي سريع جداً، وكله نشاط، وهوحسب الآية الكريمة سعي في إنكار آيات الله، وهوما جلب على الكافرين عذابا من رجز أليم في الدنيا، بالإضافة إلى عذاب جهنم، وبئس المصير في الآخرة .. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج: 51]، وقوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [سبأ: 5]، أي في الدنيا بالإضافة إلى عذاب الآخرة.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك، أن كلمة {نعمة} وردت بالتاء المربوطة 25 مرة في القرآن الكريم .. ووردت {نعمت} بالتاء المفتوحة 11 مرة في القرآن الكريم .. ونلاحظ حين نتدبر الآيات الكريمة التي وردت فيها نعمت بالتاء المربوطة أنها تتحدث إما عن نعم الله الظاهرة للعيان، وهي النعم العامة للبشر جميعاً، أو عن أقل شيء يطلق عليه {نعمة} مثل: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، أي أن ما بكم من أقل شيء يطلق عليه

القرآن.. وتحريف الغالين (1/41)

{نعمة} فهومن الله وليس أي مخلوق بقادر على أن ينعم عليكم بأقل نعمة .. وطبيعي أن تأتي كلمة {نعمة} في هذا المجال بالتاء المربوطة لأنها محدودة ومربوطة .. أما حين تأتي {نعمت} بالتاء المفتوحة فإنها تدل على النعمة الخاصة التي وهبها الله تعالى للمؤمنين من عباده، كما أنها تدل على النعم المفتوحة التي لا يمكن إحصاء عددها .. ولأجل ذلك؛ فإنه حينما تذكر {نعمت} في أي آية من القرآن الكريم، يكون ذلك من أجل لفت انتباه قارئ القرآن لتدبر هذه الآية وما حولها من آيات واستخلاص الحكمة والعبرة.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك، أن كلمة {الربوا} وردت على هذا الشكل في القرآن الكريم 7 مرات .. ووردت كلمة {ربا} مرة واحدة فقط في القرآن الكريم كله .. وقد جاءت كلمة {الربوا} بهذا الشكل لتلفت النظر إلى خطورة استخدام الربا في معاملات الناس، وأن الله قد حرم الربا، وأن الله يمحق الربا ويربي الصدقات .. أما كلمة {ربا} فقد جاءت مرة واحدة، وهي خاصة بأقل شيء يطلق عليه ربا، فهو لا يربو عند الله، كما قال تعالى: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]، ونلاحظ أن كلمة {يربوا} تزيد حرف (الألف) في آخرها لتوحي بمعنى الربا وهي الزيادة.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك، أن كلمة {العلمؤ} وردت مرتين في القرآن الكريم كله .. ولم ترد إلا بهذه الصورة الخاصة لتدل على المكانة العظيمة والمنزلة الكبيرة للعلماء، وأنهم ليسوا سواء مثل باقي الناس، كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وهي في محل رفع، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَؤُا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197]، وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا} [فاطر: 28]،

القرآن.. وتحريف الغالين (1/42)

وفي هذا الآية يتبين لنا من هذه الصورة الخاصة {العلمؤا}، وهي التي لا تأتي إلا في محل رفع دقة وعظمة القرآن للرد على هؤلاء الذين يقولون إن العلماء مفعول به أي في محل نصب.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك، أن كلمة {فإن} التي وردت بشكلها العادي مرات عديدة موزعة على آيات القرآن الكريم، غير أنه حينما تعرض القرآن الكريم لذكر موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقد خصه بكلمة {أفإين} بشكلها غير العادي، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوقُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]، حيث أنها زادت حرف (الياء)، وذلك ليلفت النظر إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيموت مثل البشر جميعاً، وعلى المسلمين ألا ينقلبوا على أعقابهم بعد موته، وألا يصيبهم ذلك الحدث بالذهول وعدم الاتزان .. وإنما يتماسكوا ويعلموا أن الله تعالى لم يجعل لأحد من قبله الخلد.

قال آخر: علماً بأنها وردت في سائر المواضع بدون (الياء)، كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوقُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158]، وقوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 240]، وقوله: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137]

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك، أن كلمة {أيها} وردت بشكلها المعتاد في القرآن الكريم 150 مرة غير أنها وردت بشكل مختلف {أيه} بنقص الألف التي في آخرها في ثلاث مواضع فقط وهي قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّه الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، لتوحي بالإسراع في التوبة، وأنه يجب على أي مؤمن أن يتوب عن أي خطأ يرتكبه بأقصى سرعة وألا يتوانى في ذلك .. ومثلها قوله تعالى: {وَقَالُوا يأَيُّه السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}

القرآن.. وتحريف الغالين (1/43)

[الزخرف: 49] لتوحي بالعجلة التي تطلبها فرعون وملئه من موسى عليه السلام لرفع العذاب عنهم، كما أنه من الممكن بأن توحي بأن فرعون وملئه يحاولون التقليل من شأن موسى عليه السلام ومثلها قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّه الثَّقَلَانِ} [الرحمن: 31] لتوحي بالتهوين من أمر (الثقلين) وهما الإنس والجن لدى الله تعالى.

2 ـ القصد والاعتدال

ما إن وصل الحديث بهم إلى هذا الموضع، حتى بدا لي معلمي الجديد [معلم القصد والاعتدال] بطلعته البهية وأنواره الساطعة؛ فانصرفت أنظار القوم كلهم إليه، وبانبهار شديد، وكأنهم يقولون بلسان حالهم: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]

وبمجرد ظهوره، قال: بورك فيكم أيها الحريصون على القرآن الكريم .. لكن أرجو أن يتسع صدركم لبعض الإشكالات التي أريد طرحها عليكم، وأريد أن تجيبوني بكل صدق وأمانة، كما هو المعهود من كل تلاميذ القرآن الكريم.

قال أحدهم، وكان كبيرهم، وبانبهار: نعم .. لك ذلك .. فسل ما بدا لك، وسنجيبك إن شاء الله بما يمليه علينا الصدق والإخلاص والتجرد.

قال آخر: وجهك يبدو متنورا بنور القرآن، ونحن لا نستطيع أن نقابله إلا بما يُقابل به القرآن من التعظيم والإجلال.

قال المعلم: أنا أشيد أولا باهتمامكم بالرسم الذي كُتبت به المصاحف .. أو اعتبار البحث في ذلك علما .. أو وجود متخصصين في ذلك .. حتى يُحفظ للقرآن رسمه، كما حُفظ له نطقه .. لكن الإشكال الذي أريد أن أطرحه عليكم هو جدوى نشر القرآن الكريم بهذا

القرآن.. وتحريف الغالين (1/44)

الرسم الذي لا يعرفه عامة الناس، بل يتناقض مع القواعد التي يدرسون بها دراستهم العادية؛ فأنا لا أقصد من حواري معكم دعوتكم إلى استئصال وإلغاء كل ما تعلمتموه وبحثتم فيه، وإنما إلى حصره في دائرة المختصين المحدودة، لا لسائر الناس.

قال أحد الحضور: وما تقول في كل الأدلة التي طرحناها .. والتي تبدأ بإجماع الأمة .. فهل ترى من الجائز أن يُخرق الإجماع؟

قال المعلم: لكل إجماع مؤسسون؛ فمن أسس لهذا الإجماع الذي يحرم مخالفته؟

قال أحدهم: الصحابة الذين كتبوا المصاحف، فقد أجمعوا على كتابتها بذلك الشكل.

قال المعلم: إن كان قد وقع الإجماع من الصحابة على كتابتها بذلك الشكل؛ فلم تخالفونهم .. بل لم خالفهم سلفكم الأول؟

قال أحدهم: ما تقول يا هذا .. نحن أحرص الناس على اتباع الصحابة؟

قال المعلم: فهل المصاحف التي تنشرونها الآن بين العامة والخاصة، وتعلمون بها الصبية الصغار هي نفسها التي كتبها الصحابة، أم أن أشياء جديدة أُدخلت فيها.

سكتوا؛ فأشار لي المعلم، فقلت (1): بل هناك الكثير من الأشياء الجديدة التي أُدخلت فيها، ومنها ما نراه في المصاحف من تجزئة إلى أرباع وأحزاب وغيرها .. فقد كانت المصاحف الأولى مجردة من التجزئة .. ولما امتد الزمان بالناس جعلوا يفتنون في المصاحف وتجزئتها عدة تجزئات مختلفة الاعتبارات، فمنهم من قسم القرآن ثلاثين قسما وأطلقوا على كل قسم منها اسم الجزء بحيث لا يخطر بالبال عند الإطلاق غيره، وجرى على ذلك

__________

(1)  مناهل العرفان (1/ 409)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/45)

أصحاب الربعات إذ طبعوا كل جزء نسخة مستقلة ومجموع النسخ الجامعة للقرآن كله يسمونه ربعة .. ومنهم من قسموا الجزء إلى حزبين، ومن قسموا الحزب إلى أربعة أجزاء سموا كل واحد منها ربعا .. ومنهم من وضعوا كلمة خمس عند نهاية كل خمس آيات من السورة، وكلمة عشر عند نهاية كل عشر آيات منها؛ فإذا انقضت خمس أخرى بعد العشر أعادوا كلمة خمس؛ فإذا صارت هذه الخمس عشرا أعادوا كلمة عشر، وهكذا دواليك إلى آخر السورة .. وبعضهم كان يكتب في موضع الأخماس رأس الخاء بدلا من كلمة خمس، ويكتب في موضع الأعشار رأس العين بدلا من كلمة عشر .. وبعضهم كان يرمز إلى رؤوس الآي برقم عددها من السورة أومن غير رقم .. وبعضهم كان يكتب فواتح للسور كعنوان ينوه فيه باسم السورة وما فيها من الآيات المكية والمدنية إلى غير ذلك.

قال المعلم: فهل اكتفوا بهذه الإضافات؟

قلت (1): لا .. فكلما امتد الزمان بالناس ازدادت عنايتهم بتيسير الرسم القرآني، وقد اتخذ هذا التيسير أشكالا مختلفة، حيث كان الخليل بن أحمد أول من صنف النقط، ورسمه في كتاب، وذكر علله، وأول من وضع الهمزة والتشديد والروم والإشمام .. ولم يكد أبو حاتم السجستاني يؤلف كتابه عن نقط القرآن وشكله حتى يكون رسم المصاحف قد قارب الكمال، حتى إذا كان نهاية القرن الهجري الثالث بلغ الرسم ذروته من الجودة والحسن، وأصبح الناس يتنافسون في اختيار الخطوط الجميلة، وابتكار العلامات المميزة حتى جعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس، ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها، على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة.

__________

(1)  مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح (ص 94)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/46)

قال المعلم: فهل اتفق الجميع على هذه الإضافات، أم أن هناك من وقف منها موقفا سلبيا؟

قلت (1): بل هناك من وقف منها موقفا سلبيا، وكرهها، ومن الأمثلة على ذلك ما رواه أبو عبيد، عن النخعي أنه كره نقط المصاحف .. وأخرج ابن أبي داود عنه أنه كان يكره العواشر، والفواتح، وتصغير المصحف، وأن يُكتب فيه سورة كذا وكذا، ولما أتي بمصحف مكتوب فيه سورة كذا، كذا آية قال: امح هذه؛ فإن ابن مسعود كان يكرهه .. وعن الإمام مالك أنه كره العشور التي تكون في المصحف بالحمرة وغيرها، وعنه أنه قال: لا بأس بالنقط في المصاحف التي يتعلم فيها الغلمان، أما الأمهات فلا.

قال المعلم: فقد احتاجوا إلى إضافة النقاط وعلامات التشكيل وغيرها مخالفين بذلك شكل المصاحف التي تدافعون عنها الآن؟

قال أحدهم: يمكنك أن تقول ذلك .. لكن الإجماع أيضا وقع على ذلك؛ فنحن نتبع الإجماع الجديد.

قال المعلم: فما سبب الإجماع الجديد؟

قال أحدهم (2): لأن الحال قد تغيرت عما كان في العهد الأول، ولذا اضطر المسلمون إلى نقطه وشكله للمحافظة على القرآن من اللحن والتغيير والتصحيف، وللتيسير على الحفاظ والقارئين.

قال آخر: ولهذا؛ فإن المسلمين بعد أن كانوا يكرهون ذلك صار واجبا أو مستحبا، لما هو مقرر في علم الأصول من أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وقد قال الإمام

__________

(1)  المدخل لدراسة القرآن الكريم (ص 383)

(2)  المدخل لدراسة القرآن الكريم (ص 384)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/47)

النووي في التبيان: (قال العلماء: ويستحب نقط المصحف وشكله، فإنه صيانة من اللحن فيه وتصحيفه، وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط فإنما كرها ذلك في ذلك الزمان خوفا من التغيير فيه، وقد أمن ذلك اليوم، فلا منع، ولا يمنع من ذلك لكونه محدثا، فإنه من المحدثات الحسنة فلا يمنع منه كنظائره، مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات، وغير ذلك والله أعلم والخطب في هذا ونحوه مثل التنبيه على الوقوف والسكتات سهل ما دام الغرض هو التيسير والتسهيل على القارئ، وما دام الأمر بعيدا عن اللبس والتزيد والاختلاق وما دام الأمن متوفرا)(1)

قال المعلم: فلم فعلوا ذلك، وخرقوا الإجماع القديم؟

قال أحدهم: الخوف على أن يُقرأ القرآن الكريم بطريقة خاطئة، فالحفظ على سلامة القراءة أهم وأوجب.

قال المعلم: فهل ترون عامة الناس الآن يقرؤون القرآن قراءة صحيحة؟

قال أحدهم: إن شئت الصدق، هم لا يفعلون ذلك ... ولذلك يحتاجون إلى معلم ليصحح لهم.

قال المعلم: فهل يُتاح المعلم الذي تذكرون لعامة الناس، وفي جميع أقطار الأرض، أم أن ذلك غير ممكن.

سكتوا، فقال المعلم: أنتم تعلمون أن ذلك غير ممكن .. بل مستحيل .. وحتى لو كان هناك معلمون في جميع أقطار الأرض؛ فليس هناك من يستعد للجلوس إليهم، ليتعلم أمثال هذه العلوم التي لا يرى لها أي ضرورة.

__________

(1)  التبيان في آداب حملة القرآن (ص 189)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/48)

قال أحدهم: لكن ما تقول في الإجماع الذي انعقد بعد ذلك؟

أشار لي المعلم، فقلت: لم ينعقد الإجماع أبدا على ذلك .. ومن الأمثلة على المخالفين لذلك القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه الانتصار، حيث يقول: (وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتّاب القرآن، وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم، وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف .. وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص، وحدّ محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية، بل السنّة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر برسمه، ولم يبين لهم وجها معينا، ولا نهى أحدا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية، والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوّج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك .. وإذا كانت خطوط المصاحف، وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا ذلك، وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته، وما هو أسهل وأشهر وأولى، من غير تأثيم ولا تناكر، علم أنه لم يؤخذ على الناس في ذلك حد محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة والأذان .. وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس

القرآن.. وتحريف الغالين (1/49)

رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنّى له ذلك)(1)

قال المعلم: فهل هناك غيره؟

قلت: منهم ابن خلدون الذي انتقد بشدة فكرة الإصرار على الرسم القديم في سياق حديثه عن الخط العربي، حيث قال: (كان خط العرب لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوسط، لمكان العرب من البداوة والتوحش، وبعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير محكمة الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها .. ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها، تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخير الخلق من بعده، المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولى أوعالم تبركا، ويتبع رسمه خطأ أوصوابا .. وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك وأثبت رسما، ونبه علماء الرسم على مواضعه)(2)

ثم عقب على ذلك ببيان السبب في ذلك، فقال: (ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل، بل لكلها وجه .. وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمال، فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه، وليس ذلك بصحيح)(3)

__________

(1)  الانتصار للقرآن 1/ 375 ـ 376.

(2)  مقدمة ابن خلدون/350.

(3)  مقدمة ابن خلدون/350.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/50)

ثم بين أن عدم العلم بالإملاء، أو تطبيقها، بسبب عدم وضع قوانينها في ذلك الحين لا يقدح فيهم، فقال: (واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، والكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين، ولا في الخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه، لأجل دلالته على ما في النفوس، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم أميا، وكان ذلك كمالا في حقه، وبالنسبة إلى مقامه، لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران كلها .. وليست الأمية كمالا في حقنا نحن، إذ هومنقطع إلى ربه، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا)(1)

قال المعلم: فهل هناك غيره؟

قلت: منهم الشوكاني، فقد نقل قول بعضهم في كتابة {الربا} في المصحف بالواو، ثم عقب عليه بقوله: (وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يُشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كان في أصل الكلمة ونحوه كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف، وعلى كل حال فرسم الكلمة وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هوالأولى، فما كان في النطق ألفاً كالصلاة، والزكاة ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل هذه الألف واواً أوياءً لا يخفى على من يعرف علم الصرف، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل بها عليه كيف هو في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق، فاعرف هذا ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش ويلزمون به أنفسهم

__________

(1)  مقدمة ابن خلدون 1/ 419، ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، بدون تاريخ.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/51)

ويعيبون من خالفه، فإن ذلك من المشاححة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحداً أن يتقيد بها، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها، فإنه الأمر المطلوب من وضعها والتواضع عليها، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكملة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن، فلا تغتر بما يروى عن سيبويه ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو؛ لأنه يقول في تثنيته ربوان، وقال الكوفيون: يكتب بالياء وتثنيته رِبَيَان، قال الزجاج: ما رأيت خطأً أقبح من هذا ولا أشنع، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية)(1)

قال المعلم: فهل هناك غيره؟

قلت: منهم ابن قتيبة، وقد كان من العلماء المتقدمين، فقد قال توجيهه لما يروى من وجود لحن أوخطأ في رسم بضعة كلمات في المصحف إلى أن خطأ الكاتب أحد احتمالين في توجيه ذلك، حيث قال: (وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو أن تكون غلطاً من الكاتب كما ذكرت عائشة؛ فإن كانت على مذاهب النحويين فليس هاهنا لحن ـ بحمد الله ـ وإن كانت خطأ في الكتاب فليس على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم جناية الكاتب في الخط، ولوكان هذا عيباً يرجع على القرآن لرجع عليه كل خطأ وقع في كتابة المصحف من طريق التهجي)(2)

قلت: أجل .. فمنهم بعض المتأخرين (3) الذي رد على قول الجعبري عن رسم المصحف: (وأعظم فوائده أنّه حجاب يمنع أهل الكتاب أن يقرؤوه على وجهه)(4):

__________

(1)  فتح القدير 1/ 241.

(2)  تأويل مشكل القرآن/57.

(3)  هو محمد محمد عبداللطيف أفندي، المعروف بابن الخطيب، وهو من الدعاة إلى ضرورة كتابة القرآن بالرسم الإملائي، وذلك في كتابه [الفرقان]، والذي وقف منه الأزهر موقفا سلبيا للأسف.

(4)  مناهل العرفان: 1/ 366.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/52)

(وبمثل هذا الهراء ينطق أحد أئمّة القرّاء، وبمثل هذا الكلام يحتجّ القائلون بوجوب الهجاء القديم مع أنّ هذا القول واضح البطلان بادي الخسران .. وفي القرآن آيات كثيرة تخاطب أهل الكتاب وتدعوهم إلى الإيمان فكيف عن تلاوته يحجبون!؟)(1)

ثم قال: (ومن أشنع ما يتصف به إنسان سليم العقل، صحيح العرفان ما ذكره الصباغ: (إنّ فوائد هذا الرسم كثيرة وأسراره شتّى، منها عدم الاهتداء الى تلاوته على حقّه إلّا بموقف، شأن كلّ علم نفيس يتحفّظ عليه) .. فيا للداهية الدهياء، لقد صار القرآن مثل علم اليازرجات واللوغارتمات والطلسمات والاصطرلابات وضرب الرمل والتنجيم وما شاكل ذلك من العلوم .. يزعمون نفاستها لما تحتويه من أسرار لا تنال إلّا بجهد جهيد وتلقّ طويل الأمد .. هذا .. وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، وأنتم تقولون إنّه أبعدهم منه وأضلّهم عنه! .. فما أكبر هذا الزعم! .. وما أعظم هذه الفرية! .. ولوتساءلنا: هل وضع رسم المصحف ليقرأ، أوليكون رمزا ويظلّ طلسما، يتناقله القرّاء وحدهم، ويلقّنونه لمن يريدون تلقينه، ممّن يتزلّف إليهم بماله ونفسه ويمنعونه عمّن يرون منعه ممّن لم يرزق جاها ولا مالا!)(2)

ثم قال يتحدث عن نفسه: (ولقد رأيت بعيني وسمعت بأذنيّ، كثيرا من ذوي الثقافات والأدب يلحنون في قراءة القرآن، لعدم أنسهم بهذا الرسم الغريب، وعدم معرفتهم بأساليب القراءة على وجهها المأثور)(3)

قال المعلم: فهل هناك غيره؟

__________

(1)  الفرقان (لابن الخطيب)، ص 63 ـ 86.

(2)  الفرقان (لابن الخطيب)، ص 63 ـ 86.

(3)  الفرقان (لابن الخطيب)، ص 63 ـ 86.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/53)

قلت: أجل .. فمنهم بعض المعاصرين (1) الذي وقف موقفا متشددا من المغالين في الرسم القرآني، فقال: (هذا رأي جمهور المحقّقين، الذين ذهبوا الى جواز تبديل الرسم القديم الى الرسم الحاضر بعد أن لم يكن رسم السلف عن توقيف، وإنّما هواصطلاح منهم، أو كانت الكتابة في بداءة أمرها غير متقنة، أمّا مع تقدّم أساليب الكتابة، وفيها من التوضيح ما يجعل أمر القراءة سهلا على الجميع، فلا بدّ من تغيير ذاك الرسم الى المصطلح الحاضر الذي يعرفه كافة الأوساط، وليكون القرآن في متناول عامّة الناس، وفي ذلك تحقيق للغرض الذي نزل لأجله هذا الكتاب الخالد ليكون هدى للناس جميعا مع الأبد)(2)

قال المعلم: فهل هناك غيره؟

قلت: أجل .. فمنهم العز بن عبد السلام الذي نقل قوله الزركشي بعد نقله قول الإمام مالك وأحمد في التزام رسم المصحف، فقال: (وكان هذا في الصدر الأول والعلم حي غض، وأما الآن فقد يُخشى الإلباس، ولهذا قال عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه؛ لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين ولن تخلوالأرض من قائم لله بالحجة)(3) .. أي أنه ذهب إلى جواز كتابة المصحف لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة عندهم؛ ليكون أبعد عن اللبس والخلط في القرآن، ولكن يجب في الوقت ذاته المحافظة على الرسم العثماني في مصاحف الخاصة الذين لا يخشى عليهم الالتباس.

__________

(1)  أقصد العلامة محمد مهدي المعرفة، العلامة القرآني الكبير.

(2)  التمهيد: 1/ 384.

(3)  البرهان 1/ 379.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/54)

قال المعلم: فهل هناك من يقف معه في هذا القول؟

القرآن.. وتحريف الغالين (1/55)

قلت: أجل كثيرون هم (1) .. ومنهم بعض العلماء المحدثين الذي قال: (لقيت مشكلة طباعة المصحف وفق قواعد الهجاء الحديث عناية من بعض علماء العصر، ومنهم من رفض ذلك رفضا باتا، مستندا إلى ما نقل عن السلف من تقديس لرسم المصحف، كما ورثناه عن عصر عثمان، ومنهم من نادى بأن من الواجب أن ييسر كتاب الله، وألا نتمسك برسم لم تقم على ضرورة التمسك به نصوص من كتاب ولا سنة)(2)

__________

(1)  وقد مال إلى هذا الرأي: ا. د. محمد أبو شهبة في المدخل/322، والزرقاني في مناهل العرفان 1/ 302، وأحمد مصطفى المراغي في تفسيره 1/ 19، ود. صبحي الصالح في كتابه مباحث في علوم القرآن/280، ود. عبد الفتاح شلبي في كتابه رسم المصحف العثماني وأوهام المستشرقين في قراءات القرآن الكريم دوافعها ودفعها/134، ود. محمد لطفي الصباغ في كتابه لمحات في علوم القرآن/135.

(2)  في علوم القرآن دراسات ومحاضرات، محمد عبد السلام كفافى وعبد الله الشريف/98.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/56)

ثم علق على هذا بقوله: (إن عصرنا هذا قد أصبح عصرا قارئا، والقرآن الكريم يقع في أيدي كثير من الناس قد لا يكونون على صلة بالحفاظ، وهم يقرؤونه على قدر اجتهادهم، والسبيل الوحيد لضبط القراءة هو الطباعة وفق الإملاء الحديث، وكثير من الأبحاث تتضمن نقولا من القرآن الكريم، ويكاد يجمع الباحثون الذين يقتبسون آيات الكتاب الكريم ليستشهدوا بها على نقل هذه الآيات إلى الهجاء الحديث، ولا أحسب أن هذا الأمر قد لقي معارضة تذكر، لكن طباعة المصحف بالهجاء الحديث لا تزال موضع خلاف، يقف بها حتى الآن عند الرسم القديم)(1)

قال المعلم: فهل هناك غيره؟

قلت: أجل .. منهم ذلك الذي قدم لقوله ببيان تغيير السلف من مواقفهم مراعاة لتيسير قراءة القرآن لعامة الناس، فقد قال في ذلك: (اتبعت اللجنة الرباعية في استنساخ

__________

(1)  في علوم القرآن دراسات ومحاضرات، ص 98.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/57)

مصاحف الأمصار على عهد عثمان طريقة خاصة ارتضاها هذا الخليفة في كتابة كلمات القرآن وحروفه، وقد اصطلح العلماء على تسمية هذه الطريقة برسم المصحف، وكثيرا ما ينسبون هذا الرسم إلى الخليفة الذي ارتضاه فيقولون: رسم عثمان أو الرسم العثماني .. ولقد بلغ الغلو ببعضهم أشده حين زعموا أن هذا الرسم القرآني، توقيفي وضع منهاجه النبي الكريم نفسه، صلى الله عليه وآله وسلم، فقد نسبوا إليه ـ وهو الأمي الذي لا يكتب ـ أنه قال لأحد كتبة الوحي: (ألق الدواة وحرف القلم، وانصب الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن، وجود الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى، فإنه أذكر لك)(1)

وبعد أن نقل تلك المواقف المتشددة، قال: (ولا ريب أن هذا غلو في تقديس الرسم العثماني، وتكلف في الفهم ما بعده تكلف، فليس من المنطق في شيء أن يكون أمر الرسم توقيفيا، ولا أن يكون له من الأسرار ما لفواتح السور، فما صح في هذا التوقيف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مجال لمقارنة هذا بالحروف المقطعة التي تواترت قرآنيتها في أوائل السور، وإنما اصطلح الكتبة على هذا اصطلاحا في زمن عثمان، ووافقهم الخليفة على هذا الاصطلاح، بل وضع لهم دستورا يرجعون إليه في الرسم عند الاختلاف في قوله للثلاثة القرشيين: (وإذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم) .. وروي أنه لما كتب الصحابة المصحف زمن عثمان اختلفوا في كتابة {التابوت} فقال زيد: [التابوه] وقال النفر القرشيون [التابوت]، وترافعوا إلى عثمان فقال: اكتبوا [التابوت] فإنما أنزل القرآن على لسان قريش)(2)

ثم عقب على هذا بقوله: (واحترام الرسم العثماني واستحسان التزامه أمر يختلف اختلافا جوهريا عن القول بالتوقيف فيه، فقد تضافرت آراء العلماء على ضرورة التزام هذا

__________

(1)  مناهل العرفان 1، ص 370.

(2)  البرهان 1/ 376.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/58)

الرسم .. ولكن أحدا من هؤلاء الأئمة لم يقل: إن هذا الرسم توقيفي، ولا سر أزلي)(1)

بعد أن انتهيت من حديثي، قال المعلم: ها أنتم ترون أنه لم ينعقد في يوم من الأيام الإجماع على هذا .. وإنما كان مجرد اصطلاح اصطلحوا عليه، ولا مشاحة في الاصطلاح، أو في تبديله إذا اقتضت المصلحة ذلك .. وأنتم تعلمون أن مصلحة القراءة الصحيحة أهم من مصلحة الحفاظ على الرسم.

3 ـ الموقف المعتدل

قال أحدهم: وما نفعل برسم القرآن الموجود .. هل تريد من الأمة هجره إلى أن يُنسى؛ فيتهم المتأخرون حينها بأنهم خالفوا القرآن، ويستدلون على ذلك باختلاف النسخ القديمة عن الجديدة.

قال المعلم: معاذ الله أن أقول ذلك، أو أدع الفرصة لذلك .. بل إني أقول ما قال بعض المتأخرين من الجمع بين الحسنين .. فيوضع لعامة الناس مصاحف بالإملاء العادي الذي يعرفونه، ويوضع لخاصتهم، أو لمن شاء منهم مصاحف بالإملاء القديم .. أو يجمع بينهما.

سكتوا، فقال: هذا ليس رأيي، بل هو ما ذكره كبار العلماء الذين رأوا المصلحة في ذلك ..

أشار إلي، فقلت: أجل .. وقد قال بعضهم في ذلك: (بما أن العامة لا يستطيعون أن يقرؤوا القرآن في رسمه القديم، فيحسن بل يجب أن يكتب لهم بالاصطلاحات الشائعة في عصرهم، ولكن هذا لا يعني إلغاء الرسم العثماني القديم لأن في إلغائه تشويها لرمز ديني عظيم اجتمعت عليه الكلمة، واعتصمت به الأمة من الشقاق، ففي الأمة دائما علماء

__________

(1)  مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح (ص 278)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/59)

يلاحظون هذه الفروق الضئيلة في طريقة الرسم العثماني، ومن الممكن ـ مع ذلك ـ كما اقترحت مجلة الأزهر أن ينبه في ذيل كل صفحة من صفحات المصحف على ما عسى أن يكون فيها من الألفاظ المخالفة للاصطلاح الحديث في الخط والإملاء)(1)

قال أحدهم للمعلم: لست أدري ما أقول لك .. ولكن ما تطرحه جميل جدا .. وهو حل يدل على الاعتدال والتوسط ..

ثم التفت لزملائه، وقال: ألا ترون أن في هذا حلا مناسبا يحل كل الإشكالات التي نقع فيها .. ألم تروا أولياء التلاميذ الذين يدرسون في مدارسنا القرآنية كيف يشكون لنا عن تخلف أولادهم في الإملاء بسبب عدم قدرتهم الجمع بين إملائين: إملاء خاص بالقرآن، وإملاء خاص بغيره.

قال آخر: أجل .. وبهذا الحل لن نحتاج إلى تخصيص دروس لعامة الناس حول الرسم القرآني، والتي تكلفنا وقتا كثيرا نحن في غنى عنه.

قال آخر: أجل .. وبدل ذلك، نعلم الناس معاني القرآن؛ فهي أولى من رسمه.

قال آخر: ولن يضر ذلك ما اخترناه لأنفسنا من الاهتمام بالرسم أو مراعاته أو التدبر فيه .. فقناعاتنا الشخصية لا يصح تعميمها على غيرنا.

قال آخر: إن أجمع رأيكم على هذا، فسنقوم بطباعة مصحف بالإملاء العادي، ولا بأس أن نشير في الهوامش إلى الاختلافات الموجودة في الرسم القديم، مثلما يفعل المحققون في تحقيقاتهم، عندما يشيرون في الهوامش إلى ذلك.

قال آخر: وإن اتفقتم على هذا أيضا سنصدر بيانا لكل معلمي القرآن الكريم، وخصوصا أولئك الذين يشكون من صعوبة تعليم الرسم للتلاميذ والطلبة .. أو يشكوا

__________

(1)  مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح (ص 280)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/60)

أولياؤهم من ذلك.

قال آخر: أرى أن أحسن حل لمعرفة آراء الجميع هو التصويت .. فمن منكم يوافق على هذه الطروحات؟

رفعوا جميعا أيديهم .. فقال المعلم: بورك فيكم .. وفي تجاوبكم مع ما تقتضيه المصلحة الشرعية، وأنتم بهذا يمكنكم أن تلتحقوا بتلاميذ القرآن الكريم الذين يهتمون بمقاصده وحقائقه ومعانيه أكثر من اهتمامهم بحروفه ورسمه وشكله.

قال أحدهم: لسنا ندري ما الذي حل بنا .. لقد كنا نسمع مثل هذا الكلام، لكنا كنا نرفضه بشدة .. بل إنا كنا نضع أصابعنا في آذاننا حتى لا نسمعه .. بل إننا قد نبطش بمن يقوله .. فما سرك أنت؟

ما قال ذلك حتى أذن المؤذن، فقال المعلم: هلم إلى الصلاة .. وبعدها سنجلس ونتحدث، وسأجيبكم إن شاء الله.

قلت للمعلم: إلى أين سنذهب بعد هذا؟

قال: أنت ستبقى في المسجد .. أما أنا فسأذهب مع هؤلاء لأكمل حديثي معهم؛ فمهمتي معهم أعظم من أن تنحصر في هذه الجزئية .. ومن هدم شيئا عليه أن يبني ما يعوضه، وإلا كان مفسدا لا مصلحا.

قلت: ما تعني؟

قال: هم يحتاجون الآن إلى من يعلمهم كيفية التعامل مع القرآن الكريم، وكيفية الاستفادة من معانيه لتحقيقها في عالم الأنفس والآفاق .. وهم يحتاجون إلى من يدربهم على ذلك .. أنا وفريق ممن من كُلفنا بذلك.

قلت: وهل ستدعني وحدي؟ .. هم لا يسمعون لي، ولا طاقة لي بإقناعهم.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/61)

قال: أنت لست مكلفا بذلك .. سأحضر أنا في الوقت المناسب.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/62)

ثانيا ـ القرآن .. وقراءات التنزيل

بعد ذهابنا إلى المسجد، وصلاتنا خلف الإمام صلاة المغرب، والتي قرأ فيها بصوته الجميل ما أثر في تأثيرا كبيرا .. لكني بعد الصلاة، سمعت نفرا كثيرين من الناس يجتمعون في حلقة، ويرفعون أصواتهم منددين، قال أحدهم: ألم تسمعوا إلى هذه القراءة التي لم يراع فيها أحكام التجويد .. هل سمعتم كيف لم يطبق أحكام الهمزة، لا في كونها مفردة، ولا في كونها مقترنة مع همزات أخرى، ولا في كلمة واحدة، ولا في أكثر من كلمة؟

قال آخر (1): أجل .. فهو لم يطبق ذلك الحكم الأساسي المعروف من إبدال كل همزة ساكنة حرف مد من جنس حركة ما قبلها .. ألم يعلم (2) أنه إذا كانت الهمزة فاء الكلمة، فإنه يبدل الهمزة المفتوح ما قبلها ألفاً مثل قوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف:143] فتُقرأ {وَامُرْ قومك يَاخُذُوا}، ويبدل المضموم ما قبلها واواً، مثل: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:5] فتقرأ {وَيُوتُونَ الزَكَاةَ}، ويبدل المكسور ما قبلها ياءً، مثل {وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا}، فتقرأ {وللاَرْضِيتِيَا}، إلا ما استثناه في كلمة واحدة خروجاً عن قاعدته، وهي كلمة (الإيواء) وما تصرف من لفظها، فإنه ينبغي أن تُحقق الهمزة فيها، مع أنها فاء الكلمة (3) .. وقد جاءت في القرآن الكريم في سبعة مواضع منها {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151] .. {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [آل عمران:162] .. {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16] .. {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [العنكبوت:25] .. {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء} [الأحزاب:51] .. {عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:15] .. {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:13]

__________

(1)  الأحكام التي نوردها هنا هي الأحكام التي تبناها ورش عن نافع، وسنتبين سبب ذلك فيما يلي من الأحداث.

(2)  القراءات روايتا ورش وحفص دراسة تحليلية مقارنة/128.

(3)  القراءات روايتا ورش وحفص دراسة تحليلية مقارنة/129.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/63)

قال آخر (1): وهوـ أيضا ـ لم يطبق أحكام ترقيق الراء إذا جاء قبلها كسرة أصلية أوياء ساكنة من الكلمة نفسها، أوجاء قبلها ساكن قبله كسر، إذا أتت بعد كسرة لازمة سواء كانت الراء مفتوحة أم مضمومة منونة أم غير منونة.

قال آخر (2): بورك فيك .. لقد ذكرتني بالجهود التي بذلناها في تعلم ترقيق الراء من كلمات {ناضرة}، و {ناظرة}، و {باسرة}، و {فاقرة}، و {ساحران}، و {ذِرَاعَيْهِ}، و {الْمَقَابِرَ}، و {قَاصِرَاتُ}، و {شَاكِراً}، و {مِرَاء} و {ظَاهِراً} .. وكم كان يصعب علينا ترقيق الراءات المضمومة بعد كسر مباشر، من أمثال {وَتُعَزِّرُوهُ} {وَتُوَقِّرُوهُ}، و {مُنذِرٌ}، و {الْكَافِرُونَ} {سَاحِرٌ}، و {الْخَاسِرُونَ}

قال آخر (3): وكان أصعب شيء علينا ترقيقها عندما يفصل بين الكسر والراء ساكن في مثل كلمات: {ذِكْرَكَ} و {وِزْرَكَ}، و {إِكْرَاهَ}، و {إِخْرَاجٍ}، {وإِجْرَامِي} .. وكان يختلط علينا ذلك في حال كون الحرف الفاصل متحركاً، لأنه حينئذ لا ترقق الراء، كما كلمة {الْكِبَرُ} فى قوله عز وجل: {عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ} [الحجر:54]، وكلمة {الْخِيَرَةُ}

قال آخر: ومثلها إذا أتت الراء بعد ياء ساكنة؛ فإن ورشاً يرققها سواء كانت مفتوحةً أومضمومةً، أوكانت الراء منونة أم غير منونة في مثل هذه الكلمات وصلاً ووقفاً {كَبِيرُهُمْ}، {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً} [العاديات: 3]، و {بَشِيراً}، و {وَنَذِيراً}، {خَبِيرَاً}، و {بَصِيراً}، {قَالُوا لَا ضَيْرَ} [الشعراء:50]

قال آخر (4): وكان أصعب شيء بالنسبة لي، وربما لكم مستثنيات ورش من الراء المرققة؛ فمنها وجود فاصل بين الكسرة والراء وأحد أحرف الاستعلاء التالية: الصاد

__________

(1)  ركزنا هنا على المحال التي انفرد بها ورش في ترقيق الراء، وهو ما يصعب على الكثير من القراء، وخصوصا المبتدئين، أنظر: الداني، التهذيب لما تفرد به كل واحد من القراء السبعة. ص 41.

(2)  القراءات روايتا ورش وحفص دراسة تحليلية مقارنة/152.

(3)  القراءات روايتا ورش وحفص دراسة تحليلية مقارنة/152.

(4)  القراءات روايتا ورش وحفص دراسة تحليلية مقارنة/152.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/64)

والقاف والطاء .. ومن الأمثلة مع الصاد كلمة {إِصْراً}، و {إِصْرَهُمْ}، و {مِصْراً} و {بِمِصْرَ}، و {مِّصْرَ} .. ومع الطاء في موضعين: {قِطْراً} و {فِطْرَةَ} .. ومع القاف في موضع واحد: {وِقْراً} [الذاريات:2]

قال آخر: وأصعب تلك المستثنيات التي تعسر علي حفظها وإتقانها وجود فاصل بين الكسرة والراء وحرف الاستعلاء (الخاء)، لأنها لا تمنع ترقيق الراء وإن كانت هي من حروف الاستعلاء وذلك في نحو {إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة:85]، و {إِخْرَاجاً} [نوح:18]، {إِخْرَاجِكُمْ} [الممتحنة:9]، حيث يقرؤها ورش بترقيق الراء.

قال آخر: ومثل ذلك إذا تكررت الراء في آخر كلمة واحدة في مثل كلمات: {ضِرَاراً} [البقرة 231]، {فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:18]، {إِسْرَاراً} [نوح:9]، {مِّدْرَاراً} [الأنعام:6]، حيث فخم ورش الرائين تبعاً للراء الثانية ما عدا كلمة {بِشَرَرٍ} [المرسلات:32] فقد اتفق الرواة عن ورش بترقيق الراء الأولى وصلاً ووقفاً لأجل كسر الراء الثانية بعدها فهوترقيق لترقيق.

قال آخر: بورك فيكم .. لقد ذكرتموني ببعضهم جاء يعظني، فقرأ علي قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17 ـ 22] من غير أن يراعي الأحكام الواردة في كلمة {وَنُذُرِ}، فقلت له: اذهب، وتعلم الأحكام أولا .. ثم اذهب بعدها لتعظ الناس .. إن المغفل لم يعلم أن لتلك الكلمة وجهين عند الوقف عليها، من حيث الترقيق والتفخيم، لكن أهل الأداء رجحوا الترقيق.

قال آخر: ومثلك أنا فقد رأيت بعضهم ينطق الهمزة المفتوحة في فاء الكلمة بعد ضم

القرآن.. وتحريف الغالين (1/65)

محققة مع أنها تنطق واواً، سواء وقعت في الأسماء أوالأفعال .. هو لم يعلم أن {مُؤَجلا} تقرأ {مُوَجَّلًا}، و {مؤذِّن} تُقرأ {مُوَذِّنٌ}، و {المؤلّفة} تقرأ {المُوَلّفة} .. وهكذا في الأفعال فـ {تُؤَاخذنا} تقرأ {تُواخذنا}، و {يُؤَيد} تقرأ {يُوَيِّد}

قال آخر: دعونا من أولئك الذين لم يتصدروا للإمامة؛ فإثمهم قاصر عليهم، وهيا نبحث كيف نتصرف مع هذا الإمام .. لابد أن نشكوه للمسؤولين عن المساجد حتى يطردوه من وظيفته.

قال آخر: لكن .. ألا ترون أننا بالغنا كثيرا في الذهاب لتلك المؤسسة، فهذا الإمام العاشر الذي تريدون الشكوى به، وفي ظرف لا يتجاوز ستة أشهر؟ .. هل تريدون أن يعينوا لنا في كل شهر إماما.

قال آخر: المشكلة ليست في الإمام، ولكن في الجهة التي قامت بامتحانه في حفظه وتجويده وإتقانه .. لقد ذكروا لنا أنه يحفظ القرآن الكريم حفظا متقنا، ويتقن تجويده وترتيله.

قال آخر: أنسيتم أن أولئك الذين امتحنوه كانوا ممن يقرؤون بقراءة حفص عن عاصم .. فهل يحق لهم وحدهم أن يمتحنوا الإمام، هل نسوا أن هناك من يقرأ بغير قراءتهم، أم أنهم يريدون أن يفرضوا سيطرتهم على المسجد؟

قال آخر: ألم يكفهم أن يجعلوا أكثر المصاحف في المسجد برواية حفص عن عاصم .. فأين باقي القراء .. ألم يعلموا أن في بلدتنا من يقرأ برواية قالون عن نافع .. ومنهم من يقرأ برواية ورش عن نافع .. ومنهم من يقرأ برواية الدوري عن أبي عمرو .. فما بال أصحاب حفص عن عاصم يهيمنون علينا، وفي كل المحال.

قال آخر: لقد علمت أن الأعيان المسؤولين عن المساجد مجتمعون الآن في مجمع القراءات والتجويد، والإمام معهم؛ فهي فرصة لنا لأن نقدم شكوانا .. فهلم بنا إليها.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/66)

سرت معهم إلى المحل الذي ذكروا؛ وهناك وجدت نفرا كثيرين مجتمعين في حلقة كبيرة، وهناك رأيت معلمي الجديد معلم القصد والاعتدال جالسا بينهم، وفي صدر المجلس، والكل ينظر إليه باحترام شديد.

قال المعلم: لقد سمعت جميع أقوالكم .. وأرى أن ننظر إلى المسألة بعيدا عن كل الحساسيات والعصبيات، فقد وصف الله تعالى القرآن الكريم بكونه كتابا يسر للذكر، فقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 22] .. ولذلك؛ فإن الضابط الأكبر للقراءة التي عليكم أن تعتمدوها، وخاصة لعامة الناس، القراءة التي تتوفر على هذا القيد القرآني؛ فهو يجعل القارئ منصرفا إلى القراءة لا إلى تحقيق الحروف، وتطبيق الأحكام الصعبة .. وأخذكم بهذا سيوفر الوحدة لمجتمعكم ومدينتكم؛ فالقرآن الكريم يوحد قلوب المؤمنين، ولا يفرقها.

قال أحدهم: ولكن ماذا نفعل بالقراءت التي وجدنا عليها آباءنا؟

قال المعلم: يمكنكم أن تحتفظوا بها لدى متخصصين في القراءات، لا أن تنشروا مصاحفها بين الناس، أو تعلموها للصبية الصغار؛ فذلك مما يبعدهم عن مقصد القرآن الكريم الأكبر الذي هو التدبر والتأمل في معانيه، لا في إقامة حروفه.

1 ـ القراءات واليسر

قام رجل، وقال: بورك فيك أيها المعلم المنور بنور الإيمان .. وهذا ما قلته لهم كثيرا .. فأنا إمام بمسجد من مساجد هذه المدينة، وقد رأيت بعد بحث طويل في القراءات أن أيسرها وأسهلها وأوفقها مع اللغة العربية الفصيحة التي نستعملها هي القراءة التي تنسب إلى عاصم برواية حفص .. ذلك أني ـ بعد تجربة طويلة في تعليم القرآن الكريم ـ وجدت أنها

القرآن.. وتحريف الغالين (1/67)

الأيسر على العامة والخاصة على حد سواء .. ولهذا تركت القراءة التي وجدت عليها آبائي، وهي رواية ورش عن نافع، لكونها صعبة جدا، بل قل من يتقنها حتى من القراء المشهورين أنفسهم، وهم يقرون بذلك، ويفتخرون به.

قال آخر: صدقت يا إمامنا .. وأنا مثلك .. وقد اقتنعت بنصيحتك .. وعندما بحثت في تاريخ القراءات وانتشارها وجدت أنها أكثر القراءات انتشارا بين عامة المسلمين، وكلهم متفقون على يسرها وسهولتها وكونها الأكثر اتفاقا مع اللغة التي كتبت بها الكتب، ودونت بها العلوم.

قال آخر: وكمثال على ذلك؛ فإن رواية حفص عن عاصم ليس فيها عمل كثير إضافي، كالإمالة الكثيرة في قراءة حمزة والكسائي وخلف، وهم قراء الكوفة.

قال آخر: وليس فيها المد المشبع في المنفصل والمتصل، والسكت المتكرر على الهمز الذي قبله ساكن موصولاً كان أم مفصولاً، والوقف على الهمز كما في قراءة حمزة وهشام .. وليس فيها إمالة هاء التأنيث حال الوقف عند الكسائي .. وكلها صعبة الأداء.

قال آخر: وليس فيها المدود الكثيرة كما في قراءة ورش عن نافع، أوصلة ميم الجمع وسكونها واختلاف المد المنفصل في قراءة قالون عن نافع أيضًا، والصلة المتكررة أيضًا في قراءة ابن كثير المكي وأبي جعفر المدني .. وكل ذلك يحتاج نفسا طويلا، وهو صعب على عامة الناس.

قال آخر: وليس فيها الإدغام الكثير للمثلين الكبير والمتقاربين، كما في رواية السوسي عن أبي عمرو، أوالعمل في الهمز المتتالي سواء كان في كلمة أوكلمتين، عند نافع وابن كثير وأبي عمرووابن عامر.

قال آخر: بالإضافة إلى ذلك؛ فإننا نلاحظ جميعا أن رواية حفص متناسبة مع اللغة

القرآن.. وتحريف الغالين (1/68)

العربية الفصحى التي يتحدث بها أكثر العرب والمسلمين .. ومن الأمثلة على ذلك عند المقارنة بين ورش وحفص في نطق الهمزة، حيث نجد ورش يميل إلى تسهيلها في بعض الآيات، وحذفها في آيات أخرى، وأحيانا يقلب الياء همزة .. بالإضافة إلى تفرده بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، حتى أن ذلك أثر في القراء الذين يقرؤون بتلك القراءة، وميز لغتهم عن الفصحى التي يعتمدها سائر العرب والمسلمين.

قال آخر: ومثل ذلك في الياء التي تأتي بعدها همزة مفتوحة؛ حيث يقرؤها ورش بالفتح، أما حفص فيقرؤها بالسكون، كما ننطق بها في كلامنا العادي .. فقوله تعالى ـ مثلا ـ: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [النمل: 19] يقرؤها ورش {ربِّ أوزعنيَ} بفتح الياء .. وهكذا الياء التي تأتى بعدها همزة مكسورة، حيث يقرؤها ورش بالفتح، فيقرأ قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100]، حيث يقرؤها ورش بفتح ياء {إِخْوَتِيَ}

قال آخر (1): ومثل ذلك عند المقارنة بين تفخيم الراء وترقيقها بين ورش وحفص، حيث نجدا حفصا يميل إلى الأصل الذي يميل إليه اللسان، وهو أن الأصل في الراء التفخيم، وأنه لا يجوز الترقيق إلا لعلة أوجبت ذلك، لكن ورشا اعتمد منهجا صعبا جدا، قل من يتقنه .. فهو قد انفرد بترقيق الراء إذا كانت مفتوحة أو مضمومة، وكان قبلها ياء ساكنة أو كسرة متصلة بها، وعلته في ترقيق الراء المضمومة إذا أتت بعد كسر نحو {الخاسرون} أوبعد ياء ساكنة نحو: {بشير} أوقبله ساكن وقبل الساكن كسرة نحو: {لذكرُ} عدم الاعتداد بحركة الراء لأجل قرب الكسرة منها أوالياء .. ولم يعتد كذلك بالساكن لضعفه بالسكون، وكأن الراء قبلها كسرة مباشرة.

__________

(1)  القراءات روايتا ورش وحفص دراسة تحليلية مقارنة/213.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/69)

قال آخر (1): وأما علته في تفخيم كلمة {كِبْر} [غافر:56]، و {عشرون} [الأنفال:65] ولم يرققها في {ذكرُ} [الأعراف:63] لأن الكاف أقرب مخرجا إلى الذال منها إلى الراء ولذلك فخمت الراء في {كِبْر} لبعد المخرجين ورققت في {الذكرُ} لقرب المخرجين، وأما {عشرون} ففخمت لصفة التفشي التي فيها.

قال آخر (2): وعلته في تفخيم الراء بعد حروف الاستعلاء لقوتها، واستثنى حرف الخاء وذلك لضعفه بصفة الهمس .. وعلته في ترقيق الراء إذا تكرر نحو {بشرر} من أجل قوة الكسرة في الراء الثانية، ولم يرقق الراء في {الضرر} وذلك لوجود حرف الاستعلاء الذي قبل الراء وهوالضاد .. وروي عنه وجهان في {حيران} فرققها بعض أهل الأداء على حسب قاعدته، وفخمها الآخرون وذلك لأجل الجمع بين اللغتين.

قال آخر (3): وغيرها من الأحكام العسيرة الصعبة .. ولهذا قل من يتقنها، وحتى الذي يتقنها يشعر بالفرق الكبير بينها وبين قراءته برواية حفص عن عاصم.

قال أحد المخالفين: لكن ما تقولون بتواتر أداء القراءات .. وكونها جميعا مما قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. ألسنا عندما نترك ما روي عن ورش من ترقيق الراءات، ومد المدود وغيرها، نكون قد ضيعنا أو أمتنا سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القراءة؟

قال آخر (4): أليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي اقرأ أصحابه بتحقيق الهمزات وبتسهيلها، وكذلك بالفتح والإمالة، وبالإدغام وبالإظهار، وبتطويل زمن الغنة في محلها، وبتطويل الصوت بحروف المد، وبقلقلة حروف (قطب جد)، وهوالذي أذن بقراءة هذه بوجه وهذه بوجهين وهذه بثلاث وهذه بأربع .. وجرى كل وجه جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القراءة والأداء على

__________

(1)  القراءات روايتا ورش وحفص دراسة تحليلية مقارنة/214.

(2)  القراءات روايتا ورش وحفص دراسة تحليلية مقارنة/214.

(3)  التمهيد: 2/ 245.

(4)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 4.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/70)

أنه وحي معصوم، والأئمة رووه عنه بالتوقيف؟

قال المعلم (1): ليس كل ما ينتشر أو يشاع علما .. فهل حققتم في حقيقة هذا؛ أم أنكم تلقيتموه تقليدا؟

قال الإمام: ما دمنا جلسنا في مجلسنا هذا، ومع شخصكم الموقر؛ فإن الحق أحق أن يتبع ويقال، مهما كانت نتائجه .. وقد بحثت في هذا كثيرا، لكني لم أستطع التصريح بما وصلت إليه من نتائج خشية من قومي .. فإن أذنتم لي ذكرت لكم ما وصلت إليه، وأدلتها، وإلا ألتزم ما أنتم عليه إلى أن يحكم الله بيني وبينكم.

قال المعلم: تحدث ما بدا لك .. فهذه الوجوه الكريمة لا يمكنها أن تصم آذانها على أي قول ما دام يستند للبراهين والحجج .. فاعرض ما عندك، ولهم أن يناقشوك بما تهديهم إليه الحقائق لا النفوس.

قال الإمام (2): ما دمت قد ذكرت ذلك .. وسكت الجميع مؤيدين لك .. فالنتيجة التي وصلت إليها بعد بحوث طويلة هي أن الأدلة كلها تدل على أن الاختلاف في صفات أداء التلاوة إنما هوناشئ عن اختلاف القراء في اختيارهم، واختلاف لهجاتهم وأدائهم للحروف، وتأثرهم بطبيعة لهجات القبائل العربية المتناثرة في كل قطر، وليس أصله التلقي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا، فقد حصل لبس وخلط عظيم عند طائفة من السابقين وكثير من اللاحقين بين الاختلاف في القراءة الذي منشؤه الكلام نفسه من زيادة أونقص في حروفه أوتغيير في إعرابه وبين الاختلاف الذي منشؤه الاختلاف الطبيعي عند قبائل العرب في الأصوات والنطق والكلام، بسبب تنوع لهجاتهم وتنائي محلاتهم، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي

__________

(1)  تواتر القراءات بين الظن والتوهم والواقع اليقين، ص 7.

(2)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 5.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/71)

ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]، فقد ذكر الله تعالى أنه بقدرته الباهرة جعل اختلاف البشر في الألسنة وفي كيفية النطق؛ فظن أولئك أن كل ذلك الاختلاف بجميع تفاصيله من أنواع المدود والغنن والإمالات والإدغامات والترقيقات والتفخيمات والتغليظات والروم والإشمام والهمز والتسهيل والبدل وغير ذلك من الأنواع أنه متلقى بالإسناد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك؛ فإن القراء يتصرفون في أدائهم للقراءة باعتبار أن ذلك من التغني والترتيل المأمور به ليس على وجه واحد أووتيرة واحدة، وهم بهذا التصرف والتنوع لا يخرجون عن اللسان العربي، والقرآن أنزل باللسان العربي المبين.

قام أحد كبار القوم من المخالفين، وقال: إن ما تذكره خطير جدا، ولو أنك قلته في غير حضور المعلم، لكان لنا معك شأن آخر .. لكن بما أنه هو الذي أذن لك في الكلام؛ فإنا سنرفع عليك دعوى عند القاضي إن لم تذكر البينة على ما تقول.

قال الإمام: أجل .. سأذكر لكم سبعة أدلة، ولكم أن تناقشوني فيها كما تشاءون، وأنا مستعد بعدها لما تقضون به علي، لا في مجلس القاضي، بل في هذا المجلس.

الدليل الأول

قالوا: لك ذلك .. فما الدليل الأول؟

قال الإمام (1): عدم الدليل على أن صفة الأداء قد تُلقيت بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يوجد أي دليل على ذلك سوى الدعوى، ذلك أنه لم يذكر أي من القراء السبعة أو رواتهم أوغيرهم من القراء والأئمة المتقدمين أنهم تلقوا أداءهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال أحدهم: فما تقول فيما اشتهر عنهم من أن (القراءة سنة متبعة)؟

قال الإمام (2): ذلك حق لا مراء فيه؛ فالقراءة سنة متبعة؛ فلا يُقرأ القرآن حسب

__________

(1)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 9.

(2)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 9.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/72)

الرسم كيفما اتفق، لا سيما والقرآن ـ حين قيل هذا القول ـ لم يكن منقوطاً ولا مشكولاً، فلم يُنقط إلا في القرن الثاني الهجري، ولذلك كان من الممكن أن تُقرأ الآية الواحدة على أكثر من وجه .. ولذلك فإن مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة)، النطق الصحيح من غير لحن أوتبديل للكلمات أوالحروف أوالإعراب، وما يتغير به المعنى .. ولذلك كان اهتمام القراء والمتلقين عنهم في عصر السلف الأول منصباً على عدم اللحن والخطأ في الحروف، والكيفية الصحيحة لنطق الكلمة من غير تحريف في حروفها أوحركاتها، ولم يكن من اهتمامهم معرفة تفاصيل طريقة أداء الألفاظ وضبطها.

قال أحدهم (1): صدقت .. ولهذا نراهم يذكرون دائماً أن القراءة لا يُتجاوز بها طريقة الماضين، وذلك في ما يتعلق بالحروف والإعراب واللغة .. وهكذا نرى اختلاف الصحابة إنما كان يدور دائماً حول ما يتغير به اللفظ، وليس ما له علاقة بطريقة الأداء .. وهكذا نرى أن السلف ما كانوا يحذرون إلا من اللحن في القراءة، وكانوا ينكرون القراءة بغير إعراب ويمنعون منها، إلى غير ذلك، أما صفات الأداء واختلافها وتنوعها من إمالة وإدغام وروم والمدود ومقاديرها والغنن والتفخيم والترقيق وغير ذلك فلا يتأثر باختلافها المعنى.

قال الإمام (2): ويدل لهذا أنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد من أصحابه حرف واحد فيه ذكر الإدغام أوالإمالة أوالروم أوالإشمام أوالترقيق أوالتفخيم أوالتغليظ، أوالوقف على الساكن قبل الهمز، أوتحديد المد بحد أوبقيد، أوغيرها من تلك القوانين الكثيرة التي تمتلئ بها كتب القراءات والتجويد، وقد اختلف الصحابة في أشياء كثيرة من أمر القراءة، بخلاف ما يتعلق بصفات الأداء كهذه التي ذكرتها أوغيرها .. ألا يدل ذلك بوضوح على أن هذا كله من اجتهاد القراء بما يتماشى مع الإذن العام الصادر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون القراءة سهلة بابها

__________

(1)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 10.

(2)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 11.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/73)

واسع، فقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن القرآن يقرأ على (سبعة أحرف) شريطة أن لا يتنافر مع اللسان العربي الذي أنزل به القرآن.

قلت: لقد ذكرني قولك هذا بقول العلامة مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) في كتابه [الإبانة]، حيث قال: (وأما ما اختلفت فيه القراءة من الإدغام والإظهار والمد والقصر وتشديد وتخفيف وشبه ذلك فهومن القسم الأول، لأن القراءة بما يجوز منه في العربية وروى عن أئمة وثقات جائزة في القرآن، لأنه كله موافق للخط)(1) .. وكان قد ذكر أن القراءات ترجع إلى سبعة أوجه، ثم ذكرها وذكر الأول منها: أن يختلف في إعراب الكلمة، أوفي حركات بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب، ولا يغير معناها نحو: البُخْل والبَخَلَ، وميسَرة وميسُرة.

قال آخر: ومثله قال عبد الهادي حميتوفي كتابه [قراءة الإمام نافع عند المغاربة] بعد أن ذكر طريقة نافع في تعليمه للقرآن، وأنه كان يسهل القرآن لمن قرأ عليه، ويتقبل لهجة الراوي أياً كانت وهكذا بقية القراء: (بمثل هذه المرونة كان يتعامل نافع مع العارضين عليه، ولاسيما فيما يرجع إلى طرق الأداء التي تخضع كثيراً لعادة القارئ في النطق بالكلمات في لهجته، فيما يتعلق بالهمز، والتخفيف، والفتح، والإمالة، والإظهار، والإدغام ونحو ذلك، إذ كان أئمة القراء لا يأخذون القارئ بما قد لا يقوى عليه ولا يطوع به لسانه في الأداء، سيراً مع ما كان يسلكه أهل الفصاحة من التوسع في اللغة ووجوهها، والإبقاء على قدر من المرونة فيها، بشرط الابتعاد عن مظاهر التقعر والتكلف البعيد)

ثم ذكر أن هذا هو فعل سائر أئمة القراءة، فقال: (وعلى مثل هذا الصنيع درج أئمة القراء، فكانوا يفعلونه مع العارضين عليهم، فلا يلزمون القارئ في أصول الأداء بما يرونه

__________

(1)  الإبانة (1/ 78)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/74)

الوجه المختار لقوته في اللغة والقياس، أولشيوع استعماله في القراءة والأداء، ولهذا نجد الخلاف يتسع أحياناً في بعض حروف القرآن اتساعاً كبيراً، بسبب قبول اللغة فيها للوجوه المتعددة، كالوجوه في {أف} و {هيت لك} و {عبد الطاغوت} ونحوها .. ويدخل في هذا المنحى من التيسير على العارضين ما جاء عن نافع من قوله بالوجهين أوأكثر في أداء الحرف الواحد، وتخييره القارئ أحياناً في القراءة بأيها شاء، فقد روى عنه قالون مثلاً قوله: لا تبال كيف قرأت {بسطة} و {يبسط} بالصاد أو بالسين .. وإنما يرجع ذلك بعد الرواية والنقل إلى اختلاف الأصوات وتعدد اللغات، فلذلك رسم الصحابة بعضه بالصاد وباقيه بالسين، وذلك مألوف في اللغة والاستعمال مما يسميه علماء اللسان بتداخل اللغات .. وهذا تفسير كثير من الاختلاف في حروف القراءة وأصول الأداء، مثل الاختلاف في {الصراط} و {صراط} و {المصيطرون} و {يصدر الرعاء} ونحوها، ومثل الاختلاف في أحوال الهمز وتخفيفه بالإبدال أوالتسهيل أوالنقل أوالحذف، ومثل الفتح والتقليل والإمالة، تبعاً لما اعتاده لسان القارئ ودرج عليه في قراءته، وفي القراء يومئذ من لا يستقيم لسانه البتة بالنطق بغير ما درب على استعماله في لسانه من الحروف واللغات)(1)

قال أحد المخالفين: فما تقول فيما يروى عن حمزة أنه قال: (ما قرأت حرفاً إلا بأثر)، وقوله: (ما منها حرف قرأته إلا ولوشئت رويت فيه حديثاً)، ومثله قال الأعمش والثوري: (ما قرأ حمزة حرفاً إلا بأثر)، وقال شعيب بن حرب: (لوأردت أن أسند قراءة حمزة حرفاً حرفاً لفعلت)(2)

قال الإمام (3): فأين هذه الأحاديث والآثار التي تدل على تفاصيل الأداء .. لا يمكن

__________

(1)  قراءة الإمام نافع عند المغاربة (ص 400)

(2)  جمال القراء للسخاوي (ص 459)

(3)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 14.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/75)

أن يأتي آت بأثر أوحديث واحد فيه ذكر لشيء من طريقة الأداء، وفي هذا أعظم الدلالة على أن مرادهم بأقوالهم تلك إنما هوما يتعلق بالإعراب والحروف، وليس ما يتعلق بطريقة الأداء من مد أوإدغام أوإمالة أوغيرها.

الدليل الثاني

قال المعلم: ما رأيكم أيها الجمع المبارك في هذا الدليل؟

سكتوا، فقال المعلم: هلم .. اذكر لنا الدليل الثاني .. وأرجو من الحضور الاستماع جيدا؛ فإن كان في قوله ما ترون صوابه؛ فأيدوه، وإن رأيتم فيه ما ترون خطأه؛ فنبهوه، وإن رأيتم إشكالا؛ فسلوه.

قال الإمام: الدليل الثاني هو ما ورد من الأقول الكثيرة عن أئمة القراء، والتي تدل بوضوح على أن الاختلاف بينهم في طريقة الأداء صادر عن الاجتهاد والاختيار من لغات العرب، والتأثر بطبيعة الأداء بحروف القبائل العربية ونحو ذلك .. ومن تلك الأقوال قول ابن مجاهد بعد ذكره للذين رووا القراءة عن حمزة: (وكل هؤلاء متقاربون لا يكادون يختلفون في أصل من أصول قراءة حمزة، غير أنهم كانوا يتفاضلون في الألفاظ ورقة الألسن، ويختلفون في الإفراط في المد والتوسط فيه، وفي شيء من الإدغام أيضاً اختلفوا وقد بينت ذلك في كتابي هذا)(1)

قال آخر: ومثله قال أحمد بن نصر أبوبكر الشذائي (ت 373 هـ): (فأما صفة قراءة من انتحل ابن كثير فحسنة، مجهورة بتمكين بين .. وأما وصف قراءة من ينتحل نافعاً فسلسلة لها أدنى تمديد .. وأما صفة قراءة من ينتحل عاصماً فمترسلة جريشة، ذات ترتيل وكان عاصم نفسه موصوفاً بحسن الصوت وتجويد القراءة .. وأما صفة من ينتحل قراءة

__________

(1)  السبعة في القراءات، (ص 77)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/76)

حمزة فأكثر من رأينا منهم ما ينبغي أن تحكى قراءته لفسادها، ولأنها مصنوعة من تلقاء أنفسهم، وأما من كان منهم يعدل في قراءته حدراً أوتحقيقاً فصفتها المد العدل والقصر والهمز المقوم والتشديد المجود، بلا تمطيط ولا تشديق ولا تعلية صوت ولا ترعيد، فهذه صفة التحقيق .. وأما الحدر فسهل التكلف في أدنى ترتيل وأيسر تقطيع .. وأما وصف قراءة من ينتحل قراءة الكسائي فبين الوصفين في اعتدال .. وأما أصحاب قراءة ابن عامر فيضطربون في التقويم، ويخرجون عن الاعتدال .. وأما صفة من ينتحل قراءة أبي عمروفالتوسط والتدوير وهمزها سليم من اللكز، وتشديدها خارج عن التمضيغ، بترسل جزل وحدر بين سهل يتلوبعضها بعضاً)(1) .. ثم عقب على هذا بقوله: (وإلى هذا كان يذهب ابن مجاهد في هذه القراءة وغيرها، وبه قرأنا عليه، وبه كان يختار، وبمثله كان يأخذ ابن المنادي رحمة الله عليهما، والله الهادي)

قال آخر: ومثله روي عن أبي عمر قال: سمعت سليماً يقول: وقف الثوري على حمزة فقال: يا أبا عمارة ما هذا الهمز والمد والقطع الشديد؟ فقال: يا أبا عبد الله هذه رياضة للمتعلم، قال: صدقت .. ثم عقب أبوعمروالداني على هذا بقوله: (ولهذا المعنى الذي ذكره حمزة يرخص في المبالغة في التحقيق من يرخص من الشيوخ المتقدمين والقراء السالفين لترتاض به ألسنة المبتدئين وتتحكم فيه طباع المتعلمين، ثم يعرفون بعد حقيقته ويوقفون على المراد من كيفيته، فأما استعماله على غير ذلك فلا سبيل إليه البتة، للمتقدم من الأخبار عن الأئمة بكراهته والعدول عنه .. وقد حدثني الحسين بن علي بن شاكر البصري، حدثنا أحمد بن نصر المقرئ قال: فأما الإسراف في التحقيق الخارج عن التجويد فمعيب مذموم .. وسمعت ابن مجاهد وقد سئل عن وقف حمزة على الساكن قبل الهمزة، وإفراطه في المد إلى

__________

(1)  الداني في التحديد (ص 92)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/77)

غير ذلك، قال: كان حمزة يأخذ بذلك على المتعلم، ومراده أن يصل إلى ما نحن عليه من إعطاء الحروف حقوقها)(1)

قال آخر: بل قد روي هذا عن حمزة منصوصاً، فقد حدث خلف بن هشام قال: سألت سليم بن عيسى عن التحقيق، فقال: سمعت حمزة يقول: إنا جعلنا هذا التحقيق ليستمر عليه المتعلم .. وعن سليم قال: سمعت حمزة يقول: إنما أزيد على الغلام في المد ليأتي بالمعنى .. ويروى عن حمزة أنه قال: إنما الهمز رياضة، فإذا أحسنها الرجل سهلها (2).

قال آخر: ومثلهم قال أبوعمروالداني: (وقرأت على أبي الحسن بن غلبون بغير زيادة تمكين لحرف المد فيما تقدم، وسألته عن زيادة التمكين وإشباع المد فأنكره وبعَّد جوازه، وإلى ذلك كان يذهب شيخنا علي بن محمد بن بشر، وسائر أهل الأداء من البغداديين والشاميين، وقال بعض شيوخنا: هواختيار من ورش خالف فيه نافعاً، يعني الزيادة في المد، قال: وأهل العراق ينكرون ذلك ولا يأخذون به، وأهل مصر يروونه ويتركونه، وحكى لي الخاقاني أن أصحابه المصريين الذين قرأ عليهم اختلفوا في ذلك، فمن قائل منهم به، ومن منكر له .. وقال آخرون: إنما كان المشيخة من المصريين يأخذون بالتحقيق والإفراط في المد على المبتدئين على وجه الرياضة لهم، وهذا يدل على أن البالغ الإشباع الزائد في هذا الفصل ليس من مذهب نافع ولا اختياره، ولا من رواية ورش ولا أدائه، وأنه استحسان واختيار من أهل الأداء عن أصحابه .. فينبغي أن لا يفرط فيه في مذهب ورش، وكذلك قرأت على الخاقاني وأبي الفتح عن قراءتهما، وهوالذي يوجبه القياس ويحققه النظر وتدل عليه الآثار وتشهد بصحته النصوص، وهوالذي أتولاه وآخذ به)(3)

__________

(1)  التحديد في الإتقان والتجويد (ص 88)

(2)  السبعة في القراءات، لابن مجاهد (ص 76)

(3)  تفسير الطبري (1/ 355)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/78)

ثم عقب على هذا بقوله: (وقد وقعت في هذه الرواية التي قرأنا بها على ابن خاقان وفارس بن أحمد إلى جماعة لم تتحقق معرفتهم ولا استكملت درايتهم، فأفرطوا في إشباع التمكين إفراطاً أخرجوه بذلك عن حده ووزنه، قال لإبعاد جوازه وتخطئة ناقله وتجهيل منتحله والآخذ به)(1)

قال آخر: ومثلهم قال أبو الخير بن الجزري: (وذهب إلى القصر فيه أبو الحسن طاهر بن غلبون، ورد في تذكرته على من روى المد وأخذ به وغلط أصحابه، وبذلك قرأ الداني عليه، وذكره أيضاً ابن بليمة في تلخيصه، وهواختيار الشاطبي حسب ما نقله أبوشامة عن أبي الحسن السخاوي عنه .. قال أبوشامة: وما قال به ابن غلبون هوالحق)(2)

قال آخر: ومثلهم قال ابن مجاهد: (كان أبو عمروحسن الاختيار سهل القراءة، غير متكلف، يؤثر التخفيف ما وجد إليه السبيل)(3).

قال آخر: ومثلهم قال أبوعمرو الداني بعد أن ذكر مراتب القراء في طول المد: (وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف وتخليص السواكن، وتحقيق القراءة وحدرها، وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافاً يخرج عن المتعارف في اللغة والمتعالم في القراءة)(4)

قال آخر: ومثلهم قال ابن الجزري بعد أن ذكر مراتب القراء في المد: (ولا يخفى ما فيها من الاختلاف الشديد في تفاوت المراتب، وأنه ما من مرتبة ذكرت لشخص من القراء إلا وذكر له ما يليها، وكل ذلك يدل على شدة قرب كل مرتبة مما يليها، وإن مثل هذا التفاوت لا يكاد ينضبط)(5)

__________

(1)  تفسير الطبري (1/ 355)

(2)  النشر في القراءات العشر (1/ 339)

(3)  السبعة في القراءات (ص 84)

(4)  تفسير الطبري (1/ 342)

(5)  النشر (1/ 333)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/79)

قال آخر: ومثلهم روي إسحاق بن أحمد الخزاعي (ت 308 هـ) عن أصحابه أن المد كله مد يسير وسطاً مبيناً .. وقال: وكذلك كل ممدود في القرآن لا يسرفون في مده، ولكن يمده مداً حسناً (1).

قال آخر: ومثلهم روي عن أبي عمرو أنه قال: (الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها لا يحسنون غيره .. وتصديق ذلك في كتاب الله: {هل من مدكر}، و {اطيرنا بك}، و {اثاقلتم}، و {اضطر}، وكل شيء نحو {بسم الله الرحمن الرحيم} ما أذهب اللام؟ أليس لإدغامها في الراء .. والإدغام لا ينقص من الكلام شيئاً، إلا أنك إذا أدغمت شددت الحرف فلم تنقص شيئاً)(2) .. وقال: (والعرب إنما تدغم ليكون أخف، إذا كان الإدغام أثقل من التمام أتموا)(3)، وهذا يدل على أن الإدغام من أبي عمرواجتهاد واختيار، وليس بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولوكان أبوعمرو يقرأ بالإدغام نقلاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذكره، ورد به على من ينتقدونه .. ثم لماذا ينفرد به أبوعمرو من بين سائر القراء إذا كان الإدغام منقولاً بالسند إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (4).

قال الإمام (5): وما ذكروه في الإدغام الكبير قالوه في الإمالة، فالأدلة الكثيرة تدل على أنها اختيار من بعض القراء باعتبار أنها من لهجات العرب المعروفة، وبعضها من عادة بعض الكوفيين في كلامهم وألفاظهم، وقد روي عن ابن أبي حاتم أنه قال: (احتج الكوفيون في الإمالة بأنهم وجدوا في المصحف الياءات في موضع الألفات، فاتبعوا الخط وأمالوا ليقربوا من الياءات)(6)

قال آخر: ومثله ما روي أنه قيل للكسائي: إنك تُميل ما قبل هاء التأنيث، فقال: (هذا

__________

(1)  ذكره الداني في تفسير الطبري (1/ 344)

(2)  الداني في الإدغام الكبير (ص 39)

(3)  جمال القراء (ص 481)

(4)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 23.

(5)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 23.

(6)  الإتقان (1/ 314)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/80)

طباع العربية)، وقد علق عليه أبوعمرو الداني بقوله: (يعني بذلك أن الإمالة هنا لغة أهل الكوفة وهي باقية فيهم إلى الآن)(1)

قال آخر (2): ومثله ابن الجزري؛ فقد قال يذكر لهجات أهل زمانه: (والإمالة في هاء التأنيث وما شابهها من نحو (همزة، ولمزة، وخليفة، وبصيرة) هي لغة الناس اليوم والجارية على ألسنتهم في أكثر البلاد شرقاً وغرباً وشاماً ومصراً، لا يحسنون غيرها ولا ينطقون بسواها، يرون ذلك أخف على لسانهم وأسهل في طباعهم، وقد حكاها سيبويه عن العرب)

قال الإمام: وهكذا نجد الروايات الكثيرة عنهم، تدل على أن أداءهم استحسان استحسنوه، لا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الأزرق ـ صاحب ورش ـ عن أستاذه، فقد قال: (لما جئت لأقرأ عليه قلت له: يا أبا سعيد، إني أحب أن تقرئني مقرأ نافع خالصاً، وتدعني مما استحسنت لنفسك، قال: فقلدته مقرأ نافع)(3) .. وقال ابن مجاهد عند ذكر الإدغام: (كان نافع لا يكاد يدغم إلا ما كان إظهاره خروجاً من كلام العرب، إلا حروفاً يسيرة)(4) .. وقال اليزيدي: (كان أبوعمرو قد عرف القراءات فقرأ من كل قراءة بأحسنها وبما يختار العرب، وبما بلغه من لغة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(5)

قال آخر: ومثله ذكر بعض المتأخرين طريقة نافع في تعليمه للقرآن، فقال: (بمثل هذه المرونة كان يتعامل نافع مع العارضين عليه، ولاسيما فيما يرجع إلى طرق الأداء التي تخضع كثيراً لعادة القارئ في النطق بالكلمات في لهجته، فيما يتعلق بالهمز والتخفيف والفتح والإمالة والإظهار والإدغام ونحوذلك، إذ كان أئمة القراء لا يأخذون القارئ بما قد لا يقوى عليه ولا يطوع به لسانه في الأداء، سيراً مع ما كان يسلكه أهل الفصاحة من التوسع

__________

(1)  النشر في القراءات العشر (2/ 82)

(2)  النشر في القراءات العشر (2/ 82)

(3)  معرفة القراء للذهبي (1/ 373)

(4)  السبعة في القراءات (ص 113)

(5)  معرفة القراء الكبار للذهبي (1/ 229)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/81)

في اللغة ووجوهها، والإبقاء على قدر من المرونة فيها .. وعلى مثل هذا الصنيع درج أئمة القراء، فكانوا يفعلونه مع العارضين عليهم، فلا يلزمون القارئ في أصول الأداء بما يرونه الوجه المختار لقوته في اللغة والقياس، أولشيوع استعماله في القراءة والأداء، ولهذا نجد الخلاف يتسع أحياناً في بعض حروف القرآن اتساعاً كبيراً، بسبب قبول اللغة فيها للوجوه المتعددة)(1)

قال آخر: ومثلهما ذكر بعض المتأخرين ذلك عن سائر القراء، فقال: (لكل مدرسة خصائص معينة نتيجة لاختلاف الروايات المقروءة في الرسم العثماني، أوبسبب التأثر بطبيعة الأداء بحروف القبائل العربية القاطنة في كل قطر)(2)

قال آخر: ومثلهم قال عاصم: قرأت يوماً على أبي عبد الرحمن السلمي حتى تحول من مجلس القرآن إلى حلقة فيها نفر من الصحابة، وكان إذا فرغ من مجلس الإقراء يجلس إليهم، وفيهم: زر بن حبيش، وشقيق بن سلمة، والمسيب، وكان يجالسهم يزيد بن الحكم الثقفي، فقلت: إن أهل المجلس يدغمون حروفاً كثيرة، ويقولون: ذلك جائز في الكلام .. فذكرت: {هل ترى}، وقلت: يقولون: (هترى)، و {لبثت}، فقلت: يقولون: (لبت)، وأشباه ذلك، فأعظموا ذلك جميعاً، ثم قال أبوعبد الرحمن السلمي: قاتلهم الله أخذوا هذا من قول الشعر، فإن الشاعر يدغم وينقص من الحروف لئلا ينكسر عليه البيت (3).

قال آخر: ومثلهم قال أبوشامة: (لا يكلف أحد إلا قدر استطاعته، فمن كانت لغته الإمالة، أوتخفيف الهمز، أوالإدغام، أوضم ميم الجمع، أوصلة هاء الكناية، أونحوذلك فكيف يكلف غيره؟ وكذا كل من كان من لغته أن ينطق بالشين التي كالجيم في نحو

__________

(1)  قراءة الإمام نافع عند المغاربة (1/ 400)

(2)  تاريخ القراءات (ص 12)

(3)  جمال القراء للسخاوي (ص 476)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/82)

(أشدق) والصاد التي كالزاي في نحو (مصدر)، والكاف التي كالجيم والجيم التي كالكاف ونحوذلك، فهم في ذلك بمنزلة الألثغ والأرت، لا يكلف ما ليس في وسعه)(1)

قال آخر: ومثلهم قال ابن تيمية: (وأما كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغ للصحابة أن يقرؤوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلفظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من القطع بثبوته)(2)

قال آخر: ومثلهم قال بعض المتأخرين، وهو محمد حسن حسن: (القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عربياً بلغة قريش، وقرأه الصحابة بلهجاتهم، فأدوا الألفاظ بأعيانها، والعبارات والجمل والآيات بأعيانها، لكن نطقهم للألفاظ والعبارات والجمل والآيات كان بحسب نطق قبائلهم، أي: بهيئة النطق التي اعتادوها منذ ولدوا في قبائلهم .. وتلقى أئمة القراءات السبعة والعشرة عن التابعين أوأتباع التابعين القرآن الكريم بأعيان ألفاظه وعباراته وآياته وسوره التي تلقاها الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن بهيئات النطق التي اعتادها التابعون وأتباع التابعين، فاختار كل من الأئمة العشرة من هيئات نطق القرآن ما يسره الله له)(3)، وعلل ذلك بقوله: (القراءات داخلة تحت الإذن العام من المولى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرأ كل قوم بلغتهم، أما الإدعاء بأن كل جزئية من تلك القراءات هي متلقاة بعينها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهوكلام سنده الحماس، لأن العربي يدغم أويفك ويميل أوينصب الخ حسب لهجته دون احتياج إلى توقيف)(4)

قال الإمام (5): ويضاف إلى هذا الدليل، أو هو قريب منه أن القراء وعلماء القراءات والمؤلفين في القراءات يستعملون القواعد والتعليلات والقياس كثيراً في أنواع كثيرة من

__________

(1)  المرشد الوجيز (ص 97)

(2)  جامع المسائل (1/ 113)

(3)  القضايا الكبرى في القراءات القرآنية (ص 75)

(4)  القضايا الكبرى في القراءات القرآنية (ص 68)

(5)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 49.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/83)

الأداء .. ولهذا نرى أداء الرواة في أحيان كثيرة مبنى على قواعد لغوية وتعليلات، وهذا أمر مشهور معمول به عند القراء وعند العلماء.

قال آخر: صدقت .. وقد ذكر ابن الجزري ذلك، فقال: (أما إذا كان القياس على إجماع انعقد أوعن أصل يعتمد فيصير إليه عند عدم النص وغموض وجه الأداء فإنه مما يسوغ قبوله ولا ينبغي رده .. كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء، وفي إثبات البسملة وعدمها لبعض القراء، ونقل {كتابيه إني}، وإدغام {ماليه هلك} قياساً عليه، وكذلك قياس (قال رجلان. وقال رجل) على (قال رب) في الإدغام)(1)

قال آخر: ومثله أشار مكي بن أبي طالب، حيث قال: (فجميع ما ذكرناه في هذا الكتاب ينقسم ثلاثة أقسام: قسم قرأت به ونقلته وهومنصوص في الكتب موجود .. وقسم قرأت به وأخذته لفظاً أوسماعاً وهوغير موجود في الكتب .. وقسم لم أقرأ به ولا وجدته في الكتب ولكن قسته على ما قرأت به، إذ لا يمكن فيه إلا ذلك عند عدم الرواية في النقل والنص)(2)

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن الجزري من أن أبا عمروقال في {آل لوط}: لا أدغمها لقلة حروفها) .. وقال: ورد الداني هذا المانع بإدغام (لك كيداً) إجماعاً إذ هوأقل حروفاً من آل، فإن هذه الكلمة على وزن قال لفظاً، وإن كان رسمها بحرفين اختصاراً (3).

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن مجاهد في مسألة الهمزتين المتلاصقتين في كلمتين، حيث قال: (ورأيت بعضهم يلينها فيلفظ بها كالمختلسة من غير ضمة تتبين على

__________

(1)  النشر في القراءات العشر (1/ 17)

(2)  النشر في القراءات العشر (1/ 17)

(3)  النشر في القراءات العشر (1/ 282)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/84)

الواوولا كسرة على الياء، وهذا أجود الوجهين، لأن الهمزتين إنما يكتفي بإحداهما عن الأخرى طلباً للتخفيف، فإذا خلفت المكسورة بياء مكسورة كانت أثقل من الهمزة، ولم يكونوا ليفروا من ثقيل إلى ما هوأثقل منه .. وكذلك الضمة على الواوأثقل من اجتماع همزتين، وإن امتحنت ذلك وجدته كذلك)(1)

الدليل الثالث

قال المعلم: ما رأيكم أيها الجمع المبارك في هذا الدليل؟

سكتوا، فقال المعلم: هلم .. اذكر لنا الدليل الثالث.

قال الإمام (2): الدليل الثالث هو ما ورد في انفراد بعض القراء أوبعض رواتهم بأنواع من الأداء لا يشاركهم أحد .. ولو أن هذا كان مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما زهد جميع القراء بهذا الأداء إلا فرداً واحداً من القراء .. ومن الأمثلة على ذلك انفراد أبي عمروالبصري بالإدغام الكبير .. ومنهم من خص به السوسي وحده (3).

قال آخر: ومثله انفراد خلف عن حمزة بإشمام الصاد الزاي في {الصراط} في جميع القرآن (4) .. ومنها انفراد ابن كثير بوصل هاء الكناية بالياء أوبالواو (5) .. وانفراد ابن كثير وأبي جعفر بوصل ميم الجمع بواو، كمثل قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] .. وانفراد ورش بمد حرف المد بعد الهمز نحو {آمنوا} و {الآخرة}

قال آخر: ومثلهم انفراد ورش بتغليظ اللامات، وقد قال ابن الجزري في ذلك: (وقد اختص المصريون بمذهب عن ورش في اللام، ولم يشاركهم فيها سواهم، ورووا من طريق الأزرق وغيره عن ورش تغليظ اللام)(6)

__________

(1)  السبعة في القراءات (ص 138)

(2)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 31.

(3)  النشر في القراءات العشر (1/ 276)

(4)  النشر (1/ 272)

(5)  النشر في القراءات العشر (1/ 305)

(6)  النشر في القراءات العشر (2/ 111)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/85)

قال آخر: ومثلهم انفراد الأزرق عن ورش بترقيق الراءات، وقد قال ابن الجزري في ذلك: (فإن الأزرق له فيها مذهب خالف سائر القراء، وهوالترقيق)(1) .. كما انفرد عن ورش بمد حرف المد بعد الهمز مثل {آمنوا} و {جاء آل فرعون} (2)

قال آخر: ومثل ذلك ما روي عن ابن الجزري، فقد قال: (وقد انفرد أبو عبد الله بن شريح في الكافي بمد ما كان على حرفين في فواتح السور، فحكى عن رواية أهل المغرب عن ورش أنه كان يمد ذلك كله، واستثنى الراء من (الر، والمر) والطاء والهاء من (طه) قلت: وكأنهم نظروا إلى وجود الهمز مقدراً بحسب الأصل)(3)

قال آخر (4): ومثل ذلك انفراد يعقوب بضم الهاء من ضمير التثنية والجمع إذا وقعت بعد ياء ساكنة نحو: عليهم وإليهم ولديهم، وعليهما وإليهما وفيهما، وعليهن وإليهن وفيهن، وأبيهم وصياصيهم وبجنتيهم وترميهم وما نريهم وبين أيديهن وشبه ذلك. قرأ يعقوب جميع ذلك بضم الهاء.

قال آخر (5): ومثل ذلك انفراد أبي عمروبكسر الميم والهاء في نحو {قلوبهم العجل، وبهم الأسباب، ويغنيهم الله، ويريهم الله، وعليهم القتال، ومن يومهم الذي}

انفراد أبي عمروبإسقاط الهمزة الأولى من كل همزتين في كلمتين. النشر في القراءات العشر (1/ 382)

قال آخر: ومثل ذلك انفراد ورش بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها (6) .. وانفراد حمزة بالسكت على الساكن قبل الهمز (7) .. وانفراد أبي جعفر بالسكت على حروف الهجاء

__________

(1)  النشر في القراءات العشر (2/ 93)

(2)  النشر في القراءات العشر (2/ 93)

(3)  النشر في القراءات العشر (1/ 345)

(4)  النشر في القراءات العشر (1/ 272)

(5)  النشر في القراءات العشر (1/ 274)

(6)  النشر في القراءات العشر (1/ 408)

(7)  النشر في القراءات العشر (1/ 420)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/86)

الواردة في فواتح السور (1).

قال آخر: ومثل ذلك انفراد حمزة بتسهيل الهمز في الوقف، وقد قال ابن الجزري في ذلك: (وقد اختص حمزة بذلك من حيث إن قراءته اشتملت على شدة التحقيق والترتيل والمد والسكت فناسب التسهيل في الوقف)(2)

الدليل الرابع

قال المعلم: ما رأيكم أيها الجمع المبارك في هذا الدليل؟

سكتوا، فقال المعلم: هلم .. اذكر لنا الدليل الرابع.

قال الإمام (3): الدليل الرابع هو كثرة الاختلاف والروايات والطرق والأوجه بلا حد ولا عد .. ذلك أنه من المعلوم أن القراء المشهورين عشرة، ولكل قارئ راويان، ولكل راو طريقان، ولكل طريق طريقان أيضاً، فالمجموع ثمانون طريقاً .. ويستحيل أن يكون كل ذلك مرويا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر: صدقت .. فعاصم بن أبي النجود ـ مثلا ـ راوياه حفص وشعبة .. وحفص راوياه عبيد بن الصباح وعمروبن الصباح .. وعبيد بن الصباح راوياه أبوالحسن الهاشمي وأبوطاهر .. والطرق المتشعبة عنها بالمئات، فقد جاء من طريق أبي الحسن الهاشمي من عشرة طرق، ومن طريق أبي طاهر من أربعة عشر طريقاً، وهكذا.

قال آخر: لقد ذكر ابن الجزري ذلك عندما فرغ من ذكر أسانيده التي تلقى بها القراءات في كتابه، فقال: (فهذا ما تيسر من أسانيدنا للقراءات العشر من الطرق المذكورة التي أشرنا إليها، وجملة ما تحرر عنهم من الطرق بالتقريب نحوألف طريق)(4) .. مع العلم

__________

(1)  النشر في القراءات العشر (1/ 424)

(2)  النشر في القراءات العشر (1/ 430)

(3)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 35.

(4)  النشر في القراءات العشر (1/ 192)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/87)

أنه لم يضمن النشر وطيبته كل القراءات والروايات والطرق الصحيحة، بل قد يكون ما ترك من بعض الطرق أمثل مما ذكر.

قال آخر: وقال في موضع آخر: (من نظر أسانيد كتب القراءات وأحاط بتراجم الرواة عرف قدر ما سبرنا ونقحنا واعتبرنا وصححنا، وهذا علم أهمل وباب أغلق، وهو السبب الأعظم في ترك كثير من القراءات والله تعالى يحفظ ما بقي)(1)

قال آخر: ومثله قال أبوحيان: (التيسير لأبي عمروالداني، والشاطبية لابن فيره لم يحويا جميع القراءات السبع، وإنما هي نزر يسير من القراءات السبع)(2) .. وقال: (وتلخص من هذا كله اتساع روايات غير أهل بلادنا، وأن الذي تضمنه التيسير والتبصرة والكافي وغيرها من تأليف أهل بلادنا إنما هو قل من كثر ونزر من بحر، وبيان ذلك أن في هذه الكتب مثلاً قراءة نافع من رواية ورش وقالون، وقد روى الناس عن نافع غير ورش وقالون، منهم إسماعيل بن جعفر المدني، وأبوخليد، وابن جماز، والأصمعي، والمسيبي، وغيرهم وفي هؤلاء من هوأعلم وأوثق من ورش وقالون، ثم روى أصحابنا رواية ورش عن أبي يعقوب، عن الأزرق، ولم يتسع لهم أن يضمنوا كتبهم رواية يونس بن عبد الأعلى، وداود بن أبي طيبة، وأبي الأزهر، قرؤوا على ورش، وفيهم من هوأعلى وأوثق من ورش، وهذا أنموذج مما روى أصحابنا في كتبهم، وكذا العمل في كل قارئ قرأ وكل راو روى من الأربعة عشر راوياً الذين ضمنهم أصحابنا كتبهم)(3)

قال آخر: ومثله قال الزركشي: (كان بمصر أبوعلي المالكي مؤلف الروضة، وكان قد قرأ بالعراق وأقرأ بمصر، وبعدهم التاج الكندي فأقرأ الناس بروايات كثيرة لم تصل إلى

__________

(1)  النشر في القراءات العشر (1/ 193)

(2)  منجد المقرئين (ص 103)

(3)  منجد المقرئين (ص 106)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/88)

بلادنا، وكان أيضاً ابن مامويه بدمشق يقرئ القرآن بالقراءات العشر، وبمصر النظام الكوفي يقرئ بالعشر وبغيرها، كقراءة ابن محيصن والحسن، وكان بمكة أيضاً زاهر بن رستم وأبوبكر الزنجاني، وكانا قد أخذا عن أبي الكرم الشهرزوري كتاب المصباح الزاهر في القراءات العشر البواهر، وأقرأه الزنجاني لبعض شيوخنا .. وكان عز الدين الفاروثي بدمشق يقرئ القرآن بروايات كثيرة، حتى قيل إنه أقرأ بقراءة أبي حنيفة .. والحاصل اتساع روايات غير بلادنا، وأن الذي تضمنه التيسير والتبصرة والكافي وغيرها من تآليفهم إنما هو قل من كثر ونزر من بحر .. وبيانه أن في هذه الكتب مثلاً قراءة نافع من رواية ورش وقالون، وقد روى الناس عن نافع غيرهما، منهم إسماعيل بن أبي جعفر المدني وأبوخلف وابن حبان والأصمعي والسبتي وغيرهم، ومن هؤلاء من هوأعلم وأوثق من ورش وقالون، وكذا العمل في كل راووقارئ)(1)

قال آخر: ومثله قال بعض المتأخرين: (تضخمت أوجه الأداء حسب قواعد الرواة وأصولهم إلى أعداد يصعب التأكد أنها رويت كلها مشافهة عن الأئمة، وأمثلتها كثيرة، إذ يكفي أن نطالع كتاب [غيث النفع] للشيخ النوري السفاقسي لنراه يسرد لنا مثلاً أن أوجه الأمداد والروم والإشمام في قوله تعالى: (فانصرنا على القوم الكافرين) يبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وتسعين وجهاً، وذكر أن لورش وحده خمسمائة وستين وجهاً)(2)

قال الإمام (3): وكل ذلك يعود لكثرة الاختلاف عن القراء أو عن رواتهم؛ فلا يكاد يوجد نوع أداء عن قارئ أوراو إلا ويختلف عنه الآخذون عنه .. ومن الأمثلة على ذلك ما أورده ابن الجزري في كتاب النشر في القراءات العشر، من كثرة هذا الاختلاف، وهو يدل

__________

(1)  البرهان (1/ 325)

(2)  هو محمد المختار في تاريخ القراءات (ص 24)

(3)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 81.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/89)

على أن جميع صفات الأداء ليست منقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هي من اختلاف القراء أنفسهم ومن رووا عنهم.

قال آخر: صدقت .. ومن الأمثلة على ذلك قول ابن الجزري: (سكت حمزة على الساكن قبل الهمز وقال: واختلفت الطرق فيه عنه وعن أصحابه اختلافاً كثيراً)(1)

قال آخر: ومثله قال وقال ابن الجزري في قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى} [الإسراء: 26]: (كان ابن مجاهد وأصحابه وابن المنادي وكثير من البغداديين يأخذونه بالإظهار من أجل النقص وقلة الحروف .. وكان ابن شنبوذ وأصحابه وأبوبكر الداجوني ومن تبعهم يأخذونه بالإدغام للتقارب وقوة الكسر)(2)

قال الإمام (3): ويدل لهذا، ويؤكده ظهور ما يسمى بعلم التحريرات، وهوالذي فتح أنواعاً لا تنتهي من الاختلافات بين القراء وأتباعهم في الأداء، واعتراض بعض القراء على ذلك، مما يدل على أن الاختلاف بين القراء في الأداء مصدره الاجتهاد والاختيار، وليس الإسناد.

قال آخر (4): صدقت .. فهذا العلم لم يظهر إلا في أواخر القرن الحادي عشر الهجري .. وهو حادث متأخر، حيث ظهر ما نعرفه اليوم [التحريرات] على طيبة النشر، والتي صنفت فيها التصانيف الكثيرة، مما أدى إلى عزوف الكثير من طلبة العلم عن القراءة من طريق طيبة النشر على الشيوخ، لكثرة مسائل التحريرات، وتباينها من شيخ إلى آخر، ومن كتاب إلى آخر.

قال آخر: ومن الأمثلة على ذلك قول بعضهم، وهو الشيخ الأزميري فيما لاحظه من

__________

(1)  النشر في القراءات العشر (1/ 420)

(2)  النشر في القراءات العشر (1/ 288)

(3)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 88.

(4)  التحريرات على طيبة النشر بين الرواية والاجتهاد (ص 13)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/90)

كتاب النشر لابن الجزري: (هذا بيان ما طغى به القلم وما أهمله في كتابه المسمى بالنشر وما أجمله .. فإن الإمام ابن الجزري ذكر في نشره عدة من كتب القراءات، ثم عزا في بعض المواضع منه بعض الأوجه إلى بعض تلك الكتب، وأمسك عن ذكر بعضها، فلبس بإبهامه على الناظر فيه، فلم يدر ما الذي من ذلك في المسكوت عنه منها .. وذكر أيضاً في النشر أشياء ونسبها إلى بعض تلك الكتب بخلاف ما فيه .. فتجشمت تحرير ذلك)(1)

قال آخر (2): لقد تتبعت تلك التحريرات، فوجدتها على قسمين: أولها متعلق بالرواية وتنقيح الروايات في كتب ابن الجزري من أي تركيب أو تداخل في الطرق .. والثاني، يمثل الجانب الذي خرجت فيه التحريرات عن مسارها السابق، وخضعت فيه مرويات ابن الجزري، ونصوصه وأحكامه على الروايات للاجتهاد وأفهام عقول المحررين، في خطوة جريئة ونقلة نوعية قامت عليها التحريرات، وفتحت باباً عظيماً لن يوصد، ماجت فيه الآراء واضطربت فيه الأقوال، وكثرت فيه التساؤلات حتى يومنا هذا)

الدليل الخامس

قال المعلم: ما رأيكم أيها الجمع المبارك في هذا الدليل؟

سكتوا، فقال المعلم: هلم .. اذكر لنا الدليل الخامس.

قال الإمام (3): الدليل الخامس أن منشأ الاختلاف في القراءات القرآنية الإذن العام بأن يقرأ كل إنسان بلهجته، والاختلاف في الأداء كذلك .. ذلك أنه من المعلوم أن في القراءات القرآنية كلمات كثيرة مخالفة للهجة قريش التي نزل بها القرآن، ومنشأ هذه الكلمات المختلفة هوالإذن العام بأن يقرأ كل إنسان بلهجته وما اعتاد عليه، فهي رخصة

__________

(1)  التحريرات على طيبة النشر بين الرواية والاجتهاد (ص 89)

(2)  التحريرات على طيبة النشر بين الرواية والاجتهاد (ص 89)

(3)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 45.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/91)

من الله لهم تسهيلاً وتهويناً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلب من ربه أن يأذن أن يقرأ الناس بلهجاتهم ولغاتهم، فكان يقول: (اللهم هون على أمتي)، ويقول: (إن أمتي لا تطيق ذلك) أي: القراءة على حرف واحد وطريقة واحدة مع اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم، فاستجاب الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فحكم وأراد أن اللفظ الذي ينزل على محمد لا يقرأ بطريقة واحدة، بل يقرؤه الناس كل حسب لهجته وقدرته، لا يكلف الناس أن يقرؤوا كلهم بلفظ واحد، بل لا يمكنهم ذلك، وهذا يدل على أن الاختلاف في الأداء بين القراء إنما هوناشئ أيضاً عن اختلاف أولئك الذين أذن لهم أن يقرأ كل منهم حسب طريقته ولهجته.

قال آخر: أجل .. وقد قرأت في ذلك كلاما لابن قتيبة يقول فيه: (إن المتقدمين من الصحابة والتابعين قرؤوا بلغاتهم، وجروا على عادتهم، وخلوا أنفسهم وسوم طبائعهم، فكان ذلك جائزاً لهم)(1)

قال آخر: ومثله قال الطحاوي: (السبعة الأحرف هي مما لا يختلف معانيه وإن اختلفت الألفاظ التي يتلفظ بها، وأن ذلك كان توسعة من الله عليهم لضرورتهم إلى ذلك وحاجتهم إليه، وإن كان الذي نزل على النبي إنما نزل بألفاظ واحدة)(2)

قال آخر: ومثلهما قال أبوشامة: (قال بعض الشيوخ: الواضح من ذلك أن يكون الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ومن جاورهم من فصحاء العرب، ثم أباح للعرب المخاطبين به المنزل عليهم أن يقرؤوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف بعضهم الانتقال من لغة إلى غيرها لمشقة ذلك عليهم)(3)

قال آخر: ومثلهم قال ابن تيمية: (السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما

__________

(1)  تأويل مشكل القرآن (ص 97)

(2)  شرح مشكل الآثار (8/ 124)

(3)  المرشد الوجيز (ص 95)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/92)

احتمله خط المصحف مرجعه إلى النقل واللغة العربية، لتسويغ الشارع لهم القراءة بذلك كله)(1)

الدليل السادس

قال المعلم: ما رأيكم أيها الجمع المبارك في هذا الدليل؟

سكتوا، فقال المعلم: هلم .. اذكر لنا الدليل السادس.

قال الإمام (2): الدليل السادس كراهية بعض الأئمة والعلماء لأنواع من الأداء عند بعض القراء، ولو كان ذلك مرويا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما جاز لهم ذلك.

قال آخر: صدقت .. ومن الأمثلة على ذلك إنكار بعض العلماء والأئمة على حمزة طريقته في الأداء، وكذلك الكسائي .. وقد قال بعضهم في ذلك: (ولقد عومل حمزة مع جلالته بالإنكار عليه في قراءته من جماعة من الكبار)(3)

قال آخر: ومثله قال الشيخ أبومحمد عبد الله بن أحمد الخشاب: (وقد كره بعض الأئمة ممن لا يختلف في ورعه وعلمه قراءة حمزة بن حبيب لإفراط مده، وكأنه رأى أن تكلف ذلك شاق بعض المشقة، والقرآن قد يسره منزله سبحانه)(4)

قال آخر: ومثله قال ابن النجار: (ولهذا كره الإمام أحمد وجماعة من السلف قراءة حمزة لما فيها من طول المد والكسر والإدغام ونحو ذلك، لأن الأمة إذا أجمعت على فعل شيء لم يكره فعله، وهل يظن عاقل أن الصفة التي فعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتواترت إلينا يكرهها أحد من المسلمين)(5)

قال الإمام: ومثل ذلك كره الإمام أحمد الإدغام الكبير لأبي عمرو (6) .. وهكذا وقف

__________

(1)  الفتاوى (13/ 399)

(2)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 71.

(3)  السير (10/ 170)

(4)  جمال القراء (ص 514)

(5)  شرح الكوكب المنير (2/ 131)

(6)  الفروع (1/ 422)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/93)

نفس الموقف قوم من العلماء، كما عبر عن ذلك السخاوي بقوله: (وقد كره إدغام أبي عمروقوم وعابوه، وقالوا: إن ذلك تغيير لحروف القرآن، ويؤدي إلى زوال معاني كلماته، وأنه لا أصل له ولا أثر يؤيده، إنما هوشيء تفرد به أبوعمرو)(1)

قال آخر: ومثل ذلك قال ابن العربي: (ما كنت لأمد مد حمزة، ولا أقف على الساكن وقفته، ولا أقرأ بالإدغام الكبير لأبي عمروولورواه في تسعين ألف قراءة، فكيف في رواية بحرف من سبعة أحرف؟ ولا أمد ميم ابن كثير، ولا أضم هاء {عليهم} و {إليهم} وذلك أخف، وهذه كلها أوأكثرها عندي لغات لا قراءات، لأنها لم يثبت منها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء، وإذا تأملتها رأيتها اختيارات مبنية على معان ولغات)(2)

قال الإمام (3): ومما يؤكد هذا ما ورد من النصوص والروايات من كلام القراء وغيرهم، والتي تدل دلالة واضحة على عدم وجود قواعد محددة للمدود أو غيرها من أنواع الأداء، لأنه لا تتوفر الدواعي إلى نقل جميع صفات الحروف ومخارجها في الكلام، ولا يمكن ذلك، إذ هي صفات للفظ لا يضبطها السماع عادة، وتقبل الزيادة والنقصان، وتختلف اللهجات في النطق بها، بخلاف نقل جوهر الحرف وأصله، ومما يؤكد ذلك أن أهل التجويد قد اختلفوا في صفات الحروف ومخارجها اختلافاً ظاهراً.

قال آخر: صدقت .. ومن الأمثلة على ذلك قول مكي بن أبي طالب: (فصل في أن المد لا يحصر وأن تقديره بالألفات للتقريب على المبتدئين .. والتقدير عندنا للمد بالألفات إنما هوتقريب على المبتدئين وليس على الحقيقة لأن المد إنما هوفتح الفم بخروج النفس مع امتداد الصوت، وذلك قدر لا يعلمه إلا الله، ولا يدري قدر الزمان الذي كان فيه المد

__________

(1)  جمال القراء (ص 476)

(2)  العواصم (ص 602)

(3)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 98.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/94)

للحرف ولا قدر النفس الذي يخرج مع امتداد الصوت في حيز المد إلا الله تعالى، فمن ادعى قدراً للمد حقيقة فهو مدعي علم الغيب، وقد وقع في كتب القراء التقدير بالألف والألفين والثلاثة على التقريب للمتعلمين .. ولم يقل أحد من القراء والنحويين: إن المد يحصر في قدر ألف وقدر ألفين وأنه لا يكون أكثر ولا أقل هذا لم يقله أحد .. ألا ترى أن أبا إسحاق الزجاج قال: لومددت صوتك يوماً وليلة لم يكن إلا ألفاً واحدة)(1)

قال آخر: ومما يدل على كون مقادير المدود اجتهاد من الأئمة القراء ومشايخهم، وأما السابقون فلم يرد عنهم شيء من ذلك قول ابن الجزري بعد أن ذكر مراتب المد عند القراء: (فهذا ما حضرني من نصوصهم، ولا يخفى ما فيها من الاختلاف الشديد في تفاوت المراتب، وأنه ما من مرتبة ذكرت لشخص من القراء إلا وذكر له ما يليها، وكل ذلك يدل على شدة قرب كل مرتبة مما يليها، وإن مثل هذا التفاوت لا يكاد ينضبط، والمنضبط من ذلك غالباً هوالقصر المحض، والمد المشبع من غير إفراط عرفاً، والتوسط بين ذلك)(2)

قال آخر: ومثل ذلك قوله عندما ذكر اختلافهم في مراتب المد، حيث نقل عن أبي عمروالداني قوله: (وهذا كله جار على طباعهم ومذاهبهم في تفكيك الحروف وتخليص السواكن وتحقيق القراءة وحدرها، وليس لواحد منهم مذهب يسرف فيه على غيره إسرافاً يخرج عن المتعارف في اللغة والمتعالم في القراءة)(3)

قال آخر: ومثل ذلك قول أبي عمروالداني: (وأطولهم مداً ورش وحمزة، ودونهما عاصم، ودونه ابن عامر والكسائي، ودونهما أبوعمرومن طريق أهل العراق، وقالون من طريق أبي نشيط بخلاف عنه، وهذا كله على التقريب من غير إفراط، وإنما هوعلى مقدار

__________

(1)  تمكين المد (ص 36)

(2)  النشر في القراءات العشر (1/ 333)

(3)  النشر في القراءات العشر (1/ 327)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/95)

مذاهبهم في التحقيق والحدر، وبالله التوفيق)(1)

قال آخر: ومثل ذلك أن ابن مجاهد سئل عن وقف حمزة على الساكن قبل الهمزة، والإفراط في المد فقال: (كان يأخذ بذلك المتعلم، ومراده أن يصل المتعلم إلى ما نحن عليه من إعطاء الحروف حقها)(2)

قال آخر (3): ومثله قال الداني: (وعلماؤنا مختلفون في أي هذه الأوجه أوجه وأولى، وأختار الإمالة الوسطى التي هي بين بين، لأن الغرض من الإمالة حاصل بها، وهو الإعلام بأن أصل الألف الياء، أوالتنبيه على انقلابها إلى الياء في موضع أومشاكلتها للكسر المجاور لها أوالياء)(4) .. وهذا يدل على أن الإمالة اختيار لغرض معين، وأن الغرض منها الإعلام بأن أصل الألف الياء أوالتنبيه على انقلابها إلى الياء في موضع أومشاكلتها للكسر المجاور لها أوالياء.

قال آخر: ومثله قال ابن الجزري: (لم يتواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه وقف على موضع بخمسين وجهاً، ولا بعشرين، ولا بنحوذلك، وإنما إن صح شيء منها فوجه، والباقي لاشك أنه من قبيل الأداء)(5)

قال آخر: ومثله قال الزركشي: (والحق: أن المد والإمالة لا شك في تواتر المشترك منها وهوالمد من حيث هومد، والإمالة من حيث هي إمالة، ولكن اختلفت القراء في تقدير المد في اختياراتهم، فمنهم من رآه طويلا، ومنهم من رآه قصيرا، ومنهم من بالغ في القصر، ومنهم من تزايد كحمزة وورش بمقدار ست ألفات، وقيل خمس، وقيل: أربع، وعن عاصم: ثلاث، وعن الكسائي: ألفين ونصف، وقالون: ألفين، والسوسي: ألف ونصف ..

__________

(1)  التيسير (ص 30)

(2)  جمال القراء للسخاوي (ص 516)

(3)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 101.

(4)  النشر في القراءات العشر (2/ 30)

(5)  منجد المقرئين (ص 196)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/96)

فعلم بهذا أن أصل المد متواتر، والاختلاف والطرق إنما هوفي كيفية التلفظ)(1) .. وقال: (وأما الألفاظ المختلفة فيها بين القراء فهي ألفاظ قراءة واحدة، والمراد تنوع القراء في أدائها، فإن منهم من يرى المبالغة في تشديد الحرف المشدد، فكأنه زاد حرفاً، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يرى الحالة الوسطى)(2)

قال آخر: ومثله قال ابن خلدون: (وهذه القراءات السبع معروفة في كتبها، وقد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء، وهوغير منضبط، وليس كذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن، وأباه الأكثر وقالوا بتواترها، وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمد والتسهيل، لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع وهوالصحيح)(3)

قال آخر: ومثله قال ابن قتيبة: (فكان من تيسيره أن أمره بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم: فالهذلي يقرأ {عتى حين} يريد حتى حين، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها .. والأسدي يقرأ {تعلمون} و {تعلم} و {تسود وجوه} و {ألم أعهد إليكم} .. والتميمي يهمز، والقرشي لا يهمز .. والآخر يقرأ {وإذا قيل لهم} و {غيض الماء} بإشمام الضم مع الكسر، و {هذه بضاعتنا ردت إلينا} بإشمام الكسر مع الضم و {ما لك لا تأمنا} بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان .. ولوأن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلاً وناشئاً وكهلاً لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعاً في اللغات ومتصرفاً في الحركات)(4)

الدليل السابع

__________

(1)  البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 213)

(2)  البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 214)

(3)  المقدمة (ص 552)

(4)  تأويل مشكل القرآن (ص 94)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/97)

قال المعلم: ما رأيكم أيها الجمع المبارك في هذا الدليل؟

سكتوا، فقال المعلم: هلم .. اذكر لنا الدليل السابع.

قال الإمام (1): الدليل السابع هو ما ورد عن بعض السلف من السرعة في قراءة القرآن الكريم، فمع أن ذلك ليس ديدنهم وعادتهم، لكنه يدل على أن أداء التلاوة اجتهاد مبني على السعة والتسهيل .. لأنه لا يمكن تطبيق ما ورد من أحكام الأداء بحسب ما روي عنهم من السرعة.

قال آخر: صدقت .. فقد قال طلحة بن مصرف: (سألت إبراهيم عن سرعة القرآن فقال: إن عامة قراءتنا السرعة)(2) .. وقال الوليد بن جميع: (صليت خلف إبراهيم فكان يقرأ في الصبح يس وأشباهها، وكان سريع القراءة)(3)

قال آخر: ومثله قال السخاوي: (واعلم بأن القرآن العزيز يُقرأ للتعلم فالواجب التقليل والتكرير، ويقرأ للتدبر فالواجب الترتيل والتوقف، ويقرأ لتحصيل الأجر بكثرة القراءة فله أن يقرأ ما استطاع ولا يؤنب إذا أراد الإسراع .. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (خفف الله على داود القراءة، فكان يأمر بدابته تسرج فيقرأ كتابه من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه)(4)

قال آخر: ومثله ما ورد في الأخبار عن الذين ختموا القرآن الكريم في ركعة، قال النووي: (وأما الذين ختموا القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم)(5) .. وذكر أن كثيرين من السلف كانوا يختمون في كل ثلاث، وعن بعضهم في كل ليلتين، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة، ومنهم من كان يختم في كل يوم وليلة ختمتين، ومنهم من كان يختم

__________

(1)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 102.

(2)  المصنف (7/ 186)

(3)  ابن الضريس في فضائل القرآن (ص 40)

(4)  جمال القراء (ص 531)، والحديث رواه البخاري (3235)

(5)  الأذكار (ص 182)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/98)

ثلاثاً (1).

قال آخر: ومنهم من حدث عنه الربيع بن سليمان بقوله: (كان الشافعي يختم في كل ليلة ختمة، فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منه ختمة وفي كل يوم ختمة، فكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة)(2)

قال آخر: بورك فيكم .. إن هذا الذي ذكرتموه هو الذي يشجع حفظة القرآن الكريم على حفظه ومراجعته والصلاة به بكل سهولة ويسر بعيدا عن تلك المدود الطويلة والغنات الكثيرة التي تجعل من الصعب عليهم أن يحققوا ذلك.

قال آخر (3): أجل .. فمن بركات ذلك أن المصلي قد يستثقل أن يصلي ركعتين ببضع آيات، فإذا جرب أن يقتدي بأولئك خف عليه ما كان يستثقله، فقد يصلي ركعتين بسورة طه أو الأنبياء أوالنور أوالحج أوغيرها دون استثقال ومن غير ملل مع حضور القلب والتدبر، وهذا يدل على أن تقييد القراءة بالقوانين الدقيقة في النطق والأداء من أعظم ما يعوق المسلم عن هذا الأمر العظيم، وهوالتدبر الذي ما أنزل القرآن إلا لأجله {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]

قال آخر: أجل .. فالتدبر ليس مرتبطا بتلك الأحكام، ولا بسرعة القراءة .. بل قد يحجب المتدبر عن تدبر إن صارت له وسوسة بمراعاة الأحكام، كما نراه في واقعنا للأسف.

نتيجة الأدلة

قال المعلم: بناء على ما ذكرتم أريد من الذين يقرؤون برواية ورش أو غيره أن يخبروني عن الفضل الخاص بها .. وهل ورد في الأحاديث ما يدل على فضلها.

__________

(1)  التبيان (ص 70)

(2)  تاريخ بغداد (2/ 63)

(3)  اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة، ص 109.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/99)

قال أحدهم: كل ما ورد في فضل قراءة القرآن الكريم ينطبق عليها .. ذلك أنها من قراءاته.

قال المعلم: فلماذا تجنحون إلى الأصعب، وقد وجد الأيسر، ألم تسمعوا قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]

قال أحدهم: هي قراءة وجدنا عليها آباءنا وأجدادنا .. فلذلك نلتزمها.

قال المعلم: أخبرني أيهما أكثر جهدا في تعليم أبنائه القرآن الكريم ذاك الذي يعلمهم وفق رواية حفص، أم ذاك الذي يعلمهم وفق رواية ورش؟

قال أحدهم: لاشك أن الذي يعلمهم برواية حفص أسهل .. وبكثير .. ذلك أن أحكامها قليلة، وأداءها يسير.

قال المعلم: فلم العدول عنها إذن؟ .. أليس العاقل هو الذي يبحث عن الأسهل والأيسر، ما دام لا يوجد أجر إضافي خاص بالأصعب والأعسر؟

قال أحدهم: ولكنا وجدنا آباءنا على ذلك.

قال المعلم: فهل من الحكمة أن تنقلوا العنت الذي أصابكم جراء ما تعلتموه من آبائكم إلى أبنائكم، أم أنها تقتضي أن تجنبوهم ما أصابكم؟

سكتوا، فقال المعلم: أخبروني .. هل يصعب من تعلم برواية ورش أن ينتقل إلى رواية حفص؟

قال أحدهم: لا .. بالعكس .. هو يسير جدا .. فيكفي أن يتخلص القارئ من العسر الموجود في رواية ورش ليجد نفسه في رواية حفص .. مع إتقان كلمات محدودة وقع الخلاف فيها بين الروايتين.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/100)

2 ـ القراءات والوحدة

قال المعلم: لا بأس .. ليس عليكم الآن أن تجيبوني؛ فالأدلة لم تكتمل بعد، ونحن بحاجة بعد أن اكتشفنا جميعا أيسر القراءات وأسهلها أن نبحث في أكثرها انتشارا حتى ينتقل الأقل إلى الأكثر .. تحقيقا لوحدة المسلمين، وجمعا لشملهم.

قال أحدهم: وهذا الشرط أيضا ينطبق على رواية حفص؛ فقد كانت ولا تزال القراءة الدارجة بين المسلمين، منذ العهد الاول حتى عصرنا الحاضر، وذلك لكونها قراءة عامة المسلمين، حيث كان حفص وشيخه عاصم حريصين على الالتزام بما وافق قراءة العامة والرواية الصحيحة المتواترة بين المسلمين.

قال آخر: وفي عصر المتأخرين زاد انتشار قراءة حفص واشتهارها؛ بسبب طباعة المصاحف برسم قراءته؛ فلا تكاد تجد أرضًا إلا وغالب المصاحف المطبوعة فيها برواية حفص عن عاصم، اللهم إلا النزر اليسير من بلاد المغرب وإفريقيا؛ ومع هذا فقد بدأ الانتشار الواسع لمطبوعات المصاحف الجديدة يدبُّ إليها.

قال آخر: بالإضافة إلى أن وسائل الإعلام التي يستعملها المتأخرون، تبث القرآن الكريم في معظمها برواية حفص، وقد كان أول تسجيل صوتي للقرآن الكريم في العالم الإسلامي بصوت الشيخ محمود خليل الحصري برواية حفص.

قال آخر: بالإضافة إلى أن تدريس القرآن الكريم في معظم المدارس والمعاهد والجامعات والكتاتيب في أغلب الأقطار الإسلامية؛ حتى في معاهد القراءات برواية حفص؛ تلاوة وحفظًا وتجويدًا، ثم يُبنى عليها بقية القراءات لمن رغب في ذلك.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/101)

قال آخر (1): وليس ذلك فقط في عصور المتأخرين .. فقد اعتمدها المسلمون فى عامة أدوارهم، نظرا الى هذا التوافق والوئام، وكانت نسبتها الى حفص نسبة رمزية، تعيينا لهذه القراءة، فمعنى اختيار قراءة حفص: اختيار قراءة اختارها حفص، لأنها قراءة متواترة بين المسلمين منذ الاول.

قال آخر: وهكذا فى جميع أدوار التاريخ كانت قراءة عاصم هى القراءة المفضلة التى راجت بين عامة المسلمين وخاصتهم، .. فهذا القاسم بن أحمد الخياط الحاذق الثقة كان إماما فى قراءة عاصم، ومن ثم كان اجماع الناس على تفضيله فى قراءته (2) .. وكان فى حلقة ابن مجاهد ـ مقرئ بغداد على رأس المائة الرابعة ـ خمسة عشر رجلا متخصصا بقراءة عاصم، فكان الشيخ يقرئهم بهذه القراءة فقط، دون غيرها من قراءات (3) .. وكان نفطويه إبراهيم بن محمد إذا جلس للإقراء ـ وكان قد جلس أكثر من خمسين عاما ـ يبتدئ بشي ء من القرآن المجيد على قراءة عاصم فحسب، ثم يقرئ بغيرها (4).

قال آخر: وهكذا اختار الإمام أحمد بن حنبل قراءة عاصم على قراءة غيره، لأن أهل الكوفة ـ وهم أهل علم وفضيلة ـ اختاروا قراءته (5) .. وقد قال احمد بن حنبل في ذلك: كان عاصم ثقة، وأنا اختار قراءته (6).

قال آخر: ومثله قال شمس الدين الذهبى: وأعلى ما يقع لنا القرآن العظيم، فهو من جهة عاصم (7) .. ثم ذكر اسناده متصلا الى حفص عن عاصم عن أبى عبد الرحمن السلمى عن على وعن زر عن عبد اللّه، كلاهما عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم.

__________

(1)  التمهيد: 2/ 245.

(2)  الطبقات لابن الجزرى: 2/ 17.

(3)  معرفة القراء الكبار للذهبى: 1/ 217.

(4)  لسان الميزان لابن حجر: 1/ 109.

(5)  تهذيب التهذيب لابن حجر: 5/ 39.

(6)  ميزان الاعتدال للذهبى: 2/ 358.

(7)  معرفة القراء الكبار: 1/ 77.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/102)

قال آخر: ومثله قال ابوعمروالدانى: حفص هوالذى أخذ قراءة عاصم على الناس تلاوة، ونزل بغداد فأقرأ بها، وجاور بمكة فاقرأ بها (1) .. وقال ابن المنادى: كان الأولون يعدون حفصا فى الحفظ فوق ابن عياش، ويصفونه بضبط الحروف التى قرأها على عاصم (2) .. وقال الشاطبى: وحفص وبالاتقان كان مفضلا (3).

قال آخر: وهكذا اتفق أهل النقد والتمحيص على أن رواية حفص عن عاصم هى الرواية الصحيحة الثابتة، وقد قال ابن معين: الرواية الصحيحة التى رويت من قراءة عاصم هى رواية حفص بن سليمان (4).

قال آخر: والأجمل من ذلك كله هو كونها القراءة التي تتوافق مع المتفق عليه لدى عامة المسلمين، لأنه كان في قراءته يختار ما اتفق عليه المسلمون، ويبتعد عن كل ما شذ عنها، بناء على ما ورد في ذلك من الروايات .. وقد حدث محمد بن سيرين (ت 110) عن عبيدة السلمانى (ت 73) قال: (القراءة التى عرضت على النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى العام الذى قبض فيه، هى القراءة التى يقرؤها الناس اليوم)(5) .. روي عن الامام الصادق أنه قال: (القرآن واحد نزل من عند واحد، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة)(6)

قال آخر: ولهذا كان القراء الكبار المشهورين يجعلون المقياس في صحة القراءة ما قرأ به العامة، وقد قال خلاد بن يزيد الباهلى (ت 220): قلت ليحيى بن عبد اللّه بن أبي مليكة (ت 173): إن نافعا حدثنى عن أبيك عن عائشة، أنها كانت تقرأ: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15]} بكسر اللام وضم القاف، لا بفتح اللام والقاف المشددة، وتقول: إنها من (ولق الكذب)، فقال يحي: ما يضرك أن لا تكون سمعته عن عائشة، وما يسرنى أنى قرأتها هكذا، ولي كذا

__________

(1)  الطبقات لابن الجزرى: 1/ 254.

(2)  النشر فى القراءات العشر: 1/ 156.

(3)  شرح الشاطبية (سراج القارى)، 14.

(4)  النشر فى القراءات العشر: 1/ 156.

(5)  الاتقان: 1/ 50.

(6)  الكافي: 2/ 631.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/103)

وكذا .. قلت: ولم؟ وأنت تزعم أنها قد قرأت، قال: لأنه غير قراءة الناس .. ونحن لووجدنا رجلا يقرأ بما ليس بين اللوحين ما كان بيننا وبينه إلا التوبة .. نجيء به نحن عن الأمة عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل عن اللّه عز وجل، وتقولون أنتم: حدثنا فلان الأعرج عن فلان الأعمى أن ابن مسعود يقرأ ما بين اللوحين، ما أدرى ماذا؟)(1) .. انظروا إلى هذا الوصف الجميل عن تواتر النص وأصالته: يرويه أمة عن أمة عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لا فلان عن فلان .. وانظروا إليه كيف يجعل المعيار لمعرفة القراءة الصحيحة هى (قراءة الناس)، ويجعل غيرها شاذة لا تجوز قراءتها.

قال آخر: ومثل ذلك قال هارون بن موسى الأزدى صاحب القراءات (ت 200): (ذكرت ذلك لأبي عمروبن العلاء (ت 154) القراءة المعزوة إلى عائشة، فقال: قد سمعت هذا قبل أن تولد ـ خطابا إلى هارون ـ ولكنا لا نأخذ به) .. وفى رواية أخرى قال أبو عمرو: (إنى أتهم الواحد الشاذ إذا كان على خلاف ما جاءت به العامة)(2) .. انظروا كيف جعل من (رواية العامة) مقياسا لمعرفة القراءة الصحيحة الجائزة، وأما غيرها فمردود وغير جائز الاخذ اطلاقا.

قال آخر: ومثلهم قال محمد بن صالح (ت 168): سمعت رجلا يقول لأبي عمرو بن العلاء: كيف تقرأ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25 ـ 26]؟ فقال: {لَا يُعَذِّبُ} بالكسر، فقال له الرجل: كيف؟ وقد جاء عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم {لَا يُعَذِّبُ} بالفتح، فقال له أبوعمرو: (لوسمعت الرجل الذى قال: سمعت النبى صلى الله عليه وآله وسلم ما أخذت عنه، أو تدرى ما ذاك؟ .. لأنى أتهم الواحد الشاذ إذا كان على خلاف ما جاءت به العامة)(3) ..

__________

(1)  المرشد الوجيز/180.

(2)  المرشد الوجيز/181.

(3)  مناهل العرفان: 1/ 452 نقلا عن منجد المقرئين لابن الجزرى.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/104)

انظروا كيف جعل (ما جاءت به العامة) معيارا لمعرفة القراءة الصحيحة عن الشاذة.

قال آخر: ومثلهم قال ابن قتيبة (ت 276): (كل ما كان من القراءات موافقا لمصحفنا، غير خارج من رسم كتابه، جاز لنا ان نقرأ به، وليس لنا ذلك فيما خالفه، لأن المتقدمين من الصحابة والتابعين قرؤوا بلغاتهم، وجروا على عادتهم، وخلوا أنفسهم وسوم طبائعهم، فكان ذلك جائزا لهم، ولقوم من القراء بعدهم مأمونين على التنزيل، عارفين بالتأويل، فأما نحن ـ معشر المتكلفين ـ فقد جمعنا اللّه بحسن اختيار السلف لنا على مصحف هو آخر العرض، وليس لنا أن نعدوه .. ولوجاز لنا أن نقرأه بخلاف ما ثبت فى مصحفنا، لجاز لنا أن نكتبه على الاختلاف والزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، وهناك يقع ما كرهه لنا الائمة الموفقون)(1) .. انظروا إلى هذا العالم المحقق، كيف يجعل من (مصحفنا معشر المسلمين) مقياسا لمعرفة القراءة الصحيحة، وينبه على أن اختيار السلف (هوآخر العرض) الذى لا يمكن تغييره بتاتا: (وليس لنا أن نعدوه)

قال آخر: ولهذا قال الحجة البلاغى: (ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين عامة المسلمين جيلا بعد جيل، استمرت مادته وصورته وقراءته المتداولة، على نحوواحد، فلم يؤثر شيئا على مادته وصورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف فى قراءته من القراء السبعة المعروفين وغيرهم؛ فلم تسيطر على صورته قراءة أحدهم اتباعا له ولوفى بعض النسخ، ولم يسيطر عليه أيضا ما روى من كثرة القراءات المخالفة له مما انتشرت روايته فى الكتب كجامع البخارى ومستدرك الحاكم .. وإن القراءات السبع فضلا عن العشر إنما هى فى صورة بعض الكلمات، لا بزيادة كلمة أونقصها، ومع ذلك ما هى إلا روايات آحاد عن آحاد لا توجب اطمئنانا ولا وثوقا، فضلا عن وهنها بالتعارض ومخالفتها للرسم المتداول

__________

(1)  تأويل مشكل القرآن/42.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/105)

المتواتر بين عامة المسلمين فى السنين المتطاولة .. إذن فلا يحسن أن يعدل فى القراءة عما هوالمتداول فى الرسم، والمعمول عليه بين عامة المسلمين فى أجيالهم، إلى خصوصيات هذه القراءات، مضافا إلى أنا قد أمرنا بأن نقرأ كما يقرأ الناس، أى نوع المسلمين وعامتهم)(1)

3 ـ القراءات والتواتر

قال المعلم: بورك فيكم .. والآن ننتقل إلى شرط التواتر .. فهل رواية حفص عن عاصم رواية شاذة، أم أنها متواترة؟

قال أحدهم: لقد قمت ببحث مفصل في هذا؛ فوجدت صدق ما ذكره بعض العلماء المتخصصين حين قال: (عرفت أنّ العقيدة الصحيحة الثابتة من محققي علمي الأصول والقراءات، سواء من أهل السنة أوالإمامية، أن القراءات غير متواترة لا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عن الصحابة الأولين، سوى قراءة واحدة، وهي قراءة حفص المتوافقة مع قراءة جمهور المسلمين التي توارثوها يدًا عن يد، وكابرًا عن كابر)(2)

قام أحد المخالفين، وقال: ويلك .. كيف تزعم هذا، ألا تعرف أن القول بعدم تواتر القراءت الأخرى يعني عدم تواتر القرآن نفسه .. وهو الكفر بعينه؟

قال آخر: ألم تسمع ما قاله تاج الدين عبد الوهاب السبكي في فتاواه: (القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي، والثلاثة التي هي قراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب وقراءة خلف، متواترة معلوم من الدين بالضرورة أنه منزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهل، وليس تواتر شيء منها مقصورا على من قرأ بالروايات، بل هي متواترة عند كل مسلم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ولوكان مع ذلك

__________

(1)  آلاء الرحمن: 1/ 30.

(2)  التمهيد في علوم القرآن، ج 2 ص 51.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/106)

عاميا جلفا لا يحفظ من القرآن حرفا)، ثم قال: (ولهذا تقرير طويل وبرهان عريض لا تسعه هذه الورقة، وحظ كل مسلم وحقه أن يدين لله تعالى وتجزم نفسه بأن ما ذكرناه متواتر معلوم باليقين، لا تتطرق الظنون ولا الارتياب إلى شيء منه) .. ثم ختم مقاله عن هذا بقوله: (والحاصل: أن السبع متواترة اتفاقا، وكذا الثلاثة: أبوجعفر ويعقوب وخلف، على الأصح، بل الصحيح المختار وهوالذي تلقيناه عن عامة شيوخنا وأخذنا به عنهم، وبه نأخذ: أن الأربعة بعدها: ابن محيصن واليزيدي والحسن والأعمش، شاذة اتفاقا)(1)

قال آخر: ومثله قال النووي: (قال أصحابنا وغيرهم: تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بكل واحدة من القراءات السبع، ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة، لأنها ليست قرآنا؛ فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وكل واحدة من السبع متواترة، وهذا هوالصواب الذي لا يعدل عنه، ومن قال غيره فغالط أوجاهل)(2)

قال آخر: ومثله قال ابن النجار الفتوحي: (والقراءات السبع متواترةٌ عند الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة من علماء السنة)(3)

قال آخر: ومثله قال الزرقاني: (والتحقيق الذي يؤيده الدليل هوأن القراءات العشر كلها متواترة، وهو رأي المحققين من الأصوليين والقراء كابن السبكي وابن الجزري والنويري)(4)

قال آخر: أما كون أسانيد أئمة القراءات المذكورة في كتبهم معروفة محصورة، وهي أسانيد آحاد؛ فقد أجاب عن هذا شرف الدين الدمياطي بقوله: (إن انحصار الأسانيد المذكورة في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم، وإنما نسبت القراءات إليهم لتصديهم

__________

(1)  إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر (ص 9)

(2)  المجموع (3/ 392)

(3)  شرح الكوكب المنير (2/ 127)

(4)  مناهل العرفان (1/ 441)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/107)

لضبط الحروف وحفظ شيوخهم فيها، ومع كل واحد منهم في طبقته ما يبلغها عدد التواتر)(1)

قال آخر: ومثله قال ابن النجار الفتوحي: (انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم؛ فقد كان يتلقى القراءة من كل بلد بقراءة إمامهم الذي من الصحابة أومن غيرهم: الجم الغفير عن مثلهم، وكذلك دائما، فالتواتر حاصلٌ لهم، ولكن الأئمة الذين قصدوا ضبط الحروف وحفظوا شيوخهم فيها جاء السند من قبلهم، وهذا كالأخبار الواردة في حجة الوداع هي آحادٌ، ولم تزل حجة الوداع منقولة عمن يحصل بهم التواتر عن مثلهم في كل عصر، فينبغي أن يتفطن لذلك، ولا يغتر بقول من قال: إن أسانيد القراء تشهد بأنها آحادٌ)(2)

قال آخر: أما الشبهة التي يثيرها بعضهم من أن تواتر القراءات لم يظهر قبل ابن مجاهد الذي سبع السبعة؛ فالجواب عنه: أن التواتر معناه إفادة العلم اليقيني المقطوع به دون الظني، وقد حصل العلم اليقيني بصحة القراءات السبع، ونقلها على صفة التواتر الذي يفيد العلم اليقيني بمضمونها؛ وهذا هوالمطلوب، بغض النظر عما إذا كان الاسم معروفا في هذا الزمان، أولم يكن معروفا؛ فهذه مسألة فنية اصطلاحية، تتعلق بالتصنيف في العلوم ومدارستها، فما زالت العرب تنطق المبتدأ مرفوعا، والمفعول به منصوبا، والمضاف إليه مجرورا، وهكذا؛ ولوبعث أهل الجاهلية الآن ما عرف واحد منهم: ما المبتدأ، وما الخبر، بل ما عرف منهم أحد ما علم النحوالذي يتحدث عنه، وبه، الناس .. وهكذا في علم الحديث، وعلم أصول الفقه، وغيرها من العلوم؛ فتأخر ظهور المصطلح الخاص بعلم معين، لا يعني أن مضمونه لم يكن معروفا من قبل عند أهل هذا الشأن، وأما أن مضمونه لم يكن معروفا

__________

(1)  إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر (ص 9)

(2)  شرح الكوكب المنير (2/ 127 ـ 128)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/108)

عند غير أهل الفن، أولم يكن شائعا بصورة عامة؛ فهذا لا يقدح في وجود المضمون، ولا ثبوت المسألة العلمية.

قال آخر: لقد عبر شمس الدين الذهبي عن هذا بقوله: (ليس من شرط التواتر أن يصل إلى كل الأمة، فعند القراء أشياء متواترة دون غيرهم، وعند الفقهاء مسائل متواترة عن أئمتهم لا يدريها القراء، وعند المحدثين أحاديث متواترة قد لا يكون سمعها الفقهاء، أوأفادتهم ظنا فقط، وعند النحاة مسائل قطعية، وكذلك اللغويون)(1)

قال المعلم: بورك فيكم .. والآن أجيبوني هل يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قرأ بجميع تلك القراءات، وكيف يتحقق ذلك مع التعارض بينها .. أم أنه كان يجمع بين الجميع .. وكيف كان يقرأ الكلمات المختلف فيها؟

قلت: أجل .. فما تقولون فيما ينفرد به كل قارئ عن سائر القراء؟ .. فكيف يقال بأن هذا متواتر؟ .. كيف يقال عما انفرد به رويس مثلاً من قراءة {نورث} بفتح الواووتشديد الراء .. أو انفرد به ابن كثير بقراءة {خير مقاماً} بضم الميم .. أو انفرد به أبوعمرو بقراءة {قالوا إن هذين} بالياء .. أو انفرد به حمزة بقراءة {لا تخف دركاً} بالجزم .. أو انفرد به أبوجعفر بقراءة {لنحرقنه} بإسكان الحاء وتخفيف الراء .. أو انفرد به يعقوب بقراءة {زهرة الحياة} بفتح الهاء .. أو انفرد به الكسائي بقراءة {جذاذاً} بالكسر .. وغير ذلك كثير.

قال آخر: ولكن كيف تجيب على ما استدل به ابن الحاجب ـ فى مختصر أصوله ـ لإثبات تواتر القراءات السبع، حيث قال: ( .. وإلا فيلزم أن يكون بعض القرآن غير متواتر، إذ لواختلف القراء فى كلمة، كما فى مثل (غيابة) أو (غيابات)، ومثل (آية) أو (آيات)،

__________

(1)  سير أعلام النبلاء (10/ 171)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/109)

و (ملك) أو (مالك) ونحو ذلك مما قرئ بوجهين أو باكثر، فإن التزمنا بتواتر القراءات جميعا فهو، وإلا فأي القراءتين تكون قرآنا لتكون الأخرى غير قرآن، وإذا ترددنا فى ذلك فإن معناه الترديد فى النص الأصلى، وهذا لا يلتئم والقول بتواتر القرآن)(1)

أشار إلي المعلم، فقلت (2): الجواب على ذلك سهل جدا؛ فالنص الأصلى للقرآن الكريم هو ما ثبت فى المصحف الكريم، والذى أجمعت الأمة عليه، وإنما جاء الاختلاف فى كيفية قراءته، وفى أسلوب تعبيره، الأمر الذى لا يتنافى وثبوت تواتر الأصل، كما فى كثير من أشعار الشعراء القدامى، حيث أصل البيت أوالقصيدة ثابتة له بالتواتر وإن كان الرواة مختلفين فى بعض الكلمات أو الحركات.

قال آخر: وقد عبر عن هذا الزركشي بقوله: (اعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هوالوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف أوكيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما)(3) .. أي: أن القرآن هوالوحي المنزل، والقراءات اختلاف ألفاظ هذا الوحي، فطريقة اللفظ بهذا الوحي مختلفة لكن حقيقته قرآن ووحي واحد منزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال آخر: وعبر عنه أحمد البنا بقوله: (القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هوالوحي المنزل للإعجاز والبيان، والقراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف، أوكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما)(4)

قال آخر: وعبر عنه أحد المتأخرين وهو عبد الصبور شاهين بقوله: (وليس صحيحاً أن القراءات تعتبر من النص القرآني، فهناك فرق بين القرآن والقراءات، وهما في الواقع

__________

(1)  الكشف فى القراءات السبع: 1/ 25 ـ 26.

(2)  التمهيد: 2/ 83.

(3)  البرهان (1/ 318)

(4)  الإتحاف (1/ 69)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/110)

يمثلان حقيقتين متغايرتين، فالقرآن هوذلك النص المنزل بوساطة الوحي على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والثابت بالتواتر ثبوتاً قطعياً لا ريب فيه، وأما القراءات فهي روايات ووجوه أدائية، منها المتواتر، ومنها الصحيح، ومنها الضعيف، ومنها الموضوع، وهي بذلك تغاير القرآن تغايراً كبيراً، لأنها تتعلق باللفظ لا بالتركيب)(1)

قال آخر: ومثله قال صبري الأشوح، وهو أحد المتأخرين: (أُرَجِّح القول بأن القرآن والقراءات العشر المشهورة حقيقتان متغايرتان)(2)

قال آخر: ومثله ذكر شعبان إسماعيل في كتابه القراءات وأحكامها ومصدرها أن القول بأن القرآن والقراءات حقيقتان متحدتان (قول مردود غير مقبول، لم يقل به أحد من العلماء السابقين)(3)

قال آخر: ومما يوضح أن القول بعدم تواتر القراءات لا يتعارض مع القول بتواتر القرآن نفسه وأنهما حقيقتان متغايرتان أن الاختلاف في طريقة أداء اللفظ لا يعنى الاختلاف في اللفظ نفسه، فلو أخبر جماعة أن فلاناً قال: الله أكبر، فقال بعضهم: إنه قالها متصلة، وقال بعضهم: بل فصل بين الكلمتين، وقال بعضهم: قالها ومد لفظ الجلالة، وقال بعضهم: لم يمدها، وقال بعضهم: قالها متغنياً بها، وقال بعضهم: قالها من دون تغني .. فالمتواتر أنه قال: الله أكبر، وأما صفة قولها وأدائها فليس بمتواتر.

قال أحد المخالفين: ولكن المحققين من العلماء يذكرون غير هذا.

أشار إلي المعلم، فقلت: لا .. الكثير من العلماء يقولون بذلك .. ولا يرون تناقضا بين كون القرآن الكريم متواترا، وبين عدم تواتر القراءات القرآنية .. ومن الأمثلة على ذلك

__________

(1)  تاريخ القرآن (ص 40)

(2)  إعجاز القراءات (ص 105)

(3)  إعجاز القراءات (ص 14)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/111)

العلامة سليمان بن عبد القوي الطوفي الصرصري، (ت 716 هـ)، فقد قال: (والتحقيق أن القراءات متواترة عن الأئمة السبعة، أما تواترها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأئمة السبعة، فهو محل نظر، فإن أسانيد الأئمة السبعة، بهذه القراءات السبعة، إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجودة في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد، لم تستكمل شروط التواتر، ولولا الإطالة والخروج عما نحن فيه، لذكرت طرفا من طرقهم ولكن هي موجودة في كتب العراقيين، والحجازيين، والشاميين، وغيرهم، فإن عاودتها من مظانها وجدتها كما وصف لك .. وأبلغ من هذا أنها في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تتواتر بين الصحابة، بدليل حديث عمر لما خاصم هشام بن حكيم بن حزام، حيث خالفه في قراءة سورة الفرقان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو كانت متواترة بينهم لحصل العلم لكل منهم بها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم لم يكن عمر ليخاصم فيما تواتر عنده)(1)

ثم أشار إلى النفور النفسي الذي يجده غير المحققين، فقال: (اعلم أن بعض من لا تحقيق عنده ينفر من القول بعدم تواتر القراءات، ظنا منه أن ذلك يستلزم عدم تواتر القرآن، وليس ذلك بلازم، لما ذكرناه أول المسألة، من الفرق بين ماهية القرآن والقراءات، والإجماع على تواتر القرآن)(2)

قال المعلم: فهل هناك غيره ممن شهد بهذا؟

قلت: أجل .. ومنهم العلامة أبو عبد الله بدر الدين الزركشي الشافعي (ت 794 هـ)، فقد قال: (التحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة، أما تواترها عن النبي ففيه نظر، فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد)(3)

__________

(1)  شرح مختصر الروضة (2/ 23)

(2)  شرح مختصر الروضة (2/ 24)

(3)  البرهان (1/ 318)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/112)

قال المعلم: فهل هناك غيره ممن شهد بهذا؟

قلت: أجل .. فمنهم العلامة أبو محمد مكي بن أبي طالب القيرواني (المتوفى: 437 هـ)، فقد قال: (جميع ما روي من القراءات على ثلاثة أقسام: قسم يقرأ به اليوم، وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال، وهي: أن ينقل عن الثقات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن شائعاً، ويكون موافقاً لخط المصحف؛ فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث قرئ به، وقطع على مغيبه وصحته وصدقه، لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقته لخط المصحف، وكفر من جحده .. والقسم الثاني: ما صح نقله في الآحاد، وصح وجهه في العربية، وخالف لفظه خط المصحف .. والقسم الثالث: ما نقله غير ثقة، أونقله ثقة ولا وجه له في العربية)(1)

قال المعلم: فهل هناك غيره ممن شهد بهذا؟

قلت: أجل .. فمنهم العلامة أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665 هـ)، فقد نقل قول البغوي: (فأما القراءة باللغات المختلفة مما يوافق الخط والكتاب فالفسحة فيه باقية، والتوسعة قائمة بعد ثبوتها وصحتها، بنقل العدول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(2)، وعقب عليه بقوله: (ولا يلزم في ذلك تواتر، بل تكفي الآحاد الصحيحة من الاستفاضة وموافقة خط المصحف وعدم المنكرين لها نقلا وتوجيها من حيث اللغة)(3)

قال المعلم: فهل هناك غيره ممن شهد بهذا؟

قلت: أجل .. فمنهم العلامة محمد بن علي الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250 هـ)، فقد

__________

(1)  الإبانة عن معاني القراءات (ص 51)

(2)  شرح السنة ص 141.

(3)  المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز (1/ 145)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/113)

قال: (وقد ادعي تواتر كل واحدة من القراءات السبع، وادعي أيضاً تواتر القراءات العشر، وليس على ذلك أثارة من علم، فإن هذه القراءات كل وحدة منها منقولة نقلا أحادياً، كما يعرف ذلك من يعرف أسانيد هؤلاء القراء لقراءاتهم، وقد نقل جماعة من القراء الإجماع على أن في هذه القراءات ما هومتواتر، وفيها ما هوآحاد، ولم يقل أحد منهم بتواتر كل واحدة من السبع فضلاً عن العشر، وإنما هوقول قاله بعض أهل الأصول، وأهل الفن أخبر بفنهم .. والحاصل أن ما اشتمل عليه المصحف الشريف واتفق عليه القراء المشهورون فهوقرآن، وما اختلفوا فيه فإن احتمل رسم المصحف قراءة كل واحد من المختلفين مع مطابقتها للوجه الإعرابي والمعنى العربي فهي قرآن كلها، وإن احتمل بعضها دون بعض فإن صح إسناد ما لم يحتمله وكانت موافقة للوجه الإعرابي والمعنى العربي فهي الشاذة، ولها حكم أخبار الآحاد في الدلالة على مدلولها، وسواء كانت من القراءات السبع أو من غيرها)(1)

قال المعلم: فهل هناك غيره ممن شهد بهذا؟

قلت: أجل .. فمنهم العلامة أحمد بن محمد القسطلاني القتيبي المصري (المتوفى: 923هـ)، فقد قال: (التواتر بالنظر لمجموع القرآن، وإلا فلواشترطنا التواتر في كل فرد فرد من أحرف الخلاف انتفى كثير من القراءات الثابتة عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم)(2)

قال المعلم: فهل هناك غيره ممن شهد بهذا؟

قلت: أجل .. فمنهم شمس الدين الذهبي (المتوفى: 748هـ)، فقد قال: (فكثير من القراءات تدعون تواترها، وبالجهد أن تقدروا على غير الآحاد فيها، ونحن نقول: نتلو بها وإن كانت لا تعرف إلا عن واحد لكونها تلقيت بالقبول فأفادت العلم، وهذا واقع في

__________

(1)  إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (1/ 87)

(2)  لطائف الإشارات (1/ 128)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/114)

حروف كثيرة وقراءات عديدة، ومن ادعى تواترها فقد كابر الحس، أما القرآن العظيم سوره وآياته فمتواتر ولله الحمد، محفوظ من الله تعالى لا يستطيع أحد أن يبدله ولا يزيد فيه آية ولا جملة مستقلة)(1)

قال المعلم: فهل هناك غيره ممن شهد بهذا؟

قلت: أجل .. فمنهم أبو عبد الله القيجاطي، فقد قال: (والقرآن المتواتر عند علماء الإسلام غير القراءات، ومن وقف تواتر القرآن على تواتر القراءات فهو جاهل بالقرآن وبالقراءات، وبما أجمع عليه العلماء، ويلزمه عدم تواتر القرآن لزوماً لا انفكاك له عنه، لإجماع أئمة المسلمين على أن طرق نقل القراءات إنما هي الأسانيد الصحيحة من طرق الآحاد الثقات العلماء المتصلة أسانيدهم بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مع موافقة مصحف من المصاحف التي وجهها عثمان إلى البلدان، ومن ادعى زيادة على هذا وزعم أن القراءات لا تقبل إلا إذا تواتر نقلها فقد افترى على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أئمة المسلمين وخالف إجماعهم)(2)

ثم نقل عن ابن العربي قوله في كتابه المسمى بالرحلة الصغرى: (وقد نقل القرآن نقل تواتر يوجب العلم ويقطع العذر، وقراءاته نقلت نقل آحاد، وقد بينا ذلك في تفسير قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) .. ونقل عن أبي علي الزبيدي قوله: (وقد ثبت أن القرآن منقول تواتراً، وأن القراءات منقولة آحاداً، ولا ارتباط بينهما في حكم النقل، والقراءات فروع تتعلق بالقرآن، فلم يلزم في القرآن أن يكون منقولاً نقل آحاد، وإن كانت القراءات المتعلقة منقولة نقل آحادا)(3)

قال المعلم: فهل هناك غيره ممن شهد بهذا؟

__________

(1)  سير أعلام النبلاء (10/ 171)

(2)  المعيار المعرب (12/ 148)

(3)  المعيار المعرب (12/ 148)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/115)

قلت: أجل .. فمنهم شمس الدين أبو الخير ابن الجزري (المتوفى: 833 هـ)، فقد قال: (المقروء به عن القراء العشرة على قسمين: متواتر وصحيح مستفاض متلقى بالقبول والقطع حاصل بهما)(1)

قال آخر: أجل .. وقد قرأت له كلاما يبين فيه تراجعه عما كان يعتقده من تواتر القراءات، فقد قال: (وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن، وهذا مما لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواتراً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجب قبوله وقطع بكونه قرآناً سواء وافق الرسم أم خالفه، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم، وقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف)(2) .. ثم ذكر كلام أبي شامة منتصراً له محتجاً به، وقد وصفه بالإمام الكبير، ثم ذكر كلام الجعبري، ومكي بن أبي طالب تأييداً لهذا القول ..

التفت إلى أصحابه، وقال: انظروا إلى إنصاف العلماء، ورجوعهم إلى الحق .. فابن الجزري ـ مع علمه بالقراءات وتخصصه فيها ـ صرح بتراجعه عن القول الذي ظهر له عدم صحته، وعدم الدليل عليه، حيث عدل عن القول بتواتر القراءات، واكتفى بالقول بصحة السند مع شهرة القراءة عند أئمة القراءات.

قال آخر: صدقت .. وابن الجزري أعلم من غيره في هذه المسألة، فهوالإمام المقَلَّد المعتَمَد عليه في هذا الشأن لكل من جاء بعده إلى اليوم، وإلى الأبد.

__________

(1)  منجد المقرئين ومرشد الطالبين (ص 21)

(2)  النشر (1/ 13)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/116)

قال آخر: ومثله بعض المتأخرين .. وهو عبد الهادي حميتو، فقد ذكر تراجعه عن القول بتواتر القراءات، فقد نقل قول ابن الجزري الذي ذكر فيه تراجعه، ثم عقب عليه بقوله: (وفي نظري أن الصواب فيما قاله، إذ لوكانت كل حروف القراءات محتاجة إلى التواتر ما قبلت من أحد من رواتها إلا إذا كان معه عدد التواتر، وهذا لم يقل به أحد، بل اشترطوا فقط عدالة الراوي وصحة السند بما يروي، ولم يلزموه أن يكون ما رواه من حروف القراءة متواتراً، وهذا كما لا يخفى لا دخل له في تواتر النص المقروء، إذ الاختلاف في بعض جزئياته وكيفية أدائه لا ينافي تواتر أصله)

ثم استدل على ذلك بقوله: (ومما يدل ويؤكد على أن القراءات غير متواترة أن كثيراً من العلماء والقراء والمفسرين والنحويين وغيرهم قد خطأوا قراءات كثيرة قد اشتهر عند كثير من المتأخرين أنها متواترة، وهذا يدل بكل وضوح على أن أولئك العلماء كلهم كانوا لا يرون أنها متواترة، إذ لوكانوا يرونها كذلك لما فكر واحد منهم أن يخطئها أويضعفها)(1)

قال آخر: بل إننا إذا رجعنا إلى المتقدمين، وفي عصر القراء نجد هذا واضحا جليا .. فقد روى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: (كنا نقرأ على أبي جعفر القارئ، وكان نافع يأتيه فيقول: يا أبا جعفر ممن أخذت حرف كذا وكذا؟ فيقول: من رجل قارئ من مروان بن الحكم، ثم يقول له: ممن أخذت حرف كذا وكذا؟ فيقول: من رجل قارئ من الحجاج، فلما رأى ذلك نافع تتبع القراءة يطلبها .. وقال إسحاق المسيبي: قال نافع: قرأت على هؤلاء فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته)(2)

قال آخر (3): أجل .. ويدل لذلك أن ورشا قرأ على نافع ونقل قراءته إلى مصر، ومن

__________

(1)  اختلاف القراءات (ص 336)

(2)  معرفة القراء (1/ 244)

(3)  انظر مقالا بعنوان: تواتر القراءات بين الظن والتوهم والواقع اليقين، صالح بن سليمان الراجحي.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/117)

ثم انتقلت غرباً، مع أن ورشاً لم يوافقه أحد من الرواة عن نافع في قراءته، ولا نقلها أحد عن نافع غير ورش .. وهذا ابن كثير قرأ على عبد الله بن السائب ومجاهد، وقرأ عليه البزي وقنبل بواسطة، فقد أخذ البزي عن عكرمة بن سليمان، عن شبل بن عباد وإسماعيل بن عبد لله القسط، عن ابن كثير .. وأخذ قنبل عن أبي الحسن القواس، عن وهب بن واضح، عن إسماعيل بن عبد الله بن القسط، عن شبل بن عباد ومعروف بن مشكان، عن ابن كثير .. فأين التواتر!؟

قال آخر: ومثله ابن عامر إنما أخذ القراءة عن المغيرة بن أبي شهاب، والمغيرة قرأ على عثمان كما قيل .. فأين التواتر!؟

قال آخر: وقد قال ابن الجزري: وقد ورد في إسناده تسعة أقوال، أصحها أنه قرأ على المغيرة بن أبي شهاب .. وقيل: قرأ على أبي الدرداء، وقيل غير ذلك .. وقد قرأ عليه هشام وابن ذكوان بواسطة، فقد أخذ ابن ذكوان عن أيوب بن تميم، عن يحيى بن الحارث الذماري، عن ابن عامر .. وأخذ هشام عن عراك بن خالد، عن يحيى بن الحارث الذماري، عن ابن عامر (1) .. فأين التواتر!؟

قال آخر: ومثله أبوعمرو البصري، أخذ عنه الدوري والسوسي بواسطة، فقد أخذا عن يحيى اليزيدي، عن أبي عمر البصري .. فأين التواتر!؟

قال آخر: ومثله حمزة أخذ عنه خلف وخلاد بواسطة، فقد أخذا عن سليم بن عيسى الكوفي، عن حمزة .. فأين التواتر!؟

4 ـ الموقف المعتدل

__________

(1)  غاية النهاية (1/ 591)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/118)

ما إن وصل الحديث بالجمع إلى هذا المحل، حتى أذن المؤذن لصلاة العشاء؛ وبعدها قام كبير القوم، وقال: بورك فيكم .. وفي المعلم الذي أتاح لنا الاستماع إليكم .. وقد قررت بناء على ما ذكرتموه أن أتراجع عن كل مواقفي المتشددة السابقة، وأنا الآن سأرجع إلى القراءة التي يتوفر فيها اليسر والوحدة .. وسأكلف معلمي مدرستي القرآنية بذلك .. مع العلم أنهم قد طلبوا مني ذلك سابقا، لكونهم رأوا صعوبة تعليم التلاميذ مقارنة بزملائهم من المعلمين الذين يدرسون بحسب رواية حفص عن عاصم.

قال آخر: وأنا مثلك في ذلك .. فسأكلف الأئمة بالقراءة بتلك القراءة اليسيرة السهلة المتفق عليها بين أكثر المسلمين .. حتى نتجنب الفتن التي تحصل في المساجد بسبب تلك الخلافات.

وهكذا قال آخرون ذلك .. وكان من بينهم أولئك النفر الذين اجتمعت بهم بعد الصلاة؛ فقد رأيتهم يذهبون إلى الإمام يقبلون يده، ويعتذرون له بشدة.

أما معلمي معلم القصد والاعتدال؛ فقد رأيته يتحدث مع أعيان القوم .. وهم يستمعون له بكل حرص ومودة.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/119)

ثالثا ـ القرآن .. وأسباب النزول

في صباح اليوم التالي، وجدت نفسي في شارع آخر، كان أعجب وأغرب من الشارع الذي كنت فيه، ذلك أن الآيات الكريمة التي عُلقت فيه، وفي المحال المختلفة، كانت مصحوبة بعناوين وتفاسير، لا لتزيد في توضيحها، وإنما في إبعادها عن أغراضها ومحتواها.

ومن الأمثلة على ذلك، أني وجدت صورة كبيرة لقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11]، والآيات التالية لها، وبجنبها كتب بخط كبير: هذه الآية نزلت في الوليد بن مغيرة .. وأمامها ترجمة مفصلة عنه وعن نسبه، وكل ما يرتبط به، حتى يخيل للقارئ أن هذه الآية لا يمكن أبدا أن تنطبق على غيره.

وهكذا فعلوا في لافتة خاصة بسورة الفاتحة، فقد كتبوا تحت قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]: المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون: النصارى .. وكأن الله تعالى لم يغضب إلا على اليهود والنصارى.

والأخطر من ذلك أني وجدت لافتة كتب عليها قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 59 ـ 62]، ووجدت بجنبها: روي أنه لما نزلت سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسجد معه جميع من حضر من المسلمين والمشركين، إلا رجلين اثنين: أمية بن خلف، والمطلب بن وداعة .. وعن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس)(1) .. وعن ابن مسعود قال: (أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسجد من خلفه، إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا،

__________

(1)  رواه البخاري (1071)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/120)

وهوأمية بن خلف)(1)

وتحت هذه الروايات كتبت هذه العبارة الخطيرة: وقد ورد في بعض الروايات تفسير سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاصلها أن الشيطان ألقى في أثناء قراءته كلمات على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها الثناء على آلهتهم، وإثبات الشفاعة لها عند الله، وهذه الكلمات هي: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، ولما سمع المشركون ذلك فرحوا واطمأنوا وسجدوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ولم يقتصر الأمر على اللافتات، بل تعداه إلى جمهور ذلك الشارع الغريب، ذلك أني عندما قرأت لبعضهم قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66] لأصحح له مفهومه لدور القرآن الكريم في الحياة، قال لي ببرودة مختلطة بعصبية: الآية الكريمة خاصة بأهل الكتاب .. ألم تقرأ فيها التوراة والإنجيل .. فكيف تريد أن تطبقها على أهل القرآن؟

قلت: ولكن الله أمر بالتعقل والعقل .. ألم تسمع ذم الله تعالى للذين لا يستعملون عقولهم .. ألم تسمع قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]؟

قال: ويلك ولتحريفك للقرآن الكريم .. ألم تقرأ أول الآية {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، فهي تتحدث عن الذين كفروا .. لا عن المؤمنين.

قلت: فقد قال الله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]

قال: ويلك ولتحريفك للقرآن الكريم .. ألم تقرأ الآية التي قبلها والتي بعدها .. لقد

__________

(1)  البخاري (3972) مسلم (576)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/121)

قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 21 ـ 23] .. فهي تتحدث عن الكفار .. لا عن المؤمنين .. فكيف تجيز لنفسك تعميم ما خصه القرآن، أو إطلاق ما قيده؟

قلت: لا بأس .. لكن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] ليس خاصا بالكفار.

قال: ويلك ولتحريفك للقرآن الكريم .. ألم تقرأ علم [مبهم القرآن] و [علم أسباب النزول] لتعلم أن هذه الآية الكريمة نزلت في ذلك الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله إن حمدي، زين وإن ذمي شين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاك الله عَزَّ وَجَلَّ)(1)

قاله له صاحبه، يؤيده: وذكر المفسرون أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في قوم من الأعراب جاؤوا ينادون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من وراء حجراته: يا محمد اخرج إلينا.

قال آخر: وروي أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي فيما أورده غير واحد.

قال آخر: وروي أنها نزلت في وفد بني تميم حيث كان الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وغيرهم، وذلك أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي تسعة فنادوا بجملتهم ولم ينتظروا: يا محمد اخرج إلينا فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير (2).

قلت: بورك فيكم وفي حفظكم لأسباب النزول .. ولكن خصوص السبب لا يلغي عموم التوجيه .. فالله تعالى يوجه خلقه جميعا من خلال تلك النماذج التي ذكرتها.

قالوا جميعا: ويلك ولتحريفك للقرآن الكريم .. ألم تسمع ما ورد في الأحاديث

__________

(1)  المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة (2/ 915)

(2)  المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة (2/ 915)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/122)

الكثيرة من النهي عن تفسير القرآن بالرأي؟

لم أدر ما أقول، ولا كيف أخاطبهم، ذلك أني كلما استدللت بآية من الآيات راحوا يضربونها بأسباب نزولها .. فقلت لهم: إنكم بهذا تعطلون القرآن الكريم؛ فالله أنزل كتابه لكل البشر، لا لجيل منهم .. وأنتم تختصرونه في الجيل الذي نزل فيه.

غضب أحدهم، وهم بضربي، لكن معلمي فجأة، حضر، وراح يخاطب الذي يريد أن يضربني بقوله: اعذره؛ واعتبره من أولئك الذين قال الله تعالى فيهم: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]

قال أحدهم: لكن المفسرين ذكروا في تفسيرهم للآية، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعطي الأمان لمن جاءه، مسترشدا أو في رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش، منهم: عروة بن مسعود، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو، وغيرهم واحدا بعد واحد، يترددون في القضية بينه وبين المشركين، فرجعوا إلى قومهم فأخبروهم بذلك، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم (1).

قال المعلم: صدقت .. ونحن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك في معاملة هذا الجاهل، فإن تعلم وصلح حاله، قبلناه، وإلا نال منا ما يستحق.

قال أحدهم: فأين تريد أن تذهب به لتعلمه؟

قال المعلم: بل سنسير جميعا فهناك مسابقة في ساحة الحي حول أسباب نزول القرآن الكريم، ولعلكم تكونون من الفائزين فيها.

كان للمعلم هيبة خاصة؛ فلذلك بمجرد أن نطق بهذا، صاحوا جميعا: بوركت .. فهيا

__________

(1)  تفسير ابن كثير (4/ 113)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/123)

سر بنا حيث شئت.

بعد أن سرنا مع المعلم مسافة قصيرة إلى ساحة قد اجتمع فيها الكثير من الناس، بمن فيهم أولئك الذين يلبسون لباس العلماء، وكان من المتصدرين في تلك الساحة بعض أولئك الذين اختلى بهم معلم القصد والاعتدال، واستطاع أن يجعلهم من جنده وأعوانه.

عند وصولنا إليها، ارتقى أحدهم ـ وكان من الأعيان الذي انفرد المعلم بالجلوس إليهم، وظهر تأثيره فيهم ـ المنصة، وقال: مرحبا بكل الذين استجابوا لدعوتنا إلى هذه المسابقة الخاصة بالتعرف على أسباب نزول القرآن الكريم، من خلال الروايات والأحاديث الواردة، وقد دعانا إليها ما رأيناه من اهتمام أهل حيكم بها، ويبدو أنكم ورثتم ذلك كابرا عن كابر.

قام أحدهم، وقال: أجل .. فأنا من أحفاد علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي، المتوفى في 468 هـ .. ذاك الذي ألف أشهر كتاب في أسباب نزول القرآن.

قال آخر: وأنا من أحفاد عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي، الملقب بجلال الدين الجَلَال السُّيُوطي المتوفى في 911 هـ .. وصاحب كتاب: لباب النقول في أسباب النزول.

قال آخر: وأنا من أحفاد صاحب كتاب [العجاب في بيان الأسباب]، أقصد: أبا الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني المتوفى 852 هـ

وبعد أن تكلم هؤلاء وغيرهم معرفين بأنفسهم، قال المعلم: بناء على أن القرآن الكريم ـ كما تعرفون جميعا ـ كتاب هداية وتربية وإصلاح شامل؛ فقد توجه خطابه للجميع، ليشملهم بتوجيهاته وتزكيته وإصلاحه .. سواء أولئك الذين جحدوه، أو أولئك الذين

القرآن.. وتحريف الغالين (1/124)

آمنوا به.

قال أحدهم: صدقت .. ولهذا عند التأمل في أسباب النزول، نجد أن كل سبب منها مرتبط بشخص أو جماعة من الذين آمنوا بالقرآن أو من الذين جحدوه.

قال الإمام: لقد رأيت من خلال حصري للأشخاص أو الجهات التي تنزل القرآن الكريم لتربيتها وهدايتها ودعوتها أو لتوبيخها وتأنيبها أو الإجابة عن إشكالاتها وشبهاتها جهتين .. أولهما المؤمنون الذين يحتاجون إلى التأديب والتربية وبيان أحكام الدين .. وثانيهما الجاحدون الذين يوردون الشبهات والإشكالات؛ فيجيب القرآن الكريم عنها، أو يبين أسبابها الداعية لها.

قال المعلم: ما دمت قد ذكرت هذا؛ فستكون الأسئلة عن هذين الصنفين .. وإن قبل الجمع الكريم؛ فستكون أنت من يذكر الأسئلة.

قالوا: نعم .. ونحن مستعدون للإجابة.

1. أسباب النزول والمؤمنون

قال الإمام: قبل أن نبدأ بالصنف الأول، فقد رأيت أن الأجدى عدم الاقتصار على ذكر أسباب النزول فقط، بل نضيف إليها ما يرتبط بمعاني الآيات الكريمة، بالإضافة إلى التعرف على المعاني العملية المرتبطة بها .. فهل أنتم موافقون على ذلك؟

قام أحد الذين تأثروا بتوجيهات المعلم، وقال: وكيف لا نوافق على ذلك، وقد أمرنا الله تعالى به، فلا يمكن تدبر القرآن الكريم، ولا العمل به من دون فهم معانيه.

قال الإمام: ما دمتم قد ذكرتم هذا، فلنبدأ بالصنف الأول .. وهم المؤمنون .. فمن يذكر لي منكم سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

القرآن.. وتحريف الغالين (1/125)

وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 1 ـ 5]؟

قال أحدهم: روي أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبوبكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبوبكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت الآيات في ذلك (1).

قال آخر: ومثله ما روي عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا: أبوبكر وعمر رفع أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم عليه ركب من بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس وأشار الآخر برجل آخر، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك وارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى الآية (2).

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): في هذه الآيات الكريمة باقة من الآداب الخاصة في معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل المؤمنين على أساس من التوقير والاحترام والتعظيم، وهي شاملة لكل العصور، وأولها ما عبر عنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] أي يا أيها المؤمنون إيمانا صحيحا، لا تتقدموا ولا تتعجلوا بقول أو حكم أو قضاء في أمر ما أو فعل قبل قضاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لكم فيه، فربما

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 383.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 385.

(3)  التفسير المنير (26/ 218)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/126)

تقضون بغير حق، واتقوا الله في كل أموركم، وراقبوه في عدم تخطي ما لم يأذن به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الله سميع لأقوالكم، عليم بأفعالكم ونياتكم، لا يخفى عليه شيء منكم .. وهذا نهي واضح عن مخالفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر الرسول، لأنه مبلغ عن الله تعالى شرعه ودينه.

قال آخر (1): ثم ذكر الله تعالى أدبا في القول فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله إذا تكلمتم مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، لأن رفع الصوت يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، وخفض الصوت وعدم رفعه من التعظيم والتوقير .. وهذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين، وهو أدب محمود مع كل الناس أيضا، وهو شامل لكل زمان ومكان، ومع كل الصالحين.

قال آخر (2): والأدب الثالث هو ما عبر عنه قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] أي وإذا كلمتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخاطبوه بالسكينة والوقار، خلافا لما تعتادونه من الجهر بالقول الدائر بينكم، ولا تقولوا: يا محمد ويا أحمد، ولكن يا نبي الله، ويا رسول الله، توقيرا له وتقديرا لمهمته ورسالته التي يبلغكم بها في سكون وهدوء وعدم انزعاج وتبرم نفسي، وهو شامل لكل زمان ومكان، ومع كل الصالحين.

قال آخر (3): وبعد أن حذر الله تعالى من خطر المخالفة، رغب الله تعالى في خفض الصوت وحث عليه قائلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3] أي إن الذين يخفضون

__________

(1)  التفسير المنير (26/ 218)

(2)  التفسير المنير (26/ 218)

(3)  التفسير المنير (26/ 218)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/127)

أصواتهم في أثناء كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي مجالسه، أخلص الله قلوبهم للتقوى، ومحصها، وجعلها أهلا ومحلا، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه، ويسقط‍خبيثه، فكذلك هؤلاء المتأدبون عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، طهر الله قلوبهم من كل قبيح، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم على تأدبهم بخفض الصوت وسائر الطاعات، كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فهي شاملة لكل من تجرأ؛ فقدم رأيه أو نفسه أو هواه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو على ربه .. أو أساء الأدب معهما كائنا من كان؛ فقيمة كل امرئ باتباعه وأدبه.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3]؟

قال أحدهم: روي أنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] تألى أبوبكر أن لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا كأخي السرار، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أخبر الله تعالى في الآية السابقة بأن من رفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحبط عمله من حيث لا يعلم، عاد البيان القرآني إلى وصف حال من يوقرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخفض أصواتهم في حضوره وغضها عن صوته بقوله: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله}، وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه، وأكد هذا الاهتمام باسم

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 385.

(2)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 275.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/128)

الإشارة في قوله:} أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى}، وهو من قولهم: امتحن فلان لأمر كذا وجرب له ودرب للنهوض به، فهو مضطلع به غير وان عنه، والمعنى: أنهم صبر على التقوى، أقوياء على احتمال مشاقها .. وقد وعد الله تعالى أولئك الأتقياء بأن {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [الملك: 12] للذنوب .. ولهم {أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الملك: 12]، في مقابل تكريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجلاله .. ثم إنه سبحانه عبر في الآيتين تارة بالنبي وأخرى بالرسول، للإشارة إلى أن هذه الآداب والأحكام لأجل كونه موصوفا بالنبوة والرسالة.

قال آخر: وقد روي ما يدل على بقاء هذا الحكم دائما، فقد روي عن مالك أنه أنكر على أبي جعفر رفعه صوته عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: (لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُون} [الحجرات:2]، ومدح قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3]، وذم قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا)(1)

قال الإمام: بورك فيكما، وبذلك، فهي شاملة لكل الآداب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي كل الأزمنة، ومثلها الأدب مع من أمرنا بالأدب معهم من الصالحين والعلماء وغيرهم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 4 ـ 5]؟

__________

(1)  شفاء السقام، السبكي: 69.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/129)

قال أحدهم: روي أنها نزلت في ناس أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلموا فجعلوا ينادونه وهو في الحجرة: يا محمد، يا محمد .. فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي أنها نزلت في جفاة بني تميم، قدم وفد منهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخلوا المسجد، فنادوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وراء حجرته: أن اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين، فآذى ذلك من صياحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إليهم، فقالوا: إنا جئناك يا محمد نفاخرك، ونزل فيهم (2).

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): في الآيتين الكريمتين التفات إلى النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بهذا العذر الذي يقدمه الله تعالى له، عن هذا الجفاء، وتلك الغلظة، مما يغلب على أهل البادية، الذين يجيئون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فينادونه من وراء الحجرات التي كان يتخذها النبى سكنا له مع أهله .. فهؤلاء الأعراب لم يتأدبوا بأدب الإسلام، بعد، ولم تظهر عليهم آثاره، وإنهم لجديرون بأن يقابلوا من النبي بالتسامح، وأن يعذروا لهذا الجفاء البادي منهم .. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 5] إلفات إلى هؤلاء الأعراب، وتوجيه حكيم رفيق بهم، إلى هذا الأدب الذي لم يألفوه بينهم .. وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 5] تطمين لهؤلاء الأعراب الذين قد يقع منهم هذا الفعل، وأنهم فى سعة من رحمة الله ومغفرته، إذا هم أخذوا بأدب القرآن، ونزعوا عما غلبتهم عليه طبيعتهم .. كما أنه دعوة إلى النبي الكريم، أن يغفر ويرحم، فقد غفر الله ورحم.

قال الإمام: بورك فيك، وبذلك، فهي تدل على أن من علامات العقل حسن الأدب،

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 386.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 386.

(3)  التفسير القرآني للقرآن (13/ 438)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/130)

وحسن الخلق، فالعقل هو الذي يعقل صاحبه عن الدنايا والسفاسفه، ويوجهه إلى المعالي والمكارم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 5 ـ 7]

قال أحدهم: روي أنها نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع القوم به تلقوه تعظيما لله تعالى ولرسوله فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى، فبدا له في الرجوع، فخشينا أن يكون إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي عن الحارث بن ضرار قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاني إلى الإسلام، فدخلت في الإسلام وأقررت فدعاني إلى الزكاة، فأقررت بها، فقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فترسل لإبان كذا وكذا لآتيك بما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث بن ضرار ممن

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 386.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/131)

استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد أن يبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احتبس عليه الرسول، فلم يأته، فظن الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله، فدعا سروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كان وقت لي وقتا ليرسل إلي ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق، فرق فرجع فقال: يا رسول الله إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البعث إلى الحارث، وأقبل الحارث بأصحابه فاستقبل البعث وقد فصل من المدينة، فلقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم إلى: من بعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فرجع إليه، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته ولا أتاني، فلما أن دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟) قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيت رسولك، ولا أتاني ولا أقبلت إلا حين احتبس علي رسولك خشية أن تكون سخطة من الله ورسوله! قال: فنزلت في الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 6 ـ 8] (1)

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): يخاطب الله تعالى المؤمنين في الآيات الكريمة بقوله: يا أيها المؤمنون

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 391.

(2)  تفسير المراغي (26/ 127)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/132)

إن جاءكم الفاسق بأى نبإ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا على قوله، فإن من لا يبالى بالفسق فهو أجدر ألا يبالى بالكذب ولا يتحاماه، خشية إصابتكم بالأذى قوما أنتم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرط منكم وتتمنوا أن لو لم تكونوا فعلتم ذلك.

قال آخر (1): ثم وعظهم الله تعالى بعظة هم أحرى الناس باتباعها فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات: 7]، أي واعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم كما قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]

قال آخر (2): ثم بين أن رأيه أنفع لهم وأجدر بالرعاية فقال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] أي لو سارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر وأجاب ما أشرتم به عليه من الآراء لوقعتم فى الجهد والإثم، ولكنه لا يطيعكم فى غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه.

قال آخر (3): ثم استدرك على ما سلف لبيان براءة بعضهم من أوصاف الأولين فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] أي ولكن جمعا منكم براء مما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبرئ وإرادة أن يتبع الحق أهواءهم، لأن الله تعالى جعل الإيمان أحب الأشياء إليهم، فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة وترك التسرع فى الأخبار، وكره إليهم هذه الأمور الثلاثة: الكفر والفسوق والعصيان.

__________

(1)  تفسير المراغي (26/ 127)

(2)  تفسير المراغي (26/ 128)

(3)  تفسير المراغي (26/ 128)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/133)

قال آخر (1): والخلاصة، إن الإيمان الكامل إقرار باللسان، وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، فكراهة الكفر فى مقابلة محبة الإيمان، وتزيينه فى القلوب هو التصديق بالجنان، والفسوق وهو الكذب فى مقابلة الإقرار باللسان، والعصيان فى مقابلة العمل بالأركان.

قال الإمام: بورك فيكم، وهي بالإضافة إلى ذلك إرشاد للمؤمنين في كل الأزمنة بالتحري والاحتياط حتى لا يقعوا ضحايا للمخادعين والماكرين؛ فليس كل من أظهر إسلامه متحققا بمعانيه وقيمه.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]؟

قال أحدهم: روي عن أنس قال: قلت: يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة فلما أتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، وكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزلت فيهم (2).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): في هذه الآية الكريمة بيان أحكام ثلاثة تستهدف حماية الإنسان في دمه وعرضه، وتجنيب المجتمع ويلات التنازع والقتال .. وأولها أنه لو حدث خصام وقتال بين طائفتين من المؤمنين فعلى سائر المؤمنين السعي للمصالحة بينهما صونا للدماء من أن

__________

(1)  تفسير المراغي (26/ 128)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 391.

(3)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 294.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/134)

تسفك، وحفظا لوحدة الكلمة وجمع الشمل، ولذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إصلاح ذات البين)(1) .. وفي وصية الإمام علي للحسن والحسين: (أوصيكما، وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام)(2)

قال آخر (3): وأما الحكم الثاني، فهو لزوم حماية الإنسان في عامة شؤونه، وهو محدد بعدم تجاوز العدل والإنصاف، وإلا فلو تجاوزهما فقد هتك حرمته وضيع كرامته، ولذلك يجب ردعه ودفعه إلى حد العدل، كما قال تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} [الحجرات: 9]، أي استطالت وتجاوزت على أختها {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] تتجاوز وتعتدي} حتى تفيء} ترجع {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] إلى ما أمر به الله تعالى.

قال آخر (4): وأما الحكم الثالث، فهو في القتال مع الطائفة المعتدية، وهو محدد برجوعها إلى أمر الله، {فَإِنْ فَاءَتْ} [الحجرات: 9] إلى أمر الله {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9]، أي بإجراء أحكام الله على المعتدي على دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، دون الاكتفاء بوضع السلاح وترك القتال والحيلولة بينهما.

قال آخر (5): ثم أمر الله تعالى بانتهاج سبيل العدل في كل ما يأتون به من قول أو فعل وقال: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]

قال الإمام: بورك فيكم، وفيها بالإضافة إلى ذلك، دعوة للمؤمنين في جميع العصور بأن يقفوا مع الطائفة العادلة الصالحة في وجه كل البغاة الظلمة المحرفين وإلا كانوا شركاء

__________

(1)  أحمد: 6/ 444 ..

(2)  نهج البلاغة: قسم الرسائل، برقم 47 ..

(3)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 295.

(4)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 295.

(5)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 295.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/135)

لهم في بغيهم .. وأن يستعملوا كل الوسائل لذلك سلمية كانت أو حربية إن اضطروا إليها؛ فالفتنة أشد من القتل.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وذلك أنه كان في أذنيه وقر فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه، فيسمع ما يقول، فجاء يوما وقد أخذ الناس مجالسهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا، تفسحوا فقال له رجل: قد أصبت مجلسا فاجلس، فجلس ثابت مغضبا، فغمز الرجل فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان؟ فقال ثابت: ابن فلانة؟ وذكر أما كانت له يعير بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه استحياء، فأنزل الله تعالى هذه الآية (1).

قال آخر: وروي أنها نزلت في امرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم سخرتا من أم سلمة، وذلك أنها ربطت حقويها بسبنية ـ وهي ثوب أبيض ـ وسدلت طرفها خلفها فكانت تجره، فقالت عائشة لحفصة انظري إلى ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، فهذا كان سخريتها، وقال أنس: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيرن أم سلمة بالقصر (2).

قال آخر: ومثله ما روي أن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن النساء يعيرنني ويقلن: يا يهودية بنت يهوديين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هلا

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 392.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 392.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/136)

قلت: إن أبي هارون وإن عمي موسى وإن زوجي محمد)، فأنزل الله تعالى هذه الآية (1).

قال آخر: وروي عن بعضهم قال: قدم علينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل الرجل يدعوالرجل ينبزه، فيقال: يا رسول الله، إنه يكرهه، فنزلت (2).

قال الإمام: بورك فيكم .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): في هذه الآية الكريمة ذكر الله تعالى حقوقا ثلاثة يجمعها تكريم المؤمن، وصيانة شخصيته مما يشينها .. أما الأول فقد نهى الله تعالى المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض، فلا تحل الاستهانة بالغير، والتنبيه على بعض صفاته استصغارا له، وإثارة للضحك عليه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11]، فالآية بصدد النهي عن أسباب الفرقة، فإن السخرية تنبت العداء، وتقطع عرى الوحدة .. ثم علل النهي عن السخرية بقوله: {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات: 11]، أي عسى أن يكون المسخور منه خيرا من الساخر عند الله، فإن ملاك الفضيلة هو الإيمان والتقوى، ومن المحتمل أن يكون المسخور منه أفضل إيمانا وأكثر عملا، كما قال الإمام الباقر: (إن الله خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء ـ ومنها ـ وخبأ أولياءه في خلقه، فلا تحقرن أحدا فلعله ذلك الولي)(4) .. ثم إن السخرية لما كانت شائعة بين الأقوام من دون فرق بين الرجال والنساء، خص كلا منهما بخطاب خاص، فقال في النساء: {وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11]

قال آخر (5): وأما الثاني، فهو ما نص عليه قوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]، أي لا يطعن بعضكم على بعض بإظهار العيوب والنقائص، بقول أو إشارة ..

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 392.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 393.

(3)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 309.

(4)  كشف الغمة: 2/ 361.

(5)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 310.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/137)

ومع أن الطاعن غير المطعون لكنه سبحانه جمعهم تحت عنوان واحد وهو {أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]، وما هذا إلا لأن المؤمنين كنفس واحدة، ولذلك نرى أنه سبحانه يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] فكأن من قتل شخصا قد قتل نفسه .. ولذلك، فجدير بالمؤمن أن يدع اللمز وعيب الناس، وأن يتوجه إلى عيوب نفسه قبل النظر إلى عيوب الغير، وقد قال الإمام علي: (على العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين والرأي والأخلاق والأدب فيجمع ذلك في صدره أو في كتاب ويعمل في إزالتها)(1)

قال آخر (2): ولا شك في أن من يتتبع عيوب الناس سوف ينشغل عن صيانة نفسه عما يعيبها، كما قال الإمام الباقر: (كفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه)(3)

قال آخر: ولذلك، فإن على المؤمن أن يتجنب معاشرة هؤلاء اللمازين الذين يصرفون أعمارهم في إظهار عيوب الناس، فإن المصاحبة مؤثرة، كما قال الإمام علي: (إياك ومعاشرة متتبعي عيوب الناس فإنه لم يسلم مصاحبهم منهم)(4)

قال آخر (5): وأما الحكم الثالث فقد أشار إليه قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]، أي لا تسم المسلم بما يسوؤه بعد إيمانه، كقولك لمن أسلم بعد أن كان مشركا أو يهوديا: يا من كان كذا وكذا، أو: يا من كان أبوه أو أمه كذا وكذا {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11] فإنه إهانة للمؤمن فتجب التوبة منه وإلا {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] لنفوسهم بالإصرار على ارتكاب ما يستحقون به العقاب.

قال آخر (6): ولهذا ورد النهي عن إطلاق أي اسم أو لقب يشير إلى تحقير المسلم

__________

(1)  غرر الحكم: 559.

(2)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 311.

(3)  الكافي: 2/ 459.

(4)  غرر الحكم: 148.

(5)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 311.

(6)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 312.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/138)

وإهانته، وقد ورد أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يصر على تغيير أسماء الأشخاص إذا كانت تشير إلى معان لا تناسب مقام المسلم، قال الإمام الباقر: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغير الأسماء القبيحة في الرجال والولدان)(1)

قال الإمام: بورك فيكم، وهي إضافة إلى ذلك، شاملة لكل أصناف الإساءات، ولكل شخص حتى لو كان غير مسلم؛ فالأخلاق والآداب لا ترتبط بالجهة التي نتعامل معها .. والدين حسن الخلق .. وهي كذلك تحض المؤمنين على مراعاة الأدب في استعمال الكلمات المناسبة مع كل أصناف الناس سواء تعلقت بأسمائهم أو ألقابهم أو غيرها.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]؟

قال أحدهم: نزلت في ثابت بن قيس، وقوله في الرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من الذاكر فلانة؟) فقام ثابت فقال: أنا يا رسول الله. فقال: (انظر في وجوه القوم)، فنظر فقال: (ما رأيت يا ثابت؟) فقال: رأيت أبيض وأحمر وأسود، قال: (فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى)، فأنزل الله تعالى هذه الآية (2).

قال آخر: ومثله ما روي أنه لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالا حتى أذن على ظهر الكعبة، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا!؟ وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره، وقال أبوسفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا،

__________

(1)  قرب الاسناد: 45 ..

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 393.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/139)

فأقروا، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر ذات يوم ببعض الأسواق بالمدينة وإذا غلام أسود قائم ينادي عليه بياع فيمن يزيد، وكان الغلام يقول: من اشتراني فعلى شرط، قيل: ما هو؟ قال: لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فاشتراه رجل على هذا الشرط، وكان يراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند كل صلاة مكتوبة ففقده ذات يوم، فقال لصاحبه: (أين الغلام؟) فقال: محموم يا رسول الله، فقال لأصحابه: (قوموا بنا نعوده)، فقاموا معه فعادوه، فلما كان بعد أيام قال لصاحبه: (ما حال الغلام؟) فقال: يا رسول الله إن الغلام لما به، فقام ودخل عليه وهو في برحائه، فقبض على تلك الحال، فتولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غسله وتكفينه ودفنه، فدخل على أصحابه من ذلك أمر عظيم، فقال المهاجرون: هجرنا ديارنا وأموالنا وأهلينا فلم ير أحد منا في حياته ومرضه وموته ما لقي هذا الغلام، وقالت الأنصار: آويناه ونصرناه وواسيناه بأموالنا فآثر علينا عبدا حبشيا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} يعني أنكم بنوأب واحد وامرأة واحدة، وأراهم فضل التقوى بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2)

قال الإمام: بورك فيكم .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): كانت الآيات السابقة تتضمن خطابات موجهة إلى المجتمع الإسلامي، وقد جاء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات: 1] خمس مرات واحدة بعد الأخرى، لكن الخطاب في هذه الآية موجه إلى المجتمع الإنساني، مجردا عن الانتساب إلى

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 393.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 393.

(3)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 324.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/140)

القوميات والعنصريات والإقليميات والطائفيات، بل إلى الإنسان بما هو إنسان، ويخاطبه بخطاب البعيد ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحجرات: 13] وكأنه يريد أن يوصل هذا الخطاب إلى كل إنسان في مختلف أرجاء العالم من غير فرق بين قوم وقوم أو لون دون لون.

قال آخر (1): ويتضمن الخطاب تذكير البشر بأن أصل الجميع شيء واحد، وأنهم خلقوا من ذكر وأنثى، فلا فضيلة لأحد على أحد من حيث الآباء والأمهات بعد كون أب الجميع آدم، وأمهم حواء، وقال: {مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13]، ولازم ذلك كونهم أمة واحدة، سواسية في الحقوق .. نعم جعل فيهم الاختلاف وصيرهم شعوبا وقبائل كما قال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} [الحجرات: 13] لكن لا ليتناحروا ويتفاخروا بآبائهم وأجناسهم وإنما جعلهم كذلك لغاية التعارف كما قال: {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، أي ليعرف بعضكم بعضا، فإن التماثل في الألوان والأشكال واللغات يهدم أساس الحياة.

قال آخر (2): ولهذا، فإن هذا المبدأ .. مبدأ المساواة بين الأجناس البشرية، والدعوة إلى وحدة المجتمع الإنساني ونبذ كل أشكال التمايز الطبقي، مبدأ إسلامي أساسي، ولهذا كافح الإسلام أي تفاخر يرجع إلى العرق واللون أو الانتساب إلى الآباء والأمهات، بل جعل ميزان الفضل والفضيلة هو الإيمان بالله والعمل بأوامره ونواهيه، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فالكرامة لا تكمن في بياض الجلد وسواده، ولا في اللسان أو غير ذلك من الأمور الطبيعية التي ستندثر، وإنما في الإيمان والعمل بالمثل الأخلاقية، فهي التي تبقى ما دام الإنسان باقيا في الحياة الدنيا وما بعدها من الحياة الأخروية، فمن اكتسب في دنياه سعادة الدار الآخرة فقد حاز قصب السبق وأخذ معه خير الزاد، وأما من تفاخر باللون واللسان والانتماء القبلي فقد خسر، لأن هذه الكرامة الموهومة

__________

(1)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 324.

(2)  منية الطالبين في تفسير القرآن المبين، 26/ 325.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/141)

ـ مضافا إلى أنها توقع الإنسان في الهلكة ـ تفارقه بمجرد موته.

قال الإمام: بورك فيكم، وهي بالإضافة إلى ذلك، تحض المؤمنين في كل العصور على الابتعاد عن كل أشكال التكبر والعنصرية التي لا تتناسب مع العبودية؛ فعبد الله هو الذي لا يتجاوز قدره .. وعبد الله هو الذي يسعى ليتحقق بالتقوى التي تجعله كريما عند ربه.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنوفلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): بعد أن حث الله تعالى الناس على التقوى، وبخ من فى إيمانه ضعف من الأعراب الذين أظهروا الإسلام وقلوبهم وغلة، لأنهم كانوا يريدون المغانم وعرض الدنيا، ولذلك رد الله عليهم مكذبا لهم مع عدم التصريح بذلك فقال: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] أي قل لهم: إن الإيمان هو التصديق مع طمأنينة القلب والوثوق بالله ولم يحصل لكم بعد، بدليل أنكم مننتم على الرسول بترك مقاتلته، ولكن قولوا: انقدنا لك واستسلمنا، ولا ندخل معك فى حرب، ولا نكون عونا لعدوك عليك ..

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 395.

(2)  تفسير المراغي (26/ 146)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/142)

وجاءت الآية الكريمة على هذا الأسلوب، ولم يقل لهم كذبتم، ولكن قولوا أسلمنا، حملا له صلى الله عليه وآله وسلم على الأدب فى التخاطب ليتأسى به أتباعه، فيلينوا لمن يخاطبونهم فى القول.

قال الإمام: بورك فيكم، وهي بالإضافة إلى ذلك، تنبه كل مؤمن إلى الابتعاد عن الدعاوى؛ فالله تعالى هو الذي يصنف عباده، ولذلك نهينا عن التزكية، وأخطرها ادعاء التحقق بالإيمان والتقوى، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49]

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]؟

قال أحدهم: روي عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمةٌ فلم نعرف القبلة، فقالت طائفةٌ منا: قد عرفنا القبلة هي هاهنا قبل الشمال، فصلوا وخطوا خطوطا وقال بعضنا: القبلة هاهنا قبل الجنوب فصلوا وخطوا خطوطا فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فسكت فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي عن عامر بن ربيعة، قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السفر في ليلة مظلمة، فلم ندر كيف القبلة، فصلى كل رجل منا على حاله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية (2).

قال آخر: ومثله ما روي عن ابن عباس قال: إن النجاشي لما توفي قال جبريل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن النجاشي توفي، فصل عليه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحضروا وصفهم ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لهم: (إن الله أمرني أن أصلي على النجاشي وقد توفي فصلوا عليه) فصلى رسول

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 36.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 37.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/143)

الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم عليه، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أنفسهم: كيف نصلي على رجل مات، وهو يصلي على غير قبلتنا؟ وكان النجاشي يصلي إلى بيت المقدس حتى مات وقد صرفت القبلة إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود؛ فاستقبلها بضعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب قبلة إبراهيم، فلما صرفه الله تعالى إليها ارتاب من ذلك اليهود وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله تعالى الآية (2).

قال الإمام: بورك فيكم .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] رد مفحم على المنافقين الذين يحاولون أن يردوا المسلمين عن قبلتهم الجديدة وأن يعملوا على خراب هذا المسجد والمساجد التي ستقام على سمته وتدور فى فلكه .. وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115] رد على أولئك الذي أعمتهم الأنانية، فحاربوا الناس فى كل موقع من مواقع رحمة الله التي لا حدود لها، والتي يصيب بها من يشاء من عباده، حسب علمه وحكمته.

قال آخر (4): وهي كما جاءت ردا على تضليل اليهود في ادعائهم إن صلاة المسلمين إلى بيت المقدس كانت باطلة، وضائعة ولا حساب لها عند الله، تقرر كذلك أن كل اتجاه قبلة، فثم وجه الله حيثما توجه إليه عابد .. وإنما تخصيص قبلة معينة هو توجيه من عند الله فيه طاعة، لا أن وجه الله ـ سبحانه ـ في جهة دون جهة .. والله لا يضيق على عباده، ولا

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 37.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 37.

(3)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 133)

(4)  في ظلال القرآن (1/ 105)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/144)

ينقصهم ثوابهم، وهو عليم بقلوبهم ونياتهم ودوافع اتجاهاتهم، وفي الأمر سعة .. والنية لله {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]

قال الإمام: بورك فيكم، وهي بالإضافة إلى ذلك، تعرف بالله وأنه غني عن الجهات والحدود .. وفيها تعريف بالحكم الشرعي المتعلق بالقبلة، وهو غير محصور في زمان دون زمان.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]؟

قال أحدهم: روي عن ابن عباس قال: كان رجالٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ماتوا على القبلة الأولى، منهم أسعد بن زرارة وأبوأمامة أحد بني النجار، والبراء بن معرور أحد بني سلمة، وأناسٌ آخرون، جاءت عشائرهم فقالوا: يا رسول الله توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى، وقد صرفك الله تعالى إلى قبلة إبراهيم، فكيف بإخواننا؟ فأنزل الله الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): الآية الكريمة تشير إلى أن ضياع إيمان المؤمنين، في ما تمثله الصلاة من روح الإيمان، ليس واردا في حساب الله، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، لأنهم قاموا بالصلاة على أكمل وجه، والعبرة بحصول الشروط في حال القيام بالصلاة، فلا يتبدل الحال من هذه الجهة إذا تبدلت الشروط، لأن الشرط الجديد لا يترك أثرا رجعيا على الأعمال السابقة، بل يقتصر تأثيره على الصلوات المقبلة، وهذا ما ينسجم مع رأفة الله ورحمته بعباده، حيث يحفظ لهم أعمالهم ويثيبهم عليها إذا كانت واجدة لشروطها الكاملة

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 42.

(2)  من وحي القرآن (3/ 82)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/145)

{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]

قال آخر (1): وهي تشير إلى أن أوامر الله مثل وصفات الطبيب لكل مرحلة من مراحل العلاج نسخة خاصة، وكلها شافية وافية تضمن سعادة الإنسان وسلامته، والعمل بأجمعها صحيح لا غبار عليه.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فهي تدل على رحمة الله الواسعة بعباده، وأنه لا يعاملهم بما لا طاقة لهم به، وأن الشريعة مبنية على السعة لا على الضيق، وعلى المقاصد لا على الحرفية.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144]؟

قال أحدهم: روي عن البراء قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحوبيت المقدس، ثم علم الله عز وجل هوى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت (2).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتشوف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، ويقع في روعه أن ذلك كائن، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وقد جاء بإحياء ملته وتجديد دعوته، ولأنها أقدم القبلتين، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب، لأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا،

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 408)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 43.

(3)  تفسير المراغي (2/ 9)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/146)

ولولا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة، ولهذا جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي كان يرجوه.

قال آخر (1): ولذلك قال تعالى مخاطبا رسوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 150] أي فاجعل وجهك بحيث يلى جهة المسجد الحرام، وفي ذكر المسجد الحرام دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدا عنها بحيث لا يراها، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه .. {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] أي وفي أى مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم فى الصلاة، وهذا يقتضى أن يصلوا في بقاع الأرض المختلفة إلى سائر الجهات، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب .. وقد وجب لهذا أن يعرف المسلمون موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا، ومن ثم عنوا عناية عظيمة بعلم تقويم البلدان بقسميه الفلكي والأرضى (الجغرافية الفلكية والأرضية) .. والأوامر التي جاءت في الكتاب الكريم موجهة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هي له ولأمته، إلا إذا دل دليل على أنها خاصة به كقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، وقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]

قال آخر (2): وإنما أكد الأمر باستقباله، ووجهه إلى المؤمنين بعد أن أمر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وشرفهم بالخطاب بعد خطاب رسوله، لتشتد عزيمتهم وتطمئن قلوبهم، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب واليهود بعزيمة صادقة وثبات على اتباع الرسول.

قال آخر (3): ثم عاد إلى بيان حال السفهاء مثيرى الفتنة في تحويل القبلة فقال: {وَإِنَّ

__________

(1)  تفسير المراغي (2/ 10)

(2)  تفسير المراغي (2/ 10)

(3)  تفسير المراغي (2/ 10)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/147)

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144] أي وإن أهل الكتاب يعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام، هو الحق المنزل من الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهم مع هذا يفتنون ضعاف المؤمنين في دينهم ويتقبلون ذلك منهم، إذ يذكرون للناس أقوالا على أنها من كتبهم، وما هى من كتبهم، ولكن يريدون بذلك الخداع والفتنة والتهويش على الذين في قلوبهم مرض، بإثارة الشكوك فى نفوسهم، ومن ثم كذب الله هؤلاء المخادعين، وبين أنهم يقولون ما لا يعتقدون إذ هم يعلمون أن أمر القبلة كغيره من أمور الدين، حق لا محيص عنه، إذ جاء به الوحى الذي لا شك في صدقه.

قال آخر (1):، ثم قال تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144]، أي أنه العليم بالظاهر والباطن والمحاسب على ما في السرائر، والرقيب على الأعمال، فيجازي كل عامل بما عمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر .. ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين.

قال الإمام: بورك فيكم، وبالإضافة إلى ذلك، فهي تدل على كرامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه، وتدل على حكمته وعلمه وعصمته واختياره الموفق؛ فما كان الله ليقره على ما خلا منها.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في قتلى بدر من المسلمين، وكانوا بضعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، وذلك أن الناس كانوا يقولون للرجل يقتل في سبيل الله مات فلانٌ وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها، فأنزل الله هذه الآية (2).

__________

(1)  تفسير المراغي (2/ 11)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 44.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/148)

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (1): في هذه الآية الكريمة رد على من يتطلعون إلى الحياة من خلال الصورة الظاهرية التي تكتفي بالجانب المادي في الجسد من حيث دوران الحياة مدار حركته وحيويته، فإذا فقدهما فقد الحياة، فإن ذلك شأن الماديين الذين لا يتصورون وجود حياة خارج نطاق هذا العالم في غيب الله، الذي أكد أن الإنسان لا يموت موتا أبديا عند ما تنطفئ الحياة في الجسد، ولكنه يحيى بعد ذلك ليعيش حياة جديدة في عالم الآخرة الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، لينالوا جزاء أعمالهم من خير أو شر، أما المؤمنون الذي يؤمنون بالغيب وبالآخرة، فإنهم يواجهون الموت وفي وجدانهم التطلع إلى ما بعده من الحياة، ولذلك فلا ينبغي لهم أن يطلقوا كلمة (الأموات) على الشهداء الذين يقتلون في سبيل الله، بما يوحي بالفناء المطلق ويؤدي إلى الإحساس بالمرارة في شعور المجاهدين أو أهلهم وإخوانهم، {بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] تضج الحياة في وجودهم الجديد في عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لأنه غريب عن عالم الشعور. ولذلك فإنكم لا تملكون القدرة على إثباته من ناحية التجربة الذاتية لافتقادكم وسائل الإحساس بهذا النوع من الحياة {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] من خلال هذا العالم الذي ينطلق فيه الشعور من موقع الحس لا من موقع الغيب في علم الله.

قال آخر (2): وهذه الآية الكريمة واردة في نطاق تفريغ النفس من المشاعر الساذجة المشبعة بالوحشة القاسية أمام حالة الموت التي تمثل فقدان الحياة، مما يؤدي إلى الموقف السلبي إزاء الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله في مجالات الصراع مع الكفر والطغيان والانحراف، لأن النفوس مجبولة على حب الحياة والامتداد فيها والرغبة في كل ما يتصل

__________

(1)  من وحي القرآن (3/ 110)

(2)  من وحي القرآن (3/ 110)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/149)

بها، والبعد عن كل ما يسبب فقدانها.

قال الإمام: بورك فيكما، وبذلك، فهي تشمل الشهداء في كل الأزمنة والأمكنة؛ فالله أكرم وأعدل من أن يفرق بين عباده.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في الأنصار، كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى الآية (1) .. وقال أنس بن مالك: كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة لأنهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية فتركناه في الإسلام فأنزل الله تعالى الآية (2).

قال آخر: ومثله ما روي عن عمرو بن حبشي، قال: سألت ابن عمر عن هذه الآية فقال: انطلق إلى ابن عباس فسله فإنه أعلم من بقي بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته فسألته، فقال: كان على الصفا صنمٌ على صورة رجل يقال له: إسافٌ، وعلى المروة صنمٌ على صورة امرأة تدعى نائلة، زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين، ووضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله تعالى، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا على الوثنين، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف لأجل الصنمين، فأنزل الله تعالى الآية (3).

قال آخر: ومثله ما روي عن السدي قال: كان في الجاهلية تعزف الشياطين بالليل

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 44.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 44.

(3)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 45.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/150)

بين الصفا والمروة وكانت بينهما آلهةٌ، فلما ظهر الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة فإنه شركٌ كنا نصنعه في الجاهلية؛ فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال الإمام: بورك فيكم .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي إن هذين الموضعين ـ الصفا والمروة ـ من علامات دين الله، وكذلك الأعمال والمناسك التي تعمل بينهما وهى السعى بينهما هى أيضا من الشعائر، لأن القيام بها علامة الخضوع لله والإيمان به وعبادته إذعانا وتسليما ..

قال آخر (3): ذلك أن الأحكام الشرعية نوعان .. أولهما: يسمى بالشعائر، وهى ما تعبدنا الله تعالى به كالصلاة على وجه مخصوص، والتوجه فيها إلى مكان معين سماه بيته، مع أنه من خلقه كسائر العالم، وكمناسك الحج وأعماله، فمثل هذا شرعه الله لنا لمصلحة لا نفهم سرها تمام الفهم، ولا نزيد فيه ولا ننقص، ولا يؤخذ فيه برأى أحد ولا باجتهاده، إذ لو أبيح لهم ذلك لزادوا فيه، فلا يفرق بين الأصل المشترع والدخيل المبتدع، ويصبح المسلمون كالنصارى ويصدق عليهم قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] .. وثانيهما: ما لا يسمى بالشعائر كأحكام المعاملات من بيع وإجارة وهبة ونحوها، وهذه قد شرعت لمصالح البشر، ولها علل وأسباب يسهل على الإنسان فهمها.

قال آخر (4): والسر في التعبير بنفي الجناح الذي يصدق بالمباح، مع أن السعى بينهما فرض الإشارة إلى بيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون الصفا والمروة من الشعائر، وأن السعى بينهما من مناسك إبراهيم، وذلك لا ينافي الطلب الجازم.

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 46.

(2)  تفسير المراغي (2/ 27)

(3)  تفسير المراغي (2/ 27)

(4)  تفسير المراغي (2/ 27)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/151)

قال آخر (1): وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] أي ومن أكثر من الطاعة بالزيادة على الواجب؛ فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا، وهو العليم بمن يستحق هذا الجزاء .. وفي التعبير عن إحسان الله على عباده بالشكر، تعويدهم الآداب العالية والأخلاق السامية، إذ أن منفعة عملهم عائدة إليهم، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه .. أفبعد هذا ينبغى للإنسان أن يرى نعم الله تترى عليه، ولا يشكره ولا يستعمل نعمه فيما خلقت لأجله؟ .. وهل يليق به ألا يشكر نعمة من أسدى إليه المعروف وغمره بالنعمة؟

قال آخر (2): وشكر المنعم على ما يسديه من النعم ركن عظيم من أركان العمران، فهو يشحذ عزائم العاملين، ويوجد التنافس بين ذوى الهمم المخلصين لوطنهم وأممهم، بل للعالم أجمع .. كما أن ترك شكر الناس وتقدير أعمالهم جناية على الناس وعلى أنفسنا، فإن صانع المعروف إن لم يلق من الناس إلا الكفران، ترك عمل الخير يأسا منه في الفائدة أو حذرا من سوء النية، إذا الحاسدون من الأشرار يسعون في إيذاء الأخيار.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فهي تشريع شامل لكل الأزمنة؛ فالسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله التي ينبغي تعظيمها، ولا تصح المناسك من دونها.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]؟

__________

(1)  تفسير المراغي (2/ 28)

(2)  تفسير المراغي (2/ 28)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/152)

قال أحدهم: روي عن قتادة قال: ذُكر لنا أن رجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البر، فأنزل الله تعالى الآية .. وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك، وجبت له الجنة، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في هذه الآية الكريمة يضع الله تعالى قواعد التصور الإيماني الصحيح، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح، ويحدد صفة الصادقين المتقين .. فليس القصد من تحويل القبلة، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق، أن يولي الناس وجوههم قبل المشرق والمغرب .. نحو بيت المقدس أو نحو المسجد الحرام .. وليست غاية البر ـ وهو الخير جملة ـ هي تلك الشعائر الظاهرة، فهي في ذاتها ـ مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك ـ لا تحقق البر، ولا تنشئ الخير .. إنما البر تصور وشعور وأعمال وسلوك، تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة، ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب .. سواء في التوجه إلى القبلة هذه أم تلك أو في التسليم من الصلاة يمينا وشمالا، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر.

قال آخر (3): ثم ذكر الله تعالى أنواع البر ومجالاته .. والتي تبدأ بالإيمان بالله .. والذي هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى، وشتى الأشياء، وشتى الاعتبارات .. إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد ثم ترتفع بها فوق كل شيء

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 49.

(2)  في ظلال القرآن (1/ 158)

(3)  في ظلال القرآن (1/ 159)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/153)

وكل اعتبار .. وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام، ومن التيه إلى القصد، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه .. فالبشرية دون إيمان بالله الواحد، لا تعرف لها قصدا مستقيما ولا غاية مطردة، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة، كما يتجمع الوجود كله، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات.

قال آخر (1): والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان، وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء .. والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان، الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه .. والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعا وبالرسل أجمعين، وهو الإيمان بوحدة البشرية، ووحدة إلهها، ووحدة دينها، ووحدة منهجها الإلهي .. ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات.

قال آخر (2): وهكذا فإن من أصول البر التي حثت عليها الآية الكريمة إيتاء المال ـ على حبه والاعتزاز به ـ لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب .. وقيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة، انعتاق الروح من حب المال الذي يقبض الأيدي عن الإنفاق، ويقبض النفوس عن الأريحية، ويقبض الأرواح عن الانطلاق، فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال، وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال. لا في الرخيص منه ولا الخبيث، فيتحرر من عبودية المال، هذه العبودية التي تستذل النفوس، وتنكس الرؤوس، ويتحرر

__________

(1)  في ظلال القرآن (1/ 159)

(2)  في ظلال القرآن (1/ 160)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/154)

من الحرص، والحرص يذل اعناق الرجال.

قال آخر (1): وهكذا فإن من أصول البر التي حثت عليها الآية الكريمة إقامة الصلاة .. وهي شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب، إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه، ظاهرا وباطنا، جسما وعقلا وروحا، إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم، وليست مجرد توجه صوفي بالروح، فالصلاة تلخص الفكرة الأساسية عن الحياة، إن الإسلام يعترف بالإنسان جسما وعقلا وروحا في كيان ولا يفترض أن هناك تعارضا بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح، لأن هذا الكبت ليس ضروريا لانطلاق الروح، ومن ثم يجعل الصلاة مظهرا لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعا في ترابط واتساق، يجعلها قياما وركوعا وسجودا تحقيقا لحركة الجسد، ويجعلها قراءة وتدبرا وتفكيرا في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل ويجعلها توجها واستسلاما لله تحقيقا لنشاط الروح .. كلها في آن.

قال آخر (2): وهكذا فإن من أصول البر التي حثت عليها الآية الكريمة الوفاء بالعهد .. لأنه سمة الإسلام التي يحرص عليها، ويكررها القرآن كثيرا ويعدها آية الإيمان، وآية الآدمية وآية الإحسان، وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول، تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله، وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعا قلقا لا يركن إلى وعد، ولا يطمئن إلى عهد، ولا يثق بإنسان، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام.

__________

(1)  في ظلال القرآن (1/ 160)

(2)  في ظلال القرآن (1/ 161)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/155)

قال آخر (1): وهكذا فإن من أصول البر التي حثت عليها الآية الكريمة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس .. لأن فيها تربية للنفوس كي لا تطير شعاعا مع كل نازلة، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة، ولا تنهار جزعا أمام الشدة، إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسرا، إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله، ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية، والعدل في الأرض والصلاح، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة، الصبر في البؤس والفقر، والصبر في المرض والضعف، والصبر في القلة والنقص.

قال آخر (2): وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد، وتكاليف النفس والمال، وتجعلها كلا لا يتجزأ، ووحدة لا تنفصم، وتضع على هذا كله عنوانا واحدا هو (البر) أو هو (جماع الخير) أو هو (الإيمان) كما ورد في بعض الأثر، والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادئ المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففيها دلالة على أن البر والخير وكل المعاني النبيلة لا تقتصر على الشرائع والرسوم والطقوس فقط، بل تشمل جميع مناحي الحياة، وفي كل مكان وزمان.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178]؟

قال أحدهم: روي أنه كان بين حيين من أحياء العرب قتال، وكان لأحد الحيين طول

__________

(1)  في ظلال القرآن (1/ 161)

(2)  في ظلال القرآن (1/ 161)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/156)

على الآخر، فقالوا: نقتل بالعبد منا الحر منكم، وبالمرأة الرجل، فنزلت هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي فرض الله تعالى عليكم المساواة والعدل في القصاص، لا كما كان يفعله الأقوياء مع الضعفاء من المغالاة في قتل الكثير بالقليل، وقتل السيد البريء بالمسود تعنتا وظلما .. ثم فسر هذه المساواة بقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178] أي يؤخذ الحر ويقتل بقتل الحر بلا إبطاء ولا جور، فإذا قتل حر حرا قتل هو به لا غيره من سادة القبيلة، ولا عدد كثير منها، وإذا قتل عبد عبدا قتل به لا سيده ولا أحد الأحرار من قبيلته، وكذلك تقتل المرأة إذا قتلت ولا يقتل أحد فداء منها .. والخلاصة إن القصاص على القاتل أيا كان لا على أحد من قبيلته، ولا فرد من أفراد عشيرته.

قال آخر (3): وبعد أن ذكر وجوب القصاص وهو أساس العدل، ذكر هنا العفو وهو مقتضى التراحم والفضل، فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] أي فمن عفى له عن جنايته من جهة أخيه ولى الدم، سقط القصاص، وقد جعل هذا الحق لأولياء المقتول وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده، ويهانون بفقده، ويحرمون من رفده وعونه، فمن أزهق روحه كان لهم أن يطلبوا إزهاق روحه، فإذا طلبوا ولم يقتص الحاكم، فربما احتالوا للانتقام، وفشا التشاحن والخصام، ولكن إن جاء العفو من جانبهم أمنت الفتنة، وليس للحاكم أن يمتنع من العفو إذا رضوا به، ولا أن يستقل بالعفو إذا طلبوا القصاص حتى لا تحملهم الضغينة على الانتقام بأيديهم إذا قدروا، فيكثر الاعتداء ويعيشون في تباغض وفوضى تستباح فيها الدماء.

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 49.

(2)  تفسير المراغي (2/ 61)

(3)  تفسير المراغي (2/ 62)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/157)

قال آخر (1): ثم قوله تعالى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أي فاتباع العفو بالمعروف واجب على العافي وغيره، وعليه ألا يرهق القاتل من أمره عسرا، بل يطلب منه الدية بالرفق والمعروف الذي لا يستنكره الناس، وكذلك لا يمطل القاتل ولا ينقص ولا يسئ في كيفية الأداء، ويجوز العفو عن الدية أيضا، كما قال تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] .. {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] أي ذلك الحكم الذي شرعناه لكم من العفو عن القاتل والاكتفاء بقدر من المال، تخفيف ورخصة من ربكم ورحمة لكم، وأي رحمة أفضل من العطف والعفو والامتناع عن سفك الدماء .. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94] أي فمن اعتدى وانتقم من القاتل بعد العفو والرضى بالدية، فله عذاب أليم من ربه يوم القيامة، يوم لا تغنى نفس عن نفس شيئا.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففيها دلالة على وجوب المساواة والعدالة .. لا في القصاص فقط، بل في كل الشؤون .. ولا فيما ذُكر فقط، بل فيما ذكر وما لم يذكر.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]؟

قال أحدهم: روي أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم

__________

(1)  تفسير المراغي (2/ 63)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/158)

النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا من الطعام والنساء في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في هذه الآية الكريمة تحديد للأوقات التي تحرم فيها بعض المباحات على الصائمين في الليل، وذلك من أجل أن يفرغ الصائمون أنفسهم من كل المشاعر الشهوانية التي تثقل وجدانهم، فتشغلهم عن روحانية الصوم وأسلوبه العملي في التربية على التقوى، لأن الله لا يريد للتقوى أن تتحرك في حياة الإنسان على أساس منهج القسر والضغط والشدة، الذي لا يترك مجالا للإنسان ليتنفس أو يواجه الموقف من موقع الطبيعة البشرية، بل أرادها أن تنطلق على أساس الإرادة المرتكزة على الانفتاح على الشهوات من بعض الجهات، لتنغلق عنها في الأخرى التي حرمها الله، فيكون الالتزام بخط التحريم قريبا إلى طبيعة الإنسان في حركته في صعيد الواقع .. وفي ضوء هذا، كان الصوم في النهار أسلوبا واقعيا عمليا، لأنه لا يشل الحاجة الغريزية في الإنسان تماما، بل يترك لها المجال لتشبع جوعها في الليل.

قال آخر (3): وقد ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]، وفيها إشارة إلى أن المحرمات هي حدود الله التي يجب أن يقف الناس عندها فلا يقربوها بممارستها والإقبال عليها، ذلك أن (المحرمات حمى الله، فمن حام حول الحمى أو شك أن يرتع فيه) .. وربما كان التعبير بكلمة:

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 49.

(2)  من وحي القرآن (4/ 49)

(3)  من وحي القرآن (4/ 51)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/159)

{فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] بدلا من (ولا تتعدوها) للإيحاء بعدم الاكتفاء بتركها، بل بالابتعاد عنها .. فمن كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق، فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الباطل، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل لئلا يداني الباطل، وأن يكون في الواسطة متباعدا عن الطرف فضلا عن أن يتخطاه (1).

قال الإمام: بورك فيكم، ففيها بيان تفصيلي لأحكام الصوم، وهو عام شامل لا يقتصر على زمان دون زمان.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي، وفي عبدان بن أشوع الحضرمي، وذلك أنهما اختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أرض وكان امرؤ القيس المطلوب وعبدان الطالب، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فحكم عبدان في أرضه، ولم يخاصمه (2).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3):فى الآية الكريمة نص على حرمة المال، ونهى عن العدوان على هذه الحرمة .. {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وهذه صورة من صور العدوان على المال، بما يجرى بين الناس من تسلط، أو نهب، أو سرقة، أو غش، أو احتيال، إلى غير ذلك مما لا بد للحاكم فيه .. وهناك صورة أخرى للعدوان، وهى أن يستعان بالحاكم على

__________

(1)  تفسير الكشاف، ج: 1، ص: 340 ..

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 53.

(3)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 208)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/160)

هذا العدوان بأن يستمال إلى أحد الخصمين بالرشوة، وفى هذا يقول الله تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] أي تلقوا بها إلى الحكام {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] والحكام هنا هم من يكون إليهم أمر الفصل فيما يقع بين الناس من خصومات، وبيدهم رد المظالم، ودفع العدوان.

قال آخر (1): وفي الآية الكريمة إشارة إلى أحد الاصول المهمة والكلية للاقتصاد الإسلامي، بل يمكن القول إن جميع أبواب الفقه الإسلامي في دائرة الاقتصاد تدخل تحت هذه القاعدة، ولذا نلاحظ أن الفقهاء تمسكوا بهذه الآية في مواضع كثيرة في الفقه الإسلامي .. أما المراد من الباطل في الآية، فمن تفسيراته أنه الأموال التي يستولي عليها الإنسان من طريق الغصب والعدوان .. ومنها أنه الأموال التي يحصل عليها الشخص من القمار وأمثاله .. ومنها أنها الأموال التي يكتسبها الشخص بواسطة القسم الكاذب وأشكال الحيل في المعاملات والعقود التجارية .. والظاهر أن مفهوم الآية عام يستوعب جميع ذلك، لأن الباطل يعني الزائل، وهو شامل لما ذكر من المعاني، ولهذا فإن ما ورد عن الإمام الباقر من أن معناه (القسم الكاذب) أو ورد عن الإمام الصادق في تفسيره بـ (القمار) فإنه في الواقع من قبيل المصاديق الواضحة له .. وعلى هذا يكون كل تصرف في أموال الآخرين من غير الطريق المشروع مشمولا لهذا النهي الإلهي .. وكذلك فإن جميع المعاملات التي لا تتضمن هدفا سليما ولا ترتكز على أساس عقلي فهي مشمولة بهذه الآية الكريمة.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففيها تحريم لكل أسباب الرزق المحرمة، وخاصة الرشوة منها، وفي كل الأزمنة والأمكنة.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 5)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/161)

مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]؟

قال أحدهم: روي عن معاذ بن جبل أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل الله تعالى الآية (1) .. وقال قتادة: ذكر لنا أنهم سألوا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم لم خلقت هذه الأهلة؟ فأنزل الله تعالى الآية .. وقال الكلبي: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن عنمة وهما رجلان من الأنصار قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدوفيطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يكون كما كان، لا يكون على حال واحدة!؟ فنزلت هذه الآية (2).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): هذا يسمى في البلاغة (الأسلوب الحكيم) فقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الهلال، لم يبدو صغيرا ثم يزداد حتى يتكامل نوره؟ فصرفهم إلى بيان الحكمة من الأهلة، فهي الأولى بالسؤال عنها، إذ من المعلوم أن كل ما يفعله الله عز وجل لا يكون إلا عن حكمة بالغة ومصلحة لعبادة، فدعوا السؤال عن أشكال القمر نقصا وتماما، وانظروا في أمر ليس من البر، وأنتم تحسبونه برا.

قال آخر (4): ولذلك، فإن الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول له: يسألونك يا محمد عن سبب اختلاف حجم الأهلة نقصا وإتماما، وهذا لا فائدة بالسؤال عنه، لأنك لم تبعث معلما لعلوم الفلك وأحوال النجوم، وإنما الأولى أن يوجه السؤال عن الحكمة أو الغاية من الأهلة، فأجبهم عن ذلك، بأن الأهلة معالم للتوقيت والحساب في شؤون الزراعة والتجارة وآجال العقود والديون، ومعالم أيضا لتوقيت العبادات من صوم وإفطار وصلاة وحج

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 53.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 53.

(3)  التفسير المنير (2/ 168)

(4)  التفسير المنير (2/ 171)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/162)

وعدة وغير ذلك.

قال آخر (1): وهذه الآية الكريمة تشير إلى أن أحكام الإسلام قائمة عادة على المقاييس الطبيعية، لأن هذه المقاييس متوفرة لدى جميع الناس، ولا يؤثر عليها مرور الزمان شيئا .. أما المقاييس غير الطبيعية فليست في متناول يد الجميع ولم يستطع جميع البشر حتى في زماننا هذا أن يستفيدوا من مقاييس عالمية موحدة .. لذلك نرى أن المقياس في الأحكام الإسلامية يقوم في الأطوال على أساس الشبر والخطوة والذراع والقامة، وفي الزمان على غروب الشمس وطلوع الفجر وزوال الشمس ورؤية الهلال .. وهنا يتضح امتياز الأشهر القمرية عن الشمسية، فالبرغم من أن كلا منهما يترتب على حركات الكواكب السماوية، ولكن الأشهر القمرية قابلة للمشاهدة من الجميع، في حين أن الأشهر الشمسية لايمكن تشخيصها إلا بواسطة المنجمين، وبالوسائل الخاصة لديهم، فيعرفون مثلا أن الشمس في هذا الشهر سوف تقع في مقابل أي صورة فلكية وأي برج سماوي.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففيها بيان لحكمة من حكم الأهلة، وبيان لأدب الجواب مع من لا يطيق التفاصيل التي لا يقدر عقله على فهمها.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189]؟

قال أحدهم: روي عن البراء بن عازب قال: كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجلٌ فدخل من قبل باب، فكأنه عير بذلك، فنزلت هذه الآية (2).

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 12)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 53.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/163)

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (1): في الآية الكريمة ربط للقلوب بحقيقة إيمانية أصيلة ـ هي التقوى ـ وربط هذه الحقيقة برجاء الفلاح المطلق في الدنيا والآخرة، وإبطال للعادة الجاهلية الفارغة من الرصيد الإيماني، وتوجيه للمؤمنين إلى إدراك نعم الله عليهم في الأهلة التي جعلها الله مواقيت للناس والحج .. كل ذلك في آية واحدة قصيرة.

قال آخر (2): وفى قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] تعقيب يستخلص الحكمة والعبرة من ثنايا الحدث والواقعة، وذلك من تمام الهدى الذي جاء القرآن الكريم به، وقامت الرسالة الإسلامية عليه .. فليس من التزكية للنفس، والهداية للعقل، والاطمئنان للقلب، أن يلقى الإنسان الأمور من ظهورها، وأن ينظر إليها من ورائها، فذلك لا يطلعه منها إلا على ظلال وأشباح، أما إذا أراد أن يتعرف إليها، ويعرف وجه الحق منها، فليلقها مواجهة، ولينظر إليها نظرا قاصدا، فذلك هو الذي يدنيه من الحق، إن كان طالبا له، عن نية خالصة وقلب سليم .. وليس كذلك شأن المنافقين الذين لا يأتون الأمور إلا مواربة، ولا ينظرون إليها إلا بأبصار زائغة منحرفة.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففيها دلالة على فضل التقوى، وأنها المعيار الذي يُعرف به البر، لا الظواهر والرسوم، وخاصة تلك التي تعارف عليها الناس، ولم يرد عن الله تعالى تشريعها.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]؟

__________

(1)  في ظلال القرآن (1/ 184)

(2)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 210)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/164)

قال أحدهم: روي أنها نزلت هذه الآيات في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما صد عن البيت هووأصحابه، نحر الهدي بالحديبية، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه، ثم يأتي القابل على أن يخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء، وصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريشٌ بذلك، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام، في الحرام فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في الآية الكريمة إشارة إلى ثلاث دعائم من العدل، يقوم عليها القتال الذي شرعه الله .. فهو قتال فى سبيل الله، بين الإيمان والشرك، ودفع لعدوان المشركين على المؤمنين، ووقوف بالقتال عن مجاوزة إلى اعتداء المؤمنين على المشركين .. وتلك هى الدعائم التي يقوم عليها قتال المسلمين أبدا مع مقاتليهم على أية ملة، وفى أي زمان ومكان.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة دليل على أن شريعة الله شريعة سلام ورحمة، ولذلك لا تبيح العنف إلا في محاله التي لا يجدي معها غيره.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184]؟

قال أحدهم: روي عن كعب بن عجرة قال: في نزلت هذه الآية .. وقع القمل في رأسي فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (احلق وافده صيام ثلاثة أيام، أوالنسك، أوأطعم ستة

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 54.

(2)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 212)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/165)

مساكين لكل مسكين صاعٌ)(1)

قال آخر: ومثله ما روي عن كعب بن عجرة، قال: مر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يوقد تحت قدر له بالحديبية، فقال: (أيؤذيك هوام رأسك؟) قال: نعم، قال: (احلق) فأنزلت هذه الآية، قال: (فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة فرقٌ بين ستة مساكين، والنسك شاةٌ)(2)

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): في الآية الكريمة تشريع للتخفيف من تعب الصوم، فهي تذكر أن الفريضة لا تحتل إلا مساحة صغيرة من أيام السنة .. ثم تقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، فالمريض والمسافر معفوان من الصوم، وعليهما أن يقضيا صومهما في أيام أخرى .. ثم تصدر الآية عفوا عن الطاعنين في السن، وعن المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم، وترفع عنهم فريضة الصوم ليدفعوا بدلها كفارة، فتقول: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] .. ثم تقول: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184] أي من تطوع للإطعام أكثر من ذلك فهو خير له ..

قال آخر (4): وقد أخطأ من توهم أن قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184] يدل على أن الصوم كان في بداية التشريع واجبا تخييريا، وكان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية، ثم نسخ هذا الحكم بعد أن تعود المسلمون على الصوم وأصبح واجبا عينيا، فظاهر الآية الكريمة يدل على تأكيد آخر على فلسفة الصوم، وعلى أن هذه العبادة ـ كسائر العبادات ـ لا تزيد الله عظمة أو جلالا، بل تعود كل فوائدها على الناس، والشاهد على ذلك ما جاء في القرآن الكريم من تعبير مشابه لذلك، كقوله تعالى بعد

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 58.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 60.

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 518)

(4)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (1/ 519)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/166)

ذكر وجوب صلاة الجمعة: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]، وقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 16]، ولذلك، فإن قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] موجه إلى كل الصائمين لا إلى مجموعة خاصة.

قال الإمام: بورك فيكما، وبذلك، ففي الآية الكريمة بيان لرحمة الله بعباده، وأنه لا يكلفهم ما لا يطيقون، وأن الشريعة مبنية على اليسر لا على العسر، وعلى المقاصدية لا الحرفية.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون يقولون: نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله عز وجل الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في الآية الكريمة دعوة إلى أن يحمل الحاج معه من المال أو الطعام ما يكفيه، حتى لا يكون عالة على غيره فى هذا البلد غير ذى الزرع، ثم لكى لا يكون التزود بالمال والطعام هو كل هم الحاج، ثم نبه الله سبحانه إلى أن هذا الزاد وإن كان مطلوبا لسد الحاجة، فإن هناك زادا خيرا من هذا الزاد يجب على الحاج أن يحرص عليه، وأن يسعى ما استطاع إلى تحصيله، وهو التقوى، فهى الزاد الطيب الباقي، الذي يعين على الوصول إلى الله، والتعرض لهو اطل رحمته، وغيوث رضوانه.

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 62.

(2)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 222)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/167)

قال آخر (1): وقوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197] تنويه بشأن العقل، وتكريم للعقلاء الذين يحترمون عقولهم، ويستجيبون لما تدعوهم إليه، من إيثار ما يبقى على ما يفنى، وشراء الآجل بالعاجل .. فالعقلاء الراشدون هم أولى الناس بأن يرجى عندهم الخير، ويؤمل فيهم الاستقامة والهدى، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]

قال الإمام: بورك فيكما، ففي الآية الكريمة بيان لأدب التعامل مع سنن الله وحكمته، وأن التوكل لا ينافي استعمال الأسباب، وأن أفضل الأسباب للتقرب إلى الله التقوى.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198]؟

قال أحدهم: روي عن أبي أمامة التيمي قال: سألت ابن عمر فقلت: إنا قومٌ نكرى في هذا الوجه، وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا قال: ألستم تلبون؟ ألستم تطوفون؟ ألستم تسعون بين الصفا والمروة؟ ألستم ألستم؟ قال: قلت: بلى قال: إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت الآية .. فدعاه فتلا عليه حين نزلت، فقال: (أنتم الحجاج)(2)

قال آخر: ومثله ما روي عن ابن عباس قال: كان ذوالمجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت في مواسم الحج .. وروي أنه قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الحج يقولون أيام ذكر الله فأنزل الله تعالى الآية، فاتجروا (3).

__________

(1)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 222)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 62.

(3)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 62.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/168)

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (1): أي لا حرج ولا إثم في الكسب أيام الحج إذا لم يكن هو المقصد بالذات، إذ هو مع حسن النية وملاحظة أنه فضل من الله عبادة، لكن التفرغ لأداء المناسك في تلك الأوقات أفضل، والتنزه عن حظوظ الدنيا أكمل.

قال آخر (2): وفي الآية الكريمة دعوة للحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالدعاء والتحميد والثناء والتلبية، وإنما طلب منه ذلك خشية أن يتركه بعد المبيت، فطلب منه المضى في الذكر مادام في هذا الموضع .. {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] أي واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه، بأن يكون بتضرع وخيفة وطمع في ثوابه، صادر عن رغبة ورهبة .. ولا تعدلوا عنه إلى ما كنتم تفعلونه في الجاهلية من الشرك واتخاذ الوسطاء بينكم وبينه، فلا تفرغ قلوبكم له، فقد كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك .. {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] أي وإنكم كنتم من قبل هذا الهدى من الضالين عن الحق في العقائد والأعمال بعباد الأوثان والأصنام، وباتخاذ الوسطاء الذين يشفعون عنده ويقربون إليه زلفى.

قال آخر (3): ثم قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وفيها أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتى عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، ليبطل ما كانت عليه قريش، فالمعنى: عليكم أن تفيضوا مع الناس من مكان واحد تحقيقا للمساواة وتركا للتفاخر وعدم الامتياز لأحد عن أحد، وذلك من أهم مقاصد الدين .. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [المزمل: 20] مما أحدثتم من تغيير المناسك بعد إبراهيم، وإدخال الشرك فى أعمال الحج .. {إِنَّ

__________

(1)  تفسير المراغي (2/ 102)

(2)  تفسير المراغي (2/ 102)

(3)  تفسير المراغي (2/ 103)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/169)

اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20] أي إنه تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يستغفره مع الإنابة والتوبة.

قال الإمام: بورك فيكم، وفي الآية الكريمة إشارة كذلك إلى عدم التعارض بين ممارسة العبادة، والاهتمام بشؤون الحياة، وفي كل المجالات.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]؟

قال أحدهم: روي أن العرب كانت تفيض من عرفات، وقريشٌ ومن دان بدينها تفيض من جمع من المشعر الحرام، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في هذه الآية الكريمة تلغي من نفوس المؤمنين كل النوازع الطبقية التي تدفعهم إلى الاستعلاء على الآخرين، لا سيما في مثل هذا الموقف الذي أراده الله من أجل إلغاء كل الفوارق التي تميزهم عن بعضهم البعض، ليشعروا بالصفة الواحدة التي تجمعهم أمام الله، وهي أنهم عباد الله الواحد الأحد؛ فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، فلا معنى ـ بعد ذلك ـ لأن يميز أحد نفسه عن أخيه في موقع أو في ظرف انطلاقا من الشعور بالتفوق والكبرياء.

قال الإمام: بورك فيك، وبذلك، ففي الآية الكريمة دعوة للمساواة، وفي كل شؤون الحياة.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 63.

(2)  من وحي القرآن (4/ 109)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/170)

مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200]؟

قال أحدهم: روي أن أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم ذكروا فعل آبائهم في الجاهلية وأيامهم وأنسابهم فتفاخروا فأنزل الله تعالى الآية .. وقال الحسن: كانت الأعراب إذا حدثوا وتكلموا يقولون: وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي إذا ختم الحاج حجه باللجأ إلى الله، والابتهال إليه أن يتجاوز عن سيئاته، ويتقبل حجه، لم يكن له ـ وقد ذاق لذة الطاعة، ووجد ريح الرضوان ـ أن يتحول عن هذا الطريق الذي سلكه، وأن ينشئ له طرقا أخرى، تقطعه عن هذا الطريق، وتباعد بينه وبين الله، ولهذا جاء قول الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] ملفتا إلى تلك المشاعر التي تترصد الإنسان على نهاية الطريق، بعد التحلل من الإحرام، واسترداد الجسد ملابس الحل، وعندها يجد الإنسان ذاته التي كان عليها قبل أن يحج، فكان قوله تعالى هنا تنبيها إلى هذا الخطر الذي يقدم عليه الحاج، وأنه لن تنقطع صلته بالله بعد أداء هذه الفريضة، بل إن هذه الفريضة ستزيد تلك الصلة قوة وعمقا: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، أي ليكن ذكركم الله، والتفاتكم إليه، ورجاؤكم فيه كذكر الابن أبويه، والتفاته إليهما ورجائه فيهما، بل وأكثر من هذا ذكرا والتفاتا ورجاء .. فالله سبحانه هو الذي يرعى الولد والوالدين جميعا ..

قال آخر (3): ثم ذكرت أن الناس فى لجئهم إلى الله، وضرعهم إليه، فريقان: فريق يطلب الدنيا، ويقيم علاقته مع الله على طلب المزيد من أشياء الحياة الدنيا، دون أن يقيم

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 64.

(2)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 224)

(3)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 225)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/171)

وزنا للحياة الآخرة، وما ينبغى أن يعده لها من صالح الأعمال، فهذا فريق شغلته دنياه عن آخرته، إذ غلبت عليه شهوة المال وزينة الحياة، فلم تتسع نفسه لشئ غيرهما .. وفريق آخر. هدى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم .. فأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب، يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]

قال آخر (1): وفى قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202] إشارة إلى هؤلاء الذين هدوا إلى الحق، وأن ما كسبت أيديهم ليس لهم منه إلا هذا الذي كان لحساب الآخرة، فهو الباقي الذي يجدونه عند الله، وما سواه مما كان للدنيا فهو إلى زوال وإلى عدم، فإن قوله تعالى: {مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202] يدل على أن ما كسبوه للدنيا لا معتبر له، وأن لهم بعض ما كسبوا، وهو ما كان للآخرة، لا كل ما كسبوا مما هو للدنيا وللآخرة، قال الله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة دعوة إلى الاهتمام بالمقصد الأكبر للحج وكل عبادة، وهو ذكر الله .. وفيها دعوة إلى رفع الهمة حتى لا تكون مطالب الإنسان محصورة في الدنيا.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215]

قال أحدهم: روي أنها نزلت في عمروبن الجموح الأنصاري وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله بماذا نتصدق؟ وعلى من ننفق؟ فنزلت الآية (2).

قال آخر: ومثله ما روي عنه قال: نزلت الآية في رجل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن لي

__________

(1)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 225)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 66.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/172)

دينارا فقال: (أنفقه على نفسك) فقال: إن لي دينارين، فقال: (أنفقهما على أهلك) فقال: إن لي ثلاثة فقال: (أنفقها على خادمك) فقال: إن لي أربعة، فقال: (أنققها على والديك) فقال: إن لي خمسة، فقال: (أنفقها على قرابتك) فقال: إن لي ستة فقال: (أنفقها في سبيل الله، وهوأحسنها)(1)

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): يتعرض القرآن الكريم في آيات عديدة إلى الإنفاق والبذل في سبيل الله، وحث المسلمين بطرق عديدة على الإنفاق والأخذ بيد الضعفاء، وهذه الآية تتناول مسألة الإنفاق من جانب آخر، فثمة سائل عن نوع المال الذي ينفقه، ولذلك جاء تعبير الآية بهذا الشكل {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] .. وفي الجواب بينت الآية نوع الإنفاق، ثم تطرقت أيضا إلى الأشخاص المستحقين للنفقة.

قال آخر (3): وبشأن المسألة الاولى: ذكرت الآية الكريمة كلمة {خَيْرُ} [البقرة: 215] لتبين بشكل جامع شامل ما ينبغي أن ينفقه الإنسان، وهو كل عمل ورأسمال وموضوع يشتمل على الخير والفائدة للناس، وبذلك يشمل كل رأسمال مادي ومعنوي مفيد .. وبالنسبة للمسألة الثانية ـ أي موارد الإنفاق ـ تذكر الآية أولا الأقربين وتخص الوالدين بالذكر، ثم اليتامى ثم المساكين، ثم أبناء السبيل، ومن الواضح أن الإنفاق للأقربين ـ إضافة إلى ما يتركه من آثار تترتب على كل إنفاق ـ يوطد عرى القرابة بين الأفراد.

قال آخر: ثم ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215]، وفي ذلك إشارة إلى أنه يحسن بالمنفقين أن لا يصروا على اطلاع الناس

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 67.

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 98)

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 99)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/173)

على أعمالهم، ومن الأفضل أن يسروا انفاقهم تأكيدا لإخلاصهم في العمل، لأن الذي يجازي على الإحسان عليم بكل شيء، ولا يضيع عنده سبحانه عمل عامل من البشر.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فإن هذا السؤال أعظم من أن ينحصر في الذين سألوه، والإجابة عليه، وهذا شامل لكل الأسئلة سواء تلك التي وردت في القرآن الكريم أو في الحديث الشريف، فهي إجابة للبشر جميعا.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]؟

قال أحدهم: روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية من المسلمين لمواجهة المعتدين على المسلمين، وأمر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة، ووجدوا بها عمروبن الحضرمي في عير تجارة لقريش في يوم بقي في الشهر الحرام، فاختصم المسلمون فقال قائلٌ منهم: لا نعلم هذا اليوم إلا من الشهر الحرام، ولا نرى أن تستحلوا لطمع أشفيتم عليه، فغلب على الأمر الذين يريدون عرض الدنيا، فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وغنموا عيره فبلغ ذلك كفار قريش، وكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين وبين المشركين، فركب وفدٌ من كفار قريش حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: أتحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث عبد الله بن جحش، ومعه نفر من

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 67.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/174)

المهاجرين، فقتل عبد الله بن واقد الليثي عمروبن الحضرمي في آخر يوم من رجب، وأسروا رجلين واستاقوا العير، فوقف على ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (لم آمركم بالقتال في الشهر الحرام)، فقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]؟، أي قد كانوا يفتنونكم وأنتم في حرم الله بعد إيمانكم، وهذا أكبر عند الله من أن تقتلوهم في الشهر الحرام مع كفرهم بالله .. ولما نزل هذا قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العير، ونادى الأسيرين ولما فرج الله تعالى عن أهل تلك السرية ما كانوا فيه من غم طمعوا فيما عند الله من ثوابه، فقالوا: يا نبي الله أنطمع أن تكون غزوة ولا نعطى فيها أجر المجاهدين في سبيل الله؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]؟ (1)

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): هذه الآية الكريمة تتصدى للجواب عن الأسئلة المرتبطة بالجهاد والاستثنائات في هذا الحكم الإلهي فتقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]، ثم تعلن حرمة القتال وأنه من الكبائر {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] أي إثم كبير .. وبهذا يمضي القرآن الكريم موافقا للسنة الحسنة التي كانت موجودة بين العرب الجاهليين بالنسبة إلى تحريم القتال في الأشهر الحرم (رجب، ذي القعدة، ذي الحجة، محرم) .. ثم تضيف أن هذا القانون لا يخلو من استثنائات، فلا ينبغي السماح لبعض المجموعات الفاسدة لاستغلال هذا القانون في إشاعة الظلم والفساد، فعلى الرغم من أن الجهاد حرام في هذه الأشهر الحرم، لكن الصد عن سبيل الله والكفر به وهتك المسجد الحرام وإخراج

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 68.

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 106)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/175)

الساكينن فيه وأمثال ذلك أعظم إثما وجرما عند الله {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217]

قال آخر (1): ثم تضيف الآية الكريمة بأن إيجاد الفتنة والسعي في إضلال الناس وحرفهم عن سبيل الله ودينه أعظم من القتل {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] لأن القتل ما هو إلا جناية على جسم الإنسان، والفتنة جناية على روح الإنسان وإيمانه، ثم إن الآية الكريمة تحذر المسلمين من الوقوع تحت تأثير الإعلان الجاهلي للمشركين، لأنهم لا يقنعون منكم إلا بترككم لدينكم إن استطاعوا {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، فينبغي على هذا الأساس أن تقفوا أمامهم بجزم وقوة ولا تعتنوا بوسوساتهم وأراجيفهم حول الأشهر الحرم، ثم تنذر الآية المسلمين وتحذرهم من الارتداد عن دين الله {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]، فما أشد عقاب المرتد عن الإسلام، لأن ذلك يبطل كل ما قدمه من عمل صالح ويستحق بذلك العذاب الإلهي الأبدي.

قال الإمام: بورك فيكم، بالإضافة إلى ذلك فإن في الآية الكريمة بيان للمعايير الخاطئة التي تمارسها العقول الجاهلية، حيث تقوم بكل الجرائم ثم تدعي بعدها الورع عن بعض الحرمات، مع أن الجرائم التي ترتكبها أكبر بكثير .. وبذلك فهي تدعو الجميع إلى ضبط كل المعايير لتستقيم مع العدالة والقيم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 107)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/176)

لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220]؟

قال أحدهم: روي أنها لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] عزلوا أموالهم عن أموالهم، فنزلت الآية، فخلطوا أموالهم بأموالهم (1).

قال آخر: ومثله ما روي أنه لما أنزل الله عز وجل: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، انطلق من كان عنده مال يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، وجعل يفضل الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أويفسد، واشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله عز وجل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} [البقرة: 220] فتخلطوا طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم (2).

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): الآية الكريمة تدعو إلى دراسة كل أمور اليتامى في نطاق الإصلاح لدنياهم وآخرتهم، لأنهم أمانة الله لدى المجتمع، فعلى أفراده أن يراعوا جانب الصلاح معهم، كما يراعون ذلك في جانب الأمانة العادية فيما يتعلق بحفظها ورعايتها، وقد يكون الأمر أبعد عمقا وتأثيرا في جانب اليتامى، لأن إصلاح أمر الإنسان الذي لا يملك تدبير شؤونه ورعايتها يدخل في تعقيدات كثيرة تحتاج إلى المزيد من الدقة والتأمل والإيمان، لئلا يفسد الإنسان الأمر من حيث يريد إصلاحه، أو يفسد الأمر الصالح من حيث لا يريد

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 71.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 71.

(3)  من وحي القرآن (4/ 232)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/177)

إفساده.

قال آخر (1): ثم أكد الله تعالى القضية من جهة أخرى، فأثار موضوع المخالطة لهم {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220]، وأراد من المسلمين أن يخالطوهم من موقع الشعور بأنهم إخوة في الدين، كما يخالط الأخ أخاه في النسب من حيث احترامه له ورعايته لأموره، وحفظه لماله على هدى قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]، وأن لا ينظروا إليهم نظرة فوقية إشفاقية من خلال ضعفهم الطبيعي وحاجتهم الملحة إليهم، فإن ذلك يثقل على نفوسهم، ويهدم معنوياتهم، ويعقد حياتهم، ويعطل نموهم الطبيعي في الحياة.

قال آخر (2): وهذا يعني الإذن لهم فيما كانوا يتحرجون فيه من مخالطتهم في المأكل والملبس والمشرب ونحو ذلك، ورخصة لهم في ذلك إذا تحروا الصلاح بالتوفير على الأيتام .. وتختم الآية الكريمة الجواب بتعميق الإحساس بقضية الممارسة الواعية لإصلاح أمر اليتامى، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، وذلك بالإيحاء بأن الله يراقب عمل الإنسان في داخل النفس وخارجها، ويعلم المفسد من المصلح فيما يقومان به من الإفساد والإصلاح، ويحاسب كلا منهما على ما عمله من خير أو شر.

قال آخر (3): ثم أكد الله تعالى بأنه يريد للناس من خلال تشريعاته أن يحقق لهم الانسجام والراحة والطمأنينة، فتلك هي مشيئته في ما يريد للناس من حياة، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] والعنت، هو المشقة .. وفي ضوء ذلك، لا بد للإنسان من أن يفهم التشريع في كل ما يحلله وما يحرمه من أمور الحياة، حتى في الأمور التي يشعرون معها

__________

(1)  من وحي القرآن (4/ 232)

(2)  من وحي القرآن (4/ 233)

(3)  من وحي القرآن (4/ 233)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/178)

بالتعب والمعاناة، فإن نتائج ذلك لا تبتعد عن مصالحهم الحقيقية .. وكانت خاتمة الآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] باعتبار أن عزته توحي بقوة مشيئته، كما أن حكمته توحي بارتباط التشريع بمصلحة الإنسان.

قال الإمام: بورك فيكم، وفي الآية الكريمة إشارة إلى مراعاة المقاصد والإصلاح في تطبيق أحكام الشريعة؛ فالذي يعزل طعامه عن طعام اليتيم قد يكون ورعا في الظاهر عن ماله، لكنه في الحقيقة أساء معاملته النفسية، والعمل الصالح هو الذي لا ترتبط به أي إساءة، ومن أي جهة.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في أبي مرثد الغنوي، حيث استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أن يتزوج امرأة من قريش، كانت ذات حظ من جمال وهي مشركة وأبومرثد مسلم، فقال: يا نبي الله إنها لتعجبني، فأنزل الله عز وجل الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي أنها نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء وإنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره خبرها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما هي يا عبد الله؟) فقال: يا رسول الله هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، فقال: (يا عبد الله هذه مؤمنة) قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق نبيا لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: نكح أمة، وكانوا

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 71.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/179)

يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث رجلا يقال له مرثد بن أبي مرثد ليخرج ناسا من المسلمين بها أسراء؛ فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها: عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها، فأتته فقالت: ويحك يا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها: إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا، ولكن إن شئت تزوجتك، إذا رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استأذنته في ذلك ثم تزوجتك، فقالت له: أبي تتبرم؟ ثم استغاثت عليه فضربوه ضربا شديدا ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي في سببها، فقال: يا رسول الله، أتحل أن أتزوجها؟ فأنزل الله ينهاه عن ذلك (2).

قال الإمام: بورك فيكم .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): فى هذه الآية الكريمة بين الله تعالى حكم التزاوج بين المؤمنين والمشركين، حيث قضى الله تعالى بتحريم التزاوج بينهما، فلا يحل للمؤمن أن يتزوج مشركة، ولا لمشرك أن يتزوج مؤمنة، ذلك أن العلاقة الزوجية من شأنها أن تربط بين الزوجين بروابط روحية ونفسية وعقلية، وقيام تلك الروابط بين مؤمن ومشركة، أو مشرك ومؤمنة، يؤدي غالبا إلى إفساد الطبيعتين معا، فلا يكون المؤمن مؤمنا، ولا المشركة مشركة، كما لا يكون المشرك مشركا ولا المؤمنة مؤمنة، إذ أن كلا من الزوجين ينضح على الآخر من روحه ونفسه وتفكيره، فيقيمه على منزلة بين المنزلتين: بين الإيمان والشرك .. وفى هذا ما يدخل الضيم على المؤمن فى دينه، وربما خرج منه جملة، فباء بالخسران المبين.

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 71.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 73.

(3)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 250)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/180)

قال آخر (1):وقد يخطر بالبال هنا أن فى التزاوج بين المؤمنين والمشركين، ربما يكون من نتائجه تحول المشرك أو المشركة إلى الإيمان، وفى هذا تعويض للخسارة التي قد تنجم من تحول المؤمن أو المؤمنة إلى الشرك، وبهذا لا تكون هناك خسارة بالنسبة للمجتمع المسلم، الذي إن خسر هنا ربح ما يعوض الخسارة هناك .. وهذا التقدير غير سليم، وغير عادل، أما أنه غير سليم، فإن الشر غالبا يغلب الخير، وتتسرب عدواه إلى الخير بالمخالطة أكثر من تسرب الخير إليه، إذ كان الشر يعمل وأهواء النفوس معه، وشهواتها مائلة إليه، جاذبة له .. وأما أنه غير عادل، فإن فيه مخاطرة بنفس مؤمنة فى مقابل نفس مشركة، وشتان ما بين نفس ونفس.

قال آخر (2): ثم قال تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] أي ولأمة مؤمنة على ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر، خير من مشركة حرة على مالها من شرف الحرية ونباهة القدر ولو أعجبتكم بحمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها، إذ بالإيمان يكون كمال دينها، وبالمال والجاه يكون كمال دنياها، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يستطع الجمع بينهما، إلى أنه ربما حصلت المحبة والتآلف عند اتحادهما دينا فتكمل المنافع الدنيوية أيضا من حسن العشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والقيام على الأولاد بتنشئتهم تنشئة قويمة، وتهذيب أخلاقهم حتى يكونوا قدوة لسواهم.

قال آخر (3): ثم قال تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] أي ولمملوك مؤمن مع ما به من الذلة والمهانة خير من مشرك عزيز الجانب مهيب في أعين الناس.

__________

(1)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 251)

(2)  تفسير المراغي (2/ 151)

(3)  تفسير المراغي (2/ 152)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/181)

قال آخر (1): وقد بين الله تعالى علة النهى عن مناكحة المشركين والمشركات بقوله: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [البقرة: 221] أي إن هؤلاء المشركين والمشركات من دأبهم أن يدعوا إلى كل ما يكون سببا في دخول النار من الأقوال والأفعال، وصلة الزوجية من أقوى العوامل في تأثير هذه الدعوة في النفوس، إذ من شأنها أن يتسامح معها في أمور كثيرة، فربما سري شئ من عقائد الشرك للمؤمن أو المؤمنة بضروب من الشبه والتضليل .. {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221] أي إن دعوة الله التي عليها المؤمنون هى التي توصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه وتوفيقه، فهي بالضد من دعوة المشركين التي توصل إلى النار، لسوء اختيارهم وقبح تصرفهم في كسبهم، وما عليه المؤمنون هو الذي هدت إليه الفطرة، وبلغه عنه رسله بإذنه، وأرشدوا إليه خلقه.

قال آخر (2): ثم امتن الله تعالى على عباده ببيان هذه الأحكام فقال: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221] أي ويوضح الأدلة على أحكام شريعته للناس، فلا يذكر لهم حكما إلا إذا بين لهم حكمته وأرشدهم إلى فائدته، والسر فى تشريعه لعلهم بهذا يعتبرون، فإن الأحكام إذا ذكرت بعللها وأدلتها طبعت فى النفوس وتقبلتها على الوجه المرضى، ولم تكن صورا ورسوما تؤدى دون أن تحصل الغاية منها، وهى الإخبات إلى الله، وتهذيب الأرواح وتنقيتها من أدران الذنوب وأكدار المعاصي.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك فإن في الآية الكريمة دعوة إلى التعالي عن التحاكم إلى المعايير الجاهلية التي تنظر إلى البشر بحسب أموالهم وأشكالهم، لا إلى إيمانهم وأخلاقهم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ

__________

(1)  تفسير المراغي (2/ 153)

(2)  تفسير المراغي (2/ 154)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/182)

أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]؟

قال أحدهم: روي أن اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأةٌ أخرجوها من البيت، فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فأنزل الله عز وجل الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): كانت هناك مشكلة تراود المسلمين في علاقتهم بالنساء في حالة الحيض ـ وهو الدم الذي تراه المرأة بشكل دوري في موعد معين من الشهر ـ فقد كانت هناك بعض التصورات والعادات التي تعتقد أن المرأة تتحول ـ في هذا الوقت ـ إلى إنسان نجس، فكانوا يمتنعون عن مخالطتها ومؤاكلتها ومشاربتها مما يجعل منها عنصرا معزولا عن المجتمع، وقد كان هذا مصدر حرج شديد على الناس .. وجاء الإسلام بتشريعاته المتنوعة في شؤون الحياة، وعاش المسلمون هذه المشكلة في هاجس يلح على الحل الأمثل الذي يخلصهم من هذا الإزعاج، فكان هذا السؤال تعبيرا عن ذلك.

قال آخر (3): وقد جاء الجواب حاسما يضع القضية في نطاقها الطبيعي {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] أي إن هذه الحالة لا تزيد عن أية حالة طبيعية من حالات الجسم التي يقتضيها نظامه المحدد .. ولذلك فإنها لا تحدث أي تأثير سلبي في الوضع العام للمرأة في المجتمع، فلا توجب نجاسة جسدها، ولا تؤثر في الجو الذاتي لشخصيتها، بل كل ما هناك أنها تجعل من العلاقة الجنسية شيئا غير مرغوب فيه، من خلال قذارة المحل من جهة، أو من خلال استعداد الجسد لدخول الميكروبات من جهة أخرى .. وربما كانت هناك جوانب

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 73.

(2)  من وحي القرآن (4/ 247)

(3)  من وحي القرآن (4/ 248)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/183)

أخرى تتصل بالحالة النفسية غير المريحة في هذا الوقت، وقد أجمل القرآن الكريم هذه المعاني بكلمة (أذى) التي تشير إلى الجوانب الصحية والمعنوية.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فإن فيها دعوة إلى مراعاة المقاصد في الأحكام الشرعية، وأن الهدف منها الرحمة المجردة، وبجميع الأطراف، والزيادة عليها تكلف ممقوت، بل قد يجر إلى الحرام والجريمة.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في عبد الله بن رواحة تنهاه عن قطيعة ختنه بشير بن النعمان، وذلك أن ابن رواحة حلف أن لا يدخل عليه أبدا، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين امرأته ويقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل، ولا يحل لي إلا أن أبر في يميني، فأنزل الله تعالى هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي إن ذات الله سبحانه وتعالى، فى جلالها وبهائها وعظمتها، ينبغي أن تكون فى قلب المؤمن بمكانتها المكينة من الإجلال والتعظيم، وأن تصان من كل ما يمس هذه المكانة من اهتزاز أو إزعاج .. وأسماؤه تعالى، لها ما لذاته سبحانه، من هذا الإجلال والتوقير والإعظام، فلا يتلفظ المؤمن باسم من أسمائه جل وعلا إلا فى مقام العبادة والتسبيح، وإلا فى حال الضراعة والابتهال، فليس بالذي يقدر الله حق قدره من يتخذ اسم الله يمينا يحلف به، ويقدمه بين يدى كل أمر يعرض له، ويتخذ من جلال الاسم الكريم وعظمته وسيلة يتوسل بها إلى نفاذ ما يحلف عليه إلى مشاعر من يحلف له، فيحترم حرمة

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 78.

(2)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 255)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/184)

اليمين، ويصدقه.

قال آخر (1): فقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] أي لا تعرضوا اسم الله تعالى للحلف به فى كل ما يعترضكم من أمور دنياكم، تريدون لها التوثيق والتوكيد .. وقوله سبحانه: {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224] أي لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ولو كان الحلف من أجل أمر تلتزمون فيه قول الحق، وترعون فيه تقوى الله، وتصلحون به بين الناس .. لأن الإكثار من الحلف بالله مقام الصدق والتقوى والإصلاح بين الناس، يفتح للإنسان الطريق إلى الحلف بالله فى مجال الكذب والفجور والإفساد بين الناس .. فالنهي عن الحلف بالله فى مقام الصدق والتقوى والإصلاح بين الناس، ليس نهيا مطلقا، وإنما هو نهي عن الإكثار واللامبالاة، حيث لا يتحرج المرء من الحلف فى هذا المقام، وهو يلتزم حدود الصدق والتقوى .. فإن هذا الإكثار فى الصدق يفتح الطريق إلى الحلف بالكذب والفجور.

قال الإمام: بورك فيكم، بالإضافة إلى ذلك، ففيها دعوة إلى مراعاة مراتب الأعمال، وعدم الاحتجاج بتطبيق الشعائر والشرائع على ترك البر والصلح والإصلاح، لأنها أفضل وأجل وأكمل.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]؟

قال أحدهم: روي أن إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقت الله أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء (2).

قال آخر: لقد كان الإيلاء من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة ولا

__________

(1)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 256)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 78.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/185)

يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها أبدا، وكان يتركها كذلك لا أيما ولا ذات بعل، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر وأنزل الآية (1).

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي للذين يحلفون ألا يقربوا نساءهم أن ينتظروا مدة أربعة أشهر دون أن يطالبوا بالرجوع إلى نسائهم أو بالطلاق .. والحلف على هذا الوجه حلف بما لا يرضى الله تعالى، لما فيه من ترك التواد والتراحم بين الزوجين، ولما يترتب عليه من المفاسد في أنفسهما وفي عيالهما، ولما فيه من امتهان المرأة وهضم حقوقها.

قال آخر (3): ثم قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] أي فإن رجعوا إلى نسائهم وحنثوا في اليمين وقاربوهن في أثناء هذه المدة أو في آخرها، فإن الله يغفر لهم ما سلف برحمته الواسعة، لأن الفيئة توبة في حقهم، فيغفر لهم إثم حنثهم عند التكفير .. {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] أي وإن ثبتوا على ترك القربان حتى مضت المدة، فإن الله سميع لإيلائهم وطلاقهم، عليم بنياتهم، فليراقبوه فيما يفعلون، فإن كانوا يريدون بذلك إيذاء النساء ومضارتهن فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعى بأن كان الباعث على الإيلاء تربيتهن لإقامة حدود الله، وعلى الطلاق اليأس من إمكان العشرة، فالله يغفر لهم .. وقد فضل الله تعالى الفيئة على الطلاق، إذ جعل جزاء الفيئة المغفرة والرحمة، وذكر المولى بسمعه لما يقول، وعلمه بما يسره في نفسه ويقصده من عمله.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فإن في الآية الكريمة تحريم للإضرار مطلقا، والإضرار بالمرأة خصوصا .. وفيها نهي عن التعسف في استعمال الحق .. وفيها إعطاء فرصة

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 78.

(2)  تفسير المراغي (2/ 162)

(3)  تفسير المراغي (2/ 162)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/186)

للمخطئ حتى يصحح خطأه، وإلا عوقب بما يستحق.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]؟

قال أحدهم: روي أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها، ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها، ثم طلقها وقال: والله لا آويك إلي ولا تحلين أبدا، فأنزل الله عز وجل الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي عن عائشة أنها أتتها امرأة فسألتها عن شيء من الطلاق، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت (2).

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال آخر (3): في هذه الآية الكريمة تحديد للطلاق الذي يملك فيه الرجل حق الرجوع للمرأة المطلقة من دون حاجة إلى إجراءات جديدة، ولهذا فرع عليه قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فإن هذا هو الخيار الذي يملكه في وقت العدة .. وفي هذا التعبير إيحاء بطبيعة الموقف الذي ينبغي له أن يتخذه في كلتا الحالتين، فلا يبتعد عن الجو الحميم الذي تقتضيه العلاقة، ولا يتنكر للكرامة التي تطلبها المرأة .. فإذا كان هناك رجوع وعودة وإمساك، فينبغي أن يكون بالمعروف في الروحية والدوافع والأسلوب، وإذا كان هناك انفصال وتسريح، فلا بد من أن يكون بالإحسان في الكلمة والمعاملة والجو اللطيف، حتى يتمثل كل منهما في نفسه روحية الخلق الإسلامي الذي يحب

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 79.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 79.

(3)  من وحي القرآن (4/ 305)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/187)

الله للناس أن يتصفوا به.

قال الإمام: بورك فيك، وبذلك، ففي الآية الكريمة بيان لما في حد الحدود ووضع الضوابط والتوقيتات من الرحمة والعدالة، حتى لا يستغل الجاهلون المعتدون الأحكام المطلقة، ليضربوا بها المقاصد التي شرعت من أجلها.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232]؟

قال أحدهم: روي عن معقل بن يسار أنها نزلت فيه، وقد قال يذكر ذلك: كنت زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأكرمتك فطلقتها، ثم جئت تخطبها؟ لا والله لا تعود إليها أبدا قال: وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، فزوجتها إياه (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): يحذر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أولياء المطلقات من أن يكونوا حجر عثرة فى طريق المراجعة بين المطلقة ومطلقها، وأن يمسكوا المطلقات عن أن يعدن إلى أزواجهن مرة ثانية بعقد جديد ومهر جديد، فإن فى هذا إضرارا بالزوجة من حيث يقدر وليها أنه إضرار بالزوج وحده .. فإذا تراضى الزوجان وقدرا أنهما قادران على بناء الحياة الزوجية من جديد، كان على وليها أن يستجيب لهذه الرغبة .. وفى هذا يقول الله تعالى:

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 80.

(2)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 274)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/188)

{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]

قال آخر (1): ثم قال تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 232]، وفي ذلك تنبيه لأولياء الزوجات إلى ما قضى الله به فى هذا الموقف، وهو قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] وقوله: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]، فمن آمن بالله واليوم الآخر لم يكن له أن يعطل حكما من أحكام الله، وأن يقيم لذلك المعاذير الواهية والعلل الكاذبة.

قال آخر (2): ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [البقرة: 232]، وفي ذلك إشارة إلى الوقوف عند حدود الله وأحكامه فى موقف الأولياء من المطلقات اللاتي يرغب أزواجهن فى مراجعتهن، ثم هو من جهة أخرى لفت لهؤلاء الأولياء إلى أن مراجعة الزوج لزوجه وإمساكها فى بيت الزوجية خير لها من أن تعيش من غير زوج أو أن تتزوج رجلا آخر، ففى الحالة الأولى لا تكون المرأة بمأمن من أن تزل وتنحرف، وفى الحالة الثانية تنكشف المرأة لرجل آخر، وهو وإن كان حلالا مباحا إلا أن فيه شيئا ما يخدش به حياء المرأة الحرة، ويتأذى منه وليها الرجل، وخير من هذا كله أن تعود المرأة إلى زوجها الذي عرفها وعرفته، {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232] أي أن الله سبحانه يعلم من عواقب الأمور ما لا تعلمون، وأن عضل المطلقة التي ترغب فى العودة إلى زوجها يخفى وراءه أضرارا ومآثم لا يعلمها إلا علام الغيوب.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فإن في الآية الكريمة بيان لأصل الزواج وكونه مبنيا على تراضي الطرفين؛ فإذا تحقق لا يحق لأي جهة أخرى التدخل .. وهو شامل لكل أنواع العقود التي تراعي القيم المرتبطة بها.

__________

(1)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 275)

(2)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 275)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/189)

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]؟

قال أحدهم: روي أن المرأة من الأنصار إذا كانت لا يعيش لها ولد فتحلف لئن عاش لها ولد لتهودنه فلما أجليت بنوالنضير إذا فيهم أناس من أبناء الأنصار فقالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي أنها نزلت في رجل من الأنصار كان له غلام أسود يقال له: صبيح وكان يكرهه على الإسلام (2).

قال آخر: ومثله ما روي أنها نزلت في رجل من الأنصار يكنى أبا الحصين، وكان له ابنان، فقدم تجار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا وخرجا إلى الشام فأخبر أبو الحصين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (اطلبهما) فأنزل الله عز وجل الآية (3).

قال آخر: ومثله ما روي أنه كان لرجل من الأنصار ابنان فتنصرا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فأتاهما أبوهما فلزمهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أيدخل بعض النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله عز وجل الآية، فخلى سبيلهما (4).

قال آخر: ومثله ما روي أن ناسا مسترضعين في اليهود: قريظة والنضير، فلما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإجلاء بني النضير قال أبناؤهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم، لنذهبن

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 82.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 83.

(3)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 83.

(4)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 84.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/190)

معهم ولندينن بدينهم، فمنعهم أهلهم وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت الآية (1).

قال الإمام: بورك فيكم .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] تقرير لحقيقة من أهم الحقائق العاملة فى الحياة، ومن أبرز السمات التي قامت عليها دعوة الإسلام .. ففيها نفي مطلق لكل صور الإكراه، المادية والمعنوية، التي تختل الناس عن الحق، وتحملهم حملا على معتقد لم يعتقدوه، ولم يجدوا من جهته مقنعا، وليس هذا شأن الدين وحده، بل هو الشأن أو ما ينبغى أن يكون الشأن فى حياة الإنسان كلها، لا يتلبس بأمر إلا بعد أن ينظر فيه، ويطمئن إليه، ويرضى عنه، فيقدم أو يحجم عن هدى وبصيرة، وهذا هو ملاك النجاح فى كل أمر، ومنطلق الملكات الإنسانية كلها فى وثاب وقوة، إلى أنيل.

قال آخر (3): ذلك أن تحرير ضمير الفرد من الضلال والعمى، وفك عقله من الضيق والإظلام، لا يكون إلا بتحرير إرادته وإطلاقها من كل قهر أو قسر، فلن تصح إنسانية الإنسان، ولن يكتمل وجوده، إلا بالضمير الحر، والعقل المتحرر .. ولا فرق بين الأحرار والعبيد وبين الإنسان وغير الإنسان إلا فى تلك المشاعر التي يجدها الإنسان فى كيانه من طاقات الحرية والتحرر، فيمتلك بها أمر نفسه، ويكتب بها خط مسيره ومصيره، كيف شاء، وعلى أي وجه أراد.

قال آخر (4): ثم قال تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] وهو ليس قيدا واردا على إطلاق الحرية فى الدين، وإنما هو تقرير لبيان الحال من أمر الدعوة الإسلامية، وهو أنه يجب ألا يطوف حول دعوتها طائف من القهر والقسر، إذ قد استبانت معالمها،

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 84.

(2)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 318)

(3)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 319)

(4)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 320)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/191)

ووضحت حدودها، وإن الذي ينظر فى مقرراتها، وفى شواهدها وآياتها ثم لا يجد الهدى، ولا يقبل عليه، فلا سبيل إلى هداه، ولا جدوى من إيمانه.

قال آخر (1): ثم قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]، وهو يشير إلى الذي يحترم عقله، ويكرم إنسانيته يأبى أن ينقاد للوهم، ويتعبد لآلهة من مواليد الباطل والضلال .. والموقف الصحيح الذي ينبغى أن يأخذه الإنسان العاقل الرشيد، هو أن يعلو بعقله فوق هذه الأوهام، ويرتفع بإنسانيته عن هذا الهوان، وأن يجعل ولاءه وخضوعه لمن بيده ملكوت السموات والأرض، رب كل شئ، وخالق كل شئ .. وبهذا يمسك الإنسان بالسبب الأقوى، ويعلق بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وبهذا تكتب له النجاة والسلامة.

قال آخر (2): وفي هذه الآية الكريمة رد حاسم على الذين يتهمون الإسلام بأنه توسل أحيانا بالقوة وبحد السيف والقدرة العسكرية في تقدمه وإنتشاره، ذلك أنه عندما نرى أن الإسلام لم يسوغ التوسل بالقوة والإكراه في حمل الوالد لولده على تغيير عقيدته الدينية فإن واجب الآخرين بهذا الشأن يكون واضحا، إذ لو كان حمل الناس على تغيير أديانهم بالقوة والإكراه جائزا في الإسلام، لكان الأولى أن يجيز للأب ذلك لحمل ابنه على تغيير دينه، في حين أنه لم يعطه مثل هذا الحق ..

قال آخر (3): ومن هنا يتضح أن هذه الآية لا تنحصر بأهل الكتاب فقط كما ظن ذلك بعض المفسرين، وكذلك لم ينسخ حكم هذه الآية كما ذهب إلى ذلك آخرون، بل أنه حكم سار وعام ومطابق للمنطق والعقل.

__________

(1)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 320)

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 259)

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 260)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/192)

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة تصحيح للمفاهيم الخاطئة حول الدين، فهو يحتاج إلى القناعة، ولا يصح مع الإكراه أبدا؛ فالمكرَه قد يصبح منافقا، لا متدينا .. وفيها دعوة إلى البحث عن كل ما يقنع الآخرين برشد الدين، وبغيهم، حتى يتبينوا ويقتنعوا.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]؟

قال أحدهم: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بزكاة الفطر بصاع من تمر، فجاء رجل بتمر رديء، فنزلت (1).

قال آخر: ومثله ما روي عن البراء قال: نزلت هذه الآية في الأنصار، كانت تخرج إذا كان جذاذ النخل من حيطانها أقناء من التمر والبسر، فيعلقونها على حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيأكل منه فقراء المهاجرين، وكان الرجل يعمد فيخرج قنو الحشف وهو يظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء فنزلت (2).

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): أي أنفقوا من جياد أموالكم المكسوبة من النقد وسلع التجارة والماشية، ومما أخرجنا من الأرض من الحبوب والثمار وغيرها، كما قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] .. {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] أي ولا تقصدوا الخبيث الرديء من أموالكم فتخصوه بالإنفاق منه ..

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 87.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 88.

(3)  تفسير المراغي (3/ 39)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/193)

قال آخر (1): وبذلك، فإن الواجب أخذ الوسط {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] أي كيف تقصدون الخبيث وتتصدقون به وحده، ولستم ترضون مثله لأنفسكم إلا أن تتساهلوا فيه تساهل من أغمض عينيه عنه فلم ير العيب فيه، ولن يرضى ذلك أحد لنفسه إلا وهو يرى أنه مغبون مغموص الحق، ألا ترى أن الرديء لا يقبل هدية إلا بإغماض فيه وتساهل مع المهدى، لأن إهداءه يشعر بقلة الاحترام لمن أهدى إليه، والذي يقبله مع الإغماض إنما يقبله لحاجته إليه، أو لخوف الحق، والله لا يحتاج فيغمض.

قال آخر (2): ثم قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267] أي إن الله غنى عن إنفاقكم، وإنما يأمركم به لمنفعتكم، فلا تتقربوا إليه بما لا يقبله لرداءته، وهو المستحق للحمد على جلائل نعمائه، ومن الحمد اللائق بجلاله تحرى إنفاق الطيب مما أنعم به.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فإن في الآية الكريمة دعوة إلى مراعاة المقاصد الشرعية في الإنفاق الواجب أو التطوعي، وأن لا يحتال عليها بإعطاء الخبيث الذي تنفر منه النفوس .. وفيها دعوة إلى استفتاء القلب في كل عمل، فما لا يرضاه الإنسان لنفسه، لا يصح أن يعطيه لغيره.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]؟

قال أحدهم: روي أنها لما نزل قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270]، قالوا: يا رسول الله صدقة السر أفضل

__________

(1)  تفسير المراغي (3/ 39)

(2)  تفسير المراغي (3/ 39)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/194)

أم صدقة العلانية؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال آخر (2): في الآية الكريمة إشارة إلى كيفية الإنفاق من حيث السر والعلن، ذلك أنه لاشك أن لكل من الإنفاق العلني والإنفاق الخفي في سبيل الله آثارا نافعة، فإذا كان الإنفاق واجبا فالإعلان عنه يشجع الآخرين على القيام بمثله، كما يرفع عن المنفق تهمة إهماله لواجبه .. أما إذا كان الإنفاق مستحبا، فإنه يكون في الواقع أشبه بالدعاية والإعلان العملي لحث الناس على فعل الخير، ومساعدة المحتاجين، والقيام بالأعمال الخيرية الإجتماعية العامة .. أما الإنفاق الخفي البعيد عن الأنظار فلا شك أنه أبعد عن الرياء وحب الظهور وخلوص النية فيه أكثر، خاصة وأن مد يد العون إلى المحتاجين في الخفاء يحفظ لهم ماء وجههم وكرامتهم، ولذلك تثني الآية على كلا الأسلوبين.

قال آخر (3): وذهب بعض المفسرين إلى أن الإخفاء يقتصر على الإنفاق المستحب، وأما الإنفاق الواجب كالزكاة وغيره فيفضل في حالة الجهر، وليست هذه بقاعدة عامة، بل تختلف باختلاف حالات الإنفاق، ففي الحالات التي يكون فيها الجانب التشجيعي أكثر ولا يصادر فيها الإخلاص فالإظهار أولى، وفي الحالات التي يكون فيها المحتاجون من ذوي العزة والكرامة فإن حفظ ماء وجوههم يقتضي إخفاء الإنفاق، كما أنه إذا خشي الرياء وعدم الإخلاص فالإخفاء أولى.

قال آخر (4): وقوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] يبين أن للإنفاق في سبيل الله أثرا في غفران الذنوب، فالتكفير عن السيئات ـ أي تطغية الذنوب ـ كناية عن

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 88.

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 319)

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 320)

(4)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 321)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/195)

ذلك .. وبديهي أن هذا لا يعني أن إنفاق بعض المال يذهب بكل ذنوب الإنسان، ولذلك لابد من ملاحظة استعمال (من) التبعيضية، أي أن الغفران يشمل قسما من ذنوب الإنسان، وأن هذا القسم يتناسب مع مقدار الإنفاق وميزان الإخلاص.

قال آخر (1): ويستفاد من قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271] أن الله عالم بما تنفقون سواء أكان علانيه أم سرا، كما أنه عالم بنياتكم وأغراضكم من إعلان إنفاقكم ومن إخفائه .. فعلى كل حال أن الذي له تأثير في الإنفاق هو النية الطاهرة والخلوص في العمل لله وحده، لأنه هو الذي يجزي أعمال العبد، وهو عالم بما يخفي ويعلن.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة دعوة إلى مراعاة المقاصد في الإعلان بالصدقة، أو إخفائها؛ فحيثما تحققت المصلحة الشرعية كانت الأفضلية .. وفيها إشارة إلى مراعاة عدم إحراج المتصدّق عليهم حتى لا يصبح الإعلان بالصدقة وسيلة لإيذائهم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]؟

قال أحدهم: روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تصدقوا إلا على أهل دينكم)، فأنزل الله تعالى الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تصدقوا على أهل الأديان)(2)

قال آخر: ومثله ما روي عن ابن الحنفية قال: كان المسلمون يكرهون أن يتصدقوا على الفقراء المشركين حتى نزلت هذه الآية، فأمروا أن يتصدقوا عليهم (3).

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 321)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 88.

(3)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 88.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/196)

قال آخر: ومثله ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتمر عمرة القضاء وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أمها قتيلة وجدتها يسألانها، وهما مشركتان، فقالت: لا أعطيكم شيئا حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنكما لستما على ديني؛ فاستأمرته في ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه الآية، أن تصدق عليهما، فأعطتهما ووصلتهما (1).

قال آخر: ومثله ما روي أن ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار ورضاع في اليهود، وكانوا ينفعونهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وأرادوهم على أن يسلموا فاستأمروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية فأعطوهم بعد نزولها (2).

قال الإمام: بورك فيكم .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): أي لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين، إن أنت إلا بشير ونذير، وما عليك إلا الإرشاد والحث على الفضائل والنهى عن الرذائل كالمن والأذى وإنفاق الخبيث .. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272] أي إن أمر الناس في الاهتداء مفوض إلى ربهم، بما وضعه لسير عقوبهم وقلوبهم من السنن، فهو الذي يوفقهم إلى النظر الصحيح الذي يكون من ثمرته العمل الموصل إلى سعادتهم.

قال آخر (4): ثم قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 272]، أي وما تنفقوا من خير فنفعه عائد إليكم فى الدنيا والآخرة .. أما في الدنيا فلأنه يكف شر الفقراء ويدفع عنكم أذاهم، فإن الفقراء إذا ضاقت بهم الحال وحزبهم الأمر تألبوا على الأغنياء وسلبوهم ونهبوا أموالهم وآذوهم على قدر ما يستطيعون، ثم سرى شرهم إلى غيرهم،

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 89.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 89.

(3)  تفسير المراغي (3/ 48)

(4)  تفسير المراغي (3/ 48)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/197)

فتختل نظم المجتمع، ويفقد الأمن فى الأمة .. وأما في الآخرة فلأن ثوابه لكم، ونفعه الديني راجع إليكم لا للفقراء، فلا تمنعوا الإنفاق على فقراء المشركين ..

قال آخر (1): ثم قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] أي إنكم لا تنفقون لأجل جاه ولا مكانة عند المنفق عليه، وإنما تنفقون لوجه الله، فلا فرق بين فقير وفقير إذا كان مستحقا يتقرب بإزالة ضرورته إلى الرزاق الكريم الذي لم يحرم أحدا من رزقه لأجل عقيدته، وهذا كقوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]

قال آخر (2): ثم قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] أي يوف إليكم في الآخرة لا تنقصون منه شيئا، فأنتم على استفادتكم من الإنفاق في رقى أنفسكم، وتثبيتها في مقامات الإيمان والإحسان، وإرادة وجه الله وابتغاء مرضاته لا يضيع عليكم ما تنفقون، بل توفونه ولا تظلمون منه شيئا .. وفي هذا إرشاد من الله لعباده أن يكملوا أنفسهم، ويبتغوا أن يراهم الله كملة يعملون الحسن لأنه حسن تتحقق به حكمته، وتقوم به سنته في صلاح البشر.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك فإن في الآية الكريمة دعوة إلى التعامل بالرحمة مع جميع البشر بغض النظر عن أديانهم؛ فالله تعالى هو الهادي والديان.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في الإمام علي لم يكن يملك غير أربعة دراهم، فتصدق

__________

(1)  تفسير المراغي (3/ 49)

(2)  تفسير المراغي (3/ 49)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/198)

بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما حملك على هذا؟) قال: حملني أن أستوجب على الله الذي وعدني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إن ذلك لك) فأنزل الله تعالى هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في هذه الآية الكريمة ثناء على الذين يتحول الإنفاق في حياتهم إلى نهج في حركة الشخصية من خلال ما يتمثلونه في نظرتهم إلى الواقع في مشاكله ومآسيه، وفي مسئولياتهم تجاه ذلك، مما حملهم الله من واجبات وحقوق للناس المحرومين، فلا يتركونه في أي وقت، حتى أنهم يبادرون إلى السير في الليل ليتحركوا من أجل سد حاجة النائمين، فيطرقون عليهم بيوتهم، أو يرسلون إليهم من يحمل إليهم الصدقات من موقع الاهتمام المستمر {سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [البقرة: 274] تبعا للطبيعة الاجتماعية للمسألة بالنظر إلى مواقع الناس أو مواقع الخير في مناسبات الإسرار والإعلان.

قال آخر (3): ثم ذكر الله تعالى الجزاء المعد لهم، فقال: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]، ذلك أن الله تعالى يحب عباده الذين يتحركون في حل مشاكل خلقه من أجل إيجاد التوازن الاجتماعي في الحاجات، والذي يتحول إلى توازن عملي في المواقف، وهؤلاء هم الذين يتطلعون إلى الله في كل ما يفيضون به من عطاء، وما يقفونه من مواقف، طلبا لما عنده من الأجر، فلا تثقلهم خسائر الدنيا مما يفقدونه من المال في العطاء، لأنهم يستهدفون بذلك الحصول على أرباح الآخرة في رضوان الله والوصول إلى الطمأنينة الروحية والسرور القلبي والنعيم الخالد.

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 90.

(2)  من وحي القرآن (5/ 119)

(3)  من وحي القرآن (5/ 120)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/199)

قال الإمام: بورك فيكما، وبذلك، ففي الآية الكريمة ذكر للصالحين وإنفاقهم الكثير، وفي كل الأوقات، وفي كل الأحوال، وبكل ما يطيقون.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكانت بنوالمغيرة يربون لثقيف، فلما أظهر الله تعالى رسوله على مكة، وضع يومئذ الربا كله، فأتى بنو عمرو بن عمير وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة، فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالربا وضع عن الناس غيرنا، فقال بنوعمرو بن عمير: صولحنا على أن لنا ربانا، فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية والتي بعدها: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، فعرف بنو عمرو أن لا يدان لهم بحرب من الله ورسوله يقول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، {لَا تَظْلِمُونَ} فتأخذون أكثر {وَلَا تُظْلَمُونَ} فتبخسون منه (1).

قال آخر: ومثله ما روي أن بني عمروبن عمير قالوا لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا ولكن الربا ندعه لكم، فقالت بنوالمغيرة: نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة، فأبوا أن يؤخروهم فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]؟ (2).

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 90.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 93.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/200)

قال أحدهم (1): في هذه الآية الكريمة يعلق الله تعالى إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا .. فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا .. ليسوا بمؤمنين ولو أعلنوا أنهم مؤمنون، فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به .. والآية الكريمة لا تدعهم في شبهة من الأمر، ولا يدع إنساناً يتستر وراء كلمة الإيمان، بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله، ولا ينفذه في حياته، ولا يحكمه في معاملاته، فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون.

قال آخر (2): ثم ذكر الله تعالى أن لهم ما سلف من الربا، فلم يقرر استرداده منهم، ولا مصادرة أموالهم كلها أو جزء منها بسبب أن الربا كان داخلاً فيها .. إذ لا تحريم بغير نص .. ولا حكم بغير تشريع .. والتشريع ينفذ وينشئ آثاره بعد صدوره .. فأما الذي سلف فأمره إلى الله لا إلى أحكام القانون .. وبذلك تجنب الإسلام إحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعه أثراً رجعياً، ذلك أن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية، ويسيرها، ويطهرها، ويطلقها تنمو وترتفع معاً، وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به، واستجاش في قلوبهم ـ مع هذا ـ شعور التقوى لله، وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه، ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس، فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته، فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية.

قال الإمام: بورك فيكم، إضافة إلى ذلك فإن في الآية الكريمة دعوة إلى المسارعة في

__________

(1)  في ظلال القرآن (1/ 330)

(2)  في ظلال القرآن (1/ 330)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/201)

تطبيق أحكام الشريعة وحدودها كاملة، لأن ذلك هو علامة الإيمان واليقين.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]؟

قال أحدهم: روي أنها عندما نزل بالمدينة قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، قالت كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إلهٌ واحدٌ؟ فأنزل الله تعالى الآية .. وروي أن المشركين قالوا: إلهٌ واحدٌ؟ إن كان صادقا فليأتنا بآية، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في الآية الكريمة دعوة إلى كل مخلوق أن يشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، لا شريك له، رحمن السموات والأرض ورحيمهما، وبين يدي هذه الدعوة، معارض مختلفة الصور والألوان لما أبدعت يد الخالق، وما أودعت قدرته وحكمته فى هذا الوجود من آيات وشواهد، تحدث بجلال الله وعظمته ووحدانيته .. فنظرة مستبصرة فى هذا الوجود تفتح للناظر أكثر من طريق إلى الله، إن هو احترم عقله، واستفتى قلبه.

قال الإمام: بورك فيك، ففي الآية الكريمة دعوة للنظر في بدائع صنع الله تعالى، وإعمال العقول فيها؛ فهي تختزن كل الدلائل على وحدانية الله وأسمائه الحسنى .. ففي كل شيء آية تدل على الله .. وفيها بيان بأن العقل الحقيقي هو الذي يعبر من الكون إلى المكون، لا الذي يبقى مسجونا في سجون المظاهر من غير أن يعبر إلى الذي أظهرها.

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 47.

(2)  التفسير القرآني للقرآن (1/ 184)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/202)

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُومُبِينٌ} [البقرة: 168]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في الآية الكريمة نداء رباني للناس، يستشعر فيه الإنسان الرحمة في وحيه له بأن الله لا يريد أن يضيق عليه سبل الحياة، بل يريد أن يوسع له آفاقها الرحبة ومواردها الخصبة، فقد خلق له الأرض في كل ما تنتجه من رزق، وفي ما تحتوي عليه من نعم، وأباح له التمتع بالرزق الطيب الحلال، والنعم الكثيرة الخالصة، فلم يحرم عليه شيئا من طيباتها مما يحتاجه في استمرار حياته ونمو جسمه، بل دعاه إلى أن يأكل منها ما يشاء، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]

قال آخر (3): لكنه حذره من خطوات الشيطان التي تتجه به إلى ما فيه فساد حياته، وضرر جسمه وعقله، بالاستمتاع بالشهوات المحرمة، والأكل من الخبائث المضرة، مما يزين له فعله ويغريه بالإقبال عليه، بما يثيره أمامه من الأجواء الحميمة، والإغراءات اللذيذة التي يدعوه إليها بلهفة شديدة، وشوق حميم، بطريقة تحجب عنه ما في الداخل من خسارة وضرر وفساد، ويبرر القرآن الكريم للإنسان كل هذا الحذر بالحقيقة الدينية الحاسمة التي توضح عداوة الشيطان الواضحة البينة للإنسان، ليشعر بأن هذه الخطوات التي يثيرها أمامه ليست في مصلحته مهما أظهر له من إخلاص أو مودة.

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 47.

(2)  من وحي القرآن (3/ 166)

(3)  من وحي القرآن (3/ 167)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/203)

قال الإمام: بورك فيكما، بالإضافة إلى ذلك ففي الآية الكريمة إخبار بأن الإعراض عن الحلال الطيب إعراض عن الضيافة الإلهية، واتباع للشيطان الذي يحرم ما أحل الله، ويحل ما حرم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]؟

قال أحدهم: روي أن اليهود قالوا: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي لا عجب أن تكون الكعبة قبلة للمسلمين، فهي أول مركز للتوحيد، وأقدم معبد بني على الأرض ليعبد فيه الله سبحانه ويوحد، بل لم يسبقه أي معبد آخر قبله، فهو أول بيت وضع للناس ولأجل خير المجتمع الإنساني في نقطة من الأرض محفوفة بالبركات، غنية بالخيرات، وضع ليكون مجتمع الناس، وملتقاهم .. ولاشك أن إختيار أعرق بيت أسس للتوحيد من أجل أن يكون قبلة للمسلمين، أولى وأفضل من اختيار أية نقطة أخرى وأي مكان آخر.

قال آخر (3): ومما يجدر الإنتباه إليه هو أن (الكعبة) والتي تسمى في تسمية أخرى بـ (بيت الله) وصفت في هذه الآية بأنها (بيت للناس)، وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامة وهي: أن كل ما يكون باسم الله ويكون له، يجب أن يكون فى خدمة الناس من عباده، وأن

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 114.

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 600)

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 601)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/204)

كل ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو لله سبحانه.

قال آخر (1): كما تتضح ـ ضمن ما نستفيده من هذه الآية ـ قيمة الأسبقية في مجال العلاقات بين الخلق والخالق، ولذلك نجد القرآن الكريم يشير ـ في هذه الآية ـ إلى أسبقية الكعبة على جميع الأماكن الأخرى، وإلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن، معتبرا ذلك أول وأهم ما تتسم به الكعبة من الفضائل والمزايا.

قال الإمام: بورك فيكم، بالإضافة إلى ذلك ففي الآية الكريمة دعوة إلى تعظيم الكعبة المشرفة، لما فيها من البركة والهدى، وهو لا يعني احتقار غيرها من المحال التي يعبد فيها الله أو استنقاصها.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]؟

قال أحدهم: روي أنه كان بين الحيين من الأوس والخزرج قتال في الجاهلية، فلما جاء الإسلام اصطلحوا وألف الله بين قلوبهم، وجلس يهودي في مجلس فيه نفر من الأوس والخزرج، فأنشد شعرا قاله أحد الحيين في حربهم، فكأنهم دخلهم من ذلك، فقال الحي الآخرون: وقد قال شاعرنا في يوم كذا: كذا وكذا، فقال الآخرون: وقد قال شاعرنا في يوم كذا: كذا وكذا، قال: فقالوا: تعالوا نرد الحرب جذعا كما كانت، فنادى هؤلاء: يا آل أوس، ونادى هؤلاء يا آل خزرج؛ فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال، فنزلت هذه الآية، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قام بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته أنصتوا له وجعلوا يستمعون إليه، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجثوا يبكون (2).

قال آخر: ومثله ما روي أن شاس بن قيس اليهودي وكان شيخا قد عسا في الجاهلية

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 601)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 115.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/205)

عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شابا من اليهود كان معه، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم بيوم بعاث وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظافر فيه للأوس على الخزرج، ففعل فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا وقال أحدهما لصاحبه: إن شئت والله رددتها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا وقالا: قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة وهي حرة، فخرجوا إليها فانضمت الأوس والخزرخ بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: (يا معشر المسلمين، بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم، فترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟ الله الله) فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وكبوا، وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سامعين مطيعين، فأنزل الله عز وجل الآية، قال جابر بن عبد الله: ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأومأ إلينا بيده، فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما رأيت قط يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم (1).

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 116.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/206)

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (1): في الآية الكريمة دعوة للمؤمنين بأن يكونوا واعين للمخططات التي يرسمها أهل الكتاب من أجل إضلال المسلمين عن دينهم الحق، وذلك بإثارة الرواسب القديمة الكامنة في الأعماق، التي استطاع الإسلام تجميدها في خطة طويلة لإزالتها نهائيا من النفوس، وذلك بتأكيد الإيمان في قلوبهم ومشاعرهم وخطواتهم العملية في الحياة، بحيث يتحول إلى جزء من الذات، بدلا من أن يكون فكرة ساذجة كامنة في بعض جوانبها .. فإذا أغفل المسلمون جانب الحذر، واستسلموا لمشاعرهم الساذجة، وشعروا بالأمن في حركات الكافرين من حولهم، أمكن لأولئك أن يجروهم إلى الوقوع في قبضة التاريخ الجاهلي من جديد، فتتحرك الرواسب وتطفو على سطح الفكر والشعور، وتتحول إلى ممارسات خبيثة تذكي نار العصبية، وتطفئ نور الإيمان في القلوب، وتقود الأفراد والجماعات إلى حرب تقوم على أساس العائلة الضيقة، ويصبح الإسلام مجرد حالة طارئة لا تمثل أية قوة ضابطة أو محركة في الاتجاه السليم ...

قال آخر (2): وربما نجد الكثير من نماذج هذا اليهودي في الواقع الذي يعيشه المسلمون، في ما يريد الكافرون والضالون أن يثيروه بين المسلمين من الخلافات القائمة على العصبية العائلية والقومية والإقليمية والمذهبية، فيعملون على استثارة كل عناصر الإثارة في الماضي والحاضر من أجل خلق حالة نفسية متوترة، توحي بالحقد، وتنذر بالشر، وتقود إلى التصادم والتنازع في خطة خبيثة تؤدي إلى الكارثة من خلال ما تؤدي إليه من التمزق والتفرق والوصول إلى مواقع الخطر على عزتهم وكرامتهم وأصالتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية.

__________

(1)  من وحي القرآن (6/ 179)

(2)  من وحي القرآن (6/ 180)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/207)

قال آخر (1): وفي هذا الجو تتحرك الآية الكريمة لتفتح عيون المسلمين في كل زمان ومكان على أن يحددوا أعداءهم في العقيدة وفي السياسة وفي الحياة كلها ... ويتعرفوا طبيعة مخططاتهم في جانبي العمق والامتداد، وطبيعة الظروف الموضوعية المتحركة على الساحة ونوعية القوى المحيطة بهم، إلى جانب معرفتهم بالأسس التي تحميهم من كل هذه المخططات، وذلك بالتأكيد على نقاط القوة لتنميتها وتحريكها في خط المواجهة الصعبة ودراسة نقاط الضعف ومحاولة السيطرة عليها وتحويلها من موقع المعاناة إلى نقاط قوة، سواء كانت تلك النقاط فكرية أو شعورية أو عملية .. ولا بد في سبيل الوصول إلى ذلك من الارتفاع في كل زمن إلى مستوى المرحلة التاريخية للأمة، التي تفرض علينا التحرك في خط الوعي الذي يرصد القوى المختلفة لئلا يختلط علينا خط الأعداء بخط الأصدقاء، على أساس انفعال طارئ أو مشاعر حادة أو نظرة خاطئة في تقييم الواقع والناس.

قال آخر (2): وقد نستوحي من الآية الكريمة أن على المسلمين أن يعيشوا حالة عالية من الوعي المتقدم للأجواء المضادة المحيطة بهم في مجتمعات الكفر والضلال، وأن يدرسوا الأساليب المعقدة التي يتبعها دعاة الكفر والضلال في تفتيت القوة الإسلامية بما يثيرونه من رواسب التاريخ وخلافاته، وفي تضليل المسيرة الإسلامية وإبعادها عن الخط المستقيم، ليستطيعوا، من خلال ذلك، الانفتاح على القواعد الثابتة التي تحفظ لهم وحدتهم، وتصون لهم دينهم الحق عند ما يعرفون سبيل الاعتصام بالله الذي يهديهم إلى الصراط المستقيم، وبذلك نعرف أن السذاجة الفكرية والبساطة العملية اللتين تدفعان المسلم إلى الاستسلام لخطط العدو من خلال الغفلة عن طبيعته، ليستا من خلق المسلم الذي يريده الإسلام واعيا للحق وللفكر وللطريق وللمجتمع الذي من حوله في كل ما لديه من سلبيات وإيجابيات.

__________

(1)  من وحي القرآن (6/ 180)

(2)  من وحي القرآن (6/ 181)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/208)

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فإن في الآية الكريمة تحذيرا من الإعراض عن النبوة والقيم التي دعت إليها، والسماع للمنحرفين عنها، سواء كانوا من المسلمين وغيرهم .. وفيها تنبيه إلى خطر الشقاق وكل من يدعو إلى تصديع وحدة المسلمين .. وفيها دعوة إلى الوعي حتى لا يقع المسلمون ضحية للحرب الناعمة التي تستغل الفوارق العرقية وغيرها لبث الصراع بينها.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]؟

قال أحدهم: روي أنه كان بين الأوس والخزرج شر في الجاهلية، فذكروا ما بينهم، فثار بعضهم إلى بعض بالسيوف فأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذ كر ذلك له، فذهب إليهم، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]؟ (1).

قال آخر: ومثله ما روي أن الأوس والخزرج كانوا يتحدثون، فغضبوا، حتى كاد يكون بينهم حرب، فأخذوا السلاح ومشى بعضهم إلى بعض، فنزلت: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 101 ـ 103]؟ (2)

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 117.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 117.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/209)

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (1): في الآية الكريمة تنبيه للمؤمنين وتحذير لهم، وتسفيه لمن تسول له نفسه منهم أن يستجيب لدعوة الضالين، ويعطيهم منه أذنا واعية .. إذ كيف ينفذ الضلال إلى قلب مؤمن، وهو يستمع إلى آيات الله تتلى عليه، ويرى بعينيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما على رسالة السماء، يتلقى آياتها، ويفيض على الناس منها؟ كيف ـ والأمر كذلك ـ يتحول عاقل من الناس من النور إلى الظلام، ومن الهدى إلى الضلال؟ إن ذلك لن يكون إلا من أحمق، أو سفيه، أو مجنون.

قال آخر (2): وفي قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] توجيه إلى الطريق الذي ينبغى أن يستقيم عليه العاقل، ويلتزمه، وهو الإيمان بالله، والاعتصام به من وسوسة الضالين، وكيد المبطلين، فذلك هو الذي يعصم المؤمن من الزلل، ويحميه من الضلال، وفى هذا نجاته وسلامته.

قال الإمام: بورك فيكم، بالإضافة إلى ذلك ففي الآية الكريمة دعوة للوحدة بين المسلمين، وأنها لا تتم إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتحكيمهما والاعتصام بهما في كل الشؤون.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوآمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أن مالك بن الضيف، ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم: إن ديننا

__________

(1)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 538)

(2)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 539)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/210)

خير مما تدعونا إليه، ونحن خير وأفضل منكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): تبشر هذه الآية الكريمة أمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنها خير أمة هيئت وعبئت لخدمة المجتمع الإنساني، والدليل على أن هذه الأمة خير أمة رشحت لهذه المهمة الكبرى هو قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيمانها بالله، وهذا يدل على أن إصلاح المجتمع البشري لا يمكن أن يتم بدون الإيمان بالله والدعوة إلى الحق، ومكافحة الفساد.

قال آخر (3): وسبب كون هذه الأمة خير الأمم، أنها تختص بآخر الأديان الإلهية والشرائع السماوية، ولا شك أن هذا يقتضي أن يكون أكمل الشرائع وأتمها في سلم الأديان .. والتعبير بلفظ الماضي (كنتم) يعني أنكم كنتم كذلك في السابق، ومفهوم هذا التعبير وإن كان موضع احتمالات كثيرة بين المفسرين، إلا أن ما يترجح عند النظر هو أن التعبير بالماضي إنما هو لأجل التأكيد، والتلويح بأن الشيء محقق الوقوع، ولذلك نظائر كثيرة في القرآن الكريم حيث عبر عن القضايا المحققة الوقوع بصيغة الفعل الماضي، لإفادة أن ذلك مما يقع حتما حتى أنه نزل منزلة الماضي الذي قد تحقق فعلا.

قال آخر (4): وكذلك، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قُدما في هذه الآية على الإيمان بالله، وذلك خير شاهد على أهمية هاتين الفريضتين الإلهيتين وخطورتهما، مضافا إلى أن القيام بهذين الواجبين المقدسين مما يوجب انتشار الإيمان، واتساع رقعته، وتعميق جذوره في النفوس، وتنفيذ كل القوانين الفردية والاجتماعية، ولا ريب أن ما يضمن تنفيذ

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 117.

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 644)

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 645)

(4)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 645)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/211)

القانون وتطبيقه مقدم على نفس القانون.

قال آخر (1): والمخاطب في هذه الآية الكريمة هم عموم المسلمين في جميع العصور كما هو الحال في كل الخطابات القرآنية، أما ما احتمله البعض من أنه خاص بالمهاجرين أو المسلمين الأوائل فإنه لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه.

قال آخر (2): ثم إن الآية الكريمة تشير إلى أن دينا بمثل هذا الوضوح، وتشريعا بمثل هذه العظمة، وتعاليم تنطوي على مثل هذه الفوائد التي لا تنكر، ينبغي أن يؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن في ذلك صلاحهم، وخيرهم إذ يقول سبحانه: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 110]، ولكن ـ وللأسف ـ لم يؤمن به إلا قلة ممن نبذ التعصب الأعمى، واعتنق الإسلام برغبة صادقة، واستقبل هذا الدين برحابة صدر، فيما أعرض الأكثرون منهم، وفضلوا البقاء على ما هم عليه من الكفر والعصبية على اتباع هذا الأمر الإلهي، متجاهلين تلك البشائر التي نطقت بها كتبهم حول هذا الدين، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] أي الخارجون عن هذا الأمر الإلهي.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فإن في الآية الكريمة بيان لشروط خيرية الأمة التي لا تتم إلا بها .. فمن توفرت فيه تلك الشروط كان انتماؤه للأمة حقيقيا، ومن لم تتوفر فيه كان مشوها لها، وعبئا عليها .. وقد تمثلت تلك الشروط في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وورثته الهادين؛ فهم خير من ينطبق عليهم هذا الوصف.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111]؟

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 646)

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 646)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/212)

قال أحدهم: روي أنها نزلت في رؤوس اليهود عمدوا إلى مؤمنيهم فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي إن الظالمين الفاسقين لا يقدرون على إيقاع الضرر بكم بل غاية جهدهم أن يؤذوكم بالهجو القبيح، والطعن فى الدين، وإلقاء الشبهات وتحريف النصوص، والخوض فى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ} [آل عمران: 111] أي وإن يقابلوكم فى ميدان القتال ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشئ، والمنهزم من شأنه أن يحول ظهره إلى جهة مقاتله ويستدبره فى هربه منه، فيكون قفاه إلى وجه من انهزم منه .. {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] أي ثم إنهم لا ينصرون عليكم أبدا ماداموا على فسقهم، ودمتم على خيريتكم، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله .. وفى الآية ثلاث بشارات من أخبار الغيب تحققت كلها، وقد صدق الله وعده.

قال آخر (3): وهذا الحكم إنما يثبت للمؤمنين إذا حافظوا على نصر الله بنصر دينه كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال فى وصف المؤمنين المجاهدين: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]

قال الإمام: بورك فيكما، بالإضافة إلى ذلك ففي الآية الكريمة دعوة للمؤمنين في كل العصور إلى الصبر والتحمل وعدم الانجرار وراء أي فتنة قد تشوه الدين الذي يحملونه، والقيم التي يدعون إليها.

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 117.

(2)  تفسير المراغي (4/ 32)

(3)  تفسير المراغي (4/ 32)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/213)

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]؟

قال أحدهم: روي أنه لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود، قالت أحبار اليهود: ما آمن لمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من أخيارنا لما تركوا دين آبائهم، وقالوا لهم: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة صلاة العشاء، تم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: (إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم)، فأنزلت هذه الآيات: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 113 ـ 115]؟

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): بعد الذم الذي تضمنته الآيات السابقة لأهل الكتاب بسبب مواقفهم المشينة وأفعالهم الذميمة نجد القرآن الكريم ـ كما هو شأنه دائما ـ يراعي جانب العدل والإنصاف، فيحترم كل من تنزه عن ذلك السلوك الذميم الذي ساروا عليه، ويعلن بصراحة أنه لا يعمم ذلك الحكم، وأنه لا يمكن النظر إلى الجميع بنظرة واحدة دون التفريق بين من أقام على تلك الفعال، وبين من غادرها وطلب الحق، ولهذا قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] .. أي

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 117.

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 653)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/214)

أن أهل الكتاب ليسوا سواء، فهناك جماعة تطيع الله وتخافه، وتؤمن به وتهابه، وتؤمن بالآخرة وتعمل لها، وتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال آخر (1): وهذا ما يعلمنا التورع عن إدانة أي جهة إدانة تامة، بل علينا التركيز على أفعالهم وممارساتهم، فنحترم ونمدح كل من انفصل عن أكثريتهم الفاسدة، وخضع للحق والإيمان، وهذا هو أسلوب القرآن الكريم الذي لا يعادي أحدا على أساس اللون والعنصر، إنما يعاديه إذا كانت أعماله لا تنطبق مع الحق والعدل والخير، لا غير.

قال آخر (2): ثم قال تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115] أي أن هؤلاء الذين أسلموا واتخذوا مواقعهم في صفوف المتقين لن يضيع الله لهم عملا، وإن كانوا قد ارتكبوا في سابق حالهم ما ارتكبوه من الآثام، وما اقترفوه من المعاصي، ذلك لأنهم قد أعادوا النظر في سلوكهم وأصلحوا مسارهم، وغيروا موقفهم .. والمراد من كلمة (الكفر) هنا هو ما يقابل الشكر، لأن الشكر يعني أصلا الاعتراف بالنعمة والجميل، والكفر يعني إنكار ذلك، فيكون المراد في هذه الآية هو أن الله لن ينكر أعمالهم الصالحة، ولن يتنكر لها.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فإن في الآية الكريمة دعوة للعدل، ومع كل أهل الأديان والمذاهب، وعدم التعميم في الأحكام؛ وترك الأحكام لله تعالى؛ فهو الذي يقضي بين عباده .. وفيها دعوة للبحث عن صالحي الأمم ومعتدليها والاستفادة منهم والتعامل معهم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 654)

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 655)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/215)

صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع، فأنزل الله تعالى الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي لا تركنوا إلى أحد من غير دينكم، ولا تقاربوه هذه المقاربة التي يمكن أن يطلع منها على مواطن الضعف فيكم، فيكيد لكم .. وفى قوله تعالى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118] إشارة إلى السبب الداعي إلى الحذر من مخالطة هؤلاء الذين يعادون الإسلام ويكيدون له .. إنهم يجهدون كل جهدهم فى النيل من المسلمين .. لا يقصرون فى أمر فيه نكاية بالمسلمين، وخبال لهم، وإضعاف لشأنهم.

قال آخر (3): وفى قوله تعالى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] إشارة ثانية إلى ما فى قلوب هؤلاء القوم من كراهية للمسلمين .. يتمنون لهم ما يعنتهم ويثقل كاهلهم من هموم وآلام .. وفى قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] بيان شارح لتلك الأسباب التي تجعل المسلمين على حذر من هؤلاء القوم، وأمارة دالة على حقيقة تلك الأسباب .. فعلى ألسنة القوم ومن أفواههم تتساقط الكلمات المسمومة، التي يصوبونها فى خبث ودهاء إلى الإسلام والمسلمين، وليس هذا الذي يتساقط من أفواههم إلا شيئا قليلا مما تنطوى عليه قلوبهم من حسد وغيظ، وما تفيض به مشاعرهم من عداوة وبغضاء.

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 119.

(2)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 565)

(3)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 565)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/216)

قال الإمام: بورك فيكم، بالإضافة إلى ذلك ففي الآية الكريمة دعوة إلى اعتبار الولاء لله تعالى أصلا تقام عليه سائر الولاءات؛ فكل ما عدا الدين زائل.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121] وما بعدها؟

قال أحدهم: روي أنه قيل لعبد الرحمن بن عوف: أخبرنا عن قصتكم يوم أحد، فقال: اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجد {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121]؟ إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوكَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوكُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]؟ (1)

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي واذكر لهم أيها الرسول وقت خروجك من بيتك غدوة تهيئ أمكنة للقتال، منها مواضع للرماة، ومواضع للفرسان، ومواضع لسائر المؤمنين .. {والله سميع عليم} أي والله سميع لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك عدوك وعدوهم، كقول من قال: اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم فى خارج المدينة، وقول من قال: لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، ولما تشير به أنت عليهم، عليم بأصلح تلك الآراء لك ولهم وبنية كل قائل من أخلص منهم فى قوله وإن أخطأ فى رأيه

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 119.

(2)  تفسير المراغي (4/ 54)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/217)

كالقائلين بالخروج إليهم، ومن لم يخلص فى قوله وإن كان صوابا كعبد الله بن أبى ومن معه من المنافقين.

قال الإمام: بورك فيك، وبذلك، فالآية الكريمة من الآيات التي تدعو إلى تدبر ما حصل من أحداث في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال القرآن الكريم، لأنه يمثل الحقيقة والعبرة .. وفي الآية الكريمة بيان لوظيفة من وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي مواجهة الظلمة المعتدين من خلال توفير الإعداد العسكري المناسب.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَويَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَويُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت بعدما كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ودمي وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهويدعوهم إلى ربهم؟)، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه وجعل يسيل الدم عنه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى ربهم)، فأنزل الله عز وجل الآية (2).

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): وقع بين المفسرين في تفسير هذه الآية كلام كثير، إلا أن ما هو مسلم تقريبا هو أن الآية الحاضرة نزلت بعد معركة أحد، وهي ترتبط بأحداث تلك المعركة، والآيات السابقة تؤيد هذه الحقيقة أيضا .. ومن المعاني التي ذكرت في تفسير الآية الكريمة:

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 120.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 121.

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 680)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/218)

ليس لك حول مصير المعتدين أو المخطئين شيء، فإنهم قد استحقوا العذاب بما فعلوه، بل ذلك إلى الله، يعفو عنهم إن شاء أو يأخذهم بظلمهم، والمراد بالضمير (هم) إما الكفار الذين ألحقوا بالمسلمين ضربات مؤلمة، حتى أنهم كسروا رباعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشجوا جبينه المبارك، وإما المسلمين الذين فروا من ساحة المعركة، ثم ندموا على ذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها واعتذروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلبوا منه العفو، وكأن الآية الكريمة تقول: إن العفو عنهم، أو معاقبتهم على ما فعلوا، أمر يعود إلى الله تعالى، وأن النبي لن يفعل شيئا بدون إذنه سبحانه.

قال آخر (1): وهناك تفسير آخر، وهو أن يعتبر قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] جملة اعتراضية، ويكون {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24] جملة معطوفة على {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} [آل عمران: 127] وتعتبر هذه الآية متصلة بالآية السابقة .. وعلى هذا يكون المراد من مجموع الآيتين، السابقة والحاضرة هو: إن الله سيمكنكم من وسائل النصر ويصيب الكفار بإحدى أمور أربعة: إما أن يقطع طرفا من جيش المشركين، أو يردهم على أعقابهم خائبين مخزيين، أو يتوب عليهم إذا أصلحوا، أو يعذبهم بظلمهم، وعلى كل حال فإنه سيعامل كل طائفة وفق ما تقتضيه الحكمة والعدالة، وليس لك أن تتخذ أي موقف من عندك إذ كل ذلك إلى الله تعالى.

قال آخر (2): وهذه الآية الكريمة وإن كانت تنفي أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الحق في أن يغفر للكفار والمشركين أو يعذبهم، إلا أنها لا تتعارض مع ما يستفاد من الآيات الأخرى من تأثير دعائه صلى الله عليه وآله وسلم وعفوه وشفاعته، لأن المقصود في الآية الحاضرة هو نفي أن يكون للنبي كل ذلك على نحو الاستقلال، وعلى هذا لاينافي أن يكون له كل ذلك من العفو أو المجازاة بإذن

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 681)

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 682)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/219)

الله سبحانه، فله بالتالي أن يعفو ـ بإذن الله ـ لمن أراد، أو يجازي حيث تصح المجازاة، كما أن له أن يهيئ عوامل النصر وأسباب الظفر، بل وله ـ بإذن الله ـ أن يحيي الموتى كما كان يفعل المسيح عليه السلام بإذنه سبحانه.

قال آخر (1): أما الذين تمسكوا بقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] لنفي وإنكار قدرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الأمر، فقد نسوا الآيات القرآنية الأخرى في هذا المجال، ومنها قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، فاستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ طبق هذه الآية الكريمة ـ من العوامل المؤثرة لمغفرة الذنوب.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فإن في الآية الكريمة دعوة لإحالة كل ما يرتبط بالجزاء والعقاب لله تعالى، وفيها رد على المكفرين الذين يسارعون إلى تكفير الناس والحكم بعذابهم من غير علم ولا بينة.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]؟

قال أحدهم: روي أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أبنوا إسرائيل أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه: اجدع أذنك، اجدع أنفك، افعل كذا، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبركم بخير من ذلك؟) فقرأ هذه الآيات.

قال الإمام: بورك فيك .. ولو أن الحديث الذي يخالف ما ورد في القرآن الكريم من

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 683)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/220)

كون الله تعالى غفارا لكل من استغفر، ومن جميع الأمم .. لكن للمغفرة شروط لا تتحقق من دونها، وقد نصت الآية الكريمة على أعظمها، وهو عدم العودة والإصرار.

ثم قال: بناء على هذا .. من يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (1): في هذه الآية الكريمة ذكر لصفة من صفات المؤمنين المسارعين إلى الخيرات، وهم أنهم {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]، وهي تتصل بعمق الصلة الروحية بالله، مما يجعل من الأخطاء الطارئة التي يفعلها الإنسان في معصيته لله، مجرد حدث عابر لا يمتد في حياته ولا يستمر، بل يتحول إلى ندم عميق يبعث في النفس حالة الخشوع التي تدفع إلى الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله، لأن الإصرار على الذنب لا يتناسب مع الإخلاص لله والسير على خطه المستقيم، فإن معناه الإيحائي يتمثل في اللامبالاة النفسية والعملية برضى الله وغضبه، مما يعني ضعفا في الإيمان، ونقصا في الروحية .. وقد أكدت الآية الكريمة بطريقة الجملة الاعتراضية، أن الله يغفر الذنوب التي يتوب منها الإنسان، بينما لا يواجه هذا الإنسان في حياته العامة مثل هذا الفيض السمح من المغفرة لدى الآخرين فيما إذا عاش بعض الأخطاء في حياته العامة أو الخاصة ..

قال آخر (2): والظاهر أن المراد بالفاحشة في الآية مطلق المعصية التي تمثل تجاوز الحد الذي يجب على الإنسان أن يقف عنده في علاقته بالله، ولا تختص بما كان مرتبطا بالعرض، لأن الآية واردة فيما هو أشمل من ذلك، كما أن ذلك هو المراد من ظلم الإنسان نفسه، فإن المعصية تمثل ظلما للنفس في ما تستتبعه من سلبيات في الحياة الدنيا وعقوبات في الآخرة ..

__________

(1)  من وحي القرآن (6/ 272)

(2)  من وحي القرآن (6/ 273)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/221)

قال آخر (1): وتشير الآية الكريمة إلى هؤلاء الذين يتصفون بتلك الصفات الواردة في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 133 - 135] والتي تمثل سعة الأفق ورحابة الصدر وعمق العاطفة الإنسانية، وعظمة الشعور بالمسؤولية وقوة الإرادة وامتداد الصلة الروحية في علاقتهم بالله وابتعادهم عن الإصرار على المعصية، وانسجامهم مع الخط العملي للطاعة {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]

قال الإمام: بورك فيكم، فمن يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت بعدما انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلوعليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوة لنا إلا بك، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر)، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، وثاب نفر من المسلمين رماة، فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم (2).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): في هذه الآية الكريمة حذر الله تعالى المسلمين من أن يعتريهم اليأس

__________

(1)  من وحي القرآن (6/ 273)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 121.

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 709)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/222)

والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، أو أن يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي، ذلك أنه لا يحسن بهم أن يشعروا بالوهن أو يتملكهم الحزن لما حدث، فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم كما يستفيدونها من الانتصارات وهم الذين يتعرفون في ضوء النكسات على نقاط الضعف في أنفسهم أو مخططاتهم، ويقفون على مصدر الخطأ والهزيمة، ويسعون لتحقيق النصر النهائي بالقضاء على تلك الثغرات والنواقص .. والوهن المذكور في الآية، هو ـ كما في اللغة ـ كل ضعف يصيب الجسم أو الروح أو يصيب الإرادة والإيمان.

قال آخر (1): وقوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] شعار غني بالمعاني، فهو يعني أن هزيمة المسلمين في أحد إنما كانت بسبب فقدانهم لروح الإيمان وآثارها، فلو أنهم لم يتجاهلوا أوامر الله تعالى لم يصبهم ما أصابهم، ولكن لا ينبغي أن يحزنوا مع ذلك، فإنهم إذا ثبتم على طريق الإيمان كان النصر النهائي حليفهم، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة دعوة إلى الاستعلاء الإيماني، والذي يعني الثبات والعزة .. لا التجبر والتكبر.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]؟

قال أحدهم: روي أنه لما انصرف رسول الله كئيبا حزينا يوم أحد، جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها مقتولين وهي تلتدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أهكذا يفعل برسولك؟) فأنزل

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 710)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/223)

الله تعالى الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في الآية الكريمة عزاء آخر للمؤمنين لما أصيبوا به فى أنفسهم، ولما أصيبوا به فى أهليهم .. وأنهم إن يكونوا قد أصيبوا اليوم بما يؤلم ويوجع، فقد أصابوا هم أعداءهم بما يؤلم ويوجع، ثم ليعلم المؤمنون من هذا أن طريقهم فى مسيرتهم مع الإسلام ليست كلها يوما واحدا كيوم بدر، بل إنهم سيغلبون ويغلبون، ويقتلون ويقتلون، ويصيبون ويصابون .. وهكذا الدنيا .. وتلك سنة الحياة فيها .. لا تدوم على وجه واحد، بل هى وجوه متقلبة متغيرة .. تقبل وتدبر، وتضحك وتبكى ..

قال آخر (3): وذلك هو الذي يعطى الحياة حيوية، وهو الذي يغري الناس بالسعي والعمل، لينتقلوا من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع .. ولو أخذ الناس بوضع ثابت مستقر ـ ولو كان ذلك فى أحسن حال، وأمكن وضع ـ لماتت فى أنفسهم نوازع التطلعات إلى المستقبل، ولخمدت فيهم جذوة الحماس للكفاح والنضال.

قال آخر (4): وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140] بيان لحكمة الله من هذا الابتلاء .. ففي هذا الابتلاء، وتحت وطأة القتال، ينكشف إيمان المؤمنين، ويعرف ما عندهم من صدق وبلاء .. فيكتب لهم ما كان فى علم الله، وما وقع منهم، وهو أنهم مؤمنون مجاهدون.

قال آخر (5): وفي قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140] إشارة كريمة إلى هذا المقام الكريم الذي يرتفع إليه الشهداء، وأنهم خيار المؤمنين، والمصطفين منهم،

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 124.

(2)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 602)

(3)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 603)

(4)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 603)

(5)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 603)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/224)

ولهذا اتخذهم الله شهداء .. إذ الاتخاذ أخذ عن اختبار واختيار.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فالآية الكريمة تسلية للمؤمنين في كل الأزمنة والأمكنة بأن صبرهم على البلاء الذي يصيبهم جراء نصرة الحق لن يضيع .. بل سينالون منه أعظم أنواع الثواب.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوقُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]؟

قال أحدهم: روي أنه لما كان يوم أحد انهزم الناس، فقال بعض الناس: قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم، فإنما هم إخوانكم، وقال بعضهم: إن كان محمد أصيب ألا ما تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به، فأنزل الله تعالى الآية في ذلك: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوقُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 144 ـ 148]؟ (1)

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في هذه الآية الكريمة تأكيد قرآني على أحد المبادئ الإسلامية

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 124.

(2)  من وحي القرآن (6/ 293)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/225)

الإيمانية، وهو أن غياب القيادة، مهما كانت عظيمة، لا يوقف المسيرة ولا يلغي الرسالة، لأن عظمة القائد في حساب الرسالات لا تجمدها عند حدود حياته لتنتهي بانتهاء حياته، بل تمثل ـ بدلا من ذلك ـ خطوة أولى نحو الانطلاقة المستمرة في الدرب الطويل، ومرحلة متقدمة من مراحل العمل، ثم تتبع الخطوة خطوات على الطريق، وتنطلق المراحل الجديدة على درب المرحلة القديمة.

قال آخر (1): ذلك أن الرسالة هي الأصل والقاعدة، والقيادات المتتابعة تمثل دور الحملة لها، فقيمتهم بمقدار ما يقدمون لها من خدمات وتضحيات، وعظمتهم بقدر ما يواجهونه من مواقف الصدق والإخلاص، الأمر الذي يلغي من المسيرة عبادة الشخصية التي توحي بأن الشخص هو الأساس والرسالة شأن من شؤونه وميزة من ميزاته، وليس الأمر بالعكس، كما هو منطق الرسالات.

قال آخر (2): ولهذا كان القرآن الكريم حاسما في معركة أحد عند ما تعرضت حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للخطر، وظن بعض الناس أنه قد مات، وصاح بعضهم: إن محمدا قد قتل، وحدثت البلبلة والارتباك وانكفأ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما بقي معه إلا قليل، وقال البعض: ليتنا نجد من يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان، وقال آخرون: لو كان محمد نبيا لم يقتل، ألحقوا بدينكم الأول، كما يروي المؤرخون ذلك وغيره، في الخط السلبي للقضية.

قال آخرصلى الله عليه وآله وسلم: أما في الخط الإيجابي الذي يمثل الثبات على الإسلام حتى في غياب الرسول القائد، فتمثله لنا القصة التي ينقلها المفسرون: أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال

__________

(1)  من وحي القرآن (6/ 293)

(2)  من وحي القرآن (6/ 294)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/226)

الأنصاري: (إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم)(1)

قال آخر: وفي رواية أخرى أن أنس بن النضر مر بعمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم فقال أنس: ما يجلسكم؟ قالوا: قد قتل محمد رسول الله، قال: (وما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله)، واستقبل القوم فقاتل حتى قتل (2).

قال آخر (3): وتقرر الآية الكريمة أن الذي ينقلب على عقبيه بعد موت الرسول بأن يكفر أو ينحرف عن الحق الذي بلغه الرسول وأوصى به، سوف يضر نفسه لأنه يسير بها في طريق الهلاك والدمار، ولن يضر الله شيئا، لأن رسالات الله لا تتوقف أو تتجمد عند كفر كافر أو انحراف منحرف مهما كان دوره، ومهما كانت درجته وطبقته، فإن المسيرة تبقى وتتقدم.

قال الإمام: بورك فيكم، وفي الآية الكريمة بيان لأصناف أتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتباع الرسل جميعا، وأن منهم الأقوياء الثابتون الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، وفيهم الضعفاء الذين قد يغيروا ويبدلوا لأوهى سبب، وقد حصل ما ورد في الآية الكريمة من النبوءة، كما حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبر .. بالإضافة إلى ذلك ففيها إشارة إلى أن الابتلاء الحقيقي للأمة سيبدأ بعد وفاة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151]؟

__________

(1)  تفسير الطبري، 4/ 150.

(2)  تفسير الطبري، 4/ 150.

(3)  من وحي القرآن (6/ 295)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/227)

قال أحدهم: روي أنه لما ارتحل أبوسفيان والمشركين يوم أحد متوجهين إلى مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنهم ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما عزموا، وأنزل الله تعالى هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي إنه سبحانه سيحكم المؤمنين فى أعدائهم الكافرين، ويلقي فى قلوبهم الرعب بسبب إشراكهم بالله أصناما ومعبودات لم يقم برهان من عقل ولا نقل على ما زعموا من ألوهيتها، وكونها واسطة بين الله وخلقه، وإنما قلدوا فى ذلك آباءهم الذين ضلوا من قبل، ومن ثم كانوا عرضة لاضطراب القلب، واتباع خطوات الوهم، فهم يعدون الوساوس أسبابا، والهواجس مؤثرات وعللا، ويرجون الخير مما لا يرجى منه الخير، ويخافون مما لا يخاف منه الضير.

قال آخر (3): وفى الآية إيماء إلى بطلان الشرك، وسوء أثره فى النفوس، إذ طبيعته تورث القلوب الرعب، باعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرا غيبيا وراء السنن الإلهية، والأسباب العادية، فالمشركون الذين جاهدوا الحق، وآثروا مقارعة الداعي ومن استجاب له بالسيف، بغيا وعدوانا يرتابون فيما هم فيه ويتزلزلون إذا شاهدوا الذين دعوهم ثابتين مطمئنين، ولا يزال ارتيابهم يزيد حتى تمتلئ قلوبهم رعبا.

قال آخر (4): وبعد أن بين أحوال هؤلاء المشركين فى الدنيا من وقوع الخوف والهلع فى قلوبهم، ذكر أحوالهم فى الآخرة فقال: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 124.

(2)  تفسير المراغي (4/ 96)

(3)  تفسير المراغي (4/ 97)

(4)  تفسير المراغي (4/ 97)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/228)

151] أي إن مسكنهم النار بسبب ظلمهم لأنفسهم بالكفر والجحود ومعاندة الحق ومقاومة أهله، وظلمهم للناس بسوء المعاملة.

قال الإمام: بورك فيكم، بالإضافة إلى ذلك ففيها بيان لعناية الله تعالى بعباده الصالحين وحمايته لهم .. وأن الرعب جند من جنود الله يحمي به الصادقين من عباده، ليردع به المعتدين عليهم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُوفَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]؟

قال أحدهم: روي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي ولقد وفى لكم ربكم بوعده الذي وعدكم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النصر على العدو حين تقتلونه قتلا ذريعا بتيسير الله ومعونته، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره .. {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152]، أي صدقكم الله وعده حتى ضعفتم فى الرأى والعمل، فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة، وتنازعتم، فقال بعضكم: ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون؟ وقال آخرون: لا نخالف أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعصيتم رسولكم

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 125.

(2)  تفسير المراغي (4/ 100)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/229)

وقائدكم بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه يحمون ظهور المقاتلة بنصح المشركين بالنبل، من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر والظفر، فصبرتم على الضراء ولم تصبروا على السراء .. وصفوة القول: إن الله نصركم على عدوكم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع وعصيان أمر قائدكم صلى الله عليه وآله وسلم، فانتهى النصر، لأن الله تعالى إنما وعدكم النصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة.

قال آخر (1): وفى قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] تنبيه إلى عظم المعصية، لأنه كان من حقهم حين رأوا إكرام الله لهم بإنجاز الوعد أن يمتنعوا عن عصيانه، فلما أقدموا عليه لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم .. {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران: 152] وهم الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى الشعب من أحد وذهبوا وراء الغنيمة .. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] وهم الذين ثبتوا من الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير وهم نحو عشرة وكان الرماة قبلا نحو خمسين، والذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم ثلاثون رجلا .. {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152] أي ثم كفكم عنهم حتى تحولت الحال من النصرة إلى ضدها، ليعاملكم معاملة من يمتحن، ليستبين أمركم وثباتكم على الإيمان.

قال آخر (2): والخلاصة: إن الله صدقكم وعده، فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حس واستئصال، ثم صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم، وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك، ليكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به، ويميز الصادقين من المنافقين .. {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152] بذلك التمحيص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم حتى صرتم كأنكم لم تفشلوا، وقد استبان أثر هذا العفو فيما بعد، كما حدث فى

__________

(1)  تفسير المراغي (4/ 101)

(2)  تفسير المراغي (4/ 101)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/230)

وقعة (حمراء الأسد) .. {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] أي والله ذو فضل وطول على أهل الإيمان به وبرسوله، فيعفو عن كثير مما يستوجبون به العقوبة من الذنوب، ولا يذرهم على ما هم عليه من تقصير يهبط بنفوس بعض، وضعف يلم بآخرين، بل يمحص ما فى صدورهم حتى يكونوا من المخلصين الطائعين المخبتين.

قال الإمام: بورك فيكم، بالإضافة إلى ذلك ففي الآية الكريمة دعوة للبحث عن أسباب الهزائم والانتكاسات؛ فالله أكرم من أن يتخلى عن عباده إلا إذا تخلوا هم عنه أو عما أمرهم به.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]؟

قال أحدهم: روي أنه فقدت قطيفة حمراء يوم بدر مما أصيب من المشركين، فقال أناس: لعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذها، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث طلائع، فغنم النبي صلى الله عليه وآله وسلم غنيمة وقسمها بين الناس ولم يقسم للطلائع شيئا، فلما قدمت الطلائع قالوا: قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت (2).

قال آخر: ومثله ما روي أنها نزلت حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أخذ شيئا فهوله)، وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم)، فأنزل الله تعالى هذه الآية (3).

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 125.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 126.

(3)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 126.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/231)

قال آخر: ومثله ما روي أن أشراف الناس استدعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخصصهم بشيء من الغنائم، فنزلت هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيكم .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في هذه الآية الكريمة رد على بعض التعللات الواهية التي تمسك بها بعض المقاتلين في غزوة أحد، ذلك أن بعض الرماة عندما أرادوا ترك مواقعهم الحساسة في الجبل لغرض جمع الغنائم، أمرهم قائدهم بالبقاء فيها، لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لن يحرمهم من الغنائم، ولكن تلك الجماعة الطامعة في حطام الدنيا اعتذرت لذلك بعذر يخفي حقيقتهم الواقعية، إذ قالوا: نخشى أن يتجاهلنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند تقسيم الغنائم فلا يقسم لنا، قالوا هذا وأقبلوا على جمع الغنائم تاركين مواقعهم التي كلفوا بحراستها فوقع ما وقع من عظائم الأمور وجلائل المصائب.

قال آخر (3): ولهذا رد الله تعالى على زعمهم وتصورهم هذا فقال: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] أي أنكم تصورتم وظننتم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخونكم، والحال أنه ليس لنبي أن يغل ويخون أحدا .. فالله سبحانه ينزه في هذه الآية الكريمة جميع الأنبياء والرسل من الخيانة، ويقول: إن هذا الأمر لا يصلح ـ أساسا ـ للأنبياء، ولا يتناسب أساسا مع مقامهم العظيم، ذلك أن الخيانة لا تتناسب مع النبوة، فإذا كان النبي خائنا لم يمكن الوثوق به في أداء الرسالة وتبليغ الأحكام الإلهية.

قال آخر (4): وغير خفي أن هذه الآية الكريمة تنفي عن الأنبياء عليهم السلام مطلق الخيانة سواء الخيانة في قسمة الغنائم أو حفظ أمانات الناس وودائعهم، أو أخذ الوحي

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 126.

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 758)

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 759)

(4)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 759)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/232)

وتبليغه للعباد .. ذلك أنه من المستحيل أن يثق أحد بأمانة النبي في الحفاظ على وحي الله، وتبليغه وأدائه، ثم يحتمل ـ والعياذ بالله ـ أن يخون النبي في غنائم الحرب، أو يقضي بما ليس بحق، ويحكم بما ليس بعدل، ويحرم أهلها منها من غير سبب.

قال آخر (1): والخيانة محظورة على كل أحد، نبيا كان أو غير نبي، ولكن حيث إن الكلام هنا يدور حول اعتذار تلك الجماعة المتمردة وتصوراتهم الخاطئة حول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لذلك ذكرت الآية الكريمة الأنبياء أولا، ثم عممت كما قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] أي أن كل من يخون سيأتي يوم القيامة وهو يحمل على كتفه وثيقة خيانته، أو يصحبه معه إلى المحشر، وهكذا يفتضح أمام الجميع، وتنكشف أوراقه وتعرف خيانته.

قال الإمام: بورك فيكم، وفيها دعوة إلى الثقة المطلقة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعصمته وأنه لا يقول ولا يفعل إلا ما أمر به .. وفيها بيان لعظم عناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كل أصناف الناس حتى من أتباعه.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت فيما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا في الجنة نرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا في الحرب)، فقال الله عز وجل: (أنا أبلغهم عنكم)، فأنزل الله تعالى الآية (2).

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (2/ 759)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 128.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/233)

قال آخر: ومثله ما روي أنها نزلت في أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أوسرور تحسروا وقالوا: نحن في نعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فأنزل الله تعالى الآية تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في الآية الكريمة تطمين للمؤمنين، وكبت وحسرة للكافرين والمنافقين .. وهي تذكر أن هؤلاء الذين قتلوا فى سبيل الله، قد استوفوا آجالهم فى الدنيا، ولم يذهب القتل بساعة من أعمارهم، فما قتل منهم قتيل إلا بعد أن انتهى أجله المقدور له عند الله .. ثم إن هؤلاء القتلى (شهداء) أي حضور، لم يغيبوا، ولم يصيروا إلى عالم الفناء والعدم، وإنما هم أحياء حياة باقية خالدة، لا يذوقون فيها الموت .. وهذا هو الذي يصير إليه كل من يموت من الناس. من مؤمنين وكافرين .. وهذا هو الذي يؤمن به المؤمنون بالله، فلا يرون فى الموت خاتمة الإنسان وانتهاء دوره فى الوجود، وإنما يرون الموت رحلة من عالم إلى عالم، ونقلة من دار إلى دار .. من دار الفناء والزوال إلى دار البقاء والخلود، ومن عالم التكليف والابتلاء، إلى عالم الحساب والجزاء.

قال آخر (3): ومن أجل هذا يستخف المؤمنون بالموت، ولا يكبر عليهم خطبه، لأنهم ينظرون إلى الحياة الخالدة بعده، ويعملون لها، ليسعدوا فيها، ولينعموا بنعيمها المعد لعباده الله الصالحين .. أما غير المؤمنين بالله، فإنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ولا يعتقدون أن وراء الحياة الدنيا حياة، وأنهم إذا ماتوا صاروا إلى تراب وعدم .. ولهذا يشتد حرصهم على الحياة، ويعظم جزعهم من الموت، إذ كان العدم ـ كما يتصورن ـ هو الذي ينتظرهم بعده ..

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 129.

(2)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 640)

(3)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 641)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/234)

فتتضاعف حسرتهم على من مات منهم، ويشتد حزنهم عليه، لأنهم ـ حسب معتقدهم ـ لا يلتقون به أبدا .. وهذه هى الحقيقة .. الأموات جميعا، ليسوا بأموات على الحقيقة، وإنما هم أحياء فى العالم الآخر ..

قال آخر (1): لكن القرآن الكريم لم يكشف هذه الحقيقة كلها، ولم يظهر منها إلا ما يملأ قلوب الكافرين والمنافقين حسرة وألما، وإلا ما يبعث فى قلوب المؤمنين العزاء والرضا، إذ ينظر هؤلاء وأولئك جميعا إلى قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فيجدون هؤلاء القتلى أحياء فى العالم العلوي، يرزقون من نعيمه، ويطعمون من طيباته: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]، فهؤلاء القتلى الذين ينظر إليهم المشركون والمنافقون نظر شماتة وتشف، على حين ينظر إليهم إخوانهم وأحبابهم نظرة حزن وأسى لهذه الميتة التي ماتوا عليها ـ هؤلاء القتلى قد أشرفوا على الدنيا من عليائهم، ينعمون بما أتاهم الله من فضله، وإنه لفضل عميم، يملأ القلوب بهجة ومسرة .. فيحزن لذلك المشركون والمنافقون، ويتعزى به، ويستبشر المؤمنون.

قال الإمام: بورك فيكم، بالإضافة إلى ذلك ففي الآية الكريمة ترغيب في الشهادة في سبيل الله لنصرة الحق والدفاع عنه، وإخبار بأن من انتصر للحق أعظم من أن يستطيع الأعداء قتله أو قتل الحق الذي حماه ودافع عنه ودعا إليه.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]؟

قال أحدهم: روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استنفر الناس بعد أحد حين انصرف المشركون، فاستجاب له سبعون رجلا، فطلبهم فلقي أبوسفيان عيرا من خزاعة، فقال لهم: إن لقيتم

__________

(1)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 641)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/235)

محمدا يطلبني فأخبروه أني في جمع كثير، فلقيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم عن أبي سفيان فقالوا: لقيناه في جمع كثير ونراك في قلة ولا نأمنه عليك، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يطلبه، فسبقه أبوسفيان، فدخل مكة، فأنزل الله تعالى الآية فيهم حتى بلغ {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]؟ (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): هذه الآية الكريمة تذكر الحالة النفسية القوية التي كان يعيشها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه ضد كل أساليب الانهزام الروحي التي كان الأعداء يحاولون أن يثيروها في عمق مشاعرهم، من أجل أن يهزموهم في الداخل قبل أن يعملوا على هزيمتهم في المعركة، وهي تنطلق في هذا الجو لتؤكد على قيمة الجانب الإيماني الذي يربط القوة بالله، في تأكيد هذا الموقف الصلب الذي لا يخاف ولا يستكين.

قال آخر (3): والقرح مفرد القروح، وهي حال خاصة تصيب الجرح، وقد جاءت على سبيل الكناية عن حالة الألم الناتج عن الهزيمة في ما كانوا يعيشه المؤمنون من مشاعر وإحساسات عميقة صعبة، فلم تهزمهم بل صمدوا للتحديات المستقبلية التي دعاهم الله ورسوله لمواجهتها، فاستجابوا للدعوة، لأنهم كانوا يشعرون بأن أعداء الرسالة لن يكتفوا بمعركة واحدة ضد الإسلام، ينتصرون أو ينهزمون فيها، بل هناك حرب مستمرة، ما دامت الرسالة تتقدم في خطواتها الثابتة إلى الأمام .. ولهذا كان الاستعداد النفسي للمسلمين مستمرا للدخول في المعركة الجديدة عند ما تنتهي المعركة السابقة.

قال آخر (4): وقد حفظ الله لهم هذا الموقف في خط التقوى وفي روح الإحسان،

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 130.

(2)  من وحي القرآن (6/ 388)

(3)  من وحي القرآن (6/ 388)

(4)  من وحي القرآن (6/ 389)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/236)

فأعطاهم الأجر العظيم الذي يوازي عظمة الروح والموقف: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172] وربما نستشعر من هذه الفقرة في الآية أن الله يعطي ثوابه للذين يتحركون في مواقفهم من مواقع التقوى والإحسان الكامنة في نفوسهم، المتحركة في أعمالهم المستقبلية في الخط المستقيم.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة وصف للصادقين من المؤمنين، وأن علامتهم الكبرى الثبات في وقت الشدائد، لأنه علامة اليقين.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت يوم أحد بعد القتل والجراحة، فبعدما انصرف المشركون أبوسفيان وأصحابه قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (ألا عصابة تشدد لأمر الله فتطلب عدوها فإنه أنكى للعدووأبعد للسمع)، فانطلق عصابة على ما يعلم الله من الجهد حتى إذا كانوا بذي الحليفة جعل الأعراب والناس يأتون عليهم، يقولون هذا أبوسفيان مائل بالناس، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُوفَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 ـ 174]؟ (1)

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال آخر (2): في هذه الآية الكريمة يبين الله تعالى إحدى العلائم الحية لاستقامة المؤمنين وثباتهم، فيقول: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] .. ثم بعد ذكر هذه الاستقامة الواضحة

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 131.

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 7)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/237)

وهذا الإيمان البارز يذكر الله تعالى نتيجة عملهم، فيقول: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 174]، وأي نعمة وأي فضل أعظم وأعلى من أن ينهزم الأعداء الخطرون أمامهم من دون أي صدام أو لقاء.

قال آخر (1): والفرق بين النعمة والفضل، هو أن النعمة هي الأجر بقدر الاستحقاق، والفضل هو النفع الزائد على قدر الإستحقاق .. وتأكيدا لهذا قال تعالى: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174] مضافا إلى أنهم {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]، فهو فضل عظيم ينتظر المؤمنين الحقيقيين، والمجاهدين الصادقين.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة وصف للصادقين الموقنين بنصر الله، والذين لا يتزعزعون مهما كانت قوة عدوهم، لأن أملهم في الله لا في قوتهم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت عندما قالت قريش: تزعم يا محمد أن من خالفك فهوفي النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهومن أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (2).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): يذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ليس من شأن الله تعالى، وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطا غير مميز

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 8)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 131.

(3)  في ظلال القرآن (1/ 525)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/238)

يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام .. فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دورا كونيا كبيرا، ولتحمل منهجا إلهيا عظيما، ولتنشئ في الأرض واقعا فريدا، ونظاما جديدا .. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل .. وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة.

قال آخر (1): وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة، وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر .. ومن ثم كان شأن الله تعالى أن يميز الخبيث من الطيب، ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة .. كذلك ما كان من شأن الله تعالى أن يطلع البشر على الغيب، الذي استأثر به، فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب، وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس مصمما على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار .. وهو مصمم هكذا بحكمة .. مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض، وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب، ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم، لأنه ليس معدا لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه، ويصل كيانه بكيان هذا الكون، وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها، ألا يحرك يدا ولا رجلا في عمارة الأرض، أو أن يظل قلقا مشغولا بهذه المصائر، بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض، من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه، ولا من مقتضى حكمته، ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب.

قال آخر (2): ولهذا يذكر الله تعالى أنه يميز الخبيث من الطيب، ويحقق شأنه وسنته في

__________

(1)  في ظلال القرآن (1/ 525)

(2)  في ظلال القرآن (1/ 525)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/239)

تطهير الصف المسلم، وتجريده من الغبش، وتمحيصه من النفاق، وإعداده للدور الكوني العظيم، الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به عن طريق الرسالة، وعن طريق الإيمان بها أو الكفر، وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة، وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد .. عن طريق هذا كله يتم شأن الله، وتتحقق سنته، ويميز الله الخبيث من الطيب، ويمحص القلوب، ويطهر النفوس .. ويكون من قدر الله ما يكون ..

قال آخر (1): وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله، وهي تتحقق في الحياة وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة .. وأمام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة، يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه، ويلوح لهم بفضل الله العظيم، الذي ينتظر المؤمنين .. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] .. فيكون هذا التوجيه وهذا الترغيب، بعد ذلك البيان وذلك الاطمئنان، خير خاتمة لاستعراض الأحداث في أحد والتعقيب على هذه الأحداث.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة بيان لسنة الله في اختبار من يزعمون لأنفسهم الإيمان، ليميز الصادقين منهم عن غيرهم، وأن ذلك سار في كل الأجيال وجميع الأمم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]

قال أحدهم: نزلت في الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف (2).

__________

(1)  في ظلال القرآن (1/ 526)

(2)  الدر المنثور في التفسير بالماثور (4/ 520)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/240)

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (1): في الآيات السابقة لهذه الآية الكريمة شجب الله تعالى التحاكم إلى حكام الجور، وفي هذه الآية يقول تعالى مؤكدا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، أي أننا بعثنا الأنبياء ليطاعوا بإذن الله وأمره ولا يخالفهم أحد، لأنهم كانوا رسل الله وسفراءه كما كانوا رؤساء الحكومة الإلهية أيضا، وعلى هذا يجب على الناس أن يطيعوهم من جهة بيان أحكام الله ومن جهة طريقة تطبيقها، ولا يكتفوا بمجرد ادعاء الإيمان.

قال آخر (2): ويستفاد من هذا أن الهدف من إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو إطاعة جميع الناس لهم، فإذا أساء بعض الناس استخدام حريتهم ولم يطيعوا الأنبياء كان اللوم متوجها إلى أنفسهم لا إلى أحد .. وبهذا تنفي الآية الكريمة عقيدة الجبريين الذين يقولون: الناس صنفان: صنف كلف بالطاعة من البدء، وصنف كلف بالمعصية من البدء.

قال آخر (3): كما أنه يستفاد من قوله تعالى: {بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] أن كل ما عند الأنبياء من الله .. أو بعبارة أخرى: إن وجوب طاعتهم ليس بالذات، بل هي ـ أيضا ـ بأمر الله ومن ناحيته.

قال آخر (4): ثم إنه سبحانه يترك باب التوبة والإنابة ـ عقيب تلك الآية ـ مفتوحا على العصاة والمذنبين، وعلى الذين يراجعون الطواغيت ويتحاكمون إليهم أو يرتكبون معصية بنحو من الأنحاء، فيقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، ونرى أن الآية الكريمة تقول بدل:

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 302)

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 302)

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 303)

(4)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 303)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/241)

(عصوا أمر الله وتحاكموا إلى الطاغوت): {إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 64] وفيها إشارة إلى أن فائدة الطاعة لأمر الله وأمر الرسول تعود إليكم أنفسكم، وإن مخالفة ذلك نوع من الظلم توقعونه على أنفسكم، لأنها تحطم حياتكم المادية، وتوجب تخلفكم وانحطاطكم من الناحية المعنوية.

قال آخر (1): وهذه الآية الكريمة تجيب ضمنا على كل الذين يعتبرون التوسل برسول الله أو بالصالحين نوعا من الشرك، لأن الآية تصرح بأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستشفاع به إلى الله، وطلب الإستغفار منه لمغفرة المعاصي، مؤثر وموجب لقبول التوبة وشمول الرحمة الإلهية، فلو كانت وساطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعاؤه للعصاة المتوسلين به، والاستشفاع به وطلب الإستغفار منه شركا، فكيف يمكن أن يأمر القرآن العصاة والمذنبين بمثل هذا الأمر؟

قال آخر (2): نعم، غاية ما في الباب أن على العصاة والمذنبين أنفسهم أن يتوبوا هم ويرجعوا عن طريق الخطأ، ثم يستفيدوا ـ لقبول توبتهم ـ من استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم .. ومن البديهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس من شأنه أن يغفر الذنوب، بل شأنه في المقام أن يطلب من الله المغفرة خاصة.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة دعوة للطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاستشفاع به إلى الله، وبيان لدور التواصل معه في غفران الله تعالى للعبد، وهو ليس مرتبطا بزمن دون زمن.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 303)

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 303)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/242)

وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]؟

قال أحدهم: روي أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا، وكان يهجوالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون ومنهم المشركون ومنهم اليهود، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستصلحهم كلهم، فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على ذلك (1).

قال آخر: ومثله ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركب على حمار، وأردف أسامة بن زيد وراءه وسار يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم وقف، فنزل ودعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا؟ ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجلسنا فإنا نحب ذلك، واستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم دابته وسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال له: (يا سعد ألم تسمع ما قال أبوحباب؟) ـ يريد عبد الله بن أبي قال: كذا وكذا ـ فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي نزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 134.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/243)

رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): بعد أن سلى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الآيات السابقة زاد فى تسليته بهذه الآية، وأبان له أنه كما لقى هو ومن معه من الكفار أذى يوم أحد، فسيلقون منهم أذى كثيرا بقدر ما يستطيعون من الإيذاء فى النفس أو فى المال، والمقصد من هذا الإخبار أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع حتى لا يشق عليهم البلاء عند نزوله بهم.

قال آخر (3): والابتلاء فى الأموال يكون بالبذل فى جميع وجوه البر التي ترفع شأن الأمة وتدفع عنها أعداءها وترد عنها المكاره وتدفع عنها غوائل الأمراض والأوبئة .. والابتلاء فى الأنفس يكون ببذلها فى الجهاد فى سبيل الله وبموت من تحب من الأهل والأصدقاء أو بالمدافعة عن الحق .. وفائدة الابتلاء تمييز الخبيث من الطيب، وفائدة الإخبار به أن نعرف السنن الإلهية ونهيئ أنفسنا لمقاومتها، فإن من تقع به المصيبة فجأة على غير انتظار يعظم عليه الأمر ويحيط به الغم حتى ليقتله فى بعض الأحايين، لكنه إذا استعد لها اضطلع بها وقوى على حملها .. وكذلك من تحدث له النعمة على غير توقع لها، فإنها قد تحدث له دهشة وتهيجا لا يطيقه.

قال آخر (4): ومن أنواع البلاء ما عبر عنه الله تعالى بقوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186]، وهذا سبيل آخر من الابتلاء فى الأنفس، وخصه بالذكر لأهميته أي إنكم ستسمعون إيذاء كثيرا من اليهود

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 135.

(2)  تفسير المراغي (4/ 153)

(3)  تفسير المراغي (4/ 154)

(4)  تفسير المراغي (4/ 154)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/244)

والنصارى والمشركين، ومن ذلك حديث الإفك، وتألب اليهود عليهم ونقض عهودهم ومحاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أجلاهم عن المدينة فأمن شرهم، واتفاق اليهود مع أحزاب المشركين وزحفهم على المدينة لاستئصال المسلمين، فقد حاصروهم وأوقعوا بهم شديد البلاء وضيقوا عليهم وفى ذلك يقول الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 ـ 11]

قال آخر (1): ثم قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] أي وإن تصبروا على ما سيحل بكم من البلاء فى أموالكم وأنفسكم، وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب والمشركين من الأذى وتتقوا ما يجب اتقاؤه، فإن ذلك الصبر والتقوى من معزومات الأمور أي الأمور التي ينبغى أن يعزمها كل أحد، لما فيه من كمال المزية والشرف.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة دعوة للمؤمنين، وخاصة الدعاة منهم، إلى الصبر والتحمل وعدم معاملة المخالفين بما يتناسب مع سلوكهم، حتى لا يكون ذلك سببا في نفورهم من الحق.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]؟

قال أحدهم: روي أن قريشا أتت اليهود فقالوا: ما جاءكم به موسى من الآيات؟ قالوا: عصاه، ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟ فقالوا: يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى؛ فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا

__________

(1)  تفسير المراغي (4/ 154)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/245)

الصفا ذهبا فأنزل الله الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في هذه الآية الكريمة بيان للمنهج الأصيل الذي يمكن للإنسان أن يكتشف به الحقيقة في وجود الله، وفي اللقاء به، وفي الشعور بعظمته التي تستولي على الفكر والقلب والشعور .. وأنه ليس الفلسفة في أسلوبها التحليلي الذي يغرق الإنسان معه في الآفاق التجريدية، وفي فرضياتها التي تقترب من الخيال أو تعيش معه .. وإنما في الفكر الذي يلاحق الظواهر الكونية في عملية تأمل وتدبر وتفكير، فليس للإنسان أن يحدق في كتب الفلسفة، بل عليه أن يحدق في كتاب الكون، ليفكر في خلق السماوات والأرض وما يتمثل فيهما من قوانين طبيعية تنظم لهما المسار، وتربطهما بالحكمة في كل الحركات والسكنات والدقائق التي تتعلق بهما، وليرصد حركة الليل والنهار، وكيف تختلف في الزيادة والنقصان حسب اختلاف الفصول والأزمنة، فيعرف أن هناك سرا عميقا وراء ذلك كله، فيكتشف أن هناك عقلا واسعا كاملا يخطط للكون ونظامه، وإرادة قوية فاعلة قادرة تسيطر عليه وتوجه حركته وتمسكه وتحفظه من الانهيار والضياع.

قال آخر (3): فذلك هو النهج الذي يمكن أن يكون آية للعقول التي تفكر في كل ما حولها ومن حولها، ولأصحابها الذين لا يتحركون في الحياة ولا يحكمون على الأشياء سلبا أو إيجابا إلا من خلالها؛ وبهذا يلتقي العلم والدين في وجود الله، وفي تكامل الإنسان من خلال هذا الوجود، على أساس النتائج التي يتوصل إليها في أبحاثه ودراساته، لأن الدين لا يدعو إلى الإيمان الأعمى ـ في ما يدعو إليه من إيمان ـ بل يعمل على خط الإيمان المنفتح

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 138.

(2)  من وحي القرآن (6/ 454)

(3)  من وحي القرآن (6/ 455)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/246)

الواعي المبني على التفكير والتحليل الدقيق.

قال آخر (1): وفي ضوء ذلك، نعرف احترام الإسلام للعقل في ما يريد له أن يقوم به من أدوار تتصل بالعقيدة الأساس فيه، فلو لا ثقته بالعقل في ما يحلل وما يستنتج لما اعتبره سمة الناس الذين يتحركون في اتجاه اكتشاف الحقيقة، ليوحي إليهم بأن عظمة الإنسان في عقله، كما أن عظمة العقل في حركته في معرفة الحق من دراسته الفطرية للكون الواسع من حوله، في ما يحيط به، وفيمن يحيطون به، فإذا كان العقل هو القاعدة الأساس في أصل العقيدة، فكيف يمكن أن ينسب إلى الدين انطلاقه من الخرافة والأسطورة والخيالات المثالية التي لا ترجع إلى قاعدة ولا تعود إلى محصل؟

قال آخر (2): إن أولي الألباب لا ينطلقون في عقائدهم إلا من خلال ألبابهم وعقولهم التي تلاحق الظاهرة الكونية في عملية حساب، كما تلاحق الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ربطها بأسبابها وأوضاعها، لتكون العقيدة محسوبة، كما يكون الواقع العملي محسوبا في مقدماته ونتائجه.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة دعوة للنظر في الكون للعبور منه إلى الله، ثم بعده إلى رسله وشرائعه، وفيها بيان أن ذلك لا يكون إلا لأصحاب العقول الراجحة التي تهتم باللباب، لا بالقشور.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوأُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]؟

__________

(1)  من وحي القرآن (6/ 455)

(2)  من وحي القرآن (6/ 455)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/247)

قال أحدهم: روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في الآية الكريمة يذكر الله تعالى أنه استجاب للمؤمنين دعاءهم، لصدقهم فى إيمانهم وذكرهم وتفكيرهم وتنزيههم لربهم وتصديقهم للرسل وشعورهم بالضعف والتقصير فى الشكر واحتياجهم إلى المغفرة .. وفيها إشارة إلى أن الاستجابة يمكن أن تكون بغير ما طلبوا، فقد سألوه غفران الذنوب وتكفير السيئات والوفاة مع الأبرار، فأجابهم بأن كل عامل سيوفى جزاء عمله، وفى ذلك تنبيه إلى أن العبرة فى النجاة من العذاب والفوز بحسن الثواب، إنما تكون بإحسان العمل والإخلاص فيه.

قال آخر (3): وفي الآية الكريمة تصريح بأن الذكر والأنثى متساويان عند الله فى الجزاء متى تساويا فى العمل حتى لا يغتر الرجل بقوته ورياسته على المرأة فيظن أنه أقرب إلى الله منها، وقد بين الله تعالى علة هذه المساواة بقوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25]، فالرجل مولود من المرأة، والمرأة مولودة من الرجل، فلا فرق بينهما فى البشرية ولا تفاضل إلا بالأعمال، وبذلك، فإن الآية الكريمة رفعت قدر النساء المسلمات فى أنفسهن وعند الرجال المسلمين.

قال آخر (4): بالإضافة إلى ذلك فإن هذا التشريع قد أصلح معاملة الرجل للمرأة واعترف لها بالكرامة، وأنكر تلك المعاملة القاسية التي كانت تعاملها بها بعض الأمم فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخرة لمصلحة الرجل، وبعضها يعدها غير أهل للتكاليف

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 138.

(2)  تفسير المراغي (4/ 165)

(3)  تفسير المراغي (4/ 166)

(4)  تفسير المراغي (4/ 166)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/248)

الدينية.

قال آخر (1): والآية الكريمة تشير إلى أن ما قد يفضل به الرجال النساء من العلم والعقل، وما قد يقومون به من الأعمال الدنيوية التي جرى عرف المجتمع على إسنادها إلى الرجال، وجعل حظ الرجل فى الإرث مثل حظ الأنثيين لأنه يتحمل نفقة امرأته، فلا دخل لشئ منه فى التفاضل عند الله بثواب وعقاب

قال آخر (2): ولذلك، فقد ربط الله الجزاء بالعمل، فقال: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 195]، وبذلك بين أن العمل الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات، ودخول الجنات، هو الهجرة من الوطن فى خدمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإخراج من الديار، بإلجاء الكافرين إياهم إلى الخروج والإيذاء فى سبيل الله والقتال والقتل وبذل المهجة لله عز وجل، كل أولئك يكفر الله به عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.

قال آخر (3): وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين هكذا، لينبهنا إلى أن نروز أنفسنا ونختبرها، فإن رأيناها تحتمل الأذى فى سبيل الله حتى القتل فلها الرضوان من ربها، وإلا فلنروضها حتى تصل إلى هذه المنزلة، والسر فى هذا التكليف الشاق أن الحق لا يقوى إلا إذا وجد من ينصره ويؤيده، ويقاوم الباطل وأعوانه، حتى تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الباطل هى السفلى، فيجب على أنصار الحق ألا يفشلوا ولا ينهزموا، بل يثبتوا مهما لاقوا من المحن والأرزاء، فقد كتب الله النصر لعباده المؤمنين.

__________

(1)  تفسير المراغي (4/ 166)

(2)  تفسير المراغي (4/ 166)

(3)  تفسير المراغي (4/ 167)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/249)

قال آخر (1): وقد وعد الله تعالى من فعل ذلك بمحو السيئات وغفران الذنوب {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [آل عمران: 195] وذلك ما طلبوه بقولهم {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193] .. وبإعطاء الثواب العظيم {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 195] وهذا ما طلبوه بقولهم: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] .. وبأن يكون هذا الثواب عظيما مقرونا بالتعظيم والإجلال {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأحقاف: 10] وهذا ما طلبوه بقولهم {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 194] والمعنى لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم الجنات ولأثيبنهم بذلك ثوابا من الله لا يقدر عليه غيره .. {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195] أي هو ثواب من عنده مختص به بحيث لا يقدر عليه غيره، وهذه الجملة تأكيد لشرف ذلك الثواب، لأنه تعالى قادر على كل شئ، غنى عن كل أحد، فهو لا محالة فى غاية الجود والكرم والإحسان.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، فالآية الكريمة تبين بأن كل ما في القرآن الكريم خطاب للرجال والنساء، وأن عدل الله ورحمته تأبيان التفريق بينهما، وأن ورود الخطاب بصيغة المذكر مراعاة للأساليب اللغوية، والتي تجعل المذكر شاملا للذكور والإناث، وتخص الإناث بضمائر خاصة بهن.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (اخرجوا فصلوا

__________

(1)  تفسير المراغي (4/ 167)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/250)

على أخ لكم مات بغير أرضكم)، فقالوا: ومن هو؟ فقال: (النجاشي)، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له وقال لأصحابه: (استغفروا له)، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): هذه الآية الكريمة ـ حسب ما يذهب إليه أكثر المفسرين ـ نزلت في مؤمني أهل الكتاب الذين تركوا العصبية العمياء، والتحقوا بصفوف المسلمين، وكانوا يشكلون عددا معتدا به من النصارى واليهود.

قال آخر (3): والآية الكريمة تبين أن القرآن الكريم إذا تطرق إلى أتباع الشرائع الأخرى لم ينظر إلى الجميع نظرة سواء، ولم يحسب لهم حسابا واحدا، ولم يتسم حديثه عنهم بصفة قومية أو حزبية، بل ينطلق في أحكامه من أسس اعتقادية ومبدئية، ولهذا ينتقد أعمالهم، وممارساتهم ولا يتناول بسوء قومياتهم أو أجناسهم، ولهذا لا ينسى فضل تلك القلة المؤمنة الصالحة منهم، والتي تميزت عن الأكثرية الساحقة بصلاحها وحسن عملها، ولا يتجاهل قيمتها ومكانتها.

قال آخر (4): والمقام الذي نحن فيه هو أحد تلك الموارد التي جاء فيها الكلام عن هذه القلة المؤمنة الصالحة التي استجابت لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخضعت للحق .. فهي بعد أن وبخت كثيرا من أهل الكتاب على كتمانهم لآيات الله، وطغيانهم وتمردهم في الآيات السابقة ذكرت هذه القلة المؤمنة، وبينت خمسا من صفاتها الممتازة هي: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [آل

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 139.

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 64)

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 65)

(4)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 65)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/251)

عمران: 199]، أي أنهم يؤمنون بالله عن طواعية وصدق .. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199]، أي يؤمنون بالقرآن .. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 199] أي إيمانهم بنبي الإسلام نابع في الحقيقة من إيمانهم بكتبهم السماوية الواقعية التي بشرت بهذا النبي ودعت إلى الإيمان به إذا ظهر، فهم في الحقيقة يؤمنون بكتبهم .. {خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران: 199] أي أنهم مسلمون لأمر الله وخاضعون لإرادته، وهذا التسليم والخضوع هو السبب الحقيقي لإيمانهم، وهو الذي فرق بينهم وبين العصبيات الحمقاء، وحررهم من التعنت والإستكبار تجاه منطق الحق .. {لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 199] أي أنهم ليسوا مثل بعض أحبار اليهود الذين يحرفون آيات الله حفاظا على مراكزهم وإبقاءا على حاكميتهم على أقوامهم وجماعاتهم، وصولا إلى بعض المكاسب المادية.

قال آخر (1): والإشارة إلى (الثمن القليل) في الآية للتلويح بما كان عليه أولئك الأحبار المحرفون للكلم من تفاهة الهمة، وضعف الطموح، وقصر النظر، وحقارة النفس .. هذا مضافا إلى أن كل أجر دون الأجر الإلهي حقير، وكل مكسب يحصل عليه الإنسان عوضا عن آيات الله فهو مكسب تافه ورخيص.

قال آخر (2): ثم ذكر الله تعالى جزاء هذه الطائفة من أهل الكتاب بسبب هذه الصفات الإنسانية العالية، فقال: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 199]، والتعبير هنا بلفظة (ربهم) إشارة إلى غاية لطفه سبحانه ومنتهى رحمته بهم، كما أنه إشارة أيضا إلى أن الله هو الذي يهديهم في هذه المسيرة الخيرة، وهو يتكفل بمساعدتهم، ويعينهم في هذا الطريق .. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199] فلا يتأخر عن إعطاء الصالحين المؤمنين أجرهم، كما لا يبطئ عن مجازاة المنحرفين والظالمين .. وهذه العبارة بشارة إلى الصالحين

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 66)

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 66)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/252)

المؤمنين، كما هي أيضا تحذير وتهديد للعصاة والمذنبين.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة دعوة للتعامل برفق مع أهل الأديان المختلفة، ليكون ذلك سببا في تأليف قلوبهم للحق، وخضوعهم واتباعهم له .. وفيما دعوة لعدم الحكم على مصير المخالفين، فالله أعلم بعباده، وهو الديان الذي يحكم بينهم فيما يختلفون فيه.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال، فمنعه عمه، فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من يوق شح نفسه ورجع به هكذا فإنه يحل داره)، يعني جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثبت الأجر وبقي الوزر) فقالوا: يا رسول الله، قد عرفنا أنه ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: (ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده)(1)

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): في الآية الكريمة إشارة إلى أن التطبيق العملي للتقوى بشقيها ـ تقوى الله، وتقوى ذوى الأرحام ـ يكون أكثر ما يكون ظهورا فى رعاية حقوق الضعفاء من ذوي الأرحام، وهم اليتامى، حيث يكون اليتم غالبا فى كفالة أحد أقاربه .. ولهذا كان أول اختبار عملى للتقوى التي دعا الله إليها فى مطلع السورة هو الدعوة إلى رعاية حقوق اليتامى، واتقاء

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 140.

(2)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 687)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/253)

الله فيهم، وفى أموالهم التي هى أمانة فى أيدى الأوصياء، كما أنهم هم أنفسهم أمانة فى ذمة هؤلاء الأوصياء .. فلا تبرأ ذمة الوصى حتى يؤدى تلك الأمانة على وجهها الذي أمر الله أن تؤدى عليه.

قال آخر (1): وقد خص الأمر الإلهى المال بالذكر، لأن أكثر ما تطمح إليه نفوس الأوصياء وتطمع فيه، هو المال، وما سواه فهو تبع له، فلو أن الوصى عف عن مال اليتيم، وراقب الله فيه، وبذل له من الجهد والرأى ما يبذل لماله هو، لا استقام أمره كله مع اليتيم، فبذل له من الحب والعطف، ما ينعش نفسه، ويطيب خاطره، ويعدل سلوكه .. والعكس صحيح، فإنه حين تمتد عين الوصى إلى مال اليتيم بالخيانة والغدر، فإنه لا يتحرج أبدا بعد هذا من أن يسوق البغض والكراهية لهذا اليتيم، وأن يسومه الخسف والهوان، وأن يرخى له الحبل فى طريق الضلال والفساد، حتى يخلى له الطريق لأكل ماله الذي استباح أكله، واستمرأه.

قال آخر (2): وفى قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] أمر قاطع بأداء أموال اليتامى إليهم سليمة كاملة، سواء كان اليتيم لا يزال صغيرا تحت كفالة الوصى، أو بلغ رشده واستحق أن يتولى أمر نفسه .. وعلى هذا، فليذكر الوصى دائما أن مال اليتيم هو مال اليتيم، وأنه أمانة فى يده، مطالب بأن يحاسب نفسه عليها فى كل يوم، وأن يدفعها إلى اليتيم عند أي طلب .. وهذا ما يجعله فى مراجعة ومحاسبة مع نفسه أبدا، غير منتظر هذا اليوم البعيد، الذي قد يمتد إلى سنين، حين يبلغ اليتيم رشده، ويحين وقت الحساب.

قال آخر: ثم قال تعالى: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2]، وفيها نهى بعد أمر .. وفى هذا النهى، وبالامتثال له، يتحقق الأمر، ويجئ الوفاء به على وجه مرضى سليم ..

__________

(1)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 688)

(2)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 688)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/254)

والخبيث، هو أكل مال اليتيم، وتضييع حقوقه، وإفساد مصالحه أو تفويتها، إهمالا وتقصيرا .. عن عمد أو غير عمد .. والطيب، هو رعاية مال اليتيم، وحسن القيام عليه، وتحرى أعدل الوجوه لإنمائه وتثميره، وتبدل الخبيث بالطيب، أن يسلك الوصى بمال اليتيم مسالك التضييع والإهمال، والاغتيال .. فيكون بذلك قد ترك الطيب الذي أمره الله به، وأخذ الخبيث الذي دعته نفسه إليه، ومال به هواه نحوه.

قال آخر (1): ثم قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، وهو بيان لبعض المداخل التي يتبدل الأوصياء فيها الخبيث بالطيب، فى شأن اليتامى الذين فى أيديهم، وذلك بأن يضيفوا أموال اليتامى إلى أموالهم، ويحسبوا أنها من بعض ما يملكون، دون أن يكون فى تقديرهم أن مال اليتيم لليتيم وحده، وأنهم أمناء عليه، حراس له .. {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]، والحوب هو الذنب والإثم .. والضمير فى (إنه) يعود إلى التصرف المعيب الذي يتصرفه الأوصياء فى أموال اليتامى، وإضافتها إلى أموالهم .. وذلك جور غاشم، وعدوان مبين.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة دعوة للورع، وخاصة عن أموال المستضعفين الذين لا يطيقون الدفاع عن أنفسهم، وشموله لكل النواحي، سواء الكمية منها أو النوعية.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في الرجل يكون له اليتيمة وهو وليها ولها مال وليس

__________

(1)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 689)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/255)

لها أحد يخاصم دونها، فلا ينكحها حبا لمالها، ويضربها ويسيء صحبتها، فقال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]؟ يقول: ما أحللت لكم ودع هذه (1).

قال آخر: ومثله ما روي أنهم كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء، ويتزوجون ما شاءوا، فربما عدلوا وربما لم يعدلوا، فلما سألوا عن اليتامى، فنزلت آية اليتامى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]، وأنزل الله تعالى أيضا: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَومَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]، يقول: كما خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن، فلا تزوجوا أكثر مما يمكنكم القيام بحقهن، لأن النساء كاليتامى في الضعف والعجز (2).

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (3): وردت هذه الآية الكريمة بعد الحث على حفظ أموال اليتامى من التلف وعدم التفريط فيها، وبملاحظة ما ذكر في سبب النزول يتضح تفسير هذه الآية والمراد منها، كما يتضح سر ذكر اليتامى مقرونا بالزواج، ويرتفع ما قد يتوهم من المنافاة بين تلك البداية، وهذه النهاية، فالبداية والنهاية كلتاهما تتعلقان بمسألة الزواج، غاية ما في الباب أن الآية الكريمة تقول: إذا لم يمكنكم الزواج باليتيمات ومعاشرتهن على أساس من العدل والقسط فالأفضل أن تتركوا الزواج بهن، وتتزوجوا بغيرهن من النساء تجنبا لظلم

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 142.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 142.

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 87)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/256)

اليتيمات والإجحاف بحقوقهن، والجور عليهن.

قال آخر (1): وبذلك يستفاد من الآية الكريمة ـ وإن اختلفت وجهات نظر المفسرين وكثرت أقوالهم وتعددت في المراد منها ـ هو ما ذكر في سبب النزول، وهو أن الخطاب موجه إلى أولياء اليتيمات اللاتي جاء الحث في الآية السابقة على حفظ أموالهن ضمن اليتامى، فهذه الآية تعليم آخر ووصية أخرى بهم، ولكنها هذه المرة تتعلق بمسألة الزواج باليتيمات، وإن على أوليائهن أن يعاملوهن في مسألة الزواج على أساس من العدل والقسط كما يعاملونهن في مسألة المال، فعليهم أن يراعوا في أمر الزواج مصلحة اليتيمة، وإلا فمن الأحسن أن يدعوا الزواج بهن، ويختاروا الأزواج من غيرهن من النساء.

قال آخر (2): وتعني (مثنى) في اللغة اثنتين اثنتين، و (ثلاث) ثلاثا ثلاثا، و (رباع) أربعا أربعا، وحيث أن الخطاب في هذه الآية موجه إلى المسلمين كافة، كان المعنى: إن عليكم أن تنصرفوا عن الزواج باليتيمات تجنبا من الجور عليهن، وأن تتزوجوا بالنساء اللاتي لا تسمح مكانتهن الاجتماعية والعائلية بأن تجوروا عليهن، وتظلموهن، ويجوز لكم أن تتزوجوا منهن باثنتين أو ثلاث أو أربع، غاية ما في الأمر حيث أن الخطاب هنا موجه إلى عامة المسلمين، وكافتهم عبر بالمثنى، والثلاث، والرباع إذ لا شك في أن تعدد الزوجات ـ بالشروط الخاصة ـ لا يشمل أكثر من أربع نساء.

قال آخر (3): ولابد من التنبيه إلى أن (الواو) هنا أتت بمعنى (أو)، فليس معنى هذه الجملة هو أنه يجوز لكم أن تتزوجوا باثنتين وثلاث وأربع ليكون المجموع تسع زوجات، لأن المراد لو كان هذا لوجب أن يذكر ذلك بصراحة فيقول: وانكحوا تسعا لا أن يذكره

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 88)

(2)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 89)

(3)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 90)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/257)

بهذه الصورة المتقطعة المبهمة .. هذا مضافا إلى أن حرمة الزواج بأكثر من أربع نسوة من ضروريات الفقه الإسلامي، وأحكامه القطعية المسلمة.

قال آخر (1): ثم إنه سبحانه عقب على ذلك بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] أي التزوج بأكثر من زوجة إنما يجوز إذا أمكن مراعاة العدالة الكاملة بينهن، أما إذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن، فاكتفوا بالزوجة الواحدة لكي لا تجوروا على أحد .. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] أي يجوز أن تقتصروا على الإماء اللاتي تملكونهن بدل الزوجة الثانية لأنهن أخف شروطا .. {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] أي أن هذا العمل ـ وهو الاقتصار على زوجة واحدة أو الاقتصار على الإماء وعدم التزوج بزوجة حرة ثانية ـ أحرى بأن يمنع من الظلم والجور، ويحفظكم من العدوان على الآخرين.

قال الإمام: بورك فيكم، وفي الآية الكريمة كذلك دعوة إلى مراعاة الرحمة والعدل في كل الشؤون، وخاصة فيما يتعلق بحقوق المستضعفين الذين لا يطيقون صد من يظلمهم، لأن الله تعالى سيكون معهم وينصرهم على من ظلمهم.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتا وهوصغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (2).

__________

(1)  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (3/ 90)

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 142.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/258)

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (1): في هذه الآية الكريمة تحديد للحدود التي يجب علينا الوقوف عندها في شأن اليتامى، فقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] أي اختبروهم في عقولهم وذلك من خلال التجربة الحية في ممارسة المعاملات المتعلقة بالمال تحت إشرافكم، لتتعرفوا مدى ما يملكونه من القابلية العملية في إدارة المال وملاحظة عناصر الربح والخسارة في حركته في الواقع .. {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] أي السن الذي يبلغون فيه البلوغ الطبيعي الذي يتحول فيه الإنسان من حالة الصبا إلى حالة النضج، بحيث يقدر فيه على النكاح الذي يملك فيه قابلية التناسل .. {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] وقدرة على إدارة أموالهم بحكمة وروية ودراية بحيث يملكون تنمية الأموال بالطريقة المتعارفة لدى الناس وذلك من خلال التجربة تحت نظارة الولي {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ليستقلوا بالتصرف فيه كأي إنسان مستقل في حياته لارتفاع الولاية عنه ببلوغه المرحلة الجسدية والعقلية التي يستطيع فيها التحرك المتوازن في شؤونه كلها، ولا بد من إحراز وصوله إلى هذا المستوى من الرشد لدفع ماله إليه.

قال آخر (2): ثم قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا} [النساء: 6] أي لا تتجاوزوا الحد الطبيعي المألوف في ما تأخذونه لأنفسكم من أموال اليتامى كأجرة على تفرغكم لإدارة أمورهم ورعاية أوضاعهم، فلا تأخذوا أكثر مما تستحقونه وتحتاجونه.

قال آخر: ويروى في هذا عن الإمام الباقر أنه سئل عن رجل بيده ماشية لابن أخ له يتيم في حجره ما يخلط، أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ فقال: (إن كان يليط حياضها ويقوم على

__________

(1)  من وحي القرآن (7/ 84)

(2)  من وحي القرآن (7/ 85)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/259)

هنائها ويرد نادتها، فليشرب من ألبانها غير مجهد للحلاب ولا مضر بالولد)(1)

قال آخر (2): ثم قال تعالى: {وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] أي مسارعة لكبرهم وبلوغهم ورشدهم حذرا من انقطاع هذه المنفعة عنهم فيستغلون ولايتهم عليهم لأكل مالهم بدون تحفظ، باعتبار ذلك الفرصة التي تفوتهم فتمنعهم من الاستغلال .. {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] ويمتنع عن أخذ المال من اليتيم كأجرة وتعويض عن جهده، فذلك ما تفترضه طبيعة المسؤولية الإنسانية في الولاية للأيتام لأنها تتحرك من موقع الرعاية لهم والحفظ لأموالهم، مما يستوجب العفة عنها ما دام في غنى عن ذلك، ليكون طلبه للأجر من الله أكثر من رغبته في الحصول على المال الذي يقابل جهده {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وذلك بدراسة الأجرة التي يستحقها في مقابل الجهد الذي يبذله في رعاية اليتيم لا سيما إذا كان متفرغا لذلك بحيث يحبس نفسه عليه، فإن له الحق في أخذ أجرة المثل، كما هو الحال في أي عامل مماثل في غير هذه الحالة.

قال آخر: ويروى في هذا عن الإمام الصادق أنه قال: (المعروف هو القوت، وإنما عنى الوصي أو القيم في أموالهم وما يصلحهم)(3)، وروي أنه قال في الآية الكريمة: (إنما ذلك إذا حبس نفسه عليهم في أموالهم فلم يتخذ لنفسه فليأكل بالمعروف من مالهم)(4)، وقال في تفسير الآية: (هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية ويشغل فيها نفسه فليأكل منه بالمعروف وليس ذلك له في الدنانير والدراهم التي عنده موضوعة)(5)

قال آخر (6): ثم قال تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] احتياطا لأنفسكم أيها الأولياء القائمون على شؤون الأيتام وأموالهم، حتى لا تقعوا تحت

__________

(1)  البحار: 72/ 268.

(2)  من وحي القرآن (7/ 86)

(3)  الكافي: 5/ 130.

(4)  البحار: 72/ 270.

(5)  البرهان في تفسير القرآن، 1/ 344 ..

(6)  من وحي القرآن (7/ 87)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/260)

تأثير الاتهامات الموجهة إليكم منهم أو من غيرهم إذا جحدوا استلامهم لها، وهذا التوجيه الإلهي يتحرك في خطين: خط لليتامى لتحصيل الاستيثاق لهم بتسلم أموالهم في حضور الشهود الموثوقين، بحيث يخضع حقهم للضوابط التوثيقية التي تثبت بها الحقوق لئلا يدعي الأولياء الدفع إليهم ـ زورا وبهتانا ـ بدون شهود، وخط للأولياء حتى لا يتهمهم اليتامى ـ بعد بلوغهم ـ بخيانة المال بادعاء أنهم لم يدفعوه إليهم، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] أي شاهدا ورقيبا، فهو الذي يجسد الوثيقة الكبرى، أو محاسبا، فاحذروا محاسبته في الآخرة كما تحذرون محاسبة اليتيم بعد البلوغ.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة دعوة إلى عدم إعطاء الأموال لمستحقيها ممن للمرء حق كفالتهم إلا بعد الاطمئنان على قدرتهم على إدارتها .. فالمال حق الأمة قبل أن يكون حقا لأفرادها .. وفيها ترخيص لتناول ما يضطر إليه المؤمن من تلك الأموال، وبحسب الضرورة.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوكَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان: هما ابنا عم الميت ووصياه، يقال لهما: سويد وعرفجة، فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته شيئا ولا بناته، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، إنما يورثون الرجال الكبار، وكانوا يقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وحاز الغنيمة، فجاءت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله: إن أوس بن ثابت مات وترك علي بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا

القرآن.. وتحريف الغالين (1/261)

حسنا وهوعند سويد وعرفجة لم يعطياني ولا بناته من المال شيئا وهن في حجري، ولا يطعماني ولا يسقياني ولا يرفعان لهن رأسا، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكي عدوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن)، فانصرفوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية (1).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (2): أي إذا كان لليتامى مال مما تركه لهم الوالدان والأقربون فهم فيه سواء، لا فرق بين الرجال والنساء، ولا فرق بين كونه كثيرا أو قليلا، وأتى بقوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] لبيان أنه حق معين مقطوع به ليس لأحد أن ينقص منه شيئا ولا أن يحابى فيه.

قال الإمام: بورك فيك، وفيها بيان لعدالة الله ورحمته بعباده، وأنها لا تفرق بين الرجال والنساء في كل الشؤون، بما فيها الشؤون المالية من الوصية والإرث وغيرها .. وفي سبب النزول إشارة إلى أن من يخالف ذلك يكون حاله كحال أهل الجاهلية.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]؟

قال أحدهم: روي أنها نزلت في رجل ولي مال ابن أخيه وهويتيم صغير، فأكله، فأنزل الله فيه هذه الآية (3).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

قال أحدهم (4): في هذه الآية الكريمة تحذير بعد نصح، وتهديد بعد عظة .. فمن لم

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 143.

(2)  تفسير المراغي (4/ 192)

(3)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 143.

(4)  التفسير القرآني للقرآن (2/ 708)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/262)

يفتح عينه على هذا الخطر، ويتجنب الهاوية التي بين يديه، فلا يلومن إلا نفسه .. فمال اليتيم هو نار تحرق كل من يمد إليه يدا خائنة، أو يدسه فى بطن شرهة، فمن أكل منه احترق به فى الدنيا، وصلى به عذاب جهنم فى الآخرة.

قال الإمام: بورك فيك، وفي الآية الكريمة تحذير من أكل أموال المستضعفين، وبيان لما تتحول إليه يوم القيامة عندما تتجسد كل الأعمال الصالحة والسيئة.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَودَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11]؟

قال أحدهم: روي عن جابر قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبوبكر في بني سلمة يمشيان، فوجدني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش علي منه فأفقت فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت الآية (1).

قال آخر: ومثله ما روي عن جابر قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بابنتين لها، فقالت: يا رسول الله هاتان بنتا ثابت بن قيس، أوقالت سعد بن الربيع، قتل معك يوم أحد، وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما، فلم يدع لهما مالا إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فوالله ما ينكحان أبدا إلا ولهما مال، فقال: (يقضي الله في ذلك)، فنزلت الآية (2).

قال الإمام: بورك فيكما .. فمن يذكر لي معناها؟

__________

(1)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 144.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 145.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/263)

قال أحدهم (1): هذه الآيات الكريمة تتضمن أصول علم الفرائض ـ أو علم الميراث ـ وقد ابتدأت بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وهذا الافتتاح يشير إلى الأصل الذي ترجع إليه هذه الفرائض، وإلى الجهة التي صدرت منها، كما يشير إلى أن الله أرحم بالناس من الوالدين بالأولاد، فإذا فرض لهم فإنما يفرض لهم ما هو خير مما يريده الوالدون بالأولاد .. وكلا المعنيين مرتبطان ومتكاملان .. أي إن الله هو الذي يوصي، وهو الذي يفرض، وهو الذي يقسم الميراث بين الناس، كما أنه هو الذي يوصي ويفرض في كل شيء، وكما أنه هو الذي يقسم الأرزاق جملة .. ومن عند الله ترد التنظيمات والشرائع والقوانين، وعن الله يتلقى الناس في أخص شؤون حياتهم ـ وهو توزيع أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم ـ وهذا هو الدين. فليس هناك دين للناس إذا لم يتلقوا في شؤون حياتهم كلها من الله وحده وليس هناك إسلام، إذا هم تلقوا في أي أمر من هذه الأمور ـ جل أو حقر ـ من مصدر آخر .. إنما يكون الشرك أو الكفر، وتكون الجاهلية التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس.

قال آخر (2): ومما يوصي به الله، ويفرضه، ويحكم به في حياة الناس ـ ومنه ما يتعلق بأخص شؤونهم، وهو قسمة أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم ـ لهو أبر بالناس وأنفع لهم، مما يقسمونه هم لأنفسهم، ويختارونه لذرياتهم .. فليس للناس أن يقولوا: إنما نختار لأنفسنا، وإنما نحن أعرف بمصالحنا .. فهذا ـ فوق أنه باطل ـ هو في الوقت ذاته توقح، وتبجح، وتعالم على الله، وادعاء لا يزعمه إلا متوقح جهول.

قال آخر (3): وليس في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ

__________

(1)  في ظلال القرآن (1/ 590)

(2)  في ظلال القرآن (1/ 590)

(3)  في ظلال القرآن (1/ 591)

القرآن.. وتحريف الغالين (1/264)

الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] محاباة لجنس على حساب جنس إنما الأمر أمر توازن وعدل، بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي: فالرجل يتزوج امرأة، ويكلف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كل حالة، وهي معه، وهي مطلقة منه .. أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط، وإما أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء، وليست مكلفة بنفقة للزوج ولا للأبناء في أي حال .. فالرجل مكلف ـ على الأقل ـ ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي، وفي النظام الاجتماعي الإسلامي .. ومن ثم يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم .. ويبدو كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى، وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسري لا تستقيم معها حياة.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآيات الكريمة بيان لأحكام الله المتعلقة بأموال الموتى (1)، وقسمتها بالعدل بين الورثة، ودعوة لتنفيذ الوصايا، ورد الحقوق.

ثم قال: من يذكر لي الآن سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]؟

قال أحدهم: روي أن أهل الجاهلية كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك (2).

قال الإمام: بورك فيك .. فمن يذكر لي معناها؟

__________

(1)  سنتعرض لتفاصيل أكثر تتعلق بها في المحل المناسب من السلسلة.

(2)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 146.

القرآن.. وتحريف الغالين (1/265)

قال أحدهم (1): في هذه الآية الكريمة حديث عن التشريع الذي يريد الإسلام من خلاله أن يحدد للرجل المؤمن حدود العلاقة الإنسانية الإسلامية، التي تربطه بالمرأة، في الجانب المادي من الالتزامات المالية في إطار الرابطة الزوجية وغيرها .. فلا يكون ضعف المرأة أساسا لحرمانها من حقها، ومبررا لاضطهادها في ما فرضه الله لها؛ فإن الإيمان يمنع المؤمن من الانطلاق في استغلال حالة القوة والضعف لحسابات النوازع الذاتية، ويدفعه إلى الوقوف مع خط العدل من دون مراعاة لأية حسابات أخرى، لتنمو الشخصية الإيمانية على أساس المبادئ والقيم الروحية الإلهية التي تحمي الإنسان من شهواته، وتحمي الآخرين الضعفاء من انحراف قوته .. وهذا هو السبيل القويم الذي يبني، من خلاله الإسلام، أسس الأمن الاجتماعي لدى الحاكم والمحكوم في حركة العلاقات الإنسانية، لأن الرادع الداخلي هو القوة الحقيقية التي يرتكز عليها الرادع الخارجي، في ما يخطط له الإسلام من وسائل الردع المتنوعة في القانون.

قال آخر (2): وقد استطاعت هذه التربية أن تتغلب على كثير من مظاهر الظلم الذي عاشته المرأة من قبل الرجل في حقوقها المادية والمعنوية من خلال ما درجت عليه تقاليد الجاهلية، من احتقار لها، واضطهاد لإنسانيتها، واعتبارها كمية مهملة ومتاعا رخيصا كبقية متاع البيت الذي ينتقل بالإرث من دون أن يملك لنفسه أية إرادة للقبول أو الرفض في شؤونه الخاصة .. وبدأ الإنسان المسلم ينظر إلى المرأة كإنسان سوي كامل، له حقوق وعليه واجبات، على أساس حدود الله في أوامره ونواهيه.

قال الإمام: بورك فيكم، وبذلك، ففي الآية الكريمة (3) دعوة إلى مراعاة حقوق

__________

(1)  من وحي القرآن (7/ 160)

(2)  من وحي القرآن (7/ 160)

(3)  أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 146.