الكتاب:القرآن والبيان الشافي ج2
الوصف: رواية حول لغة القرآن الكريم وخصائص نظمه وأسلوبه وكلماته
السلسلة: التنزيل والتأويل
المؤلف: أ. أ.د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الثانية، 1442 هـ
عدد الصفحات: 516
ISBN: 978-620-4-72144-6
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
يحاول هذا الكتاب أن يستوعب ويُلخص ـ من غير إخلال ـ كل ما ورد في التراث الإسلامي من البحوث المرتبطة بالبيان القرآني، مع تبسيطها وتيسيرها وإبعاد الحشو عنها والجمع بين المدارس المختلفة في ذلك، ليكون مقدمة أساسية لفهم القرآن الكريم، وتدبر معانيه، ولذلك جعلناه الجزء الثاني من هذه السلسلة، بعد الجزء الذي ذكرنا فيه البراهين الدالة على ربانية القرآن، وكونه كلاما إلهيا.
والسبب الذي جعلنا نعطي لهذا الجانب الريادة، قبل سائر البحوث والمعاني المرتبطة بالقرآن الكريم، يرجع إلى أمور منها أن المعارف المرتبطة بالبيان القرآني تعتبر مفاتيح أساسية للتعامل معه، وفهمه واستنباط الحقائق والقيم والمعارف المختلفة منه.
ومنها أن هذه المعارف لها دور كبير في تحقيق تذوق الأسلوب القرآني وجماله، وهو ما يجعل ما يطلق عليه [الإعجاز البياني] عاما لكل العصور، بل شاملا لكل الناس.
ومنها أن أكثر الإشكالات التي وقعت في التاريخ والتراث والواقع سببها سوء الفهم للغة القرآن الكريم وتعابيره؛ فكل الانحرافات التي طالت العقيدة في الله سببها عدم مراعاة ما ورد في اللغة العربية التي جاء بها القرآن الكريم من المجاز والاستعارة والكناية والمشاكلة ونحوها.. وهكذا في كل الجوانب الأخرى.
ومنها أن أكثر الإشكالات والشبهات التي يثيرها من يطلقون على أنفسهم لقب [الحداثيين] أو [التنويريين] أو [القرآنيين] مرتبطة بالتعامل الخاطئ مع اللغة القرآنية، حيث يحملونها أحيانا كثيرة ما لا تحتمل، ولذلك كان التعرف على البيان القرآني ضروريا لمواجهة هذه التحريفات.
القرآن.. والبيان الشافي (2/6)
هذا هو الجزء الثاني من كتاب [القرآن والبيان الشافي]، وهو يتضمن ما يلي:
الفصل الثالث: وتناولنا فيه ما يرتبط بما اعتمد القرآن الكريم من أساليب للتوضيح والتقريب والتصوير، وقد تناولنا فيه كل ما يذكر عادة في أبواب البيان، مع إضافة ما يذكر في الدراسات الحديثة، وخصوصا ما يتعلق منها بالتصوير الفني .. وقد قسمناه إلى أربعة مباحث كبرى، وهي كما يلي:
أولا ـ أسرار التشبيه والتمثيل: وتناولنا فيه خصائص التشبيه، وأغراض التشبيه، وأدوات التشبيه، وأمثال قرآنية.
ثانيا ـ أسرار المجاز والاستعارة، وتناولنا فيه أسرار المجاز، وأسرار الاستعارة.
ثالثا ـ أسرار الكناية والإشارة، وتناولنا فيه أسرار الكناية، وأسرار الإشارة.
رابعا ـ أسرار التصوير والتخييل، وتناولنا فيه الصورة القرآنية ومعرفة الكون، والصورة القرآنية ومعرفة الإنسان، والصورة القرآنية ومعرفة الحياة، والصورة القرآنية ومعرفة الواقع.
الفصل الرابع: وتناولنا فيه، ما يرتبط بالحسن والجمال والإبداع القرآني، وهو أطول الفصول، وأكثرها أمثلة، والغرض منه ليس تذوق الجمال القرآني فقط، وإنما تيسير فهمه؛ فالمحسنات البديعية القرآنية، ليست مجرد طلاء جميل، وإنما تختزن الكثير من المعاني التي لا يمكن تدبر القرآن الكريم من دون تحليلها وفهمها، وقد جمعنا فيه أيضا بين الدراسات القديمة والحديثة، لأنه لا تناقض بينها، كما يتوهم البعض، بل لكل محله وأهله.
وقد قسمناه إلى عشرة مباحث كبرى، وهي كما يلي:
القرآن.. والبيان الشافي (2/7)
أولا. معان غير مقصودة، وتناولنا فيه المشاكلة والمقابلة، والتورية والستر، والتهكم والسخرية، والتسليم الجدلي، والمدح والذم.
ثانيا. الالتفات والاعتراض، وتناولنا فيه أغراض الالتفات، وصيغ الالتفات.
ثالثا. الإيجاز والاختصار، وتناولنا فيه إيجاز القصر، وإيجاز الحذف، وحدف الحروف، وحذف الكلمات، وحذف الجمل.
رابعا. الإطناب والتفصيل، وتناولنا فيه الاعتراض، والاحتراس، والتذييل، والتتميم، والتعليل.
خامسا ـ التكرار والتثبيت، وتناولنا فيه تكرار الألفاظ، وتكرار المعاني.
سادسا ـ التناسب والانسجام، وتناولنا فيه التناسب والتلاؤم، والانسجام والتناسق.
سابعا ـ الجناس والطباق، وتناولنا فيه الجناس، والطباق.
ثامنا ـ النظم المعجز، وتناولنا فيه الألفاظ المختارة، والآيات المحكمة، والفواصل الجميلة، والسور الشريفة.
تاسعا ـ النغم والموسيقى، وتناولنا فيه شهادات مصطفى محمود، وسيد قطب، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد بن عبد الله دراز، وعلماء قدامى .. وشواهد كموسيقى الحروف القرآنية، وموسيقى الكلمات القرآنية، وموسيقى الجمل والمقاطع القرآنية.
عاشرا ـ الإبداع الشامل، وتناولنا فيه الإبداع والتذوق، والإبداع والشهود، والإبداع والإثارة.
القرآن.. والبيان الشافي (2/8)
ثالثا ـ القرآن .. والوضوح والتقريب
ما إن انتهى الحديث إلى هذا المحل، حتى وجدتني قد فارقت تلك الحديقة الجميلة، وأولئك المتسابقين الأذكياء، من غير أن أعرف قرار اللجنة والشيخ حول الفائز منهم.
وقد وجدت نفسي بدل ذلك في شارع مدينة حديثة، تحف بكل مظاهر الجمال والرفاه، وقد استغربت حين سمعت المارة يتحدثون بلغات أجنبية لا أعرفها، ولا أفهمها .. وقلت في نفسي: ويل لي لو أن معلم البيان كلفني بالحوار مع هؤلاء .. فأنى لي أن أفهمهم، أو يفهموني.
وبينما أنا كذلك، إذا برجل من المارة يقول لي بعربية فصيحة: لِم تقف في الشارع هكذا؟ .. أليس لديك أي عمل؟
قلت: الحمد لله .. لقد وجدت أخيرا من أفهمه ويفهمني ..
قال: كل من في هذه المدينة يفهمك وتفهمه ..
قلت: لكني وجدتهم جميعا يتحدثون بلغات أجنبية .. ولم أجد في حديثهم كلمة واحدة باللغة العربية.
قال: لكنك لم تحدثهم بالعربية ليحدثوك بها.
قلت: وأنى لي أن أعلم علمهم بالعربية ..
قال: هم بينهم وبين أنفسهم وأهليهم يتحدثون بلغاتهم .. ويدرسون العلوم المختلفة بها .. لكنهم مع ذلك يعرفون اللغة العربية، ويفهمونها، ويتقنون الحديث بها.
قلت: فكيف جمعوا بين اللغتين؟
قال: لقد سمعوا قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ
القرآن.. والبيان الشافي (2/9)
أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]؛ فعلموا أن هذا الاختلاف مقصود .. فلذلك لم يتخلوا عن لغاتهم التي ورثوها عن أجدادهم وأسلافهم .. خاصة وأنهم ورثوا معها الكثير من الآداب والعلوم.
قلت: هذا عن لغتهم .. وماذا عن اللغة العربية؟
قال: لقد سمعوا قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] .. فعلموا أنه لا يمكنهم أن يفهموا القرآن حق فهمه، أو يتلوه حق تلاوته، أو يتذوقوه حق تذوقه، ما لم يعرفوه بلغته التي نزل بها.
قلت: وعيت هذا .. لكني مع ذلك لا أزال محتارا في تواجدي في هذه المدينة .. فأنا في هذه الفترة تلميذ لمعلم البيان .. وقد كنت أتصور أني سأتنقل بين البدو وخيامهم، لا بين الحضر وشوارعهم.
قال: القرآن الكريم أكرم من أن يكون خاصا بالبدو أو بالحضر .. ورحمة الله أشمل من أن تخص جهة دون جهة .. وقد علّم الله الإنسان البيان، وهو ليس خاصا بجنس دون جنس، أو أرض دون أرض.
قلت: وعيت هذا .. لكني مع ذلك محتار أين أذهب .. فقد تعودت أن أجد من يأخذ بيدي.
قال: فقد وجدت من يأخذ بيدك.
قلت: أنت؟ .. فإلي أين؟
قال: إلى المعهد الذي يدرب طلبته على القدرة على التوضيح والتصوير والتقريب.
القرآن.. والبيان الشافي (2/10)
قلت: أظنني لا أحتاج إليه .. فقد كنت في مدارس عتيقة تعلمت منها كل أساليب الضبط والتدقيق.
قال: فرق كبير بين الضبط والتدقيق، والتوضيح والتقريب .. فقد يكون الكلام مضبوطا دقيقا، لكنه يفتقر إلى ما يصوره ويقربه ويوضحه ويحوله إلى مشهود ومرئي، وليس مجرد كلام مقروء أو مسموع.
قلت: أنا لا أرى فرقا بينهما.
قال: ألم تسمع قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]؟
قلت: بلى .. فما فيها مما نحن فيه؟
قال: أرأيت لو أنه بدلها قال: (لا تنفد كلمات الله أبدا) .. فهل تراها تختلف في نتيجتها عما ورد في الآية؟
قلت: لا .. هي تتفق معها تماما.
قال: فلم عدل القرآن الكريم عن ذلك، مع أنه أكثر اختصارا، وأوفر إيجازا، وأقل كلمات، وأسهل حفظا؟
قلت: الآية الكريمة تعطي صورة أكثر وضوحا وجلاء .. ذلك أن أكثر الناس قد لا يعون الحقائق المضبوطة المجردة، ما لم توضع لهم في قوالب حسية يرونها ويشاهدونها ..
قال: فأنت معي إذن في ضرورة احتواء البيان الشافي على ركن الوضوح والتقريب، كاحتوائه على ركن الدقة والضبط.
قلت: أجل .. وبورك فيك .. فقد ذكرتني بما كنت نسيته.
قال: لا عليك .. فهلم معي لنتتلمذ جميعا على حكماء التوضيح والتقريب .. فهم
القرآن.. والبيان الشافي (2/11)
أساتذتك وأساتذتي في هذا الركن.
قلت: أنا أعرف نفسي .. لكني لا أعرفك.
قال: أنا مثلك صاحب قلم وقراطيس .. وقد أفاض الله علي من فضله القدرة على تصوير الحقائق في قوالب القصص والروايات .. وفي قوالب الرسوم والصور .. وفي قوالب الأفلام والمسلسلات.
قلت: هنيئا لك كل هذه القدرات .. فكيف أتيحت لك؟
قال: لقد رزقني الله حب كتابه الكريم، وكلماته المقدسة .. وقد نذرت نفسي لها .. وعندما رحت أبحث عن الطريقة التي أبلغ بها كلمات ربي للجماهير المتعطشة له، وجدت أن أقرب طريق إلى ذلك هو هذه الفنون .. ذلك أن أكثر الناس لا يقرؤون الكتب العلمية البحتة مهما كانت قوتها، بينما يقبلون على ما صيغ منها في مثل تلك القوالب الفنية الجميلة.
قلت: فهل استفتيت من أجاز لك ذلك .. أم أنك أقدمت عليه بحسب ما بدا لك؟
قال: معاذ الله أن أقدم على أمر دون أن أعلم حكم الله فيه.
قلت: فمن استفتيت؟
قال: القرآن الكريم ..
قلت: القرآن الكريم؟
قال: أجل .. لقد وجدته يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، ويقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] .. ففهمت منها أن الله يدعونا إلى استعمال هذه الأساليب والوسائل، لأن أكثر العقول تميل إليها أكثر من ميلها للكلام العادي.
ما إن قال هذا حتى رأيت صورة لبناء ضخم على شكل مصحف كبير، وقد زين
القرآن.. والبيان الشافي (2/12)
بصور جميلة متحركة، وقد وضع أمام كل صورة ما يناسبها من آي القرآن الكريم وكلماته .. فسألت صاحبي عنها، فقال: هذا هو المعهد الذي حدثتك عنه .. وفيه أربعة أقسام .. يهتم كل قسم منها بنوع من أنواع الوضوح والتقريب.
دخلنا القسم الأول من معهد [الوضوح والتقريب]، وقد كتب على بابه [قسم التشبيه والتمثيل] .. وما إن دخلنا إلى أول قاعة من قاعاته، حتى قام الطلبة جميعا، وبكل أدب واحترام، وقد ظننت في البداية أنهم قاموا لأجلي، لكني وجدت صاحبي الذي قادني إلى القسم، يصعد المنصة، ويقول (1): أظن أنكم حضرتم جيدا ما طلبته منكم مما يتعلق بفن التشبيه وأسراره .. فلا يمكن أن ننتقل إلى غيره من الفنون ما لم نتقنه غاية الإتقان.
قال بعض الطلبة: أجل .. وقد علمت ـ من خلال بحثي فيه ـ أنه ركن أساسي من أركان التوضيح والتقريب .. لأنه الواسطة التي يوضح بها الفنان شعوره نحو شيء ما، حتى يصبح واضحا وضوحا وجدانيّا، وحتى يحس السامع بما أحس المتكلم به، فهو ليس دلالة مجردة، ولكنه دلالة فنية، ذلك أنك تقول: ذاك رجل لا ينتفع بعلمه، وليس فيما تقول سوى خبر مجرد عن شعورك نحو قبح هذا الرجل .. فإذا وصفته بما وصف القرآن الكريم به الذين لم يرتفعوا إلى مستوى كتبهم المقدسة؛ فقلت: إنه كالحمار يحمل أسفارا؛ فقد وصفت لنا شعورك نحوه، ودللت على احتقارك له، وسخريتك منه.
قال الأستاذ: فالغرض من التشبيه ـ حسب قولك ـ ليس قاصرا على التوضيح .. بل يتعداه إلى التأثير؟
__________
(1) استفدنا الكثير من المادة العلمية هنا من كتاب: من بلاغة القرآن، البدوي، (147)، وما بعدها، مع التصرف الذي عهدناه في هذه السلسلة.
القرآن.. والبيان الشافي (2/13)
قال الطالب: أجل .. ولذلك رأيت من خلال بحثي في الموضوع قصور ما اعتمده البعض فيه، حيث اكتفوا بالروابط العقلية بين المشبه والمشبه به .. وأغفلوا في كثير من الأحيان وقع الشيء على النفس، وشعورها به سرورا أو ألما، مع أن التشبيه في واقع الأمر ليس سوى إدراك ما بين أمرين من صلة في وقعهما على النفس .. أما تبطن الأمور، وإدراك الصلة التي يربطها العقل وحده فليس ذلك من التشبيه الفنى البليغ ..
ولهذا؛ فإن قيمة التشبيه ليست في نفاسة عناصره، بل بقدرته على التصوير والتأثير .. ولذلك رأيت أن أفضل تعريف للتشبيه هو لمح صلة بين أمرين من حيث وقعهما النفسى.
قال الأستاذ: ما رأيكم فيما يقول زميلكم، وهل توافقونه عليه؟
قال بعض الطلبة (1): أنا أوافقه في ذلك .. فبالتشبيه يوضح الفنان شعوره نحو شيء ما، حتى يصبح واضحا وضوحا وجدانيّا، وحتى يحس السامع بما أحس المتكلم به، فهو ليس دلالة مجردة، ولكنه دلالة فنية، ذلك أنك عندما تقول: ذاك رجل لا ينتفع بعلمه، فليس فيما تقول سوى خبر مجرد عن شعورك نحو قبح هذا الرجل؛ فإذا قلت إنه كالحمار يحمل أسفارا، فقد وصفت لنا شعورك نحوه، ودللت على احتقارك له وسخريتك منه.
قال آخر: وأنا أوافقه أيضا .. ولهذا لم تنسجم نفسي مع ما ذكره بعض علماء البيان من استحسانهم لقول الشاعر في المدح:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
فليس للمسك من أثر في النفس سوى ارتياحها رائحته الذكية، ولا يمر بالخاطر أبدا أنه بعض دم الغزال .. بل إن هذا الخاطر إذا مرّ بالنفس قلّل من قيمة المسك ومن التّلذذ به .. بالإضافة إلى أن تحول بعض دم الغزال إلى مسك ليس بظاهرة قريبة مألوفة، حتى تقرب إلى
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 146.
القرآن.. والبيان الشافي (2/14)
النفس ظاهرة تفوق الممدوح على الأنام، كما أن ظاهرة تحول الممدوح غير واضحة، ومن ذلك كله يبدو أن الرابط هنا مجرد رابط عقلي لا علاقة له بالنفس والوجدان.
قال آخر (1): ومثله أنا .. ولهذا رأيت أن الجامع بين المشبه والمشبه به في القرآن الكريم أعظم من أن يقتصر على الحس .. بل هو يشمل الحس والنفس معا .. بل إن للنفس النصيب الأكبر والحظ الأوفى.
ولهذا رأيت القرآن الكريم ـ حين يشبه محسوسا بمحسوس ـ يرمي أحيانا إلى رسم الصورة كما تحس بها النفس ..
قال الأستاذ: فهلا ضربت لنا أمثلة على ذلك.
قال الطالب (2): من الأمثلة على ذلك قوله تعالى في وصف سفينة نوح عليه السلام: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42]؛ فالجبال في هذا المشهد القرآني تصور للعين هذه الأمواج الضخمة، وتصور في الوقت نفسه، ما كان يحس به ركاب هذه السفينة وهم يشاهدون هذه الأمواج، من رهبة وجلال معا، كما يحس بهما من يقف أمام شامخ الجبال.
ومثله قوله تعالى، وهو يصف الجبال يوم القيامة: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] .. فالعهن المنفوش يصور أمامك منظر هذه الجبال، وقد صارت هشة لا تتماسك أجزاؤها، ويحمل إلى نفسك معنى خفتها ولينها.
ومثله قوله تعالى، وهو يصف القمر: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] .. فهذا القمر بهجة السماء وملك الليل، لا يزال يتنقل في منازله حتى يصبح بعد هذه الاستدارة المبهجة، وهذا الضوء الساطع الغامر، يبدد ظلمة الليل، ويحيل
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 147.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 147.
القرآن.. والبيان الشافي (2/15)
وحشته أنسا .. يصبح بعد هذا كله دقيقا نحيلا محدودبا لا تكاد العين تنتبه إليه، وكأنما هو في السماء كوكب تائه، لا أهمية له، ولا عناية بأمره، أو لا ترى في كلمة العرجون ووصفهما بالقديم ما يصور لك هيئة الهلال في آخر الشهر، ويحمل إلى نفسك ضآلة أمره معا.
ومثله قوله تعالى، وهو يصف نيران يوم القيامة: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 32 - 33]، فالقصر وهو الشجر الضخم، والجمال الصفر توحي إلى النفس بالضخامة والرهبة معا.
قال الأستاذ: فهل فيكم ـ طلبتي الأعزاء ـ من يضرب لي أمثلة أخرى، مثلما فعل زميلكم النجيب.
قام بعض الطلبة، وقال: أجل .. أستاذنا .. لقد رأيت مثلما رأى زميلي أن للتأثير النفسي دورا كبيرا في اختيار التشبيهات في القرآن الكريم .. ولكن ذلك لا يعزل في أحيان كثيرة اشتراك الطرفين في صفة محسوسة .. لكن مع مراعاة الجانب النفسي.
قال الأستاذ: فهلا ضربت لنا أمثلة على ذلك.
قال الطالب (1): من الأمثلة على ذلك أن القرآن الكريم شبه نساء الجنة، فقال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 56 - 58]، وقال: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 48 - 49]، وقال: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 22 - 23] .. فليس في الياقوت والمرجان واللؤلؤ المكنون لون فحسب، وإنما هو لون صاف حىّ فيه نقاء وهدوء، وهي أحجار كريمة تُصان ويحرص عليها، وللنساء نصيبهن من الصيانة والحرص، وهن يتخذن من تلك الحجارة زينتهن، فقربت بذلك الصلة واشتد الارتباط،
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 148.
القرآن.. والبيان الشافي (2/16)
أما الصلة التي تربطهن بالبيض المكنون، فضلا عن نقاء اللون، فهى هذا الرفق والحذر الذي يجب أن يعامل به كلاهما، أو لا ترى في هذا الكون أيضا صلة تجمع بينهما، وهكذا لا تجد الحس وحده هو الرابط والجامع، ولكن للنفس نصيب أي نصيب ..
وهكذا وجدت أن القرآن الكريم يوضح الأمور المعنوية بالصور المرئية المحسوسة، حيث تلقى عليها أشعة الضوء التي تغمرها فتصبح شديدة الأثر، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]؛ فهذا التشبيه يمثّل وهن ما اعتمد عليه المشركون من عبادتهم غير الله، وأنها لن تفيدهم أي فائدة، فهم يبذلون جهدا يظنونه مثمرا وهو لا يجدى .. وقد اختار العنكبوت ذلك الحيوان الذي يتعب نفسه في البناء، ويبذل جهده في التنظيم، وهو لا يبنى سوى أوهن البيوت وأضعفها، فقرن تلك الصورة المحسوسة إلى الأمر المعنوي، فزادته وضوحا وتأثيرا.
ومثل ذلك عندما يريد القرآن الكريم أن يحدثنا عن أعمال الكفرة، وأنها لا غناء فيها، ولا ثمرة ترجى منها، فهى كعدمها؛ فوجد في الرماد الدقيق، الذي لا تبقي عليه الريح العاصفة، صورة تبين ذلك المعنى أتم بيان وأوفاه، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18]
قال الأستاذ: على حسب ما سمعت منكم، لا يوجد في القرآن الكريم سوى هذين اللونين من التشبيه: تشبيه المحسوس بالمحسوس، وتشبيه المعقول بالمحسوس .. فهل هذا صحيح، أم أن هناك ألوانا أخرى؟
القرآن.. والبيان الشافي (2/17)
قام بعض الطلبة، وقال (1): هناك لون آخر .. يمكننا تسميته التشبيه الخيالي .. وله تأثيره النفسي الكبير .. وهو ما ورد في قوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 64 - 65]، والذي سمح بأن يكون المشبه به خياليّا، هو ما تراكم على الخيال بمرور الزمن من تصورات وأوهام رسمت في النفس صورة رؤوس الشياطين في هيئة بشعة مرعبة، وأخذت هذه الصورة يشتد رسوخها بمرور الزمن، ويقوى فعلها في النفس، حتى كأنها محسوسة ترى بالعين وتلمس باليد، فلما كانت هذه الصورة من القوة إلى هذا الحد ساغ وضعها في موضع التصوير والإيضاح .. ولا يستطيع أحد أن ينكر ما لهذه الصورة من تأثير بالغ في النفس.
ومثله ما ورد في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10]؛ ففي الخيال صورة قوية للجان، تمثله شديد الحركة التي لا تكاد تهدأ أو تستقر.
قال الأستاذ: جميل جدا كل ما ذكرتم، وهو يدل على ذوقكم الرفيع .. والآن اسمحوا لي أن أبدأ باختباركم وأسئلتكم .. وأول سؤال أريد اختباركم فيه عن التشبيه الوارد في قول الشاعر:
كأن آذريونها ... والشمس فيه كالية
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية
فما ترون عند مقارنتكم هذا التشبيه بما في القرآن الكريم من تشبيهات؟
قام بعض التلاميذ، وقال: الفرق واضح أستاذنا؛ فالتشبيه الذي ذكره الشاعر، لا يستطيع فهمه عامة الناس، بل لا يفهمه إلا من كان يعيش في مثل حياة الشاعر، وله من أدوات الترف مثل أدواته .. ولذلك لن يحدث فيهم أي تأثير .. بخلاف ما يذكره القرآن
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 149.
القرآن.. والبيان الشافي (2/18)
الكريم من تشبيهات؛ فهي كلها مستمدة من أشياء موجودة يراها جميع الناس، وبسهولة ويسر.
قال آخر (1): أجل أستاذنا .. فمن خصائص التشبيه في القرآن الكريم أنه يستمد عناصره من الطبيعة المحسوسة المعروفة .. وذلك هو سر خلوده، فهو باق ما بقيت هذه الطبيعة .. وهو سر عمومه للناس جميعا، يؤثر فيهم لأنهم يدركون عناصره، ويرونها قريبة منهم، وبين أيديهم، ولذلك لا تجد في القرآن الكريم تشبيها مصنوعا يدرك جماله فرد دون آخر، ويتأثر به إنسان دون إنسان.
قال الأستاذ: فهلا ضربتم لي أمثلة على ذلك.
قام بعض الطلبة، وقال: من الأمثلة على ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] .. فهذا التشبيه يعتمد السراب، وهو ظاهرة طبيعية يراها الناس جميعا، فيغرهم مرآها، ويمضون إلى السراب يظنونه ماء، فيسعون إليه، يريدون أن يطفئوا حرارة ظمئهم، ولكنهم لا يلبثون أن تملأ الخيبة قلوبهم، حينما يصلون إليه بعد جهد جهيد، فلا يجدون شيئا مما كانوا يؤمّلون، إنه يجد في هذا السراب صورة قوية توضح أعمال الكفرة، التي تظن أنها مجدية نافعة، وما هي بشيء.
قال آخر (2): من الأمثلة على ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74] .. فتشبيه قساة القلوب بالحجارة القاسية واضح جدا؛ فالقسوة عند ما تخطر بالذهن،
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 149.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 150.
القرآن.. والبيان الشافي (2/19)
يخطر إلى جوارها الحجارة الجاسية القاسية.
قال آخر (1): من الأمثلة على ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فإذا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فإذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا} [الأحزاب: 18 - 19] .. فالتشبيه يصور الخائف الفزع الجبان بالذي يعالج سكرات الموت، فتدور عينه حول عواده في نظرات شاردة تائهة.
قال آخر (2): من الأمثلة على ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] .. فهو تشبيه يصور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بدؤوا قلة ضعافا، ثمّ أخذوا في الكثرة والنماء، حتى اشتد ساعدهم، وقوى عضدهم، وصاروا قوة تملأ قلوب المؤمنين بهجة، وقلوب الكفار حقدا وغيظا .. بصورة الزرع وقد نبت ضئيلا ضعيفا، ثمّ لا يلبث ساقه أن يقوى، بما ينبت حوله من البراعم، فيشتد بها ساعده، ويغلظ، حتى يصبح بهجة الزارع وموضع إعجابه.
قال آخر (3): من الأمثلة على ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 19 - 20]،
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 150.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 151.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 151.
القرآن.. والبيان الشافي (2/20)
وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31] .. فهذا التشبيه يعتمد أعجاز النخل المنقعر المقتلع عن مغرسه، والهشيم الضعيف الذاوى ليرسم من خلاله صورة قريبة من صورة هؤلاء الصرعى، قد أرسلت عليهم ريح صرصر تنزعهم عن أماكنهم، فألقوا على الأرض مصرّعين هنا وهناك.
قال الأستاذ: جميل جدا كل ما ذكرتموه من الأمثلة .. وأنا أوافقكم تماما عليه .. فالقرآن الكريم يتخذ من الطبيعة التي يراها الناس جميعا ميدانا يقتبس منه صور تشبيهاته، من نباتها وحيوانها وجمادها ..
قام بعض الطلبة، وقال (1): أجل أستاذنا .. فمما اتخذ مشبَّها به من نبات الأرض العرجون، وأعجاز النخل والعصف المأكول، والشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة، والحبة تنبت سبع سنابل، وهشيم المحتظر، والزرع الذي أخرج شطأه.
قال آخر: ومما اتخذ مشبَّها به من حيوانها الإنسان في أحوال مختلفة، والعنكبوت والحمار، والكلب، والفراش، والجراد، والجمال، والأنعام.
قال آخر: ومما اتخذ مشبَّها به من جمادها العهن المنفوش، والصيب، والجبال، والحجارة، والرماد، والياقوت، والمرجان، والخشب.
قال آخر: ومع كل ذلك؛ فقد ورد تشبيه نور الله بمصباح، وصفه بأنه في زجاجة كأنها كوكب درىّ؛ هذا ولا يعكر ما ذكرتموه من استمداد القرآن الكريم عناصر التشبيه من الطبيعة، لأن المصباح باق ما بقي الإنسان في حاجة إلى نور يبدد به ظلام الليل .. وهومتاح لكل الناس مهما كانت أحوالهم.
قال الأستاذ: جميل جدا كل ما ذكرتموه .. وهو يدل على أن القرآن الكريم لا يعني
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 152.
القرآن.. والبيان الشافي (2/21)
بنفاسة المشبه به، وإنما يعني العناية كلها باقتراب الصورتين في النفس، وشدة وضوحها وتأثيرها .. والآن هل فيكم من وجد خاصية أخرى في التشبيهات القرآنية غير التي ذكرها زملاؤكم؟
قام بعض الطلبة، وقال (1): أجل .. لقد وجدت من خلال دراستي للتشبيهات القرآنية أنها ليست مجرد عناصر إضافيّة في الجملة تزينها، ولكنها جزء أساسي فيها، بحيث لا يتم المعنى من دونها .. ولذلك كان دورها أن تضع الفكرة في صورة واضحة مؤثرة ..
نعم، القرآن الكريم لا يمضي إلى التشبيه كأنما هو عمل مقصود لذاته، ولكن التشبيه يأتي ضرورة في الجملة، يتطلبه المعنى ليصبح واضحا قويّا ..
ومن الأمثلة على ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18]؛ ففكرة عدم سماع المنافقين للحق وأنهم لا ينطقون به، ولا ينظرون إلى الأدلة التي تهدي إليه، نقلها التشبيه في صورة قوية مؤثرة.
ومنها التشبيه الوارد في قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6]، ففيه تشبيه شدة الفزع والرهبة التي ألمت بهؤلاء الذين دعوا إلى الجهاد، فلم يدفعهم إيمانهم إليه في رضاء وتسليم، بل ملأ الخوف نفوسهم من أن يكون الموت مصيرهم، بذلك الذي يساق إلى الموت، وهو ينظر.
ومنها التشبيه الوارد في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129]، والذي يُفهم منه اضطراب المرأة وقلقها، وعدم استقرارها على حال، حتى لتصبح حياتها مليئة بالتعب والعناء.
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 153.
القرآن.. والبيان الشافي (2/22)
ومنها التشبيه الوارد في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ الله أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، والذي يدل على مدى حب المشركين لآلهتهم.
قال الأستاذ: جميل جدا ما ذكرت .. فللتشبيه في القرآن الكريم دور أساسي في توضيح الفكرة وتصويرها.
قال الطالب: لكني يا أستاذ توقفت في قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171] .. فهذا التشبيه ورد بعد أن اتضحت الفكرة نوع وضوح.
قال الأستاذ (1): أجل .. ولكن مع ذلك؛ فإنك إن تأملت أسلوب الآية الكريمة وجدت هذا التعبير أقوى من أن يقال: وإذ صار الجبل كأنه ظلة، لما في كلمة (نتق) من تصوير انتزاع الجبل من الأرض تصويرا يوحي إلى النفس بالرهبة والفزع، ولما في كلمة (فوقهم) من زيادة هذا التصوير المفزع وتأكيده في النفس، وذلك كله يمهد للتشبيه خير تمهيد، حتى إذا جاء مكن للصورة في النفس، ووطد من أركانها .. ومع ذلك ليس التشبيه في الآية عملا إضافيا، بل فيه إتمام المعنى وإكماله، فهو يوحي بالإحاطة بهم، وشمولهم، والقرب منهم قرب الظلة من المستظل بها، وفي ذلك ما يوحي بخوف سقوطه عليهم.
قام طالب آخر، وقال (2): لقد وجدت ـ أستاذنا الكريم ـ بالإضافة إلى ما ذكره زملائي من خصائص أن التشبيهات القرآنية تتميز بالدقة؛ فالقرآن الكريم يصف ويقيد حتى تصبح الصورة دقيقة واضحة أخاذة.
ومن الأمثلة على ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5] .. فقد يتراءى بادئ الرأي أنه يكفي في التشبيه أن يقال: مثلهم
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 154.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 153.
القرآن.. والبيان الشافي (2/23)
كمثل الحمار الذي لا يعقل، ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقا والتحاما، حين يقرن بين هؤلاء، وقد حملوا التوراة، فلم ينتفعوا بما فيها، وبين الحمار يحمل أسفار العلم ولا يدري مما ضمته شيئا، فتمام الصورتين يأتي من هذا القيد الذي جعل الصلة بينهما قوية وثيقة.
قال آخر (1): أجل .. ومثله التشبيه الوارد في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51] .. فربما بدا بادئ الرأي أنه يكفي في تصوير إعراضهم وصفهم بأنهم كالحمير، ولكنه في دقته لا يكتفي بذلك، فهو يريد أن يصور نفرتهم من الدعوة، وإسراعهم في إبعاد أنفسهم عنها، إسراعا يمضون فيه على غير هدى، فوصف الحمر بأنها مستنفرة تحمل نفسها على الهرب، وتحثها عليه، يزيد في هربها وفرارها أسد هصور يجري خلفها، فهي تتفرق في كل مكان، وتجري غير مهتدية في جريها .. فصورة هذه الحمر وهي تجد في هربها لا تلوي على شيء، تبغي الفرار من أسد يجري وراءها، تنقل صورة هؤلاء القوم معرضين عن التذكرة، فارين أمام الدعوة لا يلوون على شيء، سائرين على غير هدى .. وفوق ذلك ما تبعثه هذه الصورة من الهزء والسخرية بهم.
قال آخر (2): أجل .. ومثله التشبيه الوارد في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ} [المنافقون: 4]؛ فالآية الكريمة تصف المنافقين بكونهم كالخشب المُسَنَّدَةٌ .. فهي ليست خشبا قائمة في أشجارها لما قد يكون لها من جمال في ذلك الوضع، وليست موضوعة في جدار؛ لأنها حينئذ تؤدي عملا، وتشعر بمدى فائدتها، وليست متخذا منها أبواب ونوافذ، لما فيها من الحسن والزخرف والجمال، ولكنها خشب مسندة قد خلت من الجمال، وتوحي بالغفلة والاستسلام والبلاهة.
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 153.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 154.
القرآن.. والبيان الشافي (2/24)
قال آخر (1): أجل .. ولهذا لم يكتف القرآن الكريم بتشبيه الجبال يوم القيامة بالعهن، بل وصفها بالمنفوش، إذ قال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5]، وذلك مراعاة للدقة في تصوير هشاشة الجبال.
قال آخر: أجل .. ولهذا لم يكتف القرآن الكريم بتشبيه خروج الناس يوم القيامة بأنهم كالجراد، بل وصفه بالمنتشر، فقال: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7] حتى يكون دقيقا في تصوير هذه الجموع الحاشدة، خارجة من أجداثها منتشرة في كل مكان تملأ الأفق، ولا يتم هذا التصوير إلا بهذا الوصف الكاشف.
قال الأستاذ: جميل جدا كل ما ذكرتموه .. فهل هناك خواص أخرى غير ما ذكرتم.
قام بعض الطلبة، وقال (2): أجل .. لقد وجدت من خصائص التشبيه في القرآن الكريم المقدرة الفائقة في اختيار ألفاظه الدقيقة المصورة الموحية ..
ومن الأمثلة على ذلك أنه شبه بالجبال في موضعين، أولهما ما ورد في قوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42]، والثاني ما ورد في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32] .. وهنا نلاحظ أنه آثر كلمة الجبال عند الموج، لكونها توحي بالضخامة والجلال معا .. أما عند وصف السفن فقد آثر كلمة الأعلام ـ جمع علم بمعنى جبل ـ وسر إيثارها هو أن الكلمة المشتركة بين عدة معان تتداعى هذه المعاني عند ذكر هذه الكلمة، ولما كان من معاني العلم الراية التي تستخدم للزينة والتجميل، كان ذكر الأعلام محضرا إلى النفس هذا المعنى، إلى جانب إحضارها صورة الجبال، وكان إثارة هذا الخاطر ملحوظا عند ذكر السفن الجارية فوق البحر، تزين سطحه، فكأنما أريد الإشارة إلى جلالها وجمالها معا، وفي كلمة الأعلام وفاء بتأدية هذا المعنى أدق وفاء.
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 154.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 154.
القرآن.. والبيان الشافي (2/25)
قال آخر (1): أجل .. وقد اكتشفت نفس الشيء في تشبيه القرآن الكريم الموج، والذي ورد في موضعين، أولهما ما ورد في قوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42]، والثاني ما ورد في قوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32]، وسر هذا التنويع أن الهدف في الآية الأولى يرمي إلى تصوير الموج عاليا ضخما، مما تستطيع كلمة الجبال أن توحي به إلى النفس، أما الآية الثانية فتصف قوما يذكرون الله عند الشدة، وينسونه لدى الرخاء، ويصف موقفا من مواقفهم كانوا فيه خائفين مرتاعين، يركبون سفينة تتقاذفها الأمواج .. ألا ترون أن الموج يكون أشد إرهابا وأقوى تخويفا إذا هو ارتفع حتى ظلل الرؤوس، هنالك يملأ الخوف القلوب، وتذهل الرهبة النفوس، وتبلغ القلوب الحناجر، وفي تلك اللحظة يدعون الله مخلصين له الدين، فلما كان المقام مقام رهبة وخوف، كان وصف الموج بأنه كالظلل أدق في تصوير هذا المقام وأصدق.
قال آخر (2): أجل .. وقد اكتشفت نفس الشيء، حيث رأيت القرآن الكريم يؤثر كلمة {الْقَصْرِ} في قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات: 32] على الشجر الضخم؛ لأن الاشتراك في هذه الكلمة بين هذا المعنى، ومعنى البيت الضخم يثير المعنيين في النفس معا فتزيد الفكرة عن ضخامة الشرر رسوخا في النفس ..
قال آخر (3): أجل .. وقد اكتشفت نفس الشيء، حيث رأيت القرآن الكريم يؤثر {بُنْيانٌ} في قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] لما تثيره في النفس من معنى الالتحام والاتصال والاجتماع القوى، وهو ما لا يثار في النفس عند كلمة حائط أو جدار مثلا.
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 155.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 155.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 155.
القرآن.. والبيان الشافي (2/26)
قال آخر (1): أجل .. وقد اكتشفت نفس الشيء، حيث رأيت القرآن الكريم يؤثر كلمة {لِباسٌ}، في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] لما توحي به تلك الكلمة من شدة الاحتياج، كاحتياج المرء للباس يكون مصدر راحة، وعنوان زينة معا.
قال الأستاذ: أحسنتم جميعا .. فهل هناك خصائص أخرى للتشبيهات القرآنية، غير ما ذكرتم.
قام بعض الطلبة، وقال: لقد رأيت من خلال بحثي في التشبيهات القرآنية أن المشبَّه قد يكون واحدا، ويشبه بأمرين أو أكثر لمحا لصلة تربط بين هذا الأمر وما يشبهه، تثبيتا للفكرة في النفس .. أو لمحا لها من عدة زوايا.
قال الأستاذ: فهلا ضربت لنا أمثلة على ذلك.
قال الطالب (2): من ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 17 - 20]
فهو يصور حيرة المنافقين واضطراب أمرهم، بصورة الساري قد أوقد نارا تضيء طريقه، فعرف أين يمشى، ثمّ لم يلبث أن ذهب الضوء، وشمل المكان ظلام دامس، لا يدري السائر فيه أين يضع قدمه، ولا كيف يأخذ سبيله، فهو يتخبط ولا يمشي خطوة حتى
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 155.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 155.
القرآن.. والبيان الشافي (2/27)
يرتد خطوات .. ثم يربط هذه الصورة بصورة هذا السائر تحت صيّب من المطر قد صحبه ظلمات ورعد وبرق، أما الرعد فمتناه في الشدة إلى درجة أنه يود اتقاءه بوضع أصابعه إذا استطاع في أذنه، وأما البرق فيكاد يخطف البصر، وأما الظلمات المتراكمة فتحول بين السائر وبين الاهتداء إلى سواء السبيل.
قال آخر (1): ومثل ذلك التشبيهات الواردة في وصف أعمال الكافرين، ومنها ما ورد في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] .. فهذا التشبيه يصور أعمال الكافرين من جهة كونها لا أثر لها ولا نتيجة، فيرد إلى الذهن حينئذ هذا الرماد الدقيق الذي لا يقوى على البقاء أمام ريح شديدة لا تهدأ حتى تبدأ؛ لأنها في يوم عاصف .. فهذه الريح كفيلة بتبديد ذرّات هذا الغبار شذر مذر، وأنها لا تبقي عليه ولا تذر، وكذلك أعمال الكافرين، لا تلبث أن تهب عليها ريح الكفر، حتى تبددها ولا تبقي عليها.
ومن ناحية أخرى يصف هذه الأعمال بأنها تغر أصحابها فيظنونها نافعة لهم، مجدية عليهم، حتى إذا جاءوا يوم القيامة لم يجدوا شيئا .. ولهذا اختار السراب ممثلا لهذا الأمل المطمع، ذي النهاية المؤيسة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39]
ومن ناحية أخرى ينظر إليها من ناحية ما يلم بصاحبها من اضطراب وفزع، عند ما يجد آماله في أعماله قد انهارت، حيث تظلم الدنيا أمام عينيه ويتزلزل كيانه كهذا الذي اكتنفه الظلام في بحر قد تلاطمت أمواجه، وأطبقت ظلمة السحاب على ظلمة الأمواج؛ فيشعر
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 156.
القرآن.. والبيان الشافي (2/28)
بمصيره اليائس، وهلاكه المحتوم .. وهذه هي صورة هؤلاء الكفار عند ما يجيئون إلى أعمالهم، فلا يجدون لها ثوابا ولا نفعا، قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]
قال الأستاذ: بورك فيكم جميعا .. والآن حدثوني عما وجدتم في بحثكم عن أغراض التشبيه في القرآن الكريم.
قام بعض الطلبة، وقال (1): لقد وجدت من أهمها استخدامه في الترغيب والترهيب .. ومن أجل هذا كان للمنافقين والكافرين والمشركين نصيب وافر من التشبيه الذي يصور نفسياتهم، ويزيدها وضوحا .. كما يصور وقع الدعوة على قلوبهم، وما كانوا يقابلون به تلك الدعوة من النفور والإعراض.
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ الله تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 7 - 8]؛ فهذه الآيات الكريمة تصور حال المشركين الذين استمعوا إلى دعوة الداعى، فلم تثر فيهم رغبة في التفكير فيها، لمعرفة ما قد تنطوي عليه من صدق، وما قد يكون فيها من صواب، بل يحول بينهم وبين ذلك الكبر والأنفة، بالرجل لم يسمع عن الدعوة شيئا، ولم يطرق أذنه عنها نبأ، بل ما أشبههم بمن في أذنه صمم، فهو لا يسمع شيئا مما يدور حوله، وبمن أصيب بالبكم، فهو لا ينطق بصواب اهتدى إليه، وبمن أصيب بالعمى، فهو لا يرى الحق الواضح.
قال آخر (2): ومن الأمثلة على ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 156.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 157.
القرآن.. والبيان الشافي (2/29)
يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]؛ فهو يشبّه ما يشعرون به عندما يسمعون دعوة الحق فتضيق صدورهم بها، بالضيق الذي يشعر به الصاعد في جبل، فهو يجر نفسه ويلهث من التعب والعناء.
قال آخر (1): ومنها التشبيه الوارد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]؛ فهو يشبه هؤلاء الذين لا يستخدمون عقولهم فيما خلقت له، ولم تصغ آذانهم إصغاء من يسمع ليتدبر، بالأنعام؛ فهو يقرنهم بها، ويعقد بينهم وبينها وثيق الصلات .. وفي هذا التشبيه نلاحظ كيف مهد له التمهيد الصالح، فجعل لهم قلوبا لا يفقهون بها، وأعينا لا يبصرون بها، وآذانا لا يسمعون بها .. وهو ما يمهد للنفس أن تنزلهم منزلة البهائم.
قال آخر (2): ومنها التشبيه الوارد في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51]؛ فهو يصورهم، وقد جدوا في الهرب والنفرة من تلك الدعوة الجديدة بصورة الحمر الفارة من السباع.
قال آخر (3): ومنها التشبيه الوارد في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 - 176]؛ وهو تشبيه يليق
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 157.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 157.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 158.
القرآن.. والبيان الشافي (2/30)
بالذي آمن ثمّ كفر، وانسلخ عن الإيمان واتبع هواه، فقد عاش مثال الذلة والهوان، وقد وجد القرآن الكريم في الكلب شبها يبين عن خسته وحقارته، ومما يزيد في الصلة بين الاثنين أن هذا المنسلخ يظل غير مطمئن القلب، مزعزع العقيدة، مضطرب الفؤاد، سواء أدعوته إلى الإيمان، أم أهملت أمره، كالكلب يظل لاهثا، طردته وزجرته، أم تركته وأهملته.
قال آخر (1): ومنها التشبيه الوارد في قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14]، وهو تشبيه يصورهم بالذي يبسط كفه إلى الماء، يريد وهو على تلك الحال أن ينقل الماء إلى فيه، وما هو ببالغه.
قال آخر (2): ومنها التشبيه الوارد في قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] .. وهو يشبه صدقاتهم التي كان جديرا بها أن تثمر وتزهر، ويفيدوا منها، لكن ريح الشرك هبت عليها فأبادتها، كما تهب الريح الشديدة البرد بزرع كان ينتظر إثماره فأهلكته.
قال آخر (3): ومثلها طائفة من التشبيهات ترتبط بيوم القيامة، تصور أحداثها لتحدث تأثيرها النفسي الكبير، ومن الأمثلة على ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل: 77] .. وهو يشبه قدرة الله على أن يأتي بذلك اليوم، بأسرع مما يتصور المتصورون، بأسرع ما يراه الرائى، وهو لمح البصر.
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 157.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 158.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 158.
القرآن.. والبيان الشافي (2/31)
قال آخر (1): ومثله تشبيه المعاد بالمبدأ، كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] .. فهو يقرب أمر البعث إلى الأذهان بتوجيه النظر إلى بدء الإنسان، وأن هذا البعث صورة من هذا البدء.
قال آخر (2): ومثله ما ورد في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57] .. فهو يوجه النظر إلى السحاب الثّقال الذي يسوقه الله لبلد ميت، حتى إذا نزل ماؤه دبت الحياة في أوصال الأرض، فخرج الثمر منها يانعا، وهكذا يخلق الله الحياة في الموتى.
قال آخر: ومثله ما ورد في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ الله وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس: 45] .. فهو يذكّر بأنه إذا جاء يوم القيامة استيقظ الناس، وحينها يشعرون بأنهم لم يعيشوا في الدنيا إلا وقتا محدودا جدا، وهو يصور حالتهم النفسية حينذاك بصورة الألم للخسارة الشديدة التي منوا بها نتيجة تفريطهم في الاستعداد للآخرة.
قال آخر (3): وقد ورد ما هو قريب من هذا المعنى في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 42 - 46]
قال آخر (4): وهو يصور هؤلاء الذين قد بعثوا، خارجين من أجداثهم في كثرة لا تدرك العين مداها، ويرسمهم بصورة تدل على الغزارة والحركة والانبعاث، قال تعالى:
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 158.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 158.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 158.
(4) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 158.
القرآن.. والبيان الشافي (2/32)
{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 7 - 8]
قال آخر (1): ويصوّرهم ضعافا يتهافتون مسرعين إلى الداعي كي يحاسبهم، بصورة الفراش يسرع إلى الضوء، فيقول: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 1 - 4]
قال آخر (2): ويصوّر إسراعهم بالذين كانوا يسرعون في خطوهم، ليعبدوا أنصابا مقامة، وتماثيل منحوتة، كانوا متحمسين في عبادتها، يقبلون عليها في رغبة واشتياق، فيقول: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43]
قال آخر (3): ويصوّر المجرمين، وما سوف يجدونه يومئذ من ذلة وخزى، ويرسم وجوههم، وقد علتها الكآبة، فيقول: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ الله مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 27]
قال آخر (4):ويصوّر طعامهم بقوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ الله إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 42 - 46]، وقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] .. وهو تشبيه يثير في النفس خوفا وانزعاجا .. فهو يتكون من شجرة الزقوم التي يتناولونها فيحسون بنيران تحرق أمعاءهم؛ فكأنما طعموا نحاسا ذائبا أو زيتا ملتهبا، وإذا ما اشتد بهم الظمأ واستغاثوا قدمت إليهم مياه كالنحاس
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 159.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 159.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 159.
(4) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 159.
القرآن.. والبيان الشافي (2/33)
والزيت تشوي وجوههم.
قال آخر (1):ويصوّر آكل الربا يوم القيامة بصورة منفرة، فيقول: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]؛ وهي صورة ذلك الذي أصابه مس من الشيطان، فهو لا ينهض واقفا حتى يسقط، ولا يقوم إلّا ليقع.
قال آخر (2): وهكذا يصوّر القرآن الكريم يوم القيامة، وكيف تفقد الجبال تماسكها، وتصير {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5]، وتفقد السماء نظام جاذبيتها، فتنشق، ويصبح الجوّ ذا لون أحمر كالورد: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] .. وأما جهنم فضخامتها وقوة لهبها مما لا يستطيع العقل تصوره، ومما لا يمكن أن تقاس إليها تلك النيران التي نشاهدها في حياتنا .. فشررها ليس كهذا الشرر الذي يشبه الهباءة اليسيرة، وإنما هو شرر ضخم ضخامة غير معهودة، فهو مثل أشجار ضخمة تتهاوى، أو جمال صفر تتساقط: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 32 - 33] .. وأما الجنة ففي سعة لا يدرك العقل مداها، ولا يستطيع التعبير أن يحدها، أو يعرف منتهاها، ويأتي التشبيه ممدا في الخيال، كي يسبح ما يشاء أن يسبح، فيقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] .. وهكذا نرى التشبيه يعمل على تمثيل الغائب حتى يصبح حاضرا، ويقرب البعيد النائي حتى يصير قريبا دانيا.
قال آخر (3): وهكذا يصوّر القرآن الكريم فناء هذا العالم الذي نراه مزدهرا أمامنا، عامرا بألوان الجمال، فيخيل إلينا استمراره وخلوده، بالزرع يرتوى من الماء فيصبح بهيجا نضرا، يعجب رائيه، ولكنه لا يلبث أن يذبل ويصفر، ويصبح هشيما تذروه الرياح.
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 159.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 159.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 160.
القرآن.. والبيان الشافي (2/34)
وقد أوجز القرآن الكريم مرة في هذا التشبيه وأطنب في أخرى، ليستقر معناه في النفس، ويحدث أثره في القلب، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]، وقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]
قال آخر (1): وهكذا يصوّر القرآن الكريم الإنفاق بأجمل الصور وأكثرها تأثيرا في النفس، قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265] .. فلهذا التشبيه أثره في دفع النفس إلى بذل المال راضية مغتبطة، كما يغتبط من له جنة قد استقرت على مرتفع من الأرض، ترتوي بما هي في حاجة إليه من ماء المطر، وتترك ما زاد عن حاجتها، فلا يظل بها حتى يتلفها، كما يستقر في المنخفضات، فجاءت الجنة بثمرها مضاعفا.
قال آخر (2): ويشبه القرآن الكريم مضاعفة جزاء الحسنة بمضاعفة الثمرة، لهذا الذي يبذر حبة قمح، فتخرج عودا يحمل سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، قال تعالى:
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 160.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 160.
القرآن.. والبيان الشافي (2/35)
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]
قال آخر (1): ويشبه القرآن الكريم من لا يراعي في صدقته ما تقتضيه من الأخلاق والآداب بالحجر الصلد قد غطته قشرة رقيقة من التراب؛ فخاله الرائي صالحا للزرع والإنبات، ولكن وابل المطر لم يلبث أن أزال هذه القشرة فبدا الحجر على حقيقته، صلدا لا يستطيع أحد أن يجد فيه موضع خصب، ولا تربة صالحة للزراعة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] ..
انظروا كيف اختار الله تعالى كلمة {صَفْوَانٍ} لتمثل القلب الخالي من الشعور الإنساني النبيل، لكن الصدقة تغطيه بثوب رقيق حتى يخاله الرائي قلبا ينبض بحب الإنسانية، لكن الرياء والمن والأذى لا تلبث أن تزيل هذا الغشاء الرقيق، فيظهر القلب على حقيقته قاسيا صلبا لا يلين.
قال الأستاذ: بورك فيكم جميعا .. والآن حدثوني عما وجدتم في بحثكم عن أدوات التشبيه في القرآن الكريم.
قام بعض الطلبة، وقال (2): لقد وجدت من أهمها استخدامه الكاف، لا للتشبيه الفني الخالص، بل لإيقاع التساوي بين أمرين، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 160.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 161.
القرآن.. والبيان الشافي (2/36)
مُقِيمٌ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 68 - 69]، وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15 - 16]
ففي هذه الآيات الكريمة نرى موازنة بين الكفار المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين من سبقهم، ويبين لهم الوجوه التي يتفقون فيها معهم .. ويذكر ما أصاب سابقيهم، ثم يترك لهم فرصة التفكير ليصلوا بأنفسهم إلى ما ينتظرهم من العواقب .. وهي طريقة مؤثرة في النفس، حيث تضع لها شبيها، وتتركها تصل بنفسها إلى النتيجة في سكينة وهدوء، لا أن تقذف بها في وجهها، فربما تتمرد وتثور.
قال آخر (1): ومن الأمثلة على كاف التساوي قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء: 163]، وهو تشبيه يهدف إلى إزالة الغرابة عن نفوس السامعين، واستبعادهم نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فالقرآن الكريم يقرنه بمن لا يشكّون في رسالته، ليأنسوا بدعوة النبى صلى الله عليه وآله وسلم.
قال آخر (2): ومن الأمثلة على كاف التساوي قوله تعالى في معرض التهكم بالجاحدين: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94]
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 161.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 161.
القرآن.. والبيان الشافي (2/37)
قال آخر (1): ومثله في معرض الاستنكار، قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فإذا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] .. فسر الاستنكار هو تسوية عذاب الناس بعذاب الله.
قال آخر (2): وقد تأتي الكاف وسيلة للإيضاح، وتقوم هي وما بعدها مقام المثال للقاعدة، ولهذا دوره الكبير في التأثير والإقناع، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ الله شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 10 - 11]؛ فقد ضرب الله تعالى المثل بآل فرعون لأولئك الذين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا.
قال آخر (3): ومثل ذلك الكاف الواردة في قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]، وقوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110]
قال الأستاذ: فهل هناك أدوات أخرى للتشبيه غير الكاف؟
قام بعض الطلبة، وقال (4): أجل .. القرآن الكريم يستعمل {كَذَلِكَ} للتشبيه .. وقد وردت فيه في أكثر من مائة موضع دالة على التشبيه، وعلى غيره.
وهي تدل عليه عند ما يراد عقد الصلة بين أمرين، ولمح ما بينهما من ارتباط، وهنا يؤدي التشبيه دوره في إيضاح المعنى وتوطيده في النفس، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 161.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 162.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 162.
(4) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 162.
القرآن.. والبيان الشافي (2/38)
فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57] .. فقد استخدمت {كَذَلِكَ} هنا لبيان الصلة الوثيقة بين بعث الحياة في الموتى، وبين بعث الحياة في الأرض الميتة، حيث تنبت من كل الثمرات .. وهذا مما يشترك في رؤيته الجميع، حيث يرون أرضا ميتة لا حياة فيها، ثم لا يلبث السحاب الثقال أن يفرغ عليها مطره، فلا تلبث أن تزدهر وتخرج من كل زوج بهيج، وذلك مما يبعث في النفس الاطمئنان إلى حقيقة البعث، والإيمان بها، فلا جرم انعقد التشبيه بين البعثين، وزاد التشبيه الفكرة جلاء.
قال آخر (1): ومثل ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17 - 33] .. فهذا التشبيه يصور أصحاب هذه الجنة، وقد أقسموا أن يستأثروا بثمر جنتهم، وأن يجنوا ثمارها مبكرين في الصباح، ولم يدر بخلدهم الاستعانة بالله في عملهم، وبينما هم يستعجلون قدوم الصباح، ويحلمون بالثروة التي ستدرّها عليهم حديقتهم، طاف على تلك الجنة طائف أباد ثمرها وهم نائمون، وفي بكرة الصباح أسرع بعضهم ينادي بعضا أن الخير في البكور، فانطلقوا لا تكاد تسمع لأقدامهم وقعا، يتهامسون
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 163.
القرآن.. والبيان الشافي (2/39)
وهم يتحدثون، كي لا يسمع مسكين صوتهم، فيتبعهم، ولقد وصلوا إلى حديقتهم، واطمأنوا إلى أنهم سيقدرون على إحراز غلتها، ومنع المساكين منها فما راعهم إلا أن وجدوا أشجارهم بلا ثمار، وجنتهم جرداء مقفرة، هنالك ملأ الندم قلوبهم، وأخذ بعضهم يلوم بعضا، يتحسرون على أمل قد ضاع، وعلى ما اقترفوه من ظلم وطغيان .. فهذا العذاب الذي صار إليه هؤلاء القوم، عذاب من فقد أمله وقد كان قريبا من يده، وعذاب من يؤنبه ضميره على جرم اقترفه، وقد رأى جزاءه أمام عينيه، وهو عذاب نفسي أليم جدير بأن يكون مثالا ينذر به الله كل من يتصرف تصرف أصحاب هذه الجنة.
قال آخر (1): ومثل ذلك التشبيه الوارد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94]، وقوله: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74] .. وما على نسق هذه الآيات مما تعقد فيه الكاف صلة بين أمرين.
قال آخر (2): وقد تأتي {كَذَلِكَ} في كثير من الآيات بمعنى [مثل] في قولنا: (مثلك لا يكذب)، نقصد بذلك الشهادة بعدم الكذب لكونه ليس من صفاتك، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 265 - 266]، وهي تعني أن الله تعالى يبين الآيات بذلك
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 163.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 164.
القرآن.. والبيان الشافي (2/40)
البيان الجليّ الواضح المؤثر، لعله يثمر ثمرته فيدعو سامعيه إلى التفكير والتدبر
قال آخر (1): ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40]، فليس المراد هنا أن المجرمين يجزون جزاء يشبه الجزاء الموصوف في الآية الكريمة، وإنما يجزون هذا الجزاء نفسه، من غلق أبواب السماء في وجوههم وأنهم لا يدخلون الجنة أبدا.
قال آخر (2): ومثل ذلك قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]، فالمراد من ذلك أن الله يطبع على قلوب الكافرين ذلك الطبع الذي يحول بينهم وبين الإيمان بما كذبوا من قبل.
قال آخر (3): وقد تأتي {كَذلِكَ} لتحقيق المعنى وتثبيته، ولا يبدو فيها التشبيه، كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40]، وقوله: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 20 - 21]
قال آخر (4): وهي تفيد التحقيق وتأكيد الجملة، ويكثر ذلك عند ما يليها فعل ماض، كما في قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 122 - 123]،
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 164.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 164.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 164.
(4) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 165.
القرآن.. والبيان الشافي (2/41)
وقوله: {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 32 - 33]، وقوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103]، وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 28 - 30]
قال الأستاذ: بورك فيكم جميعا .. والآن دعونا ننتقل إلى فن آخر من فنون التوضيح والتقريب التي اعتمدها القرآن الكريم، وأثنى كثيرا على العاقلين لها، المفكرين فيها.
قام بعض الطلبة، وقال: لاشك أنك تقصد الأمثال، فهي التي قال عنها ربنا: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، وقال: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ الله الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25]، وقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]
قال آخر: وهي التي اتفق جميع العقلاء على أهميتها واعتبارها وتأثيرها، وقد قال بعضهم يذكر ذلك: (فهذه وأمثالها من الأمثال لتقريب المراد، وتفهيم المعنى، وإيصاله إلى ذهن السامع، وإحضاره في نفسه صورة المثال الذي مَثَّل به، فإنه قد يكون أقربَ إلى تَعقُّله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره؛ فإنَّ النفسَ تأنس بالنظائر والأشباه الأُنسَ التام، وتنفِرُ من الغُرْبة والوَحْدَة وعدم النظير؛ ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمرٌ لا يجحده أحد، ولا ينكره، وكلما ظهرتْ لها الأمثال ازْدَادَ المعنى ظهورًا، ووضوحًا، فالأمثالُ شواهدُ المعنى المراد، ومزكية
القرآن.. والبيان الشافي (2/42)
له، فهي: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]، وهي خاصة العقل ولبّه وثمرته) (1)
وقال آخر: (إنّ التمثيل ليس إلاّ إبراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهور، وتحلية المعقول بحلية المحسوس، وتصوير أوابد المعاني بهيئة المأنوس، لاستمالة الوهم واستنزاله عن معارضته للعقل، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفيّة، وفهم الدّقائق الأبيّة؛ كي يتابعه فيما يقتضيه، ويشايعه إلى ما لا يرتضيه، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية والكلمات النبوية، وذاعت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء .. فالتمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبىّ، وقمع سورة الجامح الأبي، كيف لا، وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، وإبرازها لها في معرض المحسوسات الجلية، وإبداء للمنكر في صورة المعروف، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف) (2)
قال الأستاذ: ما دمتم قد ذكرتم هذا؛ فاسمحوا لي أن أختبر عقلكم وفهمكم وتذكركم في هذه الجوانب .. وسأحدد أنا الطلبة الذين يجيبون (3).
أشار إلى بعض الطلبة، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ الله الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 425)
(2) هامش تفسير الفخر الرازي:1/ 156.
(3) استفدنا معظم الشروح الواردة هنا، والمتعلقة بالأمثال القرآنية من كتاب [إعلام الموقعين] في الفصل الذي خصصه بالأمثال، ثم طبع بعدها كتابا، لأنه أحسن ما كتب في الموضوع، وأيسره، وقد حذفنا منه كل المواضع التي ينتصر فيها ابن القيم لرؤيته العقدية المعروفة. أما ما كتب غيره من التفاصيل الكثيرة؛ فسنذكرها في المحال المناسبة لها، لأن الغرض هنا قاصر على فهم الأمثال القرآنية.
القرآن.. والبيان الشافي (2/43)
عَلِيمٌ} [النور: 35]
قال الطالب (1): النور المراد هنا هو النور الذي يغمر القلب، ويشرق على الضمير، فيهدي إلى سواء السبيل، ذلك أن القلب ليس في حاجة إلى أكثر من هذا المصباح، يلقي عليه ضوءه، فيهتدي إلى الحق، وأقوم السبل .. وفي اختيار هذا التشبيه إيحاء بحالة القلب وقد لفه ظلام الشك، فهو متردد قلق خائف، ثم لا يلبث نور اليقين أن يشرق عليه، فيجد الراحة والأمن والاستقرار، فهو كساري الليل يخبط في الظلام على غير هدى، حتى إذا أوى إلى بيته فوجد هذا المصباح في المشكاة، وجد الأمن سبيله إلى قلبه، واستقرت الطمأنينة في نفسه، وشعر بالسرور يغمر فؤاده .. ونرى الآية الكريمة تصف ضوء هذا المصباح وتتأنق في وصفه، بما يصور قوته وصفاءه، فهذا المصباح له زجاجة تكسب ضوءه قوة، تجعله يتلألأ كأنه كوكب له بريق الدر ولمعانه، أما زيت هذا المصباح فمن شجرة مباركة قد أخذت من الشمس بأوفى نصيب، فصفا لذلك زيتها حتى ليكاد يضيء ولو لم تمسسه نار .. وبذلك فإن هذا المصباح جدير أن يبدد ظلمة الليل، ومثله جدير أن يبدد ظلام الشك، ويمزق دجى الكفر والنفاق.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في حق المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 17 ـ 20]
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 150.
القرآن.. والبيان الشافي (2/44)
قال الطالب (1): ضرب الله تعالى في هذه الآيات الكريمة للمنافقين بحسب حالهم مَثَلين: مثلًا ناريًا، ومثلًا مائيًا، لما في النار والماء من الإضاءة والإشراق والحياة؛ فإن النار مادة النور، والماء مادة الحياة، وقد جعل الله الوحي الذي أنزله من السماء متضمنًا لحياة القلوب واستنارتها، ولهذا سماه روحًا ونورًا، وجعل قَابِلِيه أحياءَ في النور، ومن لم يرفع به رأسًا أمواتًا في الظلمات، وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي أنهم بمنزلة من استوقد نارًا لتضيء له وينتفع بها، وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاءوا به، وانتفعوا به، وآمنوا به، وخالطوا المسلمين، ولكن لما لم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفئ عنهم، وذهب الله بنورهم، ولم يقل بنارهم؛ فإن النار فيها الإضاءة والإحراق، فذهب الله بما فيها من الإضاءة، وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فهذا حال من أبصر ثم عَمي، وعَرف ثم أنكر، ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه، فهو لا يرجع إليه؛ ولهذا قال: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي، فشبههم بأصحاب صَيِّب ـ وهو المطر الذي يَصوب، أي ينزل من السماء ـ فيه ظلمات ورعد وبرق، فلضعف بصائرهم، وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق، فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق، فلضعفه وخوره جعل أصبعيه في أذنيه، وغمض عينيه خشية من صاعقة تصيبه.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في حق المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 270.
القرآن.. والبيان الشافي (2/45)
يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 18 ـ 20]
قال الطالب (1): الصيب هو المطر، وقد شبه الله تعالى به هدى السماء، الذي تلقاه الرسول من ربه، ليحيى به موات القلوب، كما يحيى المطر جديب الأرض .. وفى القرآن الكريم وعد ووعيد، وتكاليف وأعباء، كالعبادات، والجهاد فى سبيل الله، ومجاهدة النفس فى اجتناب المحرمات .. ثم هو مع هذا رحمة وشفاء .. وفى الغيث الذي ينزل من السماء ظلمات من السحب المتراكمة، ورعد وبرق .. ثم هو مع هذا نعمة وحياة .. كذلك كانت آيات القرآن الكريم حين تتنزل، تنخلع لها قلوب المنافقين، وتنفطر منها أفئدتهم، لما يتوقعون فيها من صواعق تدمدم عليهم، وتفضح مكنون صدورهم، بما يبيتون ما لا يرضى من القول، وما لا يحمد من العمل .. فإذا تلقى الرسول وحيا من ربه، وأعلنه فى أصحابه، اصطكت به أسماع المنافقين، ووجفت قلوبهم هلعا وفزع .. هذا هو حظهم من كتاب الله، وذلك مبلغ ما ينالهم من هذا الخير العظيم .. اضطراب، وذعر، وهم مقيم .. حذر الخزي والفضيحة، وذلك شأنهم تماما مع الغيث .. الناس، والحيوان، والنبات، وحتى الجماد .. يحيون بهذا الغيث، ويترقبون فى شوق ولهف مواقيت نزوله، دون أن يتأدى إليهم خوف أو قلق، مما يصحبه من ظلام ورعود، لأنهم يعلمون ما وراء هذه الرعود والبروق من رى وحياة، أما المنافقون، فشأنهم مع هذا الغيث كشأنهم مع كل خير .. يلتوون به، ويستقبلونه بنفوسهم المريضة، فلا يصيبهم منه إلا الشر، الذي يكمن فى كل خير تستقبله النفوس المريضة، وفى كل نعمة تقع فى يد السفهاء من الناس .. الرعود والصواعق، هى التي يستقبلها أولئك المنافقون من كل ما تحمل هذه الظاهرة الطبيعية، من خير ورحمة.
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 38).
القرآن.. والبيان الشافي (2/46)
قال الأستاذ: إذا كان المثل مرتبطا بالمنافقين، فلم ختم الله تعالى المثل بقوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19]؟
قال الطالب (1): في ذلك إشارة إلى دورة من دورات المنافقين، حيث انتهى بهم ترددهم بين الإيمان والكفر، إلى الكفر الغليظ .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137]، فالمنافقون هم كفار، وأكثر من كفار .. كفار ومنافقون معا .. وفريق آخر من المنافقين ما يزال أمرهم مرددا بين النفاق والكفر، وهؤلاء وإن ذهب الله بالنور الذي دخل عليهم من القرآن، حين خادعوا الله ورسوله ـ فإنهم لا يزالون على صلة بالإسلام والمسلمين، لم يتحولوا إلى الكفر تحولا صريحا، ولهذا فإن لمعات من ضوء الإسلام تطلع عليهم بين الحين والحين فتمسك بهم على طريق الإسلام وفى جماعة المسلمين، ثم تهجم عليهم ضلالاتهم، فتعمى عليهم السبل، وتتقطع بينهم وبين الإسلام المسالك، فإذاهم فى حيرة واضطراب .. وهكذا تترد أحوالهم بين الإيمان والكفر، إلى أن يموتوا على هذا النفاق .. {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20]
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]
قال الطالب (2): لما ضرب الله تعالى المثل بالذباب والعنكبوت تكلم قوم من المشركين وعابوا ذكره، فأنزل الله هذه الآية .. وقوله: {يَسْتَحْيِي} [البقرة: 26] من الحياء الذي
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (1/ 39).
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 62.
القرآن.. والبيان الشافي (2/47)
يصد الإنسان عن إبراز ما يضمره من الكلام، والله تعالى ينفي هذا المعنى عن نفسه .. وقوله: {يَضْرِبَ مَثَلًا} [البقرة: 26] أي يصف حال المشبه عن طريق حال المشبه به، وقوله: {فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]: أي فما فوقها في الضعف، يقال بأن فلانا يقترف جريمة لأجل دينار بل فوقه أي نصف دينار، فالمراد من الفوقية هو الفوقية في الضعف والحقارة، فلما كان الملاك في ضرب الأمثال كونه مفيدا فلا فرق بين صغير الأشياء وكبيرها .. وعلى كل تقدير فالآية بصدد بيان أن المِلاك في صحة التمثيل ليس صغر ما مثل به أو كبره، فلا التمثيل بالبعوضة عيب ولا التمثيل بالإبل والفيل كمال، وإنما الكمال أن يكون المثل مبينا لحقيقة وواقعة غفل عنها المخاطب، من دون فرق بين كون المثل صغيرا أو كبيرا.
قال الأستاذ: فلم ختم الله تعالى المثل بقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]
قال الطالب: المراد من ذلك أنه ليس إضلال الله تعالى هؤلاء إلا لفسقهم كما قال تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]، وليس هذا أمرا بعيدا لأن المواعظ الشافية لها تأثير معاكس في العقول المنتكسة، فالقلوب المستعدة تتأثر منها إيجابيا، والمنتكسة منها تتأثر سلبيا.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74]
قال الطالب (1): هذا المثل يشبه قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (14/ 879).
القرآن.. والبيان الشافي (2/48)
خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] .. فهذا القرآن لو أنزل على جبل، لخشع وتصدع من خشية الله .. ولكن هذا القرآن لم يتجه إلى الجبل، وإنما اتجه إلى الإنسان، ومع هذا فإن كثيرا من الناس لم يقع هذا القرآن منهم موقعه من الجبل الأصم لو نزل عليه، فلم يخشعوا له، ولم تلن قلوبهم به .. فهناك فى الناس قلوب قاسية، أشد قسوة من حجارة هذا الجبل، وكما أن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، وما يشقق فيخرج منه الماء، وما يهبط من خشية الله؛ فكذلك فى القلوب ما يفيض بالخير، فيكون أشبه بالنهر العظيم أو النبع الصافي يعيش فى خيره الناس، وكذلك فى القلوب ما يلين ويخشع لذكر الله، {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، فمن قرأ القرآن، أو استمع إليه، ولم يخشع قلبه له، ولم ينضح بقطرات من الخير والإحسان، ولم تبرق فى سمائه بروق الهدى والإيمان ـ فليعلم ـ إن كان منه أن يعلم ـ أنه دون بعض الأحجار، قبولا للخير، وتأثرا به.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]
قال الطالب (1): في هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى أن الابتلاء بالبأساء والضراء سنة إلهية جارية في الأمم كافة، ولا تختص بالأمة الإسلامية، فالتمحيص وتمييز المؤمن الصابر عن غير الصابر رهن الابتلاء، فلا يتمحض إيمان المسلم إلا إذا غربل بغربلة الامتحان ليخرج نقيا، ولا يترسخ الإيمان في قلبه إلا من خلال الصمود والثبات أمام
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 65.
القرآن.. والبيان الشافي (2/49)
أعاصير الفتن الهوجاء .. وفي الآية الكريمة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مما نالهم من المشركين وأمثالهم، لأن سماع أخبار الأمم الماضية يسهل الخطب عليهم، وأن البلية لا تختص بهم، بل تعم غيرهم أيضا، ولذلك قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} [البقرة: 214]، أي أظننتم وخلتم أيها المؤمنون {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 214]، أي أن تدخلوا الجنة ولما تبتلوا وتمتحنوا بمثل ما ابتليت به الأمم السالفة وامتحنوا به، فعليكم بالصبر والثبات كما صبر هؤلاء وثبتوا .. وعلى ضوء هذا فالمثل بمعنى الوصف، ذلك أن من معاني المثل الوصف، فقوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة: 214] أي (لما يأتكم وصف الذين خلوا من قبلكم) فلا يدخلون حظيرة الإيمان الكامل إلا أن يكون لهم وصف مثل وصف الذين واجهوا المصائب والفتن بصبر وثبات وعانوا الكثير من القلق والاضطراب، كما قال تعالى في حق المؤمنين: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11]، ففي خضم هذه الفتنة التي تنفد فيها طاقات البشر، فإذا بالرحمة تنزل عليهم من خلال دعاء الرسولصلى الله عليه وآله وسلم وصالح المؤمنين.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264]
قال الطالب (1): في هذه الآية الكريمة شبه الله تعالى أصحاب المن والأذى بالمرائي الذي لا يبتغي بعمله مرضاة الله تعالى، ولا يقصد به وجه الله، غير أن المان والمؤذي يقصد بعمله مرضاة الله، ثم يتبعها بما يبطله، والمرائي لا يقصد بأعماله وجه الله تعالى فيقع عمله
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 68.
القرآن.. والبيان الشافي (2/50)
باطلا من رأس، ولذلك صح تشبيههما بالمرائي مثل تشبيه الضعيف بالقوي .. وأما حقيقة التمثيل فتوضيحها بأرض صفوان ملساء عليها تراب ضئيل يخيل لأول وهلة أنها أرض نافعة صالحة للنبات، فأصابها مطر غزير جرف التراب عنها فتركها صلدة صلبة ملساء لا تصلح لشيء من الزرع، كما قال تعالى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 264]، فعمل المرائي له ظاهر جميل وباطن رديء، فالإنسان غير العارف بحقيقة نية العامل يتخيل أن عمله منتج، كما يتصور الإنسان الحجر الأملس الذي عليه تراب قليل أنه صالح للنبات، فعندما أصابه مطر غزير شديد الوقع ونفض التراب عن وجه الحجر تبين أنه حجر أملس لا يصلح للزراعة، فهكذا عمل المرائي إذا انكشفت الوقائع ورفعت الأستار تبين أن عمله رديء عقيم غير ناتج .. ثم إن عمل المان والمؤذي بعد الإنفاق أشبه بعمل المرائي.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]
قال الطالب (1): في هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى أن حال المرابين في الدنيا كالمتخبطين في أعمالهم بسبب الصرع والجنون، إذ أنهم لما فتنوا بحب المال واستعبدتهم زينته، ضريت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصودا لذاته، وتركوا لأجله جميع موارد الكسب الأخرى، فخرجت نفوسهم عن حد الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، وترى أكثر ذلك ظاهرا في حركاتهم وتقلبهم فى أعمالهم فالمولعون بأعمال البورصة والمغرمون بالقمار يزداد
__________
(1) تفسير المراغي (3/ 63).
القرآن.. والبيان الشافي (2/51)
فيهم النشاط والانهماك فى الأعمال، وترى فيهم خفة تعقبها حركات غير منتظمة .. وجمهور المفسرين على أن المراد بالقيام القيام من القبور حين البعث، وأن الله جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إياك والذنوب التي لا تغفر، الغلول ـ الخيانة في مغنم وغيره ـ فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط) (1)
قال الأستاذ: فما تقول فيما وردت إليه الإشارة في الآية الكريمة من كون التخبط معلولا لوطأة الشيطان مع أن بعض أهل العلم لا يصدقه؟
قال الطالب (2): العلم له حق الإثبات وليس له حق السلب، فالعلم وإن كشف أن الصرع نتيجة وجود اختلالات في الجهاز العصبي، وأما أنه ليس بعد ذلك من علة أخرى، فليس للعلم سلب ذلك؛ لأن أدواته قاصرة عن إفادة ذلك، فهو يعتمد على التجربة، والتجربة لا تنتج إلا في الأمور المحسوسة أو ما هو قريب منها، وأما عوالم المجردات كالأرواح والشياطين، فهي لم تنكشف أسرارها لنا حتى تؤكد على عدم تأثيرها في الصرع وغيره.
قال الأستاذ: فهل تعني أن الآية الكريمة تشير إلى أن سبب الصرع هو سكن الشيطان للإنسان، كما يزعم الرقاة؟
قال الطالب: معاذ الله أن أزعم ذلك .. لكن الشيطان له دور في ذلك التخبط من خلال الوسوسة، والتي قد تجعل المتأثر بها واقعا تحت سيطرته، وقد قال تعالى في ذلك: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (18/ 60)
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 74.
القرآن.. والبيان الشافي (2/52)
بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22]
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59 ـ 60]
قال الطالب (1): أي إن شأن عيسى عليه السلام وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سابق كشأن آدم عليه السلام في ذلك، ثم فسر هذا المثل وفصل ما أجمله فقال: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59] أي قدر أوضاعه وكون جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا لزجا .. وفي هذا توضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وقطع لشبه الخصوم، فإن إنكار خلق عيسى عليه السلام بلا أب مع الاعتراف بخلق آدم من غير أب ولا أم مما لا ينبغى أن يكون ولا يسلمه العقل .. {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] أي ثم أنشأه بشرا بنفخ الروح فيه كما جاء في قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] .. ثم أكد صدق هذا القصص فقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [آل عمران: 60] أي هذا الذي أنبأتك به من شأن عيسى ومريم عليهما السلام هو الحق، لا ما اعتقده النصارى في المسيح من أنه إله .. {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60] أي فلا تشكن في أمرهما بعد أن جاءك العلم اليقيني به.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]
قال الطالب (2): الآية الكريمة تشتمل على تشبيهين: الأول: تشبيه المؤمن بالميت
__________
(1) تفسير المراغي (3/ 173).
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 76.
القرآن.. والبيان الشافي (2/53)
المحيا الذي معه نور .. والثاني: تشبيه الكافر الفاقد للنور بالباقي في الظلمات .. والغرض منه أن المؤمن من قبيل التشبيه الأول دون الثاني .. أما التشبيه الأول فأشير إليه بقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122]، وأما التشبيه الثاني: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] .. أي أن مثل من هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل والمهتدي والضال، مثل من كان ميتا فأحياه الله وجعل له نورا يمشي به في الناس مستضيئا به، فيميز بعضه من بعض .. هذا هو مثل المؤمن، ولا يصح قياس المؤمن بالكافر، المتخبط في ظلمات الكفر كالمتحير الذي لا يهتدي إلى سبيل الرشاد.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 57 ـ 58]
قال الطالب (1): حاصل التشبيه: أنه تعالى ذكر في الآية الأولى بأنه يرسل الرياح مبشرة برحمته، فإذا حملت سحابا ثقالا بالماء ساقه تعالى إلى بلد ميت فتحيا به الأرض وتؤتي ثمراتها .. ثم ذكر الله تعالى في الآية الثانية أن هطول المطر وسقي الأرض جزء مما يتوقف عليه خروج النبات، وهناك شرط آخر وهو أن تكون الأرض خصبة صالحة للزراعة دونما إذا كانت خبيثة، هذا هو حال المشبه به .. وأما المشبه فهو أنه تعالى يشبه المؤمن بأرض طيبة تلين بالمطر ويحسن نباتها ويكثر ريعها، كما يشبه قلب الكافر بالأرض السبخة لا تنبت شيئا،
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 77.
القرآن.. والبيان الشافي (2/54)
فقلب المؤمن كالأرض الطيبة وقلب الكافر كالأرض السبخة.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 175 ـ 177]
قال الطالب (1): أي واتل على اليهود ومن هو مثلهم من الجاحدين ذلك النبأ العجيب، نبأ ذلك الذي آتيناه حجج التوحيد وأفهمناه أدلته حتى صار عالما بها فانسلخ منها وتركها وراءه ظهريا ولم يلتفت إليها ليهتدى بها، وفى التعبير بالانسلاخ إيماء إلى أنه كان متمكنا منها ظاهرا لا باطنا .. {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175]، أي أنه بعد أن انسلخ منها باختياره لحقه الشيطان فأدركه وتمكن من الوسوسة له، إذ لم يبق لديه من نور البصيرة ولا أمارات الهداية ما يحول بينه وبين قبول وسوسته وسلوك فهمه، فصار من الضالين المفسدين .. وفى الآية الكريمة عبرة وموعظة للمؤمنين وتحذير لهم من اتباع أهوائهم حتى لا ينزلقوا فى مثل تلك الهوة التي انزلق إليها صاحب المثل بحبه للدنيا وركونه إلى شهواتها ولذاتها.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ
__________
(1) تفسير المراغي (9/ 107).
القرآن.. والبيان الشافي (2/55)
يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 107 ـ 109]
قال الطالب (1): الآية الكريمة تشير إلى الفرق الشاسع بين من بنى بنيانا على أساس محكم، ومن بناه على شفا جرف، فالأول يبقى عبر العصور ويحتفظ بكيانه في الحوادث المدمرة، بخلاف الثاني فإنه سوف ينهار لا محالة بأدنى ضربة .. فالمؤمن هو الذي يعقد إيمانه على قاعدة محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه، بخلاف المنافق فإنه يبني إيمانه على أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بناء وهو الباطل، فإيمان المؤمن ودينه من مصاديق قوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 109] ودين المنافق كمن {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] فلا محالة ينهار به في نار جهنم.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14]
قال الطالب (2): المثل يبين حال المشركين الذين يدعون الأصنام والأوثان لغاية قضاء حوائجهم، فالله تعالى يشبه دعوتهم برجل بسط كفيه إلى الماء من مكان بعيد ليتناوله ويسكن به غلته، وذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما، فكذلك ما كان يعبده المشركون من الأصنام لا يصل نفعه إليهم ولا يستجيب دعاءهم.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 81.
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 90.
القرآن.. والبيان الشافي (2/56)
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 44 ـ 46]
قال الطالب (1): المشبه هو الأمم اللاحقة الذين رأوا العذاب فاستمهلوا الأجل وندموا ولم ينفعهم الندم، والمشبه به هو حال الأمم الهالكة بأفعالهم الظالمة .. أي أنكم حلفتم قبل نزول العذاب بأنه ليس لكم زوال من الراحة إلى العذاب، وظننتم أنكم بما تمتلكون من القوة والسطوة أمة خالدة مالكة لزمام الأمور، فلماذا تستمهلون حالة نزول العذاب!؟ .. ثم يخاطبهم بجواب آخر، فيقول: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45]، أي سكنتم ديار من كذب الرسل فأهلكهم الله وعرفتم ما نزل بهم من البلاء والهلاك والعذاب كقوم عاد وثمود، وضربنا لكم الأمثال وأخبرناكم بأحوال الماضين لتعتبروا فلم تتعظوا.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 57 ـ 60]
قال الطالب (2): في هذه الآيات الكريمة بيان لوجه آخر من وجوه الضلال، التي يلبسها المشركون حالا بعد حال .. فمن ضلالاتهم أنهم يجعلون الملائكة بنات لله .. فلم يكتفوا بأن جعلوا لله ـ سبحانه ـ ولدا، بل جعلوه لا يلد إلا البنات، تلك المواليد التي لفظها مجتمعهم وزهد فيها، واستقبلها فى تكره وضيق .. وفى هذا ما يكشف عن مدى جهلهم بما
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 89.
(2) التفسير القرآني للقرآن (7/ 310).
القرآن.. والبيان الشافي (2/57)
لله من كمال، وما ينبغى أن يكون له من توقير .. فلقد أساءوا القسمة مع الله، حين سووه بهم ـ ضلالا وسفها ـ فجعلوا له البنات، وجعلوا لأنفسهم {مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] من الذكور .. وقد سفه الله أحلامهم، وكشف عوار منطقهم بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 19 ـ 23] .. وذلك حين أطلقوا على تلك الأصنام هذه الأسماء المؤنثة، وادعوا أنها بنات الله.
وقوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58 ـ 59]، هو بيان لتلك الحال من الانزعاج، والكرب، والبلاء، التي تستولى على هؤلاء المشركين من العرب، حين يبشر أحدهم بأنه قد ولدت له أنثى .. هنالك ينزل عليه هذا الخبر نزول الصاعقة، فيضطرب كيانه، وتغلى دماء الكمد فى عروقه، ويضيق صدره، حتى لتختنق أنفاسه ويسود وجهه .. فإذا ظهر فى الناس جعل يتوارى منهم، ذلة وانكسارا، حتى لكأنه لبس عارا، أو جنى جناية .. وهذا جهل فاضح، وضلال غليظ .. ولو كان معه شئ من النظر والتعقل، لعرف أن هذا الأمر ليس له، وأن ليس لأحد أن يخلق ذكرا أو أنثى، وإنما ذلك إلى الله وحده .. فلم يخجل من أن تولد له أنثى؟
وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60] إشارة إلى المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى لموقف المشركين من إضافتهم الإناث إلى الله، وإضافة الذكور إليهم، هو هذا الموقف الذي يقفونه هم أنفسهم مع ما يولد لهم من ذكور وإناث، وأنهم حين يبشر أحدهم بالأنثى ينزل به ما ينزل من
القرآن.. والبيان الشافي (2/58)
حسرة، وحزن وبلاء .. فكيف ينسبون لله تعالى، ما لا يرضون نسبته إليهم؟ ذلك ما يعطيه المثل المضروب .. وتعالى الله سبحانه وتعالى عن أن يسوى بينه وبينهم، فلله سبحانه المثل الأعلى، الذي لا يقابل بمثل .. أما المشركون فلهم كل خبيث، وكل خسيس، يضرب مثلا لهم، تصور به أحوالهم، ويكشف به ضلالهم .. وفى قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60] إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى هو العزيز الذي يعلو بعزته فوق كل مثل .. الحكيم الذي يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما .. حسب ما تقضى حكمته.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 73 ـ 75]
قال الطالب (1): الآيات الكريمة تصف معبود المشركين ومعبود المؤمنين بالتمثيل التالي: افرض مملوكا لا يقدر على شيء ولا يملك شيئا حتى نفسه، فهو مظهر الفقر والحاجة، ومالكا يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه، فيتصرف في ماله كيف شاء وينعم كيف شاء، فهل هذان متساويان!؟ .. كلا، فمثل معبودات المشركين مثل العبد الرق المملوك غير المالك لشيء، وأما مثل معبود المؤمنين فهو المالك للخلق والرزق والرحمة والمغفرة والإحسان والإنعام.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى:
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 92.
القرآن.. والبيان الشافي (2/59)
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 91 ـ 92]
قال الطالب (1): هذا مثل ضربه الله تعالى لمن يعطون العهد باسمه تعالى، ثم ينقضون ما عاهدوا عليه .. فهؤلاء أشبه بامرأة خرقاء، تغزل غزلا محكما، ثم تعود بعد هذا فتنقض ما غزلته، وأجهدت نفسها فيه .. وهذا لا يكون من عاقل، يحترم عقله، ويعرف لآدميته قدرها .. وهؤلاء الذين أعطوا العهد باسم الله ثم نقضوه، كانوا قد أحكموا أمرهم، ووثقوه ثم أفسدوه، وأحلوا أنفسهم من هذا الميثاق الذي واثقوا الله عليه.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 112 ـ 113]
قال الطالب (2): يصف الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين قرية عامرة بصفات ثلاثة: أولها: كونها آمنة، أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم، ولا يشن عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول .. وثانيها: كونها مطمئنة، أي قارة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق، فإن ظاهرة الاغتراب إنما هي نتيجة عدم الاستقرار، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه، فالاطمئنان رهن
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (7/ 353).
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 95.
القرآن.. والبيان الشافي (2/60)
الأمن .. وثالثها: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112]، أي أنها حاضرة ما حولها من القرى .. بالإضافة إلى ذلك النعمة المعنوية التي أشار إليها قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ} [النحل: 113] .. هذا هو حال القرية والمترقب من أهلها أن يشكروا الله تعالى ويعبدوه لكنهم كفروا بأنعم الله.
ثم ذكر جزاء هؤلاء الكافرين، فقال: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، أي أن الله تعالى سلط الجوع والخوف عليهم فصارا كاللباس يحيط عامة جوانبهم ولذلك استخدم كلمة اللباس.
هذا كله حال المشبه به وأما المشبه وهو حال مكة؛ لأنهم كانوا في أمن وطمأنينة، بشهادة قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، ثم أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمدصلى الله عليه وآله وسلم فكفروا به وبالغوا في إيذائه، فلا جرم أن سلط الله تعالى عليهم أنواع البلاء.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 29 ـ 30]
قال الطالب (1): تتضمن الآيتان الكريمتان تمثيلا لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير، فشبه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل، فيكون التشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك، كما شبه إعطاء المسرف جميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء، وهذا كناية عن الإسراف، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية وإن لم يكن منطوقا،
__________
(1) ().
القرآن.. والبيان الشافي (2/61)
وهو الاقتصاد في البذل والعطاء، وقد تضمنته آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 32 ـ 43]
قال الطالب (1): أي واضرب أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى مثلا هو مثل رجلين جعلنا لأحدهما بستانين من كروم العنب، وأحطناهما بنخل، وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا .. وخلاصة ذلك إن أرضه جمعت القوت والفواكه، وهى متواصلة متشابكة، فلها منظر ورواء حسن ووضع أنيق يخلب اللب بجماله وبهجته إذا امتلأ منه البصر .. وقد ضرب الله المثل ليبين حال الفريقين المؤمنين والكافرين، من قبل أن الكفار مع تقلبهم فى النعيم قد عصوا ربهم، وأن
__________
(1) تفسير المراغي (15/ 148).
القرآن.. والبيان الشافي (2/62)
المؤمنين مع مكابدتهم للشدائد والبأساء قد أطاعوه.
قال الأستاذ: فهلا وضحت المثل أكثر.
قال الطالب (1): حقيقة هذا التمثيل أن أخوين مات أبوهما وترك مالا وافرا فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعا بين الجنتين، فافتخر الأخ الغني على الفقير، وقال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34]، وما هذا إلا لأنه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفا بهما وبين الجنتين زرع وافر، وقد تعلقت مشيئته تعالى بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئا وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة .. وكان كلما يدخل جنته يقول: ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداـ وأخذ يكذب بالساعة، ويقول: ما أحسب القيامة آتية، ولو افترض صحة ما يقوله الموحدون من وجود القيامة، فلئن بعثت يومذاك، لآتاني ربي خيرا من هذه الجنة، بشهادة إعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم، وهذا دليل على كرامتي عليه.
هذا ما كان يتفوه به وهو يمشي في جنته مختالا، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويقول: كيف كفرت بالله تعالى مع أنك كنت ترابا فصرت نطفة، ثم رجلا سويا، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سويا معتدل الخلقة؟
وبما أنه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة، بل إنكار للمعاد، فكأنه يلازم إنكار الرب، فإن افتخرت أنت بالمال، فأنا أفتخر بأني عبد من عباد الله لا أشرك به أحدا.
ثم ذكره بسوء العاقبة، وأنك لم لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله، فإن الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه، فلو بذلت جهدا في عمارتها فإنما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 100.
القرآن.. والبيان الشافي (2/63)
ثم أشار إلى نفسه، وقال: أنا وإن كنت أقل منك مالا وولدا، ولكن أرجو أن يجزيني ربي في الآخرة خيرا من جنتك، كما أترقب أن يرسل عذابا من السماء على جنتك فتصبح أرضا صلبة لا ينبت فيها شيء، أو يجعل ماءها غائرا ذاهبا في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.
قالها أخوه وهو يندد به ويحذره من مغبة تماديه في كفره وغيه ويتكهن له بمستقبل مظلم .. فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره، ففي ذلك الوقت استيقظ الأخ الكافر من رقدته، فأخذ يقلب كفيه تأسفا وتحسرا على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه، وأخذ يندم على شركه، ويقول: يا ليتني لم أكن مشركا بربي، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصرا من جانب ناصر.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12]
قال الطالب (1): هذا مثل ضربه الله تعالى في حق الكفر والإيمان، أو الكافر والمؤمن .. أي أن الإيمان والكفر متمايزان لا يختلط أحدهما بالآخر، كما أن الماء العذب الفرات لا يختلط بالملح الأجاج، وفي الوقت نفسه لا يتساويان في الحسن والنفع، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] بل إن الكافر أسوأ حالا من البحر الأجاج الذي يشاطر البحر الفرات في أمرين: أولهما أنه يستخرج من كل منهما لحما طريا يأكله الإنسان كما قال سبحانه: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] .. وثانيهما:
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 111.
القرآن.. والبيان الشافي (2/64)
يستخرج من كل منهما اللآلئ بالغوص في البحر فتلبسونها وتتزينون بها.
قال الأستاذ: فهلا وضحت المثل أكثر.
قال الطالب (1): في الآية الكريمة إشارة إلى دلائل قدرة الله، وكمال عزته، وأنه جمع بين البحرين، وفرق بينهما فى آن .. فهما فى واقع الحياة كائن واحد، يتشكل من مادة واحدة هى الماء، ومع هذا فهما طبيعتان متغايرتان .. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [فاطر: 12] أي ماء حلو، {سَائِغٌ شَرَابُهُ} [فاطر: 12] أي تستبغ النفس شرابه، ويلذ لها طعمه .. {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12]، أي كثير الملوحة ثم إنهما مع هذا الاختلاف، يثمران للإنسان ثمرا، يجنبه منهما على سواء، فمن الماء العذب والماء الملح، يأكل لحما طريا، هو ما يستخرج منهما من أنواع السمك .. كما يستخرج منهما حلى تلبس للزينة، كاللؤلؤ، والمرجان، وأنواع الصدف، وغيرها .. وعلى كلا البحرين ـ العذب والملح ـ تجرى السفن محملة بالبضائع والأمتعة.
والناس وفى الآية الكريمة أكثر من إشارة .. فأولا: الناس، وأصلهم من ماء، كهذا الماء .. هم هذه النطفة، ثم تفرقوا بين العذب والملح فهناك المؤمنون والكافرون، وهما غير متساويين، كما أن الماء العذب والماء الملح غير متساويين .. وثانيا: الماء العذب، يقابله المؤمن، والماء الملح، يقابله الكافر .. والمؤمن طيب، مقبول فى الحياة الإنسانية .. إنه الحياة التي تمسك بوجودها على الصحة والسلامة، كالماء العذب، فهو الذي يمسك حياة الأحياء، ويقيم وجودها .. وثالثا: الماء الملح، وهو على ما به من ملوحة لا تقبلها النفس، يشارك الماء العذب، فى استكمال حياة الناس، وفى جلب كثير من المصالح لهم .. وكذلك الكافر، إنه ـ على ما به ـ يشارك فى بناء الحياة الإنسانية، ويمثل جانبا مهما منها .. إنه الكفة الأخرى التي يعتدل بها ميزان الحياة .. وإنه لولا الكافر، ما استبان وجه المؤمن، ولا عرف فضله،
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (11/ 861).
القرآن.. والبيان الشافي (2/65)
ومقامه .. ورابعا: الماء الملح، هو الكثرة الغالبة فيما على الأرض من ماء، وكذلك الكفر، هو الوجه العريض فى دنيا الناس، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] .. وخامسا: أنه برسالات السماء، وهدى الرسل، يخرج المؤمنون من أحشاء هذا الكفر، وذلك بعد صراع ومعاناة .. تماما كما يخرج الماء العذب من صدر المحيطات، بفعل الرياح التي تثير أمواجها، وتخرج بخارها، وتعلو به فى طبقات الجو، ثم تشكله سحابا، تدفع به إلى حيث أراد الله، وإلى حيث قدر لهذا السحاب أن ينزل من ماء .. وهناك صور كثيرة لا تنتهى، يمكن أن يراها الناظرون فى الآية الكريمة، وفى النظر إلى الناس على ضوئها.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 19 ـ 22]
قال الطالب (1): بعد أن بين الله تعالى طريق الهدى وطريق الضلالة في الآيات الكريمة السابقة، وذكر أن المستعد للإيمان قد اهتدى بهدى النذير، والجاحد المعاند قسا قلبه ولم يستفد من هديه، ضرب مثلا به تنجلى حاليهما، ثم ذكر أن الهداية بيد الله يمنحها من يشاء، وأن هؤلاء المشركين كالموتى لا يسمعون نصيحة ولا يهتدون بعظة، وأن الله لم يترك أمة سدى، بل أرسل الرسل فمنهم من أجاب دعوة الداعي ونجا، ومنهم من استكبر وعصى، وكانت عاقبته الوبال والنكال في الدنيا والنار في العقبى.
قال الأستاذ: فهلا وضحت المثل أكثر.
قال الطالب (2): أي وما يستوى الأعمى عن دين الله الذي ابتعث به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم،
__________
(1) تفسير المراغي (22/ 122).
(2) تفسير المراغي (22/ 122).
القرآن.. والبيان الشافي (2/66)
والبصير الذي قد أبصر فيه رشده فاتبع محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وصدقه وقبل عن الله ما ابتعثه به، وما تستوى ظلمات الكفر ونور الإيمان ولا الثواب والعقاب .. ثم ضرب مثلا آخر لهما فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 22]، أي وما يستوى أحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ومعرفة كتابه وتنزيله، وأموات القلوب بغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ولا تفرق بين الهدى والضلال، وكل هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان والكافر والكفر .. ونحو الآية قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، وقوله: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [هود: 24]
أي إن المؤمن بصير سميع نير القلب يمشى على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى وأصم يمشى في ظلمات لا خروج له منها، فهو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة حتى يفضى به ذلك إلى حرور وسموم، وحميم وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم.
ثم بين الله تعالى أن الهداية والتوفيق بيده سبحانه وحده فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 22] أي إن الله يهدى من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها بخلق الاستعداد فيه للهداية، ثم ضرب مثلا لهؤلاء المشركين وجعلهم كالأموات لا يسمعون فقال: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، أي فكما لا تقدر أن تسمع من في القبور كتاب الله، فتهديهم به إلى سبيل الرشاد، لا تقدر أن تنفع بمواعظ الله وحججه من كان ميت القلب لا يستطيع فهم كتابه ومعرفة مغازى الدين وأسراره .. أي كما لا ينتفع الأموات بعد أن صاروا إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم.
القرآن.. والبيان الشافي (2/67)
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 ـ 79]
قال الطالب (1): المثل الذي ضربه الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين للكافر، ليدلل به على معتقده الفاسد، فى إنكار البعث، وهو أنه نظر فى هذه العظام البالية التي يراها فى قبور الموتى، ثم اتخذ منها معرضا يعرضه على الناس، ويسألهم هذا السؤال الإنكارى الساخر: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] أهذه العظام التي أبلاها البلى تعود ثانية كما كانت، ويتشكل منها أصحابها الذين كانوا يحيون بها فى الحياة؟ .. أهذا معقول؟ إن محمدا يقول هذا .. فماذا تقولون أنتم أيها الناس فيمن يقول هذا القول؟ ألا ترجمونه؟ ألا تسخرون من جنونه؟ .. وقوله تعالى: (ونسي خلقه) جملة حالية، أي أن هذا الكافر ضرب هذا المثل ناسيا خلقه، ولو ذكر خلقه وكيف كان بدؤه، ثم كيف صار ـ لرأى بعينيه ـ قبل أن يرى بعقله ـ إن كان له عقل ـ أن هذه النطفة التي أقامت منه هذا الإنسان الخصيم المبين، هى أقل من العظام شأنا، وأبعد منها عن مظنة الحياة، إذ كانت النطفة لا تعدو ـ فى مرأى العين ـ أن تكون نقطة ماء قذرة أشبه بالمخاط .. أما العظام فهى تمثل حياة كاملة، كانت تسكن فى تلك العظام ـ إنها عاشت فعلا حياة كاملة، وكان منها إنسان كامل، كهذا الإنسان، الذي يجادل، ويضرب الأمثال لله .. فهذه العظام، تمثل حياة لها تاريخ معروف .. أما النطفة، فلا ترى عين هذا الجهول فيها أثرا للحياة.
ثم قال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]، وهو الرد المفحم على هذا السؤال الإنكارى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] أي
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (12/ 956).
القرآن.. والبيان الشافي (2/68)
إن الذي يحييها، هو الذي أنشأها أول مرة .. لقد أنشأ هذه العظام من نطفة، وألبسها الحياة، ثم أماتها .. ثم هو الذي يحييها .. إنه إعادة لشئ كان بعد أن لم يكن، وإعادة بناء الشيء، أهون ـ فى حسابنا ـ من ابتداعه، واختراعه أصلا.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} [الزخرف: 6 ـ 8]
قال الطالب: الآيات الكريمة تشتمل على مشبه به ومشبه، أما الأول فهو الأمم الماضية التي بعث الله تعالى رسله إليهم، فكفروا بأنبيائه، فأهلكهم الله بأنواع العذاب .. وأما المشبه فهو عبارة عن مشركي عصر الرسالة الذين كانوا يستهزئون بالنبيصلى الله عليه وآله وسلم فيوعدهم تعالى بما مضى على الأولين، بأنه تعالى أهلك من هو أشد قوة ومنعة من قريش وأتباعهم فيعتبروا بحالهم، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ} [الزخرف: 6]، أي الأمم الماضية {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزخرف: 7]، فكانت هذه سيرة الأمم الماضية، ولكنه تعالى لم يضرب عنهم صفحا فأهلكهم، كما قال: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} [الزخرف: 8]: أي مضى في القرآن ـ في غير موضع منه ـ ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي من حقها أن تصير مثلا.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 54 ـ 56]
قال الطالب (1): في الآيات الكريمة إشارة إلى أن الله تعالى، قد أمهل هؤلاء الضالين،
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن (13/ 147).
القرآن.. والبيان الشافي (2/69)
ومد لهم فى ضلالهم، حتى يكون لهم فسحة من الوقت، يراجعون فيها أنفسهم، ويعدلون موقفهم المنحرف .. فلما لم يكن لهم فى هذا الإمهال، وفى تلك المطاولة، إلا الإمعان فى الضلال، والإسراف فى العناد، أخذهم الله بذنوبهم، ولم يكن لهم من دون الله من ولى ولا نصير .. فقوله تعالى: {آسَفُونَا} [الزخرف: 55] أي أسخطونا عليهم .. والله سبحانه وتعالى حليم فلا يغضب الله إلا على من أخذه بحمله ثم لم يزده الحلم إلا سفها وجهلا .. {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 56]، أي أن العذاب الذي أخذ به هؤلاء الضالون، المسرفون فى الضلال، كانا عذابا يضرب به المثل من بعدهم، ويرى الخلف عبرة وعظة فيما نزل بهذا السلف.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 57 ـ 61]
قال الطالب: لقد روى المحدثون في سبب نزول الآيات الكريمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلس يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المسجد غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أفحمه، وتلا عليه وعليهم {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] إلى قوله: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100]، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا ولا
القرآن.. والبيان الشافي (2/70)
قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس، من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته)، وأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 101 ـ 102] أي: عيسى وعزير ومن عبدوا من الأحبار والرهبان، الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله. ونزل فيما يذكرون، أنهم يعبدون الملائكة، وأنهم بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 ـ 27] إلى قوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29] [الأنبياء:26 ـ 29]، ونزل فيما ذكر من أمر عيسى عليه السلام، وأنه يعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف: 57 ـ 61] أي: ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول: {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 61] (1) .. وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير؛ لأن الآية إنما نزلت خطابا لأهل مكة في
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 358)، ورواه الطبري في تفسيره (17/ 76).
القرآن.. والبيان الشافي (2/71)
عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، ليكون ذلك تقريعا وتوبيخا لعابديها؛ ولهذا قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] فكيف يورد على هذا المسيح والعزير ونحوهما، ممن له عمل صالح، ولم يرض بعبادة من عبده (1).
قال الأستاذ: هذا عن سبب النزول، فماذا عن معنى المثال؟
قال الطالب (2): حقيقته أنهم شبهوا آلهتهم بالمسيح عليه السلام ورضوا بأن يكونوا معه في مكان واحد، وبما أن المسيح عليه السلام في الجنة وليس في النار، فهكذا آلهتهم، والله سبحانه يرد على تمثيلهم قائلا بأنهم ما تمسكوا بهذا المثل إلا جدلا، كما قال تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف: 58] وهم يعلمون بطلان دليلهم، إذ ليس كل معبود حصب جهنم، بل المعبود الذي دعا الناس إلى عبادته كفرعون، لا كالمسيح الذي كان عابدا لله رافضا الشرك، فاستدلالهم كان مبنيا على الجدل وإنكار الحقيقة، وهذا هو المراد من قوله سبحانه: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15]
قال الطالب (3): المشبه به في هذه الآية الكريمة هو الجنة، والتي فيها أنهار أربعة، وهي عبارة عن {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15]، أي الماء الذي لا يتغير طعمه ورائحته ولونه لطول بقائه .. {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15]، أي لم يعتره الفساد بمرور
__________
(1) تفسير ابن كثير (5/ 381).
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 119.
(3) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 120.
القرآن.. والبيان الشافي (2/72)
الزمان .. {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد: 15]، فتقييد الخمر بكونه لذة للشاربين احتراز عن خمر الدنيا .. {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15]، أي خالص من الشمع .. وأما المشبه فهو مكان أهل الجحيم، وقد أشير إليه بقوله: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} [محمد: 15] وإنما يسقون بماء حميم، كما قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] فلو أردنا أن نجعل الآية من قبيل الأمثال فهو من قبيل التمثيل الإنكاري، وإلا فليست من التمثيل الحقيقي.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: لقد ذكر الله المثلين المائي والنَّاري في حق المؤمنين؛ فهل لك أن تذكر لنا موضعه وتفسيره؟
قال الطالب (1): أجل .. المثل في قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]، حيث شبه الله تعالى الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علمًا عظيمًا كواد كبير يسع ماءً كثيرًا، وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير، فسالت أودية بقدرها، واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها؛ وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومرَّ عليها احتمل غثاءً وزبدًا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوبَ أثار ما فيها من الشَّهوات والشُّبهات ليَقْلَعَها ويُذهبها، كما يثير الدواءُ وقتَ شُرْبه من البدن أخلاطَه فيتكدَّر بها شاربه، وهي من تمام نفع الدواء، فإنه أثارها ليذهَب بها؛ فهكذا يضرب الله الحق والباطل.
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 270.
القرآن.. والبيان الشافي (2/73)
قال الأستاذ: هذا عن المثل المائي .. فما معنى المثل الناري الوارد في قوله تعالى في الآية الكريمة: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد: 17]
قال الطالب (1): و {زَبَدٌ} هو الخَبَثُ الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتُخرجُه النار وتميِّزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيُرمى ويُطرح ويذهب جُفاءً؛ فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزَّبدَ والغُثاءَ والخبث، ويستقر في قرار الوادي الماءُ الصَّافي الذي يستقي منه الناسُ ويزرعون ويسقون أنعامهم، كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمانُ الخالصُ الصَّافي الذي يَنفع صاحبه ويَنْتفع به غيره.
قال آخر (2): فهذه الآية الكريمة من غرر الآيات التي تبحث عن طبيعة الحق والباطل وتكونهما وكيفية ظهورهما والآثار المترتبة عليهما، فالآية تمثل للحق والباطل مثلا واحدا تستبطن منه تمثيلات متعددة .. أولها أن السيل المتدفق من أعالي الجبال الجاري في الوديان يحمل معه في سيره زبدا رابيا عليه، فالحق كماء السيل، والباطل الزبد الطافح عليه .. الثاني: أن المعادن والفلزات المذابة في القدر إذا أوقدت عليها النار، تذوب ويبقى الخبث، فالغاية من الإذابة هو فصل المعادن والفلزات النفيسة عن خبثها وزبدها، وعندئذ فالحق كالذهب والفضة والمعادن النفيسة، والباطل كخبثها وزبدها الطافح .. والثالث: أن ما له دوام وبقاء ومكث وينتفع به الناس كالماء وما يتخذ للحلية أو المتاع، يمثل الحق، وما ليس كذلك كزبد السيل، وخبث القدر الذي يذهب جفاء، يمثل الباطل.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في الحياة الدنيا: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 270.
(2) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 85.
القرآن.. والبيان الشافي (2/74)
وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]
قال الطالب (1): شبَّه الله تعالى الحياة الدنيا في الآية الكريمة بأنها تتزين في عين الناظر فتروقُه بزينتها وتُعجبه، فيميل إليها ويهواها اغترارًا منه بها، حتى إذا ظنَّ أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها، فشَبَّهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتَعْشُب ويحسنُ نباتُها ويروق منظرها للناظر، فيغترُ بها، ويظن أنه قادرٌ عليها، مالكٌ لها، فيأتيها أمر الله فتدرك نباتَها الآفةُ بغتةَ، فتصبح كأن لم تكن قبل، فيخيب ظنه، وتصبح يداه صفرًا منها؛ فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء .. وهذا من أبلغ التشبيه والقياس، ولهذا جاء بعدها قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، ذلك أنه لما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات، والجنة سليمة منها، سماها {دَارِ السَّلَامِ} لسلامتها من الآفات التي ذكرها في الدنيا، فعمَّ بالدعوة إليها جميع الخلق، وخصَّ بالهداية مَنْ يشاء ويرغب.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في المؤمنين والكافرين: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 24]
قال الطالب (2):ذكر الله تعالى في الآية الكريمة الكفار، ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، ثم ذكر المؤمنين، ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم، فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن، وجعل أحد الفريقين كالأعمى
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 273.
(2) إعلام الموقعين، 2/ 274.
القرآن.. والبيان الشافي (2/75)
والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه؛ فشُبِّه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء، وسمعه أصم عن سماع الأصوات، والفريق الآخر بصير القلب سميعه، كبصير العين وسميع الأذن؛ فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين، ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 24]
قال آخر (1): أي أن مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع، ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم، لأن المؤمن ينتفع بحواسه بإعمالها في معرفة المنعم وصفاته وأفعاله، والكافر لا ينتفع بها فصارت بمنزلة المعدومة .. ثم إنه قارن بين الأعمى والأصم كما قارن بين البصير والسميع، وذلك لإفادة تعدد التشبيه بمعنى: إن حال الكافر كحال الأعمى .. وحال الكافر أيضا كحال الأصم .. كما أن حال المؤمن كالبصير .. وحاله أيضا كالسميع .. وحاصل الكلام: أنه لا يستوي البصير والسميع مع الأعمى والأصم، والمؤمن والكافر أيضا لا يستويان.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في الذين اتخذوا من دون الله الأولياء: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]
قال الطالب (2): ذكر الله تعالى في الآية الكريمة الكفار، وأنهم ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياءَهم أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وهو أوهن البيوت وأضعفها؛ وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء؛ فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفًا، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 83.
(2) إعلام الموقعين، 2/ 274.
القرآن.. والبيان الشافي (2/76)
وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82]، وقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74، 75]، وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] .. فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليًا يتعزَّز به ويتكبّر به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده، وفي القرآن أكثر من ذلك، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضدِّ مقصوده.
قال الأستاذ: فهلا وضحت الأمر أكثر.
قال الطالب (1): أجل .. أنتم تعلمون أن العنكبوت حشرة معروفة ذكورها أصغر أجسادا من إناثها، وهي تتغذى على الحشرات التي تصطادها بالشبكة التي تمدها على جدران البيوت، فتصنع تلك الشبكة من مادة تفرزها لها غدد في باطنها محتوية على سائل لزج تخرجه من فتحة صغيرة، فيتجمد بمجرد ملامسته للهواء ويصير خيطا في غاية الدقة، وما إن تقع الفريسة في تلك الشبكة حتى تنقض عليها وتنفث فيها سما يوقف حركاتها، فلا تستطيع الدفاع عن نفسها .. ومع ذلك فما نسجته بيتا لنفسها من أوهن البيوت، بل لا يليق أن يصدق عليه عنوان البيت، الذي يتألف من حائط حائل، وسقف مظل، وباب ونوافذ، وبيتها يفقد أبسط تلك المقومات، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن بيتها يفتقد لأدنى مقاومة أمام الظواهر الجوية والطبيعية، فلو هب عليه نسيم هادئ لمزق النسيج، ولو سقطت عليه قطرة من ماء لتلاشى، ولو وقع على مقربة من نار لاحترق، ولو تراكم عليه الغبار لتمزق .. هذا هو حال المشبه به، والقرآن يمثل حال الآلهة المزيفة بهذا المثل الرائع،
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 108.
القرآن.. والبيان الشافي (2/77)
وهو أنها لا تنفع ولا تضر، لا تخلق ولاترزق، ولا تقدر على الإستجابة لأي طلب، بل حال الآلهة المزيفة الكاذبة أسوأ حالا من بيت العنكبوت، وهو أن العنكبوت تنسج بيتها لتصطاد به الحشرات ولولاه لماتت جوعا، ولكن الأصنام والأوثان لا توفر شيئا للكافر.
قال الأستاذ: ما داموا يعلمون أنّ أوهن البيوت بيت العنكبوت، فكيف نَفى عنهم علم ذلك بقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]؟
قال الطالب: لم ينف الله تعالى عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت، وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتًا، فلو علموا ذلك لما فعلوه، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزًا وقوة، فكان الأمر بخلاف ما ظنُّوه.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في أعمال الكافرين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39، 40]
قال الطالب (1): ذكر الله تعالى في الآيتين الكريمتين للكافر مثلين: مثلًا للسراب، ومثلًا بالظلمات المتراكمة، وذلك لأن المعرضين عن الهدى و الحق نوعان: أحدهما من يظن أنه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم، فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة، يُرى في عين الناظر ماءً ولا حقيقة له، وهكذا الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره، يحسبها
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 276.
القرآن.. والبيان الشافي (2/78)
العامل نافعة له وهي ليست كذلك .. وهذه الأعمال التي قال الله تعالى فيها: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] .. وقال في أصحابها: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 3 - 4]، وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105]
وقد وصف الله تعالى محل السراب بكونه {قِيعَةٍ}، وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات، فمَحَلُّ السَّرابِ أرضٌ قَفْر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى.
وهكذا وصف الناظر إلى الماء بكونه ظمآن، والظمآن الذي قد اشتدَّ عطشه، فرأى السراب فظنه ماءً فتبعه فلم يجده شيئًا، بل خانه أحوج ما كان إليه، فكذلك هؤلاء، لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول، ولغير اللَّه، جُعلت كالسراب، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها، فلم يجدوا شيئًا، بل وجدوا بدلها زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق (1).
قال الأستاذ: حدثتنا عن مثل السراب؛ فحدثنا عن مثل الظلمات المتراكمة.
قال الطالب (2): أصحاب مثل الظلمات المتراكمة، الوارد في قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، هو للذين عرفوا الحقَّ والهدى، وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطَّبْع وظلمة النفوس وظلمة الجهل، حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغَيّ
__________
(1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 243)
(2) إعلام الموقعين، 2/ 278.
القرآن.. والبيان الشافي (2/79)
والهوى، فحالهم كحال من كان في بحر لُجّيّ لا ساحل له، وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج، ومن فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب، وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان.
قال الأستاذ: فهلا وضحت الأمر أكثر.
قال الطالب (1): شبه الله تعالى أعمال الكافرين ـ بسبب عدم الانتفاع بها ـ ببحر لجي فوقه سحابة سوداء ممطرة، ويعلو ماءه موج فوق موج، فراكب هذا البحر تغمره ظلمة دامسة لا يرى أمامه شيئا حتى لو أخرج يده فإنه لا يراها مع قربها منه .. هذا هو المشبه به، وأما المشبه فالأعمال التي يقوم بها الكافر باطلة محضة ليس فيها من الحق شيء مثل هذا البحر اللجي المحيطة به عتمة الظلام الذي ليس فيه نور .. ثم إن الآية الكريمة تشير إلى ظلمات ثلاث: الأولى: ظلمة البحر المحجوب من النور .. الثانية: ظلمة الأمواج المتلاطمة .. الثالثة: ظلمة السحاب الأسود الممطر .. فتراكم هذه الظلمات يحجب كل نور من الوصول، وهكذا الحال في الكافر، ففي أعماله ظلمات ثلاث يمكن بيانها بأنحاء مختلفة: النحو الأول: ظلمة الاعتقاد، ظلمة القول، ظلمة العمل .. النحو الثاني: ظلمة القلب، ظلمة البصر، ظلمة السمع .. النحو الثالث: ظلمة الجهل، ظلمة الجهل بالجهل، ظلمة تصور الجهل علما.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في حق الكفار: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]
قال الطالب (2): شَبَّه الله تعالى أكثر الناس بالأنعام، والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له .. وجعل الأكثرين أضل سبيلًا من الأنعام؛ لأن البهيمة
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 107.
(2) إعلام الموقعين، 2/ 280.
القرآن.. والبيان الشافي (2/80)
يهديها سائقُها فتهتدي وتتبع الطَّريقَ، فلا تحيد عنها يمينًا ولا شمالًا، والأكثرون يدعوهم الرسلُ ويهدونهم السَّبيلَ فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرُّهم وبين ما ينفعهم، والأنعام تُفَرِّق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره .. واللَّه تعالى لم يخلق للأنعام قلوبًا تعقل بها، ولا ألسنةً تنطق بها، وأعطى الله ذلك لهؤلاء، ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار، فلذلك هم أضلُّ من البهائم، فإنَّ من لا يهتدي إلى الرُّشْدِ وإلى الطريق ـ مع الدليل إليه ـ أضلُّ وأسوأ حالًا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في حق المشركين: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28]
قال الطالب (1): في هذا المثال احتجاج احتج الله تعالى به على المشركين، حيث جعلوا له من عَبيده ومُلْكه شركاء، فأقام عليهم حُجة يعرفون صحتها من نفوسهم، لا يحتاجون فيها إلى غيرهم، فمن أبلغ الحِجَاج أن يُؤخذ الإنسان من نفسه، ويُحتج عليه بما هو في نفسه، مُقَرَّرٌ عندها، معلومٌ لها، فقال: هل يُشارككم عَبيدُكُم في أَموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها، ويستأثرون ببعضها عليكم، كما يخافُ الشَّريكُ شَريكَه؟ .. فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي؟ .. فإن كان هذا الحكم باطلًا في فطركم وعقولكم ـ مع أنه جائز عليكم ممن في حقكم؛ إذ ليس عبيدكم ملكًا لكم حقيقة، وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم،
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 281.
القرآن.. والبيان الشافي (2/81)
وأنتم وهم عبيد لي ـ فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي، مع أنّ مَنْ جعلتموهم لي شُركاءَ عَبيدي ومُلْكي وخَلْقي؟ فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75]
قال الطالب (1): هذا المثل يمكن أن يكون قد ضربه الله تعالى لنفسه وللأوثان، فالله تعالى هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرًا وجهرًا وليلًا ونهارًا، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء .. ولذلك يستحيل أن تكون شريكة لله تعالى مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ .. ويدل لهذا قوله قبل ضرب هذا المثل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 73 - 74]
ويمكن أن يكون معناه ما عبر عنه ابن عباس بقوله: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده بمن رزقه منه رزقًا حسنًا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرًا وجهرًا، والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء؛ لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء (2)؟
ولعل ما ذكره ابن عباس من لوازم هذا المثل؛ فمنها أن يكون المؤمن الموحِّد كمن رزقه منه رزقًا حسنًا، والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، فهذا مما نَبَّه عليه المثل وأرشد إليه، فذكره ابن عباس مُنَبِّهًا به على إرادته، لا أن الآية اختصَّت به (3).
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 282.
(2) إعلام الموقعين، 2/ 282.
(3) إعلام الموقعين، 2/ 283.
القرآن.. والبيان الشافي (2/82)
قال الأستاذ: فهلا وضحت الأمر أكثر.
قال الطالب (1): أجل .. ألقى الله تعالى المثل بصورة الاستفهام الإنكاري، وحاصله: هل ترضون لأنفسكم أن يكون عبيدكم وإماؤكم شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم إياها على وجه تخشون التصرف فيها بغير إذن هؤلاء العبيد والإماء ورضا منهم، كما تخشون الشركاء الأحرار؟ .. والجواب طبعا: لا، أي لا يكون ذلك أبدا ولا يصير المملوك شريكا لمولاه في ماله، فعندئذ يقال لهم: كيف تجوزون ذلك على الله، وأن يكون بعض عبيده المملوكين ـ كالملائكة والجن ـ شركاء له، إما في الخالقية أو في التدبير أو في العبادة؟ .. والحاصل: أن العبد المملوك وضعا، لا يصح أن يكون في رتبة مولاه على نحو يشاركه في الأموال، فهكذا العبد المملوك تكوينا، لا يمكن أن يكون على درجة الخالق المدبر فيشاركه في الفعل، كأن يكون خالقا أو مدبرا، أو يشاركه في الصفة كأن يكون معبودا، فالشيء الذي لا ترضون لأنفسكم، كيف ترضونه لله سبحانه، وهو رب العالمين.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]
قال الطالب (2): هذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه ولما يُعبد من دونه .. فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق، بل هو أبكم القلب واللسان، قد عدم النطق القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتّة، ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير، ولا يقضي لك حاجة، والله تعالى حي قادر متكلم، يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد، فإن أمره بالعدل ـ وهو الحق ـ يتضمن
__________
(1) منية الطالبين، للسبحاني، 2/ 110.
(2) إعلام الموقعين، 2/ 284.
القرآن.. والبيان الشافي (2/83)
أنه الله تعالى عالم به، مُعلِّم به، راض به، آمرٌ لعباده به، محبٌّ لأهله، لا يأمر بسواه، بل تنزَّه عن ضدِّه الذي هو الجور والظلم والسّفه والباطل، بل أمره وشرعه عدلٌ كله، وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه.
ثم أخبر الله تعالى أنه على صراط مستقيم، وهذا نظير قول رسوله هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، وكونه تعالى كذلك يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل؛ فهو على الحق في أقواله وأفعاله؛ فلا يقضي على العبد بما يكون ظالمًا له به، ولا يأخذه بغير ذنبه، ولا ينقصه من حسناته شيئًا، ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئًا، ولا يؤاخذ أحدًا بذنب غيره، ولا يفعل قط ما لا يُحمد عليه، ويُثنى به عليه، ويكون له فيه العواقب الحميدة، والغايات المطلوبة، فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في مثل مَنْ أعرض عن كلامه وتدبُّره: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51]
قال الطالب (1): شبَّه الله تعالى المعرضين عن القرآن الكريم بحُمر رأت الأسدَ أو الرماة فَفرَّت منه، وهذا من بديع القياس التمثيلي، فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالحُمُر، وهي لا تعقل شيئًا، فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور، وهذا غاية الذم لهؤلاء، فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها .. وكلمة {مُسْتَنْفِرَةٌ} أبلغ من النافرة؛ فإنها لشدة نفورها قد
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 287.
القرآن.. والبيان الشافي (2/84)
استنفر بعضها بعضًا وحضه على النفور، فإن في (الاستفعال) من الطلب قدرًا زائدًا على الفعل المجرد، فكأنها تواصت بالنفور، وتواطأت عليه.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في مثل الذي حُمِّل الكتاب ولم يعمل به: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]
قال الطالب (1): هذا مثل من حمله الله تعالى كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءته بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ولا تحكيم له وعمل بموجبه، كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا؛ فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره؛ فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه، ولم يرعه حق رعايته.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في حق المغتاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]
قال الطالب (2): شَبَّه الله تعالى في الآية الكريمة تمزيق عِرْضِ الأخ بتمزيق لحمه، ولما كان المُغْتَابُ يمزق عرضَ أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت .. ولما كان المغتاب عاجزًا عن دَفْعِه عن نفسه بكونه غائبًا عن ذمِّه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه .. ولما كان مُقْتَضَى الأخوة التراحُمَ
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 287.
(2) إعلام الموقعين، 2/ 296.
القرآن.. والبيان الشافي (2/85)
والتواصُلَ والتناصر فعلّق عليها المغتاب ضدَّ مقتضاها من الذم والعَيْب والطعن كان ذلك نظيرَ تقطيع لحم أخيه، والأخوة تقتضي حِفْظَه وصيانته والذبَّ عنه .. ولما كان المغتاب متمتعًا بعرض أخيه متفكهًا بِغِيبته وذمه متحلِّيًا بذلك شُبِّه بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه .. ولمَّا كان المغتاب محبًا لذلك مُعْجَبًا به شُبَّه بمن يُحب أكل لحم أخيه ميتًا، ومحبته لذلك قَدْرٌ زائد على مجرد أكله، كما أن أكله قدرٌ زائد على تمزيقه.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في بطلان أعمال الكفار: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18]
قال الطالب (1): شبه تعالى أعمالَ الكفار في بُطْلانها وعدم الانتفاع بها برمَادٍ مَرَّتْ عليه ريحٌ شديدة في يوم عاصف، فشَبَّه الله تعالى أعمالهم ـ في حُبُوطها وذَهَابها باطلًا كالهَباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان، وكَوْنِها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره ـ برمادٍ طَيَّرَتْهُ الريحُ العاصفُ فلا يقدر صاحبُه على شيء منه وقتَ شدة حاجته إليه؛ فلذلك قال: {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم: 18]، أي لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء، فلا يرون له أثرًا من ثواب ولا فائدة نافعةً، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، موافقًا لشَرْعه.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في وصف الكلمة الطيبة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24 - 25]
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 297.
القرآن.. والبيان الشافي (2/86)
قال الطالب (1): شبه الله تعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع .. ومن مصاديق الكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله، ولذلك تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة .. وقد قال ابن عباس في ذلك: (كلمة طيبة: شهادة أن لا إله إلا الله، كشجرة طيبة وهو المؤمن، أصلها ثابت: قول لا إله إلا الله، في قلب المؤمن، وفرعها في السماء، يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء) (2)
وهذا المثل يشير إلى الكثير من المعاني، منها (3) أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر، فكذلك شجرة الإيمان والإسلام؛ ليطابق المشبه المشبه به؛ فعروقها العلم والمعرفة واليقين، وساقها الإخلاص، وفروعها الأعمال، وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدي والدل المرضي، فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور، فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله، والإخلاص قائم في القلب، والأعمال موافقة للأمر، والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسبة لها، علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
ومنها: أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها، فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس، فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 298.
(2) إعلام الموقعين، 2/ 298.
(3) إعلام الموقعين، 2/ 301.
القرآن.. والبيان الشافي (2/87)
بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر، إلا أوشك أن تيبس.
ومنها: أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله تعالى العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه، فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع، واستوى، وتم نباته، وكان أوفر لثمرته، وأطيب وأزكى، وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع، ويكون الحكم له، أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته، ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به، فاته ربح كبير وهو لا يشعر؛ فالمؤمن دائما سعيه في شيئين: سقي هذه الشجرة، وتنقية ما حولها، فبسقيها تبقى وتدوم، وبتنقية ما حولها تكمل وتتم.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في مثل الكلمة الخبيثة: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26]
قال الطالب (1): شبه الله تعالى الكلمة الخبيثة بالشَّجرة الخبيثة التي اجْتُثَّتْ من فوق الأرض، فلا عِرْقٌ ثابت، ولا فَرع عالٍ، ولا ثمرة زاكية، ولا ظل، ولا جَنًى، ولا ساقٌ قائم، فلا أسفلها مُغْدِق، ولا أعلاها مُونِق، ولا جَنَى لها، ولا تعلوا بل تُعْلى .. وقد وصفها بعضهم بقوله: ضرب الله مثلًا للكافر بشجرة اجْتُثَّتْ من فوق الأرض ما لها من قرار، ليس لها أصل ولا فرع، وليس لها ثمرة، ولا فيها منفعة، كذلك الكافر ليس يعمل خيرًا ولا يقوله، ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة ..
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 304.
القرآن.. والبيان الشافي (2/88)
وصف المشرك: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 30 - 31]
قال الطالب (1): يجوز لك في هذا التشبيه معنيان .. أولهما أن يكون تشبيها مركبا، ويكون حينها وصفا لمن أشرك بالله، وعبد معه غيره برجل قد تسبب في هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة، فصور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير في الهوى فتمزق مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به.
وأما الثاني؛ فهو أن يكون من التشبيه المفرق، فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به، وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه، فمنها يهبط إلى الأرض، وإليها يصعد منها، وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث الضيق الشديد والآلام المتراكمة والطير التي تخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله تعالى عليه وتؤزه أزا وتزعجه إلى مظان هلاكه؛ فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه، كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه، والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في وصف ضعف الذين يدعوهم المشركون من دون اللَّه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 310.
القرآن.. والبيان الشافي (2/89)
لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]
قال الطالب (1): هذا المثل يشير إلى أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره، والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه؟ ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟
ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله: {ضعف الطالب والمطلوب} [الحج: 73]؛ فالطالب العابد، والمطلوب المعبود، فهو عاجز متعلق بعاجز .. أو هو تسوية بين السالب والمسلوب، وهو تسوية بين الآلهة والذباب في الضعف والعجز .. وعلى هذا يكون الطالب: الإله الباطل، والمطلوب: الذباب يطلب منه ما استلبه منه .. أو الطالب الذباب، والمطلوب الإله؛ فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه .. ويمكن أن يتناول اللفظ الجميع، فضعف العابد والمعبود، والمستلب والمستلب؛ فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز فما قدره حق قدره، ولا عرفه حق معرفته، ولا عظمه حق تعظيمه.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في وصف المقلِّدين والمقلَّدين: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]
قال الطالب (2): يمكن أن يكون المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 311.
(2) إعلام الموقعين، 2/ 312.
القرآن.. والبيان الشافي (2/90)
دعاءهم كمثل الناعق بغنمه، فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنه هو في دعاء ونداء، وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء .. أو يكون المعنى: مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت؛ فالراعي هو داعي الكفار، والكفار هم البهائم المنعوق بها.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في وصف المنفقين في سبيل اللَّه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]
قال الطالب (1): شبه الله تعالى المنفق في سبيله، سواء كان المراد به الجهاد، أو جميع سبل الخير من كل بر، بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة منه سبع سنابل، اشتملت كل سنبلة على مئة حبة، والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه ونفع نفقته وقدرها ووقوعها موقعها؛ فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص والتثبيت عند النفقة، وهو إخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره بإخراجه، وسمحت به نفسه، وخرج من قلبه قبل خروجه من يده، فهو ثبات القلب عند إخراجه، غير جزع ولا هلع ولا متبعه نفسه ترجف يده وفؤاده، ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه بمواقعه، وبحسب طيب المنفق وزكاته.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في وصف المنفقين في سبيل اللَّه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265]
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 313.
القرآن.. والبيان الشافي (2/91)
قال الطالب (1): شبه الله تعالى الإنفاق بالبذر، فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره باذر ماله في أرض زكية، فمغله بحسب بذره وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقي ونفي الدغل والنبات الغريب عنه، فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم تحرق الزرع نار ولا لحقته جائحة جاء أمثال الجبال، وكان مثله كمثل جنة بربوة، وهي المكان المرتفع الذي تكون الجنة فيه نصب الشمس والرياح فتتربى الأشجار هناك أتم تربية فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع فرواها ونماها فآتت أكلها ضعفي ما يؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل، فإن لم يصبها وابل فطل: مطر صغير القطر، يكفيها لكرم منبتها، تزكو على الطل وتنمو عليه، مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل .. فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا، ومنهم من يكون إنفاقه طلا، والله لا يضيع مثقال ذرة.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في وصف من يُبْطل أعماله الصالحة: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266]
قال الطالب (2): هذا مثل ضربه الله تعالى للذي يختم له بالفساد في آخر عمره .. أو مثل المرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه .. وهو يصور سلب النعمة عند شدة الحاجة إليها مع عظم قدرها ومنفعتها، والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبر والضعف فهو أحوج ما كان إلى نعمته، ومع هذا فله ذرية ضعفاء لا يقدرون على نفعه والقيام بمصالحه، بل هم في عياله، فحاجته إلى جنته حينئذ أشد ما كانت لضعفه وضعف ذريته، فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم فيه من جميع الفواكه والثمر؟
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 315.
(2) إعلام الموقعين، 2/ 316.
القرآن.. والبيان الشافي (2/92)
وسلطان ثمره أجل الفواكه وأجملها وأنفعها، وهو ثمر النخيل والأعناب، فمغله يقوم بكفايته وكفاية ذريته، فأصبح يوما وقد وجده محترقا كله كالصريم، فأي حسرة أعظم من حسرته؟ .. وقد قال بعضهم معبرا عن أهمية هذا المثل، ومعناه: هذا مثلٌ قل والله من يعقله من الناس، شيخ كبير ضعف جسمه، وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في وصف من ينفق ماله في غير طاعة الله ورضوانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 116 - 117]
قال الطالب (1): هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته، فشبه الله تعالى ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون به وجه الله، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله، بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره، فأصابته ريح شديدة البرد جدا، يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته.
وفي قوله تعالى: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 117] تنبيهٌ على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظُلْمهُم؛ فهو الذي سَلَّط عليهم الريحَ المذكورةَ حتى أهلكتْ زرعهم وأيبسته، فظلمهم هو الريح التي أهلكتْ أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 317.
القرآن.. والبيان الشافي (2/93)
وصف المُوحِّد والمشرك: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]
قال الطالب (1): هذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد؛ فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحنون، والرجل الشكس: الضيق الخلق، فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد، قد سلم له، وعلم مقاصده، وعرف الطريق إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتوليه لمصالحه، فهل يستويان هذان العبدان؟ .. وهذا من أبلغ الأمثال: فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: اذكر لي معنى المثال الوارد في قوله تعالى في وصف الكفار والمؤمنين: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 10 - 12]
قال الطالب (2): اشتملت الآيات الكريمة على ثلاثة أمثال: مَثَل للكفار، ومَثلين
__________
(1) إعلام الموقعين، 2/ 318.
(2) إعلام الموقعين، 2/ 319.
القرآن.. والبيان الشافي (2/94)
للمؤمنين .. فتضمَّن مَثلُ الكُفَّار: أنَّ الكافر يُعاقَبُ على كفره وعداوته للَّه ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لُحْمَةِ نسب أو وُصْلَة صِهْر أو سَبَب من أسباب الاتصال؛ فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلًا باللَّه وحده على أيدي رسله، فلو نفعت وُصْلَةُ القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوُصْلَةُ التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما، فلما لم يُغْنِيَا عنهما من الله شيئًا، قيل لهما: {ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10]، وقد قطعت الآيةُ حينئذٍ طمع من ارتكب معصية الله وخالف أمره، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال، فلا اتصال فَوْقَ اتصال البنوَّة والأبوة والزوجية، فلم يُغْن نوح عليه السلام عن ابنه، ولا إبراهيم عليه السلام عن عمه، ولا نوح ولا لوط عليهما السلام عن امرأتيهما من الله شيئًا، قال الله تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 3]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]
وأما المثلان اللذان للمؤمنين: فأحدهما: امرأة فرعون، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله، فمعصية العاصي لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله فتأتي عامة؛ فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط عليهما السلام اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين.
وأما الثاني، فهو للمؤمنين: مريم التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر .. فذكر ثلاثة أصناف من النساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها
القرآن.. والبيان الشافي (2/95)
وصلة بالرجل الكافر، والمرأة العزبة التي لا وصلة بينها وبين أحد .. فالأولى: لا تنفعها وصلتها وسببها .. والثانية: لا تضرها وصلتها وسببها .. والثالثة: لا يضرها عدم الوصلة شيئا.
بعد أن استمعت إلى الشروح المفصلة المرتبطة بالتشبيهات والأمثال القرآنية، أخذ بيدي طالب من الطلبة، وقال: هلم بنا إلى القسم الثاني؛ فهناك علوم أخرى في انتظارك.
قلت: شكرا جزيلا؛ فأنا سأنتظر أستاذك ليخرج معي .. لأنه هو الذي جاء بي إلى هنا.
قال: كلنا في هذا القسم أساتذة .. فأي أستاذ تقصد؟
قلت: ذلك الذي كان على المنصة يسألكم وتجيبونه.
قال: تقصد أستاذ التشبيه والأمثال .. أظن أن دوره معك قد انتهى، ليحل دوري بدله.
قلت: ومن أنت؟
قال: أنا أستاذ المجاز والاستعارة.
قلت: وما الذي جعلك تترك قسمك لتقصد قسمه؟
قال: لولا قسمه ما وجد قسمي .. فالمجاز والاستعارة فرعان من فروع التشبيه، أو شكلان من أشكاله.
قلت: أصدقك القول .. فأنا مع سماعي لهاتين الكلمتين [المجاز والاستعارة]، لا أكاد أفهمهما، أو أفهم الفرق بينهما .. فما المجاز، وما الاستعارة؟
القرآن.. والبيان الشافي (2/96)
قال: هل تعلم المراد من قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17 - 18]
قلت: أجل .. أي فليدع هذا الناهي أهل ناديه، أي قومه وعشيرته، ليستنصر بهم ويعينوه.
قال: فهل تعلم معنى النادي؟
قلت: أجل .. هو واضح، ولا نزال نستعمله .. فهو المجلس الذي يجتمع فيه القوم أو الأهل والعشيرة.
قال: فهل المقصود في الآية المجلس أو الجالسين فيه؟
قلت: بل المقصود هو الجالسون فيه .. وهو واضح.
قال: فكيف اتضح لك أن المقصود هم الجالسون، لا المجلس؟
قلت: العقل والواقع يدل على ذلك .. فلم نجد أحدا ينادي الكراسي، وإنما ينادي الجالسين عليها.
قال: فهذا هو المجاز.
قلت: ما تعني؟
قال (1): المجاز هو أن ينقل اللفظ من دلالته على المعنى الذي وُضع له إلى معنى آخر، لعلاقه بينهما، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي .. فالنادي لا يُدعى، وإنما يدعى من يحلون فيه، والقرينة الدالة على عدم إرادة المعنى الظاهر الحقيقي هو الاستحالة.
قلت: أهذا هو المجاز .. هو سهل جدا .. فمثله إذن قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19]، لأن الأصابع لا تدخل جميعا إلى الآذان، وإنما يدخل بعضها.
قال: أجل .. والعلاقة هنا هي الجزئية، حيث أُطلق اسم الكل وأريد الجزء.
__________
(1) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 195.
القرآن.. والبيان الشافي (2/97)
قلت: وعيت هذا .. ولكني لم أع معنى الاستعارة بعد.
قال: هل تعلم المراد من قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]
قلت: أجل .. وهو واضح؛ فهي تدل على أن أهل الكتاب لم ينفذوا التعاليم التي طلب منهم تنفيذها، بل تركوها وأهملوها.
قال: لكن الآية الكريمة لم تذكر ذلك .. وإنما أخبرت أنهم نبذوا تعالميهم وراء ظهورهم.
قلت: ظاهر أن المقصود هنا ليس ظاهر المعنى، وإنما ما يوحي به، وهو الإهمال والترك والاحتقار، لأن الذي (ينبذ) وراء الظهر إنما هو الحقير المهمل.
قال: فهذا الذي يوحي به يطلق عليه اصطلاحا [الاستعارة] أو هو شكل من أشكالها، ونوع من أنواعها.
قلت: فهل العلم بعلوم المجاز والاستعارة ضروري؟
قال: أجل .. لا يمكن لتلميذ القرآن ألا يتعلم هذه العلوم، حتى لا يقع في الأوهام التي وقع فيها أصحاب التأويلات الجاهلة المنحرفة.
قلت: هل تقصد أولئك الذين حملوا الكلمات المقدسة على ظواهرها .. فشبهوا الله بخلقه؟
قال: أجل .. فلو طبقوا قوانين الاستعارة والمجاز، وهي الموجودة المستعملة في اللسان العربي، لما وقعوا فيما وقعوا فيه.
قلت: فأنت إذن من سيشرح لي هذه العلوم.
القرآن.. والبيان الشافي (2/98)
قال: بل طلبتي هم الذين سيفعلون ذلك .. فقد كلفتهم بالقيام ببحوث ترتبط بهما .. وستستمع لهم، مثلما استمعت لنا.
سرت مع أستاذ الاستعارة والمجاز إلى القسم المخصص لهما .. وما إن دخلنا إلى القاعة حتى وقف الطلبة جميعهم، وبكل أدب واحترام.
ثم صعد الأستاذ إلى المنصة، وقال: أظن أنكم قد قمتم بما كلفتكم به من البحث في صيغ المجاز والاستعارة في القرآن الكريم.
قالوا: أجل .. فسل ما بدا لك؛ وستجدنا إن شاء الله من المجيبين.
أشار إلى بعض الطلبة، وقال: ما وجه المجاز في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] ..
قال الطالب: إسناد الذبح إلى فرعون؛ لأنه هو الآمر به، ولولاه ما حدث، وما الجند المنفذون سوى آلات مسخرة تفعل ما تؤمر به.
قال الأستاذ: فما الحكمة من هذا؟ .. ولم لم يسند الفعل إلى الجنود مباشرة؟
قال الطالب: لأنه الآمر بذلك .. ولولاه لم يقدم الجنود على فعلهم ..
قال الأستاذ: فما يطلق على هذا النوع من المجاز، وما الحكمة منه؟
قال الطالب: يطلق عليه المجاز العقلي .. ففيه إسناد الفعل أو ما يشبهه إلى غير فاعله الأصيل لملابسته له .. وحكمة هذا الإسناد حينها قيام ما أسند إليه الفعل بدور رئيسى في الجملة، أو هو الركن الذي لا يتم العمل بدونه.
قال الأستاذ: فهل لك أن تضرب لي أمثلة أخرى على ذلك؟
القرآن.. والبيان الشافي (2/99)
قال الطالب (1): من الأمثلة على ذلك قوله تعالى على لسان فرعون: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38] .. فهو قد طلب من هامان وزيره أن يصدر الأمر لأتباعه بإعداد مواد البناء، ولم يأمره بالقيام بها بنفسه.
ومثل ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ الله كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] فهؤلاء الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، هم العنصر الفعال فيما آل إليه حال قومهم من عقبى السوء؛ لأنهم هم الذين كانوا سبب إضلالهم وكفرهم.
ومثل ذلك قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17]، ذلك أنه لما كان يوم القيامة تملؤه أحداث مرعبة، تملأ النفوس هولا يتسبب عنها لشدتها الشيب، وكان هذا اليوم ظرفا لتلك الأحداث، صح أن يسند الشيب إليه .. وقد أجاز ذلك شدة الارتباط بين الأحداث وظرفها.
ومثل ذلك قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 6 - 7]؛ فشدة الارتباط بين العيشة وصاحبها جعلت من الجميل نسبة الرّضا إليها.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: لقد حدثنا زميلك عن المجاز العقليّ، وضرب لنا أمثلة عنه .. فهل لك أن تحدثنا عن غيره.
قال الطالب (2):أجل .. المجاز اللغوي .. وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا، لصلة بين المعنيين غير صلة التشابه .. كما في قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 19]، وقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، فقد لا تكون اليد هي الفاعلة، ولكن لما كان أكثر الأعمال بها، جمل هذا التعبير وراق.
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 170.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 171.
القرآن.. والبيان الشافي (2/100)
قال الأستاذ: فهلا ضربت لنا أمثلة أخرى على ذلك.
قال الطالب: من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية: 2 - 10]، فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل، فقد عبّر بالوجوه عن جميع الأجساد؛ لأن النصب والتنعم حاصل لكلها.
ومثله قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112]؛ فهو من إطلاق الملزوم على اللازم، إذ المراد هل يفعل؟ .. فأطلق الاستطاعة على الفعل؛ لأنها لازمة له.
أشار إلى بعض الطلبة، وقال: لا بأس .. ربما نتحدث عن المجاز بتفصيل في محل آخر (1) .. والآن حدثني عن الاستعارة وفائدتها في التعبير والتصوير والتأثير.
قال الطالب (2): كل ألوان الاستعارة .. سواء كانت استعارة محسوس لمحسوس بجامع محسوس أو بجامع عقلى .. أو استعارة محسوس لمعقول .. أو استعارة معقول لمعقول أو لمحسوس .. أو استعارة تصريحية أو مكنية .. أو مرشحة أو مجردة .. أصدق أداة تجعل القارئ يحس بالمعنى أكمل إحساس وأوفاه، وتصور المنظر للعين، وتنقل الصوت للأذن، وتجعل الأمر المعنوي ملموسا محسّا.
قال الأستاذ: فهلا ضربت لنا أمثلة توضح ذلك.
قال الطالب (3): مثلا .. كلمة {يَمُوجُ} في قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ
__________
(1) سنتحدث عنه بتفصيل عند الحديث عن التأويل المرتبط بالانحرافات التي أدت إلى التجسيم والتشبيه نتيجة سوء فهم الآيات المتعلقة بذلك، وذلك في كتاب [القرآن. وتأويل الجاهلين] من هذه السلسلة.
(2) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 166.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 166.
القرآن.. والبيان الشافي (2/101)
فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف: 99]؛ فهي لا تقف عند حد استعارتها لمعنى (الاضطراب)، بل إنها تصور للخيال هذا الجمع الحاشد من الناس، احتشادا لا تدرك العين مداه، حتى صار هذا الحشد الزاخر كبحر، ترى العين منه ما تراه في البحر الزاخر من حركة وتموّج واضطراب.
ومثلها كلمة {اشْتَعَلَ} في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] .. فهنا لا تقف هذه الكلمة عند معنى (انتشر) فحسب، ولكنها تحمل معنى دبيب الشيب في الرأس في بطء وثبات، كما تدب النار في الفحم مبطئة، ولكن في دأب واستمرار، حتى إذا تمكنت من الوقود اشتعلت في قوة لا تبقى ولا تذر، كما يحرق الشيب ما يجاوره من شعر الشباب، حتى لا يذر شيئا إلا التهمه، وأتى عليه، وفي إسناد الاشتعال إلى الرأس ما يوحى بهذا الشمول الذي التهم كل شيء في الرأس.
ومثلها كلمة {نَسْلَخُ} في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فإذا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37]؛ فهي كلمة تصور للعين انحسار الضوء عن الكون قليلا قليلا، ودبيب الظلام إلى هذا الكون في بطء، حتى إذا تراجع الضوء ظهر ما كان مختفيا من ظلمة الليل.
ومثلها كلمة {الْعَقِيمَ} في قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41 - 42]؛ ففي العقم ما يحمل إلى النفس معنى الإجداب الذي تحمله الريح معها.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: لقد كثر في القرآن الكريم استعارة الكلمات الموضوعة للأمور المحسوسة، للدلالة على الأمور المعقولة والمعنوية .. ما الهدف من ذلك؟ .. وهل لك أن تضرب لنا أمثلة عنها؟
القرآن.. والبيان الشافي (2/102)
قال الطالب (1): الهدف منها تقريب الأمور المعقولة والمعنوية حتى تصبح كأنها ملموسة مرئية، لتحدث تأثيراتها الكبيرة في النفس.
ومن الأمثلة على ذلك كلمة {فَنَبَذُوهُ} في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] .. فهذه الكلمة ـ فضلا عن أنها تدل على الترك ـ توحي إلى نفس القارئ معنى الإهمال والاحتقار، لأن الذي (ينبذ) وراء الظهر إنما هو الحقير المهمل.
ومن الأمثلة عنها كلمة {نَقْذِفُ}، و {فَيَدْمَغُهُ} في قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فإذا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]؛ فهذه الكلمة {نَقْذِفُ} توحي بالقوة التي يهبط بها الحق على الباطل، وكلمة {فَيَدْمَغُهُ} توحي بتلك المعركة التي تنشب بين الحق والباطل، حتى يصيب رأسه ويحطمه، فلا يلبث أن يموت.
ومن الأمثلة عنها كلمة {عُقْدَةُ} في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]؛ فهذه الكلمة تشعر بالربط القلبي الذي يربط بين الزوجين.
ومن الأمثلة عنها كلمة {اصْدَعْ} في قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]؛ فهذه الكلمة والتي تعني الجهر، توحي بما سيكون من أثر هذه الدعوة الجديدة، من أنها ستشق طريقها إلى القلوب وتحدث في النفوس أثرا قويّا.
ومن الأمثلة عنها كلمة {حَبْلِ اللَّهِ} في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .. والتي تشعر قارئها بالصلة العظيمة التي تربطه بالله.
ومن الأمثلة عنها كلمة {أَفْرِغْ} في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]؛ فهي تثير في النفس الطمأنينة التي يحس بها من هدأ جسمه بماء
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 167.
القرآن.. والبيان الشافي (2/103)
يلقى عليه، وهذه الراحة تشبهها تلك الراحة النفسية التي ينالها من منح هبة الصبر الجميل، ومن الدقة القرآنية في استخدام الألفاظ المستعارة أنه استخدم {أَفْرِغْ}، وهي توحي باللين والرفق وعند حديثه عن الصبر، وهو من رحمته، فإذا جاء إلى العذاب استخدم كلمة {صَبَّ} فقال: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13]، وهي مؤذنة بالشدة والقوة معا.
ومن الأمثلة عنها كلمة {زُلْزِلُوا} في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وهي تشير إلى الاضطراب النفسي العنيف.
أشار الأستاذ إلى طالب آخر، وقال: هل لك أن تذكر لنا بعض خصائص الاستعارات التي استعملها القرآن الكريم، مع ذكر الأمثلة الموضحة والمبرهنة على ذلك؟
قال الطالب (1): أجل .. فمن ذلك أن القرآن الكريم قد يستمر في رسم الصورة المحسوسة بما يزيدها قوة تمكّن لها في النفس، كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، قد أكمل صورة الشراء بالحديث عن ربح التجارة، والاهتداء في تصريف شئونها ..
ومن ذلك أن بعض الاستعارات تحتاج إلى تأمل وتدبر ليفهم سرها، وهو مما يعطيها قوة وجمالا .. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، فقد يبدو أن المناسبة تقضي أن يقال: فألبسها الله لباس الجوع،
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 168.
القرآن.. والبيان الشافي (2/104)
ولكن إيثار الذوق هنا؛ لأن الجوع يُشعر به ويُذاق، وصح أن يكون للجوع لباس؛ لأن الجوع يكسو صاحبه بثياب الهزال والضنى والشحوب.
ومن ذلك أن الأمر المعنوي قد يشتد وضوحه في النفس، ويقوى، لتسمح بأن يكون أصلا يقاس عليه .. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] .. فهنا كان الطغيان المؤذن بالثورة والفوران أصلا يُشبَّه به خروج الماء عن حده، لما فيه من فورة واضطراب.
ومثله قوله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] .. فهذه الريح المدمرة يشبه خروجها عن حدها العتوّ والجبروت.
ومن ذلك أن القرآن الكريم قد يجسم المعنى، ويهب للجماد العقل والحياة، زيادة في تصوير المعنى وتمثيله للنفس ـ وهو بعض ما يُعبر عنه بالاستعارة المكنية ـ ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف: 154] .. فالغضب يبدو هنا وكأنه إنسان يدفع موسى عليه السلام ويحثه على الانفعال والثورة، ثم سكت وكفّ عن دفعه وتحريضه.
ومثله قوله تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] .. فالجدار يبدو هنا لشدة وهنه وضعفه يؤثر الراحة لطول ما مر به من زمن.
قال الأستاذ: بورك فيكم جميعا .. والآن، وبعد أن أثبتم استيعابكم الجيد لهذا الفن من فنون البلاغة القرآنية .. أريد من كل منكم أن يذكر نموذجا من نماذج الاستعارة، ليسجلها تلامذة القرآن المتواجدين بيننا، حتى يزداد الأمر وضوحا لديهم.
القرآن.. والبيان الشافي (2/105)
قام بعض الطلبة، وقال (1): من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، فالتعبير بـ {أُمُّ الْكِتَابِ} تعبير مجازي بالاستعارة؛ لأنَّ الأم هي الأصل، وهي التي تقوم على أولادها، ويرجعون إليها في غذائهم وعواطفهم، فتشبهت بها الآيات المحكمات التي هي أصل الدين ومرجعه، وإذا كانت متشابهات، فهي تفسير بالرجوع إلى هذا الأصل، وهو المحكمات.
قال آخر: ومنها قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، فالمراد بالأم الأصل، وهو إما أن يكون المراد منه اللوح المحفوظ الذي سجلت فيه أقدار الخلائق، لأنه محفوظ من التغيير والتبديل، فلا يغير ما فيه ولا يبدل، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] (2) .. وإما أن يكون المراد منه (3) الشريعة المتفق عليها في كل الديانات، فينسخ الله تعالى ويثبت، ولكن أصل هذه الشرائع لا يتغير، وهو الذي بينه الله تعالى في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]
قال آخر (4): ومنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] .. فقد شبه الله تعالى تقديم المؤمنين أنفسهم ـ طلبا لما عند الله من نعيم مقيم ورضوان من الله أكبر ـ بمبايعة بينهم وبين ربهم لكمال الالتزام عليهم، ورجاء ما طلبوه من رضوان
__________
(1) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 189.
(2) أسرار الأقدار (104)
(3) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 189.
(4) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 189.
القرآن.. والبيان الشافي (2/106)
ونعيم مقيم، وهي استعارة تمثيلية، وفيها تشبه حال بحال، لا تشبيه ألفاظ مفردة بمثلها.
قال آخر (1): ومن الاستعارات الواردة في القرآن الكريم بكثرة التعبير عن النفاق بالمرض، ومنه قوله تعالى في وصف المنافقين وغيرهم من المرتابين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]، وقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]، وقوله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49]، وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125] .. ففي هذه الآيات الكريمة نجد التعبير عن النفاق والشك وغيرهما بالمرض، وذلك للمشابهة بينها وبين مرض الأجساد، فهي تفسد القلوب والعقول والمدارك، كما يفسد المرض الأجساد ويضعف الحركات وقد يشلها.
قال آخر (2): ومن الاستعارات الجميلة الواردة في القرآن الكريم التعبير عن العلم والإيمان بالنور، وعن الكفر والعناد بالظلمات، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] .. فالظلمات هنا تشمل الجهل والكفر والجحود والعصبية الجاهلية وكل ما يسيطر على الأنفس من غير سلطان من الحق والعقل .. ولذلك عبَّر عن الباطل بالظلمات؛ لأن له أسبابًا متكاثفة بعضها فوق بعض والنور واحد، وهو الحق وطلبه والإذعان له.
قال آخر (3): ومن الاستعارات الجميلة الواردة في القرآن الكريم ما ورد في قوله
__________
(1) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 189.
(2) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 191.
(3) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 190.
القرآن.. والبيان الشافي (2/107)
تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] .. ففي هذه الآية الكريمة عدة استعارات تبلغ أعلى درجات السمو البياني .. فمنها إضافة اللباس إلى الجوع والخوف .. ذلك أن الجوع القائم المتمكن، والخوف الذي يفزع النفوس، ويذهب بالاطمئنان، ويلقي بالاضطراب يشبه اللباس السابغ؛ لأن اللباس يعم ويكسو الجسم كله، وكذلك الجوع إذا عمّ، والخوف إذا طمّ؛ فإنه لا يبقى في الجماعة أحدًا لم ينله؛ لأن الأزمات الجائحة، والخوف من عدو داهم لا ينجو منه أحد، فكان التعبير عن هذه الحالة باللباس .. بالإضافة إلى أن اللباس يلتصق بالجسم ويلازمه ولا يفارقه، وكذلك الجوع والهم والغم والخوف، وفي ذلك تصوير للأمة أو المدينة إذا عمَّها البؤس والشقاء وداهمها الخوف من كل ما يحيط بها.
وهناك استعارة أخرى، في كلمة {فَأَذَاقَهَا}؛ فإن اللباس يُلبس ولا يُذاق، ولكنه عبر عنه بالذوق، فشبه حال النزول بحال الإذاقة، لأن من حصل لهم ذلك أحسّوا بمرارة المذاق بعد أن كانوا في بحبوحة العيش، فكان التعبير بأذاق أنسب لهذا المعنى.
وهناك استعارة تمثيلية ثبتت من مجموع العبارات، وهي تشبيه حال جماعة من الناس كانت مؤمنة مرزوقة؛ فلما كفرت بالنعم فلم تقم بحقها، ولم تؤد الطاعات، ولم تنته عن المنهيات بحال قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها واسعًا من كل مكان فجحدت نعمة الله تعالى فضاق زرقها، وبدلت من الأمن خوفًا، ومن الرعد جوعًا.
قال آخر (1): ومن الاستعارات الجميلة الواردة في القرآن الكريم ما ورد في قوله تعالى في تصوير حال من اعتراه الندم، ولا يجد مخلصًا له إلا أن يعترف قوله تعالى: {وَلَمَّا
__________
(1) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 193.
القرآن.. والبيان الشافي (2/108)
سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149] .. فالتعبير في قوله تعالى: {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} هو استعارة في الدلالة على الندم؛ لأن النادم يحس بالسقوط، ويحس بأنه هبط، فشبه القرآن الكريم حالهم في أن الندم برح بهم بمن سقط في يده، وهو دال على سقوطه فيما لا يليق، فشبه المعنى الخاص بالندم من ألم، ومن ظهور للخطأ، أو الإحساس بالخطيئة بمن سقط في يده دليل إثمه، ولا يجد مناصًا من التخلص من جرمه.
قال آخر (1): ومن الاستعارات الجميلة الواردة في القرآن الكريم ما ورد في قوله تعالى في تصوير حال أهل الكهف، وأنهم لا يسمعون: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11]؛ فإن كلمة ضرب تدل على أن الله تعالى منع عنهم السمع، وكأنه غلق عليهم باب السمع، وضرب عليه، فلا يفتح سنين عددًا، وذلك يصور حالهم، وأنهم لا يسمعون ما يجرى، والناس يحسبونهم أيقاظًا يحسون بما يحس غيرهم.
قال الأستاذ: بورك فيكم جميعا .. وسنكتفي بما ذكرتم من أمثلة، وأظن أنها كافية ليتعرف تلامذة القرآن الكريم على غيرها ..
بعد أن استمعت إلى الشروح المفصلة المرتبطة بالمجاز والاستعارة في القرآن الكريم، أخذ بيدي طالب كان يجلس بجانبي، وقال: هلم بنا إلى القسم الثالث؛ فهناك علوم أخرى في انتظارك.
قلت: شكرا جزيلا؛ أأنت أيضا طالب وأستاذ في نفس الوقت؟
__________
(1) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 193.
القرآن.. والبيان الشافي (2/109)
قال: ما أفلح من لم يكن كذلك .. فمن ظن أنه بكونه أستاذا استغنى عن الطلب؛ فقد استكبر وعتا في نفسه عتوا كبيرا .. ألم تعلم أن العلم من المهد إلى اللحد؟
قلت: بلى .. وقد روي ما ذكرته حديثا.
قال: فجميع تلامذة القرآن الكريم يجمعون بين قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] .. حتى لا يقعوا فيمن وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]
قلت: بورك فيك .. وفي استدلالاتك البديعة .. فأخبرني عن العلم الذي تريد مني أن أتعلمه .. ولا تنس أني الآن في صحبة معلم البيان، الذي هو صاحب لمعلم القرآن.
قال: بلى .. فكلنا تلامذة لذينك المعلمين الشريفين.
قلت: وأنا الآن في قسم الوضوح والتقريب.
قال: أجل .. ولذلك تحتاج إلى التعرف على أسلوب آخر من الأساليب المرتبطة به .. وأنا بحمد الله من الأساتذة الذين كُلفوا بتعليمه.
قلت: فما هو؟
قال: الكناية والإشارة .. فمن لم يفهم الإشارة لم يفهم العبارة.
قلت: فما الكناية .. وما الإشارة؟
قال: إياك أعني .. واسمعي يا جارة.
قلت: ما تعني؟
القرآن.. والبيان الشافي (2/110)
قال: هل تعلم المراد من قوله تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]؟
قلت: أجل .. هذا وصف حسي لمشيتهم ولقائهم، يمشون غير مسرعين، ولا متباهين، بل يمشون مشيًا هينًا، لا سرعة فيه ولا إبطاء، وإذا خاطبهم الحمقى لا يمارونهم ولا يجادلون، فإن المراء يخل بالوقار، وملاحاة السفهاء ليست من دأب العقلاء.
قال: فهل المراد فقط وصف مشيهم ومخاطبتهم؟
قلت: لا .. لو كان الأمر كذلك لتيسر على الجميع أن يتحولوا إلى هؤلاء المتقين.
قال: فهل تشير الآية إلى معان أخرى؟
قلت: أجل .. تشير إلى أدبهم وتواضعهم ولينهم وأخلاقهم العالية ..
قال: لكن الآية فقط تحدثت عن مشيهم وخطابهم؟
قلت: ومشيهم وخطابهم دليل عليهم وعلى أخلاقهم.
قال: فهلم معي إذن إلى القسم الذي تُدرس فيه هذه المعاني؛ فهو من أساليب القرآن الكريم التي لا يمكن فهمه ولا تدبره من دونها.
سرت مع أستاذ الإشارة والكناية إلى القسم المخصص لهما .. وما إن دخلنا إلى القاعة حتى وقف الطلبة جميعهم، وبكل أدب واحترام.
ثم صعد الأستاذ إلى المنصة، وقال: أظن أنكم قد قمتم بما كلفتكم به من البحث في الكناية والإشارة والتعريض وما يرتبط بها في القرآن الكريم.
قالوا: أجل .. فسل ما بدا لك؛ وستجدنا إن شاء الله من المجيبين.
أشار إلى بعض الطلبة، وقال: حدثنا عن الكناية .. والداعي إليها.
القرآن.. والبيان الشافي (2/111)
قال الطالب: الكناية هي أن يريد المتكلم إتيان معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيؤتى به إليه، ويجعله دليلًا عليه.
قال الأستاذ: فما الفرق بينها وبين المجاز والاستعارة؟
قال الطالب: في الكناية يظل اللفظ على ظاهره بادي الرأي، ولكن لا يراد ذلك الظاهر، وإنما يراد لازمه .. أي إنه يفهم تبعًا له.
قال الأستاذ: فما الغاية من ذلك.
قال الطالب (1): تقوم الكناية القرآنية بنصيبها كاملا في أداء المعاني وتصويرها خير أداء وتصوير، فهي حينا راسمة مصوّرة موحية .. وحينا مؤدبة مهذبة .. تتجنب ما ينبو على الأذن سماعه، وحينا موجزة تنقل المعنى وافيا في لفظ قليل .. ولا تستطيع الحقيقة أن تؤدي المعنى كما أدّته الكناية في المواضع التي وردت فيها الكناية القرآنية.
قال الأستاذ: فهلا ضربت لنا أمثلة عن ذلك.
قال الطالب (2): من الغايات المعتبرة في الكناية في القرآن الكريم عدم التعبير عن الأمور التي يستحيي الناس من ذكرها بالألفاظ المعبرة عنها حقيقة .. ومن الأمثلة عنها الكناية الواردة في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]، فقد عبرت الآية الكريمة عن قضاء الحاجة بكلمة: {مِنَ الْغَائِطِ}، وهي تعني في أصل وضعها المكان المنخفض من الأرض، فلم يعبر باللفظ الذي يُستهجن ذكره، وكني عنه بمكانه، جرياً على عادة العرب، حيث أنهم كانوا إذا أراد قضاء
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 172.
(2) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 197.
القرآن.. والبيان الشافي (2/112)
حاجة قصدوا مكانًا منخفضًا من الأرض.
ومثله في الآية قوله تعالى: {لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} .. وقد ضربت الآية {مِّن الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} مثلين لما يُعف عن ذكره.
ومثله في قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]، فقد جاء معنى الكناية في قوله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}، فالإفضاء إلى الشيء هو المباشرة له، وهو كناية عن المعاشرة الزوجية.
ومثله الكناية بكلمة {دَخَلْتُمْ} .. كما في قال الله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23]، فليس المراد منه ظاهر اللفظ.
ومثله الكناية بكلمة {اسْتَمْتَعْتُمْ} في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 24]، فقد جاء معنى الكناية في قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ}
ومثل ذلك الكناية بكلمة {نُشُوزَهُنَّ} في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]، فقد جاء معنى الكناية في قوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} لأن النشز من الأرض وهو المكان المرتفع، وهو يفيد تعالي الزوجة على زوجها، أو تعالي الزوج على زوجته، كما قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128]
قال الأستاذ: والآن .. بعد أن فهمنا المقصود من الكناية، والغرض منها .. اذكروا لنا أمثلة عنها من القرآن الكريم.
القرآن.. والبيان الشافي (2/113)
قام بعض الطلبة، وقال (1): من الكناية المصوّرة الموحية قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] .. فهنا نرى أن التعبير عن البخل باليد المغلولة إلى العنق، فيه تصوير محسوس لهذه الخلة المذمومة في صورة قوّية بغيضة منفرة .. فهذه اليد التي غلّت إلى العنق لا تستطيع أن تمتد .. وهو بذلك يرسم صورة البخيل الذي لا تستطيع يده أن تمتد بإنفاق ولا عطية .. والتعبير ببسطها كل البسط يصوّر صورة هذا المبذر الذي لا يبقي من ماله على شيء، كهذا الذي يبسط يده، فلا يبقى بها شيء، وهكذا استطاعت الكناية أن تنقل المعنى قويّا مؤثرا.
قال آخر (2): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]، فقد مثّل الاغتياب بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك، حتى جعله لحم الأخ .. فأما تمثيل الاغتياب بأكل لحم إنسان آخر مثله، فشديد المناسبة جدّا، وذلك لأنّ الاغتياب إنما هو ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه؛ لأن أكل اللحم فيه تمزيق لا محالة، ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر مثله، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه، وهذا القول مبالغة في الاستكراه، لا أمد فوقها، وأما قوله {مَيْتاً} فلأجل أن المغتاب لا يشعر بغيبته، ولا يحس بها.
قال آخر (3): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56] .. ففي كلمة {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} تصوير للمظهر المحسوس
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 172.
(2) كتاب الفوائد ص 127.
(3) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 173.
القرآن.. والبيان الشافي (2/114)
لخلة العفة، ولو أنه استخدم عفيفات ما كان في الآية هذا التصوير المؤثر، ولا رسم أولئك السيدات في تلك الهيئة الراضية القانعة، التي لا يطمحن فيها إلى غير أزواجهن، ولا يفكرن في غيرهم.
قال آخر (1): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75]، ففي التعبير بأكل الطعام أدبا ورقّة تغنيك عن أن تسمع أذنك التعبير عن قضاء الحاجة.
قال آخر (2): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، ففي الآية الكريمة وصف لأولياء الله المخلصين بأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذلك مراد لا ريب فيه، وذلك يلازمه أن يكونوا قريبين من ربهم، قد أخلصوا له، واستحقوا رضوانه، ومن يكون قريبًا من حبيبه، لا يخافه في مستقبل ولا يحزن فيه على ماض وقع منه، لأن المحبة تجعله قريب الرجاء في الغفران، والطمع في الرحمة.
قال آخر (3): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى في وصية لقمان عليه السلام لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، ففي الآية الكريمة استدلال على قدرة الله تعالى بإخراج حبة الخردل من صخرة، أو في السماوات أو في الأرض .. هذا هو ما تدل عليه الألفاظ .. وهناك اللازم لهذا، وهو إثبات علم الله الذي لا يخفى عليه خافية، وإثبات قدرة الله تعالى الذي لا يعجز عن شيء في السماء ولا في الأرض .. ولازم لهذا اللازم، وهو البعث والنشور؛ لأنه
__________
(1) من بلاغة القرآن، البدوي، ص 173.
(2) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 200.
(3) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 200.
القرآن.. والبيان الشافي (2/115)
إذا كان سبحانه وتعالى قادرًا على أن يأتي بالحبة من الصخرة أو من أيِّ جزء في السماء أو الأرض، فهو قادر على إعادة ما خلق .. ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 50 - 51]
قال آخر (1): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى في وصية لقمان عليه السلام لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 17 - 19]، فإن هذه الأوامر يراد منها ما يدل عليه ظاهر الألفاظ من أنه لا يصعِّر خدَّه للناس، بأن يميله عن شكله، فلا يقبل عليه بكل وجهه، ومن أنه يقصد في مشيه فلا يتباطأ ولا يسرع، بل يسير بتؤدة واطمئنان، ومن أنه يغضض من صوته، فلا يتعالى ويتكلم صياحًا، ويراد أيضًا معنى لازم لها وهو التضامن والاتصال بالناس برفق ومودة من غير كبرياء، وألَّا يغمط الناس حقوقهم، وألَّا يبطر نعمة الله تعالى، وألا يدلي نفسه بغرور؛ لأن الغرور مطية الشيطان، والسبيل إلى العصيان.
قال آخر (2): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]؛ فهذا كناية عن عظمة الله وقدرته، وأنه بمجرد أن يريد يتحقق المراد، سواء لم يكن شيء فيوجده بإرادته من لا شيء، أو كان شيئا، وأراد تحويله الى شيء آخر، فيتحول.
__________
(1) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 200.
(2) التفسير الكاشف، مغنية (1/ 187)
القرآن.. والبيان الشافي (2/116)
قال آخر (1): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، فهو كناية عن أن ابراهيم عليه السلام هو من صفوة الصفوة، وأنه أهل للنبوة والرسالة .. ذلك انه استجاب لجميع أوامر الله ونواهيه، وقام بأعباء النبوة والرسالة على أتم الوجوه وأكملها، فالمقصود بالآية مجرد الثناء على ابراهيم، لإخلاصه وطاعته وانقياده، وفي الوقت نفسه توبيخ لليهود والنصارى والمشركين الذين يفتخرون بإبراهيم، ثم يعصون ويتمردون على من جاء لإحياء ملة ابراهيم، ونشر سنته وعقيدته.
وهذا ما يجيب على الإشكال عن الوقت الذي طلب الله فيه الإسلام من إبراهيم، وهل هو قبل النبوة، أو بعدها .. فالأول غير ممكن، لأن الله لا يطلب بطريق الوحي ممن ليس بنبي، والثاني تحصيل حاصل، لأن الله لا ينزل الوحي على إنسان إلا بعد أن يسلم.
قال آخر (2): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى عن بعض عقوبات الكاتمين للحقائق: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174]، فقوله: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كناية عن إعراضه عنهم، وغضبه عليهم.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، فقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} إشارة إلى الدقة في الوزن والحساب، وقيام العدل في أدق الأمور، وعدم خفاء الأمور على الله.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ
__________
(1) التفسير الكاشف، مغنية (1/ 208)
(2) التفسير الكاشف، مغنية (1/ 267)
القرآن.. والبيان الشافي (2/117)
لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، فقوله: {تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} كناية عن شدة الندم، والخوف من عقاب الله، وبيان الخسران، وظهوره لأصحاب الموبقات.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44]، فقوله: {يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ} كناية عن ميلهم إلى الضلال، وانصرافهم عن الهداية تعمُّداً لا جهلاً .. والمعنى أن ضلالهم برغبة منهم لا بقهر أو جبر أو جهل .. وأي شيء يرجى ممن يشتري الضلالة، وينفق ماله وسعيه وفكره فيها؟ .. وكل ذلك كناية عن إيغالهم في غيهم.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47]، فقوله: {نَطْمِسَ وُجُوهًا} كناية عن وقوع العذاب وانقضاء وقت التوبة والرجوع، وذلك لاستحكام العناد والمكابرة، وأن الإمهال من الله لهم وهم لا ترجى منهم توبة أو هداية لا معنى له، فيكون وقوع العذاب أجدر ليكونوا عبرة لغيرهم .. وقد ارتبط الطمس بالوجوه، لأن الوجه علامة الإنسان فيكون طمسه خروجه عن الكرامة التي كرم بها الله عباده من بني البشر، فلا يكون هؤلاء على حد الإنسانية، وإنما مسوخ على صورة الحيوانات المستكرهة من القردة والخنازير وغيرها.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57]، فقوله: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} كناية عن النعيم وبُعد الشقاء، فيما غيرهم يقاسي شدة الأهوال، ويلاقي العّذاب، يلفحه الحر الشديد؛ وقد استوحي هذا
القرآن.. والبيان الشافي (2/118)
المعنى من صورة حسية هي الظل، وما يقابله من لهب الشمس.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فقوله: {شَجَرَ بَيْنَهُمْ} كناية عن وقوع الخلاف، والتنازع، والشجار هو الاشتباك بين الأمور والتداخل بينها، والأصل فيها الشجر، وتداخل أغصانه وتشاجرها، وقد استعمل للخصومة لما فيها من تشابك الأيدي؛ فسمي لذلك شجاراً لمشابهة بينهما.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]، فقوله: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} ـ والفتيل هو السحاة التي في شق النواة، أو ما يفتل بين الأصابع من الوسخ ـ كناية على أنهم لا ينقصون أخس الأمور، وأبخسها عند الحساب، ولا يقع ذلك لا عن سهو ولا قصور، فكيف بالأمور العظيمة.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، فقوله: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} كناية عن عدم امتناع أحد من الموت لأي سبب كان.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]، فقوله: {يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} من نبط الماء، أي نبعه، ومعناه أنهم يستخرجونه من مخابئهِ ومضانه الخفية عن
القرآن.. والبيان الشافي (2/119)
سواهم؛ لأنهم امتازوا على غيرهم بالنبوغ والفهم، وقد خص قوماً بذلك صرفاً لغيرهم، ودفعاً من أن يكون البتُّ بيد من هبَّ ودَبَّ، وإنما يكون ذلك على يد من أوتي البصيرة لأن الأحكام تحتاج إلى استخراج، فكان لها وجه شبه بنبط الماء.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90]، فقوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} يدل على الضيق وعدم الرغبة في الدخول في أمر، بل شدة كراهته وثقله على النفس .. إضافة إلى احتباس ذلك في قلوبهم، وظهوره في ملامح وجوهم .. والحصر: الضيق، وإذا ضاق الصدر اختنق الإنسان، وجعل ما بهم ضيقاً لاحتباس أمر من الأمور في صدورهم، وعجزهم عن البوح به.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 91]، فقوله: {أُرْكِسُوا} من الرَكْس، وهو رد الشيء مقلوباً؛ بمعنى أنهم يقحمون في الفتنة كلما أرادوا الخروج منها لعدم خلوص أنفسهم، ولزيغ قلوبهم، وهي كناية عن التردد في الفتن لوجود مقدماتها، وكأنما أخذ من غمر الشيء، أي أحاط به من جميع الجوانب، فدل ذلك على أن الفتنة غمرتهم.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100]، فقوله: {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا
القرآن.. والبيان الشافي (2/120)
وَسَعَةً}، يعني وجود المجال والفرصة بتغير المكان، وما لا يكون ولا يقع في مكان؛ يكون ويقع في غيره .. والمراغمة تعني المغالبة .. فالهجرة تعني ابتعاده لكي لا يقع تحت هيمنة أي جهة من الجهات.
قال آخر: ومن الأمثلة عنها قوله تعالى في الدعوة للتواضع مع الوالدين: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]، فهذا التعبير كناية عن الرفق في معاملة الوالدين، وأخذهما باللين والرقة، كما تقول: (واخفض لهما الجناح ذلا)، ولكن لما كان ثمة صلة بين الجناح بمعنى جانب الإنسان وبين الذل، إذ إن هذا الجانب هو مظهر الغطرسة حين يشمخ المرء بأنفه، ومظهر التواضع حين يتطامن.
قال الأستاذ: بورك فيكم جميعا على هذه الأمثلة التي قد يقع الخلاف في بعضها .. والخلاف لا يفسد للود قضية .. والآن حدثوني عن الإشارة في القرآن الكريم .. والغرض منها.
قام بعض الطلبة، وقال (1): الإشارة، تعني دلالة الملزوم على اللازم .. أو هي نتيجة لازمة للعبارة .. أو هي ما يدل عليه اللفظ بغير العبارة التي تدل عليها الألفاظ.
قال الأستاذ: فهلا ضربت لنا أمثلة تقرب ذلك.
قال الطالب: من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] .. فعبارة النص تفيد طلب العدالة مع اليتامى، وإفادة إباحة تعدد الزوجات مثنى وثلاث ورباع، وإباحة الدخول بملك اليمين ..
__________
(1) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 201.
القرآن.. والبيان الشافي (2/121)
وهذه أحكام علمت من العبارة نفسها .. وهناك أحكام أخرى تفهم من لوازم العبارة، أو من باب الإشارة، والتي هي ضرب من ضروب الكناية .. ومنها وجوب العدل مع الزوجة .. وأن الرجل لا يحل له أن يتزوج إذا لم يعدل مع الزوجة ولو واحدة، إذا تأكد أنه لا يعدل .. والمساواة بين الأزواج .. وأن عليه نفقة زوجته .. وأنه لا يتزوَّج إلا إذا كان قادرًا على إعالة زوجته.
قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في آية المداينة: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] .. فهي تفيد من باب الإشارة أن شهادة المرأة لا تسمع وحدها، بل تسمع مع أختها التي تشهد معها؛ وذلك يقتضي أن تحضرا معًا لتسترشد كل واحدة بالأخرى إن ضلَّت، وذلك فُهم من مقتضى {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}؛ لأنه لا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا اجتمعتا في الأداء، وسمعت كل واحدة كلام الأخرى، وذلك بخلاف شهادة الرجل، فإنه لا بُدَّ أن يسمع كل واحد منهما منفردًا، لكيلا يومئ أحدهما إلى الآخر.
قال آخر (2): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في آية الرضاع: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] .. فقد فهمت الأحكام التي ذكرتها الآية الكريمة بالنص،
__________
(1) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 202.
(2) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 202.
القرآن.. والبيان الشافي (2/122)
وفهم بالإشارة معانٍ أخرى تلازم ما نص عليه كنتيجة له، وما نص عليه في العبارة هو ملزوم، والثاني لازم له .. ومنها أنَّ الأب لا يشاركه في نفقة ولده أحد، وأن الولد لا يشاركه في نفقة أبيه أحد .. ومنها أنَّ الأصل في الإرضاع أن يكون على الأم، ويجوز الاسترضاع باتفاقهما، وأن أجرة الرضاعة تكون على الأب .. ومنها أن فصل الولد الذي لا إرادة له على الأم في رضاعته يكون عن تراضٍ منهما وتشاور.
قال آخر (1): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، فإنَّها تفيد ـ بالعبارة أن الحكم الإسلامي وإدارة الدولة الإسلامية في اقتصادها ونظمها وإدارتها تقوم على الشورى ـ وتفيد بطريق الإشارة أنه لا بُدَّ أن يكون اختيار الحاكم أو الخليفة برضا المسلمين، فلا تصح الخلافة إلا باختيار المسلمين ورضاهم، ولذلك كانت البيعة في الإسلام .. وأنه لا ينفذ حكم أو قانون إلا إذا أقرَّته جماعة المسلمين، أو الصفوة المختارة منهم .. وأنه لا بُدَّ من وجود جماعة مختارة من الشعب اختيارًا أساسه الحرية والرضا، يكون عملها مراقبة الحكام، والنظر بعين فاحصة في أعمالهم، وألَّا يسن قانون إلا برأيهم، فكل هذه لوازم لتحقيق معنى الشورى وتنفيذه .. وأنَّ الأعمال الفنية كقيادة الحرب والصناعة تكون تحت رقابة على القائمين بها من صفوة مختارة منهم، يكون عملها التوجيه .. وهكذا ثبتت كل هذه الأمور كنتائج لتنفيذ الأمر بالشورى.
بينما كنت مستغرقا في تتبع ما يذكره طلبة البيان القرآني في عرض فهومهم للإشارات القرآنية، إذا بي أسمع صوتا يناديني، ويطلب مني الخروج من تلك القاعة؛ فرفعت يدي
__________
(1) المعجزة الكبرى القرآن، أبو زهرة، ص 203.
القرآن.. والبيان الشافي (2/123)
أستأذن من الأستاذ .. لكنه لم يهتم بي، ولم يرد علي، لا هو ولا أحد من التلاميذ، بل ظلوا يذكرون ما يرونه من إشارات القرآن الكريم، وكأنهم لم يروني، ولم يسمعوني.
لم أجد سوى أن أخرج .. وبمجرد خروجي وجدت أحدهم يقول لي: لقد أطلت جلوسك في هذه القاعات .. من الصباح ونحن ننتظرك في قاعة التصوير والتخييل .. كنا نظن أنك ستكتفي بها دون تلك القاعات التقليدية التي زرتها.
قلت: ما بك سيدي؟ .. كيف تطلق على كل تلك العلوم التي يسرت علينا الفهم والتدبر علوما تقليدية؟
قال: لأنها كذلك .. فهي علوم لم يعد لها من يهتم بها في عصرك إلا القليل المحدود .. وربما يصعب على الكثيرين فهمها .. ولذلك دعت حجة الله القائمة على خلقه أن تُستبدل تلك العلوم بعلوم جديدة، ربما تكون أكثر بيانا للبيان القرآني.
قلت: فهل تتعارض مع العلوم السابقة، التي سميتها علوما تقليدية؟
قال: لا .. ومعاذ الله أن تكون كذلك .. بل هي تستفيد منها، ولكنها تختار التعبير عن بيان القرآن الكريم بلغة أخرى .. ربما تكون أيسر وأفضل.
قلت: أظن أنك تقصد لغة التصوير والتخييل.
قال: أجل .. فالقرآن الكريم لا يكتفي بعرض الحقائق، وإنما يعرضها في شكل صور وأحداث لتمتلئ بها النفس، وتؤثر فيها.
قلت: أجل .. لقد سمعت بهذا كثيرا .. وكم وددت لو تعلمت هذه العلوم؟
قال: فهلم بي لقاعة التصوير والتخييل؛ فقد تجمع فيها المصورون والممثلون والمخرجون .. ليتعلموا من مدرسة القرآن الكريم هذه الفنون.
ما سرنا إلا قليلا، حتى دخلنا قاعة تشبه الاستديوهات السينمائية .. وقد رأيت عند
القرآن.. والبيان الشافي (2/124)
دخولي لها مشهدا سينمائيا جميلا، يحوي الكثير من المرئيات المعبرة عن الآيات التي كان القارئ يقرؤها بصوت جميل.
وبعد أن انتهى المشهد، قام رجل يلبس لباس الفنانين، ويطيل شعر رأسه مثلهم، وقال: لقد حاولت في هذا المشهد أن أصور هذه الآيات الكريمة، بحسب آخر تقنيات التصوير والإخراج، وأظن أنها أعجبتكم.
قال أحدهم: هي جميلة جدا، ونتمنى أن تواصل على هذا الدرب؛ فنحن في عصر جديد، ونحتاج إلى طبع نسخة مصورة من القرآن تيسر على عامة الناس فهمه.
قال المخرج: نحن نفعل ذلك، مع فريق كبير من المخرجين .. والحمد لله .. هم حاضرون اليوم معنا .. ومعهم بعض مدراء التصوير .. لنسمع منكم المزيد من المشاهد؛ فنحن نفكر في إخراج أفلام سينمائية ليس لها من هدف سوى توضيح الحقائق القرآنية.
قام رجل من القاعة، يلبس لباس الشيوخ، وقال: أشكر المخرج على هذا التسجيل الرائع الذي أثبت به أنه تلميذ حقيقي لمعلم القرآن .. بل لمعلم البيان أيضا .. ونحن نريد منكم الآن، وخصوصا مع وجود عدد محترم من المتخصصين أن نتحدث عن هذه الظاهرة القرآنية البيانية العجيبة .. ظاهرة التصوير والتخييل، ودورها في التعريف بالحقائق القرآنية، وتقريبها والتأثير في المتدبرين لها (1).
واسمحوا لي قبل أن تبدأوا أحاديثكم أن أشرح لكم غرض دعوتي لكم .. وذلك يستدعي أن أبدأ لكم الحكاية من البداية .. فلا تُفهم النهايات إلا بالبدايات ..
سكت قليلا، ثم قال (2): في البداية ـ كما تعرفون ـ كانت السليقة العربية الصافية
__________
(1) استفدنا الكثير من المادة العلمية المرتبطة بهذا المبحث من كتاب: وظيفة الصورة الفنية في القرآن، لعبد السلام أحمد الراغب، وهو من أحسن الكتب التي تناولت هذا الموضوع بتفصيل ويسر. وقد تصرفنا في النصوص المقتبسة بما يقتضيه السياق الروائي.
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 7)
القرآن.. والبيان الشافي (2/125)
تساعد أصحابها على إدراك ما في القرآن الكريم من جمال فني، وتصوير جميل، وتعبير معجز .. واستمرت هذه السليقة ردحا من الزمن، إلى أن بدأت تفقد صفاءها، وقدرتها على تذوّق التعبير القرآني .. وحينها بدأت حركة تفسير القرآن، وحركة الكشف عن مواضع الإعجاز فيه أيضا.
وقد تنوّعت الدراسات القرآنية آنذاك، وسارت في مسارات عدة، أهمها ـ ما يرتبط بمجال تخصصنا ـ تلك الدراسات التي ركزت على البلاغة والأساليب وطرائق التعبير .. وفي مقدمتها ـ كما تعرفون ـ كتب الجاحظ والجرجاني والزمخشري والخطابي والرماني والباقلاني وغيرهم .. فقد رأت هذه الدراسات القيّمة أن (البيان) هو سرّ الإعجاز، وبه كان التحدي للعرب قديما فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، وما زال هذا التحدي إلى يوم الدين.
واستمرارا لتلك الجهود، أو تعميقا لها، أو تبسيطا لمعانيها ظهر في العصر الحديث ما يُطلق عليه (الصورة الفنية)، باعتبارها قاعدة الأسلوب القرآني الأساسية، وأداته المفضّلة في التعبير عن المعاني المجردة، والحالات النفسية، والمواقف الإنسانية.
وقد رأيت من خلال بحثي أن العلماء في القديم تحدثوا عنها في كتبهم، ولكنها لم تحظ عندهم بدراسة متخصصة مستقلة، كما أن آراءهم حولها، لم تخرج عن الفهم الجزئي المحدود لها، إلى (الفهم الكلي) المدرك لخصائصها الفنية في النص كله.
ومثل ذلك للأسف علماء البيان في العصر الحديث؛ فمع أن الدراسات المعاصرة حول (الصورة) كثيرة جدا، إلا أنا نجد الأدباء والنقاد كرّسوا جهودهم على دراسة (الصورة الشعرية)، ولم يهتموا بدراسة الصورة القرآنية، على الرغم من روعة بنائها الفني، وإيقاعها الفريد، وقوة تأثيرها في النفوس .. وأستثني طبعا من هؤلاء الدارسين (سيد
القرآن.. والبيان الشافي (2/126)
قطب) الذي خصص كتابا مستقلا لها عنوانه (التصوير الفني في القرآن)؛ فكان بذلك أول من لفت الانتباه إلى ظاهرة الإعجاز في التصوير القرآني، ولكنه أيضا قصر دراسته على الجانب الفني دون الجانب الوظيفي لها، كما صرّح هو بذلك في مقدمة كتابه بقوله: (إذ كان همي كله موجها إلى الجانب الفني الخالص) (1)
ولهذا طلبت منكم أن تحضروا جميعا ـ بتخصصاتكم المختلفة ـ سواء تلك التي ترتبط بالبيان .. أو تلك التي ترتبط بفنون التصوير والإخراج .. بل حتى بفنون الكتابة القصصية والروائية.
قام آخر، وقال (2): بورك فيك شيخنا .. وأنا معك فيما ذكرت .. فكتاب سيد قطب حول التصوير الفني في القرآن الكريم مع أهميته إلا أنه يحتاج الكثير من التفصيل والدراسة، خاصة مع ظهور الكثير من الدراسات النقدية القيّمة التي يمكن الاستفادة منها في دراسة الصورة القرآنية.
قام بعض الحضور، وقال: أرى أننا نحتاج في بداية حديثنا عن الصورة القرآنية، أن نحدد أغراضها، حتى نسعى في أعمالنا الفنية لتطبيقها .. فالأمور بمقاصدها .. والبدايات السليمة لا تتحقق إلا بمراعاة الغايات والمقاصد.
قال آخر (3): بما أني مختص في علم النفس .. فقد رأيت أن للصورة الفنية في القرآن الكريم تأثيرا كبيرا في النفس الإنسانية .. حيث أنها تثير فيها الانفعالات المختلفة، من خوف ورجاء وحبّ وكره، وإقدام وإحجام .. لأنّ الله الذي أنزل القرآن الكريم، هو الذي خلق الإنسان، وهو أعلم بما يؤثر فيه، ويحرك نفسه لكي تستجيب.
__________
(1) التصوير الفني في القرآن: ص 9.
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 7)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 416)
القرآن.. والبيان الشافي (2/127)
وربما يشير إلى هذه قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69] .. فالسرور حالة نفسية متولّدة من تأثير صورة اللون فيها.
ومثل ذلك قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71] .. فالتذاذ العين بالصورة الحسية يكون مصحوبا بحالة شعورية من شدة تأثير الصورة فيها.
ومثل ذلك قوله تعالى عن النسوة اللاتي تعرضن ليوسف عليه السلام: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]
قال آخر (1): بورك فيكم .. ومن الأمثلة على ذلك أن الله تعالى عندما يريد استحالة نيل الذين كفروا القبول، وأنهم لن يدخلوا الجنة إطلاقًا، وأن القبول أو الدخول أمر مستحيل .. وهي الطريقة الذهنية للتعبير عن هذه المعاني المجردة .. يعرضها بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40] .. فالآية الكريمة تدع للخيال أن يرسم صورة لتفتح أبواب السماء، وصورة أخرى لولوج الحبل الغليظ في سم الخياط؛ ويختار من أسماء الحبل الغليظ اسم {الْجَمَلُ} خاصة في هذا المقام؛ ويدع للحس أن يتأثر عن طريق الخيال بالصورتين ما شاء له التأثر، ليستقر في النهاية معنى القبول ومعنى الاستحالة، في أعماق النفس، وقد وردا إليها من طريق العين والحس ـ تخييلًا ـ وعبرا إليها من منافذ شتى، في هينة وتؤدة، لا من منفذ الذهن وحده، في سرعة الذهن التجريدية.
قال آخر (2): ومثل ذلك عندما يريد أن يبين ضياع أعمال الذين كفروا، بسبب عدم
__________
(1) التصوير الفني في القرآن، (ص 37)
(2) التصوير الفني في القرآن، (ص 38)
القرآن.. والبيان الشافي (2/128)
إيمانهم وإخلاصهم؛ فإنه يعرضها بقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] ليدع الخيال يتصور صورة الهباء المنثور، ليكون المعنى أوضح وآكد.
وهكذا يرسم هذه الصورة المطولة بعض الشيء لهذا المعنى نفسه، فيقول: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] .. فتزيد الصورة حركة وحياة، بحركة الريح في يوم عاصف، تذرو الرماد وتذهب به بددًا، إلى حيث لا يتجمع أبدًا.
قال آخر (1): ومثل ذلك عندما يريد أن يبين أن الصدقة التي تبذل رياء، والتي يتبعها المن والأذى، لا تثمر شيئًا ولا تبقى .. فينقل إليهم هذا المعنى المجرد، في صورة حسية متخيلة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264]، ليدعهم يتملون هيئة الحجر الصلب المستوي، غطته طبقة خفيفة من التراب، فظنت فيه الخصوبة؛ فإذا وابل من المطر يصيبه؛ وبدلا من أن يهيئه للخصب والنماء ـ كما هي شيمة الأرض حين تجودها السماء ـ إذا به ـ كما هو المنظور ـ يتركه صلدًا؛ وتذهب تلك الطبقة الخفيفة التي كانت تستره، وتخيل فيه الخير والخصوبة.
قال آخر (2): ومثل ذلك عندما يريد أن يبين المعنى المقابل لمعنى الرياء، ومعنى الذهاب بالصدقة التي يتبعها المن والأذى، فيقول: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265] .. فهذا الوجه الثاني للصورة،
__________
(1) التصوير الفني في القرآن، (ص 38)
(2) التصوير الفني في القرآن، (ص 39)
القرآن.. والبيان الشافي (2/129)
والصفحة المقابلة للصفحة الأولى .. فهذه الصدقات التي تُنفق ابتغاء مرضاة الله، هي في هذه المرة كالجنة، لا كحفنة من تراب؛ وإذا كانت حفنة التراب هناك على وجه صفوان، فالجنة هنا فوق ربوة؛ وهذا هو الوابل مشتركًا بين الحالتين، ولكنه في الحالة الأولى يمحو ويمحق، وفي الحالة الثانية يربي ويخصب .. في الحالة الأولى يصيب الصفوان، فيكشف عن وجه كالح كالأذى؛ وفي الحالة الثانية يصيب الجنة، فيمتزج بالتربة ويخرج أكلا .. ولو أن الوابل لم يصبها، فإن فيها من الخصب والاستعداد للإنبات، ما يجعل القليل من المطر يهزها ويحييها.
انظروا لذلك التناسق العجيب في جو الصورة، وفي تماثل جزئياتها، وفي توزيع هذه الجزئيات على الرقعة فيها .. حيث يكون الصفوان تغشيه طبقة خفيفة من التراب، مثلا للنفس المؤذية تغشيها الصدقة تبذل رياء .. والرياء ستار رقيق يخفي القلب الغليظ .. وحيث توضع الجنة فوق ربوة، في مقابل الحفنة من التراب فوق الصفوان.
قال آخر (1): وهكذا تتكرر المشاهد المختلفة لنفس المعنى، حتى تقرره في النفس غاية التقرير، يقول تعالى ـ في مشهد آخر ـ: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117]، وهذا المشهد يرسم صورة للحرث تأخذه ريح فيها برد يضرب الزرع والثمار فيهلكها، فلا ينال صاحب الحرث منه ما كان يرجو بعد الجهد فيه، كالذي ينفق ماله وهو كافر، ويرجو الخير فيما أنفق، فيذهب الكفر بما كان يرجوه .. بالإضافة إلى ما في جرس كلمة {صِرٌّ} من تصوير لمدلولها، وكأنما هو قذائف صغيرة تنطلق على الحرث فتهلكه.
قال آخر (2): ومثل ذلك عندما يريد أن يبين أن الله وحده يستجيب لمن يدعوه، وينيله
__________
(1) التصوير الفني في القرآن، (ص 40)
(2) التصوير الفني في القرآن، (ص 40)
القرآن.. والبيان الشافي (2/130)
ما يرجوه؛ وأن الآلهة التي يدعونها مع الله لا تملك لهم شيئًا، ولا تنيلهم خيرًا، ولو كان الخير قريبًا؛ حيث يرسم لهذا المعنى هذه الصورة العجيبة: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14] .. وهي صورة تلح على الحس والوجدان، وتجتذب إليها الالتفات، فلا يستطيع أن يتحول عنها إلا بجهد ومشقة؛ وهي من أعجب الصور التي تستطيع أن ترسمها الألفاظ: شخص حي شاخص، باسط كفيه إلى الماء، والماء منه قريب، يريد أن يبلغه فاه، ولكنه لا يستطيع.
قال آخر (1): ومثل ذلك عندما يريد أن يبين أن الآلهة الذين يعبدون من دون الله، لا يسمعون ولا يجيبون؛ لأنهم لا يعون ولا يتبينون، وأن دعاء عبادهم لهم عبث لا طائل وراءه؛ فإنه يختار صورة تبين هذا المعنى، وتجسم هذه الحالة، وتلمس الحس والنفس بأقوى مما تلمسهما العبارات العادية، عن المعاني الذهنية، وهي الصورة الواردة في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] .. هكذا ينعق الكفار بما لا يُسمع، وينادون ما لا يفهم، فلا يصل إليه من أصواتهم إلا دعاء مبهم، ونداء لا يفهم .. فهؤلاء الآلهة لا يميزون بين الأصوات ولا يفهمون مراميها .. هذا في ظاهره مثل، لكنه في حقيقته صورة شاخصة .. صورة جماعة يدعون آلهة تصل إليها أصواتهم مبهمة، فلا تفهم مما وراءها شيئًا؛ وفيها تتجلى غفلة الداعين وعبث دعوتهم، بجانب غفلة المدعوين واستحالة إجابتهم.
قال آخر (2): ومثل ذلك عندما يريد أن يبين ضعف هؤلاء الآلهة، أو الأولياء من دون الله عامة، ووهن الملجأ الذي يلجأ إليه عبادهم حين يحتمون بحمايتهم، فيرسم لهذا كله
__________
(1) التصوير الفني في القرآن، (ص 41)
(2) التصوير الفني في القرآن، (ص 41)
القرآن.. والبيان الشافي (2/131)
صورة مزدوجة، يعبر عنها بقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] .. فهم عناكب ضئيلة واهنة، تأوي من حمى هؤلاء الآلهة أو الأولياء إلى بيت كبيوت العنكبوت أوهن وأضأل .. {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] .. لكنهم لا يعلمون حتى هذه البديهية المنظورة، فهم يضيفون إلى الضعف والوهن، جهلا وغفلة، حتى ليعجزون عن إدراك البديهي المنظور.
قال آخر (1): ومثل ذلك عندما يريد أن يبين أن الذي يشرك بالله، لا منبت له ولا جذور، ولا بقاء له ولا استقرار، فيمثل لهذا المعنى بصورة سريعة الخطوات، عنيفة الحركات، يقول فيها: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .. هكذا في ومضة .. يخر من السماء من حيث لا يدري أحد، فلا يستقر على الأرض لحظة .. إن الطير لتخطفه، أو إن الريح لتهوي به .. وتهوي به في مكان سحيق، حيث لا يدري أحد كذلك .. وذلك هو المقصود.
قال آخر (2): ومثل ذلك عندما يريد أن يثبت معنى الحرمان والإهمال في الآخرة لهؤلاء الذين أعطاهم الله الكتاب من قبل الإسلام فأهملوه، وعاهدهم على الإيمان فعاهدوه، ثم أخلفوه، ابتغاء نفع مادي قليل، شأن من لا عهد له، ولا احترام لكلمته، فيرسم لهذا الإهمال المعنوي صورة حسية، فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] .. فيوضح معنى الإهمال لا بألفاظ الإهمال، ولكن
__________
(1) التصوير الفني في القرآن، (ص 42)
(2) التصوير الفني في القرآن، (ص 42)
القرآن.. والبيان الشافي (2/132)
برسم الحركات الدالة عليه: لا كلام، ولا نظر، ولا تزكية .. وإنما عذاب أليم ..
قال الشيخ (1): بورك فيكم جميعا .. وقد أشار إلى علة ما ذكرتموه من الأمثلة العلامة الكبير عبد القاهر الجرجاني حين أرجع ذلك إلى الفطرة الإنسانية، والتي تميل ـ بحسب جبلتها التي خلقت عليها ـ إلى اكتشاف المجهول أو المستور .. وقد قال معبرا عن ذلك: (من المركوز في الطباع والراسخ في غرائز العقول أنه متى أريد الدلالة على معنى، فترك أن يصرح به، ويذكر باللفظ الذي هوله في اللغة، وعمد إلى معنى آخر، فأشير به إليه، وجعل دليلا عليه كان للكلام بذلك حسن ومزية لا يكونان إذا لم يصنع ذلك وذكر بلفظه صريحا) (2)
وهذا يعني أن اللفظ المجرد لا يحدث في النفس ما تحدثه الصورة من تأثير، لأنه يقرّر المعنى بأسلوب مباشر مألوف، بينما تثير الصورة شوقا لدى الإنسان لمعرفة هذا التعبير غير المباشر .. وهذا الشوق لديه، يدفعه إلى إعمال الفكر، وبذل الجهد لمعرفة المقصود، وبذلك تتحقق له متعة اكتشاف المعنى المستور، كما عبر عبد القاهر عن ذلك بقوله: (من المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالمزية أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف) (3)
وذكر ميل النفس إلى المعرفة الحسية، وتفضيلها لها على المعرفة الفكرية المجردة، فقال: (أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعما يُعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حد الضرورة،
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 417)
(2) دلائل الإعجاز: ص 444.
(3) أسرار البلاغة: ص 118.
القرآن.. والبيان الشافي (2/133)
يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام وبلوغ الثقة فيه غاية التمام) (1)
لذلك كانت الصورة ـ كما يذكر ـ (أشد العناصر المحسوسة تأثيرا في النفس، وأقدرها على تثبيت الفكرة والإحساس فيها) (2)
قال آخر (3): بورك فيك مولانا .. وهذا يدل على أن الاهتمام بالصور القرآنية لم يكن وليد هذا العصر، وإنما اهتم به السابقون، وإن كانوا لم يفردوه بالتأليف والبحث .. وقد رأيت أن الفخر الرازي قد سار على منوال الجرجاني في ذكره لأهمية الصورة ودورها، وذلك ضمن حديثه عن أسباب استعمال المجاز؛ فقد عدّد من هذه الأسباب، ما سمّاه (تلطيف الكلام)، يقول في ذلك: (وأما تلطيف الكلام فهو أن النفس إذا وقفت على تمام المقصود لم يبق لها شوق إليه، فأما إذا عرفته من بعض الوجوه دون البعض، فإن القدر المعلوم يشوقها إلى تحصيل العلم بما ليس بمعلوم، فتحصل لها بسبب علمها بالقدر الذي علمته لذة، وبسبب حرمانها من الباقي ألم فتحصل هناك لذات وآلام متعاقبة، واللذة إذا حصلت عقيب الألم كانت أقوى، وشعور النفس بها أتم وإذا عرفت هذا فنقول إذا عبر عن الشيء باللفظ الدال عليه على سبيل الحقيقة حصل كمال العلم به فلا تحصل اللذة القوية .. أمّا إذا عبّر عنه بلوازمه الخارجية وعرف لا على سبيل الكمال فتحصل الحالة المذكورة التي هي كالدغدغة النفسانية، فلأجل هذا كان التعبير عن المعاني بالعبارات المجازية ألذ من التعبير عنها بالألفاظ الحقيقية) (4)
قال الشيخ: بورك فيكم جميعا على هذه الكلمات التي تدل على أهمية الصورة القرآنية، وبما أن الوقت لا يكفي لكل التفاصيل المرتبطة بذلك .. فإنا نريد منكم الدخول مباشرة في
__________
(1) أسرار البلاغة: 102.
(2) الصورة بين البلاغة والنقد: 28.
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 418)
(4) المحصول في علم الأصول: 1/ 251.
القرآن.. والبيان الشافي (2/134)
ذكر نماذج عن الصور القرآنية حتى يتعرف الفنانون المتخصصون على كيفية صياغتها .. وقد رأيت أن نهتم اليوم بذكر أربعة معان كبرى، ترتبط بها الحياة جميعا .. وهي معرفة الكون، ومعرفة الإنسان، ومعرفة الحياة، ومعرفة الواقع (1).
أ ـ الصورة القرآنية ومعرفة الكون
قام أحد الحضور، وقال (2): لعلكم تلاحظون أن السماء يكثر ورودها في القرآن الكريم مرتبطة بذكر الأرض معها غالبا .. وذلك لأنها تحيط بالأرض، فيراها الإنسان دائما .. كما أنها تتسم بالضخامة والاتساع والجمال، مما يؤثر في حس الإنسان ووجدانه.
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في وصف السماء والأرض: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] .. فهذه الصورة الكونية الصخمة، المرسومة للسماء والأرض، تشغل مساحة واسعة في المكان، كما تحتل مكانة واسعة في الحس والشعور، وهي أكبر دليل على خلق الناس.
قال آخر (3): ومثل ذلك قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 - 28] .. فالصورة هذه توحي بضآلة خلق الإنسان إلى جانب هذه الصورة الكونية الضخمة، المتجاوزة في التعبير لصورة الإنسان، لتحقيق هذا الغرض من التصوير .. ويكون جواب الاستفهام معروفا بدون جدال، فهذه السماء أقوى في بنائها وضخامتها من خلق الإنسان، كما أن تصوير السماء بالبناء، يوحي بتماسكها وقوتها، وتناسقها، وهي دليل على قدرة الله، المتجلّية في الكتل الضخمة، كما هي في الكتل الصغيرة، فالإعجاز الإلهي واحد في الاثنين.
__________
(1) سنكتفي هنا بذكر الأمثلة والنماذج المرتبطة بالتصوير الفني في القرآن. أما التفاصيل فسنورها إن شاء الله في كتب خاصة بها.
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 202)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 205)
القرآن.. والبيان الشافي (2/135)
قال آخر (1): ومثل ذلك تصوير السماء فوق الرؤوس، ممسوكة بيد القدرة الإلهية، لإثارة مخيّلة الإنسان، وتحريك نفسه، يقول تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65]
وفي موضع آخر يصوّر إمساكه السماوات والأرض من أن تزولا، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41] .. وهي صورة ضخمة موحية، حين نتصوّر هذه الكتل العظيمة، تسبح في الفضاء بلا عمد، ولا أمراس تشدّها، ولكن الله وحده هو الذي يمسك بها جميعا، وهي تدور في مداراتها المرسومة لها إلى أجل معلوم .. ويأتي التعقيب متناسقا مع جوّ التصوير {إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} فهو يملك هذه القوة والقدرة ولكنه حليم، لا يسمح أن تطبق السماوات فوق الرؤوس، ويمهل الناس ليوم الحساب، وهو غفور مع كل هذه العظمة والقدرة.
قال آخر (2): ومثل ذلك تصوير ارتباط السماء بالحياة على الأرض؛ فالسماء هي التي تمد الأرض بالماء والحرارة والضوء والرزق وغير ذلك .. يقول تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] .. فالتقابل في الصورة بين السماء والأرض، يظهر الصلة الوثيقة بينهما، وهي صلة تواصل وتكامل، حتى يحس الإنسان بقدرة الله عليه، في الأرض التي يقف عليها، والسماء المحيطة به وبالأرض جميعا.
قال آخر (3): ومثل ذلك تصوير الجمال البارز في السماء، وهو عنصر مقصود في
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 205)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 205)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 206)
القرآن.. والبيان الشافي (2/136)
التصوير .. والقرآن الكريم يوجّه الأنظار إليها، لتأمل صورتها الجميلة المتناسقة المحكمة، يقول تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4] .. فالجمال سمة بارزة في صورة السماء، وإدراك هذا الجمال، وما فيه من التناسب والتناسق والإحكام، يعد وسيلة لإدراك جمال الخالق سبحانه، وبيان قدرته وهيمنته على هذا الكون البديع .. وتتسم هذه الصورة المعروضة بالتحدي للناظرين، أن يجدوا أي عيب في صورة السماء الجميلة، ومشهد السماوات، على هيئة الطباق المبنية، بعضها فوق بعض، متناسبة الأجزاء، ومحكمة وخالية من الخلل والعيوب، يدلّ على كمال خلق الله، والكمال في الخلق يعني الجمال .. ومشهد الإنسان، وهو يطيل التأمل فيها، ويدقق النظر، ويفحص أجزاءها، ومعاودة هذا النظر مرة تلو أخرى، ثم ارتداده خاسئا، حسيرا، ضعيفا، عاجزا أن يجد أي خلل فيها أو عيب، دليل على عجز الإنسان، وإقراره بعظمة هذه المشاهد التي يراها .. وهي دليل أيضا على القدرة الإلهية التي أبدعتها على هذا النحو من الكمال والجمال .. وصورة السماء صورة قريبة مدركة، يدركها الإنسان الأمّي، والعالم أيضا مع اختلاف بين الاثنين في تفسير هذا الكمال، وهذا الجمال بحسب المدارك العقلية، والثقافة العلمية لكل منهما، ولكن أثر الصورة الكونية، في النفس الإنسانية، حقيقة ثابتة لا ينكرها أحد، وإن اختلفت التفسيرات في إدراك أبعادها العلمية.
قال آخر (1): ومثل ذلك تصوير السماء وهي مزينة بالنجوم المضيئة من خلال الظلام، وهي صورة بديعة موحية ومؤثرة، يقول تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5]، فعنصر الجمال مقصود
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 207)
القرآن.. والبيان الشافي (2/137)
في التصوير أيضا، وقد دلّ عليه دخول المؤكّدات المتنوعة في بناء الصورة مثل اللام وقد، ونسبة الفعل إلى الله {زيّنّا}
قال آخر (1): لقد ورد تصوير السماء المزينة بالنجوم في كثير من الآيات، كي تستمتع العين برؤيتها، وتشبع حاسة الجمال الفطرية في الإنسان، بالإضافة إلى دلالتها على القدرة الإلهية .. ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] .. وقوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 16 - 18] .. فصورتها المعروضة، تجمع الضخامة والدقة والسعة، والزينة، كما تضيف صفة جديدة وهي الحفظ والحراسة من كل شيطان رجيم .. فجمالها محروس من قبل الله عز وجل، وأخبارها الغيبية محفوظة، ولا سبيل إلى معرفتها، وصور الشهب الساقطة في الليل، صورة واقعية مألوفة لدى الناس، ولكنّ التصوير هنا يحمّلها معاني الحفظ والحراسة لعالم الغيب، حتى يقطع أساليب الخرافة والشعوذة في تصورات الناس الشائعة، وبذلك يتحرر العقل من الأوهام والأساطير التي كانت شائعة قبل الإسلام، فالسماء محروسة حراسة شديدة، لحجب أسرار الغيب عن المخلوقات، فهناك الشهب الراجمة للشياطين، وما يقوله الكهان خرافة وباطل بعد هذه الشهب الحارقة.
قال آخر (2): ومثل ذلك رسم مشهد النجوم، وهي سارية متحركة، وهو ما يزيد في توضيح جمالها وإيحائها، فهذا النجم الساري في السماء، يثقب الظلام بضيائه، ويترك للعين أن تستمتع بهذه اللوحة الفنية المتناسقة والجذابة، فيها الحركة، وامتداد المساحة، واللون المؤثر يقول تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 207)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 208)
القرآن.. والبيان الشافي (2/138)
عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 1 - 4] .. فالصورة هنا بعناصرها السماء، والنجوم، والضياء، والظلام، وما فيها من حركة وحياة، لها قيمتها وأهميتها، فالله يقسم بهذه الصورة الكونية، والله سبحانه لا يقسم إلا بشيء عظيم، وذي قيمة، لذلك عقّب على القسم بالاستفهام الموحي بالتفخيم والتعظيم، ثم صرّح بالمقصود بالطارق، وهو النجم الثاقب، والمراد به جنس النجم وليس نجما بعينه، كما يوحي السياق بذلك، ثم جاء بالمقسم به {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ} للدلالة على أن كل نفس عليها حافظ رقيب على أعمالها وخواطرها، يملك قدرة النفاذ إلى أعماقها المستورة، ومناطقها المظلمة، فيشق حجابها السميك الخارجي بقوة نفاذه كما يطرق هذا النجم الثاقب ظلام الليل، فيزيل ظلامه، وينفذ من خلاله .. وتتجلى قدرة الله سبحانه في الصورة الكونية والصورة النفسية معا، وتتلاحم الصورة في إطارها مع مضمونها كما يتّحد الغرض الفني بالغرض الديني من خلال هذا التصوير المعجز.
قال آخر (1): وهكذا نجد الصور الكثيرة المرتبطة بالأرض ومشاهدها، ومنها قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر: 5] .. وهو يصور تهيئة الله للأرض كي تكون صالحة للحياة عليها، فهي على الرغم من أنها كروية ومتحركة، فإن الإنسان لا يشعر بحركتها، ولا يتأثر بشكلها الكروي، بل إن حركتها وشكلها الكروي، هما من الأسباب التي جعلتها مهيأة للحياة على ظهرها، وهذا من دلائل القدرة الإلهية الملحوظة في هذه المشاهد الكونية المحسوسة .. ويتضافر التعبير مع التصوير في رسم شكل الأرض، وحركتها، وطبيعتها، فلفظ {يُكَوِّرُ} له دلالته القوية على حقيقة الأرض، وحركتها، فهو يثبت كرويتها ويرسم آثار كرويتها في مظاهر كونية أخرى في
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 212)
القرآن.. والبيان الشافي (2/139)
تعاقب الليل والنهار، فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكوّر يغمره الضوء ويكون نهارا، وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي عليه النهار، وهذا السطح المكور، فالنهار كان عليه مكوّرا، والليل يتبعه مكوّرا كذلك، وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى، يتكوّر على الليل، وهكذا في حركة دائبة، واللفظ يرسم الشكل، ويحدد الوضع، ويعين طبيعة الأرض وحركتها، وكروية الأرض، ودورانها يفسران هذا التعبير (1).
قال آخر (2): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في تصوير تهيئة الأرض لاستقبال الحياة عليها: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، وقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53]، وقال: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61]، وقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف: 10]، وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19]، وقال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 30 - 33] وقال: {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس: 6] .. وغيرها من الآيات الكريمة التي تصور الأرض، مفروشة، ومبسوطة، وممدودة، ومهاد، حتى يقرّ الإنسان عليها ويستقرّ، ثم صورة دحوها وطحوها، حتى تكون صالحة للزراعة والحياة .. وهذا ما يؤكد كونها كروية .. ولهذا ذهب كثير من العلماء المسلمين في القديم ـ بناء على تلك الآيات ـ إلى القول بكرويتها .. وأما كونها
__________
(1) في ظلال القرآن: 5/ 3038.
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 212)
القرآن.. والبيان الشافي (2/140)
مسطحة أو ممدودة أو مبسوطة، فإنما هي بالنسبة لعظمها وسمتها، أو بالنسبة للناظرين إليها.
قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في تصوير الأرض، وشكلها وحركتها وثباتنا عليها: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] .. فلفظ {ذَلُولٌ} يوحي بحركتها وثبات الإنسان عليها .. (فهذه الأرض التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة هي دابة متحركة بل رامحة، راكضة، مهطعة، وهي في الوقت ذاته، ذلول، لا تلقي براكبها عن ظهرها، ولا تتعثر خطاها، ولا تخضّه، وتهزه، وترهقه، كالدابة غير الذلول، ثم هي دابة حلوب، مثلما هي ذلول) (2)
وزيادة في تشخيصها قال: {فَامْشُوا فِي مَناكِبِها} .. والمشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية (3) .. فإذا كان المشي في مرتفعاتها أو أطرافها مذلّلا، فلا يشعر الإنسان بحركتها، فالمشي في سهولها من باب أولى.
قال آخر (4): ومن الأمثلة على ذلك تصويرها بصورة الأم الحنون، التي تضمّ بنيها، وتحتضنهم أحياء وأمواتا، كما عبر عن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 25 - 27] .. والمراد بالكفت هو الجمع والضم، فهي تجمع البشر على ظهرها أحياء، وتضمهم في باطنها أمواتا (5) .. فالصورة التي يرسمها اللفظ الموحي، لهذه الأعداد الهائلة من البشر، يتجمعون على ظهرها، وفي باطنها أيضا صورة ضخمة مثيرة للخيال، دالّة على القدرة الإلهية الممسكة بهذه الأرض، التي لا تنوء بما تحمله من هذه الأثقال، وكأنها تحمل البشر ودائع عندها إلى
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 212)
(2) في ظلال القرآن: 6/ 3639.
(3) الكشاف: 4/ 138.
(4) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 212)
(5) صفوة التفاسير: 3/ 502.
القرآن.. والبيان الشافي (2/141)
اليوم الموعود.
قال آخر: ومثل ذلك يصور القرآن الكثير من المعاني المرتبطة بالأرض، كالجبال الراسيات، والمياه و غيرها، قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل: 15]، وقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان: 10]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27]
قال آخر (1): ومثل ذلك يصور القرآن الكريم مشاهد متعددة من الطبيعة في سياق واحد متناسق، كدليل على قدرة الله سبحانه، ومن أمثلتها قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20] .. وذكر الجمال هنا دون سائر الحيوانات، اقتضاها التناسق بين أجزاء الصورة المرسومة، فالسماء المرفوعة، تقابلها الأرض المبسوطة، والجبال المنصوبة في الأرض المبسوطة، تلائمها الجمال المنصوبة السنام، وهكذا ترسم الصور مشاهد الطبيعة بالمساحات والمسافات والخطوط والأشكال، وتدعو الإنسان إلى تأمل هذه المشاهد المتناسقة التي تدلّ على خالقها المبدع.
قال آخر (2): ومثل ذلك قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 213)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 225)
القرآن.. والبيان الشافي (2/142)
يَعْقِلُونَ} [الرعد: 3 - 4] .. فهذه اللوحة الفنية المرسومة هنا بأشكالها، وأحجامها، وألوانها، وخطوطها، تظهر قدرة الله في الخلق من مصدر واحد، ثم التنويع بعد ذلك في المظاهر؛ فالماء واحد، ولكنه ينبت الزروع والأشجار والثمار .. والأرض واحدة، ولكن ما تنبته متنوّع في الثمار والأشجار والزروع، ثم هذا التنوّع في الثمار والزروع والأشجار، مؤلّف من زوجين اثنين، ذكر وأنثى، وبالتلاقح بينهما، يتمّ هذا التنويع والتكثير .. ثم الأرض واحدة، ولكنها قد تكون صالحة للزراعة، وغير صالحة أو صالحة لنوع من الزروع والثمار والأشجار والأخرى غير صالحة، وقد تكونان متجاورتين في المكان مع كل هذا الاختلاف في القابلية للزراعة وعدمها، أو قد تكونان متجاورتين، ولكن الاختلاف بينهما في قابلية إحداهما لنوع دون الآخر .. ثم هناك الشجرة الواحدة، ولكنها تعطي ثمارا متنوعة كالنخيل والأعناب، وهذا أيضا ينطبق على الحبوب والزروع، حتى في الشجرة الواحدة، والنوع الواحد، والثمر الواحد، نلاحظ فوارق في المذاق والطعوم ونحو ذلك .. وهكذا تبرز قدرة الله في هذا التنويع والتكثير، مع وحدة الأصل، كما تبرز في تمهيد الأرض، وتثبيتها بالجبال الراسيات التي هي ذوات ألوان وأشكال، وأحجام، كذلك الأنهار تزيد من جمال اللوحة الفنية المرسومة هنا للدلالة على قدرة الله، وبديع خلقه، لمن يتفكر في ذلك ويتدبّر.
قال آخر (1): ومثل ذلك تصوير القرآن الكريم لمظاهر الجمال في الأرض في قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] .. فليس المقصود بالتصوير هنا مجرد رسم حركة نزول الأمطار، وإنبات الزروع والثمار فقط، وإنما إنبات الحدائق ذاتَ بَهْجَةٍ الموحية بتأثير جمالها في النفوس أيضا .. وهذا ما نراه أيضا في تصوير
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 226)
القرآن.. والبيان الشافي (2/143)
مشهد آخر أكثر تفصيلا، يقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] .. فهذه اللوحة الفنية المرسومة للطبيعة بأشكالها وألوانها، وأنواعها وأحجامها، تظهر قدرة الله، وحسن تدبيره وإحكام تنسيقه لهذا الكون البديع.
والتصوير فيه تطويل وتفصيل، وتدرّج في رسم المشهد، لإظهار تناسقه، ومحاسنه من الجهات المتعددة .. ويبدأ عرض المشهد حيا شاخصا من إنزال المطر من السماء، لشدّ الأنظار إليها، لأنها هي المنبع والمصدر لكل شيء على سطح الأرض، ثم يبدأ استعراض آثار الأمطار في إنبات كل شيء، ويطيل التصوير في رسم حركة نمو النبات، فيبدأ غضّا أخضر، ثم ينمو ويكبر، فتخرج من هذا العود الأخضر السنابل المحمّلة بالحبوب، والحبوب في السنابل متراكبة بعضها فوق بعض بتنسيق وتنظيم، وصورة السنابل، ترتبط بصورة أخرى تجاورها في السياق، وتستدعيها في الخيال وهي صورة عناقيد الرطب في أشجار النخيل، وصورة عناقيد العنب أيضا.
فهذه الصور الثلاث، تتجاور في السياق، وتتفاعل في الخيال بما تحمله من حبوب وثمار مصفوفة ومرتبة ترتيبا بديعا، ثم صورة شجرة الزيتون والرمان، تتجاوران في السياق، لأن شجرتهما متشابهة في الشكل والأوراق ولكنهما لا تتشابهان في الثمار والطعوم.
وفي نهاية تصوير هذه المشاهد، تأتي الدعوة إلى تأملها، والتفكّر في هذه الثمار المصورة من وقت خروجها ونموها، إلى نضجها وإثمارها، وانتقال صورها من شكل لآخر، حسب مراحل نموها، وتغيّر ألوانها وأشكالها وحجومها وطعومها، ثم صورة الثمار فيها في النهاية
القرآن.. والبيان الشافي (2/144)
مرسومة بأشكالها المتناسقة وهيئاتها الخاصة مثل صورة السنابل وعناقيد العنب، وعناقيد الرطب، وتوضع الأشكال المتشابهة في أنساق متجاورة، فتراكم الحبوب في السنابل مثل تراكم الحبوب في عناقيد العنب، وتراكم عناقيد الرطب، كما تتجاور أشجار الزيتون والرمان، وهكذا تتجاور الصور المتشابهة في أنساق التعبير والتصوير، مع اختلاف في مذاقها وطعومها .. فالتركيز في تصوير هذا المشهد، على دقة التناسق والتنظيم في خلق الطبيعة، للدلالة على الله الخالق القادر على كل شيء.
قال آخر (1): ومثل ذلك يصور القرآن الكريم مشهد تعاقب الليل والنهار، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان: 29]، وقوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد: 6] .. فالصورة الحسية هنا تبدأ بـ {أَلَمْ تَرَ} لإحياء الصورة البصرية بالفعل المضارع المكوّن من فعل الرؤية ذاته .. ثم تبدأ برسم حركة الدخول الوئيد لليل في النهار، أو النهار، أو النهار في الليل، للإيحاء بالظلال المصاحبة لدخول أحدهما في الآخر في المشهد الكوني، كما أن الصورة الزمانية لليل والنهار، مرتبطة بالشمس والقمر، فبحركتهما المنتظمة المتناسقة يتم تشكيل هذه الصورة الزمانية، وهذه الدقة في تصميم الكون، تعقبها دقة أيضا، في معرفة أعمال البشر {وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
قال آخر (2): ومثل ذلك قوله تعالى في تصوير حركة الريح وأدوارها: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 214)
(2) التصوير الفني في القرآن، (ص 67)
القرآن.. والبيان الشافي (2/145)
خِلَالِهِ فإذا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48] .. هكذا لوحة بعد لوحة: إرسال الرياح .. إثارة السحاب .. بسطه في السماء .. جعله متراكمًا .. خروج المطر من خلاله .. نزول المطر .. استبشار من يصبيهم بعد أن كانوا يائسين .. إحياء الأرض بعد موتها .. لينتقل من هذه المشاهد المتتابعة بعد استعراضها للعين والخيال، وبعد تركها تؤثر في النفس على مهل، إلى {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50]، فيجيء هذا التقرير، في أنسب الأوقات للتقرير.
ب ـ الصورة القرآنية ومعرفة الإنسان
قال الشيخ: بورك فيكم جميعا على هذه الأمثلة المرتبطة بالكون .. فحدثونا عن الصور المرتبطة بحقيقة الإنسان ووظائفه، وأصناف البشر وطباعهم .. فهي من المعارف الضرورية التي لها آثارها في كل شؤون الحياة.
قام أحد الحضور، وقال: أجل .. بورك فيك مولانا على طلبك هذا، وأنا شخصيا استفدت كثيرا من الصور الإنسانية المعروضة في القرآن الكريم لكتابة وتصوير الكثير من التسجيلات التربوية والدعوية .. وقد رأيت من خلال مقارناتي (1) بين النماذج الإنسانية في القرآن الكريم، وغيرها من النماذج الواردة في الكتب الأدبية فرقا كبيرا .. وذلك ليس بغريب؛ فالله تعالى هو أعلم بالإنسان من الإنسان نفسه، فحين يصوّر لنا في كتابه نموذجا إنسانيا، فإن تصويره هذا يكشف أعماق النفس الإنسانية، ويوضح خفاياها وأسرارها، لأنه هو خالقها، وهو أعلم بها.
قال آخر (2): بورك فيك .. أجل فالنماذج في القرآن الكريم تعتمد على الفكرة غالبا، متمثّلة في شخص معيّن، تصدق عليه من خلال تصويره، وإبراز ملامحه، بحيث تصبح
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 299)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 299)
القرآن.. والبيان الشافي (2/146)
الفكرة في الشخص نمطا معيّنا لأفراد من الناس مثل نماذج المؤمن، والكافر، والمنافق، فهذه النماذج بدأت من فكرة دينية، تجمّعت من حولها مجموعة من الصفات المميّزة لكل شخصية، حتى أصبحت نموذجا مكررا، لكل شخصية تشابه هذا النموذج في فكره وسلوكه وشعوره ..
قال آخر (1): بورك فيك .. تعقيبا على ما ذكرت، النماذج الإنسانية في القرآن الكريم قد لا تبدأ من الفكرة فحسب، بل هناك نماذج تبدأ من شخص معيّن، ثم تنتهي من خلال تصويره ليصبح نموذجا لنمط معين من البشر .. مثل (فرعون) الذي أصبح نموذجا لكل متجبر متسلّط، في فكره وسلوكه، وشعوره.
قال آخر (2): كذلك لا تعتمد النماذج القرآنية على ذكر الجزئيات والتفصيلات المكوّنة للنموذج، وإنما تعتمد على اللمحة الخاطفة، والإشارة الموحية، فإذا بالنموذج حيّ شاخص واضح القسمات والملامح ..
قال آخر (3): وهي كذلك تتسم بالشمولية، ولا تتقيّد بزمان ومكان محددين، بل تشمل جميع الناس، باختلاف طبقاتهم وفئاتهم .. وهذا ينسجم مع القرآن الكريم الذي يخاطب الإنسان في كل عصر وجيل.
قال آخر (4): وهي كذلك تتسم بالنظرة الواقعية للإنسان، حيث تنظر إليه من خلال طبيعته المزدوجة، التي تقبل السمو والتحليق، كما تقبل الهبوط والتدني، ففي النفس الإنسانية هذه الخطوط المتقابلة، فيها القوة والضعف، والسمو والهبوط، والهدى والضلال، والشجاعة والخوف وغيرها.
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 299)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 299)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 299)
(4) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 299)
القرآن.. والبيان الشافي (2/147)
قال آخر (1): أجل .. ولهذا يصوّر لنا القرآن الكريم الطبيعة الإنسانية، ويبرزها من خلال النماذج المصورة، وهدفه ليس تصوير الإنسان ملاكا، أو شيطانا، بل تصوير هذه الطبيعة فيه، لتوجيه استعداداته نحو الخير والصلاح .. فالإنسان بإمكانه أن يستغل طاقاته في العمل والبناء المثمر، ضمن إطار الواقع المعاش، دون أن يخلّ ذلك بطبيعته الإنسانية في السمو والهبوط، والصواب والخطأ.
قال آخر (2): أجل .. فالقرآن الكريم حين يصوّر هذه الطبيعة البشرية لا يزيّن نقاط الضعف والانحراف فيه، بل يبرز استعداداته نحو السمو والاستقامة والهدى، ضمن الغرض الديني من التصوير لهذه النماذج.
قال آخر (3): والأهم من ذلك كله أن القرآن الكريم عرض حياة الإنسان كاملة، منذ بداية خلقه في عالم الغيب، حين خلق الله آدم، ثم هبوطه إلى الأرض، ثم تطور حياة الإنسان، على الأرض، وعلاقته مع نفسه ومع الآخرين وموقفه من ربه، ومن دعوة الرسل .. وقد هيّأ بهذا العرض الطويل والدقيق لحياة الإنسان، بروز النماذج الإنسانية بكثرة وغزارة .. فهناك نماذج مؤمنة وكافرة ومنافقة، ونماذج تمثل القوة، وأخرى تمثّل الضعف، ونماذج من الرجال، وأخرى من النساء، ثم هناك نماذج الجنس البشري كلّه، ونماذج تمثل طبقة، أو فئة من الناس، ونماذج ترسمها القصص التاريخية، أو الأمثال، ونماذج ترسمها الكلمات والصور فهذه النماذج المرسومة وغيرها، هي نماذج مصوّرة، لتحقيق الغرض الديني، وليست لمجرد التصوير الأدبي .. لذلك يمكن أن نقول: إن النماذج القرآنية، هي نماذج أفكار ومبادئ، لتجسيد المعاني الدينية في صورة أشخاص، يتحركون على أرض
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 299)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 299)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 299)
القرآن.. والبيان الشافي (2/148)
الواقع، بكل سماتهم، وملامحهم الواضحة من خلال التصوير الفني لهم.
قال آخر (1): أجل .. ومن الواضح اهتمام القرآن الكريم بذكر نماذج الأنبياء عليهم السلام باعتبارهم قمة النماذج الإنسانية، فكرا وسلوكا وشعورا، بحيث لا يمكن قياسهم بغيرهم، فهم صفوة البشر، اصطفاهم الله لتبليغ رسالاته .. وهذا الاصطفاء جاء لتوفّر صفات فيهم، لا تتوفّر في غيرهم.
قال آخر (2): أجل .. لكن هذه النماذج المتميّزة عن بقية النماذج هي نماذج إنسانية أيضا، فيها كل الخصائص، أو الصفات الإنسانية، في صورتها المثالية، فقد عصمهم الله سبحانه وتعالى، وجعلهم معجزته البشرية، كما كان القرآن معجزته البيانية.
قال الشيخ: بورك فيكم جميعا .. والآن بعد هذه الملاحظات القيمة التي ذكرتموها أرجو أن تطربوا أسماعنا ببعض الشواهد القرآنية على ما ذكرتم.
قام بعض الحضور، وقال (3): من الشواهد المهمة على ذلك ما ورد في أول سورة (البقرة) .. حيث بدأت بتقسيم الناس إلى فئات ثلاث: مؤمنة وكافرة ومنافقة .. وهو تقسيم ليس مألوفا في علم التاريخ والاجتماع، وإنما هو تقسيم جديد، يعتمد على قاعدة أساسية، وهي موقف الناس من الإيمان والإسلام .. وقد رسم القرآن الكريم صورا لهذه الفئات الثلاث، محددا معالم كل فئة لتُعرف بها، حتى غدت كل فئة من هذه الفئات نمطا مألوفا في الحياة البشرية، كل نمط يعدّ نموذجا حيّا لمجموعة من البشر، نموذجا مكرّرا في كل زمان ومكان، لا تكاد تخرج البشرية عن هذه النماذج الثلاثة إلى يومنا هذا .. وقد رسم القرآن الكريم هذه النماذج، بكلمات قليلة، وعبارات موحية، فإذا بها تنتفض من خلال التصوير
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 299)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 299)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 300)
القرآن.. والبيان الشافي (2/149)
والتعبير صورا، ونماذج نابضة بالحياة والحركة، دقيقة السمات لأشخاص معروفين مكررين، بهذه المعالم الواضحة والسمات الدقيقة.
قال آخر (1): أجل .. ومن أهم تلك النماذج التي لها تأثيرها الكبير، النماذج التي صور فيها القرآن الكريم المؤمنين محدّدا أبرز سماتهم وملامحهم، حتى أصبحوا بهذه الملامح المصوّرة، نماذج مكررة في كل جيل وزمان، ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 2 - 5] .. فهذه صورة وضيئة للمؤمنين المتقين، توضّح ملامح هذا النموذج الفريد بين البشر، فترتبط صورتهم بصورة حسية مرئيّة من خلال قيامهم بالفرائض المحسوسة، وصورة غيبية، من خلال إيمانهم بالغيب واليوم الآخر .. وهذه الثنائية في التصوير بين الحسي وغير الحسّي، تمثّل مجمل التصور الإسلامي في نظرته إلى الإنسان ذي الطبيعة المزدوجة المكوّنة من مادة وروح، والحياة أيضا باعتبارها دنيوية وأخروية، كما أنّ هذه الثنائية تعتبر من خصائص الصورة الفنية في القرآن التي تجمع بين الحسّي وغير الحسي .. فالصورة هنا ترسم هذا النموذج، وتحدّد معالمه، ليكون نموذجا يحتذى في عالم الواقع والحياة، كما أنها تفتح الآفاق الممتدة، أمام التفكير أو التصوّر الإنساني، ليسرح في عالم الغيب المجهول بما فيه من إيحاء، ومفاجأة، فيظلّ الإنسان مشدودا إلى اليوم الآخر، في ضبط أفعاله وأقواله ومشاعره، وفق منهج الله المرسوم.
قال آخر (2): ومن النماذج المصورة على ذلك .. نموذج المؤمن المتجرد لله، يبيع كل شيء في سبيل مرضاة ربّه .. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 300)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 302)
القرآن.. والبيان الشافي (2/150)
وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] .. وهناك نموذج المؤمن الشجاع، الذي نراه في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وهناك نموذج أولئك الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، والذين يقول الله تعالى فيهم: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15 - 17] .. فمشاعر هذا النموذج مجسّمة في صورة محسوسة، تتمثّل في حركة الجسد ساجدا لله، وحركة اللسان مسبّحا أيضا، ثم يرسم القرآن مشهدا مؤثّرا لهم، يجمع بين الصورة الحسية والصورة النفسية .. فهذا النموذج فريد بين البشر، يهجر مضجعه اللذيذ في وقت راحته ورقاده ليتوجّه إلى ربّه في ساعات الليل، وهو نموذج فريد أيضا في مشاعره، وصلته بربه، يجمع بين الرجاء والخوف .. وبين الصورة المحسوسة، والصورة النفسية، صلة وتواصل في السياق، فهذه المشاعر الخائفة، هي التي دفعتهم إلى هجر المضاجع في زمن الراحة والدّعة .. فالصورة النفسية لهم، تجسّم في صورة حسية متحركة {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} .. وصورة حسية متحركة أخرى، هي {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} والمضاجع تدعو الجنوب إلى الاسترخاء والدّعة، وإسناد الفعل إلى الجنوب، يوحي بما في التجافي عن المضاجع من مشقّة للأجسام .. وهذه الصفات النادرة، يناسبها الجزاء المذخور عند الله سبحانه، ولكنّ الجزاء هنا يرمز إليه بقوله: {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} فهو جزاء تقرّ به العيون وتسرّ، ولكنه محجوب في التعبير والتصوير، لكي يتناسق مع جوّ عبادتهم في الليل، حيث لا يطلع عليهم أحد إلا الله، وكأنّ هذه الصلاة المستورة في جنح الظلام، يناسبها جزاء خاص مستور أيضا.
القرآن.. والبيان الشافي (2/151)
قال آخر (1): ومن النماذج المصورة على ذلك .. النموذج الذي لا يتجاهل الطبيعة البشرية في المؤمنين، بما فيها من قوة وضعف، لكنه لا يصور نموذج لحظات الضعف البشري، ليقرّها، ويزيّنها، وإنما يعرضها في السياق ليعالجها، ويوجّه الإنسان إلي مجاوزتها، يقول تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 136] .. وهذا النموذج يبدأ بحركة حسية، تدعو إلى السرعة طلبا للمغفرة، ووصولا إلى الجنة الواسعة، بشرط تحقيق التقوى .. ثم يبدأ القرآن الكريم برسم صفات المتقين، ويتمثّل ذلك في الإنفاق، في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، والتوبة والاستغفار، وعدم الإصرار على الذنب .. وهذه الصفات للنموذج، قسم منها يرجع إلى علاقته بالناس، وقسم آخر يرجع إلى علاقته مع ربه وهذا يعني تلاحم صلة النموذج بربه وبالناس أيضا .. فصورته ممتدة في علاقته بربه، وعلاقته مع مجتمعه، فهو لا يقتصر على جانب دون الآخر، بل هو متواصل مع مجتمعه في الإنفاق وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، كما هو متواصل مع ربه في الاستغفار والتوبة .. وهكذا يصوّر القرآن الكريم نموذج المؤمن، وهو يربّيه ويهذّبه، ويحرّك مشاعره للصعود والارتقاء، فاتحا أمامه باب الرجاء، ثم يأتي الجزاء في نهاية التصوير للنموذج متناسقا مع بداية تصويره له، وكأنّ الجنة الواسعة بمنزلة الإطار الخارجي، والنموذج هذا في داخل هذا الإطار المرسوم والمحدّد.
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 303)
القرآن.. والبيان الشافي (2/152)
قال آخر (1): ومثل ذلك النموذج الذي ورد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] .. فهذا النموذج ينفق ويعطي، على الرغم من حاجته إلى ما ينفقه، ولكنه يؤثر غيره عليه، وهذه آفاق إنسانية من التجرد عن الذات في سبيل إنقاذ الآخرين.
قال آخر (2): وفي مقابله نموذج الفقير المتعفّف، يقول تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273] .. وهذا النموذج في الأصل للمهاجرين، لكنّه ينطبق على كل من تمنعه كرامته من أن يسأل الناس، ويضطر إلى أن يتجمّل أمام الناس، حتى لا يظهر فقيرا محتاجا، فمظهره يدلّ على غناه، ولكنّ واقعه خلاف ذلك، والإنسان البصير يدرك الفقر من خلال قسمات الوجوه، التي لا يمكن إخفاؤها، والنموذج يحاول أيضا أن يخفيها عن الأعين، ويدفعها بكل ما يستطيع، حياء وتعففا عما في أيدي الناس.
قال آخر (3): كما أن هناك نماذج كثيرة يرسمها القرآن الكريم لأناس طيبين، كرماء، شجعان، أتقياء، ومخلصين، وهي نماذج مرسومة للترغيب في الاقتداء بها .. هناك نماذج أخرى لأناس فاسدين، وشريرين، يتمثّلون في نموذج (الكافر)، وهو نموذج يرسمه القرآن، ليقابل نموذج المؤمن، لتوضيح الفروق بينهما .. ومن الأمثلة عنها ما عبر عنه قوله تعالى في أول سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 304)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 304)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 305)
القرآن.. والبيان الشافي (2/153)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6 - 7] .. فهذا النموذج ترسم ملامحه الأساسية، بعد نموذج المؤمن في أول سورة البقرة، لتتّضح الفوارق الجوهرية بين النموذجين من أول النص القرآني .. وكما أن نرى في نموذج المؤمن تفتّح حواسه، وإيمانه بالله سبحانه، وباليوم الآخر .. نرى نموذج الكافر، وقد عطّل حواسه، فتوقفت عنده وسائل المعرفة والإدراك، فلم يعد يدرك غاية وجوده في الحياة، أو يؤمن بربه، لأن أدوات الإدراك والمعرفة معطّلة .. فالقلوب هنا مختومة فلا يصل الهدى إليها، والأبصار مطموسة فلا ترى النور، والأسماع مسدودة، فلا تسمع الحق .. ومن كان هذا حاله، فلا يرجى منه خير، ولا ينفع معه إنذار وتوجيه ..
قال آخر (1): بورك فيك .. ومن الشواهد على ما ذكرت قوله تعالى في وصف الكافرين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12] .. وقد استحقّوا هذه الصورة المحقّرة لشأنهم، لأنهم عطّلوا أدوات المعرفة والإدراك لديهم، فلم يعد لهم إلا هذه الحياة المادية، في الطعام والشراب، التي هي أقرب إلى صورة الدواب منها إلى صورة الإنسان المكرّم بخصائصه الإنسانية المميزة له عن باقي المخلوقات.
قال آخر (2): ومن الشواهد على ما ذكرت قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] .. فهذا نموذج الخاضع لهواه، المنقاد له خضوع العبد لمولاه، فلا يرى الأشياء إلا من خلال أهوائه ورغباته وشهواته، حتى استحوذ عليه هذا الهوى، فعطّل حواسه، فأصبحت مختومة، لا تدرك الحقائق كما هي .. وحين يتخذ الإنسان هواه إلها يخضع له، ويختم على حواسه فلا يدرك الأشياء، يستحق وصفه بالأنعام، كما قال تعالى:
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 305)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 305)
القرآن.. والبيان الشافي (2/154)
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43 - 44] .. وفي تصوير هذا النموذج إضافة جديدة، وهي تصويرهم بالأنعام التي لا تعقل ولا تسمع، حتى يوضّح أن هذا النموذج من الناس لا جدوى من هدايته، لأنه غير قابل للهداية، وغير صالح لها، لأنه فقد أدوات استقبال الهدى في التعقل والاستماع، والعلّة في ذلك كلّه هي اتّباع الهوى، والخضوع له .. وحين يتخذ الإنسان الهوى إلها، فإن نفسه تتفلّت من الموازين الضابطة لشهوات النفس، بل إنها تخضع لهذه الشهوات، وتتخذها إلها معبودا .. والتعبير القرآني يعتبر هذا النموذج أحطّ من الأنعام، لأن الأنعام تؤدي وظائفها الغريزية التي أودعها الله فيها، بينما الإنسان يعطّل وظائف حياته التي زوّده الله بها.
قال آخر (1): بورك فيك .. وقد ذكر القرآن الكريم نموذجا آخر أخطر من هذا، وهو ذلك الذي لا يكتفي باتباع الهوى، بل يصدّ غيره عن الهدى والإيمان، يقول الله تعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6 - 7] .. وهذا النموذج موجود في كل جيل أيضا، يتّخذ أساليب عدة للصدّ عن سبيل الله، ويفني عمره ووقته وماله في سبيل إضلال غيره، ويسميها القرآن الكريم (لهوا) تهوينا من شأنها، وتحقيرا لها.
قال آخر (2): ومن نماذج الكفرة في القرآن الكريم، ما ورد في قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 176] .. وهذا المشهد حيّ شاخص، يصوّر حركة
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 306)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 306)
القرآن.. والبيان الشافي (2/155)
الكافرين، وهم مسرعون في طريق الكفر، ماضون فيه، وكأنّهم يسعون إلى غاية، يريدون أن يصلوا إليها، فهم في حلبة السباق، يسرع كلّ منهم قبل الآخر، حتى يصل إلى النهاية قبل غيره، ولكم أن تتأملوا هذه الجموع تتسارع، وتتدافع في هذا الطريق، وكأنّها تأمل أن تحصل على جائزة في نهاية السباق .. وهذه الحركة الحسية السريعة، تعبر عن حركة نفسية في داخل الصدور، ولكنّ القرآن الكريم، يضع صورة مقابلة، توقف الحركة السريعة في طريق الكفر {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} فتتلاشى صورة الكفر بما فيها من سرعة واندفاع، لهزالها وضعفها أمام الصورة المقابلة {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً}
قال آخر (1): بورك فيك .. لكنّ هذه الصورة الجماعية للكافرين، ليست متّحدة في داخل صفوفها، وإن اتّحدت في حركتها الخارجية في طريق الكفر، فهم أحزاب وجماعات، متناحرة، كل حزب بما لديهم فرحون، يقول تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] .. وهذه صورة حيّة، لأهل الكفر، جماعات، وأحزابا، يرسمها التعبير القرآني، فيجعلها نماذج مكررة في كل زمان ومكان، فقد تنازع هؤلاء الأمر بينهم حتى مزّقوه تمزيقا، ثم مضى كل حزب بالقطعة التي مزّقها بيده، فرحا بها، لا يفكر بما فعله من تمزيق الأمر الواحد، لأنه أغلق تفكيره في غمرة شعور الفرح الطافح على كل شيء.
قال آخر (2): بورك فيكم .. بالإضافة إلى ما ذكرتم؛ فإن القرآن الكريم يجمع أحيانا كثيرة بين نموذج الإيمان، ونموذج الكفر، ويقابل بينهما، لإجراء المقارنة، وتوضيح الفروق بينهما، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212] .. فالدنيا في نظر الكافر هي الأساس، لذا فهي مغرية، ومزيّنة في عينيه، وهي المقياس لكلّ
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 306)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 306)
القرآن.. والبيان الشافي (2/156)
الأشياء والتفاضل بين الناس، فهو متعلّق بها، لأنها فرصته الوحيدة، ويتجاوز ذلك إلى السخرية من المؤمنين، الذين يختلفون معه في النظر إليها، فالمؤمنون يزنون الأمور بميزان الإيمان، الذي هو المعيار الباقي، لهذا فإنهم يكونون الأعلى يوم القيامة.
قال الشيخ: بورك فيكم جميعا .. وطبعا لا يمكن إحصاء النماذج المرتبطة بالمؤمنين؛ فكل القرآن الكريم يتحدث عنها، ولهذا أرجو أن تحدثونا عن بعض النماذج التي صور الله تعالى بها المنافقين.
قام بعض الحضور، وقال (1): بما أن شخصية المنافق فيها الكثير من الالتواء والغموض، وبذلك فهي بحاجة إلى توضيح أكثر، حتى تعرف سماتها المميّزة لها، فقد وردت عنهم الكثير من الصور، وخاصة عن طريق ضرب الأمثال .. ولعلنا تحدثنا عن هذا سابقا، ولهذا لا نحتاج إلى إعادته هنا (2) .. لكني أريد أن أذكر الآن مثالا عن بعض صفاتهم، أو أهمها، وهي (الجبن) باعتباره الصفة التي تفسر أسباب مواقفهم الملتوية، ونفوسهم المتلوّنة، التي لا تثبت على مبدأ أو رأي؛ فمن الآيات الكريمة التي صورت هذه الناحية فيهم قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] .. فهذه الآية الكريمة تجعل المنافقين مثالا للبلاهة والخوف، على الرغم من أجسامهم الضخمة، التي تعجب في مظهرها الخارجي، ولكنها في حقيقتها خالية من الروح، وأيّ مضمون مفيد، كذلك يتمثّل في الأقوال المنمّقة، التي تسمع وتطرب، ولكنها لا تحتوي على أساس ترتكز عليه .. ولهذا؛ فإن المنافقين في المجتمع أشبه بالأخشاب المسندة إلى جدار، أو كالتماثيل بلا حركة ولا موقف، لأن نفوسهم مهزوزة، يحسبون كل صيحة عليهم، تفضحهم
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 309)
(2) انظر الفصل السابق عند ذكر الأمثال.
القرآن.. والبيان الشافي (2/157)
وتكشف سرّهم.
قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في تصوير تلوّن المنافقين بكل لون، حسب الظروف والمواقف: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142 - 143] .. فهذا تصوير جميل ودقيق لإنسان مخادع، يقوم إلى الصلاة رياء .. ويتضح الشعور الداخلي هذا في حركة الكسل والتباطؤ إذا قام إلى الصلاة .. والسمة البارزة لهذا النموذج هي التلوّن بكل لون، حسب الموقف الذي هو فيه، أو الظرف المحيط به، فهو متذبذب في مواقفه وأقواله وسلوكه، لا يثبت على رأي أو مبدأ، لجبنه، وخواء فكره وروحه.
قال آخر (2): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في تصوير التناقض الذي يعيشه المنافقون: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 - 206] .. وهو تصوير بديع لما يعيشه المنافق من تناقض ظاهره مع باطنه .. فهو يجيد الكلام، ويحسن سبكه وحبكه، ليؤثّر في الناس، ويتظاهر بالطيب والأخلاق والإيمان، ولكنّه في حقيقته ألدّ الخصام، فلو وجد فرصة سانحة لأفسد أهل الأرض، وأهلك كل بذور الخير في جميع الأجيال، وهذا ما يوحي به التعبير بـ {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} وهذا يدلّ على سوء باطنه، وكثرة شروره، وخطورة دوره في المجتمع الإسلامي .. وزيادة في توضيح صورته وإبطال ادعائه، فإن هذا النموذج لا يقبل النصح والتوجيه، لأنه يرى نفسه أكبر من ذلك، فهو مدّع
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 309)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 309)
القرآن.. والبيان الشافي (2/158)
أيضا بالإضافة إلى أنه متناقض .. وتوضع عاقبة هذا النموذج بعد رسم ملامحه، للتحذير منه، والتنفير من هذه الصفات {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}
قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في تصوير ضعف رأي المنافق، وعدم تحمله المسؤولية في الالتزام بمبدإ أو رأي: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127] .. وهي تصور انسلال المنافق ـ حين يرى الحقّ في الآيات المنزلة ـ في حركة خفية، وهيئة مثيرة للريبة، وتبادل النظرات مع أقرانه، بإشارات مفهومة بينهم، ليخرجوا جميعا هاربين بصمت وحذر.
قال آخر (2): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في تصوير تخاذل المنافق عن الجهاد الذي يقاوم به المعتدين المتربصين: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 72 - 73] .. فالآيات الكريمة تصور المنافق متخاذلا يبطئ عن الخروج إلى الجهاد، وربّما يبطّئ غيره أيضا، لأنّه يؤثر السلامة، وينتظر نتيجة المعركة .. فإن رأى هزيمة المسلمين، عدّ نفسه محظوظا في تقاعسه، وإن رأى أنهم انتصروا راح يطلق الأمنيات كي يفوز بالغنائم .. والصورة ترسم حركة المتخاذل من خلال جرس الكلمة الشديد المتعثر {لَيُبَطِّئَنَّ} فهي ترسم حركة التثاقل الحسية بكل التواءاتها وعثراتها، وهذه الحركة الحسية، تعبر عن حالة نفسية مريضة، تؤثر السلامة، وترغب في الغنيمة في الوقت نفسه.
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 309)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 310)
القرآن.. والبيان الشافي (2/159)
قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في تصوير تذبذب المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] .. فهذا النموذج يمسك بطرف من الدين، ولا يأخذه كلّه، فهو يعبد الله وكأنّه على حرف ـ أي على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه ـ فإن وجد أن الدين يجلب له المنفعة فرح واطمأنّ، وإن أصابه ابتلاء في الدين، ارتدّ منقلبا على وجهه، لأنه غير متمكّن منه ولا ثابت عليه .. والتعبير القرآني يصوّره في عبادته لله على (حرف) غير متمكن من العقيدة ولا متثبت في العبادة، يصوّره في حركة جسدية متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى، ومن ثم ينقلب على وجهه عند مسّ الفتنة، ووقفته المتأرجحة تمهّد من قبل لهذا الانقلاب (2).
ج ـ الصورة القرآنية ومعرفة الحياة
قال الشيخ: بورك فيكم جميعا على هذه الأمثلة المرتبطة بالإنسان، وطبعا سنعود إلى تفاصيلها في وقت لاحق .. فحدثونا عن الصور المرتبطة بحقيقة الحياة وامتدادها، وخاصة ما يتعلق منها بالحياة الآخرة التي تمثل الحياة الحقيقية .. فهي من المعارف الضرورية التي لها آثارها في كل الشؤون.
قام أحد الحضور، وقال (3): أجل .. بورك فيك مولانا على طلبك هذا .. وأنا شخصيا استفدت كثيرا من الصور التي صُورت بها الحياة، وخصوصا الحياة الآخرة في القرآن الكريم، ذلك أنه لا تكاد تخلو صورة من الإشارة إلى القيامة، تصريحا أو تلميحا، لأن الإيمان باليوم الآخر يعدّ قضية أساسية لها آثارها في جميع مناحي الحياة .. من هنا تدفقت الصور
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 310)
(2) في ظلال القرآن: 4/ 2412.
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 320)
القرآن.. والبيان الشافي (2/160)
القرآنية، تصبّ في مجراه، لتثبته، وتوضحه، وتقرّبه من الأذهان ..
قال آخر (1): أجل .. فصور اليوم الآخر تعد من أوسع صور القرآن، امتدادا في الزمان والمكان، وأكثرها غزارة وإثارة فتبدو الحياة في مشاهده، ليست هذه الحياة فقط، التي تمثّل عمر الإنسان الفاني، على ظهر هذه الأرض المحدودة، بل هناك حياة ممتدة في الزمان والمكان، في عالم اليوم الآخر الغيبي، الذي لا نعرف عنه شيئا إلا من خلال هذه المشاهد المصوّرة له، لتقريبه من الأذهان.
قال آخر (2): ولهذا .. فإن الصورة القرآنية، تقدم لنا إجابات وافية لكل الأسئلة الفطرية، التي تلحّ على ذهن الإنسان، من أين جاء؟ وإلى أين ينتهي؟ وتعرض ذلك في مشاهد خلق الإنسان، وحياته، ومشاهد موته، ثم مشاهده في يوم القيامة. إمّا في الجنة وإمّا في النار .. وهكذا ترتسم صورة الإنسان واضحة بسيطة، منذ خلقه وحتى نهايته، وامتداد حياته في عالم الجزاء والحساب، وهذا التصوّر يضفي على حياة الإنسان أملا ممتدا، وحيوية فائضة، وعملا جادا مثمرا، انتظارا للجزاء في عالم الخلود والبقاء.
قال آخر (3): أجل .. ولهذا كان من رحمة الله تعالى أن أرى الإنسان، حياته الممتدة في العالم الآخر في مشاهد مصوّرة، يرى فيها نفسه وعمله معا، فالمؤمن الذي يسير على منهج الله، يرى مشهده في الجنة، فيشعر بالراحة والطمأنينة لنهاية حياته المرسومة في مشهد الجنة، أما الكافر الذي حارب الله ورسوله، فيرى مشهده في النار فيعرف عقوبة تكذيبه، وكفره .. وبهذه المشاهد المصورة، تتحقّق العدالة الإلهية، لأنّ الله سبحانه عرّف الإنسان وهو مازال في الدنيا، مشهد حياته في الآخرة، وما ينتظره من ثواب أو عقاب، لكي يختار طريقه على
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 320)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 322)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 322)
القرآن.. والبيان الشافي (2/161)
بيّنة ووضوح .. ومن أجل تحقيق هذا الغرض، فإن المشاهد المصوّرة للعالم الآخر، تعرض متصلة بالعالم الدنيوي دون فاصل في التعبير والتصوير، للمواقف الإنسانية، والانفعالات البشرية؛ فيبدأ المشهد غالبا في الدنيا، وينتهي بتصوير مشهد في الآخرة، أو العكس، حتى يتحقّق الأثر النفسي، فيشعر الإنسان بقرب الآخرة، من خلال هذا الاتصال بين المشهدين في التصوير.
قال آخر (1): بورك فيك على هذه الإشارة .. ومن الأمثلة عنها قوله تعالى في التعبير عن استعداد الإنسان للهداية أو الضلالة: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 3 - 9] .. فالسياق يتحدث عن استعداد الإنسان لشكر الله أو للكفر به، وبمناسبة الحديث عن كفره، ينتقل السياق مباشرة إلى مشهد من مشاهد القيامة، لبيان عاقبة الكفر وهي تقييد الكافرين بالسلاسل والأغلال، ورميهم في السعير .. ثم استعرض مشهد الأبرار في النعيم وأطال في تصويره، ثم ذكر مشهدا من مشاهد الدنيا، والعمل الصالح فيها .. وهكذا تترابط الصور، وتتواصل في السياق الواحد، كما يتواصل العالمين المحسوس وغير المحسوس أيضا، تتفاعل الصور كلّها في السياق، لتوليد الأثر المطلوب في اتصال العالمين، واتصال الحياتين .. وهذا الاتصال يتمّ فجأة بلا مقدمات، ولا فواصل، حتى يبقى الإنسان مستعدا دائما لهذا الانتقال المفاجئ، ويحسب حسابه على الدوام.
قال آخر (2): أجل .. فالكثير من مشاهد القيامة تنتقل فجأة إلى مشهد في الدنيا، لربط
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 322)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 323)
القرآن.. والبيان الشافي (2/162)
العالمين وربط النتيجة بأسبابها الموصلة إليها، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 15 - 19]
قال آخر (1): كذلك .. فإنه غالبا ما تُعرض مشاهد النعيم، ومشاهد العذاب، متقابلة .. وهذه السمة البارزة في مشاهد القيامة، حتى تتمّ المقارنة بينهما، لإيضاح الفروق في الجزاء بحسب اختلاف الأعمال في الدنيا، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29 - 31] .. ونلاحظ هنا الفوارق بين حياة الظالمين، وحياة المؤمنين في الآخرة، وهي تعدّ امتدادا للفوارق بينهما في الدنيا، فكرا وسلوكا وشعورا .. فالظالمون كانوا في الدنيا في نعيم وعيش رغيد، وهم في الآخرة يحيط بهم العذاب الحسي، في شيّ الوجوه بالنار، وشرب الحميم الغسّاق الذي يحرق البطون والحلوق، عقابا على أفعالهم في الدنيا .. وتختلف حياة المؤمنين في الآخرة، فهم في ألوان من النعيم المحسوس في جنات وأنهار، وألوان من الشراب اللذيذ.
قال آخر (2): كذلك .. فإن هذه الصور الحسية للنعيم والعذاب تدور حول الطعام والشراب واللباس والمسكن، والمجلس، والمناخ، والأصحاب وغير ذلك مما هو مألوف لدى الإنسان، لتكون هذه الصور للنعيم أو العذاب أبلغ تأثيرا في النفس، وأقرب إلى
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 323)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 324)
القرآن.. والبيان الشافي (2/163)
التصور والخيال الإنساني .. فهي صور حسية تشمل الصور اللمسية، والذوقية، والبصرية، والسمعية، والشميّة، والصور النفسية أيضا .. فتصوير مشاهد القيامة، يشمل الحس والنفس، ليكون التأثير فيهما قويا أيضا.
قال آخر (1): كذلك .. فإنا نلاحظ التدرّج في تصوير المشاهد، وارتباط هذه المشاهد المصوّرة بعضها في بعض، ضمن نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية .. حيث تبدأ المشاهد برسم أهوال يوم القيامة، وموعدها المفاجئ والنفخ في الصور، والانقلابات الكونية الهائلة في الأرض والسماء، وصور الحشر، والحساب، ثم الجنة والنار وما فيهما من نعيم أو عذاب حتى تكتمل صورة القيامة في الأذهان بوضوح وجلاء .. فهذه المشاهد مترابطة ومتناسقة في التعبير والتصوير، كي تحقّق غرضها وتأثيرها في النفوس .. وهي طويلة ومفصّلة لتعميق الإيمان باليوم الآخر، وإقراره في العقول والنفوس، كما تتسم بالتهويل والرعب، لتحقيق هذا التأثير الديني.
قال آخر (2): ومن الأمثلة على ما ذكرتم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2] .. حيث يبدأ المشهد برسم حركة الزلزلة العنيفة للساعة، المؤثّرة في النفوس البشرية، حتى إنّ حركة الناس تضطرب من قوة الزلزلة وهولها، ويصور هذا الهول المرعب المؤثر، في المرضعات والحوامل، وترنّح الناس؛ فالمرضعة ذاهلة عن رضيعها، والحامل واضعة حملها، والناس يبدون كالسكارى، ترنّحا وتمايلا .. وقد عبّر عن الذهول، وانقطاع الروابط القوية في ذلك المشهد، باختيار صورة المرضعة الذاهلة عن رضيعها، والحامل التي تضع حملها، من عنف
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 324)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 324)
القرآن.. والبيان الشافي (2/164)
الحركة، وهي زلزلة حسية كونية، تعقبها زلزلة نفسية، مرسومة في هذه الصور.
قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك تلك الأسماء التي سميت بها القيامة في القرآن الكريم، فهي في حقيقتها صفات لذلك اليوم، فكلّ اسم يرسم بجرسه صورة من أهواله وأحواله .. ف (القيامة) تصوّر قيام الناس من القبور، و (الساعة) تصوّر قربها الزمني، وكأنها هذا الوقت المحدود، و (البعث) تصوّر بعث الناس من جديد، وما يرافق ذلك من حركات وهيئات وذهول، و (القارعة) لأنها تقرع القلوب والآذان بالأهوال، و (الصاخّة) تصخّ الآذان من شدّة وقعها وتأثيرها، و (الطامّة) تطمّ الأشياء والمخلوقات جميعا وتعمّهم، وتعلوهم بأهوالها وأحوالها .. وكذلك بقية أسماء القيامة مثل الواقعة، والغاشية، والحاقة، والحساب، والفصل .. وغيرها .. فهذه الأسماء أو الصفات الكثيرة تدلّ على عظم شأن ذلك اليوم.
قال آخر (2): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 42 - 46] .. فالصورة لهولها وضخامتها وأثرها، مرسومة بلفظ {مُرْسَاهَا}، وكأنها سفينة قادمة، تسير في لجّة البحر المجهول، نحو مكان رسوّها ومستقرّها .. وهذه الصورة متحركة مرسومة وهي قادمة، ولكنّ وصولها مجهول لنا، وهذا يضفي على الصورة ضخامة وهولا من خلال موعدها المجهول، وحركة القدوم السريعة في طريق كلّه أهوال، وأمواج واضطرابات .. واستخدام {أيّان} في السؤال عن موعدها، يزيد الصورة هولا وضخامة، وكذلك قوله: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها} حتى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرف موعدها أيضا، ولكنّها تأتي مباغتة الناس، وبذلك يقترن الهول بالمباغتة، لتضخيم
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 325)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 325)
القرآن.. والبيان الشافي (2/165)
أثرها في النفوس؛ فتبدو الدنيا قصيرة هزيلة إلى جانب صورتها الضخمة المباغتة: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] .. فهذه الدنيا بكلّ ما فيها من أعمار مديدة، وأزمان وأحداث، ومتاع، هي بالقياس إليها عشية أو ضحاها، وكأنها جزء من نهار، وليست نهارا كاملا.
قال آخر (1): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك: 24 - 27]، حيث تتقابل صورتان في هذا السياق، صورة انتشار الخلق في الحياة، تعقبها صورة تجميع لهذا الخلق المنتشر، وترتسم آثار الإنكار للبعث في وجوه الكافرين، في مشهد معروض في السياق، وكأنّه حاضر الآن، لأن الساعة بمقاييس الزمان المحدود، الذي يخضع له البشر غائبة، ولكنّها بالنسبة لله حاضرة واقعة، لأن علم الله فوق الزمان والمكان، وهو محيط بكل شيء، فمتى شاء، كشف الستار عنها فرأوها رأي العين، كما يرونها في تصوير هذا المشهد المقروء، بدون فاصل بين العالمين الدنيوي والأخروي.
قال آخر (2): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى في بيان قرب الساعة وأثره على القلوب: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] .. فهي آزفة، قريبة، وكأنّها زاحفة نحو الناس، وحين يرونها بأعينهم، ويرون أهوالها، يشتد خفقان القلوب، حتى تصل إلى الحلوق من شدة الاضطراب والخفقان .. وهذه الصورة تعبّر عن شدة الكرب، ومنتهى الضيق، وغيظ النفوس، ويزيد هذه الصورة هولا ورعبا، تقطّع الروابط الاجتماعية، وانشغال الإنسان بنفسه عمّن سواه.
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 326)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 326)
القرآن.. والبيان الشافي (2/166)
قال آخر (1): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى في تصوير أهوال القيامة وتقطيعها للروابط الاجتماعية: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]، وقوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 33 - 37] .. فالصاخّة بجرسها الشديد، الذي يصخّ الآذان، ترسم مشهدا مرعبا لذلك اليوم، نرى فيه حركة الفرار الجماعيّة، وتقطع الروابط الاجتماعية .. وهذه الحركة تجسّم الحالة النفسية المضطربة والخائفة وتفكير الإنسان، بنجاته، وانشغاله بذلك عن أقرب الناس إليه.
قال آخر (2): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى في تصوير ملامح الوجوه التي تدلّ على خفايا النفوس: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 38 - 42]، فبشر الوجوه وسرورها دليل على هدوء النفوس المؤمنة، واطمئنانها، وتقابلها صورة مغايرة لوجوه الكافرين، فهي وجوه منكسرة ذليلة، مغبّرة بالحزن والهمّ والحسرة .. وهكذا تتقابل الصور في السياق الواحد، لكشف الحقائق، وبيان الفروق بين الناس.
قال آخر (3): ومن الأمثلة عنها قوله تعالى في تصوير عرض الناس في المحشر، في صفوف منظمة: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 327)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 327)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 343)
القرآن.. والبيان الشافي (2/167)
يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 48 - 49] .. وصورة الصفوف المنظمة، مناسبة للموقف الجليل، ومثيرة للخيال، وهو يتأمل أعداد البشر من أول خلق الإنسان إلى الحساب، وهم يقفون على هذه الهيئة، استعدادا، لتلقي سجل أعمالهم، والخزي مرسوم على وجوه الكافرين، والسرور واضح في قسمات وجوه المؤمنين، والله يواجه الكافرين والمجرمين بذنوبهم، ويضع أمامهم سجل أعمالهم الدقيق.
قال آخر (1): وفي هذا المشهد، تلازم الأعمال أصحابها، ولا تفارقهم، يقول تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 13 - 15] .. فالأعمال حاضرة مجسّمة في صورة كتاب، مكشوف أمام الخلائق، بعد أن كان مستورا عن أعين الناس في الدنيا، وزيادة في توضيح الصورة، جعله ملازما لصاحبه، ملازمة الطائر لصاحبه، وهذه صورة عميقة الدلالة في الحس والشعور توحي بأن الإنسان، لا يستطيع الإفلات من أعماله، مهما حاول ذلك، ولكم أن تتأملوا صورة الإنسان في ذلك المشهد، وهو يحاول الإفلات من طائره، وهو يطارده في كل مكان، وفي أي اتجاه، وما يعانيه من هذه الملازمة أو المطاردة، لأنه يعرف مضمون كتابه، وما قدم في الدنيا من أعمال.
قال آخر (2): وزيادة في إثارة الألم والندم، يتوجّه الخطاب مباشرة إلى الإنسان: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] .. وهذا الانتقال إلى أسلوب الخطاب، يجعل المشهد حيا حاضرا، وكأن قراءة الكتاب مطلوبة في الدنيا قبل الآخرة، وبذلك يتضافر التعبير مع التصوير في تحقيق التأثير النفسي .. وتجسيم الأعمال على هذا النحو، وجعلها
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 343)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 343)
القرآن.. والبيان الشافي (2/168)
حاضرة الحساب، لمواجهة أصحابها بها له أعمق الأثر في النفس الإنسانية، حتى إنّ الإنسان المذنب، يتمنى أن يكون بعيدا عن أعماله، تفصل بينهما المسافات الشاسعة يقول تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30] .. ومن شدة الكرب، وأهواله، يتمنى الكافر العدم على الحياة، حتى لا يحاسب، ولا يواجه بأعماله، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]
قال آخر (1): ومن المشاهد المرتبطة بالمعاد ما ورد في القرآن الكريم من تصوير العذاب بالنار، بعد تصوير مشاهد الحساب، حتى تتّضح نتائج الأعمال، وطبيعة العقاب والثواب، حيث يصوّر النار تصويرا حسيا مرعبا، فيذكر خزنتها، وأبوابها، وسعتها، وحرّها، ودخانها، ووقودها من الناس والحجارة، ويذكر صورا من العذاب المخيف، مثل نضج الجلود، والصهر، واللفح، وتسويد الوجوه، والسّحب عليها أيضا، والقيود، والسلاسل، والأغلال، والمطارق .. كما يصور طعام أهل النار، وشرابهم ولباسهم، وغير ذلك من الصور الحسية المرعبة، التي تهدف إلى التخويف من عذاب الله، والتأثير في الإنسان، حتى يستقيم على منهج الله، ويبتعد عن مخالفته.
قال آخر (2): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في تصوير صفة النار، ووقودها من الناس والحجارة: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] .. والجمع بين الحجارة والكافرين في وقودها، إشارة إلى أن الكافرين، حين عطّلوا حواسهم غدوا كالحجارة قسوة وجمودا، فجاء هذا الجمع، وهذا التفاعل بين الصورة الآدمية، والصورة الكونية، في تصوير هولها، وشدتها، فهي تشعل
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 352)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 352)
القرآن.. والبيان الشافي (2/169)
الأجسام وتنضجها، وتصهر الأحجار، وتذيبها .. لذلك، فإن تباهي الكفار بالأموال والأولاد لا يفيد، لأنهم وقود النار، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران: 10] .. فالكافرون، حين عطّلوا حواسهم، تجردوا من صفاتهم الإنسانية، فصاروا أشبه بالأشياء الجامدة، توقد بها النار مع الحجارة والحطب ونحوهما.
قال آخر (1): ومن المشاهد المرتبطة بالمعاد ما ورد في القرآن الكريم من تصوير مشاهد النعيم في الجنة، وهي مشاهد حية شاخصة، وكأنّها حاضرة .. وهي مستمدّة من مألوف الناس، وما تعارفوا عليه من أنواع النعيم، كما كانت في مشاهد العذاب أيضا، ولكن القرآن الكريم يرقى بهذه الصور الحسية، فيجعلها متشابهة في الظاهر مع النعيم الحسي في الدنيا فحسب، بيد أن مذاقاتها وطعومها مختلفة ..
قال آخر (2): ويبدأ تصوير مشاهد النعيم، بفتح الآفاق أمام الخيال ليتصوّر ما شاء من أنواع النعيم وألوانه، وذلك حين يستره، ولا يظهره في التعبير إلا عن طريق الإيحاء به، كقوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] .. فهو نعيم تقرّ به العيون، ويترك للخيال أن يستحضر أنواعه، وتلتذّ النفس بالتشوّق إليه، وكأنّ الصورة هنا تريد الإيحاء من هذا الإجمال بأنه نعيم لا مثيل له، ولكنّ الصورة فصلّت في أنواع هذا النعيم في مواضع أخرى، ابتداء من تصوير سعة الجنة، وأبوابها، وأنهارها، وجمالها، وطعام أهلها، وشرابهم ولباسهم، ومجالسهم، وانتهاء بمشاهد اطلاعهم على أهل النار وحوارهم معهم ..
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 362)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 362)
القرآن.. والبيان الشافي (2/170)
قال آخر (1): ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] .. وهذه المساحة الواسعة، تتلاءم مع أنواع النعيم، الذي لا نظير له فيها، وبذلك تتسع مساحة الجنة في حسّ الإنسان وشعوره، وتتضاءل الدنيا بما فيها من ملذّات ومتاع.
قال آخر (2): ومشاهد أهل الجنة في القرآن الكريم حافلة بالحركة والحفاوة والترحيب، ومشاعر السرور، والفرحة، وعبارات الثناء والتكريم، فالملائكة يستقبلونهم بكلمات الترحيب، والتذكير بماضيهم {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، ومشاعر السرور مجسّمة في صورة الدعاء: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] .. والحركة المصوّرة، تبدأ من مشهد إقبالهم نحو الجنة على هيئة وفود، وجماعات، ثم تستمر عند أبواب الجنة حين تفتح لهم، مع عبارات السلام والثناء من الملائكة، ثم تستمرّ حركة المشهد بعد دخولهم الجنة، فتجسّم مشاعرهم في صورة دعاء وحمد لله، بعد أن تبوّأ كل واحد مكانه فيها، واطمأن، واستقر.
قال آخر: ويصور القرآن الكريم اجتماع الآباء والأزواج والذرية في مشهد النعيم، وتشاركهم أيضا الملائكة في هذا السرور، قال وتعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 363)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 363)
القرآن.. والبيان الشافي (2/171)
عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22 - 24] .. وذكر الأقارب والأحباب في المشهد، يلامس المشاعر والقلوب، ويوحي بالعمل الصالح الذي يجمعهم كلّهم في مشهد النعيم.
د. الصورة القرآنية ومعرفة الواقع
قال الشيخ: بورك فيكم جميعا على هذه الأمثلة المرتبطة بمعرفة الحياة، وطبعا سنعود إلى تفاصيلها في وقت لاحق .. فحدثونا عن الصور المرتبطة بمعرفة الواقع، وخاصة الواقع الذي تنزلت فيه الآيات الكريمة، الذي يمكن إسقاطه بعد ذلك على كل واقع مشابه.
قام أحد الحضور، وقال: أجل .. بورك فيك مولانا على طلبك هذا .. وأنا شخصيا استفدت كثيرا من الصور التي صور بها الواقع في عصر النبوة، بل رأيت أنه أحسن تأريخ لها، فالمصدر الأكبر للسيرة النبوية ليس كتب الحديث والمغازي، وإنما القرآن الكريم.
قال آخر (1): أجل .. لقد لاحظت من خلال اطلاعي على الآيات الكريمة التي تصور الأحداث التي حصلت في عهد النبوة أنها تقوم بنقل الحدث، وتصويره، واستجاشة المشاعر نحوه، كي يبقى الحدث حيا شاخصا، بكل ما صاحبه من مشاعر أو عواطف، وتوجيهات دينية .. كما أنها لا تعرض الحدث عرضا تاريخيا بتفصيلاته، وإنما تصوره من خلال التركيز على نقطة فيه، لإبرازها، وإلقاء الأضواء عليها، لاستخلاص القيم الثابتة من خلالها، وإظهار قدرة الله، وحضوره، في تسيير الأحداث، وفق مشيئته وإرادته، مع إغفال الزمان والمكان وأسماء الأشخاص، لإضفاء سمة الشمول والعموم على تصوير الأحداث والوقائع، حتى تبقى صورة الأحداث حية ومؤثرة، يتفاعل معها المسلم ويستجيب للتوجيهات الواردة في ثناياها، وفي كل زمان ومكان.
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 234)
القرآن.. والبيان الشافي (2/172)
قال آخر (1): أجل .. فالصورة، أعادت الأحداث والوقائع على الذين عاشوها، كي تكون وسيلة تربوية لهم من خلال الأحداث، والتوجيهات الدينية، التي رافقت تصويرها، كما أن الناس الذين لم يعايشوا تلك الأحداث، يستطيعون أن يعيشوا أجواءها، بكل ما فيها من معان ومشاعر وإيحاءات من خلال التصوير لها.
قال آخر (2): ومن الأمثلة على ذلك أننا نرى (معركة بدر) مصورة من بداية خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه لمواجهة المشركين، مع تجسيم حالات النفوس المتباينة في ساعة الخروج، كما قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 5 ـ 6] .. وتبدأ الصورة بعرض مشهد الخروج حيا شاخصا، بكل ما صاحبه من مشاعر، وكلمة {مِنْ بَيْتِكَ} [الأنفال: 5] توحي بالتجرد لله سبحانه، وترك الدنيا وراء الظهور، كما أنها ترسم مشهد الخروج من نقطة البداية، لاستحضار المشهد بكل إيحاءاته .. ويشترك التعبير مع التصوير في إبراز الحقائق الدينية، فنحن نحس أن الآمر بالخروج هو الله، وهذا ما يؤكده إسناد فعل الخروج إلى الله {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} [الأنفال: 5] وفي هذا الإسناد دلالة على تسيير الله للأحداث وفق مشيئته، كما أن هذا الخروج هو لله سبحانه، فهو الآمر به، وتزيد كلمة (الحق) من توضيح غاية الخروج، وبذلك يتحد في الصورة الحسي والمعنوي فالخروج حسي، والحق معنوي، وتستمر الصورة بعنصريها الحسي والمعنوي في رسم مشهد الخروج لمواجهة المشركين.
قال آخر (3): ثم تجسم الصورة الحالة النفسية الخائفة لبعض المسلمين في ساعة
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 234)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 235)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 235)
القرآن.. والبيان الشافي (2/173)
الخروج، والنفس بطبيعتها تكره الحرب وتنفر منها، وذلك في قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5]، وهذه الصورة ترسم حركة بعض المسلمين الحسية والنفسية معا، فهم يساقون سوقا للخروج، ونفوسهم كارهة له .. وهذا التصوير يتسم بالصدق والواقعية، فالنفس تخاف من لمواجهة والحرب، ولكن صاحب العقيدة يتغلب على هذا الشعور .. ويرسم الفعل المضارع حركتهم {يُسَاقُونَ} [الأنفال: 6] ببنائه للمجهول للتركيز عليهم في التصوير، وهم يتحركون مجبرين مسوقين في المشهد المعروض، ثم راح التصوير يرسم ملامح الوجوه المعبرة عن يأس النفوس {إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6] فهم يائسون من نتيجة المعركة، ويرون موتهم فيها، وقد جسم الشعور اليائس، في نظراتهم الزائغة الدالة على خوفهم واضطرابهم.
قال آخر (1): فالصورة للحدث، تلمس الجانب الحسي، والجانب النفسي معا، لتحقيق الغرض من التصوير، ثم تجسم أيضا رغبات النفوس في قوله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7] .. فقد كانوا يتمنون العير، وليس النفير للقتال، لأن العير ليس في ملاقاتها شدة أو ابتلاء، على عكس النفير ذي الشوكة والحدة والقوة، فالصورة هنا تجسم الفارق بين الإرادتين، ولكن الله كان يريد شيئا آخر، يريد أن يضرب قوة قريش المتغطرسة بهذه الفئة المؤمنة الضعيفة، ليكسر شوكة قريش، ويحد من معارضتها لهذا الدين، كما قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7]، والتصوير بقطع الدابر، يوحي بالاستئصال الكامل للكافرين، ويلاحظ في الصورة التركيز على قوة الله في الحدث، فالله هو الذي أخرج قريشا من مكة، وأخرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من بيته مع أصحابه، وساق بعض المؤمنين سوقا إلى المواجهة، وهم كارهون لها، فتجمع الفريقان، في
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 236)
القرآن.. والبيان الشافي (2/174)
ساحة المعركة وجها لوجه.
قال آخر (1): وتنقل الصورة لنا مواقع الفريقين وكأننا نشاهدها الآن يقول تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42]، فالصورة هنا ترسم أرض المعركة بالكلمات، وتحدد موقع كل فريق، وموقع القافلة القريب من أرض المعركة وهذه الصورة هي بمثابة الإطار لها، وفي داخل هذا الإطار المكاني والزماني، وقعت أول معركة في الإسلام .. فالمساحات الواسعة مرسومة بإيجاز، والمواقع مصورة من خلال قربها وبعدها من المشاهد العدوة الدنيا ـ العدوة القصوى ـ الركب أسفل من جهة البحر .. ويلاحظ أن تصوير المواقع يتم من وجهة المسلمين أولا، فالعدوة الدنيا هي موقع المسلمين من جهة المدينة، والعدوة القصوى، تقابلها في الجهة الأخرى وهي موقع الكافرين، أما القافلة، فقد كانت تسير هناك بعيدا عن المكان. في الخط الساحلي، والركب أسفل منكم .. فالصورة هنا ترسم الأبعاد المكانية الحسية، كما رسمت من قبل الأبعاد النفسية والحسية لحركة المسلمين، ونحس بقوة الله، تدير هذه المعركة، فتحرك الفريقين للمواجهة، وتوزعهما في مواقعهما المتقابلة على أرض المعركة، مع تصوير قافلة قريش، تسير بعيدا عن أرض المعركة، لنفي أي شبهة دنيوية عن أهداف المعركة القائمة.
قال آخر (2): ثم إن قوة الله أيضا كانت تقلل كل فريق في عين الآخر، دفعا له لمواجهته، كما قال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44]، فالصورة للمعركة، ترسم بكل ما فيها من مواقع وحركات حسية، ومشاعر نفسية، تتجلى في تقليل كل فريق في عين الآخر، وأثر ذلك في
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 236)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 237)
القرآن.. والبيان الشافي (2/175)
نفسه، وطمعه في لقائه، لإنفاذ قدر الله في إحقاق الحق، وقطع دابر الكافرين.
قال آخر (1): وتلح الصورة على تجسيم مشاعر المسلمين في لحظات المواجهة، بعد أن أيقنوا أنه لا بد منها، في مشهد حي شاخص فقد توجهوا بالدعاء والاستغاثة، كما قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]، والاستغاثة توحي بشدة إحساسهم بالضعف أمام قوة قريش ذات الشوكة، هذا الإحساس الداخلي نراه مجسما في مشهد الاستغاثة الجماعي، في ساعة المواجهة، ويعتمد التصوير على الفعل المضارع تستغيثون لاستحضار المشهد وإحيائه، وجعله حاضرا محسوسا، ثم عطف عليه بالفعل الماضي إلى الحاضر بقصد تجسيمه أمام المخاطب، وبدء عرض المشهد كما وقع بعد ذلك، وهذه طريقة القرآن التصويرية في إحياء المشاهد قبل استعراضها فقد استجاب الله استغاثتهم، وأمدهم بالملائكة، وصورة هذا المدد غيبية، موحية تدل على أن الله معهم، وهو الذي يدير المعركة بنفسه، وما هم إلا ستار لقدر الله النافذ، وكان أثر هذا المدد الغيبي هو تطمين النفوس الخائفة، وتثبيت الأقدام المضطربة في المعركة، مع تصحيح التصور والاعتقاد بأن النصر هو من عند الله وليس من سواه.
قال آخر (2): ثم تجسم الصورة اطمئنان النفوس بعد ذلك، في مشهد شاخص يقول فيه تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11]، وصورة النوم الغاشي للعيون، توحي بالاطمئنان بعد الفزع، ثم صورة الغيث الرهام ينزل عليهم من السماء، توحي بتطهير أجسامهم بعد تطهير نفوسهم، كما قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]، فتوفرت بذلك كل العوامل المعنوية الضرورية قبل مواجهة الأعداء، من شعور بالطمأنينة، والراحة
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 237)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 237)
القرآن.. والبيان الشافي (2/176)
والوعد بالدعم، وتثبيت الأقدام .. وتلتقي صورة المطر الهاطل، بصورة المدد النازل، وتتحد الصورتان في دعم موقف المسلمين.
قال آخر (1): وكلمات (يغشيكم والنعاس وأمنة) تلقي ظلا لطيفا على الصورة المرسومة للحالة النفسية للمؤمنين، وتضيء التحول من الفزع والخوف إلى الطمأنينة والاستقرار، وهذا التقابل بين الصورتين النفسيتين، وما بينهما من تضاد وفروق، يوضح ما يفعله الله في النفوس من تبدلات بين لحظة وأخرى وفق مشيئته سبحانه .. ويقوم الفعل المضارع (يغشيكم) بإحياء المشهد، واستحضاره في الذهن، وكذلك فعل (ينزل) وصورة المطر الحسية، تتلاحم مع صورة الملائكة الغيبية، فتسكن النفوس لتوفر الدعم المادي، المتمثل بوجود الماء، وتطمئن لوجود الدعم المعنوي، المتمثل في الإمداد بالملائكة، فتكون النتيجة قوة القلوب، وثبات الأقدام، وهما الشرطان الضروريان لتحقيق النصر فيما بعد.
قال آخر (2): ثم يمضي التصوير للمعركة، بعد تصوير مقدماتها، كما قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] .. ولا تعرض الصورة ماهية الملائكة، ولا كيفية اشتراكهم في المعركة، لأن هذا لا يهم في بيان الحقائق الدينية، ولا في تقرير النتائج، فالصورة تركز على قوة الله التي تمد بهذه القوة الخفية ليشعر الإنسان بقوة الله الملموسة في توجيه الأحداث، وتقرير النتائج .. وتلقي صورة الملائكة في حس المؤمن الخوف من الله، والتقرب إليه، وتطبع في قلوب الكافرين الفزع من هذه القوة الخفية المشاركة في المعركة .. لذلك كان تركيز التصوير على فعل الملائكة في ضرب الأعناق، وضرب كل بنان، لأن هذا هو المفيد من تصوير الأحداث.
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 238)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 238)
القرآن.. والبيان الشافي (2/177)
قال آخر (1): وبعد عرض هذا المشهد للمعركة يأتي التعقيب عليه، على طريقة القرآن الكريم في التوجيه بعد التصوير لبيان المغزى، يقول تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 13]، فضرب الأعناق وضرب البنان، كان بسبب كفرهم، واتخاذهم شقا معاديا لصف الإيمان .. ثم يتحول التعبير لمخاطبة الكافرين مباشرة على طريقة الالتفات، للتهكم بهم، والسخرية منهم، يقول تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 14] .. فالعذاب العاجل صار مذاقا في حلوقهم، يشعرون بآلامه ومرارته، وهو قبل العذاب الآجل، في النار يوم القيامة، ثم يأتي التوجيه من خلال التصوير في سياقه الملائم، فيخاطب المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15 ـ 16]
قال آخر (2): وهذه الصورة الحسية في تولية الأدبار من المعركة، صورة كريهة منفرة، يقصد بها التحذير والترذيل، وقد وردت بعد تصوير الحدث للمعركة، لينقل المسلمين من الواقعة المحدودة إلى الفكرة الدائمة في أثناء ملاقاة العدو، حيث يحذر المسلمين من الرياء، ويذكرهم بمشاهد من معركة بدر، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 47 ـ 49]، فصورة قريش يوم بدر هي صورة البطر والرياء والمباهاة بالعدد
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 238)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 239)
القرآن.. والبيان الشافي (2/178)
والعدة، وقد كانت هذه الصورة حاضرة في أذهان المسلمين، رأوها حين خرجت قريش بقوتها الضخمة لملاقاتهم، ولكن نتيجة هذه الصورة هي الهزيمة والإخفاق، وتصوير قريش على هذه الهيئة المتغطرسة، يهدف إلى تحذير المسلمين من هذه الصورة المعروفة النتيجة، وحث المسلمين على الارتباط بالله مصدر القوة والنصر .. وهذا التذكير بالله، يأتي في سياقه الملائم، بعد تصوير الحادثة الواقعة التي ظلت حاضرة في نفوسهم وذاكرتهم من خلال التصوير القرآني لها.
قال آخر (1): ثم يتناول التصوير حقيقة غيبية للملائكة وهم يقبضون أرواح المشركين بسخرية وإذلال، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 50 ـ 51]، ويبدأ التصوير ب (لو) وهي حرف امتناع لامتناع، للدلالة على أن ذلك من الغيب، فتمتنع رؤية الملائكة وهم يضربون الوجوه والأدبار، لامتناع الرؤية البصرية لعالم الغيب، ثم يأتي الفعل المضارع ترى لإحياء المشهد واستحضاره، ثم تتوالى الصورة الغيبية للملائكة يقبضون أرواح المشركين، ويضربون وجوههم وأدبارهم، وتكاد الأفعال المضارعة المتكررة في التصوير، تحيي المشهد وتنقله من الغيب المجهول، إلى المشهد المنظور، ثم يتحول السياق من الإخبار بالغيب، إلى أسلوب الخطاب لكفار مكة {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 22]، والتهكم واضح في صورة إذاقة عذاب الحريق، وهي صورة مؤلمة للكافرين .. وبعد تصوير هذا المشهد يأتي التعقيب عاما على معركة بدر ونتائجها، بإقرار حقيقة لسنة كونية من سنن الله وهي أخذ الكافرين بكفرهم، وتعذيبهم في الدنيا قبل الآخرة، وهذه سنة ماضية نفذت في قريش يوم بدر، كما نفذت في فرعون وجنوده في القديم
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 239)
القرآن.. والبيان الشافي (2/179)
يقول تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنفال: 54]
قال آخر (1): وهكذا رأينا في تصوير معركة بدر أنه لم يقصد بالتصوير التسجيل التاريخي لها، وإنما تقرير الحقائق الدينية الثابتة من وراء التصوير، وتصحيح التصورات، ومعالجة النفوس في مثل هذه الوقائع، وإبراز القدرة الإلهية الفاعلة والمؤثرة في توجيه الوقائع والأحداث، وبيان سنة الله الماضية في تقرير نتائج المعارك، وتربية النفوس بالأحداث الواقعة، لأنها تكون أوقع في الحس والشعور، لأنها تربية عملية ميدانية، وليست تربية نظرية، تقتصر على التوجيهات المجردة البعيدة عن الواقع .. فالفكر الديني إذا يتفاعل مع الواقع، في تربية الفرد وإعداد الأمة، وهو فكر إيجابي، لأنه مرتبط بالواقع المعاش وهذا ما تجسده الصورة في نقل الأحداث الواقعة.
قال آخر (2): وهذه السمات لتصوير الأحداث، تكاد تكون عامة في كل الأحداث التي تناولتها الصورة الفنية وإن اختلفت طريقة التصوير من معركة لأخرى، بحسب تغير الظروف والمواقف، وحالات النفوس إلا أن السمات العامة للتصوير، لا تكاد تخرج عما ذكرناه .. ففي تصوير معركة (أحد) أيضا نلاحظ تقرير المبادئ الدينية من وراء التصوير، ومعالجة النفوس الضعيفة، وتربية الأمة الإسلامية بالأحداث وغير ذلك.
قال آخر (3): وتبدأ الصورة باستحضار بداية مشهد المعركة يقول تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121]، وتستعيد الصورة المشهد بوساطة الفعل المضارع (تبوئ)، فيستحضر الحدث من الزمن الماضي للزمن الحاضر حتى يشخصه في الأذهان، ثم نلاحظ البعد الزمني في المشهد في قوله
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 240)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 240)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 241)
القرآن.. والبيان الشافي (2/180)
{غَدَوْتَ} [آل عمران: 121] إلى جانب البعد المكاني {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] فيرتسم جو المعركة بتحديد المواقع، وتحديد التوقيت الزمني لها أيضا، وهذا هو المشهد المنظور للصورة الحسية، وهناك وراء الصورة الحسية، الصورة الغيبية، تظهر من وراء المشهد المنظور {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121]، فالله حاضر المعركة، وكل معركة يسمع ويرى، ويعلم ما يدور في الحس والشعور، وهذه الحقيقة الدينية ملازمة لتصوير الأحداث لتعميق الارتباط بالله سبحانه في كل الأمور، وإبراز قدرة الله في الأحداث، كما هي ظاهرة في الكون والأحياء.
قال آخر (1): وتجسم الصورة خواطر النفوس لطائفة من المسلمين، همت أن تبقى في المدينة، ولا تخرج مع المسلمين لقتال المشركين، وكان الهم مجرد خاطر لم يطلع عليه أحد، ولكن الله لا تخفى عليه خافية، يقول تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] .. وتصوير خواطر النفوس هنا، فيه إشارة إلى حضور الله معهم، يشد على أيديهم، وينصرهم، وهذه طريقة القرآن الكريم في تصوير الأحداث، لتوجيه المؤمنين، وتسديد خطاهم، فالصورة القرآنية ليست مجرد تسجيل الأحداث، وإنما غايتها إحياء الأحداث، بكل ما صاحبها من حركات حسية ونفسية، لتوجيه المؤمنين نحو المبادئ الدينية الثابتة.
قال آخر (2): وفي سياق تصوير معركة أحد، يستعرض مشاهد من معركة بدر، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]، للتذكير بنصر الله لهم، وتذكيرهم بما صاحب معركة بدر من حقائق دينية، وسنن إلهية في النصر والهزيمة ليبقى المسلمون على صلة بهما، والتيقن بأن النصر بيد الله، فهو وحده، يقرر نتائج الأحداث، كما
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 241)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 241)
القرآن.. والبيان الشافي (2/181)
يقرر مصائر الأحياء ..
قال آخر (1): وقد أشيع أثناء المعركة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل، وقد أثرت هذه الإشاعة في نفوس المسلمين، فنقلت الصورة هذا الجو النفسي، مع التوجيه نحو القواعد الدينية الثابتة يقول تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] .. وقد جاءت الصورة تحمل معنى التهديد، فالرسول بشر، وينطبق عليه ما ينطبق عليهم من الموت أو القتل وهو رسول كبقية الرسل من قبله، فهم ليسوا مرتبطين، بحياته أو موته، بل يرتبطون بالله الذي لا يموت، ودعوته الباقية.
قال آخر (2): وقد جاءت الصورة تجسم مشاعرهم في صورة حسية {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] وحركة الانقلاب على الأعقاب حركة حسية، تعبر عن حركة نفسية داخلية، فقد أحس بعضهم أنه لا فائدة من الاستمرار بعد قتل الرسول أو موته، وكأن المعركة القائمة، هي بين أشخاص، وليست بين مبادئ، فجاءت الصورة بهذه الحركة الحسية المستنكرة، لتوحي لهم بأن المعركة ليست كذلك بل هي بين الإيمان والكفر، وهي معركة مستمرة، وإن مات الأشخاص، لأنهم يرتبطون بالله الحي الذي لا يموت لذلك جاء التعقيب بقوله: ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، فالله غني عن العباد، وهم المحتاجون إليه، وهكذا تؤدي الصورة وظيفتها الدينية من خلال تصوير الأحداث.
قال آخر (3): وتلتقط الصورة الفنية حالة المسلمين النفسية والحسية وهم يفرون من أرض المعركة، فترسمها في مشهد حي متحرك، يقول تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 241)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 242)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 242)
القرآن.. والبيان الشافي (2/182)
أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153]، فالمشهد هنا، يعرض حركة هزيمة المسلمين في أحد، وهم مصعدون في الجبال هربا من المعركة، ونفوسهم خائفة مضطربة، وقد جسمت الحالة النفسية لهم في هذه الحركة الحسية، وكأننا نراهم في المشهد الآن مصعدين في الجبل، لا يلتفت أحد وراءه، والرسول يدعوهم في أسفل الجبل إلى العودة، ولكنهم لا يسمعون نداءه لشدة فزعهم أو أن حالتهم النفسية المضطربة تمنعهم من إجابة دعائه.
قال آخر (1): ويعتمد تصوير الحدث على الفعل المضارع (تصعدون) لإحياء المشهد، واستحضاره من الزمن الماضي إلى الحاضر كما أن الفعل (تصعدون) من الفعل الماضي أصعد، وهو يدل على الذهاب البعيد، بخلاف الفعل صعد .. واختيار الفعل هنا يوحي بأنهم بلغوا مكانا بعيدا في الجبل العالي هاربين من المعركة، والخيال يتابع من خلال المشهد الحي الشاخص، حركتهم المضطربة في صعود الجبل، ويتأمل صورتهم وهم موزعون هنا وهناك عليه بشكل يدل على الفزع والاضطراب، وما يصاحب حركة الهروب من أصوات ونظرات فزعة ولا تلوون على أحد فترتسم ظلال الخوف والفزع على الصورة، بحركاتها، وهيئاتها وخطوطها.
قال آخر (2): والعنصر البارز في هذا المشهد، هو عنصر الحركة، لأنه يلائم جو الهزيمة، لهذا كان الاعتماد في التصوير على الفعلين المضارعين، (تصعدون ـ تلوون)، ثم في دقة اختيار فعل (تصعدون) من الفعل أصعد، للدلالة على الصعود البعيد وليس القريب كي يتناسق التصوير مع المعنى المرصود، وتقابل حركة الفرار، حركة الثبات في أسفل الجبل، في أرض المعركة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم .. وهكذا نلاحظ في تصوير مشهد الهزيمة حركة
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 242)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 243)
القرآن.. والبيان الشافي (2/183)
مضطربة في الجبل، وحركة ثابتة في أسفل الجبل، وخوفا وأمانا في الوقت نفسه، لتوضيح الفوارق في الطباع والحالات النفسية في مثل هذه الظروف والأوضاع.
قال آخر (1): ثم تتحول الصورة لرسم مشهد آخر لهؤلاء الفارين، بعد أن تابوا إلى الله وعفا عنهم، وهو مشهد مغاير للسابق، فيه الطمأنينة، والهدوء لتلك النفوس، يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: 154]؛ فالصورة إذا تجسم النفس البشرية، في حالة خوفها وفزعها، كما رأينا في المشهد السابق، وفي حالة هدوئها واطمئنانها أيضا .. كما ترى في هذا المشهد، لأن صورة النعاس الغاشي للعيون توحي بذلك.
قال آخر (2): وهناك طائفة أخرى، لا تهتم إلا بمصالحها الدنيوية، وسلامتها، فهؤلاء كانوا يرون أنهم عرضوا أنفسهم للقتل في تلك المعركة الخاسرة برأيهم، وأكثروا الجدال، في هذا الأمر، وأخفوا حقيقة أنفسهم، فجاء القرآن الكريم وفضحهم، كما قال تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران: 154]، فهؤلاء قد امتلأت نفوسهم كراهية للحرب، لأنهم يرون أنهم عرضوا أنفسهم للموت فيها، فجاء توضيح حقيقة الحياة والموت، وقدر الله النافذ في الآجال في صورة موحية ومؤثرة، يقول تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]، وذات الصدور، كناية عن الأسرار الملازمة للصدور، فالله يعرف أسرار النفوس، ويعرف ما وراء الاحتجاج على المعركة من أسرار وهواجس، يكشفها لأصحابها أولا، وللناس جميعا ثانيا، لأنهم قد يمرون بمثل هذه الأحداث فتجيش صدورهم بمثل هذه الأوهام حول المعركة مع الباطل، والحقيقة المصورة
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 243)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 243)
القرآن.. والبيان الشافي (2/184)
هنا، أن الموت قدر الله النافذ لا محالة، وله موعد محدد، لا يتقدم ولا يتأخر، لهذا فإن المعركة لا تقدم أجل الإنسان، كما أن التقاعس عنها لا يؤخره عن موعده المرسوم.
قال آخر (1): وقد صورت هذه الحقيقة بقوله تعالى: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]، وصورة المضجع الذي هو مكان الراحة والاسترخاء، يتحول هنا إلى قبر لصاحبه، الذي كتب عليه القتل حسب الأجل المرسوم له .. ثم تعود الصورة من جديد، لتلمس طائفة الفارين، وتربط هزيمتهم، بوساوس الشيطان، حتى يرتدع المؤمنون عن الفرار يوم الزحف، فالشيطان هو الذي استزلهم ليتبعوه فارين من المعركة، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]
قال آخر (2): وصورة الشيطان غير محسوسة، ولكن أثرها محسوس مجسد في حركة الفرار من المعركة .. وكلمة استزلهم ترسم بجرسها صورة حية للشيطان، وهو يجر قدم المقاتل لتزل زلة، تتبعها زلات حتى ينقاد أخيرا لخطوات الشيطان، فيتبعه في حركة الفرار من المعركة .. والفعل في صيغته الطلبية، يوحي بطريقة الشيطان في الوسوسة، بشكل متدرج، حتى يقع الإنسان في مصيدته أخيرا، وهكذا توظف هذه الصورة المجهولة بمالها من رصيد نفسي في قلب المسلم، ورصيد تاريخي وديني، في عداوة الشيطان للإنسان في معالجة النفوس التي اضطربت وانهزمت حتى يعيدها من جديد إلى طريق الاستقامة على منهج الله سبحانه.
قال آخر (3): وهكذا صور القرآن الكريم غزوة الأحزاب، حيث عرض بداية المعركة
__________
(1) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 244)
(2) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 244)
(3) وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص 245)
القرآن.. والبيان الشافي (2/185)
ونهايتها، قبل عرض التفصيلات والمواقف، حتى يتضح أثر القدرة الإلهية في تلك المعركة، وفضل الله على المؤمنين، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]، فالصورة هنا ترسم لنا بداية المعركة ونهايتها بكلمات موجزة .. فالتنكير في كلمة (جنود) يفيد العموم والشمول، للإيحاء بالجنود الآخرين الذين انكشفوا في أثناء المعركة من اليهود والمنافقين، بالإضافة إلى التهويل والتضخيم الملحوظ في تنكير الكلمة وتقابل صورة الجنود الضخمة، صورة الملائكة الغيبية، وصورة الريح الكونية، وت