الكتاب: قيم الحضارة الإسلامية الجديدة
الوصف: قيم الحضارة الإسلامية الجديدة عند الإمام الخميني والإمام الخامنئي
السلسلة: هذه إيران وهذا مشروعها
المؤلف: أ. د. نور الدين أبو لحية
الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1442 هـ
عدد الصفحات: 565
ISBN: 978-620-3-85921-8
لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا
التعريف بالكتاب
يحاول هذا الكتاب أن يدخل في لباب التجربة الحضارية الإيرانية الجديدة وروحها، حتى لا تظل محصورة في تلك الأرض الطيبة والشعب الكريم، وإنما تعم العالم أجمع بداية بالعالم الإسلامي.
ذلك أن المقصود الأول من الثورة الإسلامية الإيرانية ـ كما يذكر قادتها ـ هو أن تكون بداية لنهضة جديدة للعالم الإسلامي، بل لكل المستضعفين في الأرض.
وهي بذلك تستحق أن تُدرس من هذه الناحية بعيدا عن الخصوصية الزمانية والمكانية المرتبطة بها؛ فالمشروع الحضاري الإيراني له وجهان:
1. وجه يراه الناس جميعا من خلال المقاومة والسيادة والعزة والتطور العلمي والتقني والفني وغيرها من النواحي التي يقر بها كل صادق يتابع الواقع الإيراني.
2. ووجه خفي، هو تلك الروح السامية، وذلك الفكر النبيل، الذي كان سببا وراء كل تلك النواحي الجميلة والسامية التي تحققت للإيرانيين.
وغرض هذا الكتاب ليس الوجه الأول؛ ذلك أنه لا يمكن حصره، ولا الحديث عنه، فالتطور يسير في إيران في وتيرة متسارعة، لا يمكن حدها ولا حصرها، ولو ذكرنا في الكتاب أي إحصائيات؛ فإنها ستصبح بعد سنوات قليلة مجرد أرقام لا قيمة لها أمام التطور الجديد.
ولذلك كان الأجدى هو البحث عن الوجه الثاني، لا للتعرف من خلاله على سبب ما يحدث في الوجه الأول فقط، وإنما للاستفادة منه في خدمة كل من يرغب في مشروع جاهز أثبت صلاحه من خلال التجربة والواقع ولأجيال عديدة.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (9)
يختلف هذا الكتاب عن الكتب السابقة من هذه السلسلة في كونه لا يرتبط من قريب أو بعيد بالتاريخ أو الواقع الإيراني، ذلك أنه يحاول أن يخرج من ذلك الواقع والتاريخ، ليدخل في لباب التجربة الحضارية الإيرانية الجديدة وروحها، حتى لا تظل محصورة في تلك الأرض الطيبة والشعب الكريم، وإنما تعم العالم أجمع بداية بالعالم الإسلامي.
ذلك أن المقصود الأول من الثورة الإسلامية الإيرانية ـ كما يذكر قادتها ـ هو أن تكون بداية لنهضة جديدة للعالم الإسلامي، بل لكل المستضعفين في الأرض، وهي بذلك تستحق أن تُدرس من هذه الناحية بعيدا عن الخصوصية الزمانية والمكانية المرتبطة بها.
وبذلك فإن المشروع الحضاري الإيراني له وجهان:
1. وجه يراه الناس جميعا من خلال المقاومة والسيادة والعزة والتطور العلمي والتقني والفني وغيرها من النواحي التي يقر بها كل صادق يتابع الواقع الإيراني.
2. ووجه خفي، هو تلك الروح السامية، وذلك الفكر النبيل، الذي كان سببا وراء كل تلك النواحي الجميلة والسامية التي تحققت للإيرانيين.
وغرض هذا الكتاب ليس الوجه الأول؛ ذلك أنه لا يمكن حصره، ولا الحديث عنه، فالتطور يسير في إيران في وتيرة متسارعة، لا يمكن حدها ولا حصرها، ولو ذكرنا في الكتاب أي إحصائيات؛ فإنها ستصبح بعد سنوات قليلة مجرد أرقام لا قيمة لها أمام التطور الجديد.
ولذلك كان الأجدى هو البحث عن الوجه الثاني، لا للتعرف من خلاله على سبب ما يحدث في الوجه الأول فقط، وإنما للاستفادة منه في خدمة كل من يرغب في مشروع جاهز أثبت صلاحه من خلال التجربة والواقع ولأجيال عديدة.
ونحن نرى أن الحملة المغرضة على إيران لا تهدف فقط إلى ضرب مشروعها الواقعي
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (10)
المتواجد على أرضها، وإنما تهدف قبل ذلك وبعده إلى نسف مشروعها الفكري والتأصيلي الذي أثبت جدواه الواقعية.
وهم يشبهون في ذلك من يحاول قتل مريض انتفع بدواء جديد تحت التجربة، لا لينتقم من المريض، وإنما ليحرم المرضى من استعمال الدواء بإثبات فشله، وعدم صلاحيته.
وهذا ما يفعله أعداء إيران، وقد نجحوا فيه إلى حد كبير، حيث نرى الكثير ممن يزعمون لأنفسهم الحرية الفكرية والتنوير، لا يعرفون شيئا عن المشروع الحضاري الإيراني، بل يحملون عنه صورة مشوهة في نفس الوقت الذي يشيدون فيه بحركة جمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم من الشخصيات أو الحركات الدعوية التي لم يتح لها أن تجرب مشاريعها في الواقع، ولا أن تنجح في تحقيق ما تفكر فيه.
ولهذا نرى قادة الثورة الإسلامية يشيرون إلى هذا، بل يدعون المفكرين والمثقفين المتنورين إلى القيام بدورهم في هذا الجانب، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني بعد فترة وجيزة من انتصار الثورة الإسلامية: (يجب دعوة كبار المفكرين في العالم الإسلامي، لتوضيح أبعاد الثورة الإسلامية العظيمة في إيران وتقييم الضربات القاصمة التي أنزلتها هذه الثورة بالناهبين الدوليين، لنبطل بذلك مفعول الدعاية الغربية ضد الثورة الإسلامية)(1)
وقال الإمام الخامنئي عند حديثه عن أدوار الإعلام: (ثمة أمر آخر يعتبر من الأولويات الإعلامية والتبليغية، في الوقت الحاضر، وهو الدفاع عن الجمهورية الإسلامية؛ وإنني أتوجه بالحديث الى المثقفين والمفكرين المسلمين غير الإيرانيين، إن عليهم ألا ينظروا الى الجمهورية الإسلامية على أنها كيان قائم في مكان ما من العالم أو ثورة انتصرت بإمكانهم أن يحبوها أو يبغضوها تبعاً لميولهم وعواطفهم.. لا ينبغي أن يحملوا مثل هذه الفكرة، ولا يجب أن ينظروا
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 9، ص: 186.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (11)
الى الجمهورية الإسلامية من هذا المنظار، فإقامة الجمهورية الإسلامية حدث سعى الاستعمار للحيلولة دون حصوله طيلة مئتي عام، لكي يبرهن على أن زمن الإسلام قد ولّى، وأن الإسلام غير قادر على إدارة المجتمع وإقامة النظام السياسي)(1)
ثم ذكر بعض النواحي والقيم التي استطاعت الثورة الإسلامية الإيرانية إثباتها، فقال: (لقد فنّدت الجمهورية الإسلامية بحركة واحدة مزاعم الاستعمار ودعاياته التي بقي يرددها طوال مئتي عام وأذهبتها أدراج الرياح.. تلك المزاعم والدعايات التي شارك فيها آلاف المفكرين، وأُنفقت عليها المليارات من النقود، وكم حاولوا ـ جاهدين ـ نشر وترسيخ أفكارهم في العالم الإسلامي من أقصاه الى أقصاه)(2)
ثم دعا إلى التسامي عن الواقع الإيراني الذي قد لا يعبر في بعض نواحيه بدقة عن المشروع الفكري، فقال: (ربما يكره بعض الفئات أو الأفراد هذه الجمهورية الإسلامية ولا يحبونها، أو أنهم لا يرتضون تصرف المسؤول الفلاني من مسؤولي الجمهورية الإسلامية، أو يكونوا مترددين في الرضى عنه، أو تكون لديهم تساؤلات وعلامات استفهام حوله؛ كل هذا يمكن أن يكون صحيحاً وفي محله ومنطقياً ويمكن أن يحدث، ولكن الذي لا يمكن أن يكون منطقياً ولا يمكن الدفاع عنه وتأييده هو أن يحمل الشخص تساؤلات وشكوكاً حول الجمهورية الإسلامية، أو لا يدافع عنها؛ هذا ما لا يمكن قبوله أو تبريره)(3)
ودعا بدله إلى الاهتمام بروح المشروع وغايته وقيمه، فقال: (إن الجمهورية الإسلامية تعني حاكمية القرآن وحاكمية الإسلام، ومن واجب كل مسلم في أية بقعة من أرجاء العالم أن
__________
(1) الفكر الأصيل، الإمام الخامنئي، ص 77.
(2) المصدر السابق، ص 77.
(3) المصدر السابق، ص 77.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (12)
يدافع عن هذا الكيان، ليس لأنه يعود لنا أو متعلق بنا، وليس لأنه ملك لإيران)(1)
بل ذكر أن قادة الثورة الإسلامية الإيرانية لم يكن قصدهم إلا هذا، وأنهم كانوا في فترة نضالهم وثورتهم يفرحون بكل مشروع نهضوي ويدافعون عنه، فقال: (كنا في فترة الظلم والجور الشاهنشاهي حين نشاهد تحركاً أو نهضة في مكان ما ينبض فيه عِرق إسلامي، فإننا نعتبر أنفسنا ملزمين بتأييده ودعمه)(2)
ثم تحدث عما أشرنا إليه من الاهتمام بقيم المشروع وروحه وطرحه كنموذج لصلاحية الإسلام للواقع بكل جوانبه، فقال: (إننا نعتقد أن الدفاع عن الجمهورية الإسلامية في الوقت الحاضر هو أحد أهم أولويات التبليغ للإسلام في العالم بل ويعد من أوائل تلك الأولويات.. ينبغي أن يقال لشعوب العالم: إن الإسلام يمكنه أن يجنّد الجماهير والشعوب، ويتم ـ من خلالهم وعلى أيديهم وبالاعتماد على إيمانهم ـ اكتساح حصون الاستكبار وقلاعه المنيعة، وإقامة نظام مبني على أساس الإسلام وعلى أساس القرآن، ويطبّق هذا النظام حاكمية الإسلام والقرآن ويرسي سيادتهما رسمياً.. وهو نفس ذلك الشيء الذي كان يطمح إليه ويأمل في إقامته ـ سنين طويلة ـ الإسلاميون المثقفون الواعون، منذ زمن السيد جمال الدين ومحمد عبده وبقية المفكرين المسلمين، وظل يراودهم هذا الحلم كل تلك السنين، وظلوا يتحرقون شوقاً الى تحقيقه.. هذا أيضاً إحدى أولويات التبليغ والإعلام الإسلامي.. هذا ما يخص التبليغ في الدول الأجنبية غير الإسلامية، وهي ذات الأولويات التي ينبغي السعي لتحقيقها في بلداننا نحن، أي في داخل بلدان العالم الإسلامي)(3)
بل إن الإمام الخامنئي يعبر عن هذا التغيير الذي أحدثته الجمهورية الإسلامية الإيرانية
__________
(1) المصدر السابق، ص 77.
(2) المصدر السابق، ص 78.
(3) المصدر السابق، ص 78.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (13)
أو تسعى لإحداثه لقب [الحضارة الإسلامية الجديدة]، فقد قال في بعض خطبه: (لو أخذنا التقدّم من جميع الأبعاد بمعنى بناء الحضارة الإسلامية الجديدة ـ ففي النهاية يوجد مصداقٌ عينيّ وخارجيّ للتقدّم وفق المفهوم الإسلاميّ ـ هنا سنقول إنّ هدف شعب إيران، وهدف الثّورة الإسلامية، هو عبارة عن إيجاد حضارة إسلامية جديدة)(1)
وبذلك؛ فإن هذا الكتاب محاولة للاستجابة لهذا النداء الشريف من قائد الثورة الإسلامية، والذي استطاع أن يثبت للعالم أجمع، وطيلة توليه للإرشاد والقيادة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنه مثال للقائد العادل العالم القوي البصير الذي يمثل الحاكم المسلم والحكم الإسلامي أحسن تمثيل.
وبناء على هذا، وبدل الحديث عن المشروع بحد ذاته، اخترنا الحديث عن القيم التي يحملها، وذلك حتى نتخلص من كل القيود الزمانية والمكانية، ونخلص لروح المشروع، لأن بعض تفاصيله وأجزائه، قد يقع الخلاف فيها بين بيئة وأخرى، وهو مما لا حرج فيه.
وحتى نبين مدى أصالة هذا المشروع، وكونه لا يعبر عن جهد فكري فقط، وإنما يستمد أصوله وروحه من المصادر المقدسة المتفق عليها بين المسلمين جميعا؛ فقد حاولنا عند ذكر كل قيمة من القيم أن نذكر النصوص المقدسة الدالة عليها.
وحتى لا يزداد الكتاب عن الحجم المسموح به عادة، اكتفينا بالمرشدين الكبيرين اللذين أتيح لهما القيادة المباشرة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهما الإمام الخميني والإمام الخامنئي، باعتبارها لا يمثلان الجانب التنظيري فقط، وإنما الجانب الواقعي والتطبيقي أيضا.. ذلك أن أي شخص آخر ـ مثلا ـ قد يتحدث عن الصهيونية ويدعو إلى استئصالها، ويكون ذلك كلاما طبيعيا حماسيا مسموحا به، لكن أن يتحدث عنه القائد والزعيم والحاكم الأعلى؛ فإن هذا له
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2012، ص 493.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (14)
معنى آخر أقوى وأعظم، لأنه يمثل الدولة بكل أطيافها ومؤسساتها.
بالإضافة إلى أن معظم النصوص التي نقتبسها من كلام ذينك القائدين هي في الحقيقة توجيهات عملية للجهات والمؤسسات المختلفة من الشعب، وهي بذلك تمثل قوانين الدولة ومراسيمها وبياناتها الصادرة من قمة السلطة.
بالإضافة إلى أن ما يذكرونه من حقائق وقيم هي نفس ما يردده غيره من أبناء الثورة الإسلامية سواء من الذين تولوا بعض المسؤوليات أو غيرهم، ولذلك كان الكلام قادة كافيا ومؤديا للغرض.
ونحب أن ننبه إلى أنا حاولنا في الكتاب أن نذكر أكبر قدر من خطب وبيانات قائدي الثورة الإسلامية، حتى لا يتوهم القارئ أنها طروحاتنا، وأننا نقوّل قادة الثورة الإسلامية ما لم يقولوا، ولهذا اضطررنا أحيانا كثيرة إلى ترك النصوص كما هي من دون اختصار أو تصرف، لكون التلخيص يخل بها، ويفقدها روحها، فأكثرها كانت خطابات موجهة للفئات المختلفة، ويمكن أن يستفيد منها غيرهم، ولهذا لم نخض في التفاصيل المرتبطة بالجهات التي وُجهت لها، لأنها أعم من أن تحصر فيهم.
وبناء على استقرائنا للمجالات المختلفة للمشروع الإيراني رأينا تقسيم الكتاب إلى عشرة فصول، كما يلي:
1. الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم الدينية: ونقصد به القيم المرتبطة بحقيقة الدين ومصادره وكيفية فهمه والتعامل مع قضاياه المختلفة، وقد بدأنا به باعتباره يمثل روح المشروع؛ فهو إسلامي بالدرجة الأولى، بل هو محاولة لتحقيق الإسلام كما هو بعيدا عن أي دخيل أو دخن.
2. الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم الروحية: ونقصد به القيم المرتبطة بالسلوك الروحي والتوجه الخالص لله تعالى، ذلك أنه لا يمكن تحقيق الدين في الواقع السياسي
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (15)
والاجتماعي قبل تحقيقه في عالم الروح والنفس.
3. الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم الأخلاقية: ونقصد به القيم المرتبطة بالسلوك الأخلاقي، ذلك أن المشروع الإسلامي نابع من النبوة التي صرح فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ما بعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق، وهذا ما يميز المشروع الإسلامي عن غيره من المشاريع الأرضية.
4. الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم الإنسانية: ونقصد به القيم المرتبطة بحقوق الإنسان ونصرة المستضعفين باعتبار المشروع الإسلامي لا يهدف فقط إلى خدمة الواقع الاجتماعي المحدود، وإنما يمتد لكل البلاد والشعوب.
5. الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم الاجتماعية: ونقصد به القيم المرتبطة بالبنية الاجتماعية والعلاقات المشكلة لها، ذلك أن المشروع الشامل يهتم بهذه النواحي مثل اهتمامه بغيرها.
6. الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم السياسية: ونقصد به القيم المرتبطة بالمواقف والممارسات والسلوك السياسي، بالإضافة إلى نوع النظام، والمصادر التي يستمد منها.
7. الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم الاقتصادية: ونقصد به القيم المرتبطة بالنظام والحياة الاقتصادية، باعتبارها ركنا أساسيا في الحياة، لا يمكن لأي مشروع ناجح أن يغض الطرف عنه، أو يتركه في يد غيره من المشاريع التي قد تتضاد معه.
8. الحضارة الإسلامية الجديدة وقيم العلم والتقانة: ونقصد به القيم المرتبطة بالموقف من العلم وأنواعه وكيفية تحقيق التطور في جوانبه النظرية والتطبيقية التقنية، ذلك أنه مظهر من مظاهر الحضارة الراقية.
9. الحضارة الإسلامية الجديدة وقيم الثقافة والفنون: ونقصد به القيم المرتبطة بالجوانب الثقافية والفنية، سواء من ناحية التحصن والممانعة، أو من ناحية التأثير والانتشار،
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (16)
ذلك أنها تمثل جانبا من الجوانب المهمة في الحياة، وهو جانب الاستجمام والراحة والذوق الرفيع، ولا يمكن لمشروع شامل ناجح أن يغض الطرف عنها، أو يتركها في يد غيره من المشاريع التي قد تجعل منها وسيلة لهدم كل ما بناه.
10. الحضارة الإسلامية الجديدة وقيم الإعلام والاتصال: ونقصد به القيم المرتبطة بالإعلام والاتصال، باعتبارهما من الوسائل التي تمكن المشروع من إيصال رسالته وبصورة جميلة للعالم أجمع.
هذه هي الفصول التي يتأسس عليها هذا الكتاب، وننبه إلى أننا في توثيقاتنا للنصوص التي نذكرها اعتمدنا على الكتب الإلكترونية الكثيرة التي أصدرتها مؤسسات تابعة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو تتبنى رؤيتها، من أمثال: دار الولاية، ومؤسسة العرفان، ومركز نون، وغيرها.. ولست أدري مدى مطابقة الصفحات الموجودة فيها للصفحات الموجودة في الكتب الورقية، ولهذا نعتذر للقارئ في حال لم يجد مطابقة الصفحات، لأنا اهتممنا بصحة النصوص، ودقة نسبتها إلى أصحابها، بغض النظر عن مدى دقة التوثيق المرتبط برقم الصفحة.
وفي الأخير، ومن باب (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)(1)، لا أنسى أن أتقدم بالشكر الجزيل لأستاذنا الكبير السيد جلال ميرأقائي الذي شرفني بدعوتي إلى كتابة هذا الكتاب، وبين لي أهميته وضرورته، ثم أمدني بعد ذلك بما أحتاجه من مراجع، وأرجو أن أكون بذلك قد لبيت بعض طلبه، لأن الحديث عن الحضارة الإسلامية الجديدة بتفصيل ودقة، يحتاج جهدا أكبر، ومراجع أكثر، ولذلك نستغفر الله على التقصير، فهذا جهد المقل.
__________
(1) رواه أحمد (7755)، وأبو داود (4198.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (17)
الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم الدينية
الركن الأول من الأركان الكبرى التي تتشكل منها الحضارة الإسلامية الجديدة ـ بحسب رؤية قادة الثورة الإسلامية الإيرانية ـ[القيم الدينية]، وذلك باعتبار الدين ركنا أساسيا من أركان الحياة، وخاصة لدى المسلمين، ولذلك لا يمكن أن ينجح أي مشروع لديهم لا يتبنى رؤية دينية.
وبقدر صفاء تلك الرؤية، وبقدر شمولها وعقلانيتها وقربها من الإسلام الأصيل بقدر ما يكون نجاح ذلك المشروع.
ولذلك؛ فإن المراد من القيم الدينية هي القيم التي تحدد صفات تلك الرؤية وخصائصها والأسس التي تقوم عليها، ذلك أن الدين مع شموله لجميع مناحي الحياة، إلا أن هناك ناحيتين مهمتين، قد يختص بهما، أو يقصدان عند الإطلاق، وهما:
الأولى: حقيقة الدين والمجالات التي يمكن أن يتدخل فيها.
الثانية: المصادر التي يعتمد عليها.
وهما الناحيتان اللتان وقع الخلاف الشديد فيهما بين المسلمين طيلة عصور التاريخ إلى الآن:
ففي الناحية الأولى مثلا نجد من يهتم بالنواحي الروحية من الدين دون غيرها، أو نجد من يعزل السياسة والحكم، أو نجد من يعزل التربية والتعليم، وهكذا.
وفي الناحية الثانية نرى الخلاف الشديد في فهم المصادر الإسلامية ابتداء من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وانتهاء بالأئمة الذين يرجع إليهم في فهم تلك المصادر الأصلية.
ولهذا؛ سنقتصر في هذا الفصل على القيم المرتبطة بهاتين الناحيتين، وقد رأينا من خلال استقراء مواقف قادة الثورة الإسلامية من هذه الجوانب ستة قيم، وهي:
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (18)
أولا. تبني الإسلام الأصيل.
ثانيا. الدعوة للرؤية الكونية التوحيدية.
ثالثا. اعتبار مركزية القرآن الكريم.
رابعا. الاتباع المطلق للنبوة.
خامسا. الولاء الصادق للعترة.
سادسا. التخلص من الدخيل والدخن.
وسنذكر في هذا الفصل ما ورد عن قادة الثورة الإسلامية الإيرانية من النصوص الدالة على مواقفهم من هذه القيم.
ما يطلق عليه [الإسلام الأصيل] مصطلح حادث نجده كثيرا عند قادة الثورة الإسلامية الإيرانية أو من تتلمذ عليهم، وقد يطلقون عليه لقب [الإسلام المحمدي الأصيل]، أو [الإسلام الإلهي]، ويقصدون منه أمرين:
الأول: الإسلام الذي يرجع إلى المصادر الأصلية من الكتاب والسنة المطهرة وهدي ورثة النبوة بعيدا عن كل الشوائب التي لحقت به.
الثاني: الإسلام الذي لم يتلطخ بأكدار الطائفية والتشتت والتمذهب والصراع الذي شوه حقائق الدين وقيمه، بالإضافة إلى تخلصه من كدورات الخرافة والكسل والتواكل وكونه أداة مخدرة للشعوب.
وقد يكون المراد بهذا الاصطلاح ما ورد التعبير عنه في القرآن الكريم بمصطلح [الصراط المستقيم]، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153]
أو بمصطلح الدين الأبيض النقي، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما رأى
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (19)
بعض أصحابه يحمل كتابا من كتب اليهود، فقال له: (والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وآله وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)(1)، فهذا الحديث يفرق فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الدين الخالص النقي الأبيض الصافي الذي ليس فيه أي دنس أو شبهة تمنع العقل السليم من التسليم له، وبين الدين المختلط بالخرافات المتسربة والمندسة من الأديان المحرفة أو غيرها.
وفي حديث آخر يتنبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوقوع هذا في الأمة، ويحذر منه، ويدعو في نفس الوقت إلى تبني الدين الأصيل، فعن عبد الله بن مسعود قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطّا ثمّ قال: (هذا سبيل الله) ثمّ خطّ خطوطا عن يمينه وعن شماله ثمّ قال: (هذه سبل متفرّقة، قال: على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثمّ قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153] (2)
وبذلك؛ فإن أول قيمة من قيم الحضارة الإسلامية الجديدة هي العودة إلى الإسلام بصورته النقية الجميلة التي لم تؤثر فيها كدورات العصور المختلفة، لأنه لا يمكن أن نطلق لقب الإسلام كاملا إلا على تلك الصورة الصحيحة.
وذلك يشبه ما لو أن طبيبا وصف لمريض داوء معينا لكن المريض لم يجد ضالته من الشفاء في ذلك الدواء، واحتار الطبيب في السبب، لكنه عندما عرف أن المريض لم يتناول الدواء بالصورة الصحيحة، وأنه خلط بغيره، زالت عنه الحيرة.
وهكذا أدوية الإسلام التي هي شفاء من كل أدواء التخلف والتشتت والضياع لا يمكن
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل: 3/ 387 ح (15195)
(2) أحمد (1/ 435) والحاكم (2/ 318.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (20)
أن تؤدي أدوارها إلا بالالتزام بوصفاتها بدقة، كما قال تعالى عن أهل الكتاب: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 65 - 66]
ومن خلال استقراء ما ورد من كلام قادة الثورة الإسلامية الإيرانية حول الموضوع، نجدهم يركزون على ناحيتين:
أولاهما: ضرورة تحقيق الإسلام الأصيل في الواقع ومواجهة المعتدين والمحرفين.
وثانيهما: بيان أسس الإسلام الأصيل وخصائصه التي تميزه عن غيره من القراءات الخاطئة للإسلام.
باعتبار أنه لا يمكن أن يتحقق التمكين ولا التمكن من دون ذلك، وقد أشار إلى هذا الإمام الخامنئي عند ذكره لمنهج أستاذه الإمام الخميني، والذي أتاح للثورة الإسلامية أن تنتصر وتنجح في تحقيق أهدافها، حيث يقول: (النقطة الأولى والأهم في مباني الإمام الخميني ونظراته هي قضية الإسلام المحمدي الأصيل.. أي الإسلام المقارع للظلم، والإسلام المطالب بالعدالة، والإسلام المجاهد، والإسلام المناصر للمحرومين والفقراء، والإسلام المدافع عن حقوق الحفاة والمعذبين والمستضعفين.. وفي مقابل هذا الإسلام أورد الإمام الخميني مصطلح [الإسلام الأمريكي] في ثقافتنا السياسية وقاموسنا السياسي.. الإسلام الأمريكي يعني الإسلام الذي يقتصر على التشريفات فيبتعد عن التطبيق، وهو إسلام عدم الاكتراث مقابل الظلم، ومقابل الجشع، واللامبالاة حيال التطاول على حقوق المظلومين، إنّه إسلام مساعدة العتاة والمتعسفين والأقوياء.. الإسلام الذي يتأقلم مع كل هذه الأمور.. هذا الإسلام سمّاه
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (21)
الإمام: الإسلام الأمريكي)(1)
ويذكر مدى اهتمام الإمام الخميني بالدعوة إلى هذا الإسلام، فيقول: (فكرة الإسلام الأصيل كانت الفكرة الدائمة لإمامنا الجليل، وهي ليست فكرة مختصة بفترة الجمهورية الإسلامية، بيد أن تحقق الإسلام الأصيل غير متاح من دون سيادة الإسلام وتأسيس نظام الحكم الإسلامي.. إذا لم يقم النظام السياسي في البلاد على أساس الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي، فلن يمكن للإسلام خوض غمار كفاح حقيقي ضد ظلَمة العالم وعتاته ومتغطرسيه، وضد المتعسفين في المجتمع)(2)
وعند العودة إلى تراث الإمام الخميني نجده كثيرا ما يدعو إلى ضرورة الالتزام بهذا الإسلام، ويبين أن معاداة المعتدين والمحرفين عليه دليل على مصداقيته، ومن الأمثلة على ذلك قوله عند حديثه عن الذين يعادون إيران بسبب تمسكها بالإسلام المحمدي الأصيل: (لقد صممت كافة الحكومات والقوى الكبرى اليوم على اقتلاع جذور إسلامنا المحمدي الأصيل.. يا رب، لقد وضع صدام وأشباهه أيديهم في أيدي جميع شياطين العالم بكل ما تنطوي عليه نفوسهم من بغضاء لدينك حتى يقضوا اليوم على صوت الإسلام المحمدي)(3)
وقال عن المحرفين الذين يعادون الإسلام الأصيل: (إن في الحوزات العلمية من يقومون بنشاطات ضد الثورة والإسلام المحمدي الأصيل، واليوم فإن بعض المتظاهرين بالقداسة يطعنون بحرابهم صدر الدين والثورة والنظام وكأنه لا عمل لهم سوى ذلك! إن خطر المتحجرين والمتظاهرين بالقداسة الحمقى ليس بالقليل في الحوزات العلمية.. على الطلاب الأعزاء أن لا يغفلوا لحظة واحدة عن هذه الثعابين الرقطاء والملساء، فهؤلاء هم مروجو
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 165.
(2) المصدر السابق، ص 165.
(3) صحيفة الإمام، ج 20، ص 391
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (22)
الإسلام الأمريكي وأعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(1)
ويقول ـ مبينا شروط اتباع الإسلام الأصيل ـ: (لكَم تغيرت أوضاع العالم.. إن المسلمين يزعمون بأنهم أتباع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأتباع القرآن. حسناً.. فهذا هو القرآن، فانظروا ماذا يقول هو وماذا تفعلون أنتم.. لقد تسببوا في كل ما نعانيه من مصائب من أجل أمريكا، ثم يقولون إننا مسلمون، فهل هذا هو إسلامكم الذي تزعمون ثم تقومون بكل ذلك إرضاءً لأمريكا؟ إنهم يعطون نفطهم لأمريكا، ويقدمون لها كل ثروات شعوبهم.. لقد سحقوا بظلمهم شعوبهم الضعيفة البائسة، ومازالوا يزعمون بأنهم مسلمون.. فهل يمكن أن يصبح المرء مسلماً لمجرد الادعاء؟!.. إنهم يقولون إننا مسلمون وننادي بالوحدة، فتقيم إيران أسبوع الوحدة، ثم يعودون ليقولوا بأن إيران تبث الفرقة)(2)
وهو يذكر بعض المظاهر التي تفرق أصحاب الإسلام المحمدي الأصيل عن غيرهم، فيقول: (إنه لمن دواعي الأسف أن يكون الإسلام بهذا الوضع، ويكون مدعو الإسلام على هذه الحالة.. إن الإسلام يقف موقفاً متشدداً من المتخلفين والمعتدين، في حين يقوم مدعو الإسلام بتشجيع هؤلاء)(3)
وهكذا يذكر الإمام الخامنئي استمرار تمسك الإيرانيين والتزامهم بالإسلام الأصيل على المنهج الذي رسمه الإمام الخميني ومواجهة كل المعتدين والمحرفين، يقول في ذلك: (إنّ أسس الجمهوريّة الإسلامية ـ التي هي نهج الإمام نفسه وأسس الإسلام المؤكّدة ـ هي في إيران الإسلامية ذات أهمّية، وهي أساس حياتنا السياسيّة والاجتماعيّة، رغم أنوف الأعداء.. والشعب الإيراني لن يتخلّى، تحت أيّ ظرف، عن الحياة في ظلّ الإسلام المحمّدي الأصيل الذي
__________
(1) المصدر السابق، ج 21، ص 278.
(2) المصدر السابق، ج 18،ص 266.
(3) المصدر السابق، ج 16 ص 432.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (23)
تحصّل من خلال التضحيات وبذل أعزّ النفوس، وإنّ أصول الإمام الخميني ـ وعلى رأسها، أصل عدم الفصل بين الدين والسياسة، ومقاومة ضغوط المدنيّة الماديّة لعزل الإسلام والقرآن ـ ستبقى الأصول الحيّة دومًا للجمهوريّة الإسلامية)(1)
عند العودة إلى خطب وكتب قادة الثورة الإسلامية الإيرانية نجدهم لا يكتفون فقط بالدعوة للعودة للإسلام الأصيل، وإنما يصفون ملامحه وخصائصه التي تميزه عن غيره، وفي كل المجالات.
ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني عند حديثه عن الفنون: (إن الفن الوحيد المقبول من قبل القرآن الكريم، هو الفن الذي يُجلّي الإسلام المحمدي الأصيل.. إسلام أئمة الهدى.. إسلام الفقراء البائسين.. إسلام الحفاة.. إسلام الذين لسعتهم سياط التاريخ المخجل المر)(2)
ونجده في محال كثيرة يوضح الملامح والأسس الكبرى التي يقوم عليها هذا الإسلام، ومن كلماته المنتخبة القصار في هذا قوله: (ليس في النظام الإسلامي أيّ فرق بين شخص وآخر.. الإسلام هو دين المجاهدين الذين يرومون الحق والعدالة، دين التحرريين الساعين نحو الاستقلال، وهو عقيدة الجماهير المناضلة الراغبة في مواجهة الاستعمار.. علينا أن نسعى لتحطيم أسوار الجهل والخرافات، لبلوغ المعين الرقراق للإسلام المحمّدي الأصيل صلى الله عليه وآله وسلم.. اجعلوا من الإسلام مثالكم الأسمى، وانصاعوا له.. إنّ الإسلام أسمى مما نتصوّره نحن.. رسالة الإسلام هي رسالة التهذيب.. إنّ الإسلام يسعى لتعديل نمط التعامل مع الماديّات
__________
(1) بيان القائد لحجّاج بيت الله الحرام (28/ 2/1372.
(2) الكلمات القصار، مواعظ وحكم من كلام الإمام الخميني، ص 94.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (24)
بطريقة تسوقها نحو الاصطباغ بالصبغة الإلهّية.. لقد طرح الإسلام برنامجاً متكاملاً للحياة، والمشكلة في المسلمين أنفسهم.. إنّ مشكلة المسلمين الأساسيّة تكمن في الابتعاد عن الإسلام والقرآن.. لو أنّ الشعوب اطّلعت على الإسلام، لوجدت كلّ ما تريده فيه.. إنّ كل المصائب التي حلّت بهذا البلد إنّما كانت من الجاهلين بالإسلام.. عدم فهم الإسلام هو السبب الذي يقف وراء سوء ظنّ البعض بالإسلام)(1)
ويعتبر الإمام الخميني هذا النوع من الإسلام هو الكفيل وحده بحل كل المشاكل؛ حيث يقول عند حديثه عن القضية الفلسطينية: (ما لم نعد الى الإسلام، إسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسوف تبقى مشاكلنا على حالها، ولن نستطيع حل قضية فلسطين)(2)
وهو يدعو العلماء إلى تبني هذا الإسلام والدعوة إليه، فيقول: (علماء الإسلام مكلفون بمحاربة الدكتاتورية والاستفادة غير المشروعة للظالمين، وأن لا يسمحوا ببقاء عدد كبير من الناس جياعاً ومحرومين والى جانبهم يتنعم الظالمون الناهبون وآكلوا الحرام.. إن علماء الإسلام الأصليين لم يخضعوا أبداً للرأسماليين وعبيد المال والخائنين، واحتفظوا بهذا الشرف لأنفسهم، وهذا ظلم كبير أن يقول أحد بأن يد الرأسماليين هي في يد الروحانيين الأصليين المؤيدين للإسلام المحمدي الأصيل)(3)
ويقول في خطاب آخر وجهه للعلماء وطلبة العلم: (إنني أرغب في أن يكون كلّ واحد منكم عالماً متخصصاً ملتزماً بالإسلام المحمدي الأصيل ومناضلاً صلباً ضد الإسلام الأمريكي ـ إسلام المرفهين ـ وحامل راية الوفاء لشهدائنا وفدائيينا، وأن توفقوا بنور العلم
__________
(1) المصدر السابق، ص 7
(2) المصدر السابق، ص 104.
(3) التربية والمجتمع في فكر الإمام الخميني، ص 105
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (25)
والتقوى لتبديد ظلام النفاق والانحراف والتحجر والقشرية عن الإسلام)(1)
بل إنه يوصي بهذا رجال الدين من غير المسلمين أيضا، بدعوتهم إلى العودة إلى أنبيائهم والأخذ بأصولهم الصحيحة في مواجهة الاستكبار والمستكبرين، فيقول: (الروحانيون هم في المرتبة الأولى لتحقيق هدف الأنبياء عليهم السلام، والذي هو الوحي الإلهي نفسه.. فللروحانيين وظيفة إلهية هي أسمى من جميع وظائف سائر الناس، إن عليهم مسؤولية إلهية، إنهم مسؤولون أمام الأنبياء وأمام الله تبارك وتعالى بإيصال تعليمات الأنبياء إلى الناس والأخذ بأيدي الناس وإنقاذها من مشاكلها، فأهل الدنيا اليوم مبتلون بالقوى الكبرى والقوى الشيطانية التي وقفت أمام الأنبياء، ولا تسمح بتحقق تعاليمهم، وللروحانيين المسيحيين خصوصية كبيرة وهي أن القوى الكبرى مسيحية، أنها تدعي المسيحية، وتعمل خلافاً لتعليمات الله تبارك وتعالى التي علمها لجميع الأنبياء وخلافاً لتعليمات عيسى المسيح عليه السلام، وواجب الروحانيون المسيحيون أن يحاربوا معنوياً هذه القوى الكبرى التي تتصرف خلافاتً للأنبياء وخلافاً للمسيح وذلك طبقاً لتعاليم المسيح، وأوامر الخالق العظيم، وأن يقوموا بإرشاد الشعب المسيحي وتوجيهه لكي يكفّ عن أتباع هذه القوى التي تعارض المسيح)(2)
وهكذا نرى الإمام الخامنئي يوضح المعالم المحددة لهذا الإسلام بقوله: (في الثورة الإسلامية، حلّ إسلام الكتاب والسنّة محلّ إسلام الخرافة والبدعة، إسلام الجهاد والشهادة محلّ إسلام القعود والأسر والذلّ، إسلام التعبّد والتعقّل محلّ إسلام الالتقاط والجهل، إسلام الدنيا والآخرة محلّ إسلام حب الدنيا أو الرهبانيّة، إسلام العلم والمعرفة محلّ إسلام التحجّر والغفلة، إسلام الدين والسياسة محلّ إسلام التحلّل واللامبالاة، إسلام القيام والعمل محلّ
__________
(1) الكلمات القصار، مواعظ وحكم من كلام الإمام الخميني، ص 115.
(2) التربية والمجتمع في فكر الإمام الخميني، ص 105
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (26)
إسلام الضعف والكآبة، إسلام الفرد والمجتمع محلّ إسلام التشريفات والإسلام العديم التأثير، الإسلام المنجّي للمستضعفين محلّ الإسلام الألعوبة بأيدي القوى العظمى، وبالخلاصة، الإسلام المحمّديّ الأصيل محلّ الإسلام الأميركي)(1)
ثم ذكر آثار هذا الإسلام على الآخر، فقال: (إنّ تقديم الإسلام بهذه الصورة وبهذه الواقعيّة والجدّيّة، أدّى إلى غضب عارم وجنونيّ لدى من كانوا يعلّقون الآمال على زوال الإسلام في إيران وفي جميع البلدان الإسلامية، أو كانوا لا يقبلون من الإسلام سوى اسم خال من المحتوى، ووسيلة لجعل الناس حمقى وغافلين، لذا، تراهم منذ اليوم الأوّل لانتصار الثورة إلى الآن، لم يوفّروا فرصةً للهجوم والضربة والمؤامرة وإضمار السوء للجمهوريّة الإسلامية، ومركز حركة الإسلام العالميّة ـ أي: إيران)(2)
ثانيا. الدعوة للرؤية الكونية التوحيدية
بناء على أن الرؤية الكونية هي التي تقوم عليها كل الرؤى النظرية والتطبيقية، والتوحيد هو لب تلك الرؤية وقلبها، ولذلك يمكن اعتباره الأساس الذي يبنى عليه المشروع الحضاري الإسلامي، وبقدر صحته وصفائه وخلوصه من كل الشوائب، بقدر ما يكون صفاء المشروع وسلامته من كل ما يفسده.
ولهذا نرى قادة الثورة الإسلامية يهتمون بالدعوة للتوحيد بمفهومه الشامل، لا القاصر على بعض النواحي، مثلما فعلت بعض التيارات والحركات الإسلامية، والتي ركزت على ما أطلقت عليه [توحيد الألوهية] بحسب فهمها، وبناء عليه جعلت كل همها الدعوة لهدم الأضرحة وإنكار التوسل، باعتبارهما ـ كما يذكرون ـ متنافيين مع التوحيد.
__________
(1) رسالة بمناسبة الذكرى السنويّة الأولى لوفاة الإمام الخمينيّ، 10/ 3/1369.
(2) المصدر السابق، (10/ 3/1369.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (27)
في المقابل نجد قادة الثورة الإسلامية يهتمون بالتوحيد الذي يشمل كل مناحي الحياة؛ فالله هو الحكم والحاكم على كل شيء.
ومن خلال استقراء ما ورد من كلام قادة الثورة الإسلامية الإيرانية حول الموضوع، نجدهم يركزون على ناحيتين:
أولاهما: بيان التجليات العرفانية للرؤية الكونية.
وثانيهما: بيان التجليات الواقعية للرؤية الكونية.
1. التجليات العرفانية للرؤية الكونية
وهو الأساس الذي تقوم عليه سائر التجليات؛ فالعقيدة والعرفان والإيمان هي الأساس الذي ينبع منه كل فهم صحيح وسلوك مستقيم، ولهذا نرى قادة الثورة الإسلامية يهتمون بهذه الناحية مثل اهتمامهم بالناحية الواقعية تماما؛ فكلاهما مكمل للآخر.
ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني لمراسل صحيفة تايمز الإنجليزية عندما سأله عن حياته الشخصية، حيث أجابه بقوله: (حياتي الخاصة كحياة جميع الناس وهي مكونة من مجموعة الحوادث التي تحصل في العالم، ولا أرى حاجه إلى شرحها وتوضيحها، وأفكاري وأفكار جميع المسلمين هي ما جاء في القرآن الكريم وأوضحها الحق رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الحق بعده، وأهمها التوحيد الذي هو أصل جميع تلك الأفكار القيمة جداً)(1)
ثم راح يذكر له تجليات التوحيد ومظاهره التي تشمل كل شيء، فقال: (وبناء على هذا الأصل نعتقد بأن خالق ومبدع العالم وجميع الوجود والإنسان هو الله المقدس سبحانه وتعالى الذي يعلم بكل الحقائق والقادر على كل شيء ومالك كل شيء.. وهذا الأصل يعلمنا أن الإنسان يجب أن يسلم لله جل وعلا الحق ويجب أن لا يطيع إنساناً، إلا إذا كانت طاعته لله،
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 5، ص: 261
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (28)
فليس للإنسان الحق أن يجبر الآخرين على التسليم والخضوع له.. ونحن نتعلم من هذا الأصل التوحيدي حرية البشر، فلا يحق لأحد أن يحرم إنساناً أو مجتمعاً أو شعباً الحرية، أو أن يضع له قانوناً أو أن ينظم ويحدد علاقاته وتصرفاته استناداً إلى فهمه ومعرفته الخاصة التي تكون ناقصة وضعيفة أو بناء على مثله ورغباته.. وبناء على هذا الأصل نعتقد بأن واضع القوانين للناس هو الله سبحانه وتعالى وحده، فهو الذي أقر قوانين الوجود والخليقة، وسعادة وكمال الإنسان والمجتمعات مرهونة بإطاعة الأوامر والنواهي الإلهية التي بلّغها الأنبياء الناس، وسبب انحطاط البشر هو سلبهم الحرية وإخضاعهم لناس آخرين.. فيجب على الإنسان أن يثور على هذه القيود وسلاسل الأسر والذين يدعون الى الخنوع والذل، ويحرر نفسه ومجتمعه حتى يخشع الجميع لله ويصبحوا عباداً له.. ومن هنا يبدأ كفاحنا الإجتماعي للقوى الاستبدادية والاستعمارية الظالمة مستمدين إلهامنا من ذاك الأصل العقيدي التوحيدي الذي يكون فيه جميع الناس سواسية عند الله خالق الجميع وهم خلقه وعباده، وهذا هو أصل المساواة والتساوي بين البشر ومقياس تفاضلهم هو التقوى، وهي الطهارة والبعد عن الانحراف والخطأ)(1)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يبين كل المجالات والتجليات التي يتعلق بها التوحيد بمفهموه الواسع، حيث يذكر من تجليات التوحيد: (التوحيد على صعيد التصور والنظرة العامة للكون والحياة)(2)، ويشرح ذلك بقوله: (يعني وحدة جميع العالم وانسجامه وائتلاف أجزائه وعناصره مبدأ الخلقة واحد، وجميع المخلوقات من ذلك المبدأ الواحد، وليس هناك آلهة متعددة في خلق العالم وإدارته، وهذا يستتبع وحدة جميع أجزاء العالم في التكوين والاتجاه.. والعالم المتحرك ـ انطلاقاً من هذا التصور ـ قافلة متصلة الأجزاء، كاتصال حلقات السلسلة
__________
(1) المصدر السابق، ج 5، ص: 261
(2) العودة إلى نهج البلاغة للإمام الخامنئي، ص 22
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (29)
الواحدة، وكارتباط أجزاء الجهاز الواحد العاملة في اتجاه واحد، وكل جزء من هذه الأجزاء يكتسب معناه الواقعي ويتضح واجبه من خلال فهم مكانته في مجموع هذا التركيب.. وهذا يعني أن العالم بمجموعه ـ انطلاقاً من هذا التصور ـ ليس بالحائر العابث، بل هو مثل ماكينة مصنوعة ومرصودة للعمل من أجل هدف معيّن، يمكن السؤال عن هدفه ولا يمكن السؤال عن أصل هذا الهدف، فلا يوجد بين هذه المجموعة عنصر شاذ متمرد، كل قوانين الطبيعة وكل ما يخضع لسيطرة هذه القوانين منصاع لله وعبد له)(1)
2. التجليات الواقعية للرؤية الكونية
وهو نابع من التجليات العرفانية، وتابع لها، وقد اهتم به كثيرا قادة الثورة الإسلامية بناء على اتفاق المسلمين في الاعتقاد بالتجليات العرفانية للرؤية الكونية في نفس الوقت الذي يقصرون فيه في التعامل مع التجليات الواقعية، وخاصة ما يرتبط بالحاكمية الإلهية.
ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني عند ذكره للغاية من قيام الأنبياء عليهم السلام بمواجهة أعدائهم، حيث يقول: (الأنبياء إذ كانوا يُحاربون مُخالفي التوحيد لم تكن غايتهم أن يحاربوا، ويُزيلوا مُخالِفَهُم، بل كانت غايتهم الأصلية أن ينشروا التوحيد في العالم، ويبسطوا الدِّين الحقِّ فيه، وكان أولئك مانعاً لهم، وكان هؤلاء يرون وجوب إزالة هذا المانع، ليتسنَّى بلوغ الغاية)(2)
ويوضح هذا المعنى أكثر، فيقول: (لم يكن قصد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ يزيل مشركي مكّة أو مشركي جزيرة العرب، بل كان قصده أن ينشر دين الإسلام، وتكون الحكومة حكومة القرآن، حكومة الإسلام.. ولأنّ أولئك كانوا مانعاً لتحقّق الحكومة الإسلامية آل الأمر إلى
__________
(1) المصدر السابق، ص 22
(2) صحيفة الإمام، ج 8، ص: 40
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (30)
الحرب والمنازلة.. فالمشركون كانوا يعارضون الحكومة الإسلامية، والمؤمنون كانوا يقابلونهم.. والحروب الكثيرة التي قادها الرسول الأكرم كانت كلّها من أجل هذا المعنى، وهو أن يُزيل الموانع عن طريق هذه الإرادة الإلهية، فقد كان قصده الأعلى هو تحكيم الحكومة الإسلامية، أي: حكومة الله والقرآن على الجميع، ولو لم يُعارضوا قيام الحكومة الإسلامية لما كان معلوماً أن تقع الحرب)(1)
وبذلك؛ فإن الإمام الخميني يفهم من الآيات الآمرة بقتال المشركين، أن المقصد منها ليس قتالهم لأجل شركهم الذي هو مجرد عقيدة يعتقدونها، وإنما لكونهم معارضين للحاكمية الإلهية، والحكومة العادلة الناشئة عنها، وبذلك صاروا أنصارا للاستبداد والظلم والعدوان، ولهذا يقترن ذكر المشركين في القرآن الكريم بالاعتداء، كما قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 36]
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يبين المجالات والتجليات الواقعية للتوحيد، حيث يذكر منها (2):
1. التوحيد على صعيد فهم الإنسان: ويعني وحدة أبناء البشر وتساويهم في ارتباطهم بالله، لأنه رب جميع الناس، وليس لأحد ـ بسبب طبيعته الإنسانية ـ علاقة خاصة متميزة به، ولا لأحد معه قرابة، ليس إله شعب خاص أو قبيلة معيّنة، ولم يختر شعباً معيّناً ليكون ذلك الشعب سيداً والباقي مَسُودين.. وكل الناس أمام الله سواسية، وليس لأحد عند الله كرامة خاصة، إلا بالعمل الصالح، أي بالسعي والمثابرة على طريق خدمة الناس والعمل بأحكام الله المؤدية إلى سمو الإنسان.
__________
(1) المصدر السابق، ج 8، ص: 41
(2) العودة إلى نهج البلاغة للإمام الخامنئي، ص 27
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (31)
2. التوحيد على صعيد المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها: وهو يسلب من كل مصدر غير الله صلاحية الانفراد بوضع مناهج مستقلة لشؤون الحياة والإنسان.. فالله خالق الإنسان والكون والمصمم لهذا النظام الكوني المنسجم، والعالم بإمكانات الإنسان واحتياجاته.. والله يعلم بما ينطوي عليه الكائن البشري من ذخائر دفينة وطاقات مكنوزة، وبما ينطوي عليه الكون من كنوز وإمكانات، ويعلم ميزان وأبعاد استثمار هذه الكنوز والإمكانات، ويعلم كيف تلتقي هذه جميعاً مع بعضها، ومن هنا فهو وحده القادر على وضع منهج لطريقة الحياة، ولعلاقات الإنسان، ومنهج حركته في إطار نظام التكوين، وهو وحده القادر على وضع قوانين الحياة وتعيين شكل النظام الاجتماعي.
وهو يبين أن كل المواجهات والمجابهات التي وقعت في التاريخ بين الصالحين وغيرهم كانت بسبب هذا المجال من مجالات التوحيد، لأنه لم يكن مجرد شعار، وإنما كان يمثل النضال ضد كل أدعياء الربوبية من المستبدين والمستكبرين، يقول: (كل المجابهات التي شهدها عصر فجر الإسلام تستطيع أن توضّح حقيقة هامة بشأن مفهوم التوحيد.. هذه الحقيقة هي أن شعار [لا إله إلا الله] اتجه أولاً لمقارعة أولئك الذين حاربوه وعادَوه، وهم: أفراد الطبقة المسيطرة المقتدرة في المجتمع.. وحين تشاهد أن الفئات المقتدرة كانت دوماً سبّاقة في محاربة الرسالات الإلهية، نفهم بوضوح أن هذه الرسالات تعارض بطبيعتها هذه الفئات، تعارض تجبّرها وترفها، بل تعارض أساساً هذه الطبقية التي جعلت هذه الفئات متميزة عن غيرها.. قبل أن ندرس التوحيد من هذا المنظار، منظار مقارعته لكل ألوان السيطرة الاجتماعية، لابد من الإشارة أولاً إلى أن التوحيد لا ينحصر في إطار نظرية فلسفية ذهنية ـ كما هو شائع ـ بل هو نظرية أساسية حول الإنسان والعالم، ومنهج اجتماعي واقتصادي وسياسي للحياة)(1)
__________
(1) المصدر السابق، ص 21
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (32)
وهو يضرب المثل على ذلك بالفرق بين تعامل قريش مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعاملهم مع الحنفاء الذين كانوا ينبذون الأصنام ولا يؤمنون بها، ولا يعبدونها، يقول: (في مطلع الإسلام، كان هناك مجموعة من الحنفاء يعيشون في مكة مركز الوثنية وعاصمة أصنام العرب الكبرى، لكن وجودهم لم يكن له أدنى تأثير على الجو الفكري والاجتماعي، لأن مفهوم هؤلاء الحنفاء عن التوحيد لم يتعدّ أذهانهم وقلوبهم وإطار حياتهم الخاصة، ولم يكن له أدنى تواجد في تلك المتاهات الجاهلية، ولا أقلّ تأثيراً على الحياة المؤسفة القائمة هناك.. هؤلاء الذين يُسمَّون بـ[الموحدين] كانوا يعيشون مع غيرهم على ساحة واحدة ويطوون مسيرة تلك الحياة بنفس طريقة غيرهم دون أن يزعجهم شيء.. هذا الفهم الذهني للتوحيد يتميز بهذه الصفة من الخمول والانعزال عن الحياة، وخاصة الحياة الاجتماعية.. في مثل هذه الأجواء، أعلن الإسلام مفهوم التوحيد باعتباره عقيدة ملتزمة وتنظيماً للحياة وأطروحة جديدة للمجتمع، وبهذا الشكل أعلن هويته باعتباره دعوة انقلابية لكل مخاطبيه، المؤمنين منهم والكافرين، فكل مَن سمع نداء الإسلام علم أنه نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد لا يتلاءم إطلاقاً مع الأوضاع التي كانت قائمة في العالم آنذاك، بل إنه يستهدف إزالة الوضع القائم وإبداله بوضع آخر.. بسبب هذه الأطروحة، اندفع المؤمنون صوب الدعوة باشتياق ولهفة وولع شديد وأسلموا لها، ولهذا السبب أيضاً هبّ المعارضون والكافرون ليقاوموا نداء التوحيد بوحشية وضراوة، وليصعّدوا عداءهم يوماً بعد يوم)(1)
بل إنه يذكر أن الصراع في المستقبل مع المستكبرين كله من أجل تحقيق كلمة التوحيد، حيث يقول عند حديثه عن الإمام المهدي: (إنّ قضية المهدويّة هي في عِداد المسائل الأصلية التي تدور في سلسلة المعارف الدينية العليا كقضية النبوّة مثلاً، حيث إنّ أهمّيتها ينبغي أن تُقارن
__________
(1) المصدر السابق، ص 31
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (33)
بأهمية النبوّة. لماذا؟ لأنّ ذاك الشيء الذي تبشّر به المهدويّة هو نفس الأمر الذي جاء من أجله جميع الأنبياء وانطلقت من أجله جميع البَعَثات، وهو عبارة عن إيجاد عالمٍ توحيدي مبني وقائم على أساس العدالة وبالاستفادة من جميع الاستعدادات التي أودعها الله تعالى في الإنسان؛ ومثل هذا العصر هو عصر ظهور الإمام المهدي.. هو عصر المجتمع التوحيدي، عصر حاكمية التوحيد، عصر الحاكمية الحقيقية للروحانية والدين على كلّ مجالات حياة البشر، وعصر استقرار العدل بمعناه الكامل والجامع.. لقد جاء الأنبياء عليهم السلام من أجل هذا)(1)
وبناء على هذه الحقيقة التي لا يجادل فيها أحد يعتبر الإمام الخامنئي كل توحيد لا يؤثر في الحياة توحيدا مهادنا ومداهنا لا يختلف عن توحيد الحنفاء، يقول: (هذه الحقيقة التاريخية، بمقدورها أن تكون معياراً لتقييم صحة أو عدم صحة ادّعاء التوحيد في كل زمان ومكان.. من الصعب أن نصدّق وجود التوحيد في نفوس قوم يشبهون موحدي مكة قبل ظهور الإسلام.. التوحيد المهادن.. التوحيد المداهن مع كل الأنداد والآلهة المزيفة.. التوحيد الذي لا يعدو أن يكون فرضية ذهنية، ليس إلا نسخة ممسوخة لتوحيد الأنبياء.. ومن الطبيعي أن يخلو مثل هذا التوحيد من ديناميكية دعوة الأنبياء، ومن خلال هذه الرؤية نستطيع أن نفهم سبب انتشار نور الإسلام وتقدّمه في العصور المتقدمة، وسبب تراجعه وتقهقره وضعفه في العصور المتأخرة)(2)
ولهذا نجده كسائر قادة الثورة الإسلامية يعتبرون سبب التخلف الأكبر الذي وقعت فيه الأمة هو انحرافهم عن التوحيد الأصيل، الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو له ويمثله، يقول: (إسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع التوحيد أمام الناس باعتباره طريقاً ومسلكاً، وإسلام العصور التالية طرح التوحيد باعتباره نظرية يدور حولها البحث والجدل في المجالس والمحافل.. كان
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2011، ص 255.
(2) العودة إلى نهج البلاغة للإمام الخامنئي، ص 31
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (34)
الكلام هناك يدور حول تصور جديد للعالم ونظرية جديدة لحركة الحياة، وهنا الكلام يدور حول مسائل كلامية فرعية خالية من كل عطاء حي.. كان التوحيد هناك يشكّل الهيكل العظمي للنظام القائم، والمحور لكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ وهنا يتمثل في لوحة فنية جميلة معلّقة في صالة، الهدف منها إكمال مظاهر الزينة في الصالة.. وأي دور فعال يمكن أن نتوقعه من مثل هذه الظاهرة الكمالية؟!)(1)
وبذلك؛ فإن التوحيد (من منظار عملي أطروحة للمجتمع ومنهج للحياة وقاعدة للنظام الذي اعتبره الإسلام متناسباً مع طبيعة الإنسان ونموّه وسموّه؛ وهو من منظار نظري يشكّل القاعدة الفكرية الفلسفية لذلك النظام)(2)
وهو يستدل لهذا بما ورد في القرآن الكريم من الآيات الكثيرة الدالة على وقوف المستكبرين ضد عقيدة التوحيد، مما يدل على أنها الوحيدة التي تهز أركان عروشهم، يقول: (تفهّم شخصية المستكبر في القرآن الكريم تعيننا كثيراً على فهم هذا الموضوع، فالقرآن الكريم يعطي في أكثر من أربعين موضعاً صورة عن المستكبر، وخصائصه النفسية، ومكانته الاجتماعية، وأهدافه، وأطماعه التوسعية الاستئثارية)(3)
ولذلك يعتبر ـ كسائر قادة الثورة الإسلامية ـ إنكار الحاكمية الإلهية نوعا من أنواع الشرك، يقول الإمام الخامنئي: (اختصاص هذا الأمر بالله نتيجة طبيعية ومنطقية للخالقية والألوهية؛ فكل تدخل من الآخرين ـ إذا ـ لتعيين المسيرة العملية للبشرية هو تدخل في حاكمية الله، وادّعاءٌ للألوهية، وباعثٌ على الشرك)(4)
__________
(1) المصدر السابق، ص 32.
(2) المصدر السابق، ص 32.
(3) المصدر السابق، ص 22
(4) المصدر السابق، ص 27
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (35)
وهو يستدل لذلك بالآيات الكثيرة الدالة على ذلك، كقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]، وغيرها من الآيات الكريمة الواضحة في دلالتها على الحاكمية الإلهية لكل شؤون الحياة.
وهو يبين قيمة هذه الحاكمية ودورها في تخليص المجتمعات من كل أشكال الظلم والاستبداد، فيقول: (ولاية الإنسان على الإنسان لو قامت على أساس حق مستقل وبدون مسؤولية، لاستلزمت الظلم والطغيان والعدوان.. الفرد الحاكم والجهاز الحاكم لا يستطيع أن يتخلص من الانحراف والطغيان والإفراط إلا إذا كانت زمام الأمور معطاة بيد هذا الفرد أو هذا الجهاز من قبل سلطة عليا ضمن إطار مسؤوليات متناسبة.. وهذه السلطة العليا في المدرسة الدينية هي الله المحيط بكل شيء علماً.. وهذه السلطة العليا لا تنطلي عليها خدعة كما قد تنطلي على الجماهير، ولا يمكن اتخاذها وسيلة للسيطرة والتجبّر كما تُتخذ الأحزاب، ولا يمكن المساومة معها كما يمكن مع علّية القوم وزعمائهم)(1)
ويعقب الإمام الخامنئي على كل هذه الأبعاد بقوله: (من خلال هذا الاستعراض السريع يتضح بجلاء أن التوحيد ليس بالنظرية الفلسفية الذهنية غير العملية المعزولة عن الحياة وعما يرتبط بحركة المجموعات البشرية وبحركة الفرد ونشاطه.. التوحيد لا يكتفي باستبدال معتقد بمعتقد آخر.. بل إنه من جهة: نظرة عامة للكون والحياة، تشتمل على مفهوم خاص للعالم وللإنسان ولمكانة الإنسان بين ظواهر العالم ومكانته في التاريخ، ولإمكاناته واحتياجاته ومتطلباته الذاتية، ولاتجاهه ومراحل سموّه وكماله، ومن جهة أخرى: منهج اجتماعي شامل
__________
(1) المصدر السابق، ص 28
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (36)
متناسب مع طبيعة الإنسان، ويستطيع الكائن البشري في إطاره أن يسمو على مدارج كماله بسهولة وسرعة.. إنه أطروحة خاصة للمجتمع تتضح فيها الخطوط العامة والأساسية للكيان الاجتماعي)(1)
وهذا النوع من التوحيد ـ كما يذكر الإمام الخامنئي ـ وحده الكفيل بتخليص المجتمعات من كل أشكال الهيمنة، يقول: (من هنا، حين يرتفع نداء التوحيد في المجتمعات الجاهلية ـ المجتمعات القائمة على أساس الجهل بحقيقة الإنسان ـ والمجتمعات الطاغوتية ـ القائمة على أساس المعاداة للقيم الإنسانية الحقة ـ فإنه يحدث تغييراً شاملاً، ينير القلوب المظلمة، ويحيي النفوس الهامدة، ويبعث هزة في جسد المجتمع الراكد، وينظم الشؤون المبعثرة المتناقضة لذلك المجتمع.. يحدث التوحيد تغييراً في المحتوى النفسي، والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وفي القيم الأخلاقية والإنسانية.. وبعبارة قصيرة: يهاجم التوحيد الوضع الجاهلي القائم، والسلطة التي تحمي هذا الوضع، والجو الذي يغذي هذا الوضع ويمدّه بالحياة)(2)
ثالثا. اعتبار مركزية القرآن الكريم
ذلك أن أهم خصائص المشروع الحضاري الذي دعا إليه قادة الثورة الإسلامية الإيرانية ـ كما يصرحون في كل المناسبات ـ هو مشروع إسلامي خالص، لا يستند للشرق ولا للغرب، بل ينهل من منابع الدين الصافية، وأولها وأساسها [القرآن الكريم]؛ فهم يدعون إلى تحكيمه في كل القضايا، سواء ما كان منها دينيا خالصا، أو ما ارتبط بالحياة في جوانبها المختلفة.
وقد رأينا من خلال استقراء أحاديثهم في هذا الجانب أنها لا تخلو من أمرين: إما الحديث عن عظمة القرآن الكريم، والدعوة إلى الاهتمام به وبتلاوته وتدبره.. أو الحديث عن تحكيمه
__________
(1) المصدر السابق، ص 30.
(2) المصدر السابق، ص 30.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (37)
في كل الشؤون الواقعية، ابتداء من الجوانب السياسية.
وسنذكر هنا نماذج عن تصريحاتهم في هذين الجانبين:
1. تقديس القرآن الكريم واعتبار مرجعيته المطلقة
عرفنا في الكتب السابقة مدى اهتمام الإيرانيين بالقرآن الكريم تلاوة وتدبرا وتفسيرا، مما لا حاجة لإعادة ذكره هنا، ولذلك سنقتصر على بعض ما ورد في كلمات قادة الثورة الإسلامية الإيرانية التي يخاطبون فيها الجهات المختلفة بالاهتمام بالقرآن الكريم وتلاوته وتدبر والاستفادة منه في كل الشؤون الحياتية.
ومنها ما ورد في خطاب للإمام الخميني بمناسبة البعثة النبوية الشريفة، ومما ورد فيه عن غايات البعثة النبوية ودوافعها ونتيجتها والواجب تجاهها: (إن غاية البعثة هي ما قاله الله تبارك وتعالى في سورة الجمعة: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]؛ فغاية البعثة هي ما ذكره تعالى في هذه الآية الشريفة، فهو يقول أنه بعث من بينكم رسولًا، لكي يبلغ بعض الأمور من قبل الله.. فالقرآن آيات إلهية وغاية البعثة هي هذا الكتاب العظيم)(1)
ثم ذكر سر ذلك، والذي يعود للمعاني العظيمة التي يحملها القرآن الكريم، فقال: (مع أن كل العالم من آيات الحق تعالى، لكن القرآن الكريم نسخة تتضمن كل شي ء من الخلق الإلهي التي يجب أن تنجز في البعثة.. القرآن الكريم هو مائدة بسطها الله تبارك وتعالى بواسطة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بين البشر لكي يستفيد منها البشر كل بحسب استعداده.. إن هذا الكتاب وهذه المائدة الممدودة بين الشرق والغرب ومنذ زمن الوحي وحتى القيامة، هو كتاب يستفيد منه
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 14، ص: 306
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (38)
البشر جميعاً، العامي والعالم والفيلسوف والعارف والفقيه والجميع)(1)
ثم ذكر درجات البشر في الاستفادة منه، فقال: (على الرغم من أن القرآن الكريم تنزل من ذلك المقام إلى مكان نستطيع الاستفادة منه، ففيه مسائل يستفيد منها كل الناس، العامي والعارف والعالم وغير العالم وفيه مسائل تختص بالعلماء الكبار، والفلاسفة الكبار، والعرفاء الكبار والأنبياء والأولياء.. فبعض مسائله لا يستطيع فهمها وإدراكها والاستفادة منها أحد إلا أولياء الله تبارك وتعالى، إلا بالتفسير الذي ورد عنهم، بمقدار الاستعداد الموجود في البشر، وهناك مسائل يستفيد منها عرفاء الإسلام الكبار، وهناك مسائل يستفيد منها الفلاسفة وحكماء الإسلام، ومسائل يستفيد منها الفقهاء الكبار وهذه المائدة للجميع يستفيد منها الجميع وكل هذه الطوائف)(2)
ثم بين شمول القرآن الكريم لكل الشؤون الحياتية، وأنه على الرغم من أعماقه العظيمة التي لا يطيق فهمها إلا الراسخون في العلم، إلا أنه يمكن للجميع الاستفادة منه، كل بحسب طاقته، يقول: (في القرآن الكريم كل المسائل السياسية والمسائل الاجتماعية والمسائل الثقافية والمسائل العسكرية وغير العسكرية وكل ذلك في ذلك الكتاب المقدس.. فقد كان دافع نزول هذا الكتاب المقدس وغاية بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من أجل أن يكون هذا الكتاب في أيدي الجميع ويستفيد منه الجميع بمقدار سعة وجودهم وفكرهم)(3)
ثم يتأسف على تفريط الأمة في القرآن الكريم، فيقول: (مع الأسف لم نستطع ولم يستطع البشر ولم يستطع علماء الإسلام أن يستفيدوا من هذا الكتاب المقدس كما يجب)(4)
__________
(1) المصدر السابق، ج 14، ص: 306
(2) المصدر السابق، ج 14، ص: 307
(3) المصدر السابق، ج 14، ص: 307
(4) المصدر السابق، ج 14، ص: 307
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (39)
ثم ذكر دور تلاوة القرآن الكريم في التربية والتزكية والتعليم، فقال تعليقا على قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: 164]: (فهذا هو ربما غاية التلاوة، يتلو من أجل التزكية ومن أجل التعليم ومن أجل التعليم الجماعي، تعليم هذا الكتاب وتعليم الحكمة التي هي من نفس الكتاب.. فغاية البعثة هي نزول الوحي ونزول القرآن وغاية تلاوة القرآن على البشر هي أن تحدث التزكية وتصفى النفوس من هذه الظلمات الموجودة فيها حتى تكون أرواحهم وأذهانهم بعد أن تُصفّى قادرة على فهم الكتاب والحكمة؛ فالغاية هي التزكية من أجل فهم الكتاب والحكمة)(1)
ثم ذكر الصلة بين التزكية والتفاعل مع الهدي القرآني، فقال: (لا تستطيع النفس أن تدرك هذا النور المتجلي والمتنزل من الغيب الذي وصل إلى الشهادة؛ فإن تعليم الكتاب والحكمة غير ميسر طالما أنه لا توجد تزكية، فيجب تزكية النفوس من كل التلوثات، فأكبر تلوث هو عبارة عن تلوث النفس بأهوائها النفسانية.. ما دام الإنسان في حجاب نفسه، لا يستطيع أن يدرك هذا القرآن الذي هو نور وطبقاً لما ورد في القرآن فهو نور، ولا يستطيع الغارقون في حجابهم وخلف حجبهم وهم كثر أن يدركوا هذا النور.. يظنون أنهم يستطيعون، ولكنهم لا يستطيعون؛ فلا يكون الإنسان أهلًا لكي ينعكس هذا النور الإلهي في قلبه مادام غير قادر أن يخرج من حجابه الشديد الظلمة، مادام أسيراً لأهوائه النفسية، مادام أسيراً للأنانية، ومادام أسيراً لأشياء قد أوجدها في باطن نفسه من ظلمات بعضها فوق بعض)(2)
ولهذا؛ فإن شرط الترقي بالقرآن الكريم ـ كما يذكر ـ هو تزكية النفس وتطهيرها لتصبح
__________
(1) المصدر السابق، ج 14، ص: 307
(2) المصدر السابق، ج 14، ص: 307
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (40)
أهلا لتنزلات معانيه العميقة عليها، يقول: (إن الذين يريدون أن يفهموا القرآن الكريم ومحتواه، وليس صورته النازلة الصغيرة، ويريدون أن يفهموا محتوى القرآن بحيث أنهم كلما قرأوا أكثر كلما ارتفعوا أكثر وكلما قرأوا أكثر كلما اقتربوا من مبدأ النور والمبدأ الأعلى، فهذا لا يمكن إلا برفع الحجب ورفع حجاب النفس من الداخل حتى تستطيع أن تدرك هذا النور كما هو، والإنسان اللائق بهذا الإدراك)(1)
ويقول في خطاب آخر وجهه لجمع من النساء: (يجب أن يكون كتابنا القرآن، لا مجرد القول بل بأن نعيش مضامينه الراقية في مختلف أبعاد حياتنا المادية والمعنوية، وأن نعمل به ونجسده في سلوكنا وعملنا وحركتنا في الحياة.. فحتى يكون هذا الكتاب كتابنا حقاً، لا بد أن نعمل بمحتواه؛ فاسعوا لأن يكون كتابكم كتاب الله، وليكن اهتمامكم بتطبيق مضمونه ومحتواه، فالكلام كلام الله، والواسطة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمخاطبون فيه هم البشر جميعاً (ياأيها الناس) كما أن خطاب (يا أيها المؤمنون) خاص بنا نحن المؤمنين بالإسلام، وإن كل أوامره ونواهيه تربوية)(2)
ثم يذكر دور التربية القرآنية في تحقيق الكمال الإنساني، فيقول: (ما لم يتربّ الإنسان تربية إلهية، فسيبقى في مصاف الحيوان بل أسوأ منه.. فإذا ما تربى هذا الإنسان تربية قرآنية، فإنه سيرقى الى أسمى مدارج الكمال؛ فالنبي الأكرم هو أفضل الخلائق، لأنه عرف القرآن على حقيقته، وعمل به كما هو، وكل من عرف القرآن على حقيقته، وعمل به، بأن يعمل بما جاء فيه من أوامر ونواهي وتعاليم، فإنه يصبح أفضل من جميع الموجودات، وبسبب كونه لا يقدر أحد على معرفة القرآن، لا يقدر على العمل به كما عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خير الخلائق وأفضلها
__________
(1) المصدر السابق، ج 14، ص: 308
(2) المصدر السابق، ج 10، ص: 391
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (41)
على الإطلاق)(1)
ويقول: (آمل لجمعكم هذا أن يعيش في ظلال القرآن وأن تتحقق فيه التربية القرآنية، وأن تربوا أطفالكم بنحو يكون عملهم منطبقاً مع ما أراده الله ورسوله، ليكون الفلاح نصيبكم في الدنيا والآخرة)(2)
وهكذا نجده في كل المحال يخاطب الجميع بنفس هذه المعاني من الدعوة للعودة إلى القرآن الكريم وتفعيله في كل الجوانب، ويذكّر الشيعة منهم خصوصا، أن التشيع الحقيقي لا يتم إلا بالاتباع المطلق للقرآن الكريم، يقول: (فلنسع لأن يكون هذا القرآن كتابنا حقاً وحقيقة، لا بمجرد اللفظ: (أن القرآن كتابنا، والرسول الأكرم نبينا، وعلي بن أبي طالب إمامنا)، فالكلام سهل، ومن السهل أن نقول بأننا شيعة علي بن أبي طالب، ولكن الشيعي الحقيقي هو من يسير على نهجه ويقتدي بسيرته.. فالتشيع يعني الاتباع، ومجرد القول بأننا شيعة دون أي عمل أو اتباع، أو التهاون في العمل، يعني أننا لسنا شيعة بحسب الواقع، بل أدعياء التشيع، كما أننا لو ادعينا بأن القرآن كتابنا ولم نعمل حتى بصفحة واحدة منه، فلن يكون بحسب الواقع كتابنا، كذلك الأمر إذا ما قلنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم نبينا، ولم نعمل بما جاء به ولم نتبع قوله، فلن تفيدنا نبوته، كما أننا إذا لم نعمل بما قاله الأئمة، فلن يفيدنا التشيع لهم، أو كانت الفائدة قليلة.. فاسعوا للعمل، لكي يكون القرآن كتابكم بالعمل لا بالقول، والرسول الأكرم نبيكم وعلي بن أبي طالب إمامكم)(3)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يستغل كل مناسبة للدعوة إلى تقديس القرآن الكريم واعتبار مرجعيته المطلق، ومن الأمثلة على ذلك قوله في اختتام الدورة السابعة والعشرين من
__________
(1) المصدر السابق، ج 10، ص: 391
(2) المصدر السابق، ج 10، ص: 393
(3) المصدر السابق، ج 10، ص: 392.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (42)
مسابقات القرآن الكريم مخاطبا جموع الحاضرين من المشاركين في المسابقات: (لقد كان اجتماعنا اليوم ممتازاً، وحقاً سُعدنا وابتهجنا من الاستماع إلى آيات القرآن الكريمة المنطلقة من حناجر بلابل بستان القرآن.. نشكر كثيراً الذين عملوا على إقامة هذه المراسم المهيبة والمهمة آملين إن شاء الله نيل المزيد من توفيق القرب من القرآن يوماً بعد يوم)(1)
ثم قال متأسفا: (الحقيقة هي أننا ولحد الآن لا زلنا بعيدين جداً وتفصلنا مسافة طويلة عن القرآن؛ فينبغي أن تكون قلوبنا قرآنية، وينبغي أن تأنس أرواحنا بالقرآن.. ولو استطعنا أن نأنس بالقرآن، وأن نجعل لمعارف القرآن نفوذاً في قلوبنا وأرواحنا، فإن حياتنا ومجتمعنا سيصبحان قرآنيين، وعندها لن نحتاج إلى بذل الجهد والضغط ووضع السياسات؛ فالأساس هو أن تكون قلوبنا وأرواحنا ومعرفتنا قرآنية حقاً)(2)
ثم ذكر المؤامرات التي تحاك لصرف الأمة عن القرآن الكريم، فقال: (أذكر لكم أنه لسنوات طويلة كان هناك سعي لأجل إيجاد مسافة وفاصلة بين المعارف القرآنية وقلوب مجتمع المسلمين والأمة الإسلامية، ولا زال هذا السعي مستمراً إلى الآن؛ ففي يومنا هذا وفي بعض الدول الإسلامية فإن رؤساء المسلمين في هذه الدول ولأجل مراعاة أعداء الإسلام مستعدون لإخراج فصل الجهاد من تعاليمهم الإسلامية.. مستعدون لإخراج وإبعاد المعارف القرآنية من تعاليمهم العامة في مدراسهم وبين شبابهم إذا كانت تخدش مصالح الأعداء.. واليوم يجري الأمر على هذا المنوال)(3)
ثم ذكر آثار القرآن الكريم على الحياة بجميع جوانبها، فقال: (لقد وعدنا القرآن بالحياة الطيبة: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]، فماذا
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 254.
(2) المصدر السابق، ص 254.
(3) المصدر السابق، ص 254.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (43)
تعني الحياة الطيبة؟ وما هي الحياة الطاهرة؟ هي تلك الحياة التي تؤمّن فيها روح الإنسان وجسمه ودنياه وآخرته، ففيها يتم تأمين الحياة الفردية، والطمأنينة الروحية، والسكينة والاطمئنان، والراحة الجسدية، وأيضاً الفوائد الاجتماعية والسعادة والعزّة الاجتماعية، والاستقلال والحرية العامة.. هذا ما وعدنا به القرآن)(1)
ثم ذكر الوسائل التي تيسر تحقيق ذلك في الواقع، فقال: (مرّة أخرى أوصي شبابنا الأعزاء بأن يأنسوا بالقرآن ويجالسوه.. فكلما جالستم القرآن ونهضتم فإن حجاباً من حجب الجهالة يرتفع عنكم وينفتح في قلوبكم منبع من منابع النورانية ثم يجري؛ فالأنس بالقرآن ومجالسته وفهمه والتدبر فيه كلها أمورٌ ضرورية.. ومقدمة هذا العمل هو أن نتمكن من قراءة القرآن، وأن نتمكّن من حفظه، فحفظ القرآن مؤثرٌ جداً.. فليقدّر الشباب مرحلة الشباب وقدرة الحفظ، ولتشجّع الأُسر أبناءها على حفظ القرآن، وليحملوهم على ذلك، فحفظ القرآن له قيمة كبيرة، وهو يمنح حافظه فرصة التدبر فيه من خلال تكرار الآيات، فهذه فرصة وتوفيق، فلا تضيّعوا هذا الأمر.. هؤلاء الحفظة عليهم أن يقدّروا هذه النعمة الإلهية العظيمة جداً، فلا يسمحوا بإضعاف حفظهم أو لا سمح الله تضييعه.. وقراءة القرآن من البداية حتى النهاية أمرٌ لازمٌ؛ فينبغي قراءته من البداية وحتى النهاية، ثم تكرار الأمر حتى يتعرّف ذهن الإنسان إلى جميع المعارف القرآنية، ولا شك بأهمية وجود المعلّمين لكي يفسّروا لنا ويحلّوا ما يشكل علينا من الآيات ويبيّنوا معارف الآيات الإلهية وبطونها، فهي من الأمور الضرورية، فلو حصلت هذه الأمور، فإننا سنستمر بالتقدم مع مرور الزمان ولن يكون للتوقف معنى)(2)
ثم ذكر التغير الكبير الذي حصل في إيران بعد الثورة الإسلامية نتيجة العودة للقرآن
__________
(1) المصدر السابق، ص 254.
(2) المصدر السابق، ص 254.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (44)
الكريم، فقال: (إنني أقول لكم إنه طوال هذه السنوات الـ 31 كانت هذه الحركة إلى الأمام.. وقبل الثورة ما كان من خبرٍ في بلدنا عن القرآن، فقد نجد في زاوية أو زقاق عاشقاً يقيم جلسة قرآنية يحضرها عشرة إلى عشرين طالباً للقرآن، فقد شاهدنا ذلك في جميع المدن وكان هناك في طهران وفي مشهد مثل هذا الأمر.. أما هذه الحركة الشبابية العظيمة نحو القرآن فما كان لها من أثر، فمثل هذا الشوق لقراءة القرآن وتلاوته، وهذا الإعداد الهائل للقراء المتبحرين في تلاوة القرآن، ومثل هذه الأمور ما كان لها وجود وما كان للحفظ وجود، فعندما يأتي هؤلاء الشباب الحفظة ويقرأون القرآن عن حفظ، فإن هذا العبد يشكر الله من أعماق القلب.. فمثل هذه الأمور كانت ببركة الثورة والإسلام، فعليكم أن تقدّروها)(1)
2. تحكيم القرآن الكريم في كل الشؤون الواقعية
وهو الجانب الذي حرص قادة الثورة الإسلامية الإيرانية كثيرا على الدعوة إليه، باعتبار أن دعوتهم دعوة حركية نهضوية ترتبط بإصلاح الواقع، وتحكيم الإسلام في كل شؤونه.
ولهذا، كانت الدعوة للعودة للقرآن الكريم، وتدبرمعانيه، من أحسن الوسائل وأيسرها لإقناع الجماهير بإصلاح الواقع من كل جوانبه، لتضمن القرآن الكريم كل تلك المعاني التي يدعون إليها.
ومن الأمثلة على ذلك ما رد به الإمام الخميني على الذين ينكرون عليه وعلى أمثاله من العلماء الاهتمام بالنواحي السياسية، حيث يقول: (يجب علينا مطالعة القرآن ولو مطالعة عابرة ـ إذ لا ضرورة للتدقيق فيه ـ لنرى هل أن الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا يدعون الناس إلى دينهم قد أضعفوا جمهور الناس؟ هل كانوا يخدعونهم؟ هل كانوا عملاء للقوى الكبرى؟.. ولنطالع القرآن نفسه مرة أخرى لنرى هل أن القرآن جاء لتعليمنا الأوراد والأدعية والأحراز
__________
(1) المصدر السابق، ص 255.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (45)
وأمثال ذلك، أم أنهم لم يفهموا؟.. فإذا طالعتم القرآن ستجدون أنه يدعو إلى التحرك والنشاط أكثر من بقية الأمور.. ستشاهدون عدداً كبيراً من الآيات تحرّض الناس على القتال.. قتال مَن؟ ذوي القوى.. وفيه آيات كثيرة حول كيفية الحرب.. إذ كانت الحروب في صدر الإسلام بين ذوي القدرة ونبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم.. القرآن كتاب يحث على التحرك أكثر من أي شي ء آخر.. كتاب يبعث الحركة في الناس.. القرآن أخرج الناس من الخمود إلى الحركة وجعلهم يواجهون الطغاة)(1)
ويقول ـ مبينا شمولية الإسلام مستدلا على ذلك بما ورد في القرآن الكريم من المعاني ـ: (ما من شي ء إلا وللإسلام فيه حكم، ليس الأمر كما يظن البعض بأنه مجرد دين يوضح العلاقة بين العبد وخالقه.. بل هو دين للحياة بمختلف علاقاتها وأبعادها؛ فالقرآن تبيان لكل شي ء.. فهو كتاب العلم والهداية والتربية والسياسة وكل شي ء، والأمة التي تتخذه كتاباً ومنهجاً ستكون من أسعد الأمم، ولو أننا عملنا ببعض آياته لكنا كذلك.. آمل من الله أن نكون من العاملين بذلك، فلو أننا عملنا به واجتمعنا تحت لوائه وتمسكنا بما تأمرنا به هذه الآية الشريفة ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]، وعمل المسلمون جميعاً بذلك، لتغلبوا على القوى الكبرى، ولأصبحوا هم أنفسهم قوة عظمى يهابها الجميع، إذ أنهم يملكون كل مقومات ذلك، فتعدادهم ينوف عن المليار مسلم وبلادهم من أغنى البلدان بالثروات الباطنية والطبيعية، وأراضيهم شاسعة ومناخها متنوع، وما ينقصهم إلا الاتحاد والاعتصام بحبل الله وهو القرآن والرسول الأكرم، ونبذ الفرقة والاختلاف)(2)
ويقول في محل آخر: (لو أن الدول الإسلامية اعتمدت على الإسلام بدلًا من الاعتماد
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 4، ص: 21
(2) المصدر السابق، ج 10، ص: 393
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (46)
على المعسكر الشرقي أو الغربي، ووضعت نصب عينيها تعاليم القرآن الكريم المشرقة والتحررية، وطبقتها، لما استعبدها اليوم المعتدون الصهاينة، ولما أثارت طائرات الفانتوم الأمريكية الرعب في نفسها، ولما قهرتها الإرادة التساومية والألاعيب الشيطانية الروسية.. إن ابتعاد الدول الإسلامية عن القرآن الكريم، جرّ الأمة الإسلامية الى هذا الوضع المأساوي، وأوقع مصير الشعوب المسلمة والبلدان الإسلامية فريسة لسياسة الاستعمار اليساري واليميني التساومية)(1)
وقال في خطاب له يرد فيه على معارضي قانون القصاص الوارد في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179]: (أريد أن أعرف ما هذه المسيرة التي أعلنت اليوم وما أساسها. لقد قرأت بيانين عن (الجبهة الوطنية) في أحدهما جعلوا أحد أسباب المظاهرة قانون (القصاص).. أي أنهم دعوا شعب إيران للوقوف في وجه قانون القصاص.. وفي البيان الآخر جاءت عبارة تتحدث عن القانون بأنه (غير إنساني).. أي أنهم دعوا الشعب المسلم إلى التظاهر في مقابل قانون القصاص، ماذا يعني هذا؟ أي التظاهر في مقابل نص القرآن الكريم.. ضروري القرآن الكريم سواء عند الإخوة الشيعة أم عند الإخوة السنة.. الضروري هو أن هذا القرآن من عند الله ومن الضروري قبول ما في القرآن.. وقد صرح بقضية القصاص في أماكن من القرآن.. قانون القصاص من القضايا القرآنية.. لقد دعوا المسلمين كما يقولون الى الوقوف في وجه القرآن، وأن يقف الناس في وجه الأحكام الضرورية للإسلام.. هؤلاء الذين هم من بعض الجبهات معروف ما هو تكليفهم.. هؤلاء من البداية ومن وقت تأسيس الجمهورية الإسلامية لم تكن قضية الإسلام مطروحة عندهم.. ما كان مطروحاً لو كانوا صادقين هو الوطنية.. وأنا أشك في هذا أيضاً، لأن زعماءهم والمعروفين
__________
(1) المصدر السابق، ج 2، ص: 406
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (47)
بالوطنية كانوا ضد الشعب.. الآن أيضاً هؤلاء المتواجدون في الخارج يدعون القوى للوقوف ضد الشعب.. والقوى الكبرى أيضاً عندها من جميع الألوان، وعندهم وطنيون ومتدينون وعندهم علماء دين.. إنني لم أتعجب كثيراً من دعوة (الجبهة الوطنية) من أجل قانون القصاص (غير الإنسانية) ودعوة الشعب للوقوف في وجه الإسلام)(1)
ثم ذكر عدم اعتراضه على المظاهرات لو كانت في أي أمر آخر، لكن اعتراضه على المخالفة الصريحة للقرآن، فقال: (لا أريد التعرض لهذه الأمور ولو أن المظاهرة كانت لإرشاد الناس فقط فلا كلام عندي وكان من الممكن أن تتم.. ولكن تظاهرٌ في مواجهة الإسلام! ضد صريح القرآن! في مقابل حكم الإسلام الضروري! كيف نفسر هذا! لا أريد أن أتحدث عن الجبهة الوطنية مع أن بعض أفرادها يحتمل أن يكونوا مسلمين، ولكن أن أتحدث عن هؤلاء المرتبطين بهذه الجبهة الذين ارتبطوا بالمنافقين وارتبطوا بالمنحرفين حديثي فقط مع هؤلاء المتدينين والمدعين للتدين وكيف يبررون هذا المعنى؟ هل الواجب الشرعي فقط ينحصر في إصدار البيانات والدعوات في مقابل المجلس والحكومة! من بين الواجبات الشرعية فقط أحسستم بدعوة الناس للانتفاض في وجه الحكومة الإسلامية ومجلس الشورى الإسلامي؟! هل انحصر النهي عن المنكر والأمر بالمعروف بأمر الدولة الإسلامية ونهيها ومن خلال التخريب؟! ومن خلال التحريف على المواجهة! والانتفاض! في مقابل دعوة الجبهة الوطنية المخالفة لنص القرآن الكريم، في مقابل دعوة الشعب للتظاهر ضد القانون الإلهي، ألا يوجد عندكم واجب آخر؟)(2)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يردد نفس هذه المعاني، وفي كل المحال، ومن الأمثلة على
__________
(1) المصدر السابق، ج 14، ص: 354.
(2) المصدر السابق، ج 14، ص: 354.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (48)
ذلك قوله في بعض خطبه في الترغيب في العمل بالقرآن الكريم وتحكيمه في كل شؤون الحياة: (كلما اقتربنا من القرآن فإن أمرين يتحققان: الأول هو أننا نصبح أقوى، والثاني أن أعداءنا الدوليين يتعبّؤون ضدنا أكثر.. حسناً، فليكن، فكلما اتجهنا نحو القرآن واقتربنا منه فإن أعداء البشرية يزدادون حنقاً ويبدأون بتوجيه الاتهامات والأكاذيب والإشاعات والحصار الاقتصادي والضغوط السياسية ويمارسون ضد شعبنا أنواع الخبث والملعنة ـ مثلما أنكم تشاهدون ما يفعلون ـ ولكن في المقابل فإن قدرتنا وقوة تحمّلنا وتأثيرنا تزداد يوماً بعد يوم، وسوف تتضاعف، كما ترون)(1)
وهو ينقل ما ورد في الأحاديث من كون القرآن الكريم حبل الله الممدود من السماء، ويعلق عليها بقوله: (فهذا القرآن حبلٌ إلهي، وحبلٌ إلهي وثيق لو تمسكنا به لا نزلّ أو نضلّ أو نسقط)(2)
ويختم خطابه بقوله: (اللهم، أحينا بالقرآن، وأمتنا على القرآن، واحشرنا معه.. اللهم، أرضِ القرآن عنا.. اللهم، لا تفصلنا طرفة عين عن القرآن وأهل البيت)(3)
وقال في خطاب آخر متحدثا عن آثار القرآن الكريم في إصلاح الواقع وتقويته: (فلتعلموا أيّها الإخوة الأعزّاء، أنّ النظام الإسلاميّ والمجتمع الإسلاميّ يُظهران من خلال الأنس المتزايد بالقرآن، استحكامًا ومتانة داخليّة، وهذه المتانة الداخلية هي التي تمكّن المجتمعات من التقدم في سبلها وحركتها المنشودة وتمنحها القوة في مواجهة التحدّيات)
ثم بين أسباب ذلك، فقال: (ينبغي الثبات من الداخل، ويحصل ذلك ببركة الأنس بالقرآن.. يقوّي الأنس بالقرآن عرى الإيمان، ويضاعف التوكّل على الله، ويزيد من الثقة
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 255.
(2) المصدر السابق، ص 255.
(3) المصدر السابق، ص 255.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (49)
بالوعد الإلهي ويقلّل من الخوف من المشاكل الماديّة عند الإنسان، وإن الأنس بالقرآن يقوى الناس روحيًّا ومعنويًّا، ويقوي الثقة بالنفس، ويبيّن أمام الإنسان سبل التقرّب إلى الله، وإنّ منافع الأنس بالقرآن وفوائدها في هذا القسم هي هذه)(1)
وهو يعتبر البعد عن القرآن الكريم السبب الأكبر في كل ما يحدث من أحداث سيئة في الواقع الإيراني وغيره، فيقول: (إذا ما أَنِسَتْ الأمّة الإسلامية بمعارف القرآن، ورفعت من مستوى معرفتها، فسوف يقلّ هذا النوع من الحوادث.. إنّ اتّصال القلوب وارتباطها بالله تعالى يمنع هذه القلوب من أن ترتكب الخيانة في طريق الله، وهذا ما نأمل أن يظهر ويحدث)(2)
ويختم خطابه بقوله داعيا: (إلهي! نقسم عليك بمحمد وآل محمد أن تحيينا بالقرآن، أن تجعلنا مع القرآن، أن تحيينا في طريق القرآن، وأن تميتنا في سبيل القرآن، وأن تحشرنا مع القرآن.. اللهمّ أرضِ عنّا القرآن.. إلهي! بمحمّد وآل محمد ثبّت أقدامنا في سبيل الإسلام، في طريق القرآن، في طريق الشهداء، ومجاهدي طريق الحقّ)(3)
باعتبار النبوة هي الممثلة لوساطة الهدي الإلهي؛ فإن تعظيمها وتعزيرها وتوقيرها والرجوع إليها في كل شيء ركن أصيل من أركان المشروع الحضاري الرباني، ذلك الذي لا يستند للأهواء، وإنما إلى ما رضيه الله لعباده، وهو أدرى بهم منهم.
وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في الآيات الكثيرة التي تقرن طاعة الله بطاعة رسله، كما قال تعالى لخاتم رسله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2014، ص 330.
(2) المصدر السابق، ص 333.
(3) المصدر السابق، ص 334.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (50)
ثم بين معنى الاتباع، وأنه ليس قاصرا على مجرد الانتماء للدين، وإنما هو الطاعة المطلقة التي يقترن فيها الله مع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه لا يمكن أن تتحقق طاعة الله من دون طاعة رسوله، كما لا يمكن أن تتحقق طاعة الطبيب من دون استعمال أدويته، فقال: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 32]
وأخبر أن كل الأنبياء عليهم السلام دعوا إلى تلك الدعوة، بل استهلوا رسائلهم بها، كما قال تعالى في قصة نوح عليه السلام مع قومه: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء: 105 - 110]، وقال عن هود عليه السلام: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء: 123 - 126]﴾ [الشعراء: 106 - 110]، وهكذا كل الأنبياء عليهم السلام.
وبناء على هذا نرى قادة الثورة الإسلامية يدعون إلى تعظيم النبوة، وإلى التفريق بينها وبين كل ما عداها من رؤى ونظريات وفلسفات وأفكار، لأنها مهما كانت قيمتها تبقى مجرد رؤى غير معصومة.
وقد رأينا أنه يمكن تقسيم أحاديثهم المرتبطة بالنبوة إلى قسمين:
أولهما: الحديث عن النبوة وأدوارها التربوية التي تشمل كل المجالات، ابتداء من تعميق الإيمان في النفس.
وثانيهما: الحديث عن الناحية الحركية والسياسية من النبوة.
وقد أشار الإمام الخميني إلى كلتا الناحيتين في قوله: (لقد بُعث الأنبياء عليهم السلام من أجل تنمية معنويّات الناس واستعداداتهم حتّى يفهموا ـ من خلال تلك الاستعدادات ـ بأنّنا لا شيء، وإضافة إلى ذلك إنقاذ الناس، وإنقاذ الضعفاء من نير الاستكبار، وكانت للأنبياء عليهم السلام منذ البداية هاتان الوظيفتان، وظيفة معنويّة لإنقاذ الناس من أسر النفس وأسر
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (51)
ذاتها، لأنّ الذات شيطان كبير، وإنقاذ الناس والضعفاء من سلطة الظالمين، هاتان الوظيفتان هما وظيفة الأنبياء عليهم السلام وعندما يُلاحظ الإنسان النبيّ موسى والنبيّ إبراهيم عليهما السلام، وما نُقل عنهما في القرآن يُظهر بأنّهما قاما بهاتين الوظيفتين: دعوة الناس إلى التوحيد وإنقاذ المستضعفين من الظلم.. إنّ هذين الأمرين نراهما بالعيان في القرآن والسنّة ونراهما في نفس عمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فالقرآن دعا إلى المعنويّات إلى ذلك الحدِّ الّذي يتمكّن فيه الإنسان من الوصول إليه وفوق ذلك وأيضاً دعا إلى إقامة العدل)(1)
وسنذكر هنا نماذج من كلامهم يدل على هذا:
وهو ركن أساسي في العلاقة بالنبوة، ذلك أن أدوار الأنبياء عليهم السلام ـ كما يذكر القرآن الكريم ـ هو التربية والتزكية والترقية، فقد قال مخبرا عن وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]، وقال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]
ولهذا نرى قادة الثورة الإسلامية الإيرانية يذكرون بهذه الجوانب، باعتبارها الركن الأساسي الذي تتكون منه الشخصية المسلمة، والمجتمع المسلم.
ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني في الاستدلال على ضرورة النبوة للتزكية والتربية: (ولو كان الإنسان في حدود الطبيعة ولم يكن أكثر من ذلك، لما كانت له حاجة عندئذ ليرسل إليه شي ء من عالم الغيب لتربيته، ولكن الخصائص الموجودة في الإنسان تدل على أن
__________
(1) منهجية الثورة الإسلامية، ص 51.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (52)
هناك ما هو وراء طبيعته، ولما كان للإنسان ما وراء الطبيعة كما تدل على ذلك البراهين الفلسفية الثابتة، فلابد أن له عقلًا مجرداً بالامكان يصير مجرداً تاماً بعد ذلك، ولابد للذي يربي هذه الصورة المعنوية في الإنسان أن يكون له علم حقيقي بتلك الناحية ومعرفة بالعلاقات الموجودة بين الإنسان وبين تلك الجهة، ولا يملك البشر ذلك.. وإنما يستطيع الإنسان أن يدرك هذه الطبيعة، ولكنه مهما حاول فلا يمكن مشاهدة ما وراء الطبيعة بالمكبّرات، وبما ان هذه العلاقات خفية عن الإنسان ولا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى الذي خلق كل شي ء فإنه يعلم هذه العلاقات، ولذلك يوحى لعدد ممن اتّصفوا بالكمالات المعنوية وصارت لهم علاقات مع عالم الوحي، فيبعثون لتربية الناحية الثانية في الإنسان ويرسلون إلى الناس لتربيتهم)(1)
ويتحدث عن الهدف من إرسال الأنبياء، فيقول: (ليس لله تبارك وتعالى أي حاجة إلينا والى تربيتنا، ولا يناله نفع إن أشركنا جميعاً أو أصبحنا موحدين، وكل ذلك يتعلق بأنفسنا، فبعث الأنبياء لتربيتنا بحيث نتربى في الناحية الثانية بشكل تسعد به حياتنا هناك أيضاً.. وإذا لم تكن هذه التربية، ويرحل الإنسان من هذا العالم إلى ذلك العالم بتلك الطبيعة الحيوانية، يصل إلى الشقاء والظلمات.. لقد بعث الأنبياء لتوعيتنا بعالم الطبيعة ومن ثم وشيئاً فشيئاً تربيتنا التربية المعنوية المطلوبة، بما يوحي به الله تبارك وتعالى.. ولو لم يكن الأنبياء، لكنا حيوانات ولا نملك غير الطبيعة.. لقد بعث الأنبياء لتقويتنا حتى إذا ما انتقلنا إلى العالم الآخر كنا سعداء هناك أيضاً.. والغاية من إرسال الأنبياء هو تربية هذا الإنسان الذي يمكن تربيته وهو أسمى من الحيوان، وهذا هو عطاء منحه الله تبارك وتعالى للبشر.. وتربية الأنبياء هي بيان الأمور التي تربط بين هذا العالم وذلك العالم، والتي إن أدّيناها تساعد على تربيتنا المعنوية)(2)
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 4، ص: 127
(2) المصدر السابق، ج 4، ص: 128
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (53)
ويقول في بعض خطبه: (إنّ الهدف الّذي بُعث من أجله الأنبياء عليهم السلام وجميع الأعمال الأخرى هي مقدّمة له ألا وهو نشر التوحيد، ومعرفة الناس بالعالَم ورؤيته كما هو لا بالشكل الّذي ندركه وبذلوا جهودهم ليكون كلّ التهذيب والتعليم، وتنصبّ جميع الجهود لإنقاذ الناس من هذه الظلمة الّتي تُسيطر على العالم)(1)
وهو ركن مهم أيضا، بل لا يمكن فهم النبوة من دونه، وفيه وردت الآيات القرآنية الكثيرة التي تذكر مواجهة الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم، في سبيل الدعوة للإيمان وتحقيق العدالة، كما يشير إلى ذلك بوضوح قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: 25]
ولهذا نرى قادة الثورة الإسلامية يذكرون كثيرا أدوار النبوة المرتبطة بالحركة الفاعلة في الحياة، باعتبار أن الإسلام الأصيل هو المستند للنبوة استنادا تاما.
ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني عند رده على القائلين بأن الدين أفيون الشعوب: (الإسلام مدرسة الحركة، والقرآن كتابها، الحركة من الشهادة إلى الغيب، مِن المادّية إلى المعنويّة، الحركة في سبيل العدالة، الحركة لإقامة حكومة العدل.. وإذا نظرتم في أحوال الأنبياء وتاريخهم، وتأملتم تاريخ الإسلام وصدره القريبين مِنّا ترون خلاف هذا التبليغ الذاهب إلى أنّ الدين أفيون الشعوب، أي: أنّ الدين جاء لينيم الناس إذ يُغرِقهم في السكوت كحشّاش يغرق في النعاس، هكذا يفعل بهم ليستولي عليهم الرأسماليون، وهذا تضليل، فتاريخ الأنبياء إذا لاحظتم جليٌّ أنهم جاؤوا ليوقظوا الناس، ويفطّنوا الغافلين منهم، ويبعثوا مَنْ غَطّوا
__________
(1) منهجية الثورة الإسلامية، ص 48
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (54)
في سباتٍ عميق.. فتاريخ موسى عليه السلام مفصّل في القرآن وفي الكتب السماوية الأخرى أيضا، وتجدونه فيه إنساناً راعيا، كان راعياً لشعيب النبي، وقد عبّأ الناس بعصاه على فرعون الذي كان القوّة الكبرى في زمانه، ولم يُنِمْهُم لِيستعبدَهم فرعون، لقد أيقظ الناس، لئلا يسترِقّهم فرعون، وهذا عكس ما بَثوا وصدّقه شبّاننا.. الإسلام قريب منّا، وتاريخ رسوله بين أيدينا، فانظروا، أترون الإسلام جاء ليخدِّر الناس ويُنيمَهُم، أو أنّ القرآن كتاب تسلّح واستعداد للقتال ومنازلة المشركين الذين كانوا مقتدرين ونصُّه: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة: 36]، فالمشركون كانوا هم القوى الكبرى، ومشركو قريش كانت القدرة كلها بأيديهم.. هل عبّأ الرسول المشركين ليقوّيهم؟ هل عَمِل ليُنيم الناس حتّى يهيمن عليهم المشركون أو عبّأ هؤلاء المكشوفي الرؤوس الحُفاة على قريش وقاتلهم بهم وحاربهم حتى مرَّغ أنوف المشركين، وأوجد العدالة الإجتماعية على عكس ما أملاه الغربيّون على الشرقيين)(1)
وهكذا نراه يصحح تلك المفاهيم الخاطئة عن النبوة، والتي تحصرها في الجانب العرفاني، دون أن ترى جانبها الآخر المرتبط بإقامة المجتمع الصالح والدولة العادلة، يقول في خطاب موجه لحرس الثورة الإسلامية عن اختلاف الحكومة الإسلامية عن غيرها: (ما نقوله وأشرتم إليه هو أنه لا يستطيع نظامٌ غير الحكومة الإسلامية أن يدير الإنسان والشعوب الإدارة التي تجب، ويربِّيها، وهذا لأنّ جميع الأنظمة غير التوحيدية والأنظمة التي لم يُقيمها الأنبياء محدودة النظر، ولو فرضنا أنها أمنية مئة بالمئة وحنون على الشعوب، فإنه تجبُ رؤية مدى النظر البشري، وإلام يستيطيع الإنسان أن يسير، وما مقدار احيتاجاتهِ.. هل يستوعب نظر الأنظمة غير الإلهية سعة وجود الإنسان وقدرته على التكامل؟)(2)
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 8، ص: 231
(2) المصدر السابق، ج 8، ص: 231
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (55)
ثم يذكر نواحي القصور والضعف الكثيرة لكل الأنظمة التي لا تستند للنبوة، فيقول: (كل الأنظمة غير الألهية التي ظهرت بأيدي غير الأنبياء حدود نظرها هي هذه الطبيعة، تستطيع أنّ تقضي الحاجات المادّية، وتتمكّن من قضائها على أحسن وجه؛ فالسفر سابقاً كان على الحمير والخيل، واليوم بالطائرة، وكان الطبّ ناقصاً، وهو اليوم كامل، وسوف يكون أكمل، وكلّ هذه حدود الطبيعة، وجميع هذه الأشياء تنالها يد الإنسان، وتبلغ حدود الطبيعة هذه الأشياء التي يراها الناس بعيونهم، ويعرفونها بإدراكهم الناقص، ويد الإنسان قاصرة عن بلوغ الطرف الآخر من عالم الطبيعة.. ولهذا فلو فرضنا أنّ الأنظمة البشرية صالحة ـ ونحن نعلم أنَّ أكثرهم ليس كذلك ـ فإنها تقودُ الإنسان إلى ما هو في حدود نظرهم، وحيث لا تعرف لا تستطيع أن تتقدّم، ولهذا نرى الأنظمة غير المتّصلة بالوحي ولا المربوطة بمبدئه لا علاقة لها بالإنسان)(1)
ويقول: (النظام الوحيد والمدرسة الوحيدة المعنيان بالإنسان قبلَ أن يلتقي أبواه هما ما جاء به الأنبياء.. ما من مدرسة في العالم غير مدرسة الأنبياء تدلّك على المرأة التي تختارُها، وتقترن بها، وتدلّ المرأة على الرجل الذي ترتضيه.. وهذه الدلالة لا صلة لها بتلك الأنظمة، وهي لا تعنى بهذه الأمور، فلا شي ء في قوانينها أي امرأة تنتخب وأيّ رجل ينتخب، وليس في قوانينها ما تفعل المرأة أيام الحمل، ولا ما تفعل أيام الرضاعة وأيّام الحضانة، ولا تبيّن وظيفة الأمّ عندما يكون الطفل في تربية أبيه.. ليست هذه الأعمال في القوانين المادّية والطبيعية وأنظمة غير الأنبياء، ولا هذه القوانين تلتفت إليها.. أولئك ينظرون للإنسان عندما يدخل المجتمع فيصدونه عن المفاسد التي يرتكبها، وهي المفاسد التي تضر النظام العامّ، أمّا مفاسد الشراب والمجون واللذات، فلا تعبأ بها، بل ربّما تنشرها، لا تهتم بما يصنع الإنسان، ولا تنظر إليه، فلا
__________
(1) المصدر السابق، ج 8، ص: 314
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (56)
فرق بين الإنسان والحيوان عندهم إلا هذا التقدم في الطبيعة، الحيوان لا يستطيع أن يصنع طائرة، ولا يتمكّن أن يكون طبيباً، والإنسان يقدر على ذلكِ، لكن في حدود الطبيعة)(1)
ويتحدث عن أدوار الأنبياء عليهم السلام المرتبطة بالإصلاح الاجتماعي، فيقول: (إنّ جميع الأنبياء عليهم السلام منذ بداية البشر والبشريّة، ومنذ مجيء آدم عليه السلام وحتّى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم إنّما استهدفوا إصلاح المجتمع، وجعلوا الفرد فداءً للمجتمع، إنّنا لا نملك شخصاً أسمى من الأنبياء عليهم السلام أو من هو أسمى من الأئمة عليهم السلام، فهؤلاء ضحّوا بأنفسهم في سبيل المجتمع، ويقول الباري جلّ وعلا أنّه بعث الأنبياء عليهم السلام وأعطاهم البيّنات والآيات والميزان ليقوم الناس بالقسط، فالغاية قيام الناس بالقسط، وأن تتحقّق العدالة الاجتماعيّة بين الناس ويزول الظلم ويحلّ الاهتمام بالضعفاء والقيام بالقسط)(2)
وهو يضرب كل حين الأمثلة على ذلك من السيرة المطهرة أو من سير الأنبياء عليهم السلام، ومن ذلك قوله: (الأنبياء العظام السابقون عليهم السلام والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الوقت الّذي يحملون فيه الكتب السماويّة في يد من أجل هداية الناس، كانوا يحملون السلاح في اليد الأخرى، فإبراهيم عليه السلام كان يحمل الصحف في يد، والفأس في يد أخرى للقضاء على الأصنام، وكان كليم الله موسى عليه السلام يحمل التوراة في يد والعصا في يد أخرى، تلك العصا الّتي أذلّت الفراعنة، وتحوّلت إلى أفعى وابتلعت الخائنين، وكان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يحمل القرآن في يد والسيف في الأخرى، فالسيف للقضاء على الخائنين والقرآن للهداية)(3)
وكان يقول: (إنّ نهضة الأنبياء عليهم السلام كانت دوماً هكذا، وهو أن يبرز شخص من بين المؤمنين من الطبقة المستضعَفة ويُنتَخب للدعوة، وأحد أعماله جمع الناس المستضعَفين،
__________
(1) المصدر السابق، ج 8، ص: 315
(2) منهجية الثورة الإسلامية، ص 51
(3) المصدر السابق، ص 56
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (57)
ودعوتهم ليقفوا مقابل المستكبرين، ويُهيّؤهم لذلك العمل)(1)
وكان يقول: (لقد جاءت النبوّة وبُعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أجل تحطيم معاقل الظالمين الّذين يظلمون الناس، وإنّ معاقل الظلم هذه قد قامت أسسها على كدح هؤلاء الضعفاء وعلى دمائهم واستثماراتهم، حتّى أصبحت قصوراً عالية، كان مجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتحطيم هذه المعاقل وقلع جذور الظلم هذه.. ومن جانب آخر فلأنّ الهدف أيضاً بسط التوحيد فقد قام صلى الله عليه وآله وسلم بهدم مراكز عبادة غير الخالق جلّ وعلا ومراكز عبدة النار وأطفأ نيرانهم)(2)
وكان يقول: (إن جميع الأنبياء عليهم السلام وحتى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم إنّما استهدفوا إصلاح المجتمع وجعلوا الفرد فداءً للمجتمع، إنّنا لا نملك شخصاً أسمى من الأنبياء عليهم السلام أو من هو أسمى من أئمة الهدى فهؤلاء ضحّوا بأنفسهم في سبيل المجتمع)(3)
باعتبار الولاء والولاية إيمانا وتصديقا وتنفيذا للوصايا النبوية الكثيرة المرتبطة بهم، والتي تعتبرهم سفينة النجاة، وهي من الأحاديث المتفق عليها في المصادر الإسلامية جميعا، سواء كانت سنية أو شيعية، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنِّي تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا بعدي، أحدُهما أعظمُ من الآخَر: كتاب الله، حبْلٌ ممدودٌ من السَّماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، ولن يتفرَّقَا حتى يرِدَا عليَّ الحوضَ، فانظروا كيف تَخلُفوني فيهما)(4)
وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي يوافقها ما ورد في القرآن الكريم من الأدلة على وجود خلفاء وورثة وأوصياء للأنبياء عليهم السلام، يكونون بمثابة النماذج الطيبة للاقتداء
__________
(1) منهجية الثورة الإسلامية، ص 57
(2) المصدر السابق، ص 11.
(3) المصدر السابق، ص 52.
(4) رواه الترمذي (3788)، والفسوي في (المعرفة والتاريخ)(1/ 536)
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (58)
الكامل بالنبوة، بالإضافة لحفظهم للدين من كل تحريف وتشويه، كما أخبر الله تعالى عن ذلك في قوله عن زكريا عليه السلام حينما دعا الله عز وجل في طلب الذرية الصالحة: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾ [مريم: 5، 6]
فزكريا عليه السلام حسب هذا الدعاء، لم يكن يقصد الولد لذاته، ولا ليتمتع برؤيته، وتقرّ به عينه، وإنما كان لحرصه على بني إسرائيل، خوفا من أن يؤثر فيهم غيابه عنهم، ليتحولوا عن الهداية التي جاء بها.
وهكذا أخبر عن إبراهيم عليه السلام أنه دعا الله أن يمد البشر بالأئمة الهداة الذين يحفظون مسيرة الدين من التحريف والتبديل، قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]
فإبراهيم عليه السلام ـ لحرصه الشديد على هداية الخلق ـ لم يكتف بأهل زمانه، وإنما تطلع لسائر الأزمنة، سائلا الله تعالى أن يرزقهم من أئمة الهدى من يحفظون لهم الهداية الإلهية.
وسر ذلك واضح.. ذلك أن النبوة تتضمن إيصال التعاليم الإلهية إلى العباد لتطبيقها في حياتهم، ثم يقوم الإمام بعد ذلك بشرح تلك التعاليم، وخاصة في الزمن الذي يتسلل فيه البغاة للتحريف والتبديل.
وقد أشار إلى هذا قوله تعالى ـ مشيرا إلى منابع الهداية الثلاثة: الكتاب، والنبوة، والإمامة ـ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسرائيل وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 23، 24]؛ فقد قرن الله تعالى الإمامة بالهداية، أي أن دور الإمام هو حفظ الهداية من أن يتسلل إليها المتسللون عبر استثمار المتشابه، واستعماله وسيلة للفتنة.
وهكذا ورد الإخبار عن هذه السنة الإلهية في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر: 32]، ثم بين مواقف الأمم من هؤلاء المصطفين، فقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (59)
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر: 32]
بناء على هذا نجد الاهتمام الشديد من قادة الثورة الإسلامية الإيرانية بترسيخ الولاء الصادق للعترة الطاهرة، والدعوة إلى الفهم الصحيح لأدوارهم، واستثمارها استثمارا جيدا، سواء في النواحي التربوية الخاصة بكل فرد، أو بالنواحي الاجتماعية، والتي لا تتعلق فقط بالإصلاح الاجتماعي المحدود، وإنما بالإصلاح السياسي، وما يرتبط به من الثورة على الظلمة والمستبدين.
وسنذكر هنا نماذج من كلامهم في هذين الجانبين:
مثلما كان للإيمان والتعلق الصادق بالنبوة دورها الكبير في التزكية والترقية والتربية؛ فإن للولاء الصادق لورثتها من الأئمة الهداة مثل ذلك التأثير، ذلك أنهم يمثلون النبوة بسلوكم وأخلاقهم وهديهم، كما يمثلونها في مواجهة التحريفات الخاطئة والتصويرات المشوهة التي حاول المندسون والبغاة إلصاقها بها.
وقد برر الإمام الخميني سر ذلك التأثير بقوله: (الإنسان لا يُمكنه أن يُدرك سوى عالمَ الطبيعة وكلّما ينظر بالمكبّر والمجهر، فإنّ عالمَ ما وراء الطبيعة لا يُشاهد بها، بل إنّه بحاجة إلى معاني أخرى في العمل، وبما أنّ هذه العلاقات خافية على البشر، ولا يعلم بها إلّا الباري جلّ وعلا، الّذي خلق كلّ شيء، لذا فإنّ الوحي الإلهي ينزل على أشخاص وصلوا مرحلة الكمال ونالوا الكمالات المعنويّة وفهموا، وتتحقّق علاقة بينهم وبين عالَم الوحي ويوحى إليهم، ويُبعثوا لتربية الجانب الآخر من الإنسان فيأتون إلى الناس ليربّوهم)(1)
وما ذكره عن الأنبياء عليهم السلام ينطبق على ورثتهم من الهداة الذين تمثلوا تعاليم
__________
(1) منهجية الثورة الإسلامية، ص 45.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (60)
أنبيائهم في سلوكهم؛ فصاروا أحسن مثال معبر عنها، ولهذا نجد قادة الثورة الإسلامية الإيرانية يرجعون كثيرا إلى ذكر ما ورد في سلوكهم أو أقوالهم من معان تربوية، كما فعل الإمام الخميني في كتابه المشهور [الأربعون حديثا]
وهو من أوائل كتبه، وقد قال في مقدمته مشيرا إلى غرضه منه: (كنت أحدث نفسي منذ فترة، بأن أجمع أربعين حديثا من أحاديث أهل بيت العصمة والطهارة، المدونة في الكتب المعتبرة للأصحاب والعلماء رضوان الله عليهم، وأن أشرح كلّ حديثٍ شرحاً يتناسب وفهم العامة، ومن هذا المنطلق كتبتها باللغة الفارسية كي ينتفع منها الذين ينطقون بالفارسية، ولعَلّي بذلك ـ إن شاء الله ـ أصبح ممن يشمله الحديث الشريف لخاتم الأنبياء حيث يقول: (من حفظ من أمتي أربعين حديثا ينتفعون بها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما)(1) إلى أن وفقت للبدء بذلك)(2)
وهو لهذا يذكر دائما بالعودة إلى هديهم للاهتداء به، وعدم الاكتفاء بمعرفة التفاصيل التي تؤرخ لهم، ومن الأمثلة على ذلك قوله ـ في الدعوة لمراعاة النواحي الروحية والمعنوية في الصلاة ـ: (ويشارط القلب أن يراقب هذه الأمور ويحافظ عليها ويتفكر ويتدبر في أحوال أعاظم الدين وهداة السبل أنهم كيف كانت حالاتهم في الصلاة وكيف كانوا يتعاملون مع مالك الملوك، ويتخذ من أحوال أئمة الهدى أسوة لنفسه، ويتأسى بهؤلاء الأعاظم ولا يكتفي من تاريخ حياة أعاظم الدين وأئمته بسنة وفاتهم ويومها وسنة تولدهم ويومه ومقدار أعمارهم الشريفة وأمثال تلك من الأمور التي لا تترتب عليها فائدة جليلة، بل يكون عمدة سيره في سيرهم الإيماني والعرفاني وسلوكهم، كذلك أنه كيف كانت معاملتهم في العبودية وكيف كان مشيهم في السير إلى الله وأي مقدار كانت مقاماتهم العرفانية التي تستفاد من كلماتهم
__________
(1) عيون أخبار الإمام الرضا ج 2، ح 99.
(2) الأربعون حديثا، ص 5.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (61)
الإعجازية)(1)
ثم قال متأسفا: (فيا أسفا، إنّنا نحن أهل الغفلة وسكر الطبيعة والمغرورون بالآمال خلفاء الشيطان الخبيث في جميع الأمور ولا نستيقظ أبدا من النوم الثقيل ولا نخرج عن النسيان الكثير وإن استفادتنا من مقامات أئمة الهدى ومعارفهم قليلة، بل ولا شيء يذكر أصلا واكتفينا من تاريخ حياتهم بالقشر والصورة وصرفنا النظر بالكلية عما هو غاية لبعثة الأنبياء عليهم السلام، وفي الحقيقة ينطبق علينا المثل المعروف (استسمن ذو ورم)(2)
ثم راح يذكر بعض الروايات في هديهم في الصلاة مقدما لها بقوله: (ونحن نذكر في هذا المقام بعض الروايات الواردة في هذا الباب فلعله يحصل التذكر لبعض الاخوان المؤمنين والحمد لله وله الشكر.. ومنها ما روي أن الإمام السجاد كان إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه فاذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقا.. وقيل للإمام الباقر: إني رأيت علياً بن الحسين إذا قام إلى الصلاة غشي لونه لون آخر، فقال: والله إن علياً بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه)(3)
وغيرها من الروايات الكثيرة التي عقب عليها بقوله: (والأخبار الشريفة في هذه الموضوعات أكثر من أن تسعها هذه الرسالة، وفي التفكر فيما ذكر منها كفاية لأهل التذكر والتفكر بالنسبة إلى الآداب الصورية وبالنسبة إلى الآداب القلبية والمعنوية وكيفية القيام بين يدي الله.. وتفكر في حالات علي بن الحسين (الإمام السجاد) ومناجاته مع الحق تعالى وأدعيته اللطيفة التي تعلّم آداب العبودية لعباد الله تعالى، لا أقول أن مناجاتهم عليهم السلام كانت لتعليم العباد فإن هذا الكلام بلا مغزى وباطل صادر من الجهل لمقام الربوبية، ومعارف أهل
__________
(1) الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني، ص 280.
(2) المصدر السابق، ص 280.
(3) المصدر السابق، ص 280.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (62)
البيت فإن خوفهم وخشيتهم كانت أكثر من جميع الناس وقد تجلت عظمة الحق وجلاله في قلوبهم أكثر من الكل ولكني أقول: لابد أن يتعلم عباد الله منهم كيفية العبودية والسلوك إلى الله تعالى، فإذا قرأوا أدعيتهم ومناجاتهم فلا تكون القراءة لقلقة اللسان بل يتفكرون في كيفية تعاملهم مع الحق وإظهارهم التذلل والعجز والحاجة للذات المقدسة ولعمر الحبيب أن علي بن الحسين من أعظم النعم منّ بها ذات الحق المقدسة على عباده وأنزله من عالم القرب والقدس لأجل تفهيم عباده طرق العبودية ولتسألنّ يومئذ عن النعيم.. واذا سئلنا لماذا ما قدّرنا هذه النعمة وما استفدنا من هذا الرجل العظيم؟ فلا تحير جوابا غير أن ننكس برؤوسنا ونحترق بنار الندامة والأسف، ولا ينفع حينذاك الندم)(1)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يذكّر كثيرا بالأدوار التربوية للولاء لأئمة الهدى، ومن الأمثلة على ذلك قوله في ذكر ميلاد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، داعيا الشعراء والمداحين إلى تعميق المعاني التربوية أثناء مدحهم لأئمة الهدى: (إن أحد العوامل التي يمكن أن تؤدي هذا العمل الكبير هو نشر المعارف الإسلامية والمعنوية والثورية بصورة واضحة ونشر محبة أهل البيت عليهم السلام مهما أمكن في القلوب وفي أرواح الناس، وهذه مسؤولية ملقاة اليوم على عاتقنا جميعاً، فالمداحون يتحمّلون جزء منها، وهو جزء مهمٌ أيضاً.. بهذه العين انظروا إلى مهنة المدّاح؛ فعندما تقفون هناك من أجل القراءة اشعروا أنكم قد وقفتم كمبلّغين للدين وكحملة للحقائق الدينية في أعظم الأساليب تأثيراً، فلو وُجد هذا الشعور سيضيق مجال اختيار الشعر، وكذلك كيفية الأداء ومن يريد أن يؤدي هذه المسؤولية، لا بد من ذلك)(2)
ويقول: (عليكم أن تنظروا إلى المدّاح على أنه معلّمٌ يريد أن يعلّم مستمعه شيئاً.. فإذا
__________
(1) المصدر السابق، ص 283.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 207.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (63)
كنتم تتلون الشعر فليكن شعر المعرفة، شعراً تعليمياً.. افرضوا أنكم تريدون أن تعرّفوا بفاطمة الزهراء عليها السلام، فقوموا بذلك بحيث يستلهم المسلم أو المرأة أو الشاب منها دروس الحياة، فيشعر في قلبه بالخشوع والخضوع والتعلّق تجاه هذه المرأة التي تجسّد القداسة والطهارة والحكمة والمعنويات والجهاد.. هذه هي طبيعة الإنسان، فنحن تابعون للكمال ونصبو إليه؛ فلو تمكنّا من إيجاد الكمال في أنفسنا سنفعل، ولو لم نتمكّن، فإننا سننجذب إلى من هو صاحب هذا الكمال وبشكلٍ طبيعي؛ فنقوم ببيان هذا الكمال في فاطمة الزهراء وفي أمير المؤمنين وفي الأئمة الأطهار للمستمعين، حتى يرتوي مستمعنا من هذه المعرفة التي تشبه الماء الزلال الذي يأتيه في قالب الشعر وفي قالب الكلام الموزون وخصوصاً إذا كان في قالب الصوت الحسن واللحن الصحيح والجيّد؛ فيسري إلى كل أجزاء بدنه، ومثل هذا العمل لا يقدر عليه الكثير من الخطباء أو الفنانين أو المعلمين ولكنكم قادرون عليه لو قمتم به)(1)
ونحب أن نضيف إلى ما ذكره قادة الثورة الإسلامية الإيرانية هنا ما ذكره الشهيد مطهري من الأدلة العقلية على دور تعميق الولاء الروحي لأئمة الهدى في تحقيق التربية والتزكية والترقية، وقد ذكر ذلك في بحث مفصل، قال في مقدمته: (إنّ أهم بحث من بحوثنا ـ وهو بحثنا الأصل في الواقع ـ هو معرفة ما إذا كان حب الأولياء والصالحين يعتبر هدفاً بحد ذاته والوسيلة الفضلى لتهذيب النفس وإصلاح الأخلاق وكسب السجايا والفضائل الإنسانية.. في الحب الحيواني، يتوجه كلّ اهتمام العاشق وعنايته إلى صورة الحبيبة وتناسق أعضائها وجمال ملامحها وطراوة بشرتها، وفي هذا الحب تكون الغريزة هي الّتي تجذب الإنسان وتلهب فيه الرغبة، ولكن بعد أن يشبع شهوته يخبو ذلك اللهيب وتبرد حرارته وتنطفئ شعلته.. أمّا الحب الإنساني، فهو الحياة وهو الّذي يصنع الأتباع الطائعين، كما قلنا.. إنّ الحب هو الّذي يشاكل
__________
(1) المصدر السابق، ص 208.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (64)
بين العاشق والمعشوق، فيسعى المحب لأن يكون مظهراً من مظاهر الحبيب ونسخة من سلوكه)(1)
ثم استشهد لذلك بما قاله فلاسفة الأخلاق، ومنهم العلامة نصيرالدين الطوسي الذي قال في شرح إشارات ابن سينا: (والنفساني هو الّذي يكون مبدؤه مشاكلة نفس العاشق لنفس المعشوق في الجوهر، ويكون أكثر اعجاباً بشمائل المعشوق لأنّها آثار صادرة عن نفسه.. وهو يجعل النفس لينة شيقة ذات وجد ورقة، منقطعة عن الشواغل الدنيوية)(2)
ثم علق عليه بقول: (فالحب يسوق الإنسان نحو المشابهة والمشاكلة، وما فيه من قدرة تجعل المحب يكون بشكل المحبوب.. الحب كأسلاك الكهرباء الّتي تصل بين المحبوب والمحب؛ فتنقل إليه صفات المحبوب، ولهذا كان لاختيار المحبوب أهمية بالغة.. ولذلك أولى الإسلام اهتماماً كبيراً بموضوع اختيار الأحبة والأصدقاء، وقد وردت في ذلك آيات وروايات كثيرة، لأنّ الصداقة تصطنع الصبغة وتصطنع الجمال، وتصطنع الغفلة، فحيثما ألقت بأشعتها قلبت العيوب فنوناً، وأحالت الأشواك ورداً وريحاناً)(3)
ثم استعرض المدارس الأخلاقية ووسائلها المختلفة في التربية، مبينا أن أجداها وأقربها إلى تحقيق أغراضها تلك التي تستعمل الحب والولاء الصادق.
وقد ضرب مثالا لذلك بالمدارس التي تعتمد العقل المجرد في التربية، فقال: (هنالك عدة طرق لتهذيب النفس وإصلاح الأخلاق، كما أن هناك مدارس مختلفة لذلك، منها مدرسة سقراط الّتي ترى أنّ على المرء أن يعتمد العقل في إصلاح نفسه، فيلزمه أوّلا أن يدرك فوائد تزكية النفس ومضار اختلال الأخلاق، ثمّ يقوم بواسطة آلة العقل بالبحث عن الصفات
__________
(1) الإمام عليّ في قوّته الجاذبة والدافعة، مرتضى مطهري، ص 32.
(2) نقلا عن: المصدر السابق، ص 33.
(3) المصدر السابق، ص 33.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (65)
المذمومة واحدة واحدة فيقتلعها كما يقتلع المرء الشعيرات من داخل أنفه واحدة واحدة، أو كالزارع الّذي يقتلع الحشائش الضارة من أرضه، أو ينظف قمحه مما فيه من أحجار وصخيرات بيده، وبذلك يكون قد نظف بيدر حياته من الشوائب.. وعلى وفق هذا الأسلوب لابدّ من الالتزام والصبر والجلد والدقة في الحساب والتفكير لكي يمكن بالتدريج إزالة المفاسد الأخلاقية وتنقية ذهب الوجود من أوشابه، ولربما أمكن القول بأنّ ذلك غير متيسر للعقل أن يضطلع به.. الفلاسفة يريدون إصلاح الأخلاق من العقل والفكر والتفكير.. فهم يقولون مثلا: إن العفة والقناعة في نظر الناس هما اللذان يؤديان إلى عزة الإنسان وشخصيته، وإنّ الطمع والجشع هما باعثا الذلة والضعة.. أو يقولون: إنّ العلم سبب القوّة والقدرة، وإنّه كذا وكذا، وإنّه (خاتم ملك سليمان) وإنّه سراج في طريق الإنسان ينير له الطريق ويكشف المهاوي)(1)
ثم بين صعوبة هذا المسلك، وعدم تمكن جميع الناس من استعماله، فقال: (لاشك في أن هذا طريق صحيح، وأنّ هذه وسيلة جيدة، ولكن الكلام يدور على قيمة هذه الوسيلة بالقياس إلى وسيلة أُخرى، كالقول بأن السيارة وسيلة جيدة، ولكن ينبغي معرفة درجة جودتها بالنسبة للطائرة مثلا.. نحن ـ قبل كلّ شيء ـ لا نجادل في قيمة العقل من حيث عمله الإرشادي، أي إلى أي مدى تكون الاستدلالات العقلية قادرة على اظهار الواقع في القضايا الأخلاقية ومدى صحتها وعدم صحتها، ولكن الّذي نريد أن نقوله هو أن المدارس الفلسفية الأخلاقية والتربوية لا تعد ولا تحصى، وما زالت هذه القضايا الاستدلالية تدور ضمن حدود البحث واختلافات وجهات النظر)(2)
__________
(1) المصدر السابق، ص 35.
(2) المصدر السابق، ص 34.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (66)
وفي مقابل هذه المدرسة ذكر المدارس الصوفية التي تعتمد الحب والولاء وسيلة للتربية، فقال: (إنّ رجال العرفان والسير والسلوك قالوا باستبدال طريق العقل والاستدلال بطريق المحبة والولاء.. يقولون: ابحث عن الإنسان الكامل، ضع حبل حبه والولاء له في عنق قلبك، فذلك أقل خطراً من الاستدلال وأسرع في بلوغ المرام)(1)
ثم بين الفرق بين المدرستين العقلية والصوفية في هذا المجال، فقال: (من حيث المقارنة بين هاتين الوسيلتين فإنّهما تكونان كالمكائن اليدوية القديمة والمكائن الآلية الحديثة.. إنّ تأثير قوة الحب والولاء في إزالة الرذائل الأخلاقية من القلب أشبه بتأثير المواد الكيماوية على المعادن، فصانع (الكلايش) مثلا يزيل أطراف الحروف الطباعية بالتيزاب، لا بظفره أو بالسكين.. ولكن تأثير قوة العقل في إصلاح المفاسد الأخلاقية أشبه بمن يريد أن يفصل ذرات الحديد عن التراب باليد، فكم سيكون عناؤه وتعبه في هذا السبيل؟! إذ لو كان بيده مغناطيس قوي لاستطاع بإدارة المغناطيس دورة واحدة في التراب أن يجتذب كلّ ذرات الحديد مرة واحدة.. إنّ قوة المحبة والولاء هي المغناطيس الّذي يجمع الصفات الرذيلة ويلقي بها بعيداً)(2)
ويستدل على ذلك بالواقع والتجربة، فيقول: (يرى أهل العرفان أنّ حب الأطهار والكاملين والولاء لهم يعمل كالجهاز الآلي الّذي يجمع الرذائل ويطرحها جانباً؛ فلو أصبح المرء مجذوباً بحقّ لكان في أحسن حال من الصفاء والنبوغ.. نعم، إنّ الّذين سلكوا هذا الطريق طلبوا إصلاح الأخلاق من قوة الحب واعتمدوا في ذلك على قدرة العشق والولاء، ولقد دلت التجارب على أنّ مطالعة مئات الكتب الأخلاقية لم تؤثر بقدر أثر مصاحبة الصالحين وحبهم ومتابعتهم في الروح)(3)
__________
(1) المصدر السابق، ص 35.
(2) المصدر السابق، ص 35.
(3) المصدر السابق، ص 35.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (67)
ويقول: (نرى أحيانا بعض العظماء الّذين يقلدهم أتباعهم حتّى في طراز مشيتهم وملابسهم وتعاملهم وطريقة حديثهم.. إنّ هذا التقليد ليس اختياراً، بل هو طبيعي يحدث بغير وعي وبتأثير قوة الحب والولاء الّتي تؤثر في جميع أركان وجود المحب، فتعمل على أن تجعله في جميع الأحوال أشبه بالحبيب، ولهذا فعلى كلّ امرئ يريد إصلاح نفسه أن يبحث عن أحد رجال الحقيقة فيمحضه حبه لكي يستطيع أن يصلح نفسه حقّاً)(1)
ويذكر من الأمثلة على ذلك ما حصل لجلال الدين الرومي ولقائه بشمس التبريزي، فيقول: (يشير التاريخ إلى رجال عظام أثار حب الكاملين والولاء لهم ـ في نظر المحبين في الأقل ـ ثورة في أرواحهم ونفوسهم.. والشاعر (رومي) واحد من أُولئك، إذ أنّه لم يكن منذ البداية بهذه الحرقة والثورة.. كان عالماً هادئاً منصرفاً إلى التدريس في زاوية من مدينته، ولكنه منذ اليوم الّذي التقى فيه (شمس) التبريزي، وهب له قلبه وروحه وولاءه، فأحاله هذا إلى شخص مختلف وأشعل في قلبه النيران كالشرر إذ يصيب مخزناً للبارود)(2)
وبناء على هذا يذكر ما لحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتعلق به من التأثير التربوي الكبير، فيقول: (في التاريخ الإسلامي نشاهد نماذج بارزة لم يسبق لها مثيل من حب المسلمين وتعلقهم بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا في الحقيقة واحد من الاختلافات بين مدرسة الأنبياء عليهم السلام ومدرسة الفلاسفة، ففي هذه يكون الطلاب متعلمين فحسب، بغير أن يكون للأساتذة الفلاسفة أي تأثير في نفوس طلابهم أكثر من تأثير أي معلم في تلميذه.. أمّا الأنبياء فنفوذهم من قبيل نفوذ الحبيب، ذلك الحبيب الّذي يكون قد نفذ إلى أعماق قلب محبه واستولى على جميع حياته ووجوده)(3)
__________
(1) المصدر السابق، ص 36.
(2) المصدر السابق، ص 37.
(3) المصدر السابق، ص 38.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (68)
وبعد أن استعرض الأمثلة على ذلك من حب الصحابة المنتجبين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (إنّ من بين حقائق الإسلام التاريخية، الّتي تثير إعجاب كلّ دارس للتاريخ وعالم بالإنسان وبالمجتمع، ذلك الانقلاب الّذي أحدثه الإسلام في حرب الجاهلية؛ فبموجب الموازين والحسابات العادية وبالطرق المألوفة في التربية والتعليم، يتطلب مجتمع كذاك إلى مضي زمان طويل حتّى ينقرض الجيل القديم الّذي ألِفَ الرذائل والفساد ويتربى جيل جديد مختلف، ولكننا هنا ينبغي ألا نغفل عن قوة الجذب والانجذاب الّتي قلنا: إنّها مثل ألسنة اللهب تحرق المفاسد من جذورها.. كان أغلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعشقونه العشق كلّ العشق، وإنّ مطية الحب الّتي ركبوها هي الّتي طوت لهم ذلك الزمن الطويل في فترة قصيرة، فغيروا مجتمعهم في أقصر وقت)(1)
وبناء على هذه المقدمة، راح يفسر المعاني التربوية الواردة في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23]، فيقول: (هنا يتبادر للذهن هذا السؤال: لماذا لم يطلب الأنبياء السابقون أي أجر، وطلب نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم أجراً من الناس هو حب أقربائه الأدنين؟)(2)
ثم أجاب على ذلك بقوله: (القرآن نفسه يجيب على هذا السؤال بقوله: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سبأ: 47].. أي إنّ ما طلبته من أجر إنّما يعود نفعه عليكم، إذ أنّ هذه المودة ليست سوى ذريعة تتوصلون بها إلى إصلاح ذواتكم وإلى التكامل الإنساني.. هذا هو الأجر، ولكنه في الحقيقة خير آخر أعرضه عليكم، وذلك لأنّ أهل البيت وذوي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُناس طاهرو الذيل غير ملوثين.. فحبهم والتمسك بهم لا يعني سوى طاعة الله والتزام الفضائل.. إنّ حبهم هو الإكسير الّذي يقلب
__________
(1) المصدر السابق، ص 44.
(2) المصدر السابق، ص 45.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (69)
الأحوال ويوصل إلى الكمال)(1)
ثم ذكر النواحي التي تستدعي حب العترة الطاهرة، وأنها لا تتعلق بقرابتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط، وإنما بالقيم التي كانوا يمثلونها، وقد ضرب مثالا على ذلك بالإمام علي، الذي ورد في المصادر السنية والشيعية الحث على حبه، يقول: (لقد كان عليّ محبوب القلوب ومعشوق الناس، فلماذا؟ وكيف؟.. فيم امتياز عليّ بحيث أثار العشق فولهت به القلوب، فاصطبغ بصبغة الحياة الخالدة؟ لماذا ترى القلوب نّها شديدة القرب منه، ولا تحسبه قد مات، بل تراه حياً يرزق؟)(2)
ثم أجاب على هذه التساؤلات بقوله: (لاشك أن مبعث الحب فيه ليس جسمه، لأنّ جسمه لم يعد الآن بيننا، وما كنا أحسسنا به.. إنّ حبه ليس من قبيل حب الأبطال الشائع في الأُمم.. كما نكون قد جانبنا الصواب إن قلنا: إنّ حبنا عليّاً تابع لحبنا الفضائل الأخلاقية والإنسانية، وإنّ حب عليّ هو حب الإنسانية.. صحيح أنّ عليّاً كان تجسيداً للإنسان الكامل، وصحيح أنّ الإنسان يحب مثل الإنسانية السامية.. ولكن لو أنّ جميع الفضائل الّتي امتاز بها عليّ من الحكمة، والعلم، والتضحية، ونكران الذات، والتواضع، والأدب، والمحبة، والعطف، والأخذ بيد الضعيف، والعدالة، والحرية، وحب الحرية، واحترام الإنسان، والإيثار، والشجاعة، والمروءة، والفتوة نحو العدو، والسخاء والجود والكرم.. لو أنّ كلّ ما تحلى به عليّ من الفضائل لم يكن مصطبغاً بالصبغة الإلهية، لما كان على هذا القدر الّذي نراه عليه اليوم من استثارة للانفعال واجتذاب للحب.. فعليّ محبوب لكونه مرتبطاً بالله.. إنّ قلوبنا ترتبط في أعماقها، وبغير وعي منا، بالله)(3)
__________
(1) المصدر السابق، ص 45.
(2) المصدر السابق، ص 48.
(3) المصدر السابق، ص 49.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (70)
وطبعا لا يمكننا في هذا المحل المختصر أن نذكر كل ما ورد عن قادة الثورة الإسلامية الإيرانية من القيم التربوية المرتبطة بحب العترة الطاهرة، ولكنا قصدنا من ذكر التفاصيل السابقة، وخصوصا ما ذكره الشهيد مطهري الرد على الذين يتوهمون أن الولاء مجرد دعاوى فارغة لا قيمة لها في الواقع، مع أنها وسيلة من أكبر وسائل التربية والصلاح.
مثلما اهتم قادة الثورة الإسلامية بإبراز الجانب الحركي للأنبياء عليهم السلام في مواجهة الظلم والطغيان، وإقامة العدل والقسط، نجدهم كذلك يهتمون بإبراز هذا الجانب في سير أئمة الهدى، باعتبارهم الورثة الحقيقيين الممثلين للنبوة في أجمل صورها.
ولهذا نجدهم يقرنون بين ذكر الأنبياء عليهم السلام ومسيرتهم الحركية بمسيرة أوصيائهم وورثتهم، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني: (لقد بُعث الأنبياء عليهم السلام لإصلاح المجتمع وكلّهم كانوا يؤكِّدون أنَّه ينبغي التضحية بالفرد من أجل المجتمع مهما كان الفرد عظيماً، وحتّى لو كان الفرد أعظم من في الأرض فإذا اقتضت مصلحة المجتمع التضحية بهذا الفرد فعليه أن يضحّي.. وعلى هذا الأساس نهض سيّد الشهداء وضحّى بنفسه وأصحابه وأنصاره، فالفرد يفدي في سبيل المجتمع فإذا توقّفت مصلحة المجتمع على تضحيته وجب التضحية، إنّ العدالة ينبغي أن تتحقّق بين الناس ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]﴾)(1)
وكان يقول: (إنّ حياة سيّد الشهداء وحياة الإمام المهدي وجميع الأنبياء من آدم عليه السلام حتّى الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم كانت تدور حول محور إرساء وإقامة حكومة العدل في مقابل
__________
(1) نهضة عاشوراء، ص 46.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (71)
الظلم)(1)
وهكذا نجده في كل المناسبات يذكر الأمة والشيعة خصوصا بهذه الأدوار المغيبة عن العقل المسلم، والتي حصرت أدوار الأئمة في بعض الشؤون دون أن تمتد بها إلى الواقع بجميع نواحيه، يقول في ذلك: (إنّنا نفخر لأنّ أئمّة الهدى سُجنوا ونُفوا من أجل تعالي الدِّين الإسلاميّ ومن أجل تطبيق القرآن الكريم الّذي يعتبر أنّ تشكيل حكومة العدل أحد أبعاده، واستشهدوا في النهاية في طريق الإطاحة بالحكومات الجائرة وطواغيت زمانهم)(2)
ويذكر أن هذا من خصائص الولاء الصادق لأئمة الهدى، فيقول: (إنّ واحدة من خصائص التشيُّع الذاتيّة منذ البداية وحتّى اليوم هي المقاومة والانتفاض بوجه الدكتاتوريّة والظلم، حيث يُشاهد ذلك على طول تاريخ الشيعة)(3)
وهكذا نجده في المناسبات المختلفة المرتبطة بأئمة الهدى، لا يكتفي بالسرد المؤثر كعادة أصحاب مجالس العزاء، وإنما يضم إلى ذلك تبيان الأدوار الحركية، وكيفية تجسيدها وإحيائها في الواقع، ومن الأمثلة على ذلك قوله: (إنّ مجيء سيّد الشهداء إلى مكّة وخروجه منها بتلك الحال يعدّ حركة سياسيّة كبيرة، ففي الوقت الّذي كان فيه الحجيج يدخلون مكّة كان الحسين يُغادرها وهي حركة سياسيّة، فكلّ سلوكات الحسين وأعماله كانت سياسيّة إسلامية وهي الّتي قضت على بني أميّة ولولا ذلك الدم لكان سُحِق الإسلام وانتهى)(4).
وهو يفسر حركات الأئمة من خلال قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ﴾ [سبأ: 46]، فيقول: (قام أمير المؤمنين لله عندما شاهد دين الله في خطر وأنّ معاوية يُحرِّف دين
__________
(1) المصدر السابق، ص 47.
(2) منهجية الثورة الإسلامية، ص 470.
(3) المصدر السابق، ص 127.
(4) نهضة عاشوراء، ص 64.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (72)
الله ونفس الشيء بالنسبة لسيّد الشهداء فقد قام لله وهذا أمر لا يختص بزمن معيّن إنّ موعظة الله دائميّة)(1)
ويقول عن حركة الإمام الحسين: (عندما يرى سيّد الشهداء أنّ حاكماً ظالماً جائراً يحكم الناس فإنّه يُصرِّح ويقول إنّ من يُشاهد حاكماً جائراً يحكم بين الناس ويظلمهم فيجب عليه أن يقف بوجهه ويمنعه بقدر استطاعته.. إنّ بضعة أنفار لم يكونوا شيئاً يُذكر أمام ذلك الجيش، ولكنّها المسؤوليّة والتكليف إذ كان يجب عليه أن ينتفض، ويُقدِّم دمه حتّى يُصلح هذه الأمّة وحتّى يقضي على راية يزيد، وهذا ما قام به فعلاً فقد قدّم دمه ودم أولاده، وكلّ ما يملك من أجل الإسلام)(2)
ويقول: (عندما رأى سيّد الشهداء أنّ هؤلاء يُسيؤون بأعمالهم إلى سمعة الإسلام ويُشوِّهون صورته باسم خلافة الرسول ويرتكبون المعاصي ويحكمون بالظلم والجور وأن انعكاس ذلك على الصعيد العالميّ هو أنّ خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُمارس هذه الأعمال، فرأى من واجبه أن ينهض ويثور حتّى لو أدّى الأمر إلى مقتله، المهمّ هو إزالة ما تركه معاوية وابنه من آثار على الإسلام)(3)
وهو أثناء ذلك يرد على تلك التشويهات التي فسرت بها حركة الإمام الحسين، فيقول: (لقد قُتل سيّد الشهداء ولم يكن طامعاً في الثواب، فهو لم يعر هذا الأمر كثير الاهتمام، لقد كانت نهضته لإنقاذ الدِّين ولإحياء الإسلام ودفع عجلته إلى الأمام)(4)
ويتحدث عن الثمار المباركة لتلك الثورة، فيقول: (لكن إرادة الله تبارك وتعالى شاءت ـ
__________
(1) منهجية الثورة الإسلامية، ص 469.
(2) المصدر السابق، ص 468.
(3) المصدر السابق، ص 43.
(4) المصدر السابق، ص 52.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (73)
وما تزال ـ أن يخلد الإسلام المنقذ للشعوب والقرآن الهادي لها وأن تحييه دماء شهداء من أمثال أبناء الوحي وتصونه من أذى الدهر، منذ بعث الحسين بن عليّ ـ عصارة النبوّة وتذكار الولاية ـ كي يُضحّي بنفسه وبأرواح أعزّته فداء لعقيدته ومن أجل أمّة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم العظيمة كي تبقى دماؤه الطاهرة تغلي على امتداد التاريخ وتجري دفّاقة لتروي شجرة دين الله وتصون الوحي وتحفظ معالم الدِّين.. لقد أثمرت شهادة سيّد المظلومين وأتباع القرآن في عاشوراء خلود الإسلام وكتبت الحياة الأبديّة للقرآن الكريم)(1)
ويقول: (لولا سيّد الشهداء لاستطاع هؤلاء تقوية وتدعيم نظامهم الطاغوتيّ ولأعادوا الوضع إلى ما كان عليه في الجاهليّة، لولا هذه الثورة المباركة لكنّا أنا وأنتم الآن مسلحين من النوع الطاغوتيّ لا على النهج الحسينيّ.. لقد أنقذ الإمام الحسين الإسلام)(2)
وهو يتتبع كل الجزئيات والتفاصيل المرتبطة بحياة أئمة الهدى، ليشكل منها الوعي الجماهيري بضرورة الحركة، ومن كل الناس، يقول: (لقد أفهمنا سيّد الشهداء وأهل بيته وأصحابه أنّ على النساء والرجال ألّا يخافوا في مواجهة حكومة الجور، فقد وقفت زينب في مقابل يزيد ـ وفي مجلسه ـ وصرخت بوجهه وأهانته وأشبعته تحقيراً لم يتعرّض له جميع بني أميّة في حياتهم؛ كما أنّها عليها السلام والسجاد عليه السلام تحدّثا وخطبا في الناس أثناء الطريق وفي الكوفة والشام، فقد ارتقى الإمام السجّاد المنبر وأوضح حقيقة القضيّة وأكّد أنّ الأمر ليس قياماً لأتباع الباطل بوجه الحقّ، وأشار إلى أنّ الأعداء قد شوّهوا سمعتهم وحاولوا أن يتّهموا الحسين بالخروج على الحكومة القائمة وعلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد أعلن الإمام السجّاد الحقيقة بصراحة على رؤوس الأشهاد وهكذا فعلت زينب أيضاً)(3)
__________
(1) المصدر السابق، ص 52.
(2) المصدر السابق، ص 62.
(3) نهضة عاشوراء، ص 24.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (74)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يسير على درب أستاذه في استثمار الجانب الحركي من سير أئمة الهدى في الدعوة لإصلاح الواقع بجميع جوانبه، وله في ذلك نظرية رائعة جدا يفسر بها حركة كل أئمة الهدى من هذه الزاوية، وكأنهم شخص واحد، وهو بذلك يرد على كل التلبيسات والشبهات والمفاضلات التي يجريها البعض على الأئمة دون اهتمام بالظروف التي مر بها كل إمام، والتكليف الشرعي المناط به.
وعنوان الكتاب هو [إنسان بعمر 250 سنة]، وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات والدراسات التي ألقاها ودوّنها الإمام الخامنئي حول أئمة الهدى، في المؤتمر العالمي للإمام الرضا عام 1986 م.
ويتضمّن الكتاب (رؤية تحليلة كلّية لحياة كل إمام بالنظر إلى المسار التاريخي لمرحلة إمامته، وفي إطار رؤية متكاملة ومترابطة مع باقي الأئمة الأطهار، بحيث غدت سيرتهم الجهادية بمثابة عرض منسجم ومترابط لحركة واحدة متّصلة ومتواصلة نحو مقصد واحد وغرض مشخّص.. وهو يهدف بشكل أساسي إلى تكوين رؤيا واضحة عن الحياة السياسية للأئمة الأطهار، وإلى تسليط الضوء والبحث عن عنصر الجهاد والمواجهة السياسية التي اتسمت بها حياتهم المباركة، والمقصد الحقيقي الذي كانوا يرمون الوصول إليه)(1)
وتدور فكرة هذه الرؤية على النظر إلى الأئمة على (أنّهم شخص واحد يحيا بأهداف واضحة ومحدّدة على المستوى المرحلي والاستراتيجي؛ يسعى دون كلل أو ملل للوصول إلى هذه الأهداف، والتي هي نفسها أهداف هذا الدين الحنيف والرسالة المحمدية الأصيلة.. وقد امتدت حياة هذا الإنسان على طول حياة أئمة الهدى، أي من سنة 11 للهجرة حتى عام 260 للهجرة، ليكون إنساناً بعمر 250 سنة، ومن هنا اقتبس عنوان هذا الكتاب؛ من كلمات القائد
__________
(1) من مقدمة كتاب: إنسان بعمر 250 سنة، السيد علي الخامنئي، ص 3.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (75)
نفسها)(1)
وقد ورد في مقدمة الكتاب بيان لأسباب طرح هذه النظرية المهمة، والظروف التي دعت إليها، حيث يقول الإمام الخامنئي: (إنّ غربة أئمة الهدى لم تقتصر على الفترة الزمنيّة الّتي عاشوها في حياتهم، بل استمرّت لعصور متمادية من بعدهم، والسبّب في ذلك يرجع إلى إهمال الجوانب المهمّة بل والأساسية من حياتهم.. ومن المؤكّد أنّ هناك كتباً ومؤلّفاتٍ كثيرة قد حَظِيت بمكانة رفيعة لا نظير لها، وذلك لما حملته في طيّاتها من روايات تصف حال أئمة الهدى، ولما نقلته للأجيال المتعاقبة من أخبار تصف سيرتهم، ولكنّ عنصر المواجهة السياسيّة الحادّة، والّتي تمثّل الخطّ الممتد لحياة أئمّة الهدى عليهم السلام طيلة 250 سنة، قد ضاع في طيّات الروايات والأحاديث، وذكر الأحوال الناظرة إلى الجوانب العلميّة والمعنويّة)
ثم ذكر المعاني الحركية السامية التي تنطوي عليها حياة الأئمة، فقال: (يجب علينا أن ننظر إلى حياة أئمة الهدى كدرس وأسوة، لا كمجرّد ذكريات قيّمة وعظيمة حدثت في التاريخ.. وهذا لا يتحقّق إلّا بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب السياسي من سيرة هؤلاء العظماء عليهم السلام)
ثم ذكر مبدأ اهتمامه بهذا الطرح الحركي، فقال: (أنا شخصياً عندي رغبة شديدة في الاطّلاع على هذا الجانب المهمّ من حياتهم، وأوّل مرّة شعرت بأهميّة هذه المسألة كان عام (1971 م) أي في مراحل المحنة الّتي سبقت الثورة، ومع أنّني قبل تلك الفترة كنت أنظر إلى أئمة الهدى بعنوان أنّهم شخصيّات مجاهدة ومكافحة لإعلاء كلمة التوحيد وإقامة الحكومة الإلهية، إلّا أنّ النقطة المهمّة الّتي وصلت إليها في تلك الفترة هي أنّه على الرغم من الاختلاف الظاهري بين سيَرهم حتّى أنّ بعض الناس ليشعر بالاختلاف الشاسع وبالتناقض فيها، إلا أنّها
__________
(1) المصدر السابق، ص 5.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (76)
عبارة عن مسيرة واحدة استمرّت 250 سنة ابتداءً من سنة 11 هـ إلى 260 هـ أي انتهت ببداية الغيبة الصغرى للإمام الحجّة)(1)
ثم بين قيمة هذه النظرة، وتأثيرها في الاقتداء والاهتداء الصحيح، فقال: (هؤلاء العظماء كانوا شخصاً واحداً.. ولا ينبغي الشكّ بأنّ هدفهم هو واحدٌ.. ولذلك فإنّنا وبدل أن ندرس حياة كلّ من الإمام الحسن والحسين والسجّاد بصورة منفصلة عن الأخرى، حتّى لا نقع في فخّ هذا الخطأ الخطر من وجود التناقض والتعارض بين سيرة هؤلاء الأئمّة الثلاثة بسبب وجود هذا الاختلاف الظاهريّ، يجب أن نفرض وجود إنسان عمّر 250 سنة، وفي سنة 11 للهجرة وضع أوّل قدمٍ له على الطريق، حتّى قطعه عام 260 للهجرة، عندها سوف تصبح كلّ حركات هذا الإنسان، العظيم، قابلةً للفهم والتفسير وفق هذا المنظار، فإنّ أيّ إنسان يملك شيئاً من العقل والحكمة، ولا نقول يملك شيئاً من العصمة، تكون له تكتيكات ومواقف موضعيّة خاصّة خلال حركته البعيدة المدى.. وقد يجد هذا الإنسان أنّه من الضروريّ أن يُسرِع في حركته تارةً، وأن يبطئ تارةً أخرى، أو حتّى أن يتراجع تراجعاً حكيماً في مواضع أخرى.. والإنسان العاقل والحكيم والعارف سيرى في هذا التراجع، بالنظر لهدف هذا الإنسان، حركة وتقدّماً نحو الأمام.. من هذا المنظار تُعتبر حياة الإمام أمير المؤمنين، والإمام المجتبى، والإمام الحسين، والأئمّة الثمانية من ولدهم، حركة واحدة ومستمرّة حتّى سنة 260 للهجرة)(2)
ثم ذكر مبدأ تشكل هذه الفكرة لديه، وأنها كانت قبل انتصار الثورة الإسلامية، فقال: (وقد التفتُّ في تلك السنة (1971 م) إلى هذا الأمر، ودخلت في دراسة حياتهم، من هذا المنظار، وعاودتُ النظر مرّةً أخرى وكلّما توغّلت وجدتُ أنّ هذه الفكرة صائبة.. إنّ الالتفات
__________
(1) المصدر السابق، ص 7.
(2) المصدر السابق، ص 8.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (77)
إلى الحياة المستديمة لهؤلاء العظماء من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتلازم مع التوجّه السياسيّ، يستحقّ أن يُفرد له فصلٌ خاصّ مستقلّ، وقد قرّرتُ القيام بهذا الأمر)(1)
وقد لخص في بداية الكتاب الأدوار الحركية لأئمة الهدى عموما، فقال: (كان سعي الأئمّة ومنذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحتّى عام 260 هـ هو إيجاد وتأسيس حكومة إلهيّة في المجتمع الإسلاميّ، وهذا هو الأصل المدّعى، ولا نستطيع القول إنّ كلّ إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره، ولكن كلّ إمام كان يهدف إلى تأسيس حكومة إسلامية مستقبلية، أكان ذلك في المستقبل البعيد أو القريب.. مثلاً هدف الإمام المجتبى كان تأسيس حكومة إسلامية في المستقبل القريب.. وأمّا الإمام السجّاد، وبحسب اعتقادي، كان يهدف إلى تأسيس حكومة إسلامية في المستقبل المتوسّط، ولدينا شواهد في هذا المجال نذكرها فيما بعد.. أمّا الإمام الباقر فيوجد احتمال كبير أنّه سعى لتأسيس حكومة في المستقبل القريب، وأمّا بعد شهادة الإمام الثامن فأغلب الظنّ أنّ الأمر صار متوجّهاً إلى المدى البعيد.. إذاً، إنّ هدف تأسيس الحكومة كان نصب أعين الأئمّة دائماً، لكن الزمن المنشود لتأسيسها وقيامها كان يختلف من إمامٍ إلى آخر.. وهذا هو معنى النضال السياسي)(2)
ونحن لا نستطيع أن نذكر هنا تفاصيل الأدلة الكثيرة المهمة التي ذكرها، فهي تحتاج إلى بحوث مفصلة حولها لدورها في التفسير الحركي لسير أئمة الهدى، وتنزيل كل دور في مرحلته الخاصة به، مما يعطي لسيرهم بعدا حركيا واقعيا، أكثر من دراسة حركة كل واحد منهم لوحده.
وقصدنا الأساسي من ذكر هذا هو بيان مدى اهتمام قادة الثورة الإسلامية بالتجديد والتصحيح في هذه الجوانب، وهو ما أتاح لهم القيام بالثورة والانتصار فيها، بخلاف أولئك
__________
(1) المصدر السابق، ص 6.
(2) المصدر السابق، ص 10.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (78)
المقلدين الذين لم يكتفوا بعدم مناصرة الثوريين، وإنما راحوا ينتقدونهم، ويتوهمون أنهم يسيرون على خلاف هدي الأئمة، كما سنرى.
وعلى نفس المنهج نجد الفيلسوف الشهيد مرتضى مطهري يشرح بأسلوبه البديع الأبعاد العملية والحركية لمسيرة أئمة الهدى، وخصوصا حركة الإمام الحسين، ويستثمرها في التوجيه لكيفية القيام بالثورة وتحقيق شروطها.
ومن ذلك قوله في الرد على المتحمسين الانفعاليين الذين لا يضبطون حركاتهم بضوابط الحكمة والعقل: (لقد كانت ثورة الإمام الحسين قائمة على الوعي والإدراك الكاملين بضرورتها سواء عنده هو أو عند أهل بيته أو لدى أصحابه، ولا يمكن لمثل هذه الثورة أن يقال عنها بأنها وليدة الانفجار النفسي أو العاطفي مطلقاً، ولمثل هذه الثورة الواعية حقائق وماهيات متعددة ومختلفة وهي ليست أحادية الكنه والحقيقة)(1)
ومثل ذلك يرد على الأخطأء التي تسيء فهم حركة الإمام الحسين، فيقول: (إن إحدى الأخطأء التي وقع فيها مؤلف كتاب [الشهيد الخالد] هو أنه أعطى أهمية زائدة عن الحد إلى عامل [دعوة أهل الكوفة] وكأنه العامل الرئيسي في نهضة الإمام الحسين، والحقيقة أن هذا العامل كما ذكرنا لم يكن الأهم، بل كان العامل الأصغر من حيث التأثير فلو صح اعتباره العامل الرئيسي لكان على الإمام بعد أن ثبت له عدم جدوى موضوع أهل الكوفة أن يتخلى عن كلامه ويستعد لتقديم البيعة ويترك الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقد كان الأمر الواقع بالعكس، إذ أن أكثر الخطب حماسةً وثورية وإثارة ألقاها الإمام الحسين بعد سقوط الكوفة بيد الأمويين، وهنا يثبت الإمام الحسين أنه يعمل كما يقتضي منه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه يعتبر ذلك دافعه للهجوم، يعتبره أمراً ثورياً موجهاً لسلطة
__________
(1) حقيقة النهضة الحسينية، مرتضى مطهري، ص 11
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (79)
ذلك الوقت)(1)
سادسا. التخلص من الدخيل والدخن
وهي من الأركان الكبرى للمسيرة الحركية الإصلاحية لقادة الثورة الإسلامية الإيرانية، ذلك أن الواقع الذي انطلقوا منه هو نفس الواقع الذي يعيشه العالم الإسلامي جميعا، والذي كان سببا في التخلف والضعف والوهن، ولهذا كانوا مضطرين مثل غيرهم من المصلحين إلى مواجهة كل الأسباب الداعية إلى ذلك، وأهمها الدخيل والدخن والتحريف الذي وقع في الدين.
1. المفاهيم السلبية المرتبطة بالدين
وهي الأصول التي نشأت عنها كل التحريفات والدخن والدجل الذي وقع في الدين، وقادة الثورة الإسلامية الإيرانية يقسمونها عادة إلى قسمين كبيرين، أحدهما يلغي من الدين جوانبه الواقعية بما فيها الجانب السياسي، والثاني يلغي منه الجانب الروحي والمعنوي.
ولهذا نراهم يركزون في طرح كل القضايا على كلا الجانبين، باعتبارهما من مقاصد الدين الضرورية.
ومن الأمثلة على ذلك ما قاله الإمام الخميني عند ذكره لجذور التحريف التي وقعت في الدين، فقد قال: (ابتلي الإسلام منذ البداية بالمحنة، وهي عدم ادراكهم للإسلام، فالذين درسوا الإسلام لم يفهموا الإسلام بجميع أبعاده، فكل واحد أدرك بعداً من أبعاد الإسلام وفسّر قضايا الإسلام والقرآن الكريم طبقاً لذلك، فقد كانت جماعة من المتكلمين في القرون السابقة تفسر الإسلام حسب فهمها الكلامي، وجماعة أخرى من الفلاسفة يفهمون الإسلام كفلسفة كانوا يتصورون بأن الإسلام مذهب فلسفي.. والجماعة الثالثة هم العرفاء اذ كانوا
__________
(1) المصدر السابق، ص 29.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (80)
يفسرون الإسلام بالفهم العرفاني، واستمرت هذه الحال حتى عصور متأخرة)(1)
ثم بين أن التأويلات والتفسيرات المرتبطة بالنصوص المقدسة كانت تنبع من تلك الفهوم المحدودة التي تعتبر الإسلام قاصرا على بعض الجوانب، فقال: (لم يتم التعرف على الإسلام بمختلف أبعاده، كلّ طائفة كانت تدرس الإسلام من وجهة نظر فهمها، وترجع كلّ الآيات وأخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة إلى وجهة نظرها، وتعيد جميع الأوراق إلى تلك الورقة التي أدركتها، لذلك لا يوجد فيها خبر عن البعد الدنيوي والحكومي للإسلام، كلّ تلك المواضيع فلسفية وعرفانية، أما ما هي وظيفة الناس في هذا اليوم الذي يعيشون فيه، وكيف تكون الحكومة الإسلامية، وكيف يجب أن يتعامل الناس مع الطبيعة؟ فلا يوجد شي ء عن ذلك في كلامهم، إنهم درسوا فقط المواضيع التي ترتبط بما وراء الطبيعة والمسائل العرفانية والفلسفية)(2)
ثم ذكر موقف الصنف الثاني، وهم الذين يقصرون الإسلام على جوانبه الواقعية، ويلغون منه جوانبه المعنوية، فقال: (إلى أن وصل ذلك إلى هذه الطبقة المتأخرة، فعمل هؤلاء على العكس من أولئك، أي أن هذه الطبقة تركت الأبعاد المعنوية والفلسفية والعرفانية للإسلام جانباً بشكل عام، ونظرت إلى الظاهر فقط، أي أنهم تصوروا أن الإسلام رسالة مادية، مثلما تصور أولئك أن الإسلام رسالة معنوية وكأنه مفصول عن المادة أساساً، حتى أنهم أوّلوا الآيات المتعلقة بقتال المشركين، بالقتال مع النفس وأمثال ذلك.. وفي مقابل أولئك، وفي هذا الوقت الذي وصلت إلينا علوم الغرب ودعاياته، نجد أن معرفة هؤلاء للإسلام ـ رغم كونهم مسلمين ـ تقتصر على البعد المادي للإسلام فقط!، وفيما كان أولئك يدعون إلى الباطن ويغفلون
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 4، ص: 14
(2) المصدر السابق، ج 4، ص: 14
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (81)
عن الظاهر والطبيعة، نرى هؤلاء يدعون إلى الماديات ويغفلون عن المعنويات، وكلاهما على خطأ، فالإسلام غير محدود في تلك المعنويات التي يقولها أولئك، ولا محدد في الماديات التي يقول بها هؤلاء)(1)
ثم بين الخطأ الذي وقع فيه كلاهما، فقال: (الإسلام رسالة نزلت للتربية الإنسانية، ويجب أن نرى ما هي أبعاد هذا الإنسان، الذي يقول البعض عنه أنه ذو الماهية المجهولة، وما هي احتياجاته؟ وهل جاء الإسلام لتربية جوانبه الحيوانية فقط؟ أو جوانبه المعنوية فحسب؟ أو يريد تربية الإنسان؟، ليس الإنسان كسائر الموجودات، فإدراك الحيوان عما وراء الطبيعة إدراك ناقص، ولكن الإنسان يستطيع أن يسير من الطبيعة، إلى ما وراء الطبيعة ومن ما وراء الطبيعة إلى الألوهية، إلى أن يصل إلى فهم ذلك.. الإنسان كائن جامع، كائن ذو أبعاد متعددة، الكائنات الأخرى بعضها ذات بعد واحد، وبعضها الآخر ذات بعدين أو أكثر، غير أن كافة أبعاد الوجود غير موجودة في بقية الكائنات، الإنسان وحده من بين كلّ الكائنات كائن متعدد الأبعاد، ولكل بعد من ابعاده حاجات)(2)
وهو لهذا يرد خطأ المعاصرين الذين يقيسون الإسلام على غيره من المدارس الفكرية التي تحصر الإنسان في جوانبه الحسية المادية، فيقول: (المدارس الفكرية الموجودة في العالم ـ باستثناء الإسلام ـ مادية تصورت الإنسان حيواناً، وأن جميع أموره تتحرك ضمن هذه الحدود، وتكامله يتم ضمن الاعتبارات المادية وقد اطلقوا عليها اسم (الأمور العينية)، يتخيلون أن الأمور العينية هي عبارة عن نفس عالم الطبيعة هذا، في حين أن هناك عوالم أخرى لم يدركوها، ولتلك العوالم حظ أكبر من العينية بالنسبة إلى عالم الطبيعة، إن عالم الطبيعة يقع في آخر مراتب
__________
(1) المصدر السابق، ج 4، ص: 14
(2) المصدر السابق، ج 4، ص: 15
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (82)
موجودات عالم الوجود، أي أن عالم الطبيعة هو نهاية عالم الوجود وهو أدنى العوالم، ليس صحيحاً أن الإنسان وحده الموجود وله هذه الطبيعة فقط، وليس ثمة مراتب أخرى بعد ذلك.. فللإنسان مراتب، والذي طلب المرتبة العليا للإنسان وغفل عن هذه المراتب، فقد أخطأ، ومن تمسك بعالم المادة فشهد مرتبة الطبيعة وغفل عما وراء الطبيعة فقد أخطأ أيضاً)(1)
ثم بين حقيقة الإسلام التي أساء فهمها كلا الطرفين، فقال: (إن للإسلام منهجاً ومسلكاً لهذا الإنسان الذي له مراتب من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة، ومن ما وراء الطبيعة إلى الألوهية، إن الإسلام يريد أن يربي إنساناً جامعاً، أي يربيه بالصورة التي هو عليها: له بعد طبيعي فينمي فيه البعد الطبيعي، وله بعد برزخي فينمي فيه البعد البرزخي، وله بعد روحي فينمي فيه البعد الروحي، وله بعد عقلي فينمي فيه البعد العقلي، وله بعد إلهي فينمي فيه البعد الإلهي، إن جميع الأبعاد التي يمتلكها الإنسان هي بصورة ناقصة ولم تصل إلى درجة الكمال، وقد جاءت الأديان لإنضاج هذه الثمرة غير الناضجة، وإكمال هذه الثمرة الناقصة)(2)
ثم حذر من الأفكار الحديثة التي تقصر الإسلام على جوانبه الواقعية، فقال: (على المقيمين في الغرب، الغرب الغارق في الطبيعة الدنيوية والغافل تماماً عما وراء الطبيعة، أن لا يخدعوا بهذه المدارس الفكرية، ويتصوروا بأن الإنسان ليس سوى ما هو عليه من الطعام والشراب وما عدا ذلك لا شي ء، إن ذلك وليد الفهم الخاطئ للإسلام، لابد من وضع كلّ شي ء في موضعه.. لا تظنوا ان الإسلام جاء ليربي حيواناً، الإسلام يريد أن يربي الإنسان ليكون كائناً متكاملًا يمتلك جميع الأبعاد، ولدى الإسلام تعليمات لكل بعد من أبعاد الإنسان، ففي الإسلام أحكام للحكومة الإسلامية ولمؤسساتها، ولمواجهة الأعداء، ولتحريك المجتمع من
__________
(1) المصدر السابق، ج 4، ص: 16
(2) المصدر السابق، ج 4، ص: 16
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (83)
أجل الوصول إلى ما وراء الطبيعة، الإسلام يملك كلّ ذلك.. الإسلام ليس أحاديّ الجانب ليقول الإنسان إنني عرفت الإسلام، وعرفت تاريخه مثلًا، وما كانت عليه حياته البشرية ـ على سبيل الفرض ـ وقوانينه الطبيعية وأمثال ذلك، فليس الأمر بهذه الصورة، إن قضايا الإسلام أسمى من هذه المعاني ولها أبعاد كثيرة، وإن من يريد أن يعرف الإسلام عليه أن ينظر جيداً في القرآن الذي هو المبدأ الأساس، ويلاحظ جميع الأبعاد الموجودة فيه، وألّا يقول: أنا أقبل الآيات المتعلقة بالطبيعة والحكومة فقط، أما الآيات المتعلقة بيوم القيامة فلا أقبلها، ولأن هذا الإنسان لا يعلم ما معنى القيامة، وما هو ذلك اليوم الذي سيأتي، فيظن الأمر وهماً، كلا، إنه أمر عينيّ وعينيته أكثر من عينية هذه الطبيعة، غاية الأمر أننا لم نصل إلى ذلك)(1)
2. المفاهيم السلبية المرتبطة بالانتظار
واجه قادة الثورة الإسلامية تلك المفاهيم السلبية لانتظار الإمام المهدي، والتي كانت تنتشر بين أوساط الشيعة من خلال بعض الروايات والأحاديث المردودة، أو المفهومة فهما خاطئا، لأنها كانت أكبر عقبة تقف بينهم وبين الدعوة للحاكمية الإلهية الشاملة.
ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني في بعض خطبه: (البعض يرى انتظار الفرج في أن يجلس في المسجد أو الحسينية أو المنزل، ويدعو الله تعالى لفرج الإمام الحجة صاحب الزمان.. إن من لديهم مثل هذا التصور هم أناس صالحون، بل إن بعض الذين أعرفهم كان إنساناً صالحاً للغاية وقد اشترى له حصاناً وكان عنده سيف، وكان على أهبة الاستعداد في انتظار الإمام صاحب الأمر.. فأمثال هؤلاء كانوا يعلمون واجباتهم الشرعية، وكانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكن الأمر كان يقف عند هذا الحد.. وفيما عدا ذلك لا يصدر منهم شيء ولم يكونوا يفكرون بفعل شيء فيما يخص هذا الأمر الهام.. وعلى صعيد آخر ثمة
__________
(1) المصدر السابق، ج 4، ص: 16
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (84)
جماعة ترى في انتظار الفرج بأن تدير ظهرها لكل ما يجري من حولها؛ فلا شأن لها بما يجري على الشعوب وما يعاني منه شعبنا، وكل همها هو العمل بواجباتها الدينية وفيما عدا ذلك فهو من مهام صاحب الزمان الذي سيأتي ويصحح كل شيء بنفسه، إذ يقول أفراد هذه الجماعة: نحن غير مسؤولين عما يجري وكل ما علينا هو أن ندعو لظهور صاحب الزمان، هؤلاء أيضاً كانوا أفراداً صالحين)(1)
بل إن الأمر ـ كما يذكر الإمام الخميني ـ تجاوز ذلك كله، فقد ظهر من يستحسن زيادة المعاصي والجور، ويتصور أن ذلك هو التمهيد الحقيقي للإمام المهدي، يقول: (فئة ثالثة كانت تقول: حسناً، يجب أن يمتلئ العالم بالمعاصي حتى يمهد لظهور الإمام صاحب الأمر.. يجب أن لا ننهى عن المنكر ولا نأمر بالمعروف وترك الناس يفعلون ما يشاءون لكي تزداد المعاصي ويقترب الفرج.. بل هناك فئة تؤمن بأكثر من هذا إذ تقول: يجب التشجيع على المعاصي وارتكاب الذنوب حتى تمتلئ الدنيا ظلماً وجوراً مما يمهد لظهور الإمام الحجة، وبطبيعة الحال بين هؤلاء أناس منحرفون وبينهم سذج أيضاً، وكان المنحرفون يتطلعون إلى تحقيق أهداف خاصة)(2)
وبناء على هذا نرى كل أحاديثه تنصب حول الانتظار الإيجابي، وبيان كيفيته ومنهجه والطرق التي تؤدي له، ويرد على تلك المفاهيم التي يشيعها المنكرون على الجمهورية الإسلامية، والتي تصورها بمثابة المستعجل الذي أراد أن يؤدي وظائف الإمام المهدي قبل ظهوره، ومن الأمثلة على ذلك قوله في بعض خطبه: (علينا في مثل هذه الأيام، أيام الله، أن ننتبه ونعمل على إعداد أنفسنا لظهور الإمام.. وعلينا أن نعد أنفسنا بحيث إذا كتب لنا أن نلقاه إن
__________
(1) المصدر السابق، ج 21، ص: 18.
(2) المصدر السابق، ج 21، ص: 19.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (85)
شاء الله، نلقاه بوجه أبيض.. وعلى جميع الأجهزة التي تمارس مهامها في البلاد ـ وآمل أن يتسع ذلك ليشمل سائر البلدان ـ الاهتمام بهذا المعنى وإعداد أنفسهم للقاء الإمام المهدي)(1)
ويقول مخاطبا العلماء: (آمل أنْ يتحقق إنْ شاء الله وعد الله المؤكد ويملك المستضعفون الأرض فهذا وعد الله ولن يخلف الله وعده، غاية الأمر هي هل إنَّنا ندركه أم لا ندركه وهذا بيد الله، فمن الممكن أنْ تتهيّأ في لحظة بعض الأسباب فتكتحل أنظارنا بجمال طلعته.. إنَّ وظيفتنا المهمة في هذا العصر هي انتظار ظهوره المبارك، لكنَّ الإنتظار وحده ـ مع الوضع الذي عليه الكثيرون ـ لا يكفي، بل علينا ملاحظة واجباتنا الشرعية الإلهية في الوقت الحاضر ولايخشى شيئاً؛ فعلى من يقوم بواجبه من أجل رضا الله أنْ لا يتوقع رضا الجميع عنه إذ لاينال رضا الجميع، حتى أعمال الأنبياء لم تنل رضا الجميع ولكنَّهم عملوا بواجباتهم ولم يقصّروا في أداء ما أوكل إليهم مع عدم إصغاء أكثر الناس لكلامهم، ونحن كذلك نعمل بما نحن مكلفون بعمله ويجب أنْ نعمل حتى لو لم ترض الأكثرية عنا أو تعرقل عملنا)(2)
ومثل ذلك نرى الإمام الخامنئي يرد على تلك الفهوم السلبية الناشئة عن الروايات التي تذكر أن كل راية تُرفع قبل ظهور الإمام المهدي راية ضلال أو طاغوت، مع أنها في حقيقتها لا يقصد منها إقامة الحكومة المستندة للحاكمية الإلهية، وإنما يُقصد منها أدعياء المهدوية زورا ودجلا وبهتانا، مثلما حصل في فترات متعددة من التاريخ الإسلامي.
يقول الإمام الخامنئي في ذلك: (إنهم حينما يفشلون في استلاب هذه العقيدة (المهدوية) من النفوس يحاولون تشويهها في الأذهان.. ولكن كيف يتم تشويه هذا المعتقد؟ يتم ذلك عن طريق القول أن المهدي سيظهر وهو الذي يصلح جميع الأمور، وليس علينا شيء، هذا تشويه
__________
(1) المصدر السابق، ج 12، ص: 386.
(2) المصدر السابق، ج 19، ص: 219
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (86)
لهذه العقيدة، وتحويلها من محرِّك دافع إلى إطار لا فاعلية فيه، ومن دواء مقوٍّ إلى داء مخدِّر ومنوِّم، نعم يظهر المهدي أرواحنا فداه ويصلح الأمور، لكن ما هو واجبكم اليوم؟ واجبكم اليوم هو أن تمهِّدوا له الأمور)(1)
وهو لذلك يدعو إلى الاستثمار الإيجابي للانتظار، باعتبار أن الإمام المهدي يمثل المستقبل الجميل الذي ينتظر الأمة وكل المستضعفين، ولذلك يحاول الظلمة والمجرمون التعتيم عليه، حتى لا يصبح وسيلة ليقظتهم وحركتهم، يقول في ذلك: (أعدى أعداء هذه العقيدة [العقيدة في الإمام المهدي]، وأشدّهم عداء لشخصه منذ يوم غيبته بل ومنذ يوم ولادته، هم الظلمة الذين اقترنت حياتهم بالجور والتسلط، وهم مصرّون على مقته وعلى مقت هذه الظاهرة الإلهية وهذا السيف الرباني، كما أن المستكبرين والظلمة يعارضون اليوم ويناوئون هذه الفكرة وهذه العقيدة، لمعرفتهم بأن هذه العقيدة وهذا الحب المغروس في قلوب المسلمين، والشيعة خاصة، يضيّق على مآربهم)(2)
ويقول ـ معمما حكمه على سائر القضايا الواردة في الدين، والتي تحولت إلى سلبية بسبب الفهوم الخاطئة ـ: (لقد تعرّضت جميع العقائد البنّاءة لهجمات من خصومها.. إذ أنهم نقّبوا في تعاليم الإسلام وأحكامه وحيثما وجدوا في الشرع المقدّس معتقداً أو حكماً له تأثير إيجابي واضح وكبير في حياة ومستقبل الفرد والمجتمع والأمة الإسلامية وقفوا بوجهه وقاوموه بشكل أو آخر، لعلّهم يستطيعون القضاء عليه، فإن لم يصلوا إلى غايتهم حاولوا التلاعب بمحتواه)(3)
ثم رد على الاستغراب الناتج عن هذا، فقال: (لعلّ البعض يتساءل مستبعداً: وما شأن العدو، وكيف يتسنى له تجريد العقائد الإسلامية من فائدتها للناس؟ وهذا التصوّر خاطئ
__________
(1) الإمام المهدي في فكر الإمام الخامنئي، ص 28
(2) المصدر السابق، ص 23.
(3) المصدر السابق، ص 25.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (87)
طبعاً؛ فالعدو قادر على ذلك ولكن لا على المدى القصير، بل على امتداد فترة طويلة قد تمتد إلى عشرات السنين حتى يستطيع طمس بؤرة مضيئة فيها أو إفراغها من جوهرها، أو إبراز نقطة مظلمة.. فقد يبذل أحدهم جهوداً محمومة على مدى سنوات طويلة وينفق الأموال ولكن لا يصل إلى نتيجة، فيأتي آخرون من بعده ويمضون على نهجه)(1)
وفي السياق نفسه أو قريب منه، نرى الشهيد مطهري ينتقد بشدة المفاهيم السلبية المرتبطة بالتجديد والإحياء، وذلك في كتابه [أسباب تخلف المسلمين]، حيث انتقد أطروحة [وجود مجدد على رأس كل سنة]، وهي الأطروحة السائدة في الوسط السني، ثم بعدها في الوسط الشيعي، وعلى الرغم من شهرتها وقبول الكثير بها إلا أن ذلك لم يمنع مطهري من انتقادها، بل اعتبارها سببا من أسباب التخلف، حيث قال عنها: (فكرة وجود مجدد على رأس كل سنة فكرة خاطئة وهي تعتمد على حديث واه السند يقول: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).. وقد راجت هذه الفكرة في الفكر السني قديما، ودخلت الفكر الشيعي في القرن الحادي عشر، حيث وصف الشيخُ البهائي الشيخ َ الكليني بأنه مجدد المذهب في القرن الثالث، ثم أُطلق بعد ذلك هذا اللقب على المجلسي الثاني في القرن الثاني عشر، وعلى الوحيد البهبهاني في القرن الثالث عشر، وعلى الميرزا الشيرازي في القرن الرابع عشر الهجري)(2)
ثم ذكر العيوب الكثيرة المنجرة وراء الأطروحة، فقال: (ومن الغريب في هذه الفكرة أنها لماذا لم تعتبر النوابغ الذين برزوا في أواسط القرون كالشيخ الطوسي مثلا من المجددين، وكأن ذنبهم الوحيد أنهم لم يظهروا على رأس القرن الهجري.. والملاحظ على هذه الفكرة أنها
__________
(1) المصدر السابق، ص 25.
(2) أسباب تخلف المسلمين، مرتضى مطهري، ص 3.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (88)
تعفي أفراد المجتمع ككل من التجديد، وتلقي بالمسؤولية على عاتق رجل واحد من بين أفراد معينين على رأس كل قرن)(1)
ثم يعرض الأطروحة على القرآن الكريم، ويبين تعارضها معه، فيقول: (بينما نجد القرآن الكريم عندما يتحدث عن فكرة التغيير يلقي بالمسؤولية على عاتق الجميع.. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، فتغيير المجتمع الإنساني مرتبط بتغيير المحتوى الداخلي لأفراد ذلك المجتمع وأن يكونوا مستعدين لمثل هذا التغيير، وليست فكرة التجديد الأحادي هذه إلا لصرف الأمة عن التفكير بعلاج مشاكلها وانحرافها وانتظار من يقوم عنها بهذا الدور)(2)
3. المفاهيم السلبية المرتبطة بالعمل
وهي كثيرة للأسف، ومنتشرة بين طوائف المسلمين، ولكل منهم أساليبه الخاصة في ذلك، ومن تلك الأساليب اعتبار التعلق بأهل البيت والولاء لهم حبل نجاة مغن عن العمل، وقد رد الإمام الخميني على ذلك كثيرا، ومن أقوله فيه: (إن الاعتقاد بمشروعية تسويد صحف الأعمال اتكالاً على محبتهم وولايتهم مصيبة من المصائب الكبيرة وافتراء وسوء فهم، وهو ما لا يدعو إليه الأئمة بل في منتهى البعد عن هذا المعنى)(3)
ويروي في كتابه الأربعين ما ورد في الكافي عن محمد بن مارد قال: قلت للإمام الصادق: حديث روي لنا أنك قلت: إذا عرفت فاعمل ما شئت، فقال: قد قلت ذلك، قال: قلت: وإن زنوا وإن سرقوا وإن شربوا الخمر؟! فقال لي: (إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما أنصفونا أن نكون أخذنا بالعمل ووضع عنهم! إنما قلت: إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره،
__________
(1) المصدر السابق، ص 3.
(2) المصدر السابق، ص 4.
(3) الأربعون حديثاً. ص 623.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (89)
فإنه يقبل منك)(1)
ثم علق عليه بقوله: (إن المؤمن إذا لم يعمل بمتطلبات الإيمان وما تستدعيه محبة الله وأوليائه لما كان مؤمناً ومحباً، وإن هذا الإيمان الشكلي والمحبة الجوفاء من دون جوهر ومضمون)(2)
وهو لذلك يحمل الأحاديث الواردة في تأثير حبهم في النجاة والفوز، على ارتباطها بالعمل، لا بالحب المجرد، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره في تفسيره للحديث المشهور بين العامة والخاصة: (حب علي حسنة لا تضرَ معها سيئة، وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة)(3)
والذي ورد ما يفسره في الرواية، في حديث جابر عن الإمام الباقر أنه قال: يا جابر، لا تذهب بك المذاهب حسب الرجل أن يقول أحب علياً وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعّالاً، فلو قال إني أحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير من علي ـ ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئاً)(4)
ومن تأويلاته المرتبطة بتلك الأحاديث قوله: (.. أو ما ذكرناه من أن حب الإمام علي يبعث على نور وإيمان يجنبان صاحبهما عن الآثام، ويدفعانه إلى التوبة والإنابة عندما يبتلي بالمعصية من دون أن يفسح المجال أمامه للتمادي في الغيّ والعصيان)(5)
وهو لذلك يفرق بين المحبة الحقيقية والوهمية، والولاء الصادق والكاذب، حيث يقول: (يتوهم بعض الناس أن مجرد ادعاء التشيع وحب التشيع وحب أهل بيت الطهارة والعصمة
__________
(1) الكافي 2/ 464.
(2) الأربعون حديث. الإمام الخميني، ص 512.
(3) مناقب ابن شهر آشوب. ج 3، ص 197
(4) الكافي ج 2 ص 74.
(5) الأربعون حديثاً. ص 629.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (90)
يسوغ له والعياذ بالله اقتراف كل محرم من المحذورات الشرعية ويرفع عنه قلم التكليف.. إن هذا السيء الحظ لم ينتبه بأن الشيطان قد ألبس عليه الأمر فيخشى عليه في نهاية عمره أن تسلب منه هذه المحبة الجوفاء التي لا تجدي ولا تنفع ويحشر يوم القيامة صفر اليدين وفي صفوف نواصب أهل البيت.. إن ادعاء المحبة من دون دليل وبينة لا يكون مقبولاً إذ لا يمكن أن أكون صديقك وأضمر لك الحب والإخلاص ثم أقوم بكل ما هو مناقض لرغباتك وأهدافك، إن شجرة المحبة تنتج وتثمر في الإنسان المحب والعمل حسب درجة المحبة ومستواها؛ فإذا لم تحمل تلك الشجرة هذه الثمرة فلابد من معرفة أنها لم تكن محبة حقيقية وإنما هي محبة وهمية)(1)
ثم ذكر صفات الموالي الصادق، فقال: (محب أهل البيت هو الذي يشاركهم في أهدافهم ويعمل على ضوء أخبارهم وآثارهم.. وإن المؤمن إذا لم يعمل بمتطلبات الإيمان وما تستدعيه محبة الله وأوليائه لما كان مؤمناً ومحباً، وإن هذا الإيمان الشكلي والمحبة الجوفاء من دون جوهر ومضمون ينتفي ويزول أمام حوداث بسيطة وضغوط يسيرة)(2)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يدعو إلى الجمع بين العواطف الجياشة تجاه أئمة الهدى، وفي نفس الوقت العمل بهديهم، وعدم الغرور أو الاكتفاء بالعواطف المجردة، ومن الأمثلة على ذلك قوله في بعض خطبه التوجيهية للشعراء وخطباء المنابر: (لقد أوصيت مراراً والآن أوصي بأن تقسّموا منبركم ومجلسكم إلى قسمين: القسم الأول في المعارف والأخلاقيات.. فنحن اليوم بحاجة إلى الأخلاقيات وإلى المعارف.. اليوم نحن بحاجة إلى أن يقبل شبابنا وأجيالنا بحيوية وأمل ورغبة وتفاؤل بالمستقبل نحو الإيمان بالله والارتباط القلبي بأهل البيت.. نحن بحاجة لأن يفتخر شبابنا اليوم بأنهم أبناء إيران الإسلامية، أن يفتخروا بوجود الإمام
__________
(1) المصدر السابق، ص 632.
(2) المصدر السابق، ص 632.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (91)
والجمهورية الإسلامية، يفتخروا بدينهم ومذهبهم واتّباع أهل البيت.. إننا اليوم بحاجة إلى الشاب الذي يعلم أن مصيره ومصير مجتمعه ومصير أسرته الكبيرة مرتبطٌ بسعيه وعمله، فليكن من أهل السعي والعمل والجد والمثابرة، ولا يكونن من الكسالى والمحبطين واللامبالين.. فكيف تتحقق مثل هذه التربية؟ يمكنكم أنتم أن تؤدوا هذا الدور)(1)
وفي السياق نفسه أو قريب منه نجد الشهيد مطهري يرد على ظاهرة الإرجاء كثيرا في كتبه، ومنها قوله عند الحديث عن جذور الإرجاء: (بدأ انحراف مفهوم العمل كما يحدثنا التاريخ عند ظهور فكرة الإرجاء (2) على يد أناس غارقين في بحر الرذيلة، وقد تبنت هذه الفكرة السلطة الحاكمة في العهد الأموي، وراحت تفرق بين الإيمان والعمل مؤكدة على أهمية ما يضمره المرء في قلبه من إيمان مستهينة بكل ما يصدر منه من أعمال)(3)
ثم ذكر مواجهة أئمة الهدى لتلك الفتنة والتحريف الذي حصل للدين، فقال: (لقد وقف الأئمة الأطهار في وجه كل انحراف ظهر بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بما في ذلك انحرافات المرجئة، ومفهوم انفصال الإيمان عن العمل والاستهانة بالعمل، وما وصلنا من أحاديث عنهم يكشف عما خاضوه من حرب فكرية تهدف إلى إحباط كل محاولات المسخ والتشويه في الدين الإسلامي)(4)
ثم ذكر نماذج من أقوالهم في ذلك (5) قدم لها بقوله: (وأما مواجهتهم لفكرة العمل
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 207.
(2) حيث يقول المرجئة: (لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. والإيمان هو الاعتقاد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه، وعبد الأوثان، ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل، ولي لله عز وجل، من أهل الإيمان)
(3) أسباب تخلف المسلمين، مرتضى مطهري، ص 4.
(4) المصدر السابق، ص 4.
(5) من الأحاديث التي أوردها ما روي عن الإمام علي أنه قال: (إني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيما الصديقين. لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلّون، ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل) [نهج البلاغة ج 2، ص 160159]، وقوله: (الإيمان تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وهو عمل كله) [بحار الأنوار، ج 66، ص 74]
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (92)
المشوهة، فلاحظ ما ورد عنهم من حثّ وتأكيد على العمل وعدم فصله عن الإيمان.. وهناك الكثير من الروايات التي تؤكد على مفهوم العمل، وأن الإيمان عمل كله، وجعله المعيار لتقييم خلوص الإنسان وقربه من الله)(1)
ومن الأمثلة التي ذكرها ما عبر عنه بقوله: (لقد اكتفينا بانتسابنا لمدرسة أهل البيت على مستوى القول لا العمل، بينما القرآن الكريم يدين أولئك الذين يزعمون أن لهم قرابة عند الله تنجيهم من العذاب)(2)
ثم استدل بقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأولئك أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 80 - 81]
وعقب عليها بقوله: (القرآن يرفض أن تكون وشيجة القرابة شفيعا للإنسان، فهو يجيب النبي نوح عليه السلام: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود: 46].. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لابنته فاطمة: (يا فاطمة اعملي بنفسك إني لا أغني عنك من الله شيئا)
بالإضافة إلى هذا ذكر الكثير من النماذج الداعية إلى القعود عن العمل، وقد قال في تقديمه لها: (نلاحظ أن مجتمعنا الإسلامي يفتقد مظاهر الحياة ويتجه نحو الموت، ومن هنا كان لزاما علينا أن نشير إلى أسباب هذا التخلف في إطار المفاهيم الممسوخة والمشوهة، لأن كثيرا من المفاهيم الإسلامية الأصيلة أصبحت باهتة ميتة لا حراك فيها بسبب ما لحقها من التشويه، ومن هنا كان علينا كخطوة أولى على طريق الإحياء أن نعالج بعض المفاهيم ونقوم بتصحيحها
__________
(1) أسباب تخلف المسلمين، مرتضى مطهري، ص 4.
(2) المصدر السابق، ص 5.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (93)
في الأذهان)(1)
وقال في خاتمة عرضه لها: (لماذا تخلف المسلمون وفقدوا مظاهر المجتمع الحي واتجهوا نحو الموت؟ أليس لأن المفاهيم الإسلامية الرفيعة قد شوهت.. ومن تلك المفاهيم التي شوهت مفهوم التوكل، حيث أصبح اليوم تواكل وتقاعس، وكذلك مفهوم الزهد، وترك طيبات وملذات الدنيا، فإن الدنيا كلها وسيلة للوصول إلى الآخرة وليست هدفا بحدّ ذاتها، وعندما يطرح الإسلام مفهوم الزهد فإنه يهدف منه لتحقيق المساواة بين الناس، وإيثار المؤمنين وتفانيهم في سبيل مصالح الآخرين، وبالتالي التحرر من كل قيود الدنيا ومتعلقاتها، حتى يتأتى للإنسان أن يتذوق اللذات المعنوية، التي هي أهم من كل اللذات الدنيوية)(2)
ومن نماذج تلك العلل التي تدعو إلى القعود والكسل والوهن التي ذكرها في كتابه [أسباب تخلف المسلمين] (3):
1.. الحظ: من الأفكار التي سرت في مجتمعاتنا رغم أنها لا تعتمد على منطق علمي أو فلسفي أو قرآني.
2.. انتصار الباطل في صراعه مع الحق: وهي فكرة تشاؤمية مستشرية في مجتمعاتنا، ترى أن أي معاملة أو حركة ملتزمة بمعايير الصدق والإنصاف لا يمكن لها أن تحقق أي مكاسب مادية، وهذا يناقض النظرة الإسلامية التي ركزت على ضرورة النظرة التفاؤلية لمسيرة العالم، وأنه لا يمكن تصور نظام أحسن من النظام الموجود، كما قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: 7]، وقال: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]
وقد خلق الله الإنسان مختارا يمكنه الانحراف يمنة أو يسرة، ويستتبع هذا الاختيار
__________
(1) المصدر السابق، ص 4.
(2) المصدر السابق، ص 12.
(3) المصدر السابق، ص 2، وما بعدها.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (94)
انحراف جماعة عن جادة الحق والعدل، وهنا تتحمل المجموعة الصالحة مسؤولية مقارعة المنحرفين، وهي تحظى في نفس الوقت بإسناد رب العالمين، وليس للباطل سوى جولة سرعان ما يتراجع بعدها أمام الحق.
ثم يستشهد لهذا بقوله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أو مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: 17]، ويعلق عليها بقوله: (فالزبد الذي يمثل الباطل يذهب جفاء أمام الحق، وهذا هو قانون الخليقة، بينما تسري بيننا أحاديث مشككة في جدوى الكفاح من أجل إحقاق العدل والحق، دون أن ندخل في تجربة كفاحية عملية واحدة)(1)
3.. الفهم الخاطئ للتوكل: يقول الشهيد مطهري: (هذا المفهوم القرآني السامي، مثل سائر المفاهيم الإسلامية دقيق وحساس وذو حدين، إن فُهِم بالشكل الصحيح أثمر أعظم النتائج الإيجابية، وإن فُهِم بالشكل المشوّه كما هو اليوم، كان من العوامل المثبطة للهمم والعزائم.. التوكل في المفهوم القرآني مفهوم ينبض بالدفع والنشاط والحيوية، ويزيل كل عوامل التردد والانهزام والخوف، ولذلك نجد القرآن يستعمله عندما يريد أن يثبت ويشد من عزيمة وصمود الفئة المسلمة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [إبراهيم: 12]، وقال: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [الأحزاب: 48]، وللأسف إن هذا المفهوم القرآني النابض بالحياة، تبدل بين المسلمين اليوم إلى مفهوم التواكل والتقاعس عن
__________
(1) المصدر السابق، ص 6.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (95)
العمل والاندفاع)(1)
4.. الفهم الخاطئ للزهد: يقول الشهيد مطهري: (وهذا المفهوم من المفاهيم التي شوهت وتأثرت بملابسات غير إسلامية، فالزهد الذي يعني لغة ترك الشيء والرغبة عنه، واصطلاحا يطلق على من يترك أمرا له رغبة طبيعية فيه، فلا يطلق مثلا على المريض الذي لا رغبة له بالطعام أنه زاهد، هذا المفهوم جاء به الإسلام ليحث الإنسان على الترفع عن الإنشداد البهيمي بالأرض، وعن ممارسة القدرة والتسلط لاستضعاف الناس واستغلال ثرواتها، وعندها تتحول كل الممارسات الحياتية إلى وسيلة للإنسان ترتقي به إلى الله سبحانه، وتصبح الدنيا وسيلة لا غاية.. هذا المفهوم تأثر بالرهبانية التي ابتدعتها المسيحية، حيث نجد فيها أن كل ممارسة مع الطبيعة والحياة عملا دنيويا، وأما الطقوس فهي الأعمال الأخروية المعزولة عن كل ممارسة حياتية، وقد رفض الإسلام هذه الرهبانية وعبر على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا رهبانية في الإسلام)، واعتبر أن كل الأعمال الدنيوية يمكن أن تتأطر بإطار ديني، وتصبح أعمالا عبادية وأخروية، وذلك فيما لو كان الهدف منها تحصيل رضا إلى الله، فالسلطة الاقتصادية يمكن لها أن تكون وسيلة لتحقيق خلافة الله على الأرض، فقد عبّر النبي يوسف عليه السلام: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55]، فهو لا يريد أن يستغلّ هذه السلطة لتحقيق مطامعه الشخصية، وكذلك قد أوجب الإسلام على المسلمين إعداد القوة ليرتفع بهم في المستوى الاجتماعي ليشكلوا قوة تبعث على الرهبة في نفوس الأعداء)(2)
ثم بين مفهوم الزهد في الإسلام وغاياته الشريفة، فقال: (الإسلام يدعو إلى الزهد في الدنيا بمعنى أن لا يجعل الدنيا غاية ويجعلها وسيلة، فلا يحس بالفشل والانكسار إذا فقد
__________
(1) المصدر السابق، ص 6.
(2) المصدر السابق، ص 7.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (96)
متاعها، ولا يشعر بالغرور إذا ما امتلك شيئا منها، لأنه لا يريد إلا وجه الله)(1)
ومن الغايات التي ذكرها لمفهوم الزهد الحقيقي تحقيق الإيثار، (فعندما تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع يتصدى الدين لحل هذه المشكلة الاجتماعية، ويقوم الإسلام بتربية أبنائه تربية لا يبقى لهذه المشكلة أثر، بحيث يشعر المسلم باللذة عندما يضحي بمصالحه الشخصية لأجل مصالح الآخرين، فيحرُم نفسه من أجل إسعاد الآخرين.. وقد ذكر لنا القرآن الكريم صوراً رائعة، وكذلك كتب التاريخ عن الرعيل الأول من المسلمين، تؤكد التفاني والإيثار الذي زرعه الإسلام في نفوسهم.. فسورة الإنسان تحدثنا عن إيثار أمير المؤمنين وأهل بيته الكرام بما يملكونه من طعام، كما قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 8 - 9]، وكذلك مدح القرآن الكريم الصفوة المؤمنة من الأنصار، حيث سطروا أروع الصور في التفاني والإيثار، فعبر عنهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9])(2)
ومنها تحقيق المواساة، (فالإسلام يربي أبناءه على الاشتراك في الأحاسيس، والعواطف، ليصبحوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وعندها لا نتصور في المجتمع الإسلامي فئة مترفة وأخرى معدمة، لأن روح المساواة التي يخلقها الإسلام بالزهد تأبى على المتمكنين من أن يتركوا المحرومين دون أن يمدوا لهم يد العون، فتزول عندها ظاهرة الفقر والفاقة، ولا يبقى هناك تفاوت فاحش في مستوى
__________
(1) المصدر السابق، ص 7.
(2) المصدر السابق، ص 9.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (97)
المعيشة)(1)
ومنها تحقيق التحرر والإنعتاق، (فالإنسان مقيد بعوامل طبيعية لا يمكنه التخلي عنها، كالتنفس وتناول الطعام وما شابه ذلك، لكن هناك بعض القيود التي يمكن له أن يتحرر منها، كالبخل والنهم وحب الجاه والشهرة وأمثال ذلك، فإنها كفيلة بأن تكبل الإنسان فيما لو أرخى لهواه العنان ولم يروض نفسه على التحرر والإنعتاق منها.. والزهد يقوم بدور هام في حياة الإنسان، وتحريره من العوامل والقيود التي تشده إلى البطر والراحة وحب الذات، ويجعله قادرا على الاندفاع السريع في ساحات العمل الاجتماعي، ومن هنا كان الأنبياء عليهم السلام أكثر الناس تحررا من هذه القيود المفتعلة)(2)
ومنها تذوق اللذات المعنوية، (لأن الانغماس في تلبية حاجات الجسد المادية، يحول دون تذوق اللذائذ المعنوية، فلا يمكن لمن يعيش بين المعلف والمضجع أن يعيش لذة الدعاء مثلا، أو لذة الاتصال بالله أو التضحية والإيثار أو طلب العلم والتفكير والعطاء ولكنه حينما يمارس الزهد والترفع عن الانغماس باللذائذ المادية والانشداد البهيمي إلى الأرض ومتاعها، ينفتح أمامه عالم جديد من اللذائذ المعنوية التي لا تقل عن اللذائذ المادية، إن لم تكن أعمق منها، والعابد الزاهد يرى حقائق الكون بمنظار يختلف عن ذلك المنغمس في حسّه المادي، فهو يتجاوز إطار الرؤية ليشمل التفكير والاستنتاج والتقييم والربط، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 190 - 191])(3)
__________
(1) المصدر السابق، ص 9.
(2) المصدر السابق، ص 10.
(3) المصدر السابق، ص 12.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (98)
الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم الروحية
الركن الثاني من الأركان الكبرى التي تتشكل منها الحضارة الإسلامية الجديدة ـ بحسب رؤية قادة الثورة الإسلامية الإيرانية ـ[القيم الروحية]، بناء على أن هذا المشروع ـ كما رأينا في الفصل الأول ـ لا يهتم فقط بتحقيق الرفاه والعدالة المادية، بل يهدف قبل ذلك وبعده إلى بناء الإنسان من كل جوانبه، وأهمها بلا شك، جانبه الروحي.
وهو من الجوانب التي أشار إليها القرآن الكريم كثيرا، فهو يعتبرها من علامات التمكين وأسبابه، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور﴾ [الحج: 41]
وهكذا عندما يذكر صفات الذين ينصرون الله ورسوله يذكر أنهم ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 112]
وقد رأينا من خلال استقراء كلمات قادة الثورة الإسلامية المرتبطة بهذا الجانب خمسة معان كبرى، هي:
أولا ـ بيان ضرورة التزكية للتمكين والتمكن.
ثانيا ـ التحذير من المسالك الخاطئة في السلوك الروحي.
ثالثا ـ االاهتمام بالأبعاد الروحية للشعائر التعبدية.
رابعا ـ الاهتمام بالأبعاد الواقعية للشعائر التعبدية.
خامسا ـ الاهتمام بالأذواق والمواجيد الروحية.
وسنذكر في هذا الفصل ما ورد عن قادة الثورة الإسلامية الإيرانية من النصوص الدالة على هذه المعاني.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (99)
أولا ـ بيان ضرورة التزكية للتمكين والتمكن
وهي من المقدمات الضرورية لتحقيق التزكية في الواقع، ذلك أنها تحتاج إلى استعمال كل وسائل الإقناع والتأثير، وهو ما قام به قادة الثورة الإسلامية الإيرانية أحسن قيام، اعتقادا منهم أنه لا يمكن أن يقوم بالأدوار العظيمة التي تتطلبها الثورة والتضحيات المرتبطة بها إلا من زكت نفوسهم وطهرت حتى صارت أهلا لتنزل النصر الإلهي.
ولهذا نجد في آثارهم وخطبهم وبياناتهم الكثير من النصوص، بل الكتب الدالة على ذلك الاهتمام على الرغم من ممارساتهم الثورية والسياسية التي كان يمكن أن تحول بينهم وبين فعل ذلك..
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في خطاب للإمام الخميني لا يكتفي فيه بالتحذير من الطغيان السياسي، بل يضم إليه طغيان النفس، ويعتبره السبب في كل طغيان يحصل، يقول في ذلك: (إن أول آية نزلت على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بحسب الروايات والتواريخ هي قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، فهذه الآية هي أول آية وبناء على ما نقل قرأها جبرائيل على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقد دعي فيها منذ البداية إلى القراءة والتعلم.. وفي نفس هذه السورة ﴿كَلَّا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 6 - 7].. فيُعلم من ذلك أن وجود الطغيان والطاغوت من الأمور التي هي على رأس الأمور ومن أجل سحق الطاغوت يجب تعليم الكتاب والحكمة وتعلم الكتاب والحكمة والتزكية.. فالإنسان بهذا الشكل، والوضع الروحي لكل الناس بهذا الشكل، فبمجرد أن يستغني أحد ما يطغى؛ فلو استغنى مالياً يطغى بهذا المقدار، ولو استغنى علمياً يطغى بهذا المقدار، ولو حصل على مقام يطغى بهذا المقدار)(1)
ثم ضرب المثال على ذلك بكبار الطواغيت، وأنهم لم يكونوا ليقعوا في الطغيان الواقعي،
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 14، ص: 308
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (100)
لولا الطغيان النفسي، فيقول: (ففرعون الذي يسميه الله تبارك وتعالى طاغية لأنه حصل على المقام ولم يكن فيه غاية إلهية جرّه هذا المقام إلى الطغيان.. وهكذا الأشخاص الذين يحصلون على أشياء مرتبطة بالدنيا بدون تزكية النفس، ومهما حصلوا فإن طغيانهم سوف يزداد، وإن وبال هذا المال وهذا المنال وهذا المقام وهذا الجاه وهذا المنصب من الأشياء التي تؤدي إلى تعرض الإنسان للمتاعب والصعوبات في الدنيا وهي في الآخرة أكثر)(1)
ثم ذكر أن الغاية من النبوة هي تخليص البشر من الطغيان مهما كان نوعه، يقول في ذلك: (إن غاية البعثة هي أن تخلصنا من هذا الطغيان وأن نزكّي أنفسنا، ونصفي نفوسنا ونخلصها من هذه الظلمات؛ فلو حصل هذا التوفيق للجميع، ستصبح الدنيا نوراً واحداً كنور القرآن وتجلياً لنور الحق؛ فكل الخلافات الموجودة بين البشر، الخلافات الموجودة بين السلاطين، الخلافات الموجودة بين الأقوياء، هي بسبب الطغيان الموجود في النفس)(2)
ثم بين سبب ذلك، فقال: (ومردّ هذا الى أن الإنسان رأى نفسه في منصب ما فطغى لأنه لم يقتنع بذلك المنصب، فكان هذا الطغيان سبب تجاوزه، وعندما يتجاوز يحصل الخلاف ولن يختلف هذا في مرتبة الطغيان الصغيرة إلى تلك المرتبة العالية منه.. من المرتبة الصغيرة التي يحصل الخلاف في قرية ما بين الأفراد بسبب الطغيان، إلى المرتبة الأعلى وكلما علا كان الطغيان أكثر، ففرعون الذي طغى، فقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: 24].. هذه الغاية موجودة في الجميع لا في فرعون وحده؛ فلو وضعوا الإنسان فوق رؤوسهم فسوف يقول: أنا ربكم الأعلى.. فغاية البعثة هي السيطرة على نفوس العصاة ونفوس الطغاة ونفوس المتمردين من العصيان والطغيان والتمرد ودفعها الى التزكية)(3)
__________
(1) المصدر السابق، ج 14، ص: 308
(2) المصدر السابق، ج 14، ص: 308
(3) المصدر السابق، ج 14، ص: 308
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (101)
ثم نبه إلى أن كل ما يحصل بين البشر من صراع هو بسبب النفوس غير المهذبة التي لم تهتم بالتزكية ولم تمارسها، يقول: (إن كل الخلافات الموجودة في البشر هي لأن النفوس لم تزك.. فبواسطة التزكية يتعلمون الحكمة ويتعلمون القرآن والكتاب أيضاً، وإذا تزكت النفوس فلن يحدث الطغيان.. فالشخص الذي زكى نفسه، لا يعتبر نفسه مستغنياً أبداً.. عندما يرى نفسه ويعتبر لنفسه مقاماً ويقول بعظمة نفسه، فإن هذه الرؤية لنفسه هي سبب الطغيان)(1)
ويبين قيمة التزكية في إحلال السلام بين البشر، فيقول: (لو اجتمع كل الأنبياء العظام في مدينة ما وفي بلد ما لن يختلفوا مع بعضهم أبداً، لأنهم تزكوا، فهم يملكون العلم والحكمة بعد التزكية في النفس.. فكل مشاكلنا جميعاً لأننا لم نُزكّ، لم نربّ.. أصبحوا علماء ولكن لم يتربوا.. تفكرهم عميق ولكنهم لم يتربوا.. وإن الخطر الناشي ء عن العالِم الذي لم يربّ ولم يزكّ على البشر أكبر من خطر المغول)(2)
وهو يبين عدم جدوى العلوم والمعارف ما لم يهتم أصحابها بالتزكية، فيقول: (لو أن النفوس لم تزكّ ولم تربّ ثم دخلت أي ساحة، في ساحة التوحيد، في ساحة المعارف الإلهية، في ساحة الفلسفة، في ساحة الفقه، في ساحة السياسة، في أي ساحة دخلت، الأشخاص الذين لم يزكوا نفوسهم ولم تصفو ولم يتحرروا من هذا الشيطان الباطني، فإن خطرهم على البشر هو خطر كبير)(3)
وهو لهذا يوجه نصيحته لكل المتصدين لأي شأن من الشؤون، وخاصة شؤون الدولة، بالاهتمام بتزكية أنفسهم، يقول: (يجب على الأشخاص الذين يريدون أن يربوا آخرين في هذا العالم، أن يكونوا قد زكوا أنفسهم سابقاً وربوها، ويجب على الأشخاص الذين يأخذون زمام
__________
(1) المصدر السابق، ج 14، ص: 308
(2) المصدر السابق، ج 14، ص: 309
(3) المصدر السابق، ج 14، ص: 309
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (102)
الأمور إذا لم يريدوا أن يطغوا ولا يفعلوا أعمالًا شيطانية، أن يزكوا أنفسهم.. وإن هذا التهذيب ضرورة أكثر لرجال الدولة وللسلاطين ولرؤساء الجمهوريات وللدول وللمسؤولين أكثر من الناس العاديين؛ فلو أن الأفراد العاديين لم يزكوا أنفسهم وطغوا فإن الطغيان يكون محدوداً جداً؛ فلو أن شخصاً في السوق أو شخصاً في القرية طغى فمن الممكن أن يسبب فساداً في نقطة محددة، لكن لو كان الطغيان في يد شخص قبله الناس، ولو حصل في عالِم قبله الناس، في سلطان ما وقبل الناس ذلك السلطان، في رؤساء قبلتهم الناس فهذا أحيانا قد يجر بلداً إلى الفساد وأحياناً قد يجر عدداً من البلدان إلى الفساد؛ فهذا الطغيان يؤدي إلى جر البلاد إلى الفساد والخراب لأن الشخص الذي يمسك بزمام الأمور لم يزكّ نفسه)(1)
ثم يضرب الأمثلة على ذلك بالجرائم التي ارتكبها حكام العالم، وأن سببها كان طغيان نفوسهم، وعدم تزكيتها، يقول: (قارنوا أنتم بين صدام وشخص عادي، فمهما طغى الشخص العادي ومهما كان فرعونياً لن يؤثر إلا على أشخاص محددين أو أسرته فيجرهم إلى الفساد ولن يصدر منه غير ذلك، لكن صدام كما ترون طاغية وطغى وهذا الطغيان يوجب فساد البلد، أو بلدين وربما المنطقة وإذا كان هذا الطغيان في رؤساء كبار في الدنيا، إذا طغى رئيس جمهورية أمريكا فإن طغيانه يؤدي إلى فساد الكثير من الدول.. فالحروب الكبيرة التي حصلت في الدنيا، كالحرب العالمية الأولى والثانية، كانت لأن الطغيان كان في تلك الطبقات العليا.. تلك الطبقة العليا التي لم تكن مهذبة طغت وجرت دولًا كبيرة نحو الفساد؛ فلو أن رئيس الحزب الشيوعي السوفياتي يطغى فإن طغيانه غير محدود بهذه الحدود المعينة، فطغيانه يجر بلداناً نحو الخراب والفساد.. فالأشخاص المتواجدون في منصب ما، سواء منصب عادي أو منصب رفيع المستوى، إذا أرادوا أن يصلحوا البلد، إذا أرادوا أن يهدأ هذا البلد، فيجب أن يبدأوا بالهدوء
__________
(1) المصدر السابق، ج 14، ص: 309
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (103)
من الأعلى، ولا يمكن أن يحصل الهدوء من الأسفل؛ فيجب على الأشخاص الذين يمسكون بزمام الأمور مهما كانوا أن يبدءوا بالهدوء من هناك؛ فهدوؤهم يجر البلد نحو الهدوء وإذا ـ لا سمح الله ـ طغوا، فإن طغيانهم يجر البلد نحو الهلاك)(1)
ثم يعود ـ ككل مرة إلى التذكير بغاية البعثة النبوية ـ فيقول: (أولئك الذين يعتبرون أن البعثة النبوية بعثة إلهية ويعتبرون أن غاية البعثة هي هداية جميع الخلق، يجب عليهم الانتباه إلى غاية البعثة، أن ينتبهوا إلى غاية البعثة التي قالها الله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: 164]، فالتزكية من أجل أن يصبح نور الهداية في الإنسان، فإذا لم تزكوا أنفسكم فإنكم ستطغون.. إذا لم تُزكوا فإن العلم يشكل خطراً عليكم، أخطر من كل شي ء.. إذا لم تزكوا فإن المنصب خطير عليكم ويجركم إلى الهلاك في الدنيا والآخرة)(2)
ثم ذكر المظاهر الكبرى للتزكية، فقال: (لقد كانت غاية البعثة تزكية النفوس وتزكية النفوس هي أن تنتهي الأنانية، وينتهي التكبر وحب الذات، وينتهي طلب الرئاسة، وينتهي حب الدنيا وطلبها، ويحل محل الجميع حب الله تبارك وتعالى؛ فغاية البعثة هي أن تحكم حكومة الله في قلوب البشر حتى تحكم في المجتمعات البشرية)(3).
ثم يختم خطابه بقوله: (نحن مكلفون بتزكية أنفسنا.. فلو لم تحدث التزكية فإن كل ما يحدث للنفس، وكل ما يأتي إلى النفس، هو حجاب للإنسان.. كلنا مكلفون بتزكية أنفسنا حتى نستطيع أن نستفيد من النور الإلهي ونور القرآن.. ولكن هذه التزكية أكثر ضرورة لرجال الدولة وللطبقات العليا من أمثالنا.. إذا لم نزكّ أنفسنا، فإننا نجر حداً محدوداً من الفساد أو نجر أنفسنا إلى الفساد وإذا لم يزكّ أولئك أنفسهم ولم يضعوا الأنانية جانباً، فإن من الممكن أن يجروا
__________
(1) المصدر السابق، ج 14، ص: 309
(2) المصدر السابق، ج 14، ص: 310
(3) المصدر السابق، ج 14، ص: 310
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (104)
بلداً، بل بلاداً إلى الفساد)(1)
ويقول في خطاب آخر وجهه لأعضاء الرابطة الإسلامية في مؤسسة البيئة والصحة: (إن كل المتاعب التي تتعرض لها الأمم منشأها عدم التزكية؛ فلو كان قادة وحكّام هذا الشعب، أولئك الذي يديرون البلاد، قد تمت تربيتهم وتزكية نفوسهم لما وجدت كل هذه المتاعب والمعاناة لشعبنا ولا لأنفسهم.. إن منشأ كل هذه المعاناة والآلام في كل مكان، هو أن القائمين على أمور الشعوب لم يزكوا أنفسهم؛ فإن وجود شخص واحد على رأس السلطة لايملك نفسا زكية أوجد كل هذه المتاعب لهذا الشعب على مدى خمسين عاماً؛ فإذا كان مثل هذا الشخص مزكياً لنفسه وعادلًا ومتبنياً للعدالة، سيكون جهازه الحاكم متبنياً ومربياً للعدالة في المجتمع وسوف تتبعه كافة الفئات إلى العدالة، بما في ذلك دوائر الدولة التي سوف لا تجد لنفسها مخرجاً إلا بالعدالة.. فإذا زكيت أنفس أبناء الشعب، فسوف يعيش هذا الشعب في جنة من النعيم وسوف تزول كل العقبات من طريقهم للوصول إلى السعادة.. ومن هذا المنطلق ونظراً الى أن الشاه كان يفتقر الى النفس الزكية والأخلاق المزكاة أو العقائد المزكاة، فقد عمل على تضييع شعب بأكمله)(2)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يمارس نفس الدور في الدعوة للتزكية، ويعتبرها الوسيلة الوحيدة للتمكين الإلهي الحقيقي، لا المزيف، ويضرب المثل على ذلك بأستاذه وقائده الإمام الخميني، يقول في بعض خطاباته: (كان مظهر الروحانية في الإمام الخميني وبالدرجة الأولى إخلاصه.. كان الإمام يقوم بالعمل لله؛ فمنذ البداية كان كلّما أدرك التكليف الإلهي يؤدّيه، ولم يأبَ الإمام أيّة تضحية على هذا الطريق، فمنذ بداية المواجهات والنضال في العام 1962 كان
__________
(1) المصدر السابق، ج 14، ص: 311
(2) المصدر السابق، ج 9، ص: 112
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (105)
الإمام على هذا المنوال، يتقدّم من خلال التكليف، ولطالما ردّد هذا الدرس على الناس والمسؤولين أنّ ما هو مهمّ هو التكليف، نحن علينا أن نؤدّي تكليفنا ونتيجة عملنا بيد الله، لهذا كان مظهرا للروحانية.. المهمّ في سلوك الإمام إخلاصه.. لم ينطق بكلمة أو يفعل فعلاً أو يُقدم خطوة من أجل الحصول على ثناء وتمجيد هذا وذاك؛ فما أدّاه لوجه الله نال عليه البركة من الله وصار خالداً؛ فهذه هي خاصية الإخلاص.. كان الإمام يكرّر هذه الوصية على المسؤولين، فكان يأمرنا بأن نكون من المتوكلين والواثقين بالله الذين يحسنون الظن بربّهم ويعملون لله، وكان هو من أهل التوكل والتضرّع والتوسّل والاستمداد من الله ومن أهل العبادة؛ فبعد نهاية شهر رمضان عندما كان المرء يرى الإمام كان يشعر بنورانيته شعوراً حسياً، كان يستفيد من فرص الحياة من أجل التقرّب إلى الله تعالى ومن أجل تطهير قلبه وروحه الطاهرة، وكان يأمر الآخرين ويقول: إنّنا في محضر الله، العالم محضر الله، العالم محلّ حضور التجلّيات الإلهية، وكان يوجّه الجميع في هذا الاتّجاه، وكان من الذين يراعون الأخلاق ويوجّه الآخرين نحو الأخلاق، فقسمٌ مهمّ من الروحانية في الإسلام عبارة عن الأخلاق واجتناب المعاصي، والبُعد عن الطعن وسوء الظنّ والغيبة وسوء السريرة والفرقة.. كان الإمام الجليل نفسه يُراعي هذه الأشياء ويُوصي الناس بها وكذلك المسؤولين.. لطالما أوصانا الإمام بأن لا نغترّ بأنفسنا وأن لا نعدّها أعلى من الناس، وأن لا نتعالى عن الانتقاد ونغفل عن العيوب)(1)
وهكذا نراه في خطبه يفصل كل حين الأسس والمراحل التي تقوم عليها التزكية، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعليقا على قوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ [الفتح: 26]: (إنّ هذه النّعمة التي يفتحها الله تعالى على المؤمنين، إنّما تحصل بما ذكرنا، فيجب السعي بالدرجة الأولى لأجل الابتعاد عن المعاصي.. وعندما نقول
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2011، ص 243.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (106)
الابتعاد عن المعاصي، لا يعني أنّ علينا في البداية أن نترك جميع المعاصي بشكل تامّ حتّى نتمكّن من الانتقال إلى المرحلة الثانية، كلّا، فإنّ هذه الأمور متلازمة فيما بينها.. يجب أن نبذل الهمم والمساعي حتّى لا تصدر عنّا المعاصي، والتقوى هي بهذا المعنى.. الالتزام بالتوجّه في الصلاة وفي تلاوة القرآن وأمثالها، هي الأمور التي تمنحنا المعنويات والروحانيّات وصفاء الروح، هي التي تمنحنا الطمأنينة والسكينة المطلوبة.. ولا حاجة للذّهاب إلى بيوت العرفان الكاذب والماديّ والمتوهّم والتخيّلي الذي لا يوجد وراءه أيّة واقعيّة.. فليلتفت الجامعيّون وشباب الثانويّات إلى هذه الأبعاد للدين والتديّن، واجعلوا التديّن عنصراً أساسيّاً لمخاطبيكم، واعلموا إن شاء الله أنّ الله تعالى سيعينكم)(1)
ويقول في خطاب آخر موجه للشباب يحثهم فيه على الجمع بين العلم والتزكية: (العلم الذي نطالب به مصحوب بالتزكية.. هذه الآيات التي تليت في بداية الجلسة تشير إلى هذه النقطة: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].. التزكية في البداية، وكذلك التربية الدينية والقرآنية والإسلامية.. لماذا كانت التزكية في البداية؟ لأنه ما لم تكن هناك التزكية انحرف العلم، فالعلم أداة وسلاح.. إذا وقع هذا السلاح بيد إنسان شرير أسود القلب خبيث قاتل لما كانت نتيجته سوى الفاجعة، ولكن يمكن أن يكون هذا السلاح بيد إنسان صالح كوسيلة للدفاع عن الناس وحقوقهم والدفاع عن العائلة.. يجب الأخذ بهذا العلم حينما يترافق مع التزكية.. هذه وصيتي لكم.. أنتم والحمد لله شباب وفقكم الله تعالى للتربية في بيئة دينية وإسلامية، وهذه فرصة جيدة جداً، وهي تشبه ما قاله الإمام الحسين في دعاء عرفة حيث شكر الله تعالى على أن خلقه في زمن دولة الإسلام والرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. طبعاً الفرق بيننا وبينه كبير جداً،
__________
(1) المصدر المصدر السابق، ص 243.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (107)
وهو كالفرق بين السماء والأرض، لكننا في نفس الاتجاه، وهذا توفيق بالنسبة لنا وبالنسبة لكم أيها الشباب)(1)
ثانيا ـ التحذير من المسالك الخاطئة في السلوك الروحي
من الخصائص المهمة التي تميز قادة الثورة الإسلامية الإيرانية، والتي لقوا بسببها بعض الإنكار من المخالفين لهم من الشيعة وغيرهم، كونهم جميعا من ذوي التوجه الروحي العرفاني، والذي أوحى للمخالفين المنتقدين لهم أنهم لا يختلفون في ذلك عن أصحاب الطرق الصوفية.
وهذا كله نتيجة عدم التفريق بين العرفان والتصوف، وبين السلوك الروحي، والاهتمام بالتربية الروحية؛ فمع كون قادة الثورة الإسلامية الإيرانية وخصوصا الإمام الخميني من المهتمين كثيرا بالعرفان الصوفي، إلا أن سلوكه والمعاني التي كان يدعو إليها تختلف اختلافا جذريا عن السلوك السلبي الذي وقع فيه بعض الصوفية أو الكثير منهم.
بل إن الإمام الخميني نفسه، ينكر على كل العلماء والمشايخ الذين يقعدون عن نصرة الدين أو السكون إلى الواقع، أو عدم مواجهة الطواغيت.
وقد أشار الشيخ حيدر حب الله إلى هذا عند ذكره لبعض الفروق المهمة بين العرفان الصوفي، والعرفان الذي يقول به كبار المتأخرين من أمثال الإمام الخميني، والعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، والشهيد مرتضى مطهري، حيث قال: (عندنا تجربة عرفانية تؤكّد القدرة على هذا التخطّي بدرجة عالية، وهي بعض مظاهر العرفان الشيعي الأخير بالخصوص، وأحبّ هنا أن آخذ ثلاث عيّنات تؤكّد قدرة العرفان الشيعي بأشكاله الأخيرة على حلّ هذه المشكلة ميدانياً بنسبة جيّدة؛ بقطع النظر عن الأصول النظرية لهذه الحلول، وهل أنها موجودة في العرفان القديم سيما عند ابن عربي أو لا؟ كما وبقطع النظر عن حلّ العرفان الشيعي عبر
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 371.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (108)
العيّنات التي سنأخذها للإشكاليّة بجميع أبعادها خصوصاً الاجتماعيّة منها)(1)
ثم ذكر العينات التي أشرنا إليها، فقال: (وهذه العيّنات ـ الخميني والطباطبائي ومطهري ـ فقد كان هؤلاء ـ سيما الأوّلين منهما ـ من أقطاب العرفان الشيعي في القرن العشرين أو من أقطاب المدافعين عنه والمنظّرين كالمطهري، وكتبهم ـ سيما الإمام الخميني ـ تشهد على مدى غوصهم في هذا العالم، وفي الوقت نفسه، لم يثن العرفان شخصاً مثل الإمام الخميني عن أن يعمل في عمق الحياة السياسية، فيؤسّس دولة ويكون زعيماً لها، إنها إحدى المرّات القلائل في تاريخ العالم، التي يكون فيها عارفٌ زعيمَ دولة، وهذا بنفسه شاهد قويّ على مدى قدرة العرفان ــ من حيث نواته الداخلية ــ على تجاوز إشكاليّة الدنيوي، بل والسعي لتشكيل دولة بكل ما تعنيه كلمة دولة من دلالات، لا بل قد نجد من يقول: إنّ بعض المدارس العرفانية التي انتمى إليها الإمام الخميني والتي كانت تعتمد بناء النفس مقدّمةً للسير والسلوك ـ لا فناءها ـ هي التي كانت صاحبة الفضل في تشكيل شخصية جبّارة صلدة كتلك التي تمتّع بها الخميني، وهو أمر يساعدنا أكثر على تحليل الموضوع ويقدّم شاهداً آخر)(2)
ثم ذكر مدى تجاوز العلامة الطباطبائي للكثير من الإشكالات التي وقع فيها الصوفية؛ فقال: (أما العلامة الطباطبائي، فلا نجد حاجة للتأكيد على تجاوزه إشكاليّة الدنيوي بالنسبة لشخص طالع كتبه، سيما منها (الميزان في تفسير القرآن)، فقد امتاز الطباطبائي بشخصية عقلانية، وحاول إقامة الفكر الإسلامي على ثنائي: القرآن والعقل، وساهم مساهمة فاعلة في حركة التحرير الديني، ونقد العقل الديني السائد، مقدّماً معطيات بالغة الأهمية دون أن يسندها ـ في الخطاب الفكري والثقافي العام ـ إلى كشوفات القلب ومشاهداته، كما فعله أحيانا
__________
(1) انظر مقالا بعنوان: العرفان الإسلامي بين الإشكاليّة المعرفيّة والآليّة التربويّة والمنحى الواقعي، حيدر حب الله، مجلة نصوص معاصرة.
(2) المصدر السابق.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (109)
بعض العرفاء، وإنما قدّم كل التصوّرات عن الحياة في صورة عقلانية ليمثل امتداداً رئيسيّاً لمدرسة الشيرازي صاحب الحكمة المتعالية)(1)
ثم ذكر نفس الموقف عن مطهري، فقال: (أما الشهيد مرتضى مطهري، فهو واحد من القلائل الذين يمكن تصنيفهم على حساب تيّار الإصلاح الديني، وقد كان إنساناً قائماً في عمق الحياة وأمواجها المتلاطمة على الصعيدين: الفكري والسياسي معاً، وليس القارئ بحاجة إلى كثير جهد وعناء ليرجع إلى أعماله الكاملة فيتأكّد من ذلك)(2)
ثم ذكر أن نفس هذا الحكم منطبق على غيرهم من الذين اشتهروا بالعرفان مع تجاوزهم لكل سلبيات التصوف، فقال: (هذه العيّنات ـ وغيرها كثير كالميرزا جواد ملكي التبريزي، والحبوبي، وجمال الدين الأفغاني ومحمد إقبال اللاهوري.. تؤكّد أن في العرفان نواة تجاوز إشكاليّة الدنيوي، بل والمزاوجة بين الفقه والعرفان كما حصل مع الإمام الخميني، وهو ما يجعل من تطوير هذه النواة أمراً هاماً لفصل العرفان عن المفاهيم التي حملها التصوّف في تاريخه، مما تعبّر عنه كلمات العزلة والوحدة والفردية والانطواء)(3)
وأحب أن أشير هنا إلى أن الذين ينسبون للإمام الخميني التأثر التام بابن عربي، نتيجة ثنائه عليه في بعض المواضع، أو ذكره له في بعض المحال، مثل ذكره له في رسالته لغورباتشوف، ليس صحيحا؛ فهو ذكره بسبب كونه شخصية تحظى بمكانة عالية لدى المدرسة السنية، وخاصة في جمهوريات الاتحاد السوفيتي التي يشكل الصوفية نسبة كبيرة فيها، ولذلك لم يذكر الملا صدرا مع كونه أكثر تأثيرا في شخصيته من ابن عربي.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإننا لو عدنا إلى تراث الإمام الخميني نجده ينتقد بشدة كل العلماء
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (110)
الذين والوا السلطات الظالمة ومكنوا للاستبداد، وأكثرهم كان من الصوفية أو من المتأثرين بهم.
وهكذا نجد كتبه مملوءة بالدعوة للعرفان العملي والسلوك الأخلاقي بعيدا عن كل تلك الشطحات التي وقع فيها الصوفية، والتي نريد في هذا الكتاب عرضها على القرآن الكريم.
ومن الأمثلة على ذلك قوله: (واعلم أن طي أي طريق في المعارف الإلهية، لا يمكن إلا بالبدء بظاهر الشريعة، وما لم يتأدب الإنسان بآداب الشريعة الحقة، لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يمكن أن يتجلى في قلبه نور المعرفة وتتكشف له العلوم الباطنية وأسرار الشريعة.. وبعد انكشاف الحقيقة، وظهور أنوار المعارف في قلبه لا بد من الاستمرار في التأدب بالآداب الشرعية الظاهرية أيضا)(1)
ثم رد على من يخالف ذلك من أدعياء التصوف؛ فقال: (ومن هنا نعرف بطلان دعوى من يقول: (أن الوصول إلى العلم الباطن يكون بترك العلم الظاهر)، أو (لا حاجة إلى الآداب الظاهرية بعد الوصول إلى العلم الباطن)، وأن هذه الدعوى ترجع إلى جهل من يقول بها، وجهله بمقامات العبادة ودرجات الإنسانية)(2)
وهكذا نرى كتابه [شرح الأربعين حديثا] مملوءا بمثل هذه المعاني الراقية التي تجنب فيها ما وقع فيه بعض الصوفية من الطامات والشطحات والتساهل مع الشريعة.
أما ما يتعلل به البعض من شرحه للفصوص، فقد كان ذلك منه في شبابه الباكر، وهو يعبر عن مرحلة فكرية مر بها، كما يمر بها سائر الناس، بالإضافة إلى أنه تجنب في شرحه الكثير من الأمور الجدلية.
__________
(1) شرح الأربعين حديثا، الخميني، ص 29.
(2) المصدر السابق، ص 29.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (111)
بل إن الإمام الخميني ينكر بشدة على الذين يكتفون من العرفان بتلك المعاني والشطحات والكتب المؤلفة فيها بعيدا عن العمل والسلوك، وفي كل مجالات الحياة، ومن الأمثلة على ذلك ما قاله الخميني في رسالته لابنه، حيث قال له: (بني: لا الإعتزال الصوفي دليل الإرتباط بالحق، ولا الدخول في المجتمع وتشكيل الحكومة شاهد الإنفصال عن الحق، الميزان في الأعمال هو دوافعها، فكثيراً ما يكون العابد والزاهد مبتلىً بشَرَك إبليس وهو يوسع ذلك الشَّرَك بما يناسبه من الأنانية والغرور والعجب والتكبر وتحقير خلق الله والشرك الخفي وأمثال ذلك مما يبعده عن الحق ويؤدي به إلى الشِّرك.. وكثيراً ما يكون المتصدي لشؤون الحكومة ذا دافعٍ إلهي فيحظى بمعدن قرب الحق كداود النبي وسليمان النبي عليهما السلام، والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وخليفته بالحق على بن أبي طالب، وكحضرة المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء في عصر حكومته العالمية.. إذاً، ميزان العرفان والحرمان هو الدافع، كلما كانت الدوافع أقرب إلى نور الفطرة وأكثر تحرراً من الحجب حتى حجب النور، تكون أكثر ارتباطا بمبدأ النور إلى حيث يصبح الكلام عن الإرتباط كفراً)(1)
وقال مخاطبا له يدعوه إلى أن يفر من أي مسؤولية تلقى عليه بحجة التفرغ للحق سبحانه وتعالى: (بني: لا تلق عن كاهلك حمل المسؤولية الإنسانية التي هي خدمة الحق في صورة خدمة الخلق.. فإن جولات الشيطان وصولاته في هذا الميدان ليست بأقل من جولاته وصولاته بين المسؤولين والمتصدين للأمور (العامة).. ولا تتعب نفسك للحصول على مقام مهما كان ـ سواء المقام المعنوي أم المادي ـ متذرعاً بأني أريد أن أقترب من المعارف الإلهية أكثر.. أو أني أريد أن أخدم عباد الله، فإن التوجه إلى ذلك من الشيطان، فضلا عن بذل الجهد للحصول عليه)(2)
__________
(1) الوصايا العرفانية للإمام الخميني، ص 55.
(2) المصدر السابق، ص 56.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (112)
ويقول له: (الميزان في أول السير هو القيام لله، إنْ في الأعمال الشخصية والفردية أو في النشاطات الاجتماعية، فاسعَ أن تكون موفقا في هذه الخطوة الأولى.. فإذا تيسر لإنسان ما ـ بدافع إلهي ـ مُلك الجن والإنس، بل إذا حصل عليه، فهو عارف بالله وزاهد في الدنيا.. وإذا كان الدافع نفسانيا وشيطانيا، فكل ما حصل عليه حتى إذا كان سبحة فقد ابتعد بهذا المقدار عن الله تعالى)(1)
وعلى نفس الموقف، نجد الإمام الخامنئي ينكر على أدعياء العرفان الكاذب؛ فيقول: (راقبوا في هذا السياق أيضاً ما يتداول من أنواع العرفان الكاذب في بيئة الشباب، فمثل هؤلاء يتسلّلون إلى الجامعات خصوصاً.. إنّ أحد البرامج هو أن يتسلّل كلّ هذا العرفان الكاذب إلى داخل الجامعات، وهو من الأشياء التي تتسبّب بالشلل؛ فلو أنّ شخصاً أصبح أسيراً وابتُلي بهذه المنسوجات الفاقدة للأصل والأساس من هذا العرفان الكاذب ـ والتي تأتي في الأغلب من مناطق خارج البلد ـ فإنّها في الواقع ستشلّه.. إنّ المعيار الذي نتبعه في حركتنا نحو السموّ المعنويّ، والتقرّب إلى الله هو التقوى والنّزاهة والورع.. فشبابنا ـ سواء بناتنا أم أبناؤنا ـ لو كانوا منزّهين وأتقياء وسعوا للابتعاد عن المعصية، وأدّوا الصلاة بتوجّهٍ واهتمام وفي وقتها، ولم يقطعوا أنسهم بالقرآن، فإنّهم لن يصبحوا أسرى هذا العرفان الكاذب)(2)
ولهذا نراه في كل المحال يدعو بدله إلى العرفان القرآني، فيقول: (إنّني أوصي شبابنا في الغالب بشأن القرآن.. فاسعوا أن لا تقطعوا رابطتكم بالقرآن، اقرأوا كلّ يوم ولو نصف صفحة، فكلّ ذلك مقرّبٌ للإنسان ويوجد الصفاء الرّوحيّ والفتوحات المعنويّة، وتلك الطمأنينة والصبر والسكينة التي يحتاجها الإنسان)(3)
__________
(1) المصدر السابق، ص 56.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2012، ص 462.
(3) المصدر السابق، ص 462.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (113)
ثالثا ـ االاهتمام بالأبعاد الروحية للشعائر التعبدية
ذلك أن الغرض الأول من الشعائر التعبدية هو إقامة ذكر الله وتحقيق الاتصال الروحي بين العبد وربه، كما قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]
وقد اهتم قادة الثورة الإسلامية الإيرانية بهذا الجانب خصوصا، بل ألفوا فيه المؤلفات الرائعة، وخصوصا الإمام الخميني الذي ألف كتابه الرائع [الآداب المعنوية للصلاة]، وهو كتاب فريد في بابه في هذا الجانب، حيث تناول كل الأبعاد الروحية والمعنوية للصلاة وشروطها، بتفصيل كبير، كما أنه ذكر الأبعاد المختلفة لسائر العبادات في كتبه وخطبه المختلفة، ومثله سائر قادة الثورة الإسلامية ومفكريها وعلمائها.
وسنقتصر هنا على بعض النماذج التي نتبين من خلالها المنهج الذي يعتمده قادة الثورة الإسلامية الإيرانية في بث أمثال هذه المعاني.
يعتبر الإمام الخميني تحقيق معنى الخشوع في الصلاة وغيرها من الشعائر التعبدية ركنا أساسيا لا تتم الصلاة الحقيقية من دونه، يقول في ذلك: (إن من الأمور اللازمة للسالك في جميع عباداته ـ ولا سيما في الصلاة التي هي رأس العبادات ولها مقام الجامعية ـ الخشوع، وحقيقته عبارة عن الخضوع التام الممزوج بالحب أو الخوف وهو يحصل من إدراك عظمة الجلال والجمال وسطوتهما وهيبتهما)(1)
ثم فصل هذا المعنى، وسر اختلاف السالكين في صورته، فقال: (قلوب أهل السلوك بحسب الجِبِلّة والفطرة مختلفة، فبعض منها عشقّي ومن مظاهر الجمال ومتوجه إلى جمال المحبوب بحسب الفطرة فهؤلاء إذا أدركوا في سلوكهم ظل الجميل، أو شاهدوا أصل الجمال
__________
(1) المصدر السابق، ص 40.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (114)
تمحوهم العظمة المختفية في سرّ الجمال فتصعقهم، لأنّ في كل جمال جلالا مختفيا وفي كل جلال جمالا مستورا.. وهذه الحالة في أوائل الأمر توجب تزلزل القلب واضطرابه، وبعد التمكين تحصل للسالك حالة الأنس وتتبدل حالة الوحشة والاضطراب المتولدة من العظمة والسطوة إلى الأنس والسكينة وتجيئه حالة الطمأنينة، كما أن حالة قلب خليل الرحمن كانت كذلك.. وبعض من القلوب خوفّي ومن مظاهر الجلال، وأرباب تلك القلوب يدركون دائماً العظمة والكبرياء والجلال، وخشوعهم يكون من الخوف، ومن تجلي الأسماء القهرية والجلالية لقلوبهم، كما أن يحيى، على نبيّنا وآله وعليه السلام، كان هكذا؛ فالخشوع يكون ممزوجا تارة بالحب وأخرى بالخوف والوحشة، وإن كان في حبّ وحشة، وفي كل خوف حبّ)(1)
ثم ذكر المراتب المختلفة للخشوع، فقال: (ومراتب الخشوع على حسب مراتب إدراك العظمة والجلال والحسن والجمال، وحيث أن أمثالنا مع ما لنا من هذه الحالة، من نور المشاهدات محرومون فلا بد أن نكون بصدد تحصيل الخشوع من طريق العلم أو الإيمان، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1 - 2]، فجعل الخشوع في الصلاة من حدود الإيمان وعلائمه.. فكل من لم يكن خاشعا في الصلاة فهو خارج عن زمرة أهل الإيمان طبقا لما قاله الذات المقدسة الحق تعالى شأنه)(2)
ثم ذكر ما ذكره علماء السلوك من أقسام الخشوع في الصلاة، وهي (الأول: الخشوع القلبي وهو أن يكون تمام همّته في الصلاة ومعرضا عما سواها بحيث لا يكون في قلبه سوى المحبوب.. والثاني: الخشوع في الجوارح وهو يحصل بأن يغمض عينيه ولا يلتفت إلى الجوانب ولا يلعب بأعضائه.. وبالجملة لا تصدر منه حركة سوى الحركات الصلاتية، ولا يأتي بشيء
__________
(1) الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني، ص 40.
(2) المصدر السابق، ص 41.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (115)
من المكروهات)(1)
وعلق على ذلك بقوله: (أقول: إن حقيقة الخشوع عبارة عن حالة قلبية تحصل للقلب من إدراك الجلال والجمال، وبمقدار ما يدرك القلب منهما تزول عنه الإنّيّة والأنانية فيخضع ويسلّم لصاحب الجلال والجمال.. وبهذه العناية نسب الخشوع إلى الأرض والجبال، فإن الأرض مسلّمة للعوامل الطبيعية وليس لها إرادة في إنبات النبات، بل هي تسليم محض، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [فصلت: 39]، وهكذا الجبل بالنسبة إلى نزول القرآن فإن أنيّة الجبل تندكّ ولا يمكنه المقاومة، قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21])(2)
ثم ذكر ارتباط الإيمان بالخشوع، فقال: (وبما أن صلواتنا ليست مشفوعة بالخشوع فإن ذلك ناجم إمّا عن نقص الإيمان، أو فقدانه.. وإن الاعتقاد والعلم مغايران للإيمان، فالعلم بالله وأسمائه وصفاته وسائر المعارف الإلهية الذي يوجد فينا، مغاير للإيمان وليس بإيمان، والدليل على ذلك إن الشيطان كما يشهد له الذات المقدسة الحق عالم بالمبدأ والمعاد ومع ذلك فهو كافر، لأنه يقول: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف: 12]، فهو إذا يعترف بالحق تعالى وخالقيته، ويقول أيضاً: ﴿أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الأعراف: 14]، فيعتقد بالمعاد وهو كذلك عالم بالكتب والرسل والملائكة، ومع ذلك كله خاطبه الله سبحانه بلفظ الكافر، وأخرجه من زمرة المؤمنين.. فإذاً يمتاز أهل العلم من أهل الإيمان، وليس كل من هو من أهل العلم أهل للإيمان، فيلزم للسالك أن يدخل نفسه في سلك المؤمنين بعد سلوكه العلمي، ويوصل إلى قلبه عظمة الحق وجلاله وبهاءه، وجماله جلّت عظمته كي يخشع قلبه، وإلا فمجرد العلم لا يوجب
__________
(1) المصدر السابق، ص 41.
(2) المصدر السابق، ص 41.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (116)
خشوعا كما ترونه في أنفسكم فإنكم مع كونكم معتقدين بالمبدأ والمعاد، ومع اعتقادكم بعظمة الله وجلاله ليست قلوبكم خاشعة)(1)
ثم رد على الإشكال الذي قد يوجه لما قاله بما ورد من نسبة عدم الخشوع للمؤمنين في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد: 16]، بقوله: (لعلّ المراد منه الإيمان الصوري أي الإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا فالإيمان الحقيقي يلازم مرتبة من الخشوع لا محالة أو أن المراد من الخشوع في هذه الآية، هو الخشوع بمراتبه الكاملة، كما أن العالم ربما يطلق على من وصل من حد العلم إلى حد الإيمان، ويحتمل أن تكون الآية الشريفة: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28] إشارة إلى هؤلاء، وقد أطلق العلم والإيمان والإسلام في الكتاب والسنة على المراتب المختلفة منها)(2)
ثم ذكر الحاجة إلى الرياضات والمجاهدات الروحية للتحقق بالخشوع، فقال: (وبالجملة على السالك لطريق الآخرة، وخصوصا على السالك بالخطوة المعراجية الصلاتية أن يحصّل الخشوع بنور العلم والإيمان وأن يمكّن هذه الرقيقة الإلهية، والبارقة الرحمانية في قلبه بمقدار ما يمكنه، فلعله يستطيع أن يحتفظ بهذه الحالة في جميع الصلاة من أولها إلى آخرها.. وحالة التمكّن والاستقرار وان كانت لا تخلو في أول الأمر من صعوبة وأشكال لأمثالنا، ولكنها مع الممارسة والارتياض القلبي أمر ممكن جدّا)(3)
ثم توجه بالنصح لمريديه وتلاميذه ـ كعادته ـ قائلا: (عزيزي، إن تحصيل الكمال وزاد الآخرة يستدعي طلبا وجدا، وكلما كان المطلوب أعظم فهو أحرى بالجدّ.. ومن الواضح أن معراج القرب إلى حضرة الألوهية، ومقام جوار رب العزة، لا يتيسر مع هذه الرخوة والفتور
__________
(1) المصدر السابق، ص 42.
(2) المصدر السابق، ص 42.
(3) المصدر السابق، ص 42.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (117)
والتسامح، فيلزمك القيام الرجولي حتى تصل إلى المطلوب، وطالما أنك تؤمن بالآخرة وتعلم بأن النشأة الآخرة لا يمكن أن تقاس بهذه النشأة من حيث السعادة والكمال ولا في جانب الشقاوة والوبال، لأن تلك النشأة عالم أبدي دائم لا موت فيه ولا فناء له، سعيدة في راحة وعزة ونعمة أبدية وهي راحة لا يوجد لها شبيه في هذا العالم، وعزة وسلطنة إلهيان ليس لهما نظير في هذه النشأة، ونِعَمُ ما خطرت على مخيِّلة أحد وكذلك الأمر في جانب الشقاوة فإن عذابها ونقمتها ووبالها ليس لها في هذا العالم مثيل ولا نظير، وتعلم أن طريق الوصول إلى السعادة إنما هو طاعة رب العزة، وليس في العبادات ما يضاهي هذه الصلاة فإنها معجون جامع إلهي يتكفل بسعادة البشر (وإن قبلت قبلت جميع الأعمال) فلا بدّ لك من الجدّ التام في طلبها ولا تتضايق في السعي إليها ومن تحمل المشاق في سبيلها مع أنه ليس فيها مشقة بل إنك إذا واظبت عليها مدة يسيرة، وحصل لقلبك الأنس بها لتجدنَّ في هذا العالم من المناجاة مع الحق تعالى شأنه لَذّات لا يقاس بها لذّة من لذّات هذا العالم كما يظهر ذلك من السير في أحوال أهل المناجاة مع الله سبحانه)(1)
ثم لخص كل هذه المعاني السامية والإشارات العميقة والمواعظ الرقيقة بقوله: (وبالجملة فخلاصة ما ذكرنا في هذا الفصل، أنه إذا علم الإنسان بالبرهان أو ببيان الأنبياء عليهم السلام عظمة الله وجماله وجلاله، فلا بدّ إن يذكِّر القلب بها حتى يدخل الخشوع شيئا فشيئا في القلب بواسطة التذكُّر والتوجه القلبي والمداومة على ذكر عظمة الله وجلاله حتى تحصل النتيجة المطلوبة، ولا بد للسالك ألاّ يقنع في حال من الحالات بالمقام الذي هو فيه، فإنه مهما حصلت المقامات لأمثالنا فلا تساوي أصغر نقد في سوق أهل المعرفة، ولا تقابل في سوم أصحاب القلوب حبة خردل، فليتذكر السالك في جميع حالاته نقائصه ومعايبه، فعلّه ينفتح له
__________
(1) المصدر السابق، ص 43.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (118)
طريق إلى السعادة من هذه السبيل والحمد لله)(1)
وهكذا يذكر الإمام الخامنئي المعاني العميقة للصلاة، فيقول: (إنّ العبادات، وعلى رأسها الصلاة، لها كلُّ هذه الأهميّة، وسُمّيت الصلاة بعمود الدِّين، ذلك عندما تكون الصلاة مقرونة بالتوجّه والحضور، فإنّها تجعل قلب المصلّي وروحه والجوّ من حوله لطيفاً ونورانيّاً ومعطّراً، وتُنير البيت والأسرة وجوّ العمل والأصدقاء وجوّ المحلّة وكلّ أجواء الحياة)(2)
ويقول: (رغم ما لدينا حول الصلاة من كلام مختار وقيِّم مرويّ عن الأئمّة وعن المفكِّرين وأصحاب الرأي الدِّينيّ ممّا يُنوّر قلوب الهداية الخاصّة، ويُعرّفها بحقيقة وحكمة هذه الفريضة الإلهيّة الكبرى، رغم ذلك ينبغي القول إنّ منزلة الصلاة لم تُعرف جيّداً عند كثير من الناس، حتّى عند الّذين يعتبرون الصلاة فريضة ويؤدّونها.. لا شكّ أنّ واجباً ثقيلاً يقع على عاتق علماء المجتمعات الإسلامية في هذا المجال، وينبغي أنْ تُستعمل جميع أساليب التبيين والتوضيح من أجل أداء حقّ معرفة الصلاة)(3)
ويقول: (ينبغي القول إنّ الصلاة هي المعبر الأساس لسلوك الإنسان في الطريق الّذي وضعته الأديان الإلهيّة أمام البشر، ليتمكّن من خلاله من بلوغ الهدف والغاية الأساس للحياة، أي الفلاح ونيل سعادة الدنيا والآخرة.. والصلاة هي الخطوة الأولى للسلوك إلى الله.. لكنْ سعة هذا العامل الإلهي كبيرة لدرجة أنّه يُصبح جناحاً يُحلِّق به الإنسان العرشي في أوج كماله البشريّ أيضاً، إلى حدّ أنّ أفضل البشر في التاريخ أي رسول الإسلام الأعظم قال: (الصلاة قرّة عيني)، وكان يطلب من المؤذِّن عند حلول وقت الصلاة أنْ يُريح نفسه ويطمئنها بأداء الأذان.. ولعلّه يُمكن القول إنّه ليس لأيِّ عملٍ عباديٍّ آخر غير الصلاة كلّ هذا الأثر الكبير
__________
(1) المصدر السابق، ص 47.
(2) توجيهات أخلاقية للإمام الخامنئي، ص 34.
(3) من ندائه إلى ملتقى الصلاة التاسع (8/ 9/1999 م، توجيهات أخلاقية للإمام الخامنئي، ص 35.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (119)
وتيسير أمور الإنسان ودعمه خلال جميع مراحل تكامله المعنويّ؛ فالصلاة تمنح أفراد المجتمع السلامة والسموّ الأخلاقيّ والمعنويّ أوّلاً، كما أنّها بشكلها ومحتواها الخاصّ تدعو المصلّي للانضباط وتُنجيه من الخواء والضياع، لذلك ينبغي أنْ تُعدّ بحقٍّ كأحد أهمِّ عوامل الانضباط والانتظام الاجتماعيّ.. إذا راجت الصلاة بين الناس بحضور وعن شوقٍ وفي وقتِ فضيلتها، فسينال الناس نتائجها القطعيّة تلك.. ومن البديهيّ أنّ الصلاة بكسلٍ، ودون حضور، أو رياء، لن تحمل أيّاً من تلك الفوائد)(1)
لا يختلف تحقيق الطمأنينة في الصلاة والشعائر التعبدية عن الخشوع في فرضيته للتحقق بالأهداف التي ترمي إليها تلك الشعائر، وفي ذلك يقول الإمام الخميني: (من الآداب المهمة القلبية للعبادات ـ وخصوصا العبادات الذكرية ـ الطمأنينة، وهذه غير الطمأنينة التي اعتبرها الفقهاء رضوان الله عليهم في خصوص الصلاة، فهذه عبارة عن أن السالك يأتي بالعبادة مع سكون القلب، واطمئنان الخاطر، لأن العبادة إذا أتي بها في حال اضطراب القلب وتزلزله فالقلب لا ينفعل بمثل هذه العبادة ولا يحصل أثر من العبادة في ملكوت القلب ولا تصير حقيقة العبادة صورة باطنية للقلب، والحال أن من إحدى جهات تكرار العبادات وتكثير الأذكار والأوراد أن يتأثر القلب منها وينفعل حتى يتشكل باطن السالك شيئا فشيئا من حقيقة الذكر والعبادة، ويتحد قلبه بروح العبادة، وطالما لم يكن للقلب اطمئنان وسكون وطمأنينة ووقار لم يكن للأذكار والنسك فيه تأثير ولا يسري أثر العبادة في ظاهر البدن وملكه إلى ملكوته وباطنه ولا يؤدي إلى القلب حظوظه من العبادة، وهذا من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى بيان، ويعلم بأدنى تأمّل، وإذا كانت العبادة بهذه الكيفية بحيث لا يشعر القلب بها أصلا ولا
__________
(1) توجيهات أخلاقية للإمام الخامنئي، ص 36.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (120)
يظهر منها أثر في الباطن لا يتحفظ عليها في سائر العوالم ولا تصعد من نشأة الملك إلى نشأة الملكوت، ومن الممكن أن تمحى صورتها بالكلية عن صفحة القلب (ونعوذ بالله) عند شدائد مرض الموت وسكراته المهيبة والأهوال والمصائب التي تكون بعد الموت فيقدم الإنسان على الله وهو صفر اليدين)(1)
ويضرب مثالا على ذلك بالذكر الشريف: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، (فإذا قاله أحد من قلبه وبإطمئنان من لبّه وراح يعلّم القلب هذا الذكر الشريف، فيتعلم القلب الذكر ويتكلم به شيئا فشيئا حتى يتبع لسان القلب اللسان الظاهر فيكون القلب ذاكراً أولا ثم يتبعه اللسان الظاهر، ويكون ذاكرا.. ففي أول الأمر ما لم ينطق لسان القلب فلسالك طريق الآخرة أن يعلّمه النطق ويلقي عليه الذكر مع طمأنينة وسكون، فإذا انفتح لسان القلب بالنطق يكون القلب قبلة للّسان ولسائر الأعضاء؛ فإذا شرع القلب في ذكر تكون مدينة وجود الإنسان بأسرها ذاكرة، وأما إذا قال هذا الذكر الشريف بلا سكون في القلب ولا طمأنينة منه ومع العجلة والاضطراب واختلال الحواس فلا يكون منه أيّ تأثير في القلب ولا يتجاوز عن حدّ اللسان والسمع الحيواني الظاهري، إلى الباطن والسمع الإنساني ولا تتحقق حقيقته في الباطن ولا يصير صورة كمالية للقلب غير ممكنة الزوال فإن إصابته الأهوال والشدائد وبالخصوص أهوال الموت وسكراته وشدائد نزع الروح الإنساني فينسى الذكر بالمرّة وينمحي الذكر الشريف عن صحيفة قلبه بل اسم الله سبحانه وتعالى واسم الرسول الخاتم والدين الشريف الإسلام، والكتاب المقدس الإلهي والأئمة الهداة وسائر المعارف التي ما أنهاها إلى القلب فينساها كلها وعند السؤال في القبر لا يحير جوابا، والتلقين أيضاً لا يفيد حاله لأنه لا يجد في نفسه من حقيقة الربوبية والرسالة وسائر المعارف أثراً، وما قاله بقلقلة لسانه وما حصلت له
__________
(1) الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني، ص 48.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (121)
صورة في القلب قد انمحى من خاطره ولم يكن له نصيب من الشهادة بالربوبية والرسالة وسائر المعارف)(1)
وبعد نقله لبعض الأحاديث الواردة في الموضوع، والتي تؤكد ما طرحه، قال: (والأحاديث الشريفة في هذا النحو من الطمأنينة وآثارها، كثيرة، ومن هذه الجهة أمر بترتيل القرآن الشريف.. والسّر في ذلك أنّ اشتغال القلب وتكدره في أيام الشباب أقل لذا يتأثر القلب من القرآن أكثر وأسرع ويكون أثره أيضاً أبقى)(2)
هذه مجرد أمثلة مختصرة وملخصة جدا لما ذكره في هذين الركنين من أركان الصلاة، وفي الكتاب تفاصيل كثيرة مهمة جدا، وهي تدل على نوع التوجه الروحي الذي يعتمده قادة الثورة الإسلامية الإيرانية، وهو منهج بعيد كل البعد عن الانحراف الذي وقع فيه المتأخرون من الصوفية، بل هو أقرب إلى منهج المتقدمين منهم، أولئك الذين اهتموا بالأعمال وأسرارها الباطنية، والتي جمعها أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء، ونقلها عنه الكاشاني في المحجة البيضاء.
ولهذا نرى الإمام الخميني يرجع كثيرا للفيض الكاشاني، ويثني عليه، وعلى كتابه، وينقل منه أحيانا الفصول الكاملة، وهي نفس الفصول الموجودة في إحياء علوم الدين.
3. الأذكار والأدعية وأبعادها الروحية
كما اهتم قادة الثورة الإسلامية الإيرانية بالصلاة وجوانبها الروحية، اهتموا بالأذكار والأدعية، وأولوها اهتماما كبيرا، حيث نجد معظم خطبهم تبدأ وتنتهي بأذكار وأدعية، كما أنهم يهتمون بالترغيب في الأذكار والأدعية المأثورة.
__________
(1) المصدر السابق، ص 49.
(2) المصدر السابق، ص 50.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (122)
ومن الأمثلة على ذلك ترغيبات الإمام الخميني الكثيرة في المناجاة الشعبانية، والتي أولاها اهتماما كبيرا، ومن ذلك قوله في بعض خطبه في الدعوة للتزود من بركات شهر شعبان: (إن شهر شعبان هو مقدمة لشهر رمضان يستعد الناس فيه للدخول في ضيافة الله فمثلًا لو دعاكم أحدهم إلى بيته لأجريتم بعض التغييرات والإقدامات التحضيرية كتغيير نوع اللباس وحتى طريقة الكلام والسلوك، وشهر شعبان هو كذلك لأنه الشهر الذي يجب أن نهي ء أنفسنا فيه للدخول إلى ضيافة الله وخير طريقة لذلك هي المناجاة الشعبانية وأنا لم أر في الأدعية أي دعاء قيل بأن جميع الأئمة كانوا يقرأونه إلّا دعاء المناجاة الشعبانية، ولم أر بأن الأئمة كانوا يدعون بدعاء آخر غير المناجاة الشعبانية، لأن المناجاة الشعبانية هي لإعدادكم، لإعداد الجميع لضيافة الله عزوجل)(1)
ثم تحدث عن أهمية الدعاء وضرورته، فقال: (هنالك الكثير من الجهل وسوء الفهم عند الإنسان والذي يزداد أحيانا يوماً بعد يوم، والكثير منا لا يعرف ماهية الدعاء وحقيقته ويظن أنه بوجود القرآن لا حاجة للأدعية.. إن هؤلاء لا يدركون أهمية الدعاء وأثره في نفوس الناس والانعكاس الذي يسببه في سلوكهم وأفعالهم؛ فالمناجاة الشعبانية مثلًا خير دليل على هذا، فلقد توارثها أئمتنا الأطهار وأكثروا من الدعاء بها وهي بحق كنز ثمين اعتمد عليه العرفاء في عرفانهم واستنبطوا منها الكثير والكثير، بالطبع فإننا عندما نتحدث عن العرفان فإننا نقصد العرفان الإسلامي وليس العرفان الهندي وغيره من أنواع العرفان)(2)
ثم ذكر أدوار الدعاء في حياة الإنسان، فقال: (الدعاء يأخذ بيد الإنسان ويرفع من منزلته ويصل به إلى عوالم لا يمكن لي ولكم أن نفهمها وندركها.. إن ترك الإنسان على حاله لكان
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 13، ص: 32
(2) المصدر السابق، ج 13، ص: 32
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (123)
أشد افتراساً من الحيوانات الضارية ولكن في الدعاء لغة خاصة تسمو بالإنسان وترفع من منزلته ومن مستوى وعيه وإدراكه)(1)
وقال: (إن للأدعية الواردة في بعض الشهور والأيام وخصوصاً في رجب وشعبان ورمضان دور هام في تقوية النفوس وتهذيبها وفتح السبل أمامه وتنوير وإضاءة الدرب وإخراجه من الظلمات إلى النور بصورة إعجازية بحق)(2)
ورد على الذين يزهدون في الدعاء، فقال: (اهتموا بالدعاء وتوسلوا به ولا تلتفتوا للمغرضين الذين يسعون لإضعاف الدعاء والإضرار بالإسلام، وفي الحقيقة فإن هؤلاء أناس ساذجون لا يعرفون محتويات هذه الكتب وقيمتها وأهميتها فالدعاء هو انعكاس لمعاني القرآن على لسان الأئمة؛ فللقرآن لغته الخاصة وللدعاء لغة خاصة أيضاً، وهي تختلف بدورها عن لغة العلماء والعرفاء كذلك)(3)
وبين أهمية الأدعية الواردة عن أئمة الهدى، فقال: (إن الأدعية التي وردتنا عن الأئمة الأطهار: هي الوحيدة القادرة على تحرير الإنسان وتخليصه وإخراجه من الظلمات وتطهيره من الشوائب والشهوات.. لقد عانى أئمتنا الكثير من ظلم الحكام والذين لم يسمحوا لهم بالعمل المباشر والدعوة العلنية إلى الله فاضطر أئمتنا إلى العمل السري وتسليح الناس بالدعاء ليكتسب الإنسان قوة روحية هائلة تحرره من سلاسل الشهوة وقيود الرغبة وتسمو به نحو الشهادة والتضحية)(4)
ونفس الموقف نجده عند الإمام الخامنئي الذي يولي الأذكار والأدعية أهمية بالغة، ومن
__________
(1) المصدر السابق، ج 13، ص: 33
(2) المصدر السابق، ج 13، ص: 33
(3) المصدر السابق، ج 13، ص: 33
(4) المصدر السابق، ج 13، ص: 33
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (124)
الأمثلة على ذلك قوله عن الاستغفار وأهميّته: (الاستغفار يُنجيكم من الحقارة.. الاستغفار يُنجينا من القيود والسلاسل والغلّ.. الاستغفار يُجلي صدأ قلوبكم النورانيّة الّتي وهبها الله تعالى لكم ويُطهّرها.. القلب يعني النفس، يعني الروح، يعني الهويّة الواقعيّة للإنسان.. إنّه شيء نورانيّ جدّاً.. كلُّ إنسان نورانيّ، حتّى الإنسان الّذي لا يعرف الله ولا يرتبط به، فإنّه يحمل نورانيّة في جوهره وذاته، لكنّ الصدأ يُغطّي قلبه لافتقاره إلى المعرفة ولارتكابه الذنوب وركوبه الشهوات، والاستغفار يُجلي ذلك الصدأ وينوّره.. الاستغفار يعني طلب المغفرة والعفو الإلهي عن الذنوب؛ فإذا تمّ الاستغفار بشكلٍ صحيح فسينفتح باب البركات الإلهيّة في وجه الإنسان، فكلُّ ما يحتاج إليه الفرد البشريّ والمجتمع الإنسانيّ من ألطافٍ إلهيّة وتفضّلات ورحمة ونورانيّة وهداية إلهيّة وتوفيق من الله وعون على الأمور ونجاح في الساحات المختلفة، تنغلق أبوابها بسبب الذنوب الّتي نرتكبها؛ فالذنوب تُصبح حجاباً بيننا وبين الرحمة والتفضُّل الإلهيّ، والاستغفار يُزيل ذلك الحجاب، ويفتح أمامنا سبيل الرحمة والتفضُّل الإلهيّ، تلك هي فائدة الاستغفار)(1)
ويذكر الآثار التي يحدثها الاستغفار في النفس والواقع، فيقول: (لاحظوا آيات القرآن في عدّة مواضع قد ذكرت للاستغفار فوائد دنيويّة وفوائد أخرويّة.. مثلاً: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أجل مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ [هود: 3]، ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10 - 12].. كلّ تلك الآيات ـ من هذا القبيل ـ يُفهم منها أنّ السبيل إلى نيل التفضُّل الإلهي هو الاستغفار، وببركته ينهمر الفضل الإلهي على قلب الإنسان وجسمه وعلى المجتمع الإنسانيّ، لذلك فإنّ الاستغفار مهمّ.. الاستغفار بذاته هو جزءٌ من
__________
(1) أخلاق ومعنويت (فارسي)، ص 163، نقلا عن توجيهات أخلاقية للإمام الخامنئي، ص 37.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (125)
التوبة، والتوبة تعني العودة إلى الله، وعليه فإنّ الاستغفار هو ركنٌ من أركان التوبة، وهو طلب العفو والمغفرة من الله تعالى، وهي إحدى النِّعم الإلهيّة الكبرى، أي أنْ يفتح الله تعالى باب التوبة بوجه عباده ليتمكّنوا من السير في طريق الكمال، وأن لا يُقعدهم الذنب عن ذلك، لأنّ الذنب يُسقط الإنسان من أوج علوّه الإنسانيّ؛ فكلُّ ذنب يوجِّه لروح الإنسان وصفائه ومعنويّاته وعزّته الروحيّة ضربة، ويذهب بشفافيّة روح الإنسان ويُكدِّرها؛ فالذنب يقضي على الجانب المعنويّ للإنسان والّذي يُميِّز الإنسان عن باقي موجودات عالَم المادّة، ويُسقط شفافيّته ويقرِّبه من الحيوانات والجمادات.. وعلاوة على هذا الجانب المعنويّ، فإنّ الذنوب تتسبّب بسلب توفيق الإنسان في حياته؛ فالإنسان يفشل في كثير من ميادين التحرُّك البشريّ بسبب الذنوب الّتي تصدر عنه، ولذلك الأمر تبرير علميّ وفلسفيّ ونفسيّ أيضاً، وليس تعبُّداً وألفاظاً فقط)(1)
وهكذا نراه يولي الدعاء أهمية كبرى، ويتحدث عنه في الكثير من خطبه، ومن الأمثلة على ذلك قوله: (إن من أعظم النعم الإلهية التي وهبها الله للإنسان نعمة الدعاء، يكفي أن الله سبحانه وتعالى هو خالقنا ومولانا، ونحن عباده الضعفاء، وقد أجاز لنا أن نطلب منه ونطلبه، فهذا من أكبر نِعَم الله وأعظم مننه على الإنسان.. ولولا نعمة الدعاء لكان الإنسان في سجن خانق، كما هو حال الذين لا يؤمنون بالله عز وجل، ولا يقولن أحد أنه إذا كان هؤلاء في سجن خانق، فلماذا لم يختنقوا بعد! كلا، فهم يختنقون بالفعل)(2)
ويتحدث عن آثار الدعاء، فيقول: (يعيش الإنسان حياته اليومية دون أن يلتفت إلى نفسه وإلى ربه ما دامت جميع أموره تسير على ما يرام، لكن يكفي أن يقع في مأزق واحد حتى
__________
(1) أخلاق ومعنويت (فارسي)، ص 163، نقلا عن توجيهات أخلاقية للإمام الخامنئي، ص 37.
(2) المواعظ الحسنة، الإمام الخامنئي، ص 5.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (126)
يعلم أهمية ذكر الله ودعائه، وقيمة مخاطبته وطلبه.. نحن قد رأينا الكثيرين من المساكين الذين عانوا من السجون والشدائد ولم يكونوا مؤمنين بالله، وكنا نشفق لحالهم؛ ففي تلك الحالات التي تنسد جميع الأبواب على الإنسان وتشتد عليه الدنيا، لا ينجو ولا يفلح إلا من كان مع الله، حاضراً بين يديه، مسموحاً له بالتكلم مع ربه.. فأمثال هذا هم الذين ينعمون بالأمن والطمأنينة والراحة الحقيقية، وكل من عداهم مسكين خاسر)(1)
ويقول: (يعيش الإنسان حياة صعبة، والدعاء نعمة الله وباب الفرج.. وويل لمن أغلق هذا الباب على نفسه، وويل للغافلين الذين لا يطلبون من الله شيئاً)(2)
ويتحدث عن آداب الدعاء ومعانيه الروحية، فيقول: (ليس الطلب من الله أن يقول المرء بلسانه اللهم ارحمني واقضِ دَيني وافعل بي كذا وكذا.. فليس هذا هو الطلب، إنه بعض تموجات وذبذبات صوتية لا قيمة لها.. الطلب الحقيقي هو عندما يكون القلب وجميع الحواس مع الله وتحت تصرفه، ففي هذه الحال يُستجاب الدعاء قطعاً.. إن قيمة الدعاء بالنسبة للداعي أسمى من استجابته، فنفس حالة الدعاء أعظم من استجابة الدعاء، وقد نُقل عن أحد كبار العرفاء قوله: (أنا مِنْ أنْ أُحرم من الدعاء أخوف مِنْ أنْ أُحرم من الإجابة).. إن المسكين هو المحروم من الدعاء والغافل عن التكلم مع ربه)(3)
ثم يوجه خطابه للشباب بقوله: (أنتم الشباب يجب أن تدعوا وتتضرعوا وتتكلموا مع الله، وتطلبوا منه حوائجكم، اطلبوا منه كل شيء، وكل ما يحلو لكم.. وبالطبع، إن من يعيش حالة الأنس مع الله لن تتبادر إلى ذهنه الأمور الصغيرة، بل سيكون منصرفاً بشكل تام إلى ما هو أعظم وأكبر.. القليل هو عشرة آلاف ليرة (مثلاً)، والأكثر هو عشرة ملايين، ولكن الأغلى
__________
(1) المصدر السابق، ص 5.
(2) المصدر السابق، ص 5.
(3) المصدر السابق، ص 5.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (127)
والأثمن هو طلب المغفرة من الله.. وفي المناجاة الشعبانية، يقول الإمام: (إلهي، ما أظنك تردني في حاجة قد أفنيت عمري في طلبها منك).. فما هي؟ إنها في ما ادَّخر.. وفي دعاء أبي حمزة الثمالي: (وإن قوماً آمنوا بألسنتهم ليحقنوا به دماءهم) فإيمان بعض الناس بالله هو مجرد لقلقة لسان ليحفظوا أنفسهم، وليتمتعوا ببركات المجتمع الإسلامي، ولكننا نرى في هذا الدعاء: (فإنّا آمنّا بك بألسنتنا وقلوبنا لتعفو عنا) فجعل العفو والمغفرة الإلهية هدفاً للإيمان.. إن نيل مغفرة الله هو من أعلى المراتب وأعظم الحوائج.. وعلينا أن نطلب هذا الأمر من الله دائماً ونسأله التفضل علينا وإعانتنا في جميع حوائج الدنيا والآخرة)(1)
ويقول: (أنتم أيها الشباب، عندما تدعون، يجب أن تعلموا بأنكم تقفون بين يدي الله دون أن يكون ذلك في مخيلتكم، لأن الله لا يمكن تصوره أبداً.. يجب أن تتصوروا أنفسكم عبيداً ضعافاً في غاية المحدودية والعجز.. وهذا هو الواقع فعلاً.. أنا وأنتم قدراتنا محدودة جداً.. فجرثومة تدخل إلى أجسامنا تفقدنا السيطرة بشكل كامل.. زكام حاد يصيب أحدنا يشعره بالعجز.. إلى غير ذلك من الأمراض والعوارض.. علينا أن نستحضر دائماً محدوديتنا وضعفنا وحقارتنا أمام الله وأمام أوليائه، وعندما نطلب يجب أن نعرف أن المولى هو صاحب الاختيار وبيده الإجابة.. ينبغي أن نردد بألسنتنا ما نريده من أعماق قلوبنا، وهذا هو الدعاء الذي يقربنا من الله.. ادعوا ما استطعتم؛ وادعوا أن يهبكم الله السكينة.. وإذا دعوتم فأدعو لنا كذلك)(2)
4. التعرف على أسرار الشعائر التعبدية
وهي من المعاني التي اهتم بها قادة الثورة الإسلامية الإيرانية عند حديثهم عن العبادات
__________
(1) المصدر السابق، ص 5.
(2) المصدر السابق، ص 6.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (128)
المختلفة، وخصوصا ما يرتبط بها من واجبات ومستحبات ونحوها، فهم لم يكتفوا بذكر ما ورد فيها في أبواب الفقه، وإنما يضمون إليها المعاني الروحية، سواء تلك التي قالها علماء السلوك، أو يذكرون معاني جديدة لم يسبقوا إليها.
ومن الأمثلة على ذلك ما قاله الإمام الخميني في بعض خطبه للحجاج يذكرهم فيها بالاهتمام بالنواحي الروحية والمعنوية للحج مثل اهتمامهم بالنواحي الظاهرية منه، فمما ورد فيها: (إن المراتب المعنوية للحج هي رأسمال الحياة الخالدة وهي التي تقرب الإنسان من أفق التوحيد والتنزيه، وسوف لن نحصل على شيء ما لم نطبق أحكام وقوانين الحج العبادية بشكل صحيح وحسن، وحرفاً بحرف، وعلى الحجّاج المحترمين والعلماء المعظمين مسؤولي قوافل الحجّاج أن يصرفوا وقتهم ويكون كل همّهم تعليم وتعلم مناسك الحج، وعلى العارفين مراقبة من يرافقهم حتى لا يتخلف أحد عن الأوامر لا سمح الله)(1)
وقال: (في المواقيت الإلهية والمقامات المقدسة، في جوار بيت الله المليء بالبركات، راعوا آداب الحضور في الساحة المقدّسة للعلي العظيم، وحرّروا قلوبكم أيُّها الحجّاج الأعزّاء من جميع الارتباطات المتعلقة بغير الله، وأخرجوا من قلوبكم غير حب الله، ونوّروها بأنوار التحليات الإلهية، حتى تكون الأعمال والمناسك في سيرها إلى الله مليئة بمضمون الحج الإبراهيمي وبعده بالحج المحمدي، وبمقدار تخفيف الحمل من أفعال الطبيعة يسلم الجميع من أوزار المنى والمنية، وبحمل ثقل معرفة الحق وعشق المحبوب تعودون إلى أوطانكم وتجلبون للأصدقاء هدايا النعم الإلهية الأزلية بدل الهدايا المادية الفانية، وبقبضات مليئة بالقيم الإنسانية الإسلامية التي بعث لأجلها الأنبياء العظام من إبراهيم خليل الله إلى محمد حبيب الله صلى الله عليه وآلهم أجمعين، تلتحقون بالرفاق عشّاق الشهادة.. هذه القيم والدوافع التي تحرِّر الإنسان من أسر النفس
__________
(1) أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني، ص 13.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (129)
الأمَّارة بالسوء، وتنجّي من الارتباط بالشرق والغرب، وتوصل إلى شجرة الزيتون المباركة اللا شرقية واللا غربية)(1)
وقال مخاطبا لهم: (انتبهوا إلى أن السفر إلى الحج ليس سفراً للتجارة، وليس سفراً لتحصيل أمور الدنيا، إنما هو سفر إلى الله.. أنتم ذاهبون إلى بيت الله الحرام، فأتمّوا كل الأمور والأعمال المطلوبة منكم بطريقة إلهية.. إن سفركم الذي يبدأ من حين التهيّؤ هو وفادة إلى الله، سفر إلى الله تعالى وكما أن المسافرين إلى الله أمثال الأنبياء عليهم السلام والعظماء من ديننا، مسافرون إلى الله في جميع أحوالهم وأوقات حياتهم، ولم يتخلّفوا خطوة واحدة عن أي شيء في برنامج الوصول إلى الله، أنتم أيضاً تذهبون الآن وفوراً إلى الله، في الميقات الذي تذهبون إليه تلبون فيه نداء الله، وتقولون لبّيك اللهم لبّيك، يعني أنت تدعونا ونحن نجيب الدعوة، معاذ الله أن تقوموا بعمل لا يرضاه الله تبارك وتعالى أنا لا أقبل ولا أريدكم إذا كنتم غير إسلاميين.. معاذ الله أن تجعلوا هذا السفر سفراً للتجارة أو تبحثوا الأمور والمسائل التجارية فيما بينكم، أيها السادة أهل العلم، أيتها القوافل، يا رؤساء القوافل، يا سائر الحجاج، هذا السفر سفر إلى الله وليس سفراً إلى الدنيا، فلا تلوّثوه بها)(2)
وهو لا يكتفي بهذه التنبيهات المجملة، بل يضم إليها شرح الأسرار المرتبطة بكل شعيرة، ومن الأمثلة على ذلك قوله عن التلبية: (التلبية التي تتكرر عدة مرات من إنسان، حقيقتها أنّه يستجيب لدعوة الله بالاسم الجامع، ويستمع بروحه لنداء الحق، فالمسألة هي مسألة الحضور بين يدي الله ومشاهدة جمال المحبوب.. ويحكى أن المتحدث في هذه الساحة المقدسة يتجاوز ذاته لينفي وهو يكرر استجابته الدعوة ويعقب بعد ذلك بنفي الشريك لله بالمعنى
__________
(1) أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني، ص 15.
(2) المصدر السابق، ص 16.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (130)
المطلق الذي يعلمه أهل الله ليس الشريك في الألوهية فقط، وإن كان نفي الشريك في هذا المقام أيضاً شاملاً لجميع المراتب حتى فناء العالم في نظر أهل المعرفة ومشتمل على جميع الفقرات الاحتياطية والاستجابية مثل (الحمد لك والنعمة لك)، والحمد هنا من اختصاص الذات المقدسة، وكذلك النعمة ونفي الشريك، وهذا غاية التوحيد عند أهل المعرفة، وهذا يعني أن كل حمد وكل نعمة تتحقق في عالم الوجود، هي حمد الله ونعمة الله بدون شريك، ويسري هذا المقصد وهذه الغاية على كل موقف ومشعر ووقوف وحركة وسكون وفي أي عمل، وخلاف ذلك إنما يكون الشرك بالمعنى الأعم، المبتلون به نحن جميعاً عمي القلوب)(1)
ومثل ذلك في حديثه عن الأسرار المرتبطة بالقيام للصلاة، حيث خص كل ركن من أركان الصلاة ببيان آدابه وأسراره، ومن الأمثلة على ذلك قوله عن القيام في الصلاة: (وأما دوام القيام فهو تنبيه على إدامة القلب على الله تعالى على نعت واحد من الحضور.. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله مقبل على العبد ما لم يلتفت).. واعلم أن أهل المعرفة يرون القيام إشارة إلى التوحيد الأفعالي، كما أن الركوع عندهم إشارة إلى التوحيد الصفاتي، والسجود إلى التوحيد الذاتي)(2)
وقال عن آداب القيام: (.. أن يرى السالك نفسه حاضرا في محضر الحق، ويعلم أن العالم محضر الربوبية، ويحتسب نفسه من حضّار المجلس بين يدي الله، ويوصل إلى قلبه عظمة الحاضر والمحضر، ويفهم القلب أهمية المناجاة مع الحق تعالى وخطره، ويحضّر قلبه قبل الورود في الصلاة بالتفكر والتدبّر ويفهمه عظمة المطلب ويلزمه بالخضوع والخشوع والطمأنينة والخشية والخوف والرجاء والذل والمسكنة إلى آخر الصلاة)(3)
وقال عن الأسرار المرتبطة بكل العبادات: (النتيجة المطلوبة من العبادات هي تحصيل
__________
(1) المصدر السابق، ص 14
(2) الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني، ص 276.
(3) المصدر السابق، ص 279.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (131)
المعارف وتمكين التوحيد وسائر المعارف في القلب، وهذا المقصد لا يحصل إلا بأن يستوفي السالك الحظوظ القلبية للعبادات ويعبر من الصورة والقالب إلى الحقيقة واللبّ ولا يتوقف في الدنيا والقشر فإن الوقوف في هذه الأمور أشواك في طريق سلوك الإنسانية)
ثم حذر من الذين يحذرون من الاهتمام بهذه المعاني، وهو يقصد أولئك الذين يكفرونه بتهمة العرفان والتصوف، فقال: (الذين يدعون إلى الصورة فقط وينهون الناس عن الآداب الباطنية، ويقولون إنّه لا معنى للشريعة ولا حقيقة لها سوى هذه الصورة والقشرة فهم شياطين الطريق إلى الله وأشواك سبيل الإنسانية ولا بد أن يستعاذ من شرّهم إلى الله فإنهم يطفئون للإنسان نور فطرة الله الذي هو نور المعرفة والتوحيد والولاية وسائر المعارف ويسدلون عليه حجب التقليد والجهالة والعادات والأوهام ويمنعون عباد الله عن العكوف بجنابه والوصول إلى جماله الجميل ويصدّون عن طريق المعارف ويوجهون إلى الدنيا وزخارفها والجهات المادية والجسمانية وعوارضها القلوب الصافية الطاهرة لعباد الله التي زرع في خميرتها الحق تعالى بذر المعرفة بيدي جماله وجلاله وأرسل الأنبياء العظام وأنزل الكتب السماوية لتربية ذاك البذر وتنميته، ويصرفون تلك القلوب عن الروحانية والسعادات العقلية ويحصرون العوالم الغيبية والجنات الموعودة في المأكولات والمشروبات والمنكوحات وسائر المشتهيات الحيوانية، هؤلاء يظنون أن الحق تعالى إذ بسط بساط الرحمة المعظّمة وبعث الأنبياء العظام لإدارة البطن والفرج، وغاية معارفهم أنك إذا حفظت بطنك وفرجك في الدنيا تصل إلى شهواتها في الآخرة، فهؤلاء لا يهتمون بالتوحيد والنبوّات بمقدار ما يهمّهم الشهوات التي تكون مدّتها خمسمئة سنة.. ويحسبون جميع المعارف مقدمة لتأمين البطن والفرج، واذا أراد حكيم إلهي أو عارف ربّاني أن يفتح إلى عباد الله بابا من الرحمة ويقرأ لهم درسا من الحكمة الالهية لا يمتنعون عن أيّة تهمة
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (132)
وغيبة وأيّ سبّ وتكفير)(1)
رابعا ـ الاهتمام بالأبعاد الواقعية للشعائر التعبدية
لم يكتف قادة الثورة الإسلامية الإيرانية بالاهتمام بالأبعاد الروحية للشعائر التعبدية، وإنما أضافوا إليها اهتمامهم الشديد بالنواحي الواقعية للشعائر التعبدية بما فيها الواقع السياسي، والدعوة إلى الثورة على كل الانحرافات من خلاله.
وسنذكر هنا نموذجين عن ذلك، أحدهما يتعلق بالصلاة ودور المسجد، والثاني بالحج.
كما اهتم قادة الثورة الإسلامية الإيرانية بالأبعاد الروحية للصلاة اهتموا بالأبعاد الواقعية لها، وخصوصا بأدائها جماعة في المسجد، حيث اعتبروا المسجد وسيلة الثورة والإصلاح الكبرى، كما عبر عن ذلك الإمام الخميني بقوله: (أحيوا الثورة من خلال المساجد، التي تعتبر حصون الإسلام المنيعة)(2)
ويقول: (اسعوا في إعادة المساجد إلى ما كانت عليه في صدر الإسلام، ولتنتبهوا إلى أنه ليس في الإسلام عزلة أو اعتزال)(3)
ويقول: (كان المسجد في الإسلام وفي صدر الإسلام دوماً مركزاً للتحرك الإسلامي وكان الإعلام الإسلامي يبدأ من المسجد، وتنطلق الجيوش وقوى المسلمين منه لدحر الكفار وإدخالهم تحت لواء الإسلام.. فالمسجد في صدر الإسلام كان مركزاً للتحرك والانطلاق دوماً)(4)
__________
(1) المصدر السابق، ص 280.
(2) الكلمات القصار، ص 65.
(3) الكلمات القصار ص 64.
(4) منهجية الثورة، ص 478.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (133)
وهو لذلك يحث الجميع على ممارسة السياسة، باعتبارها دينا، لا يقل عن الشعائر التعبدية، يقول في ذلك: (إننا نؤمن بضرورة تدخل جميع فئات المجتمع في شؤون السياسة وليس علماء الدين وحدهم؛ فالسياسة ليست إرثاً للحكومة أو المجلس أو فئة خاصة.. إن جميع أبناء الشعب لهم الحق بالتدخل في إدارة شؤون بلدهم.. النساء لهن الحق بالتدخل في السياسة وهو واجب عليهن، كما أن لعلماء الدين الحق بالتدخل في السياسة وهو واجب عليهم أيضاً.. الإسلام دين السياسة.. دين كل بعد من أبعاده سياسة حتى عبادته)(1)
ثم ضرب المثال على ذلك بصلاة الجمعة وغيرها، فقال: (إن صلاة الجمعة شأن سياسي اجتماعي وفي الوقت نفسه عبادة؛ ففي صلاة الجمعة لابد من طرح الأمور السياسية ومشاكل المسلمين، والشي ء نفسه ينطبق على صلاة الجماعة، فهي اجتماع من أجل أن يتعرف المسلمون على أوضاع بلدهم وأحوال إخوتهم والتفكير بحل مشاكلهم.. إن تجمعات من قبيل التجمع العظيم في مكة المكرمة وفي منى وعرفات والمدينة المنورة، حيث يجتمع المسلمون من شتى بقاع العالم، هي تجمعات سياسية، ومن المؤسف له أننا لم نتمكن من استغلال هذه التجمعات لا الكبيرة ولا الصغيرة منها، وكل ذلك يعود الى الدعايات المغرضة التي تحاول اقناع المصلين بالاهتمام بشؤون العبادة فحسب)(2)
ثم ذكر الأدوار الواقعية للمسجد، فقال: (إن المسجد مركز للتبليغ، وفي صدر الإسلام، كانت الجيوش والعساكر تنطلق من المساجد، وكان المسجد مركزاً للتعريف بالأحكام السياسية الإسلامية، وكلما كانت تحصل مشكلة كانوا ينادون (الصلاة جماعة)، فيجتمع المسلمون ويطرحون المشاكل ويفكرون بحلول لها، وعليه فالمسجد مركز اجتماعي سياسي،
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 10، ص: 19
(2) المصدر السابق، ج 10، ص: 19
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (134)
وتعتبر صلاة الجمعة أكثر استيعاباً لهذا الأمر حيث يجتمع الناس في كل أسبوع؛ فإذا كانت المدينة صغيرة فالاجتماع يكون مصغّراً، وإذا كانت المدينة مثل طهران، فالاجتماع الأسبوعي يكون اجتماعاً كبيراً.. كما أن هناك اجتماعات مصغرة تعقد عدة مرات في اليوم، وفي جميع هذه الاجتماعات ينبغي للخطيب أن يكون واعياً ليعرّف الناس بواجباتهم السياسية والاجتماعية والثقافية.. كذلك هناك اجتماعات سنوية تعقد مرة واحدة في السنة، وهناك العيدان وهما اجتماعان كبيران، ويعتبر الاجتماع العام الذي يعقد في مكة المكرمة كل عام اجتماعاً سياسياً، حيث ينبغي للمسلمين المجتمعين من شتى بقاع العالم، طرح مشاكلهم ومعاناتهم وهمومهم على بعضهم البعض والتفكير بحلول لها)(1)
ثم ذكر الدعاية المغرضة التي تحاول أن تصرف المسلمين عن الأدوار الواقعية للشعائر التعبدية، فقال: (وهذا يعود الى حجم الدعاية الإعلامية التي يشنها الأجانب وأذنابهم ومحاولة إقناع المسلمين بفكرة فصل الدين عن السياسة.. إن هؤلاء أنفسهم فوضوا السياسة لقيصر والدين للبابا ورجاله، وفي بلدنا أيضاً فوضوا السياسة لمحمد رضا بهلوي، ودعوكم لاقتفاء أثرهم وأن تدعوهم يفعلون ما يشاءون وتحافظون أنتم على قداستكم.. وإنني آمل أن نتخلص من هذا المخطط الشيطاني الذي تمت متابعته بدقة في الأيام القليلة الماضية، بفضل ثورتنا ونهضتها، ولا يخفى أن الآثار المهمة لهذه الثورة التغيير والتحول الذي حصل للنساء والرجال والأخوة والأخوات، والمتمثل بالإحساس بالواجب الذي نشعر به جميعاً وهو واجب التعلّم مما ينفعنا في الدنيا والآخرة)(2)
ثم استدل لهذا بشمولية الإسلام لكل مناحي الحياة، فقال: (إن الإسلام دين متعدد
__________
(1) المصدر السابق، ج 10، ص: 20
(2) المصدر السابق، ج 10، ص: 20
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (135)
الأبعاد، وأحكامه وتعاليمه تشمل جميع جوانب الحياة، سواء الجوانب المتعلقة بالدنيا والسياسة والاجتماع والاقتصاد، والجانب الذي غفل عنه أهل الدنيا؛ فالأديان التوحيدية جاءت لتتناول مختلف أبعاد الحياة المادية والمعنوية دون أن تتمسك ببعد وتهمل أبعادا أخرى.. والإسلام يعد من أكثر الأديان إصراراً على هذا المعنى، إذ أن جميع أحكامه متداخلة بالسياسة وهي مسؤولية تقع على عاتق الجميع.. إن كلًّا من صلاته وزكاته وحجه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة، والشي ء نفسه ينطبق على الخمس والحدود والتعزيرات والقصاص وكل حكم من أحكامه، غير أن المسلمين تركوا كل هذه الأحكام جانباً، وعملوا بمجموعة قوانين مستوردة من الغرب طوال هذه الفترة)(1)
وهو يصف لهم سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فيقول: (عندما كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يحكم البلاد الإسلامية باسم الإسلام كان يأتي إليه بعضهم وهو جالس في المسجد مع أصحابه، فكان يسأل: (أيّكم رسول الله؟) لأنهم كانوا يجلسون مع بعضهم فلم يكن بينهم مرتفع أو منخفض، الكل يجلسون على الأرض، وإذا كان هناك حصير فهي للمسجد والكل كانوا يجلسون عليها، ومن نفس ذلك المسجد الذي كان يقضي فيه حياته كان يجهّز الجيوش لفتح الممالك الأخرى.. نحن نريد مثل تلك الحكومة، نريد إزالة تلك الطبقات المستغلة، وإنصاف المزارعين والبؤساء)(2)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يدعو إلى مراعاة كل الجوانب الواقعية والمعنوية في الصلاة وجميع الشعائر التعبدية، فيقول في خطاب له ألقاه في [ملتقى الصلاة العام التاسع عشر]: (إنّ إطلاق ظاهرة المسجد في قباء أولاً ثم في المدينة كانت من أجمل وأعمق إبداعات الإسلام في
__________
(1) المصدر السابق، ج 10، ص: 21
(2) المصدر السابق، ج 9، ص: 49
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (136)
بداية تأسيس المجتمع الإسلامي: بيت الله وبيت الناس، خلوة الأنس مع الله وتجلي الحشر مع الناس، قطب الذكر والمعراج المعنوي وميدان العلم والجهاد والتدبير الدنيوي، مكان العبادة ومقر السياسة، ثنائيات مترابطة تظهر صورة المسجد الإسلامي واختلافه عن أماكن العبادة الشائعة في الأديان الأخرى.. في المسجد الإسلامي يمتزج وَجدُ العبادة الخالصة وبهجتها مع توثّب الحياة الطاهرة والعقلانية والسليمة، ويقترب الفرد والمجتمع من الطراز الإسلامي لهذه الحياة.. المسجد مظهر امتزاج الدنيا والآخرة وتواصل الفرد والمجتمع في رؤية المدرسة الإسلامية وأفكارها.. بهذه النظرة تخفق قلوبنا للمسجد وتفيض بشوق المسؤولية والشعور بها.. ليست قليلة بين المساجد اليوم تلك التي بمقدورها تقديم نموذج لهذه الصورة الجميلة المشرقة)(1)
ويتحدث عن أدوار أئمة المساجد والقائمين عليها في تحقيق هذه المقاصد، فيقول: (النقطة المهمة الأولى هي بناء المسجد وحضور رجل الدين المناسب فيه.. رجل الدين الورع والمتعقل والخبير والمخلص في المسجد كالطبيب والممرض في المستشفى يبعث في المسجد الروح والحياة.. على أئمة الجماعة أن يعتبروا إعداد أنفسهم للطبابة المعنوية واجبهم الحتمي، وعلى مراكز شؤون المساجد والحوزات العلمية في كل مكان أن تمدّ لهم أيدي العون.. يجب أن تكون المساجد قاعات للتفسير والحديث ومنابر للمعارف الاجتماعية والسياسية ومراكز للموعظة وتربية الأخلاق.. على سدنة المساجد ومديريها وأمنائها أن يجذبوا قلوب الشباب الطاهرة ويبعثوا فيها الشوق.. حضور الشباب والروح التعبوية ينبغي أن يجعل أجواء المساجد حية زاخرة بالنشاط والتطلع إلى المستقبل وطافحة بالأمل.. يجب إطلاق التعاون وشدّ الأواصر بين المسجد والمراكز التعليمية في كل محلة وحي.. ما أجمل أن يشجَّع التلاميذ المميزون البارزون في
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 377.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (137)
كل حي في المسجد من قبل إمام الجماعة وأمام أنظار الناس.. يجب على المسجد أن يقيم علاقات متينة مع الشباب الذين يتزوجون، والذين يحرزون نجاحات علمية واجتماعية وفنية ورياضية، ومع أصحاب الهمم الذين يجعلون مساعدة الآخرين موضوعاً لهممهم، وأصحاب الهموم الذين يبحثون عمّن يروِّح عنهم همومهم، وحتى مع أهالي الأطفال الذين يولدون تواً.. يجب أن يكون المسجد في أية منطقة أو حي مأمناً وسبب خير وبركة، وأن لا يكون من باب أولى سبباً في إيذاء جيرانه وإزعاجهم)(1)
ويذكر القائمين على المساجد بمراعاة الجوانب الذوقية والاجتماعية في كل ما يصدر عن المساجد حتى لا تخرج عن المقاصد المرادة منها، فيقول: (بث الأصوات المزعجة خصوصاً في الليل وعند أوقات راحة الناس عمل غير صحيح وفي بعض الأحيان بخلاف الشرع.. الصوت الوحيد الذي يجب أن يفشى في الأجواء من المسجد هو صوت الأذان بصوت عذب محبب.. عمران المساجد والاهتمام بزينتها المعنوية والظاهرية واجب الجميع، وعلى كل شخص المساهمة في ذلك بمقدار قدرته وهمته.. وعلى الناس والبلديات والأجهزة الحكومة أن تمارس دورها في هذا الجانب، وبوسع عالم الدين العالم المتحمِّل لمسؤولياته والورع ـ بل يجب عليه ـ أن يكون محوراً لهذه المنظومة من المساعي المقدسة)(2)
مثلما اهتم قادة الثورة الإسلامية الإيرانية بالأبعاد المعنوية والروحية للحج، اهتموا بالأبعاد الواقعية له، ومن الأمثلة على ذلك ما قاله الإمام الخميني عن أسرار التلبية والرجم، حيث قال مخاطبا الحجاج: (إن الطواف حول الكعبة المشرّفة يعني أن الإنسان لن يطوف لغير
__________
(1) المصدر السابق، ص 378.
(2) المصدر السابق، ص 379.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (138)
الله، ورجم العقبات هو رجم شياطين الإنس والجن، وأنتم عندما ترجمون عاهدوا الله أن تقتلعوا شياطين الإنس والقوى العظمى من البلاد الإسلامية.. اليوم كل العالم الإسلامي أسير بيد أمريكا، احملوا من الله رسالة إلى مسلمي القارات المختلفة للعالم الإسلامي، رسالة أن لا تخضعوا لغير الله ولا تكونوا عبيداً لأحد)(1)
وقال عن الأسرار الواقعية للتلبية وغيرها من مناسك الحج: (عندما تلفظون لبّيك لبّيك، قولوا لا لجميع الأصنام، واصرخوا: لا لكل الطواغيت الكبار والصغار، وأثناء الطواف في حرم الله حيث يتجلى العشق الإلهي، خلّوا قلوبكم من الآخرين، وطهّروا أرواحكم من أي خوف لغير الله، وفي موازاة العشق الإلهي، تبرأوا من الأصنام الكبيرة والصغيرة والطواغيت وعملائهم وأزلامهم، حيث إن الله تعالى ومحبّيه تبرأوا منهم، وأن جميع أحرار العالم بريئون منهم، وحين تلمسون الحجر الأسود اعقدوا البيعة مع الله أن تكونوا أعداء لأعداء الله ورسوله والصالحين والأحرار، ومطيعين وعبيداً له، أينما كنتم وكيفما كنتم.. لا تحنوا رؤوسكم، واطردوا الخوف من قلوبكم، واعلموا أن أعداء الله وعلى رأسهم الشيطان الأكبر جبناء وإن كانوا متفوقين في قتل البشر وفي جرائمهم وجناياتهم، وأثناء سعيكم بين الصفا والمروة اسعوا سعي من يريد الوصول إلى المحبوب، حتى إذا ما وجدتموه هانت كل الأمور الدنيوية، وتنتهي كل الشكوك والترددات، وتزول كل المخاوف والحبائل الشيطانية، وتزول كل الارتباطات القلبية المادية، وتزدهر الحرية، وتنكسر القيود الشيطانية والطاغوتية التي أسرت عباد الله.. سيروا إلى المشعر الحرام وعرفات وأنتم في حالة إحساس وعرفان، وكونوا في أي موقف مطمئني القلب لوعد الله الحق بإقامة حكم المستضعفين.. وبسكون وهدوء فكّروا بآيات الله الحق، وفكروا بتخليص المحرومين والمستضعفين من براثن الاستكبار العالمي، واطلبوا من
__________
(1) أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني، ص 16.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (139)
الحق تعالى في تلك المواقف الكريمة تحقيق سُبل النجاة، بعد ذلك عندما تذهبون إلى منى واطلبوا هناك أن تتحقق الآمال الحقّة حيث التضحية هناك بأثمن وأحب شيء في طريق المحبوب المطلق، واعلموا أنه ما لم تتجاوزوا هذه الرغبات والتي أعلاها حب النفس وحب الدنيا التابع لها، فسوف لن تصلوا إلى المحبوب المطلق.. وفي هذه الحال ارجموا الشيطان، واطردوا الشيطان من أنفسكم وكرروا رجم الشيطان في مواقع مختلفة بناء على الأوامر الإلهية، لدفع شر الشياطين وأبنائهم عنكم)(1)
ويتحدث عن دور الحج في تعميق الوحدة بين المسلمين، وقيام حوار بينهم لأجل تحقيق ذلك، فيقول: (ينبغي على جميع الإخوة والأخوات المسلمين والمسلمات الانتباه إلى أن إحدى مهمات فلسفة الحج إيجاد التفاهم وتوثيق عرى الأخوة بين المسلمين، وينبغي على المفكرين والمعممين طرح مسائلهم الأساسية، السياسية والاجتماعية مع الآخرين من إخوانهم، وتقديم الاقتراحات من أجل رفعها وحلها ووضعها بتصرّف وتحت نظر العلماء وأصحاب الرأي عند عودتهم إلى بلادهم.. يجب أن نعلم أن إحدى الفلسفات الاجتماعية لهذا التجمّع العظيم من جميع أنحاء العالم توثيق عرى الوحدة بين أتباع نبي الإسلام، أتباع القرآن الكريم في مقابل طواغيت العالم، وإذا لا سمح الله أوجد بعض الحجّاج من خلال أعمالهم خللاً في هذه الوحدة أدّت إلى التفرقة، فذلك سيوجب سخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعذاب الله القادر الجبار)(2)
ويخاطب الحجاج ويدعوهم إلى التواصل والتعارف، فيقول: (إن الحج هو أفضل مكان لتعارف الشعوب الإسلامية حيث يتعرّف المسلمون على إخوانهم وأخواتهم في دين الإسلام من جميع أنحاء العالم، ويجتمعون في ذلك البيت المتعلّق بجميع المجتمعات الإسلامية، وباتباع
__________
(1) المصدر السابق، ص 18.
(2) المصدر السابق، ص 27.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (140)
دين إبراهيم الحنيف وبعد أن يضعوا جانباً المفردات والألوان والعرقية والقومية، يرجعون إلى أرضهم وبيتهم الأول.. ومع مراعاة الأخلاق الكريمة الإسلامية واجتناب الجدال والتجملات يتجلى ويتمظهر صفاء الأخوة الإسلامية وأبعاد تنظيم الأمة المحمدية في جميع أنحاء العالم)(1)
وهكذا نجد للإمام الخامنئي الخطابات الكثيرة المتعلقة بالحج، والتي يلقيها كل سنة على الحجيج أو المسؤولين عنهم يذكرهم فيها بالقضايا الإسلامية المختلفة، ويدعوهم إلى تفعيلها في الحج، باعتباره عبادة لا ترتبط بالجانب الروحي فقط، وإنما لها علاقة بكل جوانب الحياة.
ومن الأمثلة على ذلك قوله في خطاب وجهه للمسؤولين والمعنيين بإقامة فريضة الحج: (المهم أن يعتبر كلّ شخصٍ وكلّ مسؤولٍ وكل حاجٍّ نفسه مسؤولاً تجاه هذه الحركة الجماعية العظيمة للعالم الإسلامي والأمّة الإسلامية.. لو أنّ هذه الحركة العظيمة الواحدة للأمّة الإسلامية تحقّقت تحقّقاً سالماً كاملاً دون أي عيب، لشملت بالنفع والنعمة آثارها وبركاتها في كلِّ سنة كلّ عالم الإسلام ـ بل بمعنى من المعاني كلّ البشرية ـ ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج: 28])(2)
ثم ذكر النواحي التي على الحجاج الاهتمام بها، فقال: (الحج مهمٌّ من ناحيتين، من ناحية وضعنا الباطني كأفراد وكأمّة إسلامية، ومن الناحية الدولية.. لقد أذلّوا الأمّة الإسلامية طوال قرونٍ وعلى مرّ السنين واستخفوا بها وأوهنوا عزيمتها ونشروا اليأس فيها، وأرادوا بالوسائل الحديثة أن يضعّفوا المعنويات والروحانيات والتوجّه والتضرّع إلى الله فيها.. الحجّ يرمّم كل هذه المصائب ويعطي العزّة لكلّ أفراد الأمّة الإسلامية ويشعرهم بالاقتدار ويمنحهم الأمل،
__________
(1) المصدر السابق، ص 27.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 373.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (141)
هكذا هو الحج الصحيح، وأوّل آثاره يتحقق في داخل الأمّة الإسلامية وفي قلوبنا، نحن بحاجة إلى الحج من أجل أن نقوّي روحيّاتنا ونرمّمها ونستشعر أنّنا نتوكّل على الله وأنّنا نثق به، وأنّنا أمّة عظيمة وكبيرة.. من هذه الجهة يكون التأثير الداخلي مهمّاً، ومن تلك الجهة يكون التأثير الدولي مهمّاً، لأنّه يُضعف العدوّ ويحطّم معنويّاته ويبرز له عظمة الإسلام، ويظهر وحدة الأمّة الإسلامية أمامه)(1)
وقال: (يجب أن يكون الحج مظهر الاتحاد والتفاهم ومظهر الحوار والمواساة والتعاون والتقارب بين المسلمين، يجب أن يتحرّك الحج على هذا الطريق وضمن هذه الحركة)(2)
ويتحدث عن المشاكل التي تحدث في الحج، والتي تصرف عن تحقيق مقاصده، ويدعو إلى حلها بحكمة وعقلانية، فيقول: (وهنا، حين يكون الحج مركز الاتحاد والتوافق نجد جماعة من الناس تبدأ بإيجاد الاختلافات سواء في مكة أو في المدينة ـ جماعة تعمل ضد الشيعة، لأنهم يزورون ويقومون بأعمالهم ومناسكهم وتكاليفهم وعقائدهم يضغطون عليهم ويهينونهم ـ وللأسف! تصلنا أخبار هذه الأمور ـ وفي المقابل، هناك جماعة من هذه الجهة يقومون بأعمالٍ مخالفة كردّة فعلٍ.. وهذا بالضبط مخالفٌ تماماً لمصلحة الحج ولفلسفته)(3)
ثم نصح الحجاج الإيرانيين على الخصوص بقوله: (ينبغي أن يكون سلوك الحاج الإيراني دالّاً على جميع الخصائص التي تعبّر عن وظيفة المسلمين في الحج، وتكليفهم.. من الجهة المعنوية، التضرّع، التوسّل، التوجّه، الأنس بالقرآن، ذكر الله، تقريب القلوب إلى الله، إضفاء البعد المعنوي على النفس وتنويرها، والرجوع إلى البيت بحصادٍ معنوي.. ومن الجهة الاجتماعية والسياسية: التعاون داخل العالم الإسلامي، ففي يومنا هذا، إن من القضايا المهمة
__________
(1) المصدر السابق، ص 374.
(2) المصدر السابق، ص 375.
(3) المصدر السابق، ص 376.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (142)
والفورية للعالم الإسلامي قضية إخواننا في باكستان.. بالطبع، فإن شعبنا قد قدم المعونات وكذلك الحكومة ـ وإن شاء الله يتقبل ويثيب ـ ولكنه غير كافٍ.. أولئك الذين يتشرّفون بالذهاب إلى الحج ـ في الدرجة الأولى الزائر الإيراني الذي هو جارٌ وقريب ومطّلع على مشكلات جيرانه في باكستان ـ يمكنهم أن يتخلّصوا من الكثير من هذه الإنفاقات الزائدة وغير الضرورية من أجل مواساة أخٍ أو أختٍ مسلمة في باكستان، ولهذا الأمر أجرٌ عظيم عند الله تعالى، وهو يُعدّ تمريناً وتجربة، وبالدرجة الثانية الزوار والحجاج من بقية الدول الإسلامية، فأوصلوا إليهم هذا النداء وقوموا بترغيبهم وحثّهم عليه)(1)
ثم ذكر ـ ككل خطبه ـ بضرورة الوحدة الإسلامية واستغلال الحج لترسيخها، فقال: (خذوا قضية الوحدة على محمل الجدّ؛ فاليوم يجري التخطيط والتآمر التفصيلي في مراكز الفكر والمعرفة من أجل إيقاع الخلاف داخل العالم الإسلامي، ويجري ذلك على مستوى الحكومات، وعلى مستوى الشعوب بنحوٍ آخر، كلّما ظهرت نغمة داخل الحكومات الإسلامية أو كلمة تدلّ على التقارب نشاهد مباشرة عاملاً خارجياً وعاملاً صهيونياً وعاملاً أمريكياً يتدخل ويمنع هذا التقارب.. عندما تكون الدول الإسلامية جيدة فيما بينها ومتقاربة، فإنّ هؤلاء يكونون مشغولين بالفتن، وهذا ما يجري أيضاً على صعيد الشعوب، والشعوب ليس لديها أيّ دافعٍ لتتعادى فيما بينها، لهذا يثيرون النزعات المذهبية والقومية والعصبيات الوطنية من أجل أن يوقعوا العداوة فيما بينها)(2)
خامسا ـ الاهتمام بالأذواق والمواجيد الروحية
الهدف الأكبر من القيم الروحية هو تحويل الحقائق الإيمانية من مجرد معارف ومعلومات
__________
(1) المصدر السابق، ص 376.
(2) المصدر السابق، ص 376.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (143)
يختزنها الذهن إلى حقائق يمتلئ بها الكيان جميعا، ويحصل حينها التواصل الذوقي مع الله، بالمحبة والشوق والأنس، وغيرها من الأحوال الروحية.
وهذا الهدف النبيل يخرج العقيدة الإسلامية من أن تصبح مجرد قوانين للإيمان من خالفها يُحكم عليه بالكفر والبدعة والضلالة، كما تفعل المدارس الإسلامية المتشددة، وخصوصا السلفية منها، سواء سلفية السنة أو سلفية الشيعة، والتي تحصر العقيدة في متون تحفظها، وتجعل كل من يخالف حرفا منها كافرا وضالا ومبتدعا.
ولهذا نرى قادة الثورة الإسلامية في إيران لا يشجعون على هذا النوع من المعرفة، بل يدعون إلى المعرفة التحققية الذوقية، لأنها حقيقة الإيمان أولا، ولأنها كذلك منبع لكل الفضائل، بخلاف ذلك الاختصار للحقائق العقدية، والذي مارسته المدارس المتشددة، والذي حول من العقيدة وسيلة للصراع والجدال، لا الطمأنية والسلام.
وعند البحث عن التوجه الروحي لقادة الثورة الإسلامية، نجدهم جميعا من ذوي هذه المشارب، وخصوصا الإمام الخميني الذي ألف في ذلك المؤلفات وكتب الأشعار، ولو لم يقم بهذه الثورة، لأُدرج ضمن الصوفية، ولم يدرج ضمن السياسيين.
ومن أقواله في وصيته العرفانية، مخاطبا ابنه يبين له أهمية المعرفة التحققية الذوقية: (اعلم أن في الإنسان ـ إن لم أقل في كل موجود ـ حباً فطريا للكمال المطلق، وحباً للوصول إلى الكمال المطلق، وهذا الحب يستحيل أن ينفصل عنه، كما أن الكمال المطلق محال أن يتكرر أو أن يكون اثنين، فالكمال المطلق هو الحق جل وعلا، والجميع يبحثون عنه، وإليه تهفو قلوبهم وإن كانوا لا يعلمون؛ فهم محجوبون بحجب الظلمة والنور، ولهذا فهم يتوهمون أنهم يطلبون شيئا آخر وهم لا يقنعون بتحقيق أية مرتبة من الكمال، ولا بالحصول على أي جمال أو قدرة أو مكانة.. فهم يشعرون أنهم لا يجدون في كل ذلك ضالتهم المنشودة.. فالمقتدرون وأصحاب القوى العظمى، هم في سعي دائم للحصول على القدرة الأعلى مهما بلغوا من القدرة.. وطلاب العلم
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (144)
يطلبون الدرجة الأعلى من العلم مهما بلغوا منه ولا يجدون ضالتهم التي غفلوا عنها في ذلك.. ولو أعطي الساعون الى القدرة والسلطة، التصرف في كل العالم المادي من الأرضين والمنظومات الشمسية والمجرات، وكل ما فوقها، ثم قيل لهم: إن هناك قدرةً فوق هذه القدرة التي تملكونها، وهناك عالم أو عوالم أخرى أبعد من هذا العالم، فهل تريدون الوصول إليها؟ فإنهم من المحال أن لا يتمنوا ذلك، بل إنهم سيقولون بلسان الفطرة: ليتنا بلغنا ذلك أيضا!.. وهكذا طالب العلم، فهو إن ظن أن هناك مرتبة أخرى -غير ما بلغه- فإن فطرته الباحثة عن المطلق ستقول: ياليت لي القدرة للوصول إليه أو ياليت لي سعةً من العلم تشمل تلك المرتبة أيضا!)(1)
وهكذا نراه يفصل في ذكر المراحل التي يمر بها السالك للتحقق بالإيمان الذوقي الشهودي في كتبه المختلفة، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره في الفصل المخصص لـ[الآداب التي تكون ضرورية في جميع الحالات الصلاتية، بل في جميع العبادات والمناسك]، حيث قدم لذلك بقوله: (من الآداب القلبية في العبادات والوظائف الباطنية لسالك طريق الآخرة التوجّه إلى عزّ الربوبية وذلّ العبودية، وهذا التوجّه من المنازل المهمّة في السلوك للسالك بحيث تكون قوّة سلوك كل من السالكين بحسب قوة هذا النظر وبمقدارها، بل الكمال والنقص لإنسانية الإنسان تابع لهذا الأمر، وكلما كان النظر إلى الإنّية والأنانية ورؤية النفس وحبّها في الإنسان غالبا كان بعيدا عن كمال الإنسانية ومهجورا من مقام القرب الربوبي، وأن حجاب رؤية النفس وعبادتها لأضخم الحجب وأظلمها، وخرق هذا الحجاب أصعب من خرق جميع الحجب، وفي نفس الحال مقدمة له بل وخرق هذا الحجاب هو مفتاح مفاتيح الغيب والشهادة وباب أبواب العروج إلى كمال الروحانية، وما دام الإنسان قاصرا على النظر إلى نفسه وكماله المتوهم وجماله
__________
(1) الوصية الإلهية العرفانية، ص 20.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (145)
الموهوم فهو محجوب ومهجور من الجمال المطلق والكمال الصرف والخروج من هذا المنزل هو أول شرط للسلوك إلى الله بل هو الميزان في حقانية الرياضة وبطلانها؛ فكل سالك يسلك بخطوة الأنانية ورؤية النفس ويطوي منازل السلوك في حجاب الإنيّة وحب النفس تكون رياضته باطلة، ولا يكون سلوكه إلى الله بل إلى النفس)(1)
ثم استدل لهذا بالمعنى الإشاري في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 100]، حيث قال: (فالهجرة الصورية وصورة الهجرة عبارة عن هجرة البدن [المنزل الصوري] إلى الكعبة أو إلى مشاهد الأولياء، والهجرة المعنوية هي الخروج من بيت النفس ومنزل الدنيا إلى الله ورسوله، والهجرة إلى الرسول وإلى الوليّ أيضاً هجرة إلى الله، وما دام للسالك تعلّق ما بنفسانيّته وتوجّه منه إلى إنّيّته فليس هو بمسافر وما دامت البقايا من الأنانية على امتداد نظر السالك وجدران مدينة النفس وأذان أعلام حبّ النفس غير مختفية فهو في حكم الحاضر لا المسافر ولا المهاجر)(2)
ثم ذكر المراحل التي يمر بها السالك في هجرته لله ورسوله، فقال: (اعلم أن لأهل السلوك في هذا المقام وسائر المقامات مراتب ومدارج لا تحصى.. ونحن نذكر بعض مراتبه على النحو الكلّي، وأما الإحاطة بجميع جوانبه وإحصاء جميع مراتبه فخارج عن عهدتي وفوق طاقتي، فإن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق)
ومن المراتب التي ذكرها: [مرتبة العلم]، وفسرها بقوله: (هي أن يثبت بالسلوك العلمي والبرهان الفلسفي ذلة العبودية وعزة الربوبية، وهذا لبّ من لباب المعارف؛ فقد اتضح
__________
(1) انظر: الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني، ص 31، وما بعدها.
(2) المصدر السابق، ص 33.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (146)
في العلوم العالية والحكمة المتعالية أن جميع دار التحقق وتمام دائرة الوجود إنما هو صرف الربط والتعلّق ومحض الفقر والفاقة أما العزّة والملك والسلطان فمختصة بذاته المقدس الكبريائي وليس لاحد من حظوظ العزة والكبرياء نصيب.. وذل العبودية والفقر ثابت في ناصيتهم وفي حاقّ حقيقتهم، وإنما حقيقة العرفان والشهود ونتيجة الرياضة والسلوك هي رفع الحجاب عن وجه الحقيقة ورؤية ذل العبودية وأصل الفقر والتدلي في نفسه وفي جميع الموجودات)(1)
ثم ذكر المرحلة التالية لهذا السلوك، فقال: (فسالك طريق الحقيقة ومسافر سبيل العبودية إذا قطع هذا المنزل بالسلوك العلمي وركب مركب السير الفكري يقع في حجاب العلم ويصل إلى المقام الأول للإنسانية، ولكن هذا الحجاب من الحجب الغليظة وقد قالوا: العلم هو الحجاب الأكبر ولا بد ألا يبقى في هذا الحجاب وأن يخرقه ولعله إذا اقتنع بهذا المقام وسجن قلبه في هذا القيد يقع في الاستدراج، والاستدراج في هذا المقام هو أن يشتغل بالتفريعات الكثيرة العلمية ويجوّل فكره في هذا الميدان، فيقيم لهذا المقصد براهين كثيرة فيحرم من المنازل الأخر ويتعلق قلبه بهذا المقام ويغفل عن النتيجة المطلوبة وهي الوصول إلى الفناء في الله ويصرف عمره في حجاب البرهان وشعبه وكلما كثرت الفروع يصير الحجاب والاحتجاب عن الحقيقة أكثر.. فللسالك ألاّ يغتّر بمكايد الشيطان في هذا المقام ولا يحتجب بكثرة العلم وغزارته، ولا بقوة البرهان عن الحق والحقيقة ويتأخر عن السير في الطلب وله أن يشمّر الذيل بهمّته، ولا يغفل عن الجدّ في طلب المطلوب الحقيقي حتى ينال المقام الثاني)(2)
ثم ذكر المقام الثالث، وهو مقام الاطمئنان والطمأنينة، (وهو في الحقيقة المرتبة الكاملة من الإيمان، كما قال تعالى مخاطبا خليله: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة:
__________
(1) المصدر السابق، ص 36.
(2) المصدر السابق، ص 37.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (147)
260])(1)
ثم ذكر المرتبة الرابعة، وهي مقام المشاهدة، (وهو نور إلهي وتجلّ رحماني يظهر في سرّ السالك تبعا للتجليات الأسمائية والصفاتية وينوّر جميع قلبه بنور شهوديّ ولهذا المقام درجات كثيرة لا تتسع هذه الأوراق لذكرها.. وفي هذا المقام يبرز نموذج من قرب النوافل المعبّر عنه بـ (كنت سمعه وبصره)، ويرى السالك نفسه مستغرقا في البحر اللامتناهي ومن ورائه بحر عميق في غاية العمق تنكشف له فيه نبذة من أسرار القدر، ولكل من هذه المقامات استدراج يختص به وللسالك فيه هلاك عظيم.. ولا بدّ للسالك في جميع هذه المقامات من تخليص نفسه من الأنانية وأن يتخلص من رؤية نفسه وحبّها، فإنه منبع أكثر المفاسد ولا سيّما للسالك)(2)
__________
(1) المصدر السابق، ص 39.
(2) المصدر السابق، ص 39.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (148)
الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم الأخلاقية
الركن الثالث من الأركان الكبرى التي تتشكل منها الحضارة الإسلامية الجديدة ـ بحسب رؤية قادة الثورة الإسلامية الإيرانية ـ[القيم الأخلاقية]، بناء على أن الأخلاق هي التي تضبط كل الممارسات الإنسانية، وتميز بينها.. ولذلك تتميز الحضارات بالأخلاق التي تتبناها، أو تنتصر لها، أو تشيع بينها.
ولهذا نرى القرآن الكريم يهتم بذكر الأخلاق التي كانت الأمم الظالمة تتبناها، وكيف سعى الأنبياء عليهم السلام للتنفير منها، والتحذير من عواقبها، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الله تعالى عن لوط عليه السلام ونصيحته لقومه، وموقفهم منها، ونتيجة ذلك الموقف، قال تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: 80 - 84]
ومثل ذلك ذكر نصيحة شعيب عليه السلام لقومه، وردهم عليه، فقال: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصلاحهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [الأعراف: 85 - 87]
ثم ذكر عاقبة ذلك الرد، فقال: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (149)
كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [الأعراف: 91 - 93]
وما ذكره القرآن الكريم ينطبق تماما على الحضارة الحديثة، بل أكثر الحضارات البشرية، ابتداء من الحضارة الرومانية واليونانية وغيرها، والتي انتشرت فيها أنواع الفواحش والمنكرات، وكانت سببا في دمارها.
بل إنه ينطبق في بعض المظاهر على الحضارة الإسلامية نفسها، والتي اختلطت بالدخن، وبسنن من قبلها من الأمم، كما حذر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضبٍ لاتبعتموهم)، قلنا: يا رسول الله، آليهود والنصارى؟ قال: (فمن)(1)
ولهذا اهتم قادة الثورة الإسلامية الإيرانية ـ باعتبارهم دعاة للمشروع الحضاري الإسلامي الأصيل ـ بالدعوة إلى الأخلاق، واعتبارها ركنا أساسيا تقوم عليه الأمة.
واهتموا كذلك بنقد كل الانحرافات التي انحرفت بالواقع الإسلامي عن تلك الأخلاق التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واعتبرها غرض بعثته الأكبر، كما قال: (بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)(2)
بناء على هذا سنتناول في هذا الفصل ما ذكروه حول القيم الأخلاقية والأسس التي تقوم عليها، وقد رأينا أنه يمكن حصرها فيما يلي:
أولا ـ التحذير من الأخلاق السيئة وعواقبها.
ثانيا ـ الترغيب في الأخلاق الحسنة وفضائلها.
__________
(1) رواه البخاري (3269) ومسلم (2669.
(2) رواه البزّار، سبل الهدى (7/ 6)، وتنبيه الخواطر ونزهة النواظر، ج 1 ص 89.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (150)
أولا ـ التحذير من الأخلاق السيئة وعواقبها
بناء على الرؤية القرآنية التي يعتمدها قادة الثورة الإسلامية في تفسير كل ما يحصل من أحداث؛ فإنهم يفسرون كل المصائب والبلايا والانحرافات التي وقعت في الأمة بانحرافها عن الأخلاق الحسنة التي تميز الصالحين عن غيرهم.
ولذلك نراهم يحذرون من عودة الظلم والاستبداد في حال تفشي مثل تلك الأخلاق في المجتمع أو في أي مؤسسة من مؤسسات الدولة.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الإمام الخميني عند وصفه لنظام الشاه، فهو لم يقتصر في إنكاره عليه على النواحي السياسية والاقتصادية، بل ذكر قبلها ما كان ينشره من مفاسد أخلاقية بغية السيطرة على الشعب عن طريق شهواته وأهوائه.
ومن الأمثلة على ذلك قوله في خطاب وجهه للعاملين في المجال الإعلامي: (يجب أن نطلق على أجهزة النظام الملكي والأنظمة المشابهة له، بالنظام اللاديني، فالأنظمة غير الربانية، تخون شعبها حسبما تقتضي حاجتها والأجهزة الإدارية التي تضعها تكون لحماية مصالحها فقط، أما الشعب فإنها توجهه لخدمتها بدلًا من أن تكون هي في خدمته، وتكون منفصلة تماماً عن الشعب، برامجها تهدف إلى جر شعوبها إلى الفساد والإجرام وشبابها إلى الفسق والفجور، لأنهم يخشون من الشباب لئلا يتصدوا لهذه الأنظمة ويدينوا تصرفاتها، ولهذا فقد لجأوا إلى مختلف الأساليب والطرق لإفساد الشباب وأبعادهم عن مسائل حياتهم اليومية والمستقبلية، كما سخروا الصحافة والإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح لتحقيق مآربهم التي يصبون إليها.. كل هذا من أجل جعل الشعب متخلفاً وغافلًا عما يملك من موارد وهبه الله إياها، أحيانا كانوا يسعون إلى جر الشعب لجوارهم ولفت أنظاره إلى أشياء لاطائل منها، أما هم فقد كانوا ينهبون مايشاؤون دون أن يقلق راحتهم صوت معارض أو إنسان يقظ، ولهذا فقد قاموا بتهيئة كل وسائل اللهو والفجور للشباب، ولابد أنكم تعرفون كم كانت هذه المراكز كثيرة وخاصة في
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (151)
طهران، بنحو يندى الجبين لذكر الأعمال التي كانوا يقومون بها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شاطئ البحر، فما إن يصل الناس إلى شاطئ البحر حتى يروا أول الأشياء التي جهزوها هناك، وهي اختلاط أماكن السباحة، فالشباب والنساء والرجال جميعاً كانوا يجلسون في أماكن واحدة، ولم يكن هذا من قبيل أنهم يريدون أن يخلقوا المتعة لشبابنا ولكن لأنهم كانوا يريدون أن يفسدوا أخلاق الشباب ويجروهم إلى الفسق والفجور، وهناك أيضاً كانت تنتشر إلى ماشاء الله مراكز بيع الخمور والأشياء الأخرى التي تخدر الشعب، وعندما كان يذهب شبابنا إلى دور السينما مرة واثنتان وثلاث فإنهم يعتادون على الجو الفاسد الموجود هناك والمناظر المخجلة.. والشي ء نفسه ينطبق على برامج الإذاعة والتلفزيون أيضاً، حتى الصحافة والمجلات.. كل هذه الوسائل تم تسخيرها لإفساد الشباب وانحطاطهم)(1)
وقال في رسالة وجهها للمهنيين والكسبة يحذرهم فيها من عواقب التلاعب بالأسعار: (إنني أواجه كل يوم وبمنتهى الأسف مشاكل مظنية تضطرني أحيانا إلى توجيه بعض النصائح للشعب المجيد، ومن جملة ذلك الإجحاف ورفع الأسعار، الأمر الذي وصلتني عنه شكايات متعددة، وقد بلغ الأمر حدا أشير فيه إلى أن بعض البضائع التي توزعها الحكومة وتحدد أسعارها، تباع على الفقراء خلافا للموازين الشرعية بأثمان مرتفعة للغاية مما يؤدي إلى مضايقة الإخوة والأخوات.. إنني لأهيب بالباعة أن يتخلوا عن هذا الإجحاف والتعدي، وأن يعودوا إلى الأخلاق والممارسات الإسلامية سيما بالنسبة إلى ما يمثل حاجات الناس الأساسية.. إنني أنصحهم بالتعامل بالعدل والإنصاف مع هذا الشعب الذي أراق دمه في سبيل الإسلام وفقد شبانه الأعزاء، فأنا أخشى أن نبتلى بغضب الله القهار وأن يحترق الأخضر واليابس نتيجة لذلك.. إنني أحذر هؤلاء من أنهم إن لم يكفوا عن الإجحاف ومخالفة تعاليم الإسلام في هذا
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 9، ص: 154
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (152)
الإطار، فسيتم التعامل معهم بالسياسات والتعزيرات الشرعية الإسلامية طبقا لشريعة العدل الإلهي والحكومة الشرعية.. أيها الإخوة ثيبوا إلى رشدكم قبل أن تأتيكم العقوبة الالهية، وكفوا عن الظلم، أصلحكم الله والسلام عليكم)(1)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يحذر من كل الأخلاق السيئة التي قد تتسبب في انهيار كل ما تحقق من مكاسب، ومن الأمثلة على ذلك تحذيراته الكثيرة من التكبر، والعواقب الوخيمة التي يجرها على صاحبه وكل من يحيط به.
ومن ذلك قوله ـ في بعض توجيهاته ـ: (من الممكن القول أن جوهر وروح الدين هو تجاوز الإنسان لنفسه وأهوائه وأغراضه، وإن زعم شخص أن هذا هو معنى التدين فلن يكون كلامه عبثاً.. والمقصود من تخلص الإنسان من نفسه هو أن لا يجعل لها أي شأن مطلقاً أمام إرادة الله وعظمته وأمره ونهيه، وهذا الشخص الذي يصل إلى هذه المنزلة هو المتدين الحقيقي.. إن صلاة المرء وصدقته وحجّه وسائر عباداته لا قيمة لها إن كان يرى لنفسه شأناً ومقاماً أمام الله؛ فأعمال المتكبرين غير مقبولة ولا فائدة منها، والذين يرون لأنفسهم مقاماً أعلى من الآخرين ويحسبون لأنفسهم وأنانيتهم حساباً دون اعتبار لشؤون غيرهم من الناس، هؤلاء ستكون عبادتهم ضئيلة الأثر، وإن كانوا في الظاهر من أهل الزهد والطاعة والتقوى، ذلك لأن المتقي حقاً لا يمكن أن يتصف بمثل هذه الصفات.. المتكبر، ولو قرأ القرآن وذكر الأذكار وجاهد فإن كل هذه الحسنات لن تؤثر تأثيرها الكامل فيه)(2)
ثم ذكر الأمثلة على عدم جدوى التدين المصحوب بالكبر، فقال: (لقد تنوّع الحكام والسلاطين والأمراء على مر التاريخ، ولم يكونوا جميعهم منكرين للدين.. البعض منهم كان
__________
(1) المصدر السابق، ج 6، ص: 404
(2) المواعظ الحسنة، الإمام الخامنئي، ص 11.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (153)
يعبد الله ويصلي، لم يكن الجميع كمحمد رضا شاه وأبيه تاركين للصلاة، ولقد قرأت في أخبار فتح علي شاه (أحد ملوك القاجارية) أنه كان يستمع لدعاء كميل كل ليلة جمعة هو وعائلته ومجموعة من الناس، لكن ما كان أثر ذلك الدعاء؟!.. إن هكذا دعاء وصلاة لا فائدة منها.. أعمال كهذه لن تقرّب الإنسان من الله، والتاريخ يبرهن لنا ذلك؛ فلو كانوا قريبين من الله لما ظلموا الخلق كل هذا الظلم، ولما فسقوا وفجروا وأجحفوا الناس حقوقهم)(1)
وقال: (كان خلفاء بني أمية وبني العباس في منتهى السوء والظلم والخبث، ولكنهم كانوا في نفس الوقت يصلّون ويصومون ويبكون ويتهجدون.. ويحكي عن هارون الرشيد أنه بكى بكاءً ابتلت لحيته منه عندما نصحه أحد زهّاد عصره، هل كان لبكائه أثر؟! في الواقع إن البكاء على النفس هو المطلوب وهو المؤثر.. وطوبى لمن يبكي على نفسه.. لكن بكاء هارون لم يكن كذلك، فأنانية هارون هي الأساس في بكائه، هو يريد كل شيء لنفسه، حتى الله يريده لنفسه.. هارون كان يعبد نفسه، وهذا هو التكبر)(2)
وبعد أن ذكر هذه الأمثلة وغيرها، قال: (انتبهوا، لا تتكبّروا.. لا تغرّوا أنفسكم بأن لديكم منصب أو إمكانات أو مستوى علمي أو ميزة وأفضلية معينة، فستكونون مثل ذلك الرجل (الملك ناصر الدين شاه) الذي كان ينظر إلى الناس من أعلى شمس العمارة بتحقير واستصغار.. عند محاسبة النفس يجب أن لا يرى الإنسان نفسه فوق الآخرين.. وإذا صلّينا وبكينا وتصدقّنا وعملنا في طريق الإسلام، فإن ذلك لا يعطينا الأفضلية على هذه المجموعة أو تلك.. إن حسّ الأفضلية مضرّ للغاية.. لكنه في المقابل لا يمنع المرء من رؤية نفسه أعلى من أعدائه، لأنهم أعداء الله تعالى إذا كان الدوافع وراء ذلك هو ولاية الله عز وجل.. بل في هذه
__________
(1) المصدر السابق، ص 11.
(2) المصدر السابق، ص 11.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (154)
الحال يجب ذلك.. الإنسان يجب أن يتواضع أمام أولياء الله وأمام المؤمنين، وإلاّ فالتكبر سيؤدي به نحو الهاوية، والقصص كثيرة حول أحوال المتكبرين في العالم)(1)
وهكذا نجده يربط كل قراراته بالمعايير الأخلاقية، ومن ذلك فتواه بتحريم الأسلحة النووية، فقد قال في رسالة وجهها للمؤتمر الدولي لنزع السلاح النووي الذي أقيم حينها في إيران: (رغم البديهيات الأخلاقية والعقلانية والإنسانية وحتى العسكرية فإنّ الحاجة الإنسانية المؤكّدة والمتكررة للمجتمع الإنساني لمحو هذه الأسلحة تم تجاهلها من قِبَل ثلة من الدول التي بَنَت أمنها الوهمي على أساسٍ من التهديد الجماعي للعالم)(2)
ثم بين أن السبب وراء ذلك التنافس المحموم لتطوير وتحصيل الأسلحة النووية يكمن في الانحرافات الأخلاقية التي تمثلت في المسؤولين على تلك الدول، يقول: (إن إصرار هذه الدول على حفظ ومضاعفة القدرة التخريبية لهذه الأسلحة التي لم ولن يكون لها أثر عملي إلا الإرعاب والإرهاب الجماعي وتحقيق الأمن الوهمي القائم على الردع الناشئ عن الدمار الشامل المضمون، سيؤدي إلى استمرار الكابوس الذري في العالم.. لقد تم صرف الموارد المالية والإنسانية التي تفوق حدّ الإحصاء في تنافس غير عقلاني ولا منطقي لتحصل القوى الكبرى على قدرة وهمية تستطيع معها أن تقضي عشرات آلاف المرات على القوى المنافسة لها وباقي سكان العالم وحتى ما يشملها هي أيضاً، وليس من الغريب أن تسمّى هذه السياسة الإستراتيجية بالردع المبني على الدمار الشامل المتبادل والمضمون أو توصف بالجنون)(3)
وقال: (ونحن نرى أن باقي أنواع أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة الكيماوية والأسلحة الجرثومية أيضاً بالإضافة للأسلحة الذرية تشكل تهديداً حقيقياً للإنسانية..
__________
(1) المصدر السابق، ص 11.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 141.
(3) المصدر السابق، ص 143.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (155)
والشعب الإيراني الذي يُعدّ ضحية لاستخدام الأسلحة الكيماوية يشعر أكثر من غيره من الشعوب بخطر إنتاج وتخزين مثل هذه الأسلحة وهو مستعدٌ لوضع كل إمكانياته بغية مواجهتها)(1)
ثم ذكر بفتواه في تحريمها بناء على كل ذلك، فقال: (نحن نقول بحرمة استخدام هذه الأسلحة ونرى أن السعي نحو حماية أفراد البشرية من خطر هذا البلاء العظيم يشكل مسؤولية وواجباً عاماً على جميع المسلمين)(2)
ثانيا ـ الترغيب في الأخلاق الحسنة وفضائلها
ينطلق قادة الثورة الإسلامية الإيرانية في دعوتهم للأخلاق والقيم المرتبطة بها من الفهم الشمولي للإسلام، والذي يستوعب كل نواحي الحياة، وبما أن الإسلام رسالة أخلاقية؛ فإنهم يدعون إلى شمولية الأخلاق لكل جوانب الحياة، ولهذا نجد في خطاباتهم لكل جهة من الجهات يهتمون بذكر النواحي الأخلاقية المرتبطة بها.
وقد شرح الإمام الخميني هذا المعنى، حيث قال في خطاب وجهه لتجمع للمعلمين في بعض المدارس: (سمعت أنكم عملتم بطريقة جيدة، لقد ربيتم أبناءنا تربية صالحة، وليس هناك سوى أمر واحد أود الاشارة إليه، وأريد أن تأخذوه بنظر الاعتبار من الآن فصاعدا، وهو الحرص على تربية الناشئة في كل عصر بما ينسجم مع ذلك العصر.. وقد أشارت الروايات كذلك إلى أن علينا تربية أبناءنا بغير ما نحن عليه، ذلك لأن الناشئة هم الذين سيبادرون إلى الإشراف على أمور البلاد في المستقبل.. كذلك فإنكم إذا أبعدتم الناشئة عن السياسة وعن أمثالها من تلك الأمور، فإن ذلك سيعني أنهم سيدخلون المجتمع كما يدخله الأعمى، إن
__________
(1) المصدر السابق، ص 143.
(2) المصدر السابق، ص 143.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (156)
المطلوب لمن يراد لهم أن يعيشوا في هذه البلاد والإمساك بمقدراتها مستقبلا، أن يكونوا واعين ومطلعين على كافة الخدع التي قام بها الاستعمار وعلى كافة المساعي التي بذلت للإبقاء على البلاد متخلفة، وأن كل ذلك يجب أن يتعلمه الناشئة على أيديكم وأن يسمعوه منكم، اشركوهم في المسائل المعاصرة وأطلعوهم عليها، وإذا حصل أي تقصير بهذا الأمر لا سمح الله فإنكم ستواجهون كثرة من المنحرفين يتصدون لهذه الأمور تتغلب على القلة الصالحة)(1)
ثم عقب على ذلك بقوله: (إن التربية والتعليم يجب أن يكونا شاملين لكافة النواحي، وبالقدر الذي تحتاجه البلاد ويحتاجه الإنسان، التربية والتعليم يجب أن يتناولا كافة الأبعاد.. إذا كنتم من المطلعين وإن شاء الله أنتم من المطلعين على الإسلام والقرآن فلابد أنكم تعلمون بأن الإسلام لا يقتصر على الأمور العبادية، الإسلام ليس تعليما وتعلما عباديا وأمثال ذلك، الإسلام سياسة، لقد أقام الإسلام حكومة كبيرة حكمت بلادا مترامية الأطراف، والإسلام نظام، نظام سياسي، غاية الأمر أن سائر الأنظمة غفلت عن العديد من الأمور، غير أن الإسلام لم يغفل عن أي شي ء، فالإسلام يتكفل بتربية الإنسان في مختلف الأبعاد، يمتلك الإسلام بعداً مادياً يتناول البعد السلوكي للإنسان، وفيه بعد معنوي يتناول الأمور المعنوية ويتحدث عنها)(2)
ثم ذكر بعض النماذج عن ذلك، فقال: (الإسلام يضع بين يدي الإنسان المسلم حين إقدامه على الزواج تعاليم لبناء الإنسان الذي سيولد من هذه الأسرة، فهو يوجه الرجل في انتخاب المرأة، ويوجه المرأة في انتخاب الرجل ويطالب بمعرفة الوضع الأخلاقي له ومعرفة مستوى تدينه وهكذا.. الإسلام يتعامل مع بني الإنسان كما يتعامل الفلاح الذي يريد أن يزرع
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 6، ص: 162
(2) المصدر السابق، ج 6، ص: 162
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (157)
نبتة ما ليستفيد منها، فالإسلام وقبل أن تبدأ الزراعة يعطي تعاليمه عن الأب والأم وأحوالهما، أي أنه يعطي تعاليمه عن الزواج، وهو يحرص على ذلك مخافة ما ستؤول اليه عواقب الأمر إذا كان أحد الأبوين فاسداً مثلا أو أن ممارساته غير إنسانية، فإن الطفل الذي سيولد في مثل هذه الأسرة قد يتأثر نتيجة لقوانين الوراثة التي تقوم بدورها وتؤثر عليه، لذا فإنه يتصرف بدقة كما يتصرف المزارع الحريص على زراعته، فالإسلام يحرص على نوع الإنسان، ومنذ البدء وحتى عقد الزواج له تعاليمه، ومن ثم وبعد حصول الزواج فإن لديه من التعاليم والآداب تتناول نوع التربية التي يجب أن يقترن الزواج بها، ثم لديه العديد من الآداب بما يتعلق بالنكاح والحمل والرضاع، ثم الآداب الأخرى التي تتعلق بكيفية تربية الأم والأب للوليد، وبعد ذلك فإن لديه سلسلة أخرى من الآداب في المدرسة وفي المجتمع، إن الإسلام يحرص على تربية الإنسان من قبل أن يأتي إلى الدنيا حتى بلوغه أعلى المراتب، وفي كل هذه المراحل لديه تعاليم وآداب)(1)
ثم بين الفرق بين الإسلام وغيره من المدارس الفكرية في هذه الناحية، فقال: (سائر الانظمة في العالم وسائر الحكومات لا تنظر إلى أصل الإنسان، هي تنظر فقط إلى استغلال هذا المجتمع مثلا لتحقيق مصالحها، وتحرص على استتباب نوع من الهدوء حتى تمارس نهبها للناس.. أما أولئك البعض ممن يوصفون بأنهم جيدون وعادلون فإنهم لا يهتمون بهذه المسائل وانما بتصحيح الأمور الاجتماعية بقدر ما فقط، أما كيف يجب أن يكون الطفل إلى آخر عمره، وكيف يجب أن تكون التربية وما هو الواجب في زمن الحمل والرضاع فإن هذه الأمور لا تتطرق إليها تلك الأنظمة أبداً)(2)
وبناء على هذا نجده يحدد لكل جهة يتواصل معها ـ بخطبه وبياناته وفتاواه ـ التكاليف
__________
(1) المصدر السابق، ج 6، ص: 163
(2) المصدر السابق، ج 6، ص: 163
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (158)
الأخلاقية المرتبطة بها، ومن الأمثلة على ذلك قوله في خطاب وجهه لأعضاء منتخبات طهران لكرة القدم: (أنا لست رياضيا ولكني أحب الرياضيين.. أحب الصالحين ولست منهم.. أدعو الله تبارك وتعالى أن يوفقكم أنتم الشباب ذخر هذا البلد ومبعث أمل الأمة والإسلام حتى تمارسوا الرياضة في جميع الأبعاد الإنسانية، منها البعد الذي تخصصتم فيه ويحدوني الأمل أن تنمو فيكم الأبعاد الإنسانية الأخرى، لقد كان الرياضيون دائما يحملون روحاً سليمة لأنهم لم يكونوا يفكرون في الشهوات والملذات، ومارسوا نشاطا بدنيا حيث أن العقل السليم في الجسم السليم، ولو تأملتم في أحوال المجتمعات وطبقاتها، لوجدتم أن الذين ينهمكون في الملذات الجسمانية هي في الحقيقة ليست ملذات، فالأبدان كئيبة، والروح قد ذبلت وأصابها التعب، فلو أمضى إنسان ساعتين في الملذات فإنه يمضي اثنتين وعشرين ساعة في القلق والاضطراب، وأما المؤمنون بالله فإنهم يمارسون رياضة بدنية وأخرى روحية فلا يصيبهم الذبول، وهذه نعمة ندعو الله تعالى أن يمنحها للجميع إن شاء الله.. ينبغي عليكم أن تكونوا قدوة في الدول الأخرى لأنكم تمثلون الجمهورية الإسلامية، وإننا بحاجة إلى تقوية الإسلام في كل مكان ونطبقه وأن نصدر الإسلام كما هو موجود في بلدنا إلى البلدان الأخرى، وأنتم الشباب أحد مصاديق هذا التصدير حيث تسافرون إلى الدول الأخرى ويتفرج الكثيرون على فعالياتكم، فينبغي عليكم أن تعملوا بالشكل الذي تدعون به هؤلاء إلى الإسلام وعليكم أن تكونوا نموذجاً للجمهورية الإسلامية التي نأمل أن تقوم في أماكن أخرى إن شاء الله.. واعلموا أننا نعيش في عزلة بين الدول الرجعية والدول التي تريد نهب الشعوب ويقف الجميع في الصف المعادي لنا، إلا أن الشعوب ليست كذلك، فالشعوب مع الحق ومع القيم الإنسانية بخلاف الحكومات التي لا تعرف شيئا عن القيم، ولذلك يجب أن تتصلوا بالشعوب أينما سافرتم حيث يأتي الناس لمشاهدة قدراتكم البدنية، ومن خلال ذلك اعرضوا عليهم القيم الموجودة في ايران من القيم الأخلاقية والعقائدية والقيم العملية وانشروها بين الشعوب، وعندما تكونون في
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (159)
إيران قدموا خدماتكم للمجتمع)(1)
وقال في رسالة كتبها لتلاميذ مدرسة ابتدائية ـ جوابا على رسالة أرسلوها له ـ: (أبنائي الأعزاء! وصلتني رسالتكم المفعمة بالحب، وإنني في الوقت الذي أشكركم على ذلك أدعو الله تعالى أيها الأعزاء الذين تحملون قلوبا نقية مليئة بالحب، أن يوفقكم في نيل العمل والأخلاق الفاضلة وتهذيب النفس، حتى تكونوا في المستقبل إن شاء الله خادمين للإسلام وبلدكم وشعبكم، وأن يحفظكم من شر المنحرفين الذين يريدون جركم إلى الانحراف.. جاهدوا ما استطعتم في نيل العلوم النافعة والتخلق بالأخلاق وأداء الأعمال الحسنة حتى تكونوا في المستقبل مبعث فخر لوطنكم، ولا تقصروا في احترام الآباء والأمهات والمعلمين الذين هم آباء معنويون وثقافيون لكم ودافعوا عن الإسلام والجمهورية الإسلامية، ادعو الله تعالى أن يحمي الجميع وينصركم)(2)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي في خطاباته الكثيرة الموجهة لأي جهة أو مؤسسة يذكرها بالواجبات الأخلاقية المرتبطة بها، ومن الأمثلة على ذلك قوله في خطاب وجهه لجمع غفير من الممرضات النموذجيات، في يوم السيدة زينب الكبرى ـ وهو اليوم الذي اختارته الجمهورية الإسلامية الإيرانية ليكون يوم الممرضة ـ: (إن دور الممرضة في هذا المجال يُعدّ دوراً بارزاً جداً، فالممرّض يبقى في سعيٍ وتحدٍّ مستمرٍّ على المستوى الروحي والنفسي، فليست القضية منحصرة ببدنه، فالتعب الروحي للتعامل مع المريض والشعور بالمسؤولية بأن يقدّم لهذا المريض ـ بالإضافة إلى العلاج الجسماني ـ العلاج الروحي والمعنوي هو قضية مجهدة جداً وعملٌ ثقيل، فمثل هذه المسؤولية الثقيلة يتحمّلها الممرضون.. تأكّدوا أن كل لحظة، وثانية أو دقيقة تقضونها
__________
(1) المصدر السابق، ج 16، ص: 71
(2) المصدر السابق، ج 16، ص: 95
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (160)
في مثل هذا العمل ـ ومع الالتفات إلى الشعور بالتكليف تجاه المريض، هذا الإنسان المبتلى ـ تُعدّ حسنة من الله تعالى ولها ثوابٌ وأجرٌ تنالونه من الرب المتعال، وفي الحسابات الإلهية لا تضيع أية ثانية، فلا يجوز أن نظن أنّ هذه اللحظات الصعبة التي يقضيها الممرّض إلى جنب المريض سيتمّ إغفالها في الحسابات الإلهية، كلا ليس الأمر كذلك، فكل لحظة تقضونها، وكل سعي تبذلونه، وكل نفَسٍ يصدر عنكم مقابل المشقّات التي تعانون منها هو حسنة وعملٌ يستحقّ أجراً، والله تعالى يسجّل كل هذه اللحظات، فيجب تقدير هذه الأعمال الشاقّة ذات الآثار الكبرى والمهمة)(1)
ثم ذكرهم بضرورة الالتزام بالأخلاق المرتبطة بوظيفتهم، فقال: (لا شك بأن التكاليف ثقيلة أيضاً، فيجب الاعتناء بها، فالأخلاق التمريضية كالأخلاق الطبية، تُعد فريضة وتكليفاً، وإن أجركم عظيمٌ جداً مثلما أن تكليفكم أيضاً عظيم كذلك، لأن المريض إنسان وليس سيارة، وهو ليس عبارة عن قطع من الحديد والفولاذ والبراغي، وليس مجرّد جسمٍ، إن روح الإنسان وأحاسيسه ومشاعره وخصوصاً إذا مرض تصبح متألّمة وتحتاج إلى الكثير من اللطف والكثير من المواساة، فابتسامة منكم أحيانا تكون أثمن من الدواء الذي يُعطى لهذا المريض ولها أثرٌ أكبر وقيمة أعلى، فالمريض يُبتلى بالاضطراب والانزعاج وخاصّة ذوو الأمراض الصعبة، وتقديم المساعدة له لا تكون مساعدة لجسمه فقط، إن البدن ينبغي أنّ يُعالج بالأدوية والحقن والعلاجات الطبية، أما الروح فتعالج بالمحبة والرأفة والملاطفة، وفي بعض الأحيان يحلّ هذا العلاج الروحي محلّ العلاج الجسماني، وهذا أمرٌ علميٌّ أثبتته التجربة حيث إنّ سرور روح الإنسان وأعصابه ومشاعره له تأثيرٌ إيجابي على بدنه، وهذا بأيديكم، بأيدي الممرّضين)(2)
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 146.
(2) المصدر السابق، ص 146.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (161)
وقال في زيارته لمعامل السيارات، في خطاب وجهه لجمع من العاملين والمدراء في معامل السيارات: (كان هناك وهم خطير، تمّ ضخه وحقنه في الأذهان ـ وربما لا يزال هذا الوهم موجوداً إلى الآن في بعض الأذهان ـ وهو وهم التضادّ بين الحياة العقلانية المتقدمة من ناحية، والحياة المعنوية والأخلاقية من ناحية ثانية، كان بعضهم قد صدق أنه لو أراد المجتمع أن يعيش حياة عقلانية عملية متسارعة الخطى على طريق التقدم فهو مضطر للابتعاد عن الأخلاق والمعنويات والدين والله.. كان ثمة مثل هذا الوهم، ولهذا الوهم أسبابه التاريخية الواضحة، وله أيضاً أسبابه المرتبطة بعلم الاجتماع، ما نروم الإصرار عليه هو أن الجمهورية الإسلامية وبسيادة الدين والإسلام أبطلت هذا الوهم ورفضته، نحن نريد أن نعيش حياة عقلانية ومنطقية وعلمية ومتقدمة وبمقدورنا ذلك، ونكون في الوقت ذاته متمسكين بقيمنا الأخلاقية وملتزمين بإيماننا الديني وعاملين بفرائضنا الدينية ومقتضيات حياتنا الدينية، بل ونتقدم في هذا الاتجاه.. الإسلام دين المعنويات ودين العلم في نفس الوقت، كان المجتمع الإسلامي في القرنين الرابع والخامس للهجرة من أكثر المجتمعات البشرية تقدماً، مفاخرنا العلمية في تلك الفترة لا تزال تتألف كالنجوم في سماء العلم حتى بعد مرور ألف سنة، ولكننا أصبنا بحالة من الركود والتراجع لأسباب خاصة.. مسيرتنا اليوم مسيرة تقدمية نحو الأمام، إنها مسيرة ذات قفزات واسعة ويجب أن تكون هكذا، سواء على الصعد العلمية أو على الصعد المعنوية والأخلاقية، الصناعة بوسعها أن تكون صناعة متقدمة وتراعى فيها في الوقت ذاته الاعتبارات الدينية والأخلاقية والإنسانية، إننا نريد منكم أنتم الصناعيين في بلادنا ومدراء الصناعة أن تكونوا رمزاً ومثالاً لهذه الحقيقة، ملتزمين بالدين، وفي الوقت ذاته وبسبب الالتزام بالدين، ملتزمين بالتقدم السريع في الصناعة)(1)
__________
(1) المصدر السابق، ص 116.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (162)
وقال في خطاب وجهه لرؤساء السلطات الثلاث وجمع كبير من المسؤولين في شهر رمضان، عند حديثه على أهمية دعاء مكارم الأخلاق، وهو الدعاء العشرون في الصحيفة السجادية: (هذا الدعاء دعاء مهمٌّ جداً، وفي رأيي أنه يجب علينا جميعاً وخصوصاً العاملين أن نقرأ هذا الدعاء وندقق في مضامينه الملهمة)
ثم ذكر نماذج عما ورد في الدعاء، وبين وجه الاستفادة منها، فقال: (وإصلاح ذات البين.. فبدلاً من إشعال النيران والإذاعة وإلقاء الخلاف والتفرقة نقوم بإصلاح ذات البين بين الإخوة المؤمنين والمسلمين ونوجد الإئتلاف، هذه هي التقوى.. لاحظوا: إن هذه كلها تُعدّ من قضايانا المعاصرة: إشاعة العدل وبسطه في القضاء والاقتصاد والاختيار وتوزيع الثروات والفرص الموجودة في البلاد بين الجماعات، هذه جميعها قضايا مهمة جداً، وهي مورد حاجتنا، فبسط العدل يُعدّ أرفع أنواع التقوى، فهو أعلى من صلاة جيدة وصوم يوم في صيف حار، فقد ورد في حديثٍ: إن كل أميرٍ ـ الأمير يُقصد به أنتم، كل من يدير جهازاً ويكون حكمه نافذاً فيه ـ يحكم يوماً واحداً بالعدل فكأنه قد عبد الله سبعين سنة، ومثل هذه القضايا الفائقة الأهمية تدلنا على أهمية العدالة والسلوك العادل.. وكظم الغيظ تجاه الأصدقاء ـ أما مقابل الأعداء فيجب أن نتحلى بالغيظ ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: 15]، ففي مقابل ذاك العدو الذي يخالف هويتكم ووجودكم يكون الغضب مقدساً ولا إشكال فيه، أما في جمع المؤمنين وبين أولئك الذين أُمرنا أن نعاملهم وفق السلوك الإسلامي فلا ينبغي أن يكون هناك غيظٌ وغضب، فالغضب يضر بصاحبه، واتخاذ القرار مع الغضب مضرّ، وكذلك الكلام والعمل مع الغضب فإنه غالباً ما يؤدي إلى الوقوع في الأخطأء والشبهات، وهو أمرٌ ذائعٌ بيننا كثيراً وللأسف، فاجتناب هذا الغضب الذي يؤدي إلى الانحراف والخطأ في الفكر والعمل يُعدّ من موارد
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (163)
التقوى)(1)
وهكذا راح يشرح لهم بعض ما ورد في دعاء مكارم الأخلاق مطبقا ذلك على الوظائف المرتبطة بهم، ومنها قوله ـ في شرح [إطفاء النائرة] الواردة في الدعاء ـ: (فبعضهم يشعل النيران السياسية والفئوية، وكأنه مكلف بهذا العمل، أرى داخل بلدنا جماعة همّهم أن يُوجِدوا الاختلافات والعداوات بين التيارات المختلفة وكأنهم يستمتعون بذلك، وهذا خلاف التقوى لأن التقوى تعني إطفاء النائرة، فمثلما أنكم تطفئون النيران المندلعة في المحل والمكان المادي فعليكم أن تسيطروا على النيران التي تندلع في الأجواء الإنسانية والمعنوية والأخلاقية وتطفئوها، وهكذا: (ضمّ أهل الفرقة).. لقد قلنا بجذب الحدّ الأكثر ودفع الحد الأقل، بالطبع المعيار والميزان هو الأصول والقيم، فالناس ليسوا سواء بلحاظ الإيمان، ففينا من هو ضعيف الإيمان ومن هو أقوى إيماناً، وعلينا أن نسعى، فلا يصح أن ندفع ضعيف الإيمان، ولا يصح أن نركّز على الأقوى إيماناً، كلّا، فضعفاء الإيمان ينبغي أن يحوزوا على عنايتنا، فالذين يعدّون أنفسهم أقوياء ينبغي أن يعتنوا بمن يرونه ضعيفاً ويراعوه ولا يدفعوه، الذين كانوا من الجماعة لكنهم بسبب الاشتباه والغفلة ابتعدوا وانفصلوا نعيدهم إلينا، ننصحهم، نبين لهم الطريق، ونستعيدهم، وهذه قضايا أساسية)(2)
وقال في درس ألقاه على مسمع مجموعة من المجاهدين العاملين في قسم الحراسات، وهو يحثهم على اللين: (إن من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها الإنسان في علاقاته مع الآخرين اللين.. وهو مطلوب حتى في علاقاتنا مع أعدائنا إلاّ أن يكونوا أعداء الله، فهؤلاء الكفار مستثنون من ذلك حيث يقول تعالى: ﴿يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ
__________
(1) المصدر السابق، ص 274.
(2) المصدر السابق، ص 275.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (164)
الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: 123])(1)
ثم ذكر كيفية تطبيق هذا الخلق، فقال: (يجب على الإنسان أن يتخذ اللين شعاراً في تعامله مع الجميع: مع السجناء في سجونهم، والمحكومين بالإعدام حتى تنفيذ الحكم بهم ـ إلاّ أن يكونوا أعداء لله ـ وحتى مع كل المذنبين الذي سيعاقبون على أفعالهم.. إلاّ أن اللين والعطف ينبغي أن لا يصل إلى المستوى الذي يخرج فيه المرء عن الحدود الإلهية، فالحد الإلهي يجب أن يبقى محفوظا.. السارق يجب أن يلقى جزاءه، والقاتل والظالم كذلك.. كل يلقى جزاءه بحسب ما تقضى الشريعة الغراء.. أحكام الله يجب أن تراعى وتنفذ، ومع ذلك كله يبقى اللين مطلوباً، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر حسبما يأمر الإسلام ونكون ليّنين بالشكل المناسب.. من المهم جداً أن نميز بين هذه الأمور جميعاً)(2)
وقال ـ يحثهم على العفو ـ: (العفو من الصفات التي يجب أن يتحلى بها الإنسان في معاشرته مع الناس، فإن أساء إليكم شخص من الممكن أن تسيئوا إليه كما أساء إليكم، لكن اعفوا عنه واصفحوا، فالعفو من أحسن الصفات وأسماها في الأوقات التي يتعرض فيها المرء لإساءة أو سوء أدب من قبل أخيه المؤمن، وفي لحظات الغضب والانفعال التي تدعو صاحبها إلى رد السوء بالسوء.. في تلك الحالات يكون الإنسان حيواناً حقيقياً، أسير غضبه ونفسه التي تستهدف فقط منافعها الشخصية، وعند العجز عن رد الإساءة بالمثل يقبل البعض بالذلة والضعف، ومتى سنحت الفرصة للرد يكون الرد وحشياً شديداً.. إن هذه مسألة طبيعية لدى الإنسان، ولكن علينا ضبطها وتقييدها.. هذه الحالة الحيوانية التي تظهر حين غضبنا وحين الرد على من أساء إلينا، يجب أن نسيطر عليها)(3)
__________
(1) المواعظ الحسنة، الإمام الخامنئي، ص 1/ 15.
(2) المصدر السابق، ص 1/ 15.
(3) المصدر السابق، ص 1/ 18.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (165)
الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم الإنسانية
الركن الرابع من الأركان الكبرى التي تتشكل منها الحضارة الإسلامية الجديدة ـ بحسب رؤية قادة الثورة الإسلامية الإيرانية ـ[القيم الإنسانية]، وهي وإن كانت تابعة في الكثير من مضامينها للقيم الأخلاقية والاجتماعية إلا أنا نقصد منها خصوصا ما يرتبط بما يطلق عليه [حقوق الإنسان]، وخصوصا تلك التي يتوهم الغرب أنه يمثلها من أمثال: الحرية والإخاء والمساواة والعدالة ونحوها.
ولهذا نجد قادة الثورة الإسلامية الإيرانية عند تبنيهم أو دعوتهم أو اهتمامهم بهذا النوع من القيم يشيرون إلى الفهوم الخاطئة المرتبطة بها، والتي يتبناها الاستكبار العالمي، وعلى أساسها يصنف الدول كما يشتهي.
وبناء على هذا؛ فإن ما سنذكره من اقتباسات ونصوص من كلمات قادة الثورة الإسلامية الإيرانية يتضمن كلا الأمرين:
الأول: الرد على الفهوم الخاطئة المرتبطة بالقيم الإنسانية.
الثاني: بيان المفهوم الصحيح للقيم الإنسانية، ومن الرؤية الإسلامية.
وقد رأينا أن التصنيف المناسب لذلك هو ذكر القيم نفسها، ثم بيان ما يرتبط بها من حقائق وفهوم، مع العلم أنا قد فصلنا الكثير من هذه النواحي في كتاب [إيران: نظام وقيم]، لكن لا باعتبار الرؤية الفكرية المجردة، وإنما باعتبار التطبيقات الواقعية التي تبنتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية في قوانينها، والتي تنبني ـ طبعا ـ على الرؤية الفكرية لقادتها.
وقد رأينا من خلال استقراء كلمات قادة الثورة الإسلامية المرتبطة بهذا الجانب خمسة معان كبرى، هي:
أولا ـ الاهتمام بحقوق الإنسان.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (166)
ثانيا ـ الاهتمام بالإخوة الإنسانية.
ثالثا ـ توفير الحرية المسؤولة.
رابعا ـ توفير العدالة الشاملة.
خامسا ـ نصرة المستضعفين.
من خلال الاطلاع على خطب ورسائل قادة الثورة الإسلامية الإيرانية حول حقوق الإنسان، نجد نوعين من الأحاديث يكمل بعضهما البعص:
أولهما ـ الرد على ما يسمى [منظمات حقوق الإنسان]، بسبب كيلها بالمكاييل المزدوجة؛ أو كونها تفرض رؤيتها الفكرية على غيرها.
ثانيهما ـ الدعوة إلى الاهتمام الحقيقي بحقوق الإنسان، والذي لا يتوفر إلا في الشريعة الإسلامية.
وسنذكر نماذج عن أحاديثهم عن كلتا الناحيتين في العنوانين التاليين:
1 ـ الرد على الاستغلال الخاطئ لحقوق الإنسان
نلاحظ من خلال كلام قادة الثورة الإسلامية الإيرانية عن منظمات حقوق الإنسان نبرة غضب شديدة، ذلك أن تلك المنظمات كانت قبل الثورة تقف مع الشاه ونظامه الاستبدادي، وبعد الثورة، صارت تقف ضد كل قيمة من القيم النبيلة التي يوفرها النظام الإسلامي.
من الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني في بعض خطبه عنها ـ متعجبا ـ: (كيف يفكر هؤلاء تجاه الشرق والعالم الثالث؟ بماذا يفكرون؟ وكيف ينظرون إلينا؟! هؤلاء الذين يؤسسون المنظمات من أجل (حقوق الإنسان) وحتى حقوق الحيوان، إنما يؤسسونها للحفاظ على مصالحهم وحدهم، وأما حقوقنا فلا معنى لها عندهم.. يدّعون الحفاظ حتى على حقوق الحيوانات ويدافعون عنها، ولكنهم في فيتنام ارتكبوا من المجازر ما يندى لها جبين الإنسانية،
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (167)
وقتلوا مئات الملايين من البشر في سائر أنحاء العالم.. هؤلاء الذين ينادون بحقوق الإنسان، يسحقون الإنسان بهذا الشكل.. ومما يؤسف له أننا صدقنا ذلك، وراح بعض مفكرينا ومثقفينا يؤيدون ذلك ويدافعون عنه.. إن الإسلام بقادته من أمثال علي بن أبي طالب، من يمكنه التأسيس لحقوق الإنسان، وليس هؤلاء الذين يدوسون على حقوق الإنسان باسم حقوق الإنسان)(1)
ويقول في خطاب آخر ـ إبان تواجده في النجف الأشرف وفي أربعينية شهداء قم ـ: (جميع أنواع البؤس الذي عانيناه وما نزال نعانيه، هو بسبب زعماء هذه الدول الذين وقّعوا على إعلان حقوق الإنسان، فإنّ الموقّعين على إعلان حقوق الإنسان هم أولئك الذين سلبوا حرية الإنسان في جميع الأوقات التي أمكنتهم فيها الفرص.. وأهم ما في إعلان حقوق الإنسان هو حرية الأفراد، فكل فرد من أفراد البشر حرّ، ويجب أن يكون حراً، ويجب أن يكون الجميع متساوين إزاء القانون، الجميع يجب أن يكونوا أحراراً في بلدانهم، وأحراراً في عملهم، وأحراراً في مشيهم.. هذا هو إعلان حقوق الإنسان المتضمّن لهذه المسألة.. والمسلمون، بل جميع البشر، كانوا يعانون من هؤلاء الذين وقّعوا وصادقوا على إعلان حقوق الإنسان)(2)
ثم ضرب لهم الأمثلة على ذلك بما تفعله إنجلترا وأمريكا، فقال: (ونحن نرى هذا المعنى ينطبق على أميركا التي وقّعت إعلان حقوق الإنسان، وعلى إنجلترا التي يبالغون في وصف حضارتها، ويُغالون في وصف ديمقراطيتها، وهذا إعلام كاذب، وشيطنة منهم ليس إلا، فقد دفعوا الناس بالإعلام الخادع إلى التصديق بأنّ انجلترا تقف على هرم الديمقراطية، وأنّ الملكية الدستورية مطبّقة بمعناها الحقيقي في إنجلترا، وأوهموا الناس بقبول هذا المعنى بإعلامهم،
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 10، ص: 264.
(2) المصدر السابق، ج 3، ص: 296
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (168)
ونحن رأينا الجرائم التي ارتكبتها انجلترا في الهند وباكستان ومستعمراتها الأخرى، وما فعلت أميركا بالمسلمين، وما تقدّمه من الدعم حالياً لربيبتها إسرائيل التي أقاموا لها كياناً هناك.. ومن ناحية أخرى وضعوا عميلًا لهم في مصر اسمه السادات الحاكم الناشط في تطبيق مخططات الاستعمار، وكلّنا نعلم بزيارته لإسرائيل، وفي الخمسين سنةً التي نتذكّرها، وهي تمثّل حالة العزاء، تمثل المصيبة لإيران بما ذاق الشعب من هذه الأسرة الظالمة، قامت انجلترا ـ المحبّة للإنسان! ـ انجلترا الديمقراطية التي وقّعت على إعلان حقوق الإنسان بإيصال رضا خان إلى السلطة، وذلك بحسب إقرارها هي، وجعلتنا عرضة للعناء حوالي عشرين سنة، وجعلت الشعب المسلم في مشقة)(1)
وعندما سأله بعض الصحفيين إبان تواجده في فرنسا قائلا: (هل تفكّر كما يفكر البعض بأن أميركا تتطلّع إلى إقامة نظام ليبرالي ذي نزعة تحررية في إيران؟)، قال مجيبا له: (هل تعني الإعلان الخاص باحترام حقوق الإنسان؟.. هذا الموضوع ليس أكثر من كلام مجرَّد، وأنا لا أؤمن به.. يكفي أن تنظر إلى كارتر ـ الرئيس الأمريكيّ ـ في زيارته لطهران حيث جدَّد دعمه للشاه إضافة إلى ذلك لم يكذّب هذا الدعم عملياً.. على أية حال نحن لا نقبل ـ في أي وقت ـ نظاماً له ملامح وصورة النظام الليبرالي الحر، إلّا أن جوهره ومحتواه ديكتاتوري واستبدادي)(2)
فعاد الصحفي يسأله عن الموقف من الاتّحاد السوفياتي، وهو يتوهم أن رفضه لأمريكا يعني قبوله بالاتحاد السوفيتي، فأجابه الإمام الخميني: (هو الموقف ذاته إزاء أميركا.. القوتين العظميين استغلتا واستثمرتا شعبنا وأنا لا أجد فرقاً بينهما.. بل، حتى لا أجد فرقاً بينهما وبين
__________
(1) المصدر السابق، ج 3، ص: 296
(2) المصدر السابق، ج 3، ص: 326
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (169)
انكلترا.. وإذا تحقَّق استقلال إيران، يمكن حينئذ إقامة علاقات سليمة مع دول العالم كافّة)(1)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يستعرض في كتبه وخطبه ومحاضراته ما يطرحه الغرب من أفكار وممارسات حول حقوق الإنسان، ويبين نواحي الدجل والخلل الواقع فيها، ومن الأمثلة على ذلك قوله متسائلا ـ بعد استعراض جهود الغرب في هذا المجال ـ: (السؤال الأول هو: هل كانت المحاولات التي جرت خلال القرنين الماضيين، وخاصة خلال نصف القرن الأخير، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن وتحت اسم حقوق الإنسان، موفقة أم لا؟ وهل استطاعت كل هذه التصريحات والاجتماعات والمؤتمرات من جانب هيئة الأمم المتحدة والإذاعات حول حقوق الإنسان أن توصل البشر إلى حقوقهم الحقة؟ أو في الأقل هل استطاعت إعطاء الإنسان الجزء الأكبر من حقوقه؟)(2)
ثم قال مجيبا: (إن الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة، فمجرد الإطلاع على حقائق عالمنا اليوم، يكفي لإثبات إخفاق كل ما بذل في هذا المجال لحد الآن، ونظرة عابرة لوضع المجتمعات المتخلفة التي تشكل النسبة الأكبر من سكان العالم ستثبت لنا أن أكثر البشر لم يحصلوا خلال نصف القرن الأخير على حقوقهم، وليس هذا فحسب بل إن أساليب سلب حقوق الإنسان والشعوب المحرومة قد تطورت وتعقدت وأصبح من الصعب علاجها.. نحن لا يمكننا تقبّل ادعاءات منظمات حقوق الإنسان ولا ادعاءات هؤلاء الذين يدّعون مناصرة حقوق الإنسان، بينما نحن نشاهد الواقع المر لشعوب إفريقيا وآسيا، وجوع ملايين البشر، وحرمان العديد من الشعوب من أبسط حقوقها الاجتماعية.. إن هؤلاء الذين رفعوا عقيرتهم خلال الأربعين عاماً الماضية دفاعاً عن حقوق الإنسان إنما هم أنفسهم قد سلبوا ولا زالوا
__________
(1) المصدر السابق، ج 3، ص: 326
(2) الفكر الأصيل، الإمام الخامنئي، ص 30.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (170)
يسلبون حقوق الشعوب المحرومة في العالم الثالث، واليوم نشاهد حكومات وأنظمة تسلّمت السلطة في العالم الثالث تستند إلى تلك القوى نفسها وتنتهج طريقها نفسه في انتهاك حقوق الإنسان في بلدانها.. إن الحكام الجبابرة الذين كثر عددهم خلال نصف القرن الأخير في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، لا يستطيعون انتهاج الدكتاتورية دون الاعتماد على القوى الكبرى في العالم، والقوى الكبرى هي نفسها التي ترفع عقيرتها دوماً بشعارات الدفاع عن حقوق الإنسان، وهي التي أسست الأمم المتحدة التي لا زالت حتى اليوم خاضعة لسيطرتها.. إن تفشي الفقر والجوع والموت في العديد من دول العالم، إنما هو نتيجة التدخل والظلم والاغتصاب الذي تقوم به هذه القوى.. فمَن الذي أوصل إفريقيا المليئة بالخيرات إلى ما هي عليه اليوم؟ ومَن الذي استغل شعبي بنغلادش والهند لسنوات طوال وأوصلهما إلى هذا الوضع بحيث يتفشى فيهما الجوع والموت بينما تملكان من الخيرات والبركات ما شاء الله؟.. ومَن الذي ينهب ثروات دول العالم الثالث ويطوّر تكنولوجيته وصناعته ويجمع الأموال الطائلة على حساب الفقراء والجياع في هذه الدول؟)(1)
ثم ذكر الدور القذر الذي مارسته المنظمات الدولية في هذا الواقع، فقال: (إن الذين أسسوا منظمة الأمم المتحدة، وأصدروا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذين يواصلون اليوم وبكل صلافة الادعاء بالدفاع عن هذه الحقوق، هم أنفسهم سبب معاناة الشعوب وتعاستها، وإلا فلماذا تبقى إفريقيا الغنية بالثروات والموارد الطبيعية، وأميركا اللاتينية المليئة بالثروات الطبيعية، والهند الكبيرة الواسعة، ودول العالم الثالث التي تمتلك كل هذه الطاقات البشرية والثروات الطبيعية، لماذا تبقى كل هذه المناطق متخلفة عن مواكبة ركب التطور والتقدم؟.. إن الذي يحكم العالم اليوم، هم أصحاب المال والقدرة الذين وضعوا بأنفسهم
__________
(1) المصدر السابق، ص 30.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (171)
أسس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وها نحن نرى الوضع المأسوي الذي تعاني منه الشعوب وهي ترزح تحت نير تسلّط هذه القوى ونهبها لها)(1)
ثم تساءل عن الدور القذر الذي مارسته منظمة الأمم المتحدة في هذا الواقع المؤلم، فقال: (منظمة الأمم المتحدة التي تعتبر ثمرة كل الجهود الرامية إلى حفظ حقوق الإنسان، ما الذي عملته للشعوب، وماذا تفعل اليوم؟ وفي أية قضية سياسية أو كارثة كبرى أصابت الشعوب استطاعت هذه المنظمة أن تلعب دوراً فعالاً وإيجابياً؟ ومتى نهضت هذه المنظمة لدعم المظلوم؟ ومتى استطاعت هذه المنظمة منع القوى الكبرى من مواصلة سياساتها الظالمة؟ إن هذه المنظمة أكثر تخلفاً من الكثير من الدول والشعوب.. فعلى الرغم من كل هذه الإدعاءات، فإنكم تشاهدون في إفريقيا اليوم نظاماً عنصرياً، بل إنكم تشاهدون التمييز العنصري داخل الدول المتقدمة نفسها.. إذا فمنظمة الأمم المتحدة لم تفعل شيئاً من أجل حقوق الإنسان، إذ قُصر دورها في المشاكل العالمية على التوصيات والإرشادات فقط كما تفعل أية كنيسة)(2)
ثم ذكر نواحي الخلل الواضحة في تلك المنظمات، والتي لا توفر إلا المزيد من حق الهيمنة للدول المستكبرة، فقال: (في منظمة الأمم المتحدة، يوجد مجلس الأمن الدولي الذي يعتبر النواة المركزية للمنظمة ومركز القرار، وفيه تمتلك الدول الكبرى حق النقض (الفيتو) فتستطيع الدول الكبرى نقض أي قرار يتخذه المجلس ضد المتسببين في إضعاف الشعوب وإبقائها متخلفة.. إن منظمة الأمم المتحدة وكل المنظمات التابعة لها، سواء أكانت ثقافية أم اقتصادية أم فنية أم غيرها.. خاضعة لتأثير القوى الكبرى، وقد شاهدتم الضغوط التي مارستها أميركا ضد منظمة اليونسكو الثقافية بسبب مجيء رجل مسلم إلى رئاسة المنظمة يسعى إلى إبقائها مستقلة؛
__________
(1) المصدر السابق، ص 30.
(2) المصدر السابق، ص 32.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (172)
فقد شاهدتم خلال السنتين الماضيتين حجم الضغوط التي مارستها أميركا ضد هذه المنظمة ورئيسها.. إذا فالأمم المتحدة، باعتبارها ثمرة كل الجهود التي بذلت من أجل حقوق الإنسان، تراها اليوم عقيمة لا فائدة منها، بل إنها تتصرف أحيانا وكأنها ملك للقوى الكبرى)(1)
ومع هذا الموقف من تلك المنظمات نرى حكمة الإمام الخامنئي في عدم رفضه المطلق لوجود تلك المنظمات، يقول: (ومع ذلك فإننا لا نرفض وجود الأمم المتحدة أساساً، بل نعتقد أنها يجب أن تبقى، ولكن يجب أن يجري إصلاحها، فنحن أيضاً عضو فيها.. والذي أريد قوله هو أنه بعد كل تلك الجهود والضجيج والادعاءات، وبعد كل تلك الآمال التي عُقدت على هذه المنظمة، نشاهد اليوم مدى عجز هذه المنظمة عن تأمين حقوق الإنسان)(2)
وقد أرجع الإمام الخامنئي سبب إخفاق تلك المنظمات إلى كونها لم تكن صادقة ولا مخلصة، يقول: (صحيح أنه كان من بين المتصدين لحقوق الإنسان مفكرون وفلاسفة ومصلحون، إلا أن السياسيين كانوا يتحكمون بكل شيء حتى أن جهود بعض المصلحين أصبحت بالنتيجة تصب في مصلحة تجار السياسة.. ففي الماضي، كان الذين يطلقون نداءات الدفاع عن حقوق الإنسان هم الأنبياء والحكماء وأمثالهم، أما اليوم فنشاهد هذه النداءات تصدر عن السياسيين، ولهذا فمن حقنا أن نشك في صدقها وإخلاصها)(3)
ثم ضرب المثال على ذلك بالرئيس الأمريكي، فقال: (انظروا مَن الذي ينادي بحقوق الإنسان اليوم، فالرئيس الأميركي السابق اتخذ من ضمان حقوق الإنسان شعاراً ليصل بواسطته إلى الرئاسة، وفي أيام رئاسته الأولى كان يظهر من أحاديثه وتصريحاته أنه يريد العمل بجد بهذا الخصوص، إلا أنه وقف في النهاية إلى جانب أظلم الحكام المعارضين لحقوق الإنسان وأقساهم
__________
(1) المصدر السابق، ص 33.
(2) المصدر السابق، ص 34.
(3) المصدر السابق، ص 34.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (173)
وأشرسهم في المنطقة، فقد وقف إلى جانب الشاه والصهاينة المتسلطين على فلسطين وسائر المستبدين المعروفين في هذا العصر)(1)
وهكذا الأمر بالنسبة لسائر الحكام والسياسيين، يقول الإمام الخامنئي: (إن الحكام ورجال السياسة الذين يرفعون عقيرتهم اليوم بالدفاع عن حقوق الإنسان في المؤتمرات والمحافل الدولية، ليسوا بأفضل ممن سبقوهم، إذ أننا لا نشاهد الصدق والإخلاص في تحركاتهم.. فالذين وضعوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى رأسهم أميركا، كانوا يسعَون إلى فرض سلطتهم وهيمنتهم على العالم.. إن هؤلاء هم أنفسهم الذين قتلوا عشرات الآلاف من البشر بالقنبلة الذرية، وهم أنفسهم الذين زجّوا بأبناء الهند والجزائر وإفريقيا في جيوش تخوض حروباً لا علاقة لها بهذه الدول من قريب ولا من بعيد.. نعم إننا لا يمكن أن نصدّق أبداً أن روزفلت وتشرشل وستالين وأمثالهم قد فكروا يوماً بحقوق الإنسان الحقيقية، أو أنهم كانوا صادقين ومخلصين في تأسيسهم منظمة الأمم المتحدة وإصدارهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)(2)
وانطلاقا من هذا كله ذكر الإمام الخامنئي أسباب كل هذا العجز والإخفاق في هذه المساعي، فقال: (نحن نعتقد أن ما يطرح اليوم باسم حقوق الإنسان إنما يطرح في إطار نظام معْوَجّ وخاطئ، ألا وهو نظام الهيمنة، نظام الظلم، وهو ما يؤمن به أولئك الذين أوجدوا الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذين يرفعون اليوم عقيرتهم ويملأون الدنيا شعارات دفاعاً عن هذه الحقوق، كما يؤمن به أيضاً ـ مع الأسف ـ أغلب الحكام والسياسيين في العالم، ويتلخص معنى هذا النظام في أن هناك مجموعة من الناس تهيمن على الباقين ويجب أن
__________
(1) المصدر السابق، ص 34.
(2) المصدر السابق، ص 35.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (174)
تبقى مهيمنة.. هذا النظام تتبعه ثقافة الهيمنة)(1)
وبناء على هذا طبق الإمام الخامنئي النظرية القرآنية في تقسيم المجتمعات إلى قسمين: مستكبرين ومستضعفين، فقال: (العالم اليوم مقسّم إلى قطبين أو مجموعتين: مجموعة المهيمنين، ومجموعة الخاضعين لهذه الهيمنة، فالمجموعة الأولى تعتقد بأن نظام الهيمنة يجب أن يسود، والثانية رضيت بهذا النظام وخضعت للهيمنة.. وهذا هو الخلل الكبير في الوضع العالمي اليوم)(2)
ثم ذكر أن هناك قسما ثالثا، وهم الثائرون على الهيمنة، فقال: (فالذين يرفضون هذا النظام والذين يتمردون على الوضع الاجتماعي والسياسي السائد في العالم، هم أولئك الثوار التحرريون أو دول قليلة جداً، وهؤلاء يتعرضون لضغوط مستمرة، والجمهورية الإسلامية خير مثال على ذلك، فقد رفضت نظام الهيمنة بكل أشكاله، ورفضت هيمنة أية جهة أو دولة أو مجموعة، سواء أكانت شرقية أم غربية.. وقد شاهد الجميع ما واجهته الثورة الإسلامية خلال سنيّ عمرها الثماني من ضغوط سياسية وعسكرية واقتصادية وإعلامية بسبب اتخاذها الموقف الصادق والجاد والمستقل من نظام الهيمنة.. فإن كانت هناك بعض التقدمية تقف بوجه الهيمنة الغربية والأميركية، فسنلاحظ أنها تميل إلى المعسكر الشرقي بنسب متفاوتة، فبعضها يرتمي بشكل كامل في أحضان المعسكر الشرقي وروسيا، وبعضها الآخر يميل إلى هذا المعسكر مع وضوح الاستقلالية في الكثير من مواقفه وسياساته)(3)
ثم ذكر السبب في محدودية هذا القسم الثائر على نظم الهيمنة، فقال: (نحن نعتقد أن الدول الفقيرة، والدول التي رضخت للهيمنة والدول التي أُجبرت على الرضوخ للهيمنة رغم
__________
(1) المصدر السابق، ص 36.
(2) المصدر السابق، ص 36.
(3) المصدر السابق، ص 36.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (175)
امتلاكها القدرات والثروات، بإمكانها الوقوف بوجه القوى الكبرى إن أرادت ذلك، وهذا الأمر يسير لا يحتاج إلى معجزة، إذ يكفي حكومات هذه الدول أن تعتمد على شعوبها.. إن ضعف نفوس وإرادة بعض الحكام، وخيانة بعضهم الآخر أدّيا إلى خضوع هؤلاء لنظام الهيمنة، فهذا النظام هو الذي يسيّر الاقتصاد والثقافة والعلاقات والحقوق الدولية، وطبيعي أن تكون مسألة حقوق الإنسان قد انطلقت من هذه النظرة، ووجدت وتنامت في إطار هذا النظام؛ فالذين ينادون بحقوق الإنسان في الغرب ويسعَون إلى إعطاء مواطنيهم بعض الحرية الشكلية والإمكانات الرفاهية، يقومون هم أنفسهم بقتل آلاف البشر من الدول الأخرى، فما الذي يعنيه ذلك غير سيطرة ثفافة الهيمنة على عقول هؤلاء؟ إنهم يقسمون الإنسان في العالم إلى نوعين: الأول: إنسان يجب الدفاع عن حقوقه، والثاني: إنسان بلا حقوق، يجوز قتله واستعباده واغتصاب ثرواته.. هذه هي ثقافة الهيمنة المسيطرة على العالم، وحقوق الإنسان المطروحة اليوم، إنما هي وليدة هذه الثقافة)(1)
2 ـ الدعوة إلى الاهتمام الحقيقي بحقوق الإنسان
لعل أحسن ما نكتفي به في هذا العنوان تلخيص محاضرة علمية مطولة للإمام الخامنئي حول جذور اهتمام المعاصرين بحقوق الإنسان، وأسباب الخلل الواقع فيها، وهو الخلل الذي حصل بعد ذلك للمنظمات التي تتبنى تلك الحقوق.. وهو من خلال تلك المحاضرة أعطى البدائل الشرعية الصحيحة لكل ما ذكره من أسباب الخلل.
قال في بداية المحاضرة ـ مبينا جذور الاهتمام بحقوق الإنسان في العصر الحديث ـ: (لقد طرحت قضية حقوق الإنسان ـ كما يعلم الإخوة ـ منذ القرن الثامن عشر في أوربا والعالم الغربي كمسألة يدور حولها الكثير من اللغط والكلام والجدل.. لقد برزت قضية حقوق الإنسان، قبل
__________
(1) المصدر السابق، ص 37.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (176)
الثورة الفرنسية الكبرى، في بعض البحوث الثانوية في كثير من الكتب والمحاضرات والمؤتمرات، ومازالت حتى اليوم من القضايا التي يوليها الغرب الكثير من اهتمامه، وطبيعي أن تبرز من خلال ذلك وجهات نظر جيدة ومفيدة وعميقة)(1)
ثم ذكر أن الموقف العلمي والموضوعي مما ذكره الغرب عن حقوق الإنسان، لا يستدعي رفض كل ما ذكروه، يقول: (إننا ـ بالطبع ـ لا نرفض كل ما قاله الغرب بشأن حقوق الإنسان، كما إننا لا نتقبله كله، إذ إن هناك في البحوث الموجودة نقصاً مبدئياً موجوداً في جميع المساعي المبذولة في أرجاء العالم بخصوص حقوق الإنسان)(2)
ثم ذكر بعض مظاهر ذلك النقص، فقال: (على الرغم من كل الجهود المبذولة، ما زلنا نرى أن قضية حقوق الإنسان من القضايا التي لا حل لها في عالمنا اليوم.. أقصد أن حقوق الإنسان ما زالت غير متوفرة حتى الآن.. إنك حيثما تلتفت بنظرك في العالم تجد المحاباة، والقيود، والفقر المفروض، وانعدام الثقافة الاجباري، بل تجد أن حقوق الإنسان تداس بالأقدام في بعض نقاط من العالم على الرغم من المساعي الكثيرة التي بذلت وتبذل في سبيل هذه القضية)(3)
ثم استطرد مبينا أن الغرب الذي يقصده ليس الغرب الرأسمالي فقط، فقال: (إنني عندما أشير إلى الغرب ونقص الثقافة الغربية، لا أعني أن الثقافات الأخرى الشائعة في العالم هي خير من تلك، بل أريد القول إن الثقافة الغربية هي ـ في الحقيقة ـ أم الثقافات الشائعة في العالم اليوم، بما فيها الثقافات الماركسية والاشتراكية في العالم الثالث.. من المؤسف أن نلاحظ أن ما يخطط له في الدول المتخلفة بهذا الخصوص يدور حول محور ما يقوله، ويزوقه مفكرو الغرب.. بل إن
__________
(1) المصدر السابق، ص 45.
(2) المصدر السابق، ص 45.
(3) المصدر السابق، ص 45.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (177)
الشعراء والمفكرين والفلاسفة والمصلحين في هذه الدول واقعون تحت تأثير أقوال أولئك المفكرين الغربيين وتزويقاتهم، وثقافة الكتلة الشرقية والفكر الماركسي أيضاً ـ كما قلنا ـ من منتجات الثقافة الغربية، ولذلك فهي واقعة أيضاً ـ وبشكل خاص ـ تحت تأثير تلك الثقافة نفسها، وحتى إذا ما ارتفعت فيها نغمة مضادة تماماً لما يرتفع في الغرب من نغمات، فإن الغرب هو الذي رفعها.. كان لينين يقول: (الحرية تعني ديكتاتورية البرجوازيين، إذن، في قبال تلك الديكتاتورية يجب أن يرتفع علم ديكتاتورية البروليتاريا) الديكتاتورية مرة أخرى.. وهكذا ترون أن فكرة ديكتاتورية البروليتاريا لم تكن سوى انعكاس وتأثر بما كان يدور في ذهنه من الثقافة الغربية.. وما جذور الثقافة الماركسية إلا نتائج الثقافة الغربية، وهذا أمر واضح لا لبس فيه)(1)
ثم ذكر جذور الخلل في الفكر الغربي، والتي صرفته عن المعرفة الدقيقة بحاجات الإنسان وحقوقه، فقال: (على كل حال، هناك عيب أساس واحد يوجد في جميع ما يعرض اليوم في العالم باسم حقوق الإنسان، سواء أكان ذلك في المساعي العملية، كنشاط المؤسسات التي تبذل جهودها في هذا السبيل، أم في المساعي الفكرية، كالآراء التي يعرضها المفكرون على هذا الصعيد.. وعلى الرغم من الجهود الواسعة التي يبذلها عالم اليوم من أجل حقوق الإنسان ـ وبعض تلك الجهود مدفوع بدافع الإخلاص حقاً ـ فإنها تنطبق عليها الآية الكريمة التالية: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 103 ـ 104].. هذا ـ في الحقيقة ـ يجسد المساعي التي تبذل في العالم من أجل حقوق الإنسان، وقد قلنا إن بعضاً منها مدفوع بدافع الإخلاص.. إن المشكلة الرئيسية في نظرنا هي أن أهم حق من حقوق الإنسان قد أغفلته تلك المساعي.. إنهم تجاهلوا الأصل
__________
(1) المصدر السابق، ص 45.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (178)
وتمسكوا بالفروع.. ذلك الأصل هو حق حرية الإنسان في عدم العبودية لغير الله، كالعبودية للقوة، والعبودية للذهب والفضة، والعبودية لمختلف النظم غير الإلهية، هذا هو أكبر حق من حقوق الإنسان، ولكنهم تجاهلوه)(1)
وهكذا يرجع الإمام الخامنئي ـ كسائر قادة الثورة الإسلامية الإيرانية ـ كل خلل يحصل في الواقع إلى الخلل المرتبط بالرؤية الكونية التوحيدية، يقول: (التوحيد هو ما لا يعثر عليه في كل هذه الجهود.. تلك هي المنقصة الكبرى.. لا نقصد بالتوحيد مجرد الذهنية المحضة فقط، بل التوحيد بصفته فكراً اجتماعياً، أو مشروعاً لبناء العالم وبناء المجتمعات البشرية.. أما التوحيد بمعنى أن الحكم لله على جميع شؤون حياة الإنسان، فهذا ما نجد مكانه خالياً في العالم.. وحيثما لا يكون الحكم لله، يكون الحكم لغير الله.. وحيثما لا يكون الإنسان عبداً لله، يكون عبداً لغير الله، وهذا تضييع لأكبر حق من حقوق الإنسان.. إن المفكرين والفلاسفة والسياسيين، الصادقين في أقوالهم وفي أعمالهم ـ لا الكاذبين ـ الذين يريدون اليوم أن يضمنوا حقوق الإنسان، فيسعون للحصول على حقوق الأسرة، أو حقوق المرأة، أو حق التقاعد، البطالة، أو التأمين، ولكنهم لا يتجهون لضمان حق الإنسان الأصلي، أي حقه في الحرية الحقيقة.. تلك هي عقدة المسألة.. ولهذا فإننا لا نسيء الظن بالجهود التي بذلت منذ السابق وحتى الآن من أجل حقوق الإنسان.. إننا لا ننكر وجود جهود مخلصة، بل ونكرر قولنا هذا، فنحن لا نشك في وجود مثل هذه المساعي، ولا يمكن أن نخطئ الذين كتبوا كتابات جيدة، وأبدوا آراء طيبة، وعرضوا مُثُلاً مقبولة.. نعم، لا نشك في أن هناك جهوداً مخلصة، ولكننا نسيء الظن بقيادات الحركات الكبرى التي تجري في العالم باسم حقوق الإنسان.. إننا نلحظ وجود أيدٍ غير مخلصة، طامعة في حياة الإنسان وراء تلك الحركات، ولهذا تجاهلت هذا الحق الأساس للإنسان ونبذته جانباً،
__________
(1) المصدر السابق، ص 48.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (179)
وإلاّ، لو كانوا مخلصين حقاً في نظرتهم، لرأوا هذا الحق الأصلي للإنسان أمام أعينهم)(1)
وبعد أن ضرب الأمثلة الكثيرة على الانحراف الذي وقع فيه الغرب في مفاهيمه وتطبيقاته حول حقوق الإنسان، ذكر في ختام المحاضرة العلاج الذي يصحح ذلك الانحراف، فقال: (إن العلاج وطريق الحل الرئيسي هو العودة إلى الدين الخالص، أي التوحيد.. إن ما يستطيع ضمان حقوق الإنسان هو العبودية لله؛ ففي ظل العبودية لله وحده يمكن دفع مفاسد العبودية للمال والقوة والأهواء النفسية والتحريف.. إن على العالم أن يفكر مرة أخرى في الدين الخالص والتوحيد.. ولئن أرادت المجتمعات البشرية أن تنجو من ضغوط القوى العظمى، فعليها أن تلجأ إلى قوة الله.. إن الإيمان بالله وبالتوحيد الخالص يهب الإنسان ـ فرداً ومجتمعاً ـ من القوة ما لا تستطيع معها أية قوة مادية إخضاع ذلك الفرد الإنسان أو المجتمع الإنساني ولا تحطيمه.. وهذا هو السر الكبير في انتصار ثورتنا، فقبل تسع سنوات، وفي مثل هذا اليوم الذي عاد فيه الإمام إلى البلاد بعد (15) سنة من البعد عن الوطن قام شعبنا ـ من دون أن يحمل أي سلاح، أو أن يتمتع بأي قوة ظاهرة ـ بمقارعة واحدة من أقوى السلطات الحكومية والعسكرية في المنطقة، في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تحمي تلك السلطة؛ إذ الحماية التي تقدمها الآن أيضاً أمريكا لأنظمة مثل إسرائيل، كانت تقدمها لنظام الشاه وتجهّزه بالإمكانات وتشجعه على استعمال العنف والشدة، والناس ـ في قبال هذا الجبل من القوة الظاهرية سياسياً وعسكرياً ـ لم يكونوا يملكون شيئاً سوى الإيمان وسوى الاعتقاد بالتوحيد الذي كان نافذاً إلى أعماق شعبنا.. كان الشعب يؤمن بأن عليه أن يتقبل العبودية لله، وأن يخرج من تحت نير العبودية لذاك النظام الفاسد، وهكذا قرر ونجح)(2)
__________
(1) المصدر السابق، ص 48.
(2) المصدر السابق، ص 52.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (180)
ثم ذكر دور الإيمان في توفير كل ما يحتاجه الإنسان من حقوق، فقال: (هذه هي القوة العظيمة التي ينالها الإنسان بخروجه من عبودية غير الله؛ فإذا ما تحقق هذا؛ تحقق أيضاً سائر الحقوق الأخرى، وعندئذ سوف تحس الشعوب بالحرية، ويومها تذوق المجتمعات طعم حقوق الإنسان.. إن المجتمع الإسلامي يتكفل توفير جميع الحريات وجميع الحقوق الحقة للإنسان.. إن المجتمع الإنساني، المجتمع المسلم؛ يكفل الحرية والرفاه، والعدالة وحقوق الأسرة، والحقوق الفردية والجماعية.. المجتمع الإسلامي لا يضيع فيه حتى أتفه الحقوق، والأمثلة على ذلك يجب أن نبحث عنها في صدر الإسلام)(1)
ثم ختم محاضرته بقوله: (إن في مجتمعنا أمثلة غير متكاملة على ذلك، إذ أننا مازلنا في منتصف الطريق إلى المجتمع الإسلامي المتكامل، ولكننا نسير في ذلك الاتجاه.. علينا أن نشاهد الصورة الكاملة والدفاع الجميل عن حقوق الإنسان، جميع حقوق الإنسان، في صدر الإسلام، في حياة الرسول الكريم، في أدوار الحكم الحقيقي للإسلام والقرآن على المجتمع.. إنه لم يغفل عن أي حق ـ مهما صغر ـ فجميع حقوق أفراد المجتمع مضمونة.. إن علينا أن نواصل السعي للوصول إلى ذلك اليوم.. إن على مجتمعنا أن يستمر في النضال حتى يبلغ تلك النقطة، والطريق أمامه صعب.. كذلك على المجتمعات الإسلامية الأخرى أن تسعى من أجل الحكم الحقيقي للإسلام، وعلى المجتمعات البشرية أيضاً أن تسعى من أجل التحكيم الحقيقي ـ للدين الخالص ـ على أنظمتها، وهذا هو وحده طريق ضمان حقوق الإنسان، فبغير هذا يكون كل شيء ناقصاً)(2)
وقال في كلمة أخرى له حول الموضوع ـ بعد ذكره لجذور الاهتمام الغربي بحقوق
__________
(1) المصدر السابق، ص 53.
(2) المصدر السابق، ص 54.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (181)
الإنسان ـ: (طبيعي أننا نحن المسلمين نعلم جيداً أنه إذا كان الغرب قد أولى هذه المسألة اهتماماً كبيراً خلال العقود الماضية، فإن الإسلام كان قد اهتم بها وبأبعادها الواسعة والشاملة منذ قرون عديدة؛ فقد عالجها بشكل أساسي وجذري، وهذا ما نلاحظه في الكتب والآثار الإسلامية الموجودة والتي لسنا بحاجة إلى تفصيلها الآن ما دمنا نتحدث إلى جمع من المسلمين.. إن الآيات القرآنية والأحاديث الواردة عن الرسول الأكرم والأئمة أكدت جميع حقوق الإنسان التي تنبّه إليها العالم واهتم بها خلال العهود الأخيرة، وهي تحظى دوماً باهتمام المسلمين والعلماء، وهم ليسوا بحاجة إلى التذكير بها وتكرارها)(1)
وقال في كلمة أخرى يجيب فيها عن علاج الخلل الواقعي المرتبط بحقوق الإنسان: (برأينا يكمن العلاج في جملة واحدة هي: العودة إلى الإسلام والوحي الإلهي.. إنها الوصفة الطبية النافعة للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء.. إن على المجتمعات الإسلامية أن لا تفكر بغير هذا، عليها أن تحيي القرآن والفكر الإسلامي وتستنبط القوانين والأحكام من المصادر الإسلامية (القرآن والسنّة) فذلك كفيل بتحديد معالم حقوق الإنسان ومصاديقها، ومساعدتنا في ضمان هذه الحقوق، ولأجل إعطاء الإنسان حقوقه علينا ترك التوصيات والنصائح، فهي عديمة الفائدة، ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة: 63]، فلقد أعطى الله هذه الحقوق للإنسان وعليه أخذها بكل قوة.. على الشعوب أن تعتمد على الفكر الإسلامي في مواجهة الهيمنة والضغوط)(2)
ثم ذكّر بالتجربة الإيرانية، وكيف استطاعت التخلص من نظم الهيمنة، فقال: (هذا الكلام لا يصدر من إنسان يجلس في زاوية المدرسة يفكر بالمسائل والنظريات الإسلامية، بل
__________
(1) المصدر السابق، ص 29.
(2) المصدر السابق، ص 40.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (182)
إنه صادر عن ثورة خاضت تجربة ناجحة ولمست حقائق عديدة، فثورتنا تجربة تقدم نفسها لكل الشعوب.. أنا لا أقول إننا استطعنا حل كل مشاكلنا، فبسبب الثورة واتجاهنا نحو الإسلام اختلقوا لنا مشاكل عديدة، إلا أننا استطعنا إنهاء مشكلة الهيمنة، وشعبنا اليوم مستقل عن جميع القوى، ويمكنه اتخاذ أي قرار يريده بكل حرية واستقلالية.. وطبيعي أن أمام شعب يريد التحرر من كل أنواع التبعية طريقاً طويلاً وشاقاً، لكن التبعية التي لا تقترن بالهيمنة هي أمر طبيعي يمكن تحمله، وواضح أن ثورتنا وجمهوريتنا الإسلامية قد ورثتا مجتمعاً مدمراً واقتصاداً منهاراً وثقافة منحطة.. إيران كانت خلال الستين عاماً الأخيرة معرضة للغزو من كل صوب وعلى الأصعدة كافة، ولا يتوقع أحد أن الثورة ستستطيع التعويض عما فات على الصعيد الثقافي والأخلاقي والاقتصادي والعلمي والصناعي في فترة وجيزة، ونحن أيضاً لا ندّعي ذلك)(1)
ثانيا ـ الاهتمام بالأخوة الإنسانية
وهي من القيم الكبرى التي لا يمكن قيام أي مشروع حضاري إسلامي ومسالم من دونها، وهي كذلك من المميزات الكبرى للمشروع الإسلامي عن مشاريع المستكبرين، والتي تنظر إلى غيرها نظرة احتقار ودونية واستكبار.
وقد رأينا من خلال استقراء ما ورد عن قادة الثورة الإسلامية الإيرانية من أحاديث في هذا الجانب أنه يمكن تقسيمها إلى قسمين:
أولاهما: الاهتمام بالدعوة لتحقيق الأخوة والوحدة بين المسلمين فيما بينهم.
ثانيهما: الاهتمام بالدعوة لتحقيق الأخوة بين المسلمين وغيرهم من الشعوب وأصحاب الأديان المختلفة.
وسنورد بعض النماذج عن ذلك هنا.
__________
(1) المصدر السابق، ص 40.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (183)
1 ـ الاهتمام بتحقيق الأخوة بين المسلمين فيما بينهم
وهو نتيجة طبيعية لتبني الإسلام الأصيل، والذي تحث مصادره المقدسة على وجوب إقامة هذه العلاقة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوة فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10]، وقال: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 11]
ولهذا نجد قادة الثورة الإسلامية الإيرانية في خطاباتهم وبياناتهم ورسائلهم يركزون على هذه المعاني، وخصوصا عند حضور الطوائف الإسلامية المختلفة، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني في بعض رسائله الموجهة لحكام العرب: (آمل أن تتزايد النزعة الخيرة بين جميع الشعوب الإسلامية وزعمائها؛ كي يحافظوا على كيان الإسلام والبلدان الإسلامية والاستقلال وتحرر الشعوب من أغلال القوى الكبرى في الشرق والغرب من خلال حفظ الأخوة الإسلامية والتسليم إزاء الأحكام الإلهية؛ ويكونوا إخوة ورحماء بينهم حسب الأمر الصريح للقرآن، وأشداء ومقاومين أمام الكفار والعتاة.. إن الجمهورية الإسلامية، وخلافاً لما تسعى إليه الأبواق الدعائية لتصوير وجهها المشرق في شكل كريه، ترغب في أن تمدّ يد الأخوة إلى جميع البلدان الإسلامية؛ فهي لا تجيز الاعتداء على أي بلد، خاصة البلدان المجاورة وبلدان المنطقة والبلدان الإسلامية الأخرى، اتباعاً للأحكام الإلهية؛ مثلما ترفض هي بدورها أي اعتداء وظلم عليها من أي بلد؛ وتستميت في مواجهة الممارسات التعسفية الظالمة)(1)
ثم ذكّر بأن الحرب الحاصلة حينها بين إيران والعراق، لم تكن سوى دفاع من الإيرانيين عن أنفسهم، وأنهم لم يفكروا أبدا في الاعتداء على أي دولة من الدول، يقول: (تعلمون سيادتكم، أن إيران لم تفعل شيئاً سوى الدفاع عن الإسلام والمظلومين فيها بعد الاجتياح
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 16، ص: 255
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (184)
الوحشي لحزب البعث في العراق وارتكاب القتل والنهب والتخريب في المناطق العربية والكردية والمناطق الأخرى في إيران المسلمة، التي لم ترتكب ذنباً سوى الدعوة إلى الإسلام والأخوة الإسلامية بين جميع طوائف المسلمين.. ورغم أنها والحمد لله تمثل أقوى قوة في المنطقة، وأن الكثير من مدن العراق تقع في مرمى نيران القوات الإيرانية المسلحة وبإمكانها تدميرها خلال مدة قصيرة وتتعامل بالمثل، إلّا أنها وضعت الصبر والتحمل نصب عينها؛ ارضاء لله تعالى.. وكما تعلمون سيادتكم أيضاً، فعلى الرغم من أن إيران تمثل بلداً ثورياً، وأن جميع الثورات تضع ضمن أولوياتها قتل المعارضين وسجنهم وتوقيف الأحزاب وإعلام الشرائح السياسية حتى باحتمال المعارضة، إلا أنها فسحت المجال لجميع الفئات والأحزاب بمجرد انتصارها، رغم أن البعض منها كان له تاريخ يبعث على الأسف البالغ حتى ثبتت خيانتها وتآمرها من خلال جمع الشواهد والأدلة، بشكل لم يكن بإمكانها إنكاره؛ فلم يكن هناك، والحال هذه، من سبيل سوى ما حدث بحكم الإسلام دفاعاً عن الجمهورية الإسلامية التي لا تفكر إلّا في مصالح المسلمين والإسلام)(1)
وقال في رسالة أخرى: (لقد سعى الشعب والحكومة الإيرانية منذ انطلاقة الثورة الإسلامية الإيرانية على الأيدي المقتدرة للشعب العظيم بالاتكال على الله تبارك وتعالى، وبعد إزالة النظام الشاهنشاهي الفاسد الذي أرسى دعائم ظلمه واستبداده طوال التاريخ على أكتاف المحرومين والمستضعفين، وقطعِ دابر الناهبين الدوليين والمجرمين عن وطننا الإسلامي وإقامة الجمهورية الإسلامية بوحي من قوانين الإسلام السماوية؛ لقد سعى الشعب والحكومة، واتباعاً لأحكام الإسلام، إلى مدّ يد الأخوة إلى جميع الدول الإسلامية بحكم الأخوة المنصوص عليها في القرآن المجيد، والعمل على إنقاذ البلدان الإسلامية عبر توحيد الكلمة واتحاد صفوف
__________
(1) المصدر السابق، ج 16، ص: 255
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (185)
المسلمين، من شرّ القوى الكبرى المتغطرسة ومؤامرات الناهبين والمجرمين)(1)
وقال في خطاب وجهه لحجاج بيت الله الحرام: (من الضروري أن يلتزم زوار بيت الله المحترمين من أي ملّة ومذهب كانوا بتعاليم القرآن الكريم ويمدوا يد الأخوة الإسلامية إلى بعضهم البعض مقابل الشيطان الذي يريد قلع الإسلام المناهض للشرق والغرب وعملائهم.. وأن يلتفتوا إلى الآيات الالهية الشريفة التي تأمرهم بالاعتصام بحبل الله والاجتناب عن التفرقة والخلاف)(2)
وهو في خطاباته الكثيرة يرد على استثمار الأعداء للخلاف السني الشيعي، ويبين أن الجميع إخوة، وأن اختلافهم في بعض المسائل لا يعني فصم علاقة الأخوة بينهم، يقول في بعض خطبه مبينا ذلك: (إن الاختلاف بين أتباع الطائفتين والمذهبين يعود في جذوره إلى صدر الإسلام، إذ سعى آنذاك الخلفاء الأمويون والعباسيون إلى إيجاد الفرقة والخلاف فكانوا يعقدون المجالس لتكريس الاختلاف.. ورويدا رويدا أدى هذا الاختلاف إلى ظهور حالة التنافس بين عوام السنة وعوام الشيعة والا فلا عوام السنة عملوا ويعملون بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عوام الشيعة اتبعوا الأئمة الأطهار)(3)
ثم بين العلاقة الصحيحة بين هاتين الطائفتين من المسلمين، فقال: (لقد سعى أئمتنا الأطهار إلى وضع الجميع في إطار المجتمع، فكانوا يصلون معهم، ويمشون خلف جنائزهم، ولكن الأمور اختلفت تدريجيا وقام المتجبرون بمثل هذه الأعمال لإشغال الطائفتين ببعضهما كي يتسنى لهم أن يفعلوا ما يشاءون)(4)
__________
(1) المصدر السابق، ج 17، ص: 210
(2) المصدر السابق، ج 16، ص: 386
(3) المصدر السابق، ج 6، ص: 80
(4) المصدر السابق، ج 6، ص: 80
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (186)
ثم ذكر المؤامرات التي دبرت في إيران لتحقيق هذا الغرض، فقال: (قبل ما يقرب من ثلاثمائة عام تم تنفيذ سياسة أجنبية في إيران وفي الشرق استهدفت في الغالب تحقيق مثل هذه الأمور؛ فقد عكف خبراءهم على دراسة الطائفتين وبعض الشخصيات ونفسيات الناس بالإضافة إلى جوانب القضايا المادية المتعلقة بنا، وحاولوا استغلالنا من طريقين: ماديا وكما ترون فقد استغلونا، ونفسياً من خلال التركيز على توسيع شقة الخلاف بيننا.. وترون كيف أنه إذا تفوه أحد بكلمة واحدة فإنهم يجعلونها نارا على علم، فينشرونها ويطبعونها، وهذا ليس من فعل شخص عادي.. إنه عمل الحكومات والأجانب الذين يسعون إلى نشر ذلك وتوسيع نطاقه)(1)
ثم قال ـ مخاطبا علماء أهل السنة الحاضرين ـ: (نحن معا كيان واحد غير قابل للتفكيك، وإن الاختلاف بين المذهبين لا ينبغي أن يتحول إلى خلاف في أساس الإسلام، فالإسلام أسمى من أن يؤدي الاختلاف فيه إلى ظهور مسلك كذائي فيه.. إننا نرى الأخطار تهدد الإسلام، لذا علينا جميعا أن نتكاتف ونتجنب تلك الاشتباهات التي ارتكبت في الماضي، وأن نقطع الأيدي التي تريد أن تفرقنا عن بعضنا.. إنني آمل أن نتمكن من تجاوز هذه الفرقة بمساعيكم وجهودكم أنتم أيها العلماء في مناطقكم، وجهودنا نحن طلبة العلوم الدينية هنا)(2)
ثم بين أن الاختلاف ضروري وموجود حتى بين أبناء الطائفة الواحدة، فقال: (إن الاختلافات موجودة حتى بيننا نحن: كالاختلاف بين الإخباريين والمجتهدين وهو باب من أبواب الاختلاف، والاختلاف بين الصوفية والمتشرعة وأخيرا بين الأحزاب بعضها مع بعض أو بين الجامعيين وطلبة العلوم الدينية، كل هذا موجود وهم يسعون إلى تكريس تلك
__________
(1) المصدر السابق، ج 6، ص: 80
(2) المصدر السابق، ج 6، ص: 80
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (187)
الاختلافات كي نبقى مشغولين بأنفسنا وهم يقضون على ما لدينا من اعتبار، فهم ينهبون ثرواتنا على الصعيد المادي وما لدينا من معنويات على الصعيد المعنوي.. إلا أن شعبنا قد استيقظ الآن، سواء في أوساطكم وذلك ببركة وجودكم أنتم، أو في أوساطنا ببركة وجود علماء الدين هنا)(1)
وهكذا نراه يدعو إلى الأخوة العامة بين جميع أبناء الشعب مهما اختلفت أعراقهم ودياناتهم واتجاهاتهم، يقول في بعض خطاباته: (لا يوجد ظلم في الجمهورية الإسلامية، ليس فيها إجبار أو إكراه.. لايمكن للغني أن يظلم الفقير، ولا يمكنه أن يستغله، لايمكنه أن يستخدمه بأجر قليل لإنجاز أعمال كثيرة.. يجب ترجمة التعاليم الإسلامية وتطبيقها.. يجب حماية المستضعفين ودعمهم، يجب أن تتبدل الأمور، فيصبح المستكبر مستضعفا والمستضعف مستكبرا، ليس مستكبرا بذلك المعنى وإنما على الجميع أن يتآخوا فيما بينهم في هذه الدنيا في هذه البلاد أن يكونوا معاً.. وأقول لجميع فئات الشعب للجميع بأنه لا يوجد في الإسلام تمايز بين الأغنياء وغير الأغنياء، بين الأسود والأبيض، بين الفئات المختلفة، بين السنة والشيعة، العرب والعجم، والترك وغير الترك أبداً.. والقرآن جعل التمايز على أساس التقوى والعدالة؛ فمن اتقى كان مميزا، ومن تتجسد فيه معاني روحية عالية فهو متميز، فالامتياز ليس بالماديات وليس بالملكية والثروة.. يجب أن تزول هذه الامتيازات فالناس سواسية، الجميع يحصلون على حقوقهم، والجميع متساوون في الحقوق.. كذلك يجب مراعاة حقوق الأقليات الدينية، فالإسلام يوليهم احتراما خاصا، الإسلام يولي جميع الفئات احتراما.. الأكراد وسائر القوميات الموجودة، جميعهم إخواننا ونحن إخوانهم، جميعنا أبناء شعب واحد ودين واحد، وانني آمل أن ينتبه الأهالي في بعض المناطق الإيرانية التي شهدت نشاطا تبليغياً لبعض المفسدين الذين
__________
(1) المصدر السابق، ج 6، ص: 81
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (188)
يحضون على إثارة الشغب ودفعوا الناس التعساء إلى الاقتتال، وأن لايسمحوا لهؤلاء الخونة بالقيام بمثل هذه الأعمال.. إننا إخوة، نحن إخوة لأبناء العامة والسنة ولا يحق لنا التآمر على بعضنا، بل علينا أن نحفظ حقوق بعضنا بعضا)(1)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي في كل المناسبات المرتبطة بالوحدة الإسلامية يرد على أمثال تلك الإشاعات والدعاوى التي تنشر الفرقة بين المسلمين، ومن الأمثلة على ذلك قوله في بعض خطبه: (يجب أن لا تكون هناك فوارق بين الشعوب.. يجب أن يكون الشعور بالتعاطف والتضامن بين الشعوب الأثر الأول للوحدة الإسلامية.. حينما يفرح شعب تفرح له باقي الشعوب، وحينما يكون حزيناً تحزن له باقي الشعوب.. وحينما يكون في مأزق يرى الآخرون أنفسهم أنّ لهم نصيباً في ذلك المأزق، وحينما يستنصرهم شعب يهبّ الآخرون لنُصرته ويأتون إليه؛ هذا هو واجبنا.. وهو ما سوف يحصل ويتقدّم.. إنّنا مؤمنون بهذا الوعد الإلهيّ، وعلى يقين منه، ونعتقد أنّ ﴿الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]، وأنّ الله تعالى سيُعين المؤمنين بلا شكّ.. كلّنا يجب أن نعرف قدر هذه الجلسات والاجتماعات.. تقارُب القلوب هذا مهمّ جداً.. مسائل السنّة والشيعة وصراعات السنّة والشيعة أمور يريد أعداء الإسلام اليوم التركيز عليها.. إنّ الذين يتحدّثون حول التشيّع والذين يتحدّثون حول التسنُّن لا يؤمنون بالسنّة ولا بالشيعة ولا بعظماءالإسلام ولا بعلماءالإسلام المعاصرين، إنّما لهم أهداف أخرى.. يجب التغلّب على كلّ هؤلاء، وتأمين الوحدة، وستكون الوحدة إن شاء الله رصيداً ودعامة لانتصار العالم الإسلاميّ)(2)
ويقول في خطاب آخر: (إنّ الإتحاد بين المسلمين، والتوافق، والتعاضد والتعاون، من
__________
(1) المصدر السابق، ج 6، ص: 366.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2011، ص 58.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (189)
الأمور الضروريّة والملحّة جدّاً.. وندعو جميع الدّول الإسلاميّ، وجميع الحكومات الإسلامية، إلى التبصّر في جميع الأمور، ليروا مَنْ هم الخصوم، وندعوهم أن لا يخطئوا في معرفة العدوّ، وأن لا يخطئوا في معرفة مخطّطات الأعداء، وليعرفوا مرامي الأعداء، وليعرفوا أين تكمن سعادة شعوبهم)(1)
وقال في خطاب آخر مذكرا بمخططات الأعداء: (من الوسائل التي يستفيد دوماً منها أعداء الشعوب المسلمة للتفرقة، مسألة التفرقة المذهبية، بين الشيعة والسنة.. هم يصنعون الشقاق، يحدثون التفرقة، يوقعون أيضاً بين الإخوة، يضخمون الاختلافات، يبرزونها، ويضعفون الجهات المشتركة والموحدة ويبهتونها، فهم يضخمون الشيء الصغير ويبرزونه.. كل المسائل المشتركة الموجودة بين السنة والشيعة، يضعفونها ويقللون من شأنها، وهذا العمل الذي كان يُعمل عليه دوماً، الآن أيضاً يعمل عليه.. الجمهورية الإسلامية من اليوم الأول وقفت في وجه هذه المؤامرة، والسبب أننا لا نجامل أحداً أو نداهن، هذه عقيدتنا)(2)
ثم ذكر تجربته الشخصية في هذا المجال قبل انتصار الثورة الإسلامية، فقال: (قبل أن يتشكل النظام الإسلامي، كان إخوتنا، أعلام النهضة، قادة النضال الثوري آنذاك ـ ووقتها لم يكن يلوح في الأفق خبر حول الحكومة الإسلامية والجمهورية الإسلامية ـ يسعون باتجاه وحدة الشيعة والسنة.. أنا نفسي تمّ إبعادي إلى بلوشستان، ومن حينها والى يومنا هذا أنا وعلماء السنة الحنفيون لمدن بلوشستان ـ إيرانشهر وتشابهار وسراوان وزاهدان ـ الذين هم بحمد الله لازالوا أحياء، أصدقاء ومقربون وتجمعنا علاقات حميمة.. لقد نُفيت إلى هناك، ولم تكن الأجهزة لتدعنا نقوم بأي سعي، لكن في الوقت ذاته أنا قلت: تعالوا ولنقم بعمل ما كمظهر يظهر
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2013، ص 326.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2011، ص 502.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (190)
الوحدة بين الشيعة والسنة في هذه المدينة، حيث خطرت قضية أسبوع الوحدة ـ ولادة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في الثاني عشر من الربيع الأول على رواية أهل السنة، وفي السابع عشر من ربيع الأول على رواية الشيعة ـ بأذهاننا في ذلك الوقت وعملنا بها في إيرانشهر، أي أننا احتفلنا من الثاني عشر وحتى السابع عشر؛ فهذا الفكر المتأصل ليس وليد اليوم أو البارحة)(1)
وقال: (أنا أصر أنه في كافة مناطق البلاد، سواء في المناطق التي يعيش فيها السنة والشيعة جنباً إلى جنب، أم تلك المناطق التي يقطنها الشيعة فقط، أم تلك المناطق التي يسكنها السنة فقط، على الجميع أن يتصرفوا على هذا المنوال بحيث يفهم العدو أنه لا يمكنه في هذا البلد وبذريعة الاختلاف المذهبي، أن يُحدث تفرقة بين المذاهب الإسلامية، وإلا إذا وُفق العدو لذلك، اعلموا أنه لن يكتفي بهذا المقدار، فإذا لا قدر الله استطاع أن يفرّق بين الشيعة والسنة، فإنه سيذهب باتجاه السنة، وإذا كانوا موحدين، سيفرقهم، جماعة من الشافعيين، جماعة من الحنفيين، جماعة من المالكيين، جماعة تتبع المذهب الأصولي الفلاني، وجماعة تتبع المذهب الآخر، فالعدو لا يقف عند حد)(2)
وقال في خطاب آخر ـ أثناء زيارته لكرمانشاه حيث يتواجد السنة والشيعة ـ يدعو إلى الحوار بين المذاهب الإسلامية: (إنّني أتعرّض لهذه القضية هنا وهي أنّ محافظتكم هي محافظة شيعية وسنية وغير ذلك.. فليجلس علماء الشيعة والسنّة معاً ويتفاهموا ويتحاوروا؛ فلدينا الكثير من الأمور المشتركة.. حسنٌ جداً، فليدرسّ كلٌّ منكم فقهه ويبيّنه، سواء كان فقهاً جعفرياً أم شافعياً.. فليكن لكلّ عقيدته، لكن يمكنكم أن تقوموا بأعمالٍ مشتركة؛ فأنا لا أقول للفقيه الشافعيّ أو للمقلّد الشافعيّ إنّه عليك أن تصبح جعفرياً أو شيعياً، كلا، إذا أراد أن يُحقّق
__________
(1) المصدر السابق، ص 503.
(2) المصدر السابق، ص 504.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (191)
فليأتِ، إن حصل ذلك فهو جيد، وإن لم يحصل، فلا مشكلة.. كلّ من أراد أن يحافظ على مذهبه وعمله فليكن، وإذا أراد أن يُجري بحثاً مذهبياً فلا إشكال في ذلك فإنّني أقبل بالبحث المذهبي، فمن أراد البحث العلمي المذهبي بين العلماء وبين أصحاب الفنّ فليقم بذلك، لكن لا يكون ذلك على مرأى ومسمع الناس، بل في اللقاءات العلمية، فالكل يستدل ويطرح أدلّته، فإمّا أن يقتنع أو لا، فمثل هذا لا إشكال فيه، ولكن بالرغم من كل هذا، فهناك أمور مشتركة، وهناك همومٌ مشتركة تتطلّب علاجات مشتركة.. فللعالم الشيعي نفوذٌ بين أهله، وكذلك للعالم السنّي نفوذٌ بين أهله، وعليهما الاستفادة من هذا النفوذ من أجل رفع هذه المشاكل المشتركة.. يوجد اليوم من يستخدم سلاح التكفير ولا يستنكف أن يقول إنّني تكفيريّ.. هؤلاء سمومٌ ويجب التخلّص منها وإخراجها من البيئة الإسلامية.. فبعضهم يكفّر ويفسّق، فهنا كمن يتحدّث في خطبه وعلى المنابر ويتعرّض للآخرين، وهناك من يردّ عليه، إنّ هذا ما يريده العدوّ.. فإنّ هذه المسؤولية المضاعفة التي ذكرتها تشمل جميع هذه الجوانب، بدءاً من المسؤولية المعنوية وتربية النفس وإيجاد الخشوع والخشية في القلب وانتهاءً إلى هذه الأشياء)(1)
2 ـ الاهتمام بتحقيق الأخوة بين المسلمين وغيرهم
من أخطر الدعايات التي يذكرها العلمانيون وغيرهم لمعارضة الحكومة الإسلامية ما يطلقون عليه [حقوق الأقليات]، حيث يشيعون أن الإسلام لا يوفر هذه الحقوق، بل يتعامل مع غير المسلمين بما لا يتناسب مع القيم الإنسانية.
ولهذا نجد في كلمات قادة الثورة الإسلامية الإيرانية الردود المختلفة النظرية والعلمية على أصحاب هذه الدعاوى، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني ـ جوابا عن سؤال حول وضع الأقليات الدينية في ظل الحكومة الإسلامية، وذلك قبل انتصار الثورة ـ: (من جهة
__________
(1) المصدر السابق، ص 452.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (192)
أخرى نجد الدعايات الإعلامية الواسعة لتشويه صورة الحكومة الإسلامية واتهامها بإساءة معاملة الأقليات الدينية لدى تسلمها السلطة، ولكن لنرى هل أنتم تتعاملون مع الأقليات بصورة أفضل من الإسلام؟ إنك الآن تسحق وتدمر الأقليات الدينية والأكثرية الدينية معاً، بل إنك تسحق حقوق بني الإنسان جميعاً في إيران.. فقد سلبت الحرية من المسلم وغير المسلم.. في حين أن الأقليات الدينية تحظى في ظل الإسلام بالاحترام والحرية.. إننا كثيراً ما نُسأل: كيف ستتعاملون مع الأقليات الدينية إذا ما أقيم الحكم الإسلامي؟ وإن سر تكرار هذا السؤال هو كثرة ما لقنوا بأنه إذا ما أقيم الحكم الإسلامي فسيقتلون اليهود والنصارى والزرادشتيين دون تمييز وبشكل جماعي.. متى وقعت مثل هذه المجازر في ظل الإسلام وفي بلد إسلامي لم تكن الأقليات الدينية في حالة حرب ضده؟! بل ومتى قتل في ظله أحد منها؟! فمن هذه الأقلية الدينية كانت تلك المرأة اليهودية الذمية التي سلبوها خلخالها ولما سمع أمير المؤمنين (الامام علي) بالخبر، قال: (لو أن امرؤا مسلماً مات من بعد هذا أسفاً، ما كان به ملوماً)، لأنه وقع في ظل حماية الإسلام، فهل هذا الإسلام ومثل هذا الحكم الإسلامي، يسيء إلى الأقليات الدينية؟!.. هذه كلها دعايات يروج لها الشاه وأنصاره عبر أبواقهم من أجل تشويه صورة الإسلام وحكومته وعلمائه في أذهان الناس، أو على الأقل في أذهان الأجانب خارج إيران من غير المسلمين واللادينيين، والإيحاء لهم بأن علماء الإسلام يريدون إقامة حكومة رجعية، رجعية إسلامية!)(1)
وقال في خطاب وجهه لجمعية الزرادشت الإيرانيين ـ بعد انتصار الثورة الإسلامية ـ: (أطمئن السادة من جميع الأقليات الدينية بأن الإسلام تعامل دوما مع الأقليات الدينية تعاملا إنسانيا وعادلا، وكانوا جميعا مرفهين.. إنهم كسائر الأقليات جزء من شعبنا، ونحن وإياهم
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 4، ص: 302
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (193)
نعيش معا في هذه البلاد وسوف يتحقق الرفاه لنا جميعا إن شاء الله.. إن سر هذا النصر الذي يجب أن يحفظ هو وحدة الكلمة.. نحن من موقعنا وأنتم من مواقعكم وسائر أبناء الشعب من مختلف الفئات هكذا أيضا، نسعى جميعا من خلال العمل والتعاضد فيما بيننا لإعمار إيران التي سلموها لنا الآن وهي خربة.. كذلك فإنكم مطالبون أيها الزرادشتية بمواصلة عملكم كما كنتم دوما بالعمل لصالح هذا الشعب وهذه الأرض وعليكم أن تحافظوا على وحدة الكلمة.. أسأل الله تعالى التوفيق لجميع أبناء الشعب الإيراني)(1)
بل إن الإمام الخميني يدعو رجال الدين وخصوصا المسيحيين إلى تطبيق تعاليم أديانهم التي تحث على مواجهة الظلم والاستكبار، ومن الأمثلة على ذلك قوله ـ في رسالة وجهها للقساوسة المسيحيين يهنئهم فيها بميلاد المسيح عليه السلام ـ: (من جانبي أهنئ جميع الشعوب المستضعفة في العالم والأمة المسيحية بولادة السيد المسيح، وأهنئ أتباع الديانة المسيحية من مواطنينا.. كل شيء في السيد المسيح كان معجزة.. كان معجزة عندما ولدته عذراء بتول.. كان معجزة عندما تكلّم في المهد صبياً.. كان معجزة عندما جاء للبشرية بالسلام والصفاء والمعنوية.. جميع الأنبياء هم معجزة، والجميع جاءوا لتربية البشر، يريدون أن يسير البشر في الصراط المستقيم وأن يعيش البشر في سلام وصفاء وأخوة.. هذه هي واجبات المرسلين الإلهيين الذين جاءوا للأرض كي يسموا بالإنسان من هذا العالم إلى العالم الأعلى.. وعلى علماء الأديان كلّهم، علماء الدين المسيحي، وعلماء الدين المسلمين، وعلماء اليهود، وجميع علماء الدين هو دعوةُ الناس إلى ربّهم.. والواجب ذلك هو التبعية التامة للأنبياء الذين جاءوا لتربية البشر وإرساء السلام والصفاء بين أفراد البشر)(2)
__________
(1) المصدر السابق، ج 6، ص: 155
(2) المصدر السابق، ج 11، ص: 323
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (194)
ثم رد على ادعاء الاستكبار العالمي انتماءه للمسيح عليه السلام أو المسيحية، فقال: (لقد ابتليت شعوب العالم اليوم بالقوى العظمى التي هي قوىً شيطانية تقف في وجه الأنبياء ولا تسمح بنشر تعاليمهم.. ويتمتع علماء الدين المسيحي بميزة خاصة هي أن القوى العظمى مسيحية تدّعي المسيحية، وهذه القوى العظمى هي التي تعمل على نقض تعاليم الله تبارك وتعالى التي علّمنا الأنبياء جميعاً وخلافاً لتعاليم عيسى المسيح.. علماء الدين المسيح مكلفون بحسب تعاليم المسيح وبحسب تعاليم الله العظيم، مكّلفون أن يكافحوا هذه القوى التي تعمل خلافاً لمسيرة الأنبياء وسبيل المسيح.. يجب إرشاد هؤلاء إلى دين المسيح.. يجب أن يرشدوا الشعوب المسيحية كي لا يتبعوا هذه القوى التي تعمل خلافاً للمسيح)(1)
ثم وجه خطابه إلى رجال الدين المسيحي بإنقاذ المسيحية من ذلك الاستغلال السيء من طرف المستكبرين وأدواتهم التضليلة، فقال: (أنتم علماء الدين المسيحي عليكم إنقاذ المسيح من هذا المأزق الذي أوجده رؤساء جمهوريتكم له، المسيح تقر عينه بعلماء الدين المسيحيين وسائر الشرائح، المسيح يريد ذلك، إنه يدرس الأوضاع، ويراقبكم، لكي يرى ماذا تفعلون مع الظالمين الذين يفعلون هكذا مع البشر.. هل تم التطرّق أو الحديث إلى هذه الجرائم في كنائسكم؟ هل قام البابا باستنكار هذه الممارسات؟ هل كان البابا الذي قام باستنكار عملنا في خصوص الرهائن حسب ما جاء في الصحف هل كان يعرف من هؤلاء وما هم عليه؟ هل استنكار أعمال شعب مستضعف هو من شأن عالم دين يعتبر نفسه أكبر علماء الدين المسيحي؟ هل استنكار عمل هؤلاء الذين رزحوا تحت الظلم خمسين عاماً، تحت ظلم القوى الكبرى التي تنسب حكوماتها نفسها إلى المسيحية عمل صحيح؟ وهل استنكر هذه الأعمال في وقت ما؟ هل استنكر علماء الدين المسيحيّ هذه الأعمال والممارسات التي تناقض تعاليم عيسى المسيح
__________
(1) المصدر السابق، ج 11، ص: 324
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (195)
سلام الله عليه، هل استنكروا مثل هذه الأعمال؟ إننا أعلّنا في باريس وتزامنا مع عيد ميلاد السيّد المسيح، وتحدثنا بهذه المظالم، وكتبنا هنالك أشياء، ولكن مع الأسف قيل: إن البابا لم يسمح بنشرها، لماذا يجب أن يتعامل عالم دين مسيحي رفيع المستوى مع المظلومين هكذا؟ لماذا يجب أن يقوم علماء الدين المسيحي باستنكار أعمال المظلومين والإعراب عن دعمهم للظالمين.. هل أنتم لا تعلمون بهذه الجرائم التي حدثت هنا؟ ألم تعلموا أنّ شعباً نُهبت خيراته وسرقت جميع مصادره وبقي جائعاً؟ ألم تعلموا أنهم مارسوا الضغوط على شعب سنين عدّة (على مدى 50 عاماً) ومارسوا عليه شتىّ أنواع العذاب والمشقة، وتقاسموا جميع أمواله مع الحكومات الكبيرة؟ ألا يعلم علماء الدين المسيحيون أنه خلافاً لتعاليم جميع الأنبياء والسيد المسيح جمّد كارتر أموال الإيرانيين، جمّدها في جميع البنوك؟ هل عيسى عليه السلام الذي جاء لنشر العدالة، ويسعى لكي ينعم بها البشر، وأنتم مكلّفون بالعمل بما قاله المسيح وإرغام الظالمين على القيام بعملهم يرضى بهذا؟ هل تعلمون أن الحظر الاقتصادي الذي يحاول كارتر تطبيق مفهومه أنّ يموت خمسة وثلاثون مليون نسمة من الجوع؟.. والآن نتساءل هل يعلم البابا بهذه المسائل ويردّ علينا؟ أو أن المعلومات التي تصل إليه مغلوط فيها؟ إن كان على علم، فوا آسفاه علينا وا وآسفاه على المسيحية، وواأسفاه على علماء دين المسيح، وإن لم يكن مطّلعاً فبئس أوضاع الفاتيكان)(1)
وبناء على هذا نراه في لقاءاته مع الوفود المختلفة من المسلمين وغير المسلمين يذكرهم بالبعد الإنساني للثورة الإسلامية، وأنها تأمل في إقامة علاقات طيبة مع كل شعوب العالم، وخاصة المستضعفين، ومن الأمثلة على ذلك قوله في حديث مع وفد من يوغوسلافيا: (إن نهضة إيران نهضة إسلامية، والنهضة الإسلامية نهضة إنسانية، ولو أن شعوب العالم اطلعت
__________
(1) المصدر السابق، ج 11، ص: 326
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (196)
على عمق هذه النهضة فإنها ستؤيدها وتدعمها، إلا إذا كانت هي نفسها بعيدة عن الإنسانية.. إن الحكومة الإسلامية تتطلع لتحقيق السعادة للبشرية، وأن يحيا الجميع في سلام ورخاء إلى جوار بعضها البعض.. الإسلام يتوق إلى إرساء علاقات طيبة مع جميع الدول، والحكومة الإسلامية تفكر بإقامة علاقات سليمة ومتفهمة مع الشعوب والحكومات الأخرى قائمة على الاحترام المتبادل.. إن هدف الجمهورية الإسلامية يتلخص في إيجاد حكومة يتسم سلوكها بالعدل مع كل الفئات، لا تميز بين فئة وأخرى أو طبقة وأخرى عدا الامتيازات الإنسانية التي تتمتع كل فئة.. وإذا كتب لنا التوفيق وتمكنا من إقامة جمهورية إسلامية في إيران شكلًا ومضموناً، وتشكيل حكومة إسلامية بكل ماتحمله هذه الكلمة من معاني، فإنها ستكون قدوة لجميع الدول، وستتحقق الديمقراطية بمعناها الحقيقي وليس بمعناها القائم على استغفال الآخرين.. وسيتحقق كل هذا إن شاء الله.. إننا نأمل أن تكون علاقاتنا مع جميع الشعوب والحكومات قائمة على أساس حسن الجوار والنوايا الحسنة، وأن تكون لدينا علاقات طيبة قائمة على الاحترام المتبادل مع جميع الدول)(1)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يصحح المفاهيم الخاطئة المرتبطة بالبراءة من الاستكبار والمستكبرين، وأنها خاصة بأئمتهم وقادتهم، لا بالشعوب المستضعفة المغلوبة على أمرها.
يقول في بعض خطبه ـ بعد ذكره لضرورة الإعداد ـ: (حسنٌ، أن نقول إنّنا نريد أن نتحرّك، نتقدّم ونسير للأمام، هل يعني هذا الدعوة للحرب من قبل النظام الإسلاميّ؟ وهل يعني أنّ النظام الإسلاميّ لديه نيّة الصدام (التحدي) مع جميع الشعوب ومع كل دول العالم؟ حيث يُسمع هذا الكلام أحيانا من أعداء الشّعب الإيرانيّ ومن جملتهم (ما يصدر) من الفم النجس لكلب المنطقة المسعور في النظام الصهيوني، حيث يزايدون بأنّ إيران هي تهديد لكل
__________
(1) المصدر السابق، ج 9، ص: 65.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (197)
العالم، كلا، هذا كلام العدو وهو النقطة المقابلة تماماً للمنهج الإسلاميّ نقطة تهديد كل العالم إنما هي قوى الشر والعدوانية والتي لم تُظهر إلاّ الشر، ومن جملتها ذلك النظام المزوّر لإسرائيل وبعض داعميه.. لقد تعلّم النظام الإسلاميّ درساً من القرآن، الدرس الذي تعلّمه من نبي الإسلام ومن أمير المؤمنين، إنه درس آخر، وليس التهديد المزعوم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90] العدالة والإحسان وفعل الخير.. قال أمير المؤمنين بأنه يجب أن نحسن للجميع فهم (إمّا أخ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق) فهو إما أخ إسلامي أو إنه إنسان، هذا هو منطق الإسلام.. إننا نريد أن نخدم جميع الناس وأن نمنحهم المحبة، إننا نريد إقامة علاقات صداقة ومحبة مع كل الناس الشعوب، لا عداء لنا أبداً حتى مع الشعب الأميركي ـ مع أن الحكومة الأمريكية حكومة مستكبرة ومعادية وسيئة وحاقدة على الشّعب الإيرانيّ ونظام الجمهوريّة الإسلامية ـ هو مثل بقيّة الشعوب، وإنّ النقطة المقابلة لنظام الجمهوريّة الإسلامية هي الاستكبار.. إن جهة خصومة النظام الإسلاميّ مع النظام الاستكباري، هي إننا نخالف الاستكبار، نحن نحارب الاستكبار)(1)
ويقول في خطاب وجهه لأعضاء التعبئة في الهيئة العلمية للجامعات: (ينبغي أن تكون النظرة إنسانية، الإنسان الذي يمتد على كل هذا العالم الواسع: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، فعلى هذه النظرة أن تتوجه إلى هذه الشمولية والسعة.. إن الأماني التي نحملها اليوم بشأن هذا البعد الوسيع هي أمانٍ لا يرفضها أي شعب واعٍ أو عالِم صالح أو سياسي منصف.. إننا دعاة إزالة نظام التسلّط والهيمنة الذي يقوم على رابطة الهيمنة ووجود المتسلِّط والمتسلَّط عليه، فحتى من يعيش في دولة حكومتها متسلّطة مئة بالمئة لا يرفض هذا الأمر، وعليه ففي العلاقات الدولية لا ينبغي أن تكون العلاقة مبنية على وجود مهيمن ومهيمَن عليه.. وكذلك
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2013، ص 615.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (198)
العدالة واستخدام العلم ينبغي أن يكونا من أجل أمن البشرية لا تهديداً لها، وخاصة بعد العصور الحديثة، من عصر النهضة إلى يومنا هذا، وخصوصاً في القرن الأخير، فإن الكثير مما أنجز على صعيد العلم بدل أن يكون لرفاهية وأمن البشرية كان تهديداً لها، إما أنه كان تهديداً للروح أو الأخلاق أو الأسرة وتشجيعاً على الاستهلاك وتعبئة جيوب الناهبين الدوليين وأصحاب الشركات والكارتلات ومؤسسيها)(1)
ويقول في خطاب آخر ـ بعد ذكره للمستكبرين وتسلطهم ـ: (لا ينبغي اعتبار هذا الكلام مناصبة العداء للغرب، نحن لا نكنّ العداء لأيّة مجموعة إنسانيّة بسبب تمايزها الجغرافيّ.. نحن تعلّمنا من الإمام عليّ ما قاله عن الإنسان أنّه: إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق.. اعتراضنا إنّما هو على الظلم والاستكبار والتحكّم والعدوان والفساد والانحطاط الأخلاقيّ والعمليّ الذي تمارسه القوى الاستعماريّة والاستكباريّة ضدّ شعوبنا)(2)
ويقول في نداء له إثر الاعتداء على القرآن الكريم في أمريكا: (أيتها الأمة الإسلامية الكبرى الإهانة الجنونية المنفّرة والمُستنكَرة للقرآن المجيد في أمريكا، والتي حدثت في ظل غطاء أفراد الشرطة لذلك البلد، حدث مرير كبير لا يمكن اعتباره مجرد تصرف أبله صدر عن حفنة من الأشخاص المرتزقة التافهين.. إنه خطوة مدروسة من قبل مراكز جعلت منذ سنوات سياسة التخويف من الإسلام ومحاربته ضمن جدول أعمالها، وراحت تحارب الإسلام والقرآن الكريم بمئات الأساليب وآلاف الوسائل الإعلامية والعملياتية.. إنها حلقة أخرى من سلسلة مخزية بدأت بخيانة المرتد سلمان رشدي، واستمرت بخطوة رسام الكاريكاتير الدنماركي الخبيث وعشرات الأفلام المعادية للإسلام المنتجة في هوليوود، ووصلت اليوم إلى هذا
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 217.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2013، ص 198.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (199)
الاستعراض المستنكَر)(1)
لكنه مع هذا نبه إلى أن الذي قام بهذا ليس الشعوب، وإنما المستكبرون المتآمرون على الشعوب، قال في ذلك: (دراسة سياق الشر هذا، والذي ترافق في الأعوام الأخيرة مع عمليات إجرامية في أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان وباكستان، لا تترك مجالاً للشك في أن المخططين له وغرفة قيادته في يد رؤساء نظام الهيمنة وتديرها غرفة سوداء تهيمن عليها أفكار الصهاينة والتي تتمتع بأكبر قدر من النفوذ في الحكومة الأمريكية والمنظمات الأمنية والعسكرية الأمريكية وكذلك في الحكومة البريطانية وبعض الحكومات الأوروبية.. إنها الجهات التي يزداد يوماً بعد يوم الإشارة إليها بأصبع الاتهام في الدراسات المستقلة والباحثة عن الحقيقة فيما يتعلق بالهجوم على الأبراج في الحادي عشر من سبتمبر.. وقد وفرّ ذلك الحدث للرئيس الأمريكي المجرم في حينه ذرائع الهجوم على أفغانستان والعراق، فأعلن عن الحروب الصليبية، وقد أعلن نفس هذا الشخص بالأمس حسب ما أفادت التقارير أن الحرب الصليبية اكتملت بدخول الكنيسة إلى الساحة)(2)
ثم ذكر أن الهدف من ذلك هو إحداث صراع بين المسلمين والمسيحيين، فقال: (إن الهدف من العمل المقزز الأخير هو ـ من جهة ـ أن تصل مواجهة الإسلام والمسلمين في المجتمع المسيحي إلى المستويات الشعبية العامة، وتتخذ صبغة دينية بدخول الكنيسة والقساوسة فيها، وتكتسب رصيداً من العصبيات والنزعات الدينية، ومن جهة أخرى أن تنصرف أذهان الشعوب المسلمة الغاضبة والجريحة من هذا الاعتداء الكبير، عن قضايا الإسلام ومشكلة الشرق الأوسط)(3)
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 335.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 335.
(3) المصدر السابق، ص 338.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (200)
ثم ذكّر بالتاريخ الطويل للمستكبرين في استعمال كل وسائل التفرقة بين الشعوب، فقال: (ليس هذا العمل الحقود بداية لسياق وتيار معين، إنما هو مرحلة من سياق طويل ومستمر لمحاربة الإسلام بزعامة الصهيونية والنظام الأمريكي.. لقد تجمع الآن كل زعماء الكفر وأئمته ليقفوا أمام الإسلام.. الإسلام دين حرية الإنسان وذي المعنويات، والقرآن كتاب الرحمة والحكمة والعدالة.. من واجب كل طلاب الحرية في العالم وأتباع كل الأديان الإبراهيمية إن يقفوا إلى جانب المسلمين في سياسة محاربة الإسلام القذرة بكل أساليبها المقززة والكريهة هذه.. لا يمكن لساسة النظام الأمريكي بتصريحاتهم المخادعة الخاوية تبرئة أنفسهم من تهمة مواكبة هذه الظاهرة البشعة.. منذ سنين وكل مقدسات وحقوق وحرمات ملايين المسلمين المظلومين في أفغانستان وباكستان والعراق ولبنان وفلسطين تُسحق وتُنتهك.. مئات الآلاف من القتلى، وعشرات الآلاف من النساء والرجال الأسرى وتحت التعذيب، والآلاف من الأطفال والنساء المختطَفين، وملايين المعاقين والمشردين والمشتتين، ضحايا أي شيء؟ ورغم كل هذه المظلوميات لماذا يُظهرون المسلمين في وسائل الإعلام العالمية الغربية على أنهم مظهر العنف، والقرآن والإسلام باعتبارهما خطراً على البشرية؟ من يصدق أن هذه المؤامرة الواسعة يمكن أن تجري وتنفَّذ عملياً من دون مساعدة اللوبي الصهيوني داخل الحكومة الأمريكية؟!)(1)
ثم نبه إلى خطورة ما وقع فيه بعض المسلمين من ربط ما يحصل بالكنيسة، فقال: (يجب أن نعلم جميعاً أن الحدث الأخير لا صلة له بالكنيسة والمسيحية، وينبغي عدم سحب التصرفات الاستعراضية لحفنة من القساوسة الحمقى والمرتزقة على المسيحيين ورجال دينهم.. نحن المسلمين لن نبادر إطلاقاً إلى أعمال مماثلة ضد مقدسات الأديان الأخرى.. النزاع بين المسلمين
__________
(1) المصدر السابق، ص 338.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (201)
والمسيحيين على المستوى العام مما يريده الأعداء والمخططون لهذه المسرحية الجنونية، والقرآن يريد منّا أن نقف في الجهة المعاكسة تماماً لهذا الشيء)(1)
وقال في خطاب آخر ينبه فيه إلى مخططات الأعداء في نشر الفرقة بين الشعوب: (المشكلة تكمن في أنّنا نحن المسلمين أحياناً، لا نعرف ما هي المُخطّطات بالشكل الدقيق، لذا نصبح جُزءاً منها.. وللأسف هذا ما ابْتُلي به العالم الإسلاميّ هذه الأيّام.. فمُخطّط الأعداء هو بثّ الفُرقة بين المسلمين.. ومُخطّط الأعداء هو إثارة النّعرات المذهبيّة بين المسلمين.. ومُخطّط الأعداء هو حَرْفُ وُجْهَة الأمّة الإسلامية عن الخصوم والأعداء الحقيقيّين، أي الرأسماليّة الفاسدة المُفسدة، والصهيونيّة، إلى أماكن أخرى.. في يوم من الأيام، ناهض العالم الإسلاميّ الصهيونيّة الغاصبة، فوصفها الأعداء في دعاياتهم، إنّها مُعاداةٌ للساميّة (اليهوديّة)، مع أنّها لم تكن كذلك، إذ يعيش اليهود في الدّول الإسلاميّة، كغيرهم من أبناء الديانات الأخرى ـ اليهوديّة، المسيحيّة والإسلامية ـ إلى جانب بعضهم بعضاً.. يعيش اليوم في وطننا، اليهود والمسيحيون والمسلمون، وبعض أتباع الديانات الأخرى، معاً في ظلّ أمن الإسلام.. المسألة ليست معاداة الساميّة، فهم يكذبون ويُحرّفون قضيّة مناهضة الصهيونيّة الغاصبة والمحتلّة، والظالمة والقاسية القلب، على أنّها معاداة للساميّة، لكنّ الغرب نفسه، قد ابْتُلي اليوم بمعاداة الإسلام والمسلمين، وهم يُقدّمون الدعم، ويُؤازرون الّذين يوجّهون الإهانات للإسلام وللرسول الأعظم، هذه هي معاداة الإسلام، وهي موجودة عندهم)(2)
وهي من القيم التي اهتم قادة الثورة الإسلامية الإيرانية بالدعوة لها والتأصيل لمفهومها
__________
(1) المصدر السابق، ص 339.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2013، ص 325.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (202)
وحقيقتها وضوابطها، لا بسبب تلك الهجمات التي يشنها الحاقدون والمستكبرون عليهم، وإنما لكون ثورتهم أصلا قامت لأجل التحرر من الاستبداد والهيمنة والظلم.
ولذلك نرى في أحاديثهم عنها كلا الجانبين:
الأول: الرد على دعاة الحرية المزيفة التي يدعو إليها الاستكبار العالمي، والتي على أساسها يتهم إيران بالإخلال بها.
الثاني: بيان مفهوم الحرية الحقيقية، والتي تتناسب مع الإنسان، ولا تتعارض مع المسؤولية.
وسنتحدث عن أحاديثهم في كلا الجانبين في العنوانين التاليين:
1 ـ الرد على دعاة الحرية المزيفة وبيان أوهامهم حولها
مثلما أنكر قادة الثورة الإسلامية الإيرانية على الغرب ومنظماته المختلفة الفهوم والتطبيقات المرتبطة بحقوق الإنسان، نراهم كذلك ينكرون عليهم فهمهم للحرية، والمعايير التي يضعونها لها، والتي تنبني على الفلسفات المادية الإلحادية، لا على الرؤية الكونية التوحيدية.. بالإضافة لانبنائها على الهيمنة والتسلط، فلذلك يمنحون الحرية لمن شاءوا، ويمنعونها من شاءوا.
ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني في خطاب له ينتقد فيه من ينادي للحرية بمفهومها الغربي: (هؤلاء الذين ينادون بالحرية متأثرون بالغرب، يريدون الحرية الغربية.. هؤلاء الذين يتحدثون عن الديمقراطية، إنهم يتطلعون للديمقراطية الغربية، يريدون الحرية الغربية أي الإباحية.. إن هؤلاء من جملة المتأثرين بالغرب.. إن الصحف حرة في تناول الموضوعات، وطرح المسائل، ولكن هل هي حرة في الإساءة مثلًا إلى مقدسات الناس؟! حرة في سبّ الناس؟..! حرة في اتهام الناس؟.. إن مثل هذه الحرية لا يمكن أن تُقبل، حرية التآمر لا يمكن أن تُقبل.. إذا كانت إحدى الصحف تريد التآمر ضد الشعب بنشر الأمور المناهضة
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (203)
لمسيرة الشعب وعدم نشر ما يخدم الشعب، إذا كانت تريد التآمر والسير في طريق أعداء الشعب، فتروِّج لأعمال أعداء الشعب وتكتب ما يخدم أعداء الشعب، فإن مثل هذه الحريات لا يمكن لشعبنا أن يقبلها)(1)
ثم نبه إلى أن الحرية الحقيقية في ترك الشعب واختياره، والشعب الإيراني لم يختر عندما ثار على المستبدين سوى الإسلام، يقول: (إن شعبنا بذل كل تلك التضحيات، وكل تلك الدماء، وتحمل كل هذه المعاناة وأطلق كل تلك الصرخات، إنما فعل ذلك من أجل الإسلام، فالناس يريدون الإسلام، لو لم يكن الإسلام لكان الوضع الآن لا يختلف عما كان في السابق.. فالناس لا يضحون ويبذلون دماءهم من أجل أمور أخرى غير الإسلام.. إن الناس يطلبون الشهادة وحتى هذه اللحظة ما زال يأتيني أشخاص يطلبون مني الدعاء لهم بالشهادة.. لأي شيء يطلبون الشهادة؟ هل يريدون الشهادة من أجل أن يتحقق شيء آخر غير الإسلام؟ ديمقراطية غربية مثلًا؟ حرية مثل حرية مثلما هي في السوفييتي؟ حرية على النمط الأميركي؟ أم كانوا يريدون الإسلام؟.. لولا الإسلام لكان ينبغي لهؤلاء الذين ينادون الحرية جميعهم لكان ينبغي لهم أن يعيشوا إما في أوروبا أو في المناطق النائية!.. إن الإسلام هو الذي أخرج هؤلاء من عزلتهم وأعادهم إلى البلد، والآن وقد فسح لهم المجال فإنهم أخذوا يرددون الكلام المخالف لمسيرة الإسلام.. إن ما فعله الإسلام هو أنه حرركم، أخرجكم من السجون، وأعادكم من منفاكم، أنتم الذين سافرتم إلى الخارج وجلستم تنتظرون حتى سفكت دماء الناس هنا، والآن سنحت لكم الفرصة وعدتم إلى إيران.. إن الذي فعله الإسلام هو أنكم الآن أحرار ولكن تنتهزون الحرية للتحدث ضد الإسلام! لإثارة الشكوك ضد الذي حرركم! تنتهزون الحرية لتقولوا كل شيء إلا الإسلام، تتكلموا بكل شيء إلا الإسلام.. وإذا تحدث أحد
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 7، ص: 381.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (204)
عن الإسلام تهاجمونه!.. لا ينبغي أن يكون الوضع هكذا.. إن الصحف والمجلات وجميع المطبوعات في أي بلد، يجب أن تكون في خدمة الشعب، يجب أن تكون مرشدة للشعب، يجب أن تضيء مسير الشعب لا أن تعمل بما يخالف مسير الشعب؛ ففي أي مكان في العالم تنتهج وسائل الإعلام والصحافة مسيراً ينسجم مع مسير الشعب ولا تتخلف عنه، وهذا لمصلحتها ومصلحة البلد)(1)
وفي خطاب آخر وجهه لبعض الجهات التي أرادت استغلال الحرية المتاحة لوسائل الإعلام في نشر الفتن والفوضى، قال: (إنني أحذر الصحفيين، الإذاعة والتلفزيون، الجماعات التي بدأت تمارس نشاطها الآن.. إذا أرادوا خدمة البلد، فليتعرفوا على توجهات الشعب وتطلعاته، وليتأملوا في البواعث التي دفعت أبناء الشعب للنزول إلى الشوارع والهتاف (الله أكبر)، والتضحية بشبابهم.. لماذا حصل هذا؟ لقد كان من أجل الإسلام.. كانوا يريدون الإسلام، لم تكن المسألة فقط أننا نريد الحرية، فالحرية بدون الإسلام لا تريدها إيران، لا يريدها شعب إيران، إن الشعب الإيراني ينشد الإسلام.. لتكن الحرية ولكن مثل الإتحاد السوفييتي؟ لتكن الحرية ولكن مثل دولة أخرى؟ أجنبية؟ متى كان شعبنا يريد مثل هذا؟! إن هؤلاء السادة مخطئون ولا أقول خائنون، وإنما أقول مخطئون، عليهم أن يتلافوا أخطاءهم، يجب أن يكون الجميع متحدين مع بعضهم، مثلما حققوا باتحادهم ما هم فيه الآن)(2)
وقال في خطاب آخر تحدث فيه عن دور المرأة في التاريخ الإيراني الحديث، وكان لجمع من المعلمات والطالبات: (لا بدّ لنا من أن نعرف ما الحرية التي كان يريدها (محمد رضا) وأولئك الذين ينهجون نهجه؟ وما هو دور النساء في عصر الشاه وما قبله وبعده؟ إن من يقرأ
__________
(1) المصدر السابق، ج 7، ص: 381.
(2) المصدر السابق، ج 7، ص: 382.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (205)
تاريخ السنوات المائة الأخيرة يعرف أنه كانت في إيران حركات أصيلة قبل النظام البهلوي، ففي حركة (تحريم التنباك) و(الحركة الدستورية) ساهمت النساء مع الرجال في الفعاليات والأنشطة.. لقد كانت النساء في المجتمع يشاركن الرجال في النشاطات السياسية والاجتماعية ومشاكل البلاد وبعد سقوط الشاه لاحظتن جميعاً في هذه الثورة التي قام بها المسلمون كيف كانت النساء سبّاقات، بل كانت قيمة نشاطاتهن في هذا المضمار تفوق قيمة نشاطات الرجال! حيث كانت الأخوات يتظاهرن في الشوارع أمام المدافع والدبابات مما ضاعف من قدرات الرجال)(1)
ثم قارن ذلك بالحرية التي كان يدعو الشاه النساء والمجتمع إليها، فقال: (في عهد النظام الشاهنشاهي حيث كانوا يهتفون (حرية المرأة والرجل) ماذا كان للنساء من نشاط؟! إن الفعاليات التي شاهدناها من النساء كانت تتمثل باجتماع عدد منهم للذهاب إلى قبر رضا خان وبصورة مبتذلة ليشكرنه على تحريره إياهن! فكيف حررهن! لا يفكرن في نوع الحرية التي منحها لهن! إنهم كانوا يريدون نوعاً خاصاً من الحرية، وإن حملة الأقلام اليوم يكتبون مقالات ضد الإسلام وعلماء الدين، مطالبين بنفس تلك الحرية! الحرية التي أتت من الغرب والتي أمليت لإفساد الشباب! إنهم يريدون أن يكون الرجل والمرأة أحراراً بالشكل الذي تحضر فيه المرأة المجالس وتلاحقها نظرات السوء من قبل الرجال!.. لقد أوجدوا ذلك الوضع، وهم يريدون جر أخواتنا والشباب ورجالنا إلى الفساد والضياع! إنهم يريدون إشاعة الفحشاء! ففي زمان الشاه، الذي كان عصر (حرية المرأة)، أي امرأة كانت تستطيع قول كلمة واحدة في المسائل الراهنة؟ وأي رجل كان بإمكانه أن يكتب كلمة واحدة عن المشاكل التي يعاني منها الشعب جراء تسلط الأيدي الأجنبية والمحلية؟! وأي من صحفنا كانت حرة؟! أين كانت الحرية في
__________
(1) المصدر السابق، ج 10، ص: 133.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (206)
الإذاعة والتلفزيون؟! وأين كان الناس والشباب والجامعيون وطلبة العلوم الدينية أحراراً؟! لقد كانت الحرية الواقعية المفيدة للمجتمع مسلوبة خلال السنوات الخمسين هذه! فلم تكن لديهم الحرية للتحدث بكلمة واحدة عما يعانيه الشعب على يد الحكومات العميلة!)(1)
وقال ـ يصف الحرية التي كان الشاه يدعو إليها ويوفرها ـ: (إن الحرية التي كانوا يريدونها في عهد رضا خان وابنه ـ خاصة في عهد الثاني ـ لم تكن حرية وإنما فساد الشعب! قسموا الحرية إلى قسمين أحدهما حرية الصحافة والإذاعة والتلفزيون والأقلام والخطابة والكتب التي يجب أن تكون في صالح البلاد، إلّا أنها كانت تحت الرقابة بكاملها ولم تكن هناك أية حرية! فكانت الحرية النافعة لمصلحة بلادنا مسلوبة بالكامل.. لقد حطموا الأقلام وقطعوا الألسن ولم يكن لأحد الحق في أن ينبس ببنت شفة.. وكان كل ما يقال وكل ما تكتبه الصحافة ويبث في الإذاعة والتلفزيون ينبغي أن يكون في مدح شخص واحد قد ضيّع كل ما لدينا! ولكن كان هناك نوع واحد من الحرية، يعني فتح أبواب دور السينما مع ذلك الوضع الذي كانت عليه بحيث لو تردد شبابنا عليها عدة أيام لفسدوا وضاعوا! وكانت مراكز القمار والفحشاء مفتوحة على مصراعيها، ويقال إن مراكز الفساد من طهران حتى أواخر شميران كانت بالقدر الذي لا يمكن تقصيها! بل إن الأقلام والكتابات زادت من هذا النوع من الحريات المضرة للبلاد والشعب.. لقد ضرب هذا الأب وابنه الرقم القياسي للفساد!)(2)
وقال في خطاب آخر وجهه لبعض الجهات العلمية يدعوهم فيه إلى التحرر من التبعية الثقافية: (يقع على عاتقكم أنتم المعلمون، وكل من يعمل في حقل التربية والتعليم إنقاذ العقول المتغربة جراء بقائها طيلة خمسين عاماً ونيف تحت نير الحكومة الجائرة وسلطة الأجانب؛ فإذا
__________
(1) المصدر السابق، ج 10، ص: 134.
(2) المصدر السابق، ج 10، ص: 135.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (207)
أردتم أن تشقوا طريق النجاة لشعبكم، فلابد من البدء بالثقافة والجامعات، وطالما كنا مرتبطين فكرياً بالأجانب فلن نستطيع أن نتخلص من الصعوبات التي ذكرتموها.. الإصلاح الثقافي وتحرر شبابنا من التبعية الغربية هو في طليعة أولويات الإصلاح.. إن الغرب يحتفظ لنفسه بالكثير من الأمور المفيدة، ويصدّر البعض منها إلى الدول الشرقية مع جرائم لا تحصى)(1)
ثم ضرب لهم بعض الأمثلة على ذلك، فقال: (إنّ الذي يُصدر إلينا باسم (العلم) أو (الثقافة)، أو باسم (الرقي والرفعة)، هو غير الذي يحتفظون به لأنفسهم، إنهم يفكرون بطريقة أخرى من أجل الدول الشرقية؛ فإذا لاحظتم قبل عدة أيام نشر في إحدى المجلات أو الجرائد أن الدواء الفلاني ممنوع في أمريكا ولكن تصديره مسموح إلى دول العالم الثالث! الأطباء الذين ينهون دراساتهم في الدول الأجنبية وينالون الشهادات منها لا يُسمح لهم بالعمل فيها، ويقولون لهم اذهبوا واعملوا في بلدانكم، لأن مستوى الدراسة التي يتلقاها شبابنا هناك، وهم يحسبون أنهم يذهبون للإحاطة بالتقدم العلمي، مستوى ناقص بالمقارنة مع ما هو موجود من تقدم علمي، لأنهم يعطوننا شيئاً ويمنعون عنّا أشياء، يجعلونها حكراً على طلابهم.. ومثل هذا التعليم من الأفضل أن يطلق عليه (التعليم الاستعماري)، يجعلونا تابعين لهم في كل شيء، في الوقت الذي لا يعطوننا شيئاً)(2)
ثم ذكر لهم خطر التبعية الفكرية التي تتناقض مع الحرية والاستقلال الحقيقي الكامل، فقال: (نحن الآن مبتلون بنوعٍ من التبعية الغربية ـ بدون شك ـ في كل أمورنا، والأخطر من كل هذه التبعيات هي التبعية الفكرية.. إن الكثير من أفكار شبابنا وشيوخنا ومثقفينا وشريحتنا المتنورة تابع للغرب ولأمريكا، ولهذا حتى أولئك الذين ليس لديهم سوء نية ويتصورون أنهم
__________
(1) المصدر السابق، ج 10، ص: 260.
(2) المصدر السابق، ج 10، ص: 261.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (208)
يقومون بخدمة بلدهم، بافتراض أنهم لا يعرفون الطريق بشكلٍ صحيح واعتقدوا أنه يجب علينا أن نتلقف كل شيء من الغرب، لديهم أمثال هذه التبعية وهي منشأ كل التبعيات التي نعاني منها؛ فإذا ما كنا تابعين ثقافياً فستتبعها التبعية الأيديولوجية أيضاً، وكذلك الاجتماعية والسياسية وغيرها)(1)
ثم ذكر بعض الأمثلة على ما يصدره الغرب من قيم خاطئة، فقال: (إن ما يُصدّر إلينا هو ذلك الذي يؤدي بشعبنا للهلاك.. تصدر إلينا الحرية التي يرتكبون باسمها أنواع الفحشاء.. ومما يؤسف له أن بعض المتحررين عندنا، وكلما مُنع شيء فيه ضرر ومفسدة على البلاد، يضجون قائلين هذا كبت وتضييق!.. الكبت والتضييق هو أن تمنع المخلصين والشرفاء من فعل ما فيه نفع وخير الشعب والبلد والإسلام، وأمّا منع ما يمكنه أن يلحق الضرر بمجتمعنا وثورتنا وبلادنا، أو منع التآمر، فهذا لا يسمى كبتاً وتضييقاً وإنما يسمى الحؤول دون الفساد؛ فلا بد من التفريق بين منع الفساد وعدم السماح بجر شبابنا إلى مراكز الفحشاء والقمار وتعاطي الهيرويين والمخدرات وأمثال ذلك؛ فمنع هذه الأمور لا يسمى منعاً للحرية وإنما لما فيه خير الشباب وصلاحهم)(2)
ثم ضرب لهم المثل على ذلك بما كان يتاح في إيران من حريات، فقال: (طيلة الفترة التي حكمت إيران هذه الأسرة الخبيثة، أعطت للناس الحرية في أن يعملوا كل ما يحلو لهم دون أن يتدخلوا في شؤون الدولة أو مصير البلد، فمراكز الفحشاء في المدن الكبيرة كانت أكثر من كل شيء آخر وخصوصاً في طهران، وقد قيل: إن محلات بيع الخمور كانت أكثر من المكتبات! وكانت مراكز القمار التي أعدت لسوق الشباب والشابات نحو الفحشاء، كانت مطلقة العنان،
__________
(1) المصدر السابق، ج 10، ص: 261.
(2) المصدر السابق، ج 10، ص: 261.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (209)
فضلًا عن التشجيع والترويج لها بكل الوسائل الممكنة، عن طريق الراديو والتلفزيون والصحف والمجلات.. وأما الحديث عما تعانيه البلاد وما تغط فيه من مشاكل، أو عن ثروات الشعب ومصيرها، فقد كان ممنوعاً، وكل من كان يجرؤ على ذلك، سيلاقي مصيراً مجهولًا على أيدي السافاك.. فالحرية التي كانوا ينادون بها ويريدونها للنساء والرجال، هي أن يكونوا أحراراً في فعل ما يريدون وارتياد مراكز الفحشاء لذا فإن منع هكذا أمور وهكذا حرية لا يسمى كبتاً وخنقاً للحريات، وإنما خنق الحريات يصدق على الذين يُمنعون العمل أو الكتابة أو النطق بما يخدم مصالح البلاد والإسلام.. فإذا ما أردنا أن نمنع متآمراً أو متآمرين ثبت للشعب تآمرهم، علت أصواتهم بكذا وكذا!.. وإذا ما أردنا أن نمنع فاحشة ما، عادت أصوات هؤلاء السادة لتعلو تباكياً على فقدان الحرية، وأمّا إذا أراد احدهم أن يقوم بعمل مفيد فيه خير البلاد ومستقبلها، ويضمن للبلد استقلاله، علت أصواتهم بالقول: لماذا يجب أن يحدث مثل هذا؟)(1)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يسلك مسلك أستاذه في التحذير من تشويهات الغرب لمفهوم الحرية، واستعمالها في غير محلها، ومن الأمثلة على ذلك قوله في بعض محاضراته في التأريخ لظهور الاهتمام بالحرية في الفكر الغربي، وجذور الانحراف المرتبطة بها: (لقد كانت الثورة الصّناعيّة بحدّ ذاتها أشبه بالانفجار الذي يفرض على البشر أن يفكّروا وعلى العلماء أن يبحثوا.. وبعدها، وفي منتصف القرن الثامن عشر، تحقّقت مقدّمات الثورة الفرنسيّة الكبرى ـ التي كانت أرضيّة اجتماعيّة لتحقّق ثورة عظيمة ـ في منطقةٍ لم يكن فيها مثل تلك الثورات.. بخصوص الحريّة، طرحوا قضيّة العقل.. كلا، أقول لكم إنّه ربّما كان هناك أربعة مثقّفين في الثورة الفرنسيّة يتحدّثون بهذه الطريقة، أمّا في ميدان العمل وعلى الأرض فما لم يكن يُطرح هو قضية العقل والعقلانية والتوجّه إلى العقل.. كلا، لم يكن هناك سوى قضية الحريّة، وتحديداً
__________
(1) المصدر السابق، ج 10، ص: 262.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (210)
التحرّر من قيد الملكيّة والحكومة المستبدّة المهيمنة لعدّة قرون، أي حكومة الأسرة البوربونية (1) التي كانت مهيمنة على جميع أركان حياة الناس.. لم يكن الأمر منحصراً بجهاز البلاط فحسب، بل كان كل واحد من أشراف ونبلاء فرنسا ملكاً، وما سمعتموه عن سجن الباستيل وسجنائه لم يقتصر على عدّة أيّام، بل لعلّه بقي على حاله لعدّة قرون، أي إنّ الوضع كان مزرياً.. حسنٌ، لقد كان هناك أشخاصٌ أصحاب فكر مثل فولتير ومونتسكيو وروسّو يشاهدون هذه الأحوال، وكان لديهم الاستعداد للتفكّر والتأمّل، ووصلوا إلى هذه الحالات وتحدّثوا، إلا أنّه لم يكن لكلماتهم أيّ وقع على صعيد وقائع المجتمع وفي مجال العمل داخل فرنسا من الأساس.. حسنٌ، انظروا، وستجدون أنّ أياً من الخطب التي كانت تُلقى من قبل الخطباء الكبار ـ كميرابو وغيره ـ لم تكن ناظرة إلى كلمات مونتسكيو وفولتير وأمثالهما، بل كانت كلّها ناظرة إلى فساد الجهاز الحاكم واستبداده وأمثال ذلك.. هذه هي واقعيّة الثورة الفرنسيّة)(2)
ثم ذكر سبب فشل الثورة الفرنسية وغيرها من الثورات التي لم تحقق الحرية الحقيقية، والتي كانت تصبو إليها، فقال: (إنّ الثورة الفرنسيّة الكبرى كانت، بأحد المعاني، ثورة فاشلة، فلم يمضِ على الثورة إحدى عشر أو اثنتا عشرة سنة، حتى جاء إمبراطورٌ مقتدر كنابليون، ليصبح ملكاً مطلق الصلاحيّات لم يتمتّع بسلطته حتّى الملوك الذين كانوا قبل لويس السادس عشر المقتول في الثورة! عندما أراد نابليون أن يتوّج نفسه ملكاً جاؤوا بالبابا لكي يضع التاج على رأسه، لكنّ نابليون لم يسمح للبابا بذلك بل أخذ منه التاج ووضعه على رأسه بنفسه!.. ففي المدّة الفاصلة ما بين الثورة وظهور نابليون وإمساكه بالسلطة ـ تلك السنوات الاثنتا عشرة ـ جاءت ثلاث جماعات على رأس الحكم، وكانت كل جماعة تأتي إلى الحكم تبيد الجماعة السابقة
__________
(1) إحدى أهم السلالات التي حكمت في أوروبا، وينتمي إليها حاليّاً ملكا إسبانيا والسويد، وأول حاكم من هذه العائلة كان فيليب الخامس (1746 م)، حاكم إسبانيا (1700 م - 1746 م.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2012، ص 574.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (211)
وتصفّيها، ثمّ تأتي الجماعة اللاحقة وتفعل نفس فعلتها مع من سبقها.. وكانت النتيجة أن رزح الناس تحت حياة التّعاسة والشّقاء والفوضى، هكذا كانت الثورة الفرنسية الكبرى.. وبالنسبة لثورة أكتوبر الرّوسيّة كان الوضع مشابهاً من عدّة جهات ـ أي إنّها كانت تشبه الثّورة الفرنسيّة الكبرى ـ غاية الأمر إنّه في (ثورة أكتوبر) وُجد وضعٌ خاص وعوامل مختلفة أخرى كانت توجّه الناس بشكل ما وتسيطر عليهم، لا بأس أن يتمّ الالتفات إليها)(1)
ثم ذكر الجذور الفكرية التي أسست لمفهوم الحرية في الغرب، فقال: (نزعة عصر النّهضة، في الأساس، كانت نزعة معادية للدين وللكنيسة لهذا تأسّست وأقيمت على قاعدة النّزعة الإنسانيّة (الهيومانيزم).. وبعدها قامت جميع الحركات الغربيّة على أساس هذه النّزعة الإنسانيّة واستمرّت إلى يومنا هذا على هذا المنوال)(2)
ثم تحدث عن الحريّة الاقتصاديّة في الغرب، فقال: (نجد الحرّية الاقتصادية اليوم في الغرب على تلك الشاكلة.. في الدائرة الاقتصادية: توارث المناصب الاقتصادية بواسطة أشخاص معدودين؛ فلو استطاع أيّ إنسان أن يوصل نفسه بالاحتيال أو التزوير أو أي شكل آخر، إلى ملعب المتسلّطين الاقتصاديين، فإنّ كل شيء يصبح له بالطبع، لا ينظرون في أمريكا إلى السوابق الأرستقراطية، خلافاً لأوروبا والتقاليد الأوروبية حيث تولى هذه القضايا مقداراً من الأهميّة، وكان ذلك في الماضي أكثر واليوم قد تضاءل.. وفي أمريكا لا يوجد مثل هذه السوابق الأرستقراطية والأسرية وأمثالها، فهناك يمكن لأيّ شخصٍ ـ ولو كان حمّالاً ـ أن يستفيد من منصبٍ ما وأن يوصل نفسه إلى تلك النقطة العالية للرأسمالية، ويصبح في مصاف الرأسماليين ويتمتّع بالامتيازات التي هي من مختصّاتهم.. في ذاك الميثاق الذي أعدّه
__________
(1) المصدر السابق، ص 575.
(2) المصدر السابق، ص 576.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (212)
الأمريكيون، فإنّ أحد الكبار والروّاد وبناة أمريكا اليوم ـ الذي عاش قبل قرنين، ولا أذكره الآن، وعلى وجه التقريب بعد الثورة الفرنسية الكبرى بمدّة قليلة، حيث وقعت تلك الأحداث في أمريكا وتشكّلت تلك الدّولة ـ يقول إنّ إدارة أمريكا يجب أن تكون بأيدي أولئك الذين يتمتّعون بثروتها.. إنّ هذا أصلٌ عام ولا يستنكفون عنه أبداً؛ فثروة البلاد بيد هذه الجّماعة ويجب عليهم أن يديروا البلاد بأنفسهم، وهي النقطة المقابلة تماماً لما أراده أخونا العزيز أن يحصل من خلال (الجمعيات) التعاونيّة التي يحقّ فيها للجميع أن يكون لهم الإدارة ولو بحصّة ما.. حسنٌ، هذه هي حريّتهم الاقتصادية)(1)
وقال عن الحريّة السياسيّة في الغرب: (في المجال السياسي أنتم ترون لعبة التنافس هذه بين الحزبين، التي يحتكرون الساحة السياسية من خلالها، ولا شك بأنّ عدد الأشخاص الذين يتّبعون هذين الحزبين هو أقلَ بكثير من 1%.. أساساً، إنّ هذه الأحزاب ليس لها امتداد حقيقيّ وواقعيّ في عمق المجتمع، فهي في الواقع ملاعب لتجمّع جماعة.. أولئك الذين يأتون ويصوّتون، فإمّا إنّهم يقعون تحت خدع الشّعارات، أو تحت تأثير سلطة الإعلام الذي هو في الغرب غنيٌّ جدّاً ومتطوّر، وخصوصاً في أمريكا التي هي بلحاظ القدرات الإعلامية وقلب الوقائع متقدّمة علينا، بمسافة هي ما بين الأرض والسماء ـ فهم يقلبون الأسود إلى أبيض والأبيض إلى أسود ـ وأصبحوا متطوّرين وفعّالين في هذه المجالات بشكل خارق.. فهم يقودون الناس بمثل هذه الوسائل)(2)
وقال عن الحريّة في القضايا الأخلاقيّة في الغرب: (إنّ وقائع المجتمع الغربي سيّئة جداً ومرّة وبشعة، وبعضها يبعث على النّفور، فلا وجود للعدالة ولا لأيّ شيء من هذا القبيل، بل
__________
(1) المصدر السابق، ص 585.
(2) المصدر السابق، ص 585.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (213)
هناك التمييز العنصري والاستبداد، وفي مجال القضايا العالمية إشعال الحروب؛ فإنّهم، ومن أجل أن تحصل مصانع الأسلحة على المال، وأن لا يفلس ذلك المصنع، يشعلون الحروب بين شعبين! يأتون إلى بلدان الخليج الفارسي ويخوّفونها من إيران ومن الجمهوريّة الإسلامية من أجل أن يبيعوها الفانتوم والميراج! ومثل هذه الأعمال يقومون بها على نحو دائم.. أمّا تعاملهم مع المقولات الشريفة ـ كحقوق الإنسان والسيادة الشعبية ـ فإنّه تعاملٌ انتقائيّ.. إنّ تعاملهم سيّئٌ جداً وغير أخلاقيّ مع هذه المقولات.. لهذا، فإنّ حال الوقائع الحالية للحياة في الغرب، ذاك الغرب الذي تحدّث فلاسفته بهذا المقدار عن الحرية فيه، هو حالٌ سيّئٌ في الواقع)(1)
وقال في خطاب آخر محذرا من المفاهيم الغربية للحرية وغيرها من القيم: (من الأمور الضرورية في كل حركة عامة وفي كل نهضة، أن يتم وضع اصطلاحات، وكذلك بناء مؤسسات على أساس الأفكار والأسس الأصيلة لهذه النهضة الإسلامية وهذا التيار.. عندما يطرح فكر جديد ـ كفكر الحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي والنهضة الإسلامية ـ فإنّ هناك مفاهيم جديدة تظهر في المجتمع، لذلك فإنّ على هذه الحركة وهذه النهضة امتلاك الإصطلاحات المتناسبة معها، إذاجرت استعارة الإصطلاحات الأجنبية فإنّ الجو سيتلبد ويرتبك، وستبقى المفاهيم المطلوبة غائبة.. نحن نقبل بحاكمية الشعب (الديموقراطية) وكذلك نقبل بالحرية، ولكننا لا نقبل بالليبرالية الديموقراطية، مع أنّ المعنى اللغوي لـ[الليبرالية الديموقراطية] هو الحرية وحاكمية الشعب هذه، لكن اصطلاح الليبرالية الديمقراطية في معناه الرائج عند شعوب العالم وفي تلقي الجميع، يترافق مع مجموعة مفاهيم ونحن لا نُقرّها، فلا نرغب بوضع ذلك الاسم على المفهوم النقي والصحيح والخالص الذي نملكه، لذلك فإننا نضع إسماً جديداً على نظامنا المنشود، نقول حاكمية الشعب الدينية أو الجمهورية الإسلامية، أي إننا نختار اسماً
__________
(1) المصدر السابق، ص 586.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (214)
جديداً.. أو بما يتعلق بالتوزيع الصحيح للثروة والاستفادة الجماعية من الأموال العامة، والتي هي من الأهداف الأصلية السامية للإسلام، فإنّنا لا نستخدم اصطلاح الاشتراكية مع أنّ الاشتراكية لغوياً تعني ذلك المفهوم، لكنها ترافقت مع مفاهيم أخرى لا نرتضيها، وتمتزج مع وقائع لا نقبلها في التاريخ والمجتمع.. لذلك وبدلاً من الاصطلاحات التي كانت معروفة بين الماركسيين واليساريين وغيرهم، طرحنا اصطلاح [الاستكبار] و[الاستضعاف] و[الشعبية]، نحن وضعناها، أي إنّ الثورة وضعتها، ولم يكن لأشخاص معنيين في هذا المجال، تأثير حتمي وقاطع)(1)
وقال ـ مبينا تميز الحرية في المفهوم الإسلامي عنها في المفهوم الغربي ـ: (إحدى مشكلاتنا طوال هذه السنوات، أنّ بعض الأشخاص قام يترجم المفاهيم الإسلامية بالمفاهيم الغربية، حيث قام بتكرار كلام الغربيين، وسعى لتحققها، والحال أن الثورة الإسلامية لم تقم من أجل هذا.. الحرية الغربية في مجال الاقتصاد هي هذه المسائل التي تشاهدونها، هي اقتصاد آدم سميث هذا، وصولاً للوضع الاقتصادي الديكتاتوري الموجود في العالم، والذي يشهد حالياً انحلاله وسقوطه بنفسه وبشكل تدريجي.. ليس مرادنا من الحرية هذا.. الحرية الإنسانية لا تعني حرية التفلّت الأخلاقي الموجود في الثقافة الغربية.. لا ينبغي لنا ومن أجل أن نحلو في عيون الغربيين، أن ننطق بالكلام الذي ينطقون به، وهو كلام خاطئ وباطل، وها هو اليوم يظهر بطلانه.. نحن نتكلم عن احترام الإنسان، احترام المرأة، لا ينبغي أن يشتبه هذا مع ما يتمّ ترجمته وعرضه وبيانه في الغرب تحت هذه المفاهيم.. المراد هو المفاهيم الإسلامية، العدالة بمعناها الإسلامي، الحرية بمعناها الإسلامي، كرامة الإنسان بمعناها الإسلامي، حيث إنّ جميع هذه المفاهيم واضحة ومبينة في الإسلام.. للغربيين أيضاً كلام آخر.. في هذه المجالات، في اعتبار
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2011، ص 466.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (215)
القيم ووضعها، إنّ طريقهم طريق منحرف)(1)
ثم ذكر التناقضات التي يقع فيها الغرب إزاء هذه المفاهيم، فقال: (وبالمناسبة، فإن الغربيين عملياً وليعلم الجميع هذا، وأنتم تعلمون بالطبع، لم يعملوا أبداً بهذه المفاهيم نفسها التي ادّعوها بأنفسهم، أي إنّ الزعماء والرؤساء وأصحاب القدرة الغربيين لم يقفوا مع تلك العدالة ولا مع تلك الحرية التي نادوا بها، بل كانت مجرد شعارات وعناوين طرحوها وارتكبوا باسمها كل ما يحلو لهم.. على سبيل المثال: يهاجمون أفغانستان تحت شعار تحقيق الديموقراطية ولكن باطن القضية شيء آخر، وهو أنّ أمريكا أو حلف الناتو بحاجة لأفغانستان، لإقامة قاعدة مستقرة لهم هناك، بحيث يمكنهم الإشراف على الصين والهند وإيران وجنوب غرب آسيا من هذه القاعدة.. غزوا العراق تحت عنوان مكافحة الأسلحة الذرية، لكن باطن القضية ليس هذا، وهم بالمناسبة قد قاموا لاحقاً باختلاق القصص وقالوا: نعم لقد فتشنا ولكن لم نجد شيئاً، لقد أخطأنا، الأمر ليس كذلك، أيعقل أن يقوم أحد، ولأجل تقرير خطأ وغير موفق بتحميل نفسه دفع كل هذه الأثمان البشرية والمالية لمهاجمة العراق؟ لم يكن الهدف من الهجوم على العراق مكافحة الأسلحة الكيميائية، بل السيطرة على بلد غني بالنفط مجاورٍ للجمهورية الإسلامية، وكان الهدف كذلك الهيمنة على العالم العربي وحماية إسرائيل واستكمال السلسلة الاستكبارية في هذه المنطقة.. وكذلك الآن حيث تواصل قوات حلف الناتو غاراتها الجوية على ليبيا، هذه الغارات المستمرة منذ عدة أشهر بدون أي مسوّغ حقيقي وإنساني وقانوني ودولي، وادعاؤهم أنهم يريدون إسقاط القذافي! ليست هذه هي القضية، بل المطلوب هو تعبيد الطريق أمام الشركات النفطية.. إنّ ليبيا هي بلد مشرف على مصر وكذلك على تونس وعلى السودان والجزائر، بلد محاذٍ للبحر الأبيض المتوسط، وعلى بعد مرمى حجر من أوروبا.. إنهم يريدون
__________
(1) المصدر السابق، ص 488.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (216)
إقامة مركز لهم هناك، يحكمون من خلاله هذه المنطقة، ويطلقون على هذا اسم الصراع مع القذافي! والواقع ليس كذلك، أي إنّ الغرب غالباً ما يستخدم هذه المفاهيم والأهداف التي يدّعيها هو بنفسه، كغطاء للوصول إلى مقاصده الشيطانية.. وعليه فإننا عندما نقول عدالة أو حرية لا نعني مطلقاً كلماتهم ومفاهيمهم نفسها، تلك الديمقراطية الكاذبة.. إني أقول بكل حزم، إنّ الديمقراطية الرائجة في الغرب مع وجود بعض الاستثناءات هي غالباً الديمقراطية الكاذبة، ليست حقيقية، فإذن، مقصودنا المفاهيم المستنبطة من منطق الإسلام والقرآن وما هو موجود في المعارف الإسلامية)(1)
2 ـ بيان المفهوم الحقيقي للحرية وارتباطها بالمسؤولية
لم يكتف قادة الثورة الإسلامية الإيرانية بالتحذير من تلك المعاني الخاطئة للحرية، والتي أصبحت سببا لتعاسة الإنسان والمجتمعات البشرية، بل أصبحت وسيلة لكل الجرائم والانحرافات، وإنما كانوا يذكرون الحرية الحقيقة التي دعا إليها الإسلام، والتي هي حرية في مصلحة الإنسان والمجتمعات والشعوب، لانبنائها على القيم والضوابط الأخلاقية التي تحميها من التفلت والانحراف.
ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني في بعض خطبه يذكّر بنعمة الحرية ـ بعد القضاء على الاستبداد ـ ويدعو إلى شكرها، والاستعمال الصحيح لها: (نحن حتّى الآن نلنا الحريّة، وكلّكم الآن حضرتم أحرارا، والتقينا كما نريد، وما كنتم هكذا قبلا، ولا نحن.. كلنا الآن أحرار، والحريّة نعمة إلهية كبيرة، فهل ننظر في هذا الوقت الذي نحن فيه أحرار أَنستَغِلّ الحريّة أم نستثمرها؟.. الحرية أمانة إلهية رزقناها الله، فماذا نفعل بهذه الأمانة التي وهبها الله ـ تبارك وتعالى ـ لنا ومتّعنا بها؟ أنضعها لمصلحة الشعب والإسلام، أم لما يُخالِف مسيرة الثورة
__________
(1) المصدر السابق، ص 489.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (217)
ولا يرضي الله؟.. كلّنا الآن قد اجتزنا قاعة الامتحان فئات الشعب جميعا من رجال الدين إلى الجامعيين، من القوّة الجويّة إلى القوة البريّة والبحرية.. كلّنا الآن أحرار وفي امتحان، يريد الله أن يبلونا بهذه النعمة.. فإذا وضعناها في سبيلها وهو صلاح الشعب والإسلام وخدمة البلاد نجحنا في الامتحان، وإذا سِرْنا بها ـ لا سمح الله ـ على خلاف مسير الشعب والإسلام، وانحدرنا إلى الفوضى لأنّنا تحرّرنا، أو رُحنا نظلم أنفسنا لأننا انطلقنا، أو عاكسنا النظام الإسلامي والوطني، وأقمنا الفوضى خالعين كل قاعدة من قواعد هذا النظام بذريعة الحرية، إذا حدث هذا، فقد وضعنا الحرية على خلاف مسير الشعب ومسير الإسلام)(1)
ثم ضرب لهم بعض الأمثلة على خطر الانحراف عن المفهوم الصحيح للحرية، فقال: (إذا تعدَّيتُ أنا الحوزوي إذا تحرّرت على رفاقي ومَن هم إليّ وأصدقائي، فقد عملت على خلاف مسيرة الثورة ومسيرة الشعب، وخنت هذه الحرية التي أعطاها الله تبارك وتعالى.. وإذا كنتم إخوتي العسكريين الذين حظيتم بالحرية الآن تريدون أن تستغلوها، وتسيروا بها على خلاف مسير الشعب والبلاد والأنظمة المقرَّرة، فأنتم مثلي لم تخرجوا من الامتحان، وخنتم لا سمح الله.. فاحفظوا أمانة الله، ولا تخونوها)(2)
ثم ذكر لهم الضوابط التي تحمي الحرية من الانحراف، فقال: (أنتم أحرار، فضعوا الحرية في صلاح الشعب وصلاح البلاد، فليست الحرية أن يعمل كل إنسان كل مايُريد، فيهرّب ويبيعَ غالياً، ويُزعزع الحدود، ويُزلزل النظام، ولا يرعى المقررات الوطنية والحكومية والإسلامية.. فليس هذا معنى الحرية.. الحرية ذات حدود، ولابُدَّ لهذه الحرية أن تحفظ، فلا حقّ لأحد أن يعتدي عليكم، فأنتم أحرار، ولا حقّ لأحد أن يحدّكم، لكن علينا جميعاً أن نصون
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 8، ص: 37.
(2) المصدر السابق، ج 8، ص: 37.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (218)
المقررات.. فأنا الموجود هنا وأنتم الذين في الحدود يجب أن نحفظ المقررات، يجب أن نحترم الأنظمة، ونرعى كل ما هو مقرّر لنا ولكم، لنرفع هذه البلاد ـ إن شاء الله ـ إلى ما يليق بها.. فإن أعملْ أنا الموجود هنا ويعملْ مَن هو في طهران ومن هو في الحدود على خلاف المقررات ـ لا سمح الله ـ نكفُرْ هذه النعمة التي حباناها الله، ويجب أن نشكرها له، ولا نكفُر بها، لئلا يستردَّها مِنّا ـ لا سمح لُطفُه ـ فنعود للسنين الماضية ووَيْلاتها الخالية.. يجب أن يعمل الجميع بما يعيّنه الشرع والعقل من مقرّرات، ونأخذ كلنا بالأنظمة التي يجب الأخذ بها والتمسك بمقرّراتها)(1)
وقال في خطاب آخر يبين مدى ارتباط الحرية بالدين ومصادره المقدسة: (الاستقلال والحرية في اتباع القرآن الكريم والرسول الأكرم.. إننا جميعاً أتباع القرآن والرسول الأكرم، وجميعنا إخوة وهدفنا واحد، وقبلتنا واحدة وديننا واحد وقرآننا واحد)(2)
وقال في خطاب آخر: (إنّ ما يثير القلق في الجملة هو أنكم أيها السادة وكل الشعب تحسّون الآن بالحرية وأنتم أحرار، لكنّ العمل بالحرية كما يجب ليس واضحاً للجميع.. فلنرَ ماذا نفعل بالحرية التي ننعم بها الآن؟.. هل نلقي كل الضبط والانضباط الآن جانباً مادمنا أحرارا؟ وهل لنا أن نقول مانريد ونفعل ما نريد لأنّنا أحرار؟.. هذا معناه أن الحرية في الجمهورية الإسلامية هي أن ترتفع كل الضوابط، ويكون لكل إنسان أن يتحدّث بما يريد، ولو خالف الشعب والإسلام والقرآن المجيد، أو أنّ الحرية التي نريدها هي الحرية التي أعطاناها الإسلام.. الحرية في حدود القانون، وهذا في كل مكان.. فحرية كل شعب هي في نطاق القانون، وليس لأحد أن يمسّ القانون باسم الحرية.. ليست الحرية أن تقفوا مثلًا في الزُّقاق وتنبزوا كل مَن مرَّ فيها بلقب ـ لا سمح الله ـ أو تضربوه بِعَصَا.. وليست الحرية أن تتناولوا
__________
(1) المصدر السابق، ج 8، ص: 37.
(2) المصدر السابق، ج 7، ص: 101.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (219)
أقلامكم، وتكتبوا ما تشاؤون ولو خالف الإسلام والقانون.. هذه الحرية وهبها الله ـ تبارك وتعالى ـ لنا، ليمتحننا، فما كنتم تستطيعون شيئاً، والآن لطف الله بكم، وأخرج أولئك الذين كانوا يحدّون حريتكم من هذه البلاد، وهو الآن يمتحنكم بِمنّه عليكم بإخراج أولئك عنكم وبإعطائكم الحرية، ونعم الله امتحان لعباده.. لننظر الآن إلى النعمة التي آتانا الله إياها أنكفر بها أم نشكرها له؟.. والكفر أن نجعل الحرية وسيلة للقبائح بدعوى (أنا حرّ أفعل ما أشاء).. هذه الحرية التي رحمنا الله بها، وأهداها إلينا إذا خنتموها يمكن أن يستردّها الله ـ تبارك وتعالى ـ منا، ويمكن أن نعود إلى الحال السابقة التي كنّا عليها، فلْننتبه جميعنا على ألّا نستغل الحرية)(1)
ثم ذكر لهم بعض الأمثلة على ذلك، فقال: (الغلاء أحد ألوان الاستغلال إذ يقول أحد: أنا حرّ، ويجحف بهؤلاء المحتاجين على ما يشتهي، ويرفع الأسعار، ويعيد السوق إلى وضعه الطاغوتيّ.. فالإجحاف في المعاملات وعدم الإنصاف فيها أمر لايقبله العقل، والله ـ تبارك وتعالى لا يرضاه، فيجب أن نجعل الأسواق إسلامية.. الجمهورية الإسلامية يجب أن تكون كل أمورها إسلامية، ولابدّ أن تكون إداراتها إسلامية متحوّلة، وهذا غير حاصل الآن.. والمحكمة يلزم أن تكون إسلامية والقضاة يجب أن يكونوا على ما رسم الإسلام لهم من القضاء، ولم يتحقّق هذا حتى الآن.. والثقافة لابدّ أن تكون إسلامية، وأن تخرجوا من هذه الثقافة المرتبطة والتابعة والاستعمارية، وهذا غير جار الآن.. والسوق الآن بيد ناس متدينين في الظاهر يقولون: ليس هنا من يضغط علينا، ويحدد السعر.. يجب ألّا يُجحفوا، وعلى الحاكم الآن أن يقف في وجوههم، ومن الممكن أن نأمر بذلك)(2)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي في خطبه ومحاضراته في المناسبات المختلفة يتحدث عن
__________
(1) المصدر السابق، ج 8، ص: 101.
(2) المصدر السابق، ج 8، ص: 103.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (220)
المفهوم الصحيح للحرية، والتي لا تتحقق إلا في الدين، واتباع مصادره المقدسة.
وهو يحرص كثيرا على بيان كون الإسلام هو المنقذ الذي خلص البشرية جميعا من كل ألوان العبودية التي كانت تنتشر بين الحضارات المختلفة، ومن الأمثلة على ذلك قوله في بعض خطبه ـ بمناسبة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ: (هذه الولادة المباركة هي مصدر البركات التي حلّت على جميع أبناء البشر عبر القرون، وأوصلت الأمم والإنسان والإنسانيّة إلى مصافّ العوالم الإنسانيّة والفكريّة والروحيّة، وإلى الحضارة السامية والآفاق المنيرة للحياة.. وما يهمّ الإسلام والمجتمع الإسلاميّ في هذه الذكرى، هو أن نضع ما يريده النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من المجتمع الإسلاميّ نصب أعيننا، ونسعى جاهدين لتحقيقه، إذ تكمُن سعادة العالم الإسلاميّ في هذا لا غير.. جاء الإسلام من أجل سعادة البشر، ولتحريرهم من قيود وبراثن الأنظمة المستبدّة، والظالمة لمختلف طبقات البشر وإقامة الحكومة العادلة، وأيضًا لتحريرهم من الأفكار والأوهام المسيطرة على حياة الإنسان التي تقوده وتسيّره خلافًا لمصلحته)(1)
وقال في خطاب آخر ـ معلقا على وصف الإمام علي للبيئة التي ظهر فيه الإسلام وأنّهم كانوا في (فتنٍ داستهم بأخفافها ووطئتهم بأظلافها): (الفتنة تعني: الأجواء الملوّثة بالغبار، حيث تعجز العين عن الرؤية في تلك الأجواء الملوّثة؛ فلا ترى طريقها ولا تشخّص مصلحتها.. هكذا كانت حال الناس الذين عاشوا في تلك المنطقة المليئة بالمحن والشقاء، وهذا ما كان سائدًا في الدول الكبرى، وفي حضارات ذاك الزمن، التي امتلكت حكومات وشعوبا، لكن بأشكالٍ مختلفة، وليس الأمر أن نتصوّر أنّه في زمن ظهور الإسلام في الجزيرة العربيّة، كان الناس هناك تُعساء، والشعوب الأخرى سعداء.. كلا! فغلبة الحكومات الجائرة والظالمة، وعدم احترام شأن الإنسان والإنسانية، والحروب المدمّرة التي جرت بين القوى، وبهدف
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2014، ص 31.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (221)
فرض سيطرتها، قد شرذمت حياة البشر)(1)
ثم ذكر النماذج التاريخية الدالة على ذلك، فقال: (يشير التاريخ إلى وجود حضارتين في ذلك الزمن، هما الحضارة الإيرانية (الفارسية) الساسانيّة، وحضارة الإمبراطوريّة الرومانيّة.. كان الناس، ومن مختلف الأطياف والشرائح، يعيشون في تلك المجتمعات حالة مزرية تحرق قلب الإنسان، كانوا يعيشون حياة الرقّ والعبوديّة والأسر، فجاء الإسلام وحرّرهم، وكانت الحريّة بالدرجة الأولى، لقلب الإنسان وروحه.. وعندما شعر الإنسان بالحريّة، شعر معها بالحاجة إلى فكّ القيود، وقد أصبحت قواه تحت تأثير تلك المشاعر، فإذا ما عقد الهمّة وتحرّك، فسوف يصل إلى الحريّة المنشودة.. وهذا ما فعله الإسلام للإنسان، وهي ذاتها، رسالة اليوم للعالم الإسلاميّ والعالم بأسره، فأعداء حريّة الإنسان يعمدون إلى قتل الفكر الإنسانيّ الحرّ، والقضاء عليه، وإذا ما فُقد الفكر الحرّ، فستبطئ الحركة نحو الحريّة أو تنتفي كليًّا)(2)
ونحب أن نلفت النظر هنا إلى أن الإمام الخامنئي استنكر الظلم والاستبداد الفارسي مثل استنكاره للظلم والاستبداد الرومي، وفي ذلك أبلغ رد على أولئك الذي يتهمون النظام الإسلامي في إيران بأنه يحلم بإعادة الإمبراطورية الفارسية، مع أن جميع قادة الثورة الإسلامية الإيرانية ومفكريها، يعتقدون ويصرحون بأن الإسلام هو الذي أنقذ الفرس من الظلم والاستبداد والجاهلية، وفي جميع المجالات.
وبناء على أهمية الحرية بمفهومها الصحيح وضرورتها، يعتبر الإمام الخامنئي العمل على تحقيقها واجبا على الأفراد والشعوب، يقول: (إنّ تكليفنا اليوم ـ نحن المسلمين ـ هو العمل للوصول إلى الحريّة التي يبتغيها الإسلام؛ فاستقلال الشعوب الإسلامية، استقرار الحكومات
__________
(1) المصدر السابق، ص 33.
(2) المصدر السابق، ص 33.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (222)
الشعبيّة في كافة أنحاء العالم الإسلاميّ، مشاركة وحضور جميع أفراد الشعب في القرارات المصيريّة، والحركة على أسس الشريعة الإسلامية هي التي ستُنقذ الأمّة.. وبالطبع، فإنّ الشعوب الإسلامية اليوم، وفي جميع أنحاء العالم الإسلاميّ تشعر بالحاجة إلى هذه الحركة، وفي النهاية ستصل هذه الأحاسيس إلى النتيجة المرجوّة)(1)
وهو يقسم الحرية التي جاء بها الإسلام إلى قسمين، يعبر عنهما بقوله: (إنّ الحريّة المعنويّة بذاك المعنى المتعلّق بالسلوك إلى الله، والقرب من الله، والنّظر إلى الله، وحبّ الله وأمثاله سيكون موضوعاً آخراً في محلّه.. هناك حرّيّة أخرى يمكن عدّها بأحد المعاني حريّة معنويّة وهي التحرّر من مخالب العوامل الدّاخليّة المانعة من عملنا الحرّ في المجتمع، أو مانعة من فكرنا الحرّ في المجتمع، كالخوف من الموت والخوف من الجوع، والخوف من الفقر.. وقد أشير في القرآن إلى هذه المخاوف: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: 44]، ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾ [آل عمران: 175]، وفي خطابه للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: 37]، أو الخوف من سلب الامتيازات، فافرضوا أنّ لنا في هذا الجهاز امتيازاً معيّناً، فإنّنا لو قلنا كلاماً وأعملنا مثل هذه الحريّة وأمرنا بالمعروف فإنّنا نسقط، أو الطّمع الذي يؤدّي إلى أن لا أذكر عيبكم، وأن لا أتعامل معكم بحريّة ـ أنتم أصحاب القدرة والسّلطة ـ لأجل أنّني طامعٌ بكم، أو الحسد أو العصبيّات الخاطئة والتي لا محلّ لها، أو التحجّر، فإنّ هذه كلّها أنواعٌ من الموانع الدّاخليّة، والتي يُعدّ التحرّر منها حريّة معنويّة.. لهذا لدينا اصطلاحان بشأن الحريّة المعنويّة: أحدهما، ذاك الاصطلاح الأوّل الذي هو عبارة عن العروج إلى الله والقرب من الله وحبّ الله وأمثاله.. والآخر هو الحريّة المعنويّة بمعنى التحرّر من القيود والأغلال الدّاخليّة التي تمنعني من الذهاب إلى الجهاد، ومن الذهاب إلى المواجهة، ومن أن أتكلّم بصراحة، ومن أن أعلن مواقفي علانيّةً،
__________
(1) المصدر السابق، ص 33.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (223)
وتجعلني أبتلى بالنّفاق وأكون ذا وجهين.. (فقضية) مواجهة موانع الحريّة قابلة لأن تُطرح للبحث)(1)
ونتيجة لهذه الحريات المعنوية التي جاء بها الإسلام ودعا إليها، فإن أول مظاهرها ـ كما يذكر الإمام الخامنئي ـ التحرر من كل المفاهيم التي أراد الغرب أو غيره فرضها علينا بناء على قناعاته المبنية على الفلسفات المادية، يقول: (النقطة اللاحقة هي أنّنا نريد أن نتعرّف إلى رأي الإسلام، نحن الذين لا نجامل أحداً.. لو أردنا تتبّع الآراء غير الإسلامية ـ كل ما تنضجه أذهاننا وتنشئه ـ فإنّنا سنُبتلى بتلك الاضطرابات التي ابتُلي بها المفكرّون الغربيّون في المجالات المختلفة، سواء أكانت في الفلسفة أم في الأدب والفنّ أم في المسائل الاجتماعيّة، أي بالآراء المتضاربة والمتنوّعة والمتضادّة والتي لا يكون لها في الأغلب استمرار وامتدادٌ عمليّ.. كلاّ، إننا نسعى للتعرّف على رأي الإسلام وموقفه.. فانظروا، إنّنا نصنع لأنفسنا في بحث الحريّة أوّل نطاق، فما هو هذا النّطاق؟ إنّه عبارة عن أننا نريد رأي الإسلام فنحدّ أنفسنا بنظر الإسلام والإطار الإسلامي، هذا هو أوّل نطاق.. ففي بحث الحريّة لا نخشى النّطاق، لأنّه عندما يُقال الحريّة فإنّها في معناها الأوّليّ ـ الذي هو بالحمل الأوّلي الذاتي ـ التحرّر، وأيّ شيء يكون له أدنى منافاة مع هذا التحرّر يصبح ثقيلاً على ذاك الذي يريد أن يبحث بشأن الحريّة، فيسعى نحو الاستثناء، والقاعدة هي عبارة عن التحرّر المطلق.. إنّه يسعى نحو هذا الذي يُعبّر عنه [إلّا ما خرج بالدليل]، فيقول: حسنٌ، في هذه المجالات لا يوجد حريّة، وفي تلك المجالات لا يوجد حريّة، وإذا تجاوزنا هذه المجالات يوجد حريّة.. هذا هو الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه الإنسان في تعامله مع بحث الحريّة.. وأنا أقول إنّ الأمر ليس كذلك، فمنذ البداية لا يوجد فرضيّة مسبقة تريد أن تمنحنا الحريّة المطلقة ـ حيث سأذكر هنا ما هو منشأ الحريّة في الإسلام من
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2012، ص 578.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (224)
الأساس ـ، فليس لدينا منذ البداية مثل هذا الفرض المسبق بأنّ الحريّة المطلقة هي حقّ الإنسان ومرتبطة به وأنّها قيمة له، وهنا ننظر لنرى ما هي هذه الاستثناءات، فأيّ منها تحت عنوان [ما خرج بالدّليل]، كلّا، القضيّة ليست كذلك، إنّنا لا نخشى التحديد والنّطاق، فمثلما قلت إنّ أوّل نطاقٍ وضعناه بشأن أبحاث الحريّة في الإسلام هو أن نقول في الإسلام، أي إنّنا نضع لها منذ البداية إطاراً ونحدّد لها نطاقاً من الخطوة الأولى.. فما هي الحريّة في الإسلام وما هو معناها؟ فمثل هذا صار نطاقاً)(1)
وانطلاقا من هذا قال معقبا على قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]: (إنّ هذه أوضح آية في القرآن حول الحريّة، حيث تضع الإصر.. والإصر هو تلك الحبال التي تُربط بها الخيمة من أجل أن لا تطيح بها الرّياح، وهي التي تُربط بإحكام بالأرض، ولكنّه أخلد إلى الأرض، هذا هو الإخلاد إلى الأرض.. فأواصرنا هي تلك الأمور التي تربطنا بالأرض وتمنعنا من التحليق.. والغلّ هو تلك السلسلة المعدنية التي جاء النبيّ من أجل رفعها.. في هذه الآية، وقبل أن يقول: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]:، يقول: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ﴾ [الأعراف: 157]: فماذا يعني الحلال والحرام؟ الحلال والحرام يعني وضع الحدود والمنع، وهما متلازمان مع الممنوعيّة.. فمن الأساس، لا ينبغي أن نأبى وجود الحدود والمنع في أذهاننا أثناء البحث حول الحريّة)(2)
وبناء على هذا ذكر الاختلاف الجذري بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية، فقال:
__________
(1) المصدر السابق، ص 579.
(2) المصدر السابق، ص 580.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (225)
(الاختلاف الأهم هو أنّ منشأ الحريّة في الليبرالية تحت عنوان الحقّ أو القيمة هو عبارة عن النّزعة الإنسانية، لأنّ محور عالم الوجود والاختيار في عالم الكون هو هذا الإنسان، وذلك لا يكون ذا معنى من دون الاختيار، لهذا يجب أن يكون حاصلاً على الاختيار والحريّة.. هذا هو أساس بحث الحريّة.. وهذا هو مبنى الفكر الإنسانيّ بشأن الحريّة (الهيومانيزم).. أمّا في الإسلام فالقضيّة منفصلة تماماً عن هذا الأمر، ففي الإسلام المبنى الأساسيّ للإنسان هو التوحيد.. والتوحيد ليس منحصراً بالاعتقاد بالله، بل هو عبارة عن الاعتقاد بالله والكفر بالطاغوت والعبودية لله وعدم العبودية لغير الله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 64]، لا يقول ولا نشرك به أحداً، بالطبع، هناك موردٌ جاء فيه كلمة أحدا، لكنّه هنا بمعنىً أعم، حيث يقول لا نشرك به شيئاً؛ فلا نجعل أي شيء شريكاً لله، أي إنّكم إذا اتّبعتم العادات دون دليل فهذا خلاف التوحيد، وإذا اتّبعتم البشر يكون كذلك، وهكذا في مورد الأنظمة الاجتماعية ـ فكل ما لا ينتهي إلى الإرادة الإلهية ـ يكون في الواقع شركاً بالله، والتوحيد هو عبارة عن الإعراض عن هذا الشرك: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: 256]، يوجد الكفر بالطاغوت وبعده الإيمان بالله، حسنٌ، هذا معناه تلك الحرية، فأنتم أحرارٌ من جميع القيود غير العبودية لله)(1)
ثم ذكر مقارنة أخرى طريفة، فقال: (أنا العبد، وقبل سنوات في صلاة الجمعة في طهران، تحدّثت عن بحث الحريّة في عشرة أو خمس عشرة جلسة، وقد أشرت هناك إلى مسألة وقلت: نحن في الإسلام نعتبر أنفسنا عبيداً لله، لكن في بعض الأديان الناس هم أبناء الله.. قلت ذاك مجاملة، إنّهم أبناء الله وعبيدٌ لآلاف البشر، عبيدٌ لآلاف الأشياء والأشخاص! الإسلام لا
__________
(1) المصدر السابق، ص 581.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (226)
يقول هذا، بل يقول كن ابناً لمن تشاء، ولكن كن عبداً لله فقط، لا ينبغي أن تكون عبداً لغير الله؛ فأساس المعارف الإسلامية في مورد الحرية ناظرٌ إلى هذه النقطة)(1)
ثم ذكر مقولة منسوبة للإمام علي يقول فيها: (أوَلا حرٌّ يدع هذه اللُّماظة لأهلها)(2)، وعلق عليها بقوله: (هذه هي الحريّة ـ ألا يوجد حرٌّ يترك هذا المتاع الحقير ـ اللُماظة هي سوائل الأنف أو تلك التي تخرج من فم الحيوان الوضيع، ليتركها لأهلها؟ إلى هنا لا يُفهم شيء.. من الواضح أنّ الحرّ هو الذي يترك هذا الأمر لأهله ولا يسعى نحوه.. فيقول بعد ذلك، (فليس لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها).. من المعلوم أنّهم يريدون أن يجعلوا لتلك اللماظة قيمة وثمناً، أي إنّهم كانوا يقدّمون تلك اللُماظة ليبادلوا بها أنفسهم ووجودهم وهويّتهم وشخصيّتهم، فالقضيّة أنّ هناك معاملة تجري وهو ينهى عنها؛ فإذا أردتم أن تقوموا بهذه المعاملة فلماذا تبيعون أنفسكم لقاء هذه اللُماظة؟ بل اجعلوا ذلك فقط مقابل الجنّة والعبودية لله)(3)
ثم ذكر مباحث مهمة ترتبط بمفهوم الحرية في الإسلام، أهمها علاقته بمفهوم الحق، وقد عبر عن ذلك بقوله: (الحقّ في الاصطلاح القرآني ـ والذي لعلّه تكرّر في القرآن كمصطلح الحقّ أو عبارة الحقّ أكثر من مئتي مرّة ـ وهو أمرٌ عجيبٌ جدّاً.. والحقّ في القرآن له معنىً عميق ووسيع، حيث إنّه يمكن بشكل مختصر ومجمل التعبير عنه بكلمتين بمعنى سطحيّ وبمعنى جهاز منظّم وهادف.. فالله تعالى في آيات عديدة من القرآن يقول إنّ كل عالم الوجود قد خُلق على أساس الحقّ: ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الدخان: 39].. أي إنّ نظام أو جهاز عالم الوجود وجهاز الخلقة ـ من جملتها وجود الإنسان الطبيعي بمعزلٍ عن قضية الاختيار والإرادة في
__________
(1) المصدر السابق، ص 582.
(2) نهج البلاغة، ج 4، ص 105.
(3) خطابات الإمام الخامنئي 2012، ص 582.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (227)
الإنسان ـ هو جهازٌ مصنوعٌ ومُعدّ، ومترابط ومتّصل ببعضه بعضاً، وله نظامٌ وهدف، فيما بعد يبيّن هذه المسألة نفسها بشأن التشريع.. حيث يقول: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [البقرة: 176] ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [الشورى: 17].. فهذا الحقّ وذاك الحقّ، هذا في عالم التكوين وذاك في عالم التشريع.. ويعني ذلك أنّ عالم التشريع متطابق مئة بالمئة مع عالم التكوين بحسب الحكمة الإلهيّة.. ويمكن لإرادة الإنسان أن تخرّب بعض زواياه، لأنّه متطابق مع عالم التكوين، والجهة هي جهة الحقّ ـ أي إنّ كلّ ما ينبغي أن يكون، تقتضيه الحكمة الإلهية ـ لهذا، فإنّ تلك الحركة العامّة والكلّية ستتغلّب في النهاية على جميع هذه الأعمال الجزئية التي تتعدّى هذا الطريق وتتخلّى عنه وتنحرف.. لكن، من الممكن أن تحصل أنواعٌ من المخالفات، هذا هو عالم التكوين وهذا هو عالم التشريع.. ومن موادّ هذا العالم إرادة الإنسان، ومن موادّ هذا التشريع حريّة الإنسان، فهذا هو الحقّ إذاً.. وبهذه النّظرة نتطلّع إلى قضية الحريّة وهي حريّة الحقّ مقابل الباطل)(1)
ومنها ارتباطه بمفهوم التكليف، يقول: (ينبغي أن ننظر إلى الحرّية من منظار تكليفٍ ما؛ فليس من الصحيح أن نقول: حسنٌ جداً إنّ الحريّة أمرٌ جيّد لكنّني لا أريد هذا الشيء الجيّد، كلّا، لا يصحّ ذلك، يجب على الإنسان أن يسعى إلى الحرّيّة، سواء أكانت حريّته أو حرّيّة الآخرين؛ فلا ينبغي أن يسمح لأحدٍ أن يبقى في الاستضعاف والمذلّة والمحكوميّة.. يقول أمير المؤمنين: (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً)، ويقول القرآن أيضاً: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75]، أي إنّكم
__________
(1) المصدر السابق، ص 583.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (228)
مكلّفون بتحقيق حريّة الآخرين ولو بالقتال)(1)
وهي من القيم الكبرى، وقد ذكرناها هنا بدلا عن ذكرها في القيم السياسية، بناء على كونها قيمة شاملة لا تختص بالسياسة فقط، وإنما تشمل كل الجوانب، ابتداء من السلوك والحياة الشخصية، ولهذا أمر الله تعالى بالعدل الأسري، فقال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: 3]
وبناء على هذا؛ فإن مفهوم العدالة ـ مثل سائر القيم ـ عند قادة الثورة الإسلامية الإيرانية وتطبيقها مرتبط بمدى الارتباط بالإسلام المحمدي الأصيل، وهو شامل لجميع القضايا والأحكام.
ولهذا نجدهم في كل المحال يذكّرون بالعدل، وبضرورة تنفيذه بحسب ما يتطلبه كل واقع أو وظيفة، ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني في خطاب وجهه لقوى الأمن الداخلي: (أرجو الله أن يوفق جميع شرائح الشعب خصوصاً قوى الأمن الداخلي وفي مقدمتهم الشرطة لمدينة يزد، وأدعوه أن يعينكم على النهوض بالمسؤولية الملقاة على عاتقكم.. في الأمس كانت قوى الأمن بخدمة الطاغوت، واليوم هي في خدمة الإسلام؛ فوظيفتكم اليوم غير ما كانت بالأمس، إنها مسؤولية ثقيلة.. أنتم شرطة الجمهورية الإسلامية، أي: شرطة الإسلام وإمام العصر والزمان.. ما يجب أن تفعله شرطة إمام الزمان يختلف عما كان يقوم به جيش الطاغوت بالأمس، كما هو الفرق بين إمام الزمان وبين الطاغوت.. فتلك حكومة الجور والظلم وهذه حكومة العدل، تلك حكومة الطاغوت وهذه حكومة الله)(2)
__________
(1) المصدر السابق، ص 584.
(2) صحيفة الإمام، ج 11، ص: 369.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (229)
ثم قال العبارة التي تختصر مفهوم العدل عنده وعند قادة الثورة الإسلامية الإيرانية: (في الإسلام حكومة واحدة هي حكومة الله، وقانون واحد هو قانون الله، والجميع مكّلفون بالعمل به، ويجب أن لا يتنصّل عنه أحد.. إنه قانون العدل، إنه مجتمع العدل، المجتمع الذي تطبق فيه العدالة)(1)
ثم ذكر لهم بعض المفاهيم الخاطئة التي يطرحها المتأثرون بالثقافة الشيوعية خصوصا، فقال: (ربما تصدر من بعض المنحرفين من الشرطة أو من مسؤولي الجيش أو قوات الدرك أخطاء تؤثر في سلوك الشباب.. يقولون لهم مثلًا: لقد ولّى عهد الطاغوت ونحن الآن نعيش زمن الثورة الإسلامية فلا معنى لوجود التسلسل في الرتب داخل صفوف الجيش وقوى الأمن، فالضابط والجندي على حد سواء في المجتمع الموحّد.. إنها شبهة، فهم لا يريدون الإسلام كما يجب أن يتحقق، لقد ألقوا هذه الشبهات في أذهان الشباب، فانساقوا وراءها لعدم تثبتهم بالأمور)(2)
ثم بين لهم خطر هذا الفهم، وعلاقته بالفوضى، فقال: (المجتمع الموحّد الذي يقصدونه يعني مجتمع الفوضى.. فمثلًا في مركز الشرطة، إذا كان القرار أن لا يخضع أفراد الشرطة لرئيسهم، أي كلٌ يعمل وحده بحجّة أن المجتمع موحّد، لا رئيس فيه ولا مرؤوس، والجميع في رتبة لواء أو الجميع جنود لا فرق.. تصوّر إذا كان كل أفراد الجيش أو مركز الشرطة رؤساء، فهل يستمر هذا المركز في عمله؟ وإذا أصبح الجميع جنوداً وحرّاساً ولا أثر لمن يخطّط ويعطي الأوامر كيف يمكن أن تبقى لهذا المركز باقية، وكذلك الجيش؟.. إذا أصبح الجميع جنوداً في المجتمع الموحّد بالفهم الخاطئ الذي ألقوه في الأذهان، الجميع برتبة رائد أو لواء هل يكون
__________
(1) المصدر السابق، ج 11، ص: 369.
(2) المصدر السابق، ج 11، ص: 370.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (230)
هذا جيشاً لدولة أو فوضى؟ أساس الجيش وقوات الدرك والدولة النظام، والنظام في العالم كلّه وليس هنا فقط، فمنذ اليوم الأول الذي تبلور فيه مفهوم النظام، قامت الأمور على سلسلة المراتب)(1)
ثم بين لهم المفهوم الحقيقي للعدل في الحكومة الإسلامية، فقال: (الفرق بين الحكومة الإسلامية وغيرها أن لا يكون هناك ظلم من الذين هم في المرتبة المعينة على من هم دونهم رتبة.. وليس أن لا تصدر الأوامر، بل يجب أن تكون هناك طاعة، نعم يجب أن لا يكون هناك ظلم.. في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان الجميع يطيعون الرسول، إذ كان يأمر والجميع يطيع، وهكذا مالك الأشتر كان آمراً والآخرون مكلفون بإطاعته، وإنما لم يصدر عنه ظلم لأحد)(2).
ثم بين لهم المعنى الحقيقي للمجتمع الموحّد، فقال: (المجتمع الموحّد هو المجتمع الذي تتوحّد فيه الكلمة، كأنه موجود واحد في الوقت الذي يحتفظ فيه بسلسلة المراتب، فقوى الأمن الداخلي، والبلدية، والجيش، والشرطة، وسائر شرائح الحكومة، والشعب، ورئيس الجمهورية، وما دونه، جميعهم هدف واحد هو هدف إلهي مع الاحتفاظ بمراتبهم، أشبه والمجتمع الموحّد أشبه شيء بجسم الإنسان، فالإنسان مجتمع موحّد، فالعين والأذن واليد ففي الوقت الذي يستقل كلّ منها بعمله يخضع لآمر واحد.. فالمخ يأمر واليد تطيع، والجميع يتجه نحو صوب واحد.. الجميع من أجل إدارة هذه الدولة الصغيرة التي هي الإنسان، الجميع ينتظرون الأمر من فوقهم ليطيعوا، وهذا مجتمع موحّد.. وحين جئنا بالإنسان مثالًا أثبتنا أن الفرد هو مجتمع موحّد أي: أنّ قواه المختلفة تنساق لآمر واحد.. هذه الأعضاء المختلفة والقوى المختلفة الباطنة والظاهرة، اليد والقدم والرأس والقلب تعمل بأوامر المخ أو الروح.. الكل
__________
(1) المصدر السابق، ج 11، ص: 370.
(2) المصدر السابق، ج 11، ص: 370.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (231)
باتجاه هدف واحد، لحفظ الذات والهوية الشخصية والمنافع)(1)
ثم طبق لهم هذا المثال على الدولة، فقال: (هذا هو معنى المجتمع الموحّد فيه الرئيس والمرؤوس، ففي الوقت الذي يكون فيه رئيس الجمهورية يكون فيه مجلس الشورى وناس عوامّ ولواء ورئيس لأركان الجيش، والكل يجب أن يتسلّموا أوامرهم مِنْ مسؤوليهم حسب النظام المعمول به.. وفي الوقت نفسه يعمل الجميع كالبدن الواحد الجميع لأجل هدف واحد، لا أن يميل الجيش لصوب معيّن وقوات الدرك لصوب آخر.. ففي بلد واحد إذا شاء الجيش أن يميل لصوب ما وقوى الأمن لصوب آخر وقوات الدرك لصوب غيرهما يقع الاختلاف فيه لا محالة.. يجب أن يكون الجميع معاً هدفهم واحد وهو حفظ بلادهم، فالهدف هو حفظ البلاد)(2)
ثم ذكر لهم خطر تلك الأفكار المطروحة، وهي نفس الأفكار التي استغلت في الحرب الناعمة، فقال: (إن المجتمع الموحّد الذي يفهمه هؤلاء المنحرفون يعني المجتمع الحيواني.. خارج دائرة الحيوان لا وجود للمجتمع الموحّد.. حتى الحيوانات ليست هكذا جميعها، بعضها متحضّر كالنمل والنحل، لهم نوع من التحضّر، فهم منقسمون على رئيس ومرؤوس.. أمّا الحيوانات التي يهبط فيها الإدراك عن القسم الأول.. هل لها مجتمع موحد.. الحمير مثلًا لا يمتاز أحدها عن الآخر، وهكذا البقر فلا رئيس ولا مرؤوس، فهل يريد هؤلاء مجتمعاً كهذا؟ مجتمعاً موحّداً لا مراتب فيه، ولا تفاضل، الجميع مثلًا كسبة فاذا لم يكونوا كسبة، فليس المجتمع موحّداً! إذا كان هذا هو معنى المجتمع الموحد فهذا لم يحصل إلا حين كان البشر متوحشاً، في ذلك الزمن كلٌ يقتطف شيئاً يأكله، أما حين تحضّر البشر فقد جُعلت المراتب
__________
(1) المصدر السابق، ج 11، ص: 371.
(2) المصدر السابق، ج 11، ص: 371.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (232)
لضرورتها في المجتمع المتحضر الذي يقتضي أن يكون أحدهم مثلًا طبيباً، والآخر مهندساً، وغيره رائداً، وهكذا، وهذا أمر لا بدّ منه، وإذا أردنا أن نحذفه وننشئ مجتمعاً موحّداً، فهذا هو التوحش بعينه)(1)
ثم بين لهم خطورة هذه المفاهيم التي تنحرف بمفهوم العدالة عن معناه الصحيح، فقال: (هؤلاء الذين يُلقون في أذهان شبابنا هذا الأمر إنما يهدفون لإظهارنا للعالم كمجتمعٍ حيواني، لكي يبيّنوا أننا لا نستطيع أن نحكم أنفسنا، فالذي لا يريد حكومة تسود يريد الفوضى، أي: يريد مجتمعاً حيوانياً، إذن مثل هؤلاء الناس بحاجة إلى أسياد يقودونهم.. هؤلاء يخطّطون ليُقدم شبابنا في الجيش على الفوضى، كذلك في مراكز قوات الدرك وفي الحرس الثوري وفي قوى الأمن الداخلي، فإذا انساقت قوى الأمن الداخلي وهي العمود الفقري للمجتمع، خلف الفوضى، واجهنا نظاماً مضطرباً بحاجة إلى قيّم، وفي بلد لا نظم فيه لا طاعة ولا انقياد فيه، كل يعمل لنفسه عاقبته أن ينخر من الداخل ويتهاوى)(2)
وفي أثناء خطابه حذر بشدة من هذه المفاهيم الخاطئة، وبين أنها قد تستثمر في إسقاط النظام، وملء البلد بالفوضى، وكأنه بذلك يصف بدقة ما وقع في الحرب الناعمة، مع العلم أنه ألقى خطابه في 8 صفر 1400 هـ أي قبل أكثر من أربعين سنة من الآن، وقبل ثلاثين سنة من الحرب الناعمة التي وقعت في الدول العربية، وكان يراد جر إيران إليها، لولا حكمة قادتها، وبثهم الوعي في الشعب قبل حصولها..
ومن أقواله في ذلك: (انتبهوا لما أقوله، فلربما لا يمهلني القدر أكثر مما عمرت، إن هذا المخطط الذي وضعه المغرضون لخداع شبابنا هو لغرض أن تفرض أمريكا هيمنتها علينا، إنّ
__________
(1) المصدر السابق، ج 11، ص: 371.
(2) المصدر السابق، ج 11، ص: 371.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (233)
وسائل الإعلام الأمريكية والغربية، جميعهم أعداء لكم، هذه الوسائل بدأت تنشر صورة مشوهة لإيران، بأنه بلد لا نظم فيه، فسلسلة المراتب انعدمت، والناس يفترس بعضهم بعضاً كالحيوانات، الاختلاف يدب بينهم، فيسيء كلّ منهم لغيره، ولا يحترم أحدهم الآخر، إنهم بحاجة إلى قيّم، وبذلك يحكم العالم بحاجة إيران إلى قيّم، وتصيح الدنيا أجمع أن التمسوا لإيران قيّماً! فيمهّدون بهذا الإعلام الطريق لتنصيب قيّم كمحمد رضا، وكرضا خان على رؤوسنا.. إن خصمنا ليس بالخصم السهل، فلديه خبراء يدرسون شؤون البلدان، ويضعون لكل بلد برنامج عمل معيناً، وهم يبحثون الآن كيف يهدمون ثورتنا التي لقنتهم درساً، فخططوا لضرب جيشنا بالجيش نفسه، وضرب قوى الأمن الداخلي بعضها ببعض، بقوات الدرك يحاربون قوات الدرك، وبعلماء الدين يحاربون علماء الدين، يوجّهون ضربة للدين بأهل الدين.. إنه مخطط أيها السادة! ليس الأمر كما تفكرون، كل شيء قد خططوا له)(1)
وقال في خطاب آخر بمناسبة إحياء ذكرى الإمام المهدي، يذكر فيه مفهوم العدالة الشاملة في الإسلام: (كم هو عظيم هذا اليوم الذي ولد فيه باني العدالة العالمية، ومفسر بعثة الأنبياء عليهم السلام الذي سيطهر الأرض من ظلم الظالمين والمحتالين وسيملؤها عدلًا وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وسيقضي على المستكبرين في الأرض وسيجعل المظلومين ورثتها.. وكم هو مسعود ومبارك ذلك اليوم الذي سيزول فيه الظلّام ومشعلو نار الفتن من على وجه الأرض وتقوم مكانهم حكومة العدل الإلهي التي ستنتشر إلى جميع البقاع، وسيرفرف لواؤها فوق البسيطة، وسيبسط قانون العدل الإسلامي ظله ورحمته فوق رؤوس البرية، وستتهدم عروش الظلم والفسق، وستتحقق الغاية من بعثة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء الصالحين عليهم السلام، وستهبط بركات السماء على الأرض، وستتحطم أقلام
__________
(1) المصدر السابق، ج 11، ص: 372.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (234)
العار وستتقطع ألسنة النفاق، وسيشع شعاع الحق على العالم وسيفر الشياطين وأعوانهم إلى بحور العتمة، وتلك المنظمات الكاذبة التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، ستذهب إلى غير رجعة، ورجاؤنا أن يعجّل الله سبحانه وتعالى بقدوم ذلك اليوم الميمون والمبارك، الذي ستشع فيه شمس الهداية والإمامة)(1)
ثم بين الواجبات المرتبطة بالانتظار الحقيقي، فقال: (علينا نحن الذين ننتظر ذلك اليوم، أن نسعى لإحقاق الحق وأن نجعل قانون العدل الإلهي هو القانون الذي يحكم هذه البلاد، وأن نحذر من النفاق والمنافقين، ويكون اهتمامنا منصبّاً على جلب رضا الله سبحانه وتعالى، في سعينا للعيش كإخوة تحت قانون العدل والمساواة والسير بثورتنا الإسلامية إلى الأمام، ويجب أن نعلم أن الله يرى أعمالنا ويراقبنا، ولهذا يجب أن لا نتخلى عن القوانين الإسلامية، وأن لا نعير لوساوس الشيطان وأصحاب الفتن أي أهمية)(2)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يؤكد الكثير من المفاهيم المرتبطة بالعدالة الشاملة، ويصحح التصورات الخاطئة المرتبطة بها، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في محاضرة مهمة له ألقاها في الملتقى الثاني للأفكار الاستراتيجية، سنة 2011.
ومما جاء فيها قوله في بيان شمولية العدالة التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام مقارنة بالعدالة التي ذكرها الفلاسفة والحكماء: (العدالة كانت همّاً دائماً للبشر عبر التاريخ، ونتيجة الشعور بالحاجة إلى العدالة التي عمت جميع الناس على مرّ التاريخ وإلى يومنا هذا، دخل مفكّرو البشرية والفلاسفة والحكماء في هذه المقولة وأضحت مورد اهتمامهم، لهذا تمّ البحث بشأن العدالة والعدالة الاجتماعية من الأزمنة القديمة وإلى يومنا هذا بهذا المعنى العام، وقُدّمت
__________
(1) المصدر السابق، ج 14، ص: 370.
(2) المصدر السابق، ج 14، ص: 371.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (235)
النظريات، لكنّ دور الأديان كان دوراً استثنائياً، أي أنّ ما ذكرته الأديان عبر الأزمنة حول العدالة وأرادته واهتمّت به كان منقطع النظير واستثنائياً، ومثل هذا الاهتمام الذي أولته الأديان لا نشاهده في آراء الحكماء والعلماء)(1)
ثم ذكر لهم القيمة العظيمة التي تحتلها العدالة في الدين الإلهي، وأنها ليست مجرد مطلب من المطالب البسيطة، بل هي غاية من الغايات الكبرى، فقال: (الميزة الأولى أنّ الأديان جعلت العدالة هدفها بشهادة القرآن ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]، من المؤكّد أنّ هذه الآية تحكم بأنّ هدف إرسال الرسل وإنزال الكتب ومجيء البيّنات ـ أي الحجج المتقنة التي لا تقبل الشكّ ممّا عرضه الأنبياء؛ والكتاب يعني منشور الأديان بما يتعلّق بالمعارف والأحكام والأخلاقيات؛ والميزان يعني ما يحدّد وضع المعايير ـ هو القيام بالقسط؛ ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾، وبالطبع، لا شكّ بأنّ القيام بالقسط وكلّ ما يتعلّق بالحياة الدنيوية والاجتماعية والفردية للنّاس، هو مقدّمة لذاك الهدف المتعلّق بالخلق ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون﴾، أي العبودية، في الأساس هدف الخلقة صيرورة الإنسان عبداً لله، حيث إنّ هذه العبودية نفسها تُعدّ أعلى الكمالات، إلاّ أنّه للوصول إلى ذاك الهدف، الذي هو هدف النبوّات وإرسال الرّسل، ومن جملتها ذاك الشيء الذي تصرّح به هذه الآية، بالطبع، هناك بيانات أخرى أيضاً في آيات القرآن تشير إلى بقية أهداف إرسال الرسل، حيث يمكن جمعها معاً، فإذاً، أضحى الهدف هو العدالة؛ هدف بناء النظام؛ هدف الحضارات وغاية حراك البشر في المحيط الاجتماعي هو العدالة، ومثل هذا لا يوجد في أي مذهبٍ آخر؛ فهو من مختصّات الأديان)(2)
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2011، ص 149.
(2) المصدر السابق، ص 151.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (236)
ثم ذكر لهم تاريخ الأنبياء عليهم السلام وارتباطه بالعدالة والوقوف مع المظلومين والمستضعفين، فقال: (الأنبياء كانوا على مرّ التاريخ إلى جانب المظلومين؛ فقد جاهدوا عملياً من أجل العدالة، لاحِظوا؛ لقد صرّح القرآن الكريم أنّ الأنبياء يواجهون الطواغيت والمترفين والملأ؛ حيث إنّ هؤلاء جميعاً من الطبقات الظالمة؛ فالمترفون يقفون مقابل الأنبياء، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ: 34]، فما نجد من نبيٍّ إلا وكان في مقابله مُترَفون، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يُحاربهم، وهكذا كان حال الممسكين بالقدرة وأصحاب السلطة، والطاغوت له معنى يشمل جميع هؤلاء، لهذا فإنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا دائماً إلى جانب المظلوم في الصراع بين الظالم والمظلوم؛ فكانوا ينزلون إلى الميدان من أجل العدالة ويُحاربون)(1)
ثم ذكر فرقا أساسيا ومهما بين الأنبياء عليهم السلام وسائر المتحدثين عن العدالة في هذا، فقال: (لقد تحدّث الحكماء عن العدالة، ولكنّهم في أوقات كثيرة كانوا مثل كثير من المفكّرين المختلفين الذين يكتفون بالكلام ولكنّهم لا ينزلون إلى الميدان عندما يحين دور العمل)(2)
ثم ذكر أن الفرق بين أتباع الأنبياء عليهم السلام الصادقين وغيرهم مرتبط بمواقفهم وجهودهم في تحقيق العدالة، لا مجرد التنظير لها، فقال: (وقد شاهدنا مثل هذا في مرحلة المواجهة [ضد الشاه] وأيضا شاهدناه بعد ذلك في مرحلة الدفاع المقدّس، وهذا ما نشاهده تقريباً اليوم أيضاً، لم يكن الأنبياء هكذا، بل كانوا ينزلون إلى الميدان ويُعرّضون أنفسهم للخطر، حتى أنّه في الوقت الذي كانوا يقولون لهم لماذا تقفون إلى جانب الطبقات المظلومة، انفَصِلُوا
__________
(1) المصدر السابق، ص 151.
(2) المصدر السابق، ص 151.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (237)
عنهم؛ كان الأنبياء عليهم السلام يواجهونهم، فالآية الشريفة، ﴿وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ [هود: 31] تتحدّث عن جواب النبي نوح عليه السلام لمعارضيه هي في هذا المجال أيضاً، لذا، فأولئك الذين كانوا محرومين من العدالة كانوا أوّل من يُؤمن بالأنبياء أيضاً)(1)
ومن المميزات المهمة التي تميز العدالة التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام عن غيرهم، كما يذكر الإمام الخامنئي هي ذلك الأمل الذي يبثونه في النفوس بانتصار العدالة على كل ظلم وجور، يقول: (جميع الأديان تتّفق على أنّ نهاية هذه الحركة التاريخية العظيمة هي نهاية مليئة بالأمل بالعدل، إنّها تقول بشكل قاطع إنّه سيأتي عصرٌ يكون عصر العدل وهو عصر استقرار الدين الكامل، وقد جاء في الدعاء الذي يُقرأ بعد زيارة آل ياسين، (يَملأ اللهُ بِهِ الأَرضَ قِسطَاً وَعَدلاً كَمَا مُلِئَت ظُلمَاً وَجَورَاً).. فجميع الأنبياء وكلّ الأديان وجميع النبوّات أشارت إلى هذه النهاية وأكّدت عليها وأصرّت وقالت إنّها في طور السير إلى تلك النهاية، لهذا فإنّه في المبدأ وفي المسير وفي المنتهى، كان استناد النبوّات إلى العدل)(2)
ثم ذكر مدى استمداد الثورة الإسلامية الإيرانية من العدالة التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام، لأنها قامت أساسا لتحقيق أحلامهم، وإحياء منهجهم، فقال: (العدالة في ثورتنا الإسلامية التي كانت حركة دينية كانت بشكل طبيعي في موقع ممتاز، والآن هي كذلك، وهذه الموقعية المميّزة مشهودة في الشعارات الشعبية، وفي الدستور، وفي كلمات الإمام الراحل قدس سره، وفي الخطابات المقطعية، وفي الأزمنة المختلفة، وفي المواقف المختلفة التي أعلنتها الجمهورية الإسلامية)(3)
__________
(1) المصدر السابق، ص 152.
(2) المصدر السابق، ص 153.
(3) المصدر السابق، ص 153.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (238)
ثم ضرب مثالا مهما على ذلك، فقال: (لنفترض في زمن الدفاع المقدّس [الحرب المفروضة]، فقد كانوا يضغطون ويطرحون شعار الصلح من أجل إخراج الجمهورية الإسلامية من الميدان، هناك طرحت الجمهورية الإسلامية شعار الصلح العادل، حسناً، إنّ الصلح ليس قيمة مطلقة، هو قيمة نسبية، ففي بعض الأماكن يكون الصلح جيداً، وفي أماكن أخرى يكون سيئاً والحرب جيّدة، لكن العدالة ليست كذلك، فالعدالة قيمة مطلقة، أي إنّه لا مكان لدينا تكون العدالة فيه سيّئة، هكذا كانت الوضعية في الجمهورية الإسلامية، فقد كانت [العدالة] على رأس اهتمامات النظام منذ بدايات الثورة)(1)
ثم بين أن قادة الثورة الإسلامية الإيرانية لا يزعمون أنهم حققوا العدالة بمفهومها الحقيقي الشامل، ولكنهم يسعون لذلك، وفي كل المجالات، فقال: (في الجانب الإجرائي للعدالة، فإنّه ـ إنصافاً ـ أُنجز الكثير من الأعمال، لكنها غير مُرضِية، بعض الأصدقاء قدّموا معطيات وأرقاماً مهمّة في توصيف الإنجازات؛ ولعلّ معلوماتي أكثر في مجال الأعمال التي أُنجزت، أنا أعلم أنّه قد أُنجز الكثير من الأعمال منذ بداية الثورة، لكنها ليست مرضية مطلقاً، ما نحتاج إليه ونسعى نحوه هو العدالة بحدّها الأكثري لا مجرّد حد مقبول؛ كلا، نحن نسعى نحو العدالة في حدّها الأكثري، نريد أن لا يكون هناك أي ظلم في المجتمع، وللوصول إلى هذه المرحلة توجد مسافة طويلة، لهذا يجب السعي من أجل ذلك)(2)
ثم بين سبب الاهتمام بالعدالة، والحديث عنها في كل المحال، فقال: (إنّنا نريد أن تكون مقولة العدالة حيّة دائماً وحاضرة في الساحة، بين النخب والمسؤولين والناس وخصوصاً الأجيال الجديدة حيث يجب أن يكون عنوان العدالة وقضية العدالة مطروحة بعنوان قضية
__________
(1) المصدر السابق، ص 153.
(2) المصدر السابق، ص 153.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (239)
أساسية بشكل دائم.. والأمر الآخر هو أنه إذا أردنا أن نقلّل المسافة بين ما هو ضروري وواجب من العدالة وبين الوضع الحالي ـ الوضع الذي نحن عليه الآن ـ يجب أن نتوصّل إلى أساليب وطرق عمل جديدة ومؤثّرة، يجب أن نعلم ما هي الأساليب التي نطبق فيها العدالة؛ أي أن نتجاوز مرحلة التجربة والخطأ، فعلى مدى هذه السنوات الثلاثين كان عملنا في الكثير من الموارد عبارة عن التجربة والخطأ، سواء في العقد الأول مع ما كان فيه من توجّه حيث أشار الأصدقاء إلى ذلك وما بعده، في النقطة المقابلة، في العقد الثاني وأثناءه حيث شاهدنا أساليب ومناهج مختلفة، لم يعد من الصلاح أن نعمل بهذه الطريقة، يجب أن نجلس ونكتشف الأساليب المتقنة والمبنية على الحدود المتقنة ونشخّصها ونستقر عليها ونتحرّك)(1)
ثم دعا إلى الاهتمام بالتنسيق بين التطور الحاصل والعدالة الشاملة، فقال: (البلد يتطور اليوم بقفزات متسارعة [النمو الطفري]؛ فهذه واقعية، لحسن الحظ، حركة البلد نحو التطوّر بالمعنى العام هي حركة سريعة، فلا يمكن أبداً مقارنة اليوم مع ما كان قبل عشرين سنة، إنّنا اليوم نتحرّك نحو التطوّر بشكل قفزي، وفي هذا الوضع الذي تكون فيه التحرّكات نوعية (طفرة) تكون هناك حاجة إلى اتخاذ قرارات كبرى، يجب اتّخاذ القرارات الكبرى، حسناً، لو أنّ عنصر العدالة بقي مغفولاً عنه في هذه القرارات الكبرى، فإنّ الأضرار والخسائر التي ستحدث لن تحصى، لهذا، اليوم خصوصاً، يجب أن يكون هناك مزيد من التوجّه إلى العدالة، وبالأخص تشخيص العلاقة بين التقدّم والعدالة.. أُشير إلى استحداث مركزٍ لأجل متابعة قضية أنموذج التقدّم المرتقب وقد أُنجزت مقدّماته؛ وإن شاء الله يجري العمل بجدّية)(2)
ثم دعا إلى المزيد من الاهتمام بالفقه التأصيلي للعدالة، والمستمد من المصادر الأصلية،
__________
(1) المصدر السابق، ص 154.
(2) المصدر السابق، ص 154.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (240)
لاستخراج النظرية الإسلامية الواقعية في باب العدالة، فقال: (ما نريد أن نصل إليه في المرحلة النظرية هو النظرية الإسلامية في باب العدالة، بالطبع، ينبغي أن يكون ذلك برؤية تجديدية ابتكارية تُراجَع فيها المصادر الإسلامية وتُستخرج من متن المصادر الإسلامية، في أُطُرها العلمية والفنية.. إنّنا نمتلك المناهج والأساليب العلمية والمجرّبة والمحسوبة بدقّة للاستنباط، يجب أن نستفيد منها، لهذا في المرحلة النظرية والتنظير يجب أن نتوجّه إلى المصادر الإسلامية ونحصل على النظرية الأصيلة في باب العدالة من المتون الإسلامية)(1)
ثم دعا إلى التركيز على الأصالة عند البحث في نظرية العدالة الإسلامية، حتى لا تشوه بخلطها بغيرها من النظريات، فقال: (لا نريد أن نستخرج نظرية أو أن نُنتجها من خلال التجميع والتركيب من النظريات المختلفة للمفكّرين والحكماء الذين تحدثوا في هذا المجال، إننا في هذه القضية يجب أن نحترز تماماً من الالتقاط، ففي موارد متعدّدة وقعنا في الخطأ، ودون أن نريد ذلك، زلّت أقدامنا في مستنقع الالتقاط.. يجب علينا في الحقيقة أن نبحث في المصادر الإسلامية، وهذه المصادر كثيرة جداً.. في القرآن والحديث ونهج البلاغة والمدوّنات الفقهية والكلامية والحكمية توجد أبحاث كثيرة، يمكنها جميعاً أن تُمثّل مصدراً مفيداً لاكتشاف النظرية الإسلامية الأصيلة)(2)
ثم بين أنه لا مانع عند تحقق الأصالة من الاستنارة والاستفادة بالآراء الأخرى، فقال: (إنّ التعرّف إلى آراء الآخرين ـ مثل كل الموارد الأخرى ـ يمكنه أن يساعدنا في فهم المتون الإسلامية، وهذا الأمر واردٌ في جميع المجالات وفي الأبحاث الحقوقية والفقهية أيضاً، عندما نتعرّف إلى رأيٍ أجنبي ويتّسع ذهننا بطريقة صحيحة، فإنّنا سنستفيد بشكل أفضل وأكمل من
__________
(1) المصدر السابق، ص 154.
(2) المصدر السابق، ص 154.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (241)
مصادرنا الإسلامية؛ والأمر هنا كذلك، لكن ينبغي أن نكون جادّين للوصول إلى النظرية الإسلامية الأصيلة وأن نحترز من الالتقاط، وبالطبع من البديهي أن سبب قولنا إن النظرية الإسلامية ينبغي أن تكون خالصة وأصيلة هو أنّ قضية العدالة مبنية على أسس ومباني معرفة الوجود وعلم المعرفة والأركان الأساس؛ وإذا أردنا أن نعتمد على النظريات الغربية والتي هم عمدتها فإننا نكون في الواقع قد اعتمدنا على المباني الفلسفية التي لا نقبلها وهي الآراء المتعلقة بمعرفة الوجود)(1)
ثم ذكر المجالات التي يمكن الاستفادة فيها نتيجة الانفتاح على الآخر، فقال: (بعد وصولنا إلى نظرية مُتقنة ومستجمعة في باب العدالة، تظهر الحاجة من جديد لاكتشاف أساليب إجرائية وتنفيذية في المجتمع، من خلال الأبحاث التطبيقية، وهو ما يستتبع بذاته أبحاثاً كثيرة، وهناك يمكننا أن نستفيد من تجارب البشر)(2)
ثم ضرب لهم مثالا على ذلك، فقال: (لنفرض في مجال القطاع المصرفي أو أي مجال آخر في القضايا الاقتصادية، أو في الأبحاث الاجتماعية بشكل آخر، أو في الأبحاث القضائية بنحو مختلف، تجربة خاضها شعبٌ ما وبقي عليها مدّة من الزمن وآثارها أيضاً أصبحت واضحة، فهنا يمكننا أن نستفيد منها، لا إشكال في ذلك، لهذا، ينبغي الاستفادة من تجارب الآخرين)(3)
وفي الأخير دعا إلى الاهتمام بالعدالة في جانبها السلوكي الشخصي، فقال: (في القرآن تكرّر ظلم النفس في آيات عديدة، حسناً، الظلم هو النقطة المقابلة للعدل، في دعاء كميل نقرأ: (ظَلَمتُ نَفسِي)، وفي المناجاة الشعبانية الشريفة نقول: (قَد جُرتُ عَلَى نَفسِي بِالنَظَر لَهَا، فَلَهَا الوَيلُ إِن لَم تَغفِر لَهَا)، الذنوب والزلاّت والسعي وراء الشهوات واتّباع الأهواء والابتعاد عن
__________
(1) المصدر السابق، ص 155.
(2) المصدر السابق، ص 156.
(3) المصدر السابق، ص 156.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (242)
الذكر والخشوع لربّ العالمين هو ظلمٌ للنفس، وهذا يُعدّ ميداناً مهمّاً، عندما نقوم بالبحث في باب العدالة ـ في العلاقات الاجتماعية وفي تشكيل النظام الاجتماعي ـ لا يُمكننا أن نُغفِل العدالة مع النفس، فلا ينبغي أن نَظلِم أنفسنا، بل أن نكون عادلين مع أنفسنا، والنقطة المقابلة لـ (قَد جُرتُ عَلَى نَفسِي) هي هذا العدل، فلا نجور بل نَعدِل)(1)
هذه بعض النماذج عن أحاديث قادة الثورة الإسلامية الإيرانية عن العدالة الشاملة، وتصوراتها النظرية والعملية وحولها، مع العلم أنا ذكرنا بعض التفاصيل المرتبطة بها، وخاصة في قوانين الجمهورية الإسلامية الإيرانية في كتاب [إيران نظام وقيم]
وهي من القيم الكبرى التي دعا إليها الإسلام، بل أوجب الجهاد لتحقيقها، كما قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75]، وقال: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]
وهي أيضا من القيم التي كانت سببا في تأجيج صراع القوى العظمى وأدواتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث سموا وقوفها مع قضايا المستضعفين تدخلا خارجيا، أو طلبا لتوسيع النفوذ، ونحو ذلك مما نسمعه كل حين.
ولكن ذلك لم يثن قادة الثورة الإسلامية الإيرانية، أو يدعوهم للتراجع والانكفاء على الذات، وإنما دعاهم إلى المزيد من الاهتمام بقضايا المستضعفين، باعتباره ركنا من الأركان التي
__________
(1) المصدر السابق، ص 159.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (243)
يتأسس عليها الدين الإلهي الأصيل.
والنماذج في هذا المجال من كلام قادة الثورة الإسلامية الإيرانية كثيرة جدا، وقد ذكرنا بعضها سابقا، ولهذا سنكتفي هنا ببعض الأمثلة المختصرة.
ومنها ما ورد في خطاب ألقاه الإمام الخميني على فراش المستشفى بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، قال فيه: (أبارك لكل المستضعفين والمحرومين ولجميع شعوب العالم وخصوصاً المسلمين بمناسبة المولد السعيد والهجرة المباركة لخاتم النبيين وأفضل المرسلين، التي كانت منطلقاً للنهضة الإسلامية والإلهية، ومصدر نشر العدالة ودين تهذيب الإنسان، ونقطة البداية في الحركة باتجاه اقتلاع أساس الظلم والمكر، والارتقاء إلى المكانة الإنسانية السامقة، والهجرة من كل أنواع الظلم والخصال الشيطانية الحيوانية صوب النور المطلق ومصدر الكمال، ومؤسس الأمة والإمامة.. يجب على المسلمين وهم على أعتاب القرن الخامس عشر الهجري أن ينهضوا ويدافعوا تحت الراية الإلهية الإسلامية عن حقوقهم الحقة، ويقطعوا دابر الجائرين، لا سيما القوى العظمى في الشرق والغرب، ويوقفوا الدكتاتوريين المدعين الديمقراطية والشيوعية عند حدّهم)(1)
ثم بين لهم أن مصدر الاهتمام بالمستضعفين ومواجهة المستكبرين هو الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إن ثورتنا الأصيلة والعظيمة الإلهية الإسلامية الإيرانية قبس من النهضة العظيمة لسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاءت ولادته السعيدة وهجرته المحفِّزة، في عصر كانت ظلمات الجهل تلف العالم برمته، والأقوياء يتلاعبون بحياة المستضعفين كالحيوانات المفترسة.. وقد انطلقت النهضة الإسلامية للشعب الإيراني في عصر يماثل ذلك العصر الجاهلي، وفي بيئة حلّت فيها الحراب محل العدالة، والسجن والتعذيب والكبت محل الحرية، والفقر
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 12، ص: 118.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (244)
والبؤس محل الرفاه والراحة، فثار شعبنا، لأن مخالب الوحش الذي بدا بصورة إنسان، كانت قد نشبت حتّى المرفقين في دماء شبابنا الأعزاء، وحبست الأنفاس في الصدور، وسعت إلى محو آثار الإسلام والإنسانية، وهدم أركان العدالة.. كان الكبت والإرهاب سائداً إلى درجة أن الرجال لم يكونوا يجرؤون على الشكوى أمام زوجاتهم، ولا الإخوة أمام أخواتهم، ولم تكن الأقلام ووسائل الإعلام إلّا في خدمة الظالم، وعند ذاك خرجت يد القدرة الإلهية من أكمام العدالة وتجسّدت في نداء (الله أكبر)، وغيرت حال الشعب الإيراني من الضعف إلى القوة، ومن الجبن إلى الشجاعة، ومن التهاون إلى الحركة، وهدر سيل البشر الإلهيين الذين علموا أن الشهادة سعادة، والإيثار بالدماء أعظم العبادات، فنسف سور الشياطين، وعروش وتيجان 2500 سنة من الظلم والجور وملء البطون، نسفاً لم يُبق لهم دياراً ولا خبراً)(1)
ثم بين أن لهم أن الاحتفال الحقيقي يكون بانتصار المستضعفين، فقال: (حيث يقف المسلمون اليوم على أعتاب القرن الخامس عشر الهجري، وإيران على أعتاب الذكرى السنوية للثورة والهجرة، نحتفل بهذه الولادة السعيدة والهجرة الكبرى والثورة الإسلامية ونباركها، إلّا أن الاحتفال الأكبر سيكون عندما ينتصر المستضعفون على المستبكرين، ويقضون عليهم إلى الأبد، ويقطع المسلمون بوحدة الكلمة وتحت لواء التوحيد يد الجائرين عن بلدانهم)(2)
ثم بين لهم الموقف الرسمي الإيراني من قضايا المستضعفين، فقال: (إن الشعب الإيراني الحر يدعم الشعوب المستضعفة في العالم في مقابل من لا منطق لهم سوى منطق المدافع والدبابات، ولا شعار لهم سوى الحراب.. إننا ندعم كل حركات التحرر في العالم بأسره، التي تكافح في سبيل الله والحق والحقيقة والحرية.. إننا نعلن مرة أخرى دعمنا السخي لإخوتنا
__________
(1) المصدر السابق، ج 12، ص: 119.
(2) المصدر السابق، ج 12، ص: 119.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (245)
المسلمين والمظلومين الأفغانيين، وندين احتلال المحتلين بشدة.. نحن مسلمون، ولا نبالي بشرق أو غرب.. إننا ندافع عن المظلوم ونحمل على الظالم.. هذا واجب إسلامي)(1)
ثم وجه خطابه للأمة الإسلامية، فقال: (يا شعوب العالم! كلكم مستضعفون، انتفضوا واستعيدوا حقوقكم، ولا تهابوا عربدات المتسلّطين فالله معكم والأرض ميراثكم، ولا خلف في وعد الله تعالى)(2)
وفي خطاب آخر، قال: (على كافة المستضعفين أن يتحدوا مع بعضهم ويجتثّوا جذور الفساد في بلدانهم.. إن السلام والصلح العالمي يتوقّف على زوال المستبكرين.. وطالما بقي هؤلاء السلطويون العديمو الثقافة على وجه الأرض، لن ينال المستضعفون ميراثهم الذي تفضل به الله تعالى عليهم.. يا مظلومي العالم، من أي طبقة ومن أي بلد كنتم، عودوا إلى رشدكم، ولا تخشوا ضجيج وعربدة أميركا وسائر المتجبرين الغاشمين، ضيقوا الخناق عليهم، وخذوا منهم حقكم بسواعدكم.. ويا أيها المسلمون، من أي شعب ومن أي مذهب كنتم، أقلعوا عن العداوات الضيّقة وانصاعوا لأمر القرآن الكريم والإله العظيم: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].. لقد جعل الله تعالى العزة لنفسه، ولرسوله العظيم، وللمؤمنين، ثوروا على الحكومات المتجبرة التي أخضعتكم لسيطرة أعداء الإسلام، وأنقذوا بلدانكم من أيدي هؤلاء الخونة الأذلاء، فالله معكم)(3)
وقال في خطاب آخر: (إنني أحذر الشعب الإيراني والشعوب المستضعفة في العالم من الأمور التي تخطط ضد الإسلام، إذ كلما زادت هذه التخريبات فإن أبعاد التلاحم يجب أن تزداد بين الشعوب المستضعفه ومستضعفي العالم.. والأساس هو أنّ المستكبرين في العالم وكلَّ من
__________
(1) المصدر السابق، ج 12، ص: 119.
(2) المصدر السابق، ج 12، ص: 119.
(3) المصدر السابق، ج 12، ص: 124.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (246)
كانوا يستغلون هذه البلاد المستضعفة قد أحسوا بالخطر ولكونهم اعتبروا أن إيران منطلق لنهضةالمسلمين والمستضعفين العامة فإنهم قد عبّأوا جميع طاقاتهم ضد إيران سواء في أمر الدعاية ضدها أو في القيام بالتخريبات.. وعلى جميع إخواننا في أنحاء العالم أن يعلموا أن توجيه أي صدمة لبؤرة المعارضه للقوى الكبرى (إيران) سيودي إلى انزواء الإسلام لسنوات طويلة.. ولأن جميع إخواننا في الإيمان يحبون الإسلام في كل مكان وقد اختاروه نهجاً للحياة في هذا العالم ويعتبرونه قاعدتهم الوحيدة، فإن عليهم الانتباه إلى أن جميع القوى في العالم قد عبّأت طاقاتها في المستويين الإعلامي والتخريب العملي والهجوم العسكري لإجهاض هذا الفكر الذي انطلق من هنا لقطع أيدي المستكبرين الشرقيين والغربيين في العالم ومنعه من الانتشار إلى الأماكن الأخرى خوفاً من أن يُمنعوا من نهب ثروات المناطق المختلفه كما قطعت أيديهم من ثروات إيران وانتهت سيطرتهم الشاملة عليها.. لابد لإخواننا المسلمين أينما كانوا وفي أي بلد يسكنون بل على جميع مستضعفي العالم الذين سحقوا تحت سيطرة القوى الشيطانية وتحت أقدام القوات العسكرية للقوى الشيطانيه، أن ينتبهوا وأن يجهزوا أنفسهم كما جهز الأعداء أنفسهم لقمع هذه الثورةالإسلامية في إيران لخوفهم منها، وأن يحفظوا هذا المنطلق الذي انطلقت منه فكرة الثورة)(1)
ثم بين لهم تميز الثورة الإسلامية الإيرانية عن غيرها من الثورات بكونها ثورة المستضعفين، لعدم استنادها لأي قوة من القوى الاستكبارية، فقال: (إذا ما نظر المحللون في الداخل والخارج بدقة فإن إيران قد قامت بعمل لايوجدله مثيل في التاريخ.. إن جميع الثورات في التاريخ كانت تابعة للشرق أو الغرب كما أن جميعها شهدت مشاكل شتى في طريقها إلّا أن الثورة الإيرانية ثورة غير تابعة لأحد وليست ثورة حكومية ولا انقلاباً عسكريّا ولا ثورةحزبية
__________
(1) المصدر السابق، ج 15، ص: 127.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (247)
إنها ثورة تستند إلى الإسلام، إنها إسلامية.. هي تشبه الثورات التي حصلت على أيدي الأنبياء عليهم السلام عبر التاريخ حيث لم تكن تابعة لأحد إلّا لجهة واحدة هي مبدأ الوحي والاتصال بالله تبارك وتعالى لقد كان طريق إيران منذ بدايات الثورة حيث تم وضع أساسها طريق الأنبياء وكان منهجها مستقيماً لا شرقياً ولا غربياً بل كانت الغاية جمهوريةإسلامية، ولايزال شعبنا سائراً على هذا النهج وكلما حصلت المصائب والأحداث المريرة فإن هذا النهج الإسلامي يحتفظ به هو يسير إلى الأمام ويزداد قوة.. وكلّما يظهر بعض الفتور والضعف في صفوف الشعب فإن الله تبارك وتعالى يُحدث أمراً بإرادته يؤدي إلى ازدياد صحوة الشعب وقوته وانسجامه)(1)
وفي خطاب آخر ـ وجهه لجمع من الأدباء والعلماء والمثقفين يدعوهم فيه إلى استعمال سلاح الكلمة لمواجهة المستكبرين، ونصرة المستضعفين ـ قال: (إن المسؤولية التي تقع على عاتقكم جميعاً أيها السادة الذين قدمتم إلى هنا، من شعراء وكتّاب ومتحدثين، تتمثل في تناول قضايا هذه الثورة في نتاجاتكم.. على الشعراء تناول قضايا هذه الثورة في أشعارهم.. فإذا كان بمقدورهم ففي التجمعات العامة، وإن لم يتمكنوا ففي جلساتهم الخاصة كي يتم حفظها للأجيال القادمة.. لابدّ من توعية الناس وتوعية شعوب العالم، وتوعية المستضعفين بالمصائب التي حلت على رؤوسهم والهموم التي يعانون منها، والأوضاع التي يعيشون فيها ولفت أنظارهم إلى أوضاع حكامهم والترف الذي يرفلون فيه.. لابدّ لأبناء الدول الإسلامية أن يعلموا كيف تنفق ثرواتهم وأين تذهب خيرات بلدانهم، في ذات الوقت الذي تعاني فيه شعوبهم من الجوع والفقر والحرمان، وإن الكثير منهم يموت جوعاً فيما يسرق هؤلاء ثروات بلدانهم وخيرات شعوبهم.. إن هؤلاء الغاصبين لو أنفقوا على شعوبهم عشر أعشار هذه
__________
(1) المصدر السابق، ج 15، ص: 128.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (248)
الثروات، لاستطاعوا أن يحققوا النمو والازدهار لشعوبهم، غير أنهم يقدمون كل ثروات بلدانهم لأعداء الإسلام)(1)
وقال في خطاب آخر: (الحمد لله الذي أراد أن يمنّ على المستضعفين بنصرهم على المستكبرين، ويطهِّر الأرض من رجس المستكبرين، ويجعل المستضعفين حكَّاماً على الأرض.. لقد جاء الإسلام لهذا الغرض، وتعاليم الإسلام هي لهذا الأمر وهو أن لا يبقى مستكبر في الأرض، وأن لا يستطيع المستكبرون استعمار المستضعفين واستغلالهم.. إننا بتتبع تعاليم القرآن السامية وما وصلنا من الإسلام وسيرة الرسول الأكرم وأئمة المسلمين، وما وصلنا أيضاً من سيرة الأنبياء كما ينقلها القرآن، وهو أن على المستضعفين أن يتحدوا ويثوروا بوجه المستكبرين ولا يتركوهم ليعتدوا على حقوقهم)(2)
ثم بين أن الخلاص الحقيقي للمستضعفين هو في التمسك بالإسلام الأصيل، فقال: (إذا طبِّقت قوانين الإسلام بين الشعوب وبين الحكومات وكانت الآداب السائدة بين الحكومات والشعوب آداب إسلامية، فإنه لا الحكومات تفكر حينئذ بالتعدّي على الشعوب، ولا الشعوب تعارض الحكومات)(3)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي في كل خطاباته أو أكثرها يهتم بهذه الناحية، فهو لا يترك فرصة تمر دون ذكر ضرورة مواجهة الاستكبار، والتخلص من الاستضعاف، ونصرة المستضعفين، ومن الأمثلة على ذلك قوله في أسبوع التعبئة عند لقاء أعضاء المجمع العالي لتعبئة المستضعفين، يبين صفات المواجهين للاستكبار: (في البداية أرحّب بكم أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أنتم نخبة المجتمع البسيجيّ (المجتمع التعبوي) في البلاد، الذين جعلتم
__________
(1) المصدر السابق، ج 17، ص: 247.
(2) المصدر السابق، ج 7، ص: 91.
(3) المصدر السابق، ج 7، ص: 91.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (249)
العقل والفكر والعلم إلى جانب العشق والقلب، ووردتم ميداناً نهاية الحضور فيه النصر الحاسم والمحبوبيّة عند الله تعالى، إن شاء الله.. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54]، فهم يحبّون الله تعالى، والله أيضاً يحبّهم ـ وفي موضع آخر يعرّفهم أو يعرّف بعضهم فيقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف: 4]، أي أنّ هذا الشابّ، والرجل، والمرأة، والنخبّويّ، والحكيم، والمؤمن، الذين وضعوا جميعاً كلّ إمكاناتهم وحياتهم على أكفّهم، ووردوا الميدان، وهذه هي الميزة نفسها التي نقول إنّها ينبغي أن تكون في التعبويّ)(1)
ثم بين المجالات التي على المواجهين للاستضعاف والاستكبار الاهتمام بها، فقال: (لقد رأينا التعبئة في ميدان العمل منذ البداية إلى الآن، في جميع الميادين، وكلّها ميادين عمل.. في الدفاع المقدّس: سنوات الحرب الثماني، في البناء، في التقنيّات المتنوّعة، ابتداءً من الخلايا الجذعيّة إلى الطاقة النوويّة، هذه كلّها أعمال التعبئة، من حضور الأطبّاء في المستشفيات القريبة من الخطوط الأماميّة للجبهة، حيث رأيت في تلك الفترة، تلك المستشفيات التي كان بمقدور الأعداء قصفها بالمدافع القصيرة المدى.. لقد كان الأطبّاء من طهران، ومن القرى مستعدّين، وبمجرّد أن يُطلب منهم، كانوا ينطلقون حاملين حقائبهم التي كانت مهيّأة دوماً، ويلتحقون بالعمل في مثل هذه المواقع، من الأعمال الفنّيّة التعبويّة، ظهرت أعمال فنّيّة رائعة، فعّالة ومؤثّرة تكاملت يوماً بعد يوم حتى الآن بحمده تعالى، لقد شاهدنا البسيج في ميدان العمل في مختلف
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2014، ص 509.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (250)
المواقع)(1)
ثم أكد على أهمية البناء الفكري للمواجهين للاستكبار، فقال: (ينبغي الاهتمام بالخلفيّة الفكريّة للتعبئة والقاعدة والمرتكز الفكري.. التعبئة هي فكر، ومنطق، ومنظومة فكريّة.. والسبب في أنّنا جميعنا نرى انجذاب المتعلّمين والنخب والنوابغ في الاختصاصات المختلفة إلى التعبئة، هو أنّ التعبئة ليست مجرّد حركة حماسيّة، هناك منطق قويّ يقف خلف التعبئة، وعندما يترافق هذا المنطق والعلم مع العمل، يحدث هذا الصخب، ويخلق هذه الحوادث العجيبة)(2)
ثم بين الأسس الفكرية لتعبئة المستضعفين، وأولها ما عبر عنه بقوله: (أساس هذا الفكر هو الاعتقاد بمسؤوليّة الإنسان، الإنسان موجود مسؤول.. والنقطة المقابلة لهذا الفكر هي عدم الإحساس بالمسؤوليّة تحت عنوان وشعار: [دع عنك ذلك، تمتع بحياتك، اهتم بنفسك].. إنّ الأساس الفكريّ للتعبئة هو هذه المسؤوليّة والوظيفة الإلهيّة، والتي أقول إنّ لها أسساً ومباني دينيّة متينة.. ليس المقصود من المسؤوليّة هنا المسؤولية أمام النفس والعائلة والأقارب، فهذه المسؤوليّة موجودة، بل المسؤوليّة أمام حوادث الحياة، أمام مصير العالم، ومصير البلد ومصير المجتمع، سواءً المسلمين أو غير المسلمين.. وهذا الإحساس بالمسؤوليّة ليس فقط تجاه أبناء دينه والمسلمين والمؤمنين، بل هو يشعر بالمسؤوليّة حتّى تجاه غير المسلمين وغير المؤمنين.. هي النقطة المقابلة للاستلشاء، واللامبالاة، وحالة الكسل والهروب من المسؤوليّة وأمثال هذه الأمور)(3)
ثم ذكر المستندات الشرعية لهذه المسؤولية، فقال: (إنّ فكرة مسؤوليّة الإنسان هذه هي من واضحات الإسلام.. أي لا يمكن لأحد أن يشكّ بأنّ الإسلام يعتبر الإنسان مثل هكذا
__________
(1) المصدر السابق، ص 511.
(2) المصدر السابق، ص 511.
(3) المصدر السابق، ص 512.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (251)
موجود: موجود مسؤول، مطلوب منه العمل)(1)
وضرب مثالا على ذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: (لاحظوا الأحكام المختلفة: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سبيل المثال.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني أنّكم جميعاً مسؤولون بأن تنشروا المعروف والخير، وأن تأمروا به، والنهي عن المنكر يعني أن تنهوا عن القبائح والمنكرات، والأعمال الدنيئة، وتحولوا دونها بالوسائل المختلفة.. ما معنى ذلك؟ معناه المسؤوليّة إزاء السلامة العامّة للمجتمع.. الجميع مسؤولون: أنا، أنت، وهو مسؤول)(2)
وضرب مثالا آخر على ذلك بالجهاد الإسلاميّ، فقال: (لاحظوا مثلاً مسألة الجهاد، فهو في الواقع مساعدة الشعوب التي تعيش في ظلّ السياسات الاستعماريّة والاستكباريّة والاستبداديّة التي لا يصل إليها نور الإسلام، ولا يصل إليها نور الهداية.. الجهاد من أجل تمزيق هذه الأستار والحجب، هذا هو الجهاد الإسلاميّ.. والبحث في أنّ الجهاد دفاعي أو ابتدائي وما شابه، هو بحث فرعي، البحث الأساسي هو: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75]، فالآية تقول: لِمَ لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين، من أجل إنقاذهم؟ هذا هو الإحساس بالمسؤوليّة، أي إذهب وعرّض نفسك للخطر، وضع روحك على كفّيك في ميادين الخطر، من أجل إنقاذ المستضعفين، ومعنى هذا هو تلك المسؤوليّة نفسها)(3)
وضرب لهم مثالا آخر بما ورد من الدعوة للاهتمام بشؤون المسلمين، فقال: (هذا
__________
(1) المصدر السابق، ص 512.
(2) المصدر السابق، ص 513.
(3) المصدر السابق، ص 513.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (252)
الحديث المشهور: (من أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم)(1)، وأمثاله، الكثير من الآيات والروايات الموجودة في النصوص الإسلامية، والتي هي من الأمور البيّنة في الإسلام، أي أنّ الإسلام أراد للإنسان أن يكون مسؤولاً على هذا النحو، مسؤولاً أمام نفسه، وأمام أقربائه، وأمام مجتمعه، أمام البشريّة.. فإنّكم إن ذهبتم الآن، وفتّشتم عن هذا الفكر في النصوص الإسلامية، فإنّكم ستشاهدون أموراً مدهشة ولافتة على مستوى هذا الاهتمام، وهذا الإحساس بالمسؤوليّة)(2)
ثم ضرب لهم المثال على ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (لقد كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الله ويتضرّع إليه: (اللهم اهدِ قومي)، وقومه كانوا أولئك الأشخاص أنفسهم الذين كانوا يؤذونه، ويطردونه، ويهدّدونه بالقتل، والذين كانوا يجلبون له المتاعب، ومع ذلك كان يطلب من الله لهم الخلاص والشفاء والهداية! وعندما يسمع أمير المؤمنين بأنّ جيش معاوية قد أغار على تلك المدينة كان يقول بغصّة: (بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة)، فكانوا يهينون النساء، ويسلبونهنّ أساورهنّ وأقراطهنّ، ومن ثمّ يتابع أمير المؤمنين قائلاً: (فلو أنّ امرؤاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديرًا)، انظروا إلى أيّ درجة يصل الإحساس بالمسؤوليّة.. لم يقل لو مات أمير المسلمين ما كان به ملوماً، بل امرءاً مسلماً.. هذا هو الإحساس بالمسؤوليّة نفسه.. هذه هي الركيزة الأساسيّة لحركة التعبئة: الإحساس بالمسؤوليّة الإلهيّة)(3)
أما الأساس الثاني الذي دعا الإمام الخامنئي المستضعفين إلى التحلي به لمواجهة الاستكبار، فهو البصيرة والرؤية الواضحة، يقول في ذلك: (الركيزة الثانية المكمّلة لهذا الركيزة
__________
(1) الكافي، ج 2، ص 163.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2014، ص 514.
(3) المصدر السابق، ص 515.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (253)
هي البصيرة، والرؤية الواضحة.. فماذا تعني البصيرة؟ تعني معرفة الزمان، معرفة الحاجات، معرفة الأولويّات، معرفة العدوّ، معرفة الصديق، معرفة الوسيلة التي ينبغي استخدامها في مواجهة العدوّ، البصيرة هي هذه المعارف.. لا يمكن المواجهة دوماً بسلاح واحد، ولا يمكن الورود إلى كلّ الميادين بسلاح واحد.. علينا أن نعرف أيّ سلاح نستخدم؟ وأين هو العدو؟ لقد قلت مراراً، إنّ مَثَل الذين لا يمتلكون البصيرة كمَثَل الذين يريدون توجيه ضربة للمعارض أو العدوّ في الضباب الكثيف، والغبار الغليظ، فإنّهم لا يعرفون أين هو العدوّ، من أولى شروط ومقدّمات الحرب لدى الجيوش: الاستطلاع.. أن تذهب وتستطلع أين يتواجد العدوّ؛ فلو ذهبت من دون استطلاع قد تضرب مكاناً يتواجد فيه الصديق، قد تضرب شخصاً ليس بعدوّ لك، وتكون بذلك قد قدّمت العون للعدو، قد يحصل هذا أحياناً.. إن لم تكن البصيرة موجودة قد يحصل هذا، حيث جاء في الحديث الشريف: (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1)، فالشبهات والجهل وعدم الإدراك لا تهجم على العالم بزمانه، فهو يعرف ماذا يصنع، وإن لم يكن كذلك، ستحصل المشاكل حتّى لو كان يشعر بالمسؤوليّة)(2)
ثم ضرب لهم مثالا على ذلك بمن كان يواجه الشاه، ولكن من دون بصيرة، فقال: (لقد كان البعض أيّام المواجهة مع الشاه يشعرون بالمسؤوليّة، لكنّهم لم يكونوا يعرفون أين يصرفونها، كانوا يصرفونها في مواقع أدّت إلى إلحاق الضرر بالحركة الجهاديّة العظيمة للإمام، وكذلك بعد الثورة، وحتى الآن أيضاً يوجد مثل هكذا أناس.. البعض لديه إحساس بالمسؤوليّة، ولديه الدافع، لكنّه يستخدم هذا الدافع بالنحو الخاطئ، وفي المكان الخطأ، لا يُظهر سلاحه في المكان المناسب، وهذا نتيجة لانعدام البصيرة)(3)
__________
(1) تحف العقول، ص 356.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2014، ص 516.
(3) المصدر السابق، ص 516.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (254)
الحضارة الإسلامية الجديدة والقيم الاجتماعية
الركن الخامس من الأركان الكبرى التي تتشكل منها الحضارة الإسلامية الجديدة ـ بحسب رؤية قادة الثورة الإسلامية الإيرانية ـ[القيم الاجتماعية]، ذلك أنه لا يمكن أن تقوم حضارة من دون أن تؤسس على مجتمع قوي متماسك متآلف، فضعف المجتمع سيؤدي لا محالة إلى انهيار الدولة والمشروع جميعا.
وذلك ما نبه إليه القرآن الكريم عندما دعا إلى تكوين مجتمع إيماني نموذجي يتحقق على يديه النصر الإلهي، كما قال تعالى في ذكر الآداب والأخلاق المؤلفة بين قلوب أفراد المجتمع، والموثقة لعرى المودة بينهم: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 63]
وقال في وصف المجتمع الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]
ولتحقيق هذا الركن ورد في القرآن الكريم ذكر القيم الكثيرة التي لا يمكن أن يقوم المجتمع الصالح المتحضر من دونها.
وسنذكر هنا ـ باختصار ـ أصول تلك القيم، من خلال خطب وبيانات وتصريحات قادة الثورة الإسلامية الإيرانية، وقد رأينا أنه يمكن تقسيمها إلى قسمين:
الأول: القيم المرتبطة بالبنية الاجتماعية، والجهات المكونة لها، وحقوقها.
الثاني: القيم المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية، وكيفية الاستفادة منها في تحقيق المشروع الحضاري.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (255)
وسنتحدث عن كلا الأصلين في العنوانين التاليين:
أولا ـ القيم المرتبطة بالبنية الاجتماعية
ونقصد بها القيم المرتبطة بالأصناف التي ينبني عليها المجتمع، وخاصة تلك التي تحتاج إلى المزيد من العناية، وقد رأينا من خلال استقراء كلمات قادة الثورة الإسلامية الإيرانية الاهتمام الخاص بصنفين من الفئات الاجتماعية، هما: المرأة والشباب، لكون كليهما من الفئات المستهدفة من قوى الاستكبار، لاستعمالهما في تحقيق أغراضه.
بناء على استثمار المستكبرين للمرأة وقضاياها في تمرير مشاريعهم الإجرامية، نرى قادة الثورة الإسلامية الإيرانية يولون الحديث عنها اهتماما خاصا، سواء من زاوية بيان أدوارها والتكاليف المرتبطة بها، أو بالتحذير من الإساءة إليها باستعمالها كوسيلة للانحرف الاجتماعي.
والأمثلة على ذلك من كلام قادة الثورة الإسلامية الإيرانية كثيرة جدا، نقتصر على بعض النماذج منها، وأولها خطاب ألقاه الإمام الخميني بعد سنة من انتصار الثورة الإسلامية، بمناسبة ميلاد الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي استهله بقوله: (أبارك وأهنئ ذكرى الميلاد السعيد للصديقة الطاهرة الذي هو أفضل يوم لانتخابه يوماً للمرأة، للشعب الإيراني الشريف، وخصوصاً النساء المحترمات.. لقد حدثت هذه الولادة السعيدة في زمان ومحيط لم تكن المرأة تعد إنسانا بل كانت الأمم المختلفة في الجاهلية تعتبر وجودها مدعاة للذلة والعار لأهلها.. ففي مثل هذه البيئة الفاسدة الموحشة، أخذ نبي الإسلام الكبير بيد المرأة وخلصها من مستنقع عادات الجاهلية، ويشهد التاريخ الإسلامي على احترام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللامحدود لهذا المولود الشريف، لكي يؤكد أن للمرأة عظمة خاصة في المجتمع، إذا لم تكن أفضل من الرجل، فهي ليست أقل منه.. إذن فهذا اليوم هو يوم حياة للمرأة ويوم لتأسيس عزتها ودورها الكبير في
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (256)
المجتمع)(1)
ثم تحدث عن المؤامرت التي حاولت استغلال المرأة لتثبيت الاستبداد، وكيف استطاعت الإيرانيات المسلمات التخلص منها، فقال: (إنني أتباهى بنساء إيران اللواتي يُفتخر بهن حيث تغيرن كثيراً وأصبح ذلك الدور الشيطاني الذي رسمه الأجانب وأتباعهم من عديمي الشرف منذ أكثر من خمسين سنة، من الشعراء الفاسدين إلى الكُتَّاب ووسائل الإعلام العميلة نقشا على الماء، وأثبتن أن النساء المسلمات لم يتأثرن بطرق الضلال ولن يتضررن بمؤامرات الغرب والشرق وأتباعهما.. فلم يتأثرن بخدع الغرب طوال مدة السلطة البهلوية الغاصبة ورغم التطبيل الإعلامي فما عدا نساء الطاغوت المرفهات وأتباع السافاك وأذيالهم فإنّ باقي الشرائح المليونية من النساء اللاتي هن أساس الشعب المسلم لم يقعن في شرك المنبهرين بالغرب وقد قاومن بعملهن خلال خمسين عاماً من الظلام بوجوه بيضاء أمام الله والشعب.. ولكنّ في هذا التبدل الإلهي الأخير قطعن بشكل قاطع للأبد أمل كل من عميت قلوبهم والذين كانت ولازالت قبلتهم الغرب)(2)
ثم تحدث عن الأدوار الإيجابية العظيمة للمرأة الإيرانية، والتي كانت سببا في تحقيق انتصار الثورة الإسلامية، فقال: (النصر والرفعة للنهضة الإسلامية لنساء إيران العظيمات.. الفخر لهذه الشريحة الكبيرة التي استطاعت بحضورها القيم والشجاع في ساحة الدفاع عن الوطن الإسلامي والقرآن الكريم، الوصول بالثورة إلى النصر وهن الآن مشغولات في الجبهة مستعدات للتضحية.. ورحمة الله على الأمهات اللواتي أرسلن شبابهن الأبطال إلى ساحة الدفاع عن الحق، واللواتي يفتخرن بشهادتهم العظيمة.. الخزي والعار لأولئك اللواتي جلسن في
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 14، ص: 249.
(2) المصدر السابق، ج 14، ص: 249.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (257)
قصورهن الفاسدة في الداخل والخارج كالدمى قد علقن قلوبهن بحياة حيوانية، ولا يفكرن إلا في نشر الفساد.. قُطعت الألسنة والأيدي المجرمة التي تحاول أن تقضي على الجمهورية الإسلامية بكلامها وأقلامها وتريد أن تجر بلدنا العزيز إلى اليمين أو اليسار.. والتحية الدائمة للنساء الملتزمات المشغولات في كل مكان في البلد بتربية وتعليم الأميين وتدريس العلوم الإنسانية وتعليم الثقافة القرآنية.. وسلام الله على النساء اللواتي نلن الشهادة في الدفاع عن هذا الوطن.. وعلى كل العاملات في المشافي والمستوصفات في خدمة المرضى والمعاقين.. والسلام على الأمهات اللواتي فقدن شبابهن بكل فخر)(1)
وقال في خطاب آخر يتحدث فيه عن دور المرأة المتعدد الجوانب والاتجاهات: (إن دور المرأة في العالم له مميزات خاصة حيث أن صلاح أو فساد أي مجتمع ينشأ من صلاح وفساد نساء ذلك المجتمع، فالمرأة هي الموجود الوحيد الذي يمكن أن يقدم من حجرها أشخاصا إلى المجتمع، تنال المجتمعات من بركاتهم وتحقق لنفسها الاستقامة والقيم الإنسانية العليا ويمكن أن يقع عكس ذلك)(2)
ثم ذكر المؤامرات التي استعملها المستكبرون لاستغلال المرأة وتوظيفها في خدمة استكبارهم، وضرب المثل على ذلك بإيران، فقال: (إن المجرمين الدوليين الذين يرون أن استمرار حياتهم يكمن في أسر الشعوب ولا سيما الشعوب الإسلامية بحيث مهدوا لأنفسهم للنفوذ إلى الدول الإسلامية النفطية والغنية أدركوا أن الشريحة المتدينة في هذه الدول هي وحدها التي تشكل شوكة في طريقهم لاستعمارهم واستغلالهم.. وعلموا أيضا أن حكما يصدره مرجع ديني في نصف سطر يكون تأثيره على الشعب حدا بحيث تركع الحكومة
__________
(1) المصدر السابق، ج 14، ص: 250.
(2) المصدر السابق، ج 16، ص: 146.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (258)
الإنجليزية والحكومة القاجارية القوية أمامه، وأدركوا كذلك أن المرأة لعبت دورا أساسيا في تلك الحركة، وانتبهوا إلى أن الحركة الدستورية وبعد ذلك المرأة وخاصة الشريحة المتوسطة المظلومة منها، هم القادرون على جر الرجال إلى الساحة، كما أحسوا أنه إذا ما بقيت هذه العناصر على قوتها فإن ذلك سيحبط خططهم، فرأوا أن من الضروري لأجل التغلغل في هذه الدول ونهب خيراتها الوفيرة إضعاف أسس الدين والقيادة الدينية للشرائح المتدينة، ومنذ ذلك الحين وضعوا ونفذوا مخططاتهم ضد هذه الشرائح وحققوا نجاحات في ذلك حتى أعدوا رضا خان لتنفيذ هذه المخططات وأوصلوه إلى السلطة، حيث بدأ حربا ضارية ضد هذه العناصر الثلاثة، ويتذكر الذين عاصروا تلك الفترة ماذا فعل هذا الخائن المنحرف وأعوانه اللاوطنيون مع هذه العناصر، وأي الأساليب استخدموها لإنجاح خططهم بأسرع ما يمكن وإفساد المرأة المظلومة وتحريف المجتمع، ويكفي للأجيال الحالية التي لم تعاصر تلك الفترة أن تراجع الكتب والأشعار والمقالات والأفلام والصحف والمجلات ومراكز الفساد ودور القمار والبارات ودور السينما أو أن تسأل الذين شاهدوا الأوضاع بما جرى على المرأة والمربية والمعلمة من ظلم وخيانات، تظاهرت تحت العنوان المخادع [المرأة المتطورة]، ولا شك أن قطاعات المرأة المتدينة وخاصة الطبقة المحرومة قاومت هذه السياسة، لكن المستعمرين الخونة حققوا نجاحات في أوساط الكثير من الشرائح المرفهة التي شجعت المستعمرين على ذلك، والآن حيث قطعت أيادي الجائرين بفضل الله تعالى والحركة الوطنية العظيمة وخاصة النساء الشجاعات، مازالت هناك قلة قليلة تواصل أعمالها الجاهلية، ولكننا نأمل أن يتنبه هؤلاء إلى أحابيل الشيطان الكبيرة والصغيرة، وأن يخلصوا أنفسهم من شراكهم)(1)
ثم أشاد بدور المرأة في نجاح الثورة الإسلامية، فقال: (ينبغي علينا في يوم المرأة في إيران
__________
(1) المصدر السابق، ج 16، ص: 147.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (259)
أن نفتخر بالمرأة الإيرانية وما أعظم فخرا من أن تقف المرأة العظيمة مقابل النظام الجائر السابق، ثم مقابل القوى العظمى وعملائها وتقاومها حيث لم تسجل مثل هذه المقاومة والشجاعة من قبل الرجال في أي عصر، لقد بلغت مقاومة وتضحيات هؤلاء النساء العظيمات في الحرب المفروضة درجة عجيبة بحيث يعجز القلم والفكر من ذكرها، بل يشعر بالخجل إزاءها.. ولقد شاهدت في هذه الحرب مشاهد عن الأمهات والأخوات والزوجات اللاتي فقدن أعزاءهن، حيث لا أظن أن تكون لهن مثيل إلا في الثورة.. ومن المشاهد التي لن أنساها ـ رغم أن جميع المشاهد كذلك ـ زواج فتاة من شاب في حرس الثورة فقد يديه في الحرب وأصيبت عيناه، وقد قالت هذه الفتاة الشجاعة بروحية عظيمة مفعمة بالنقاء والطهر: (بما أنني لم استطع أن أذهب إلى الجبهة، اسمحوا لي أن أؤدي وظيفتي ومسؤوليتي تجاه الثورة وتجاه ديني بهذا الزواج)، ولا يستطيع الكتاب والشعراء والفنانون والخطباء والرسامون والفلاسفة والفقهاء وأي إنسان آخر أن يعكس العظمة الروحية لهذا المشهد وما فيه من قيمة إنسانية وأنغام إلهية، كما لا يستطيع أي إنسان أن يقيس عظمة وتضحية وروحية هذه الفتاة العظيمة بالمعايير الموجودة في العالم)(1)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يتحدث في كثير من خطبه عن المرأة وأدوارها المختلفة، في نفس الوقت الذي يرد فيه على الذين يريدون الانحراف بها عن وظائفها المناطة بها، ومن الأمثلة على ذلك محاضرة مطولة ألقاها بمناسبة يوم المرأة الإيرانية، على مجموعة من المثقفات الإيرانيات، وهي تلخص كل رؤاه ورؤى قادة الثورة الإسلامية الإيرانية حول الموضوع.
ومما ورد فيها قوله ـ مشيدا بالنجاحات التي حققتها المرأة الإيرانية بعد الثورة الإسلامية في المجالات المختلفة ـ: (حين ننظر فنرى أنّ أسماء نسائنا تزيّن أغلفة الكتب المتنوّعة: الكتب العلميّة والبحثيّة والتاريخيّة والأدبيّة والسياسيّة والفنيّة، نلاحظ أنّ أفضل الكتابات والآثار
__________
(1) المصدر السابق، ج 16، ص: 148.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (260)
المكتوبة للنظام الإسلاميّ اليوم ـ سواء المقالات أو الكتب ـ هي من تأليف سيّداتنا، وهذا مصدر افتخار حقًّا.. الأمر الذي لا نظير له في كلّ تاريخنا، لقد شهدنا عهودًا ومراحل مختلفة، وكنّا على اطّلاعٍ على الجوّ الثقافيّ للبلاد، لم يسبق أن كان لدينا كلّ هذه الشخصيّات من النساء البارزات في المجالات المتنوّعة ـ سواء في المسائل الحوزويّة أم في المسائل الجامعيّة ـ وإضافة إلى هذا، كان البروز والظهور الناصع للهويّة والشخصيّة المستقلّة للمرأة الإيرانيّة، في ميادين الجهاد، ومنها ما ظهر في الدفاع المقدّس وما تلاه حتّى أيّامنا هذه، كلّ زوجات الشهداء، زوجات الجرحى، أمّهات الشهداء، البقيّة الرائدة للذّين ضحّوا بأنفسهم في سبيل الله، ممّن تحلّوا بالإرادة المتينة والعزم الراسخ والصبر، فجعلوا كلّ إنسان يخشع، فيخضع أمام تضحياتهم.. في الحقيقة، إنّي ـ العبد لله ـ كلّما التقي هؤلاء النساء أشعر بالخشوع في محضرهنّ.. إنّني أتواصل كثيرًا مع أمّهات الشهداء وزوجاتهم ومع زوجات الجرحى.. هذه السيدّة المضحيّة التي تقضي سنوات عمرها لتدبير وتحسين حياة جريح قربة إلى الله، هذا ليس بالأمر البسيط، إنّ ذكر هذه المسائل سهلٌ على اللّسان، ولكن الواقع شيءٌ أرقى، تلك الأمّ التي قدَّمت اثنين أو ثلاثة أو أربعة من أبنائها في سبيل الله، وبقيت بعدهم صلبة ثابتة، وتدعونا نحن إلى الصمود والثبات! إنّ الإنسان ليشعر أمام كلّ هذه العظمة بالخشوع حقًّا.. إنّ هذه حقائق واقع النساء في مجتمعنا وهي مهمّة وتبعث على الافتخار)(1)
ثم دعا إلى الاهتمام بالتنظير والتأصيل لكل ما يرتبط بحقوق المرأة وأحكامها بناء على معايير الإسلام الأصيل لا الطروحات الغربية، فقال: (إذا أردنا أن نفكّر بشكلٍ صحيح حول مسألة المرأة، وأن نتحرّك ولا نقع في الأخطاء، يجب علينا أوّلاً، أن نخلّي أذهاننا بشكلٍ كامل من الكلام والشعارات الفارغة التي أنتجها الغربيّون، حيث إنّ الغربيّين في قضيّة المرأة أساؤوا
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2014، ص 172.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (261)
الفهم، وأساؤوا العمل، ثمّ طرحوا هذا الفهم الخاطئ، والعمل الخاطئ، المضلّ والمهلِك، الخاصّ بهم كعملة رائجة في العالم، وكلّ من ينطق بكلمة تخالف رأيهم، صاروا يهاجمونه بواسطة أجهزتهم الإعلامية الواسعة الانتشار ويعرّضونه لأشنع الحملات والتهويل، لا يُفسح الغربيّون المجال لأحد كي يتكلّم ويُظهر رأيه.. إن كنتنّ تردن إيجاد استراتيجيّة صحيحة حول مسألة المرأة، ومتابعة هذه الاستراتيجيّة وإعداد برامجها التنفيذيّة ومستلزماتها، والتقدّم بها على المدى الطويل والوصول إلى النتيجة المطلوبة، فإنّ عليكنّ أن تخلّين أذهانكنّ من الأفكار الغربيّة حول المرأة.. لا أقول أن نبقى دون اطّلاع ومعرفة، كلّا، نحن لسنا أنصار عدم الاطّلاع، إنّني مناصر للوعي والمعرفة، ولكن نرفض مرجعيّة تلك الأفكار بشكلٍ كامل.. إنّ أفكار الغربيّين وآراءهم في مجال قضيّة المرأة لا يمكنها مطلَقًا أن تكون مصدرًا للسعادة، ولهداية المجتمع الإنسانيّ)(1)
ثم بين أسباب ذلك الموقف المتشدد، ومنها وهو أهمها، ما عبر عنه بقوله: (إنّ أفكارهم قائمة على نظريّة معرفة ماديّة وغير إلهيّة، وهذا أمرٌ خاطئ وباطل.. إنّ أيّ جهاز علميّ وفكريّ يُبنى على أساس معرفة ماديّة واعتقاد ماديّ، فإنّ نتيجته خطأ وغلط بالتأكيد.. ينبغي أن يتمّ النظر إلى حقائق الخلق وفهمها ومتابعتها من خلال النظرة المعرفيّة الإلهيّة، والاعتقاد بوجود الله وقدرته، والحضور الإلهي والربوبيّة الإلهيّة.. وعليه، فإنّ أساس وأصل وجذور الأفكار الغربيّة خاطئة كونها ماديّة)(2)
ومنها (أنّ في التوجّه الغربيّ إلى مسألة المرأة ـ كما يلاحظ الإنسان بوضوح في تاريخ الثورة الصناعيّة ـ تدخل نظرة التكسّب والربح الماديّ والاقتصاديّ، أي إنّه في أوروبا التي لم يكن
__________
(1) المصدر السابق، ص 174.
(2) المصدر السابق، ص 175.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (262)
للمرأة فيها حقّ التملّك، وكلّ أملاكها كانت تصبح ملكًا للرجل وزوجها، ولم تكن تملك حتّى حقّ التصرّف في أملاكها الخاصّة، أو أنّه إلى الوقت الذي جرى فيه إقرار الديمقراطيّة في الغرب، لم يكن للمرأة حقّ المشاركة في الانتخابات، في هكذا عالم، فجأة يتمّ طرح مسألة الثورة الصناعيّة والمصانع، والحضور المؤثّر للمرأة العاملة في المصانع للعمل بأجرٍ أقلّ ولمصلحة الرأسماليّين! حينها فقط أقرّوا حقّ التملّك للمرأة، كي يتمكّنوا من جرّها إلى المصنع، فيعطونها أجرًا وحقوقًا أقلّ، وبالطبع، فإنّ نزولها إلى ميدان العمل والشغل كان له مستلزمات وتبعات ونتائج لا تزال تظهر تباعًا)(1)
بالإضافة إلى كل هذه الإساءات الغربية للمرأة يذكر الإمام الخامنئي البعد الأخطر في جرائم الغرب حول المرأة، وهو استعمالها وسيلة لإخماد الشهوة، يقول: (هناك بُعدٌ آخر يدفعنا إلى اجتناب النظرة الغربيّة هذه، هو أنّ المرأة في النظرة الغربيّة هي وسيلة لإخماد الشهوة، وهو أمرٌ لا يمكن إخفاؤه وإنكاره.. إذا ادّعى أحدٌ هذا فمن الممكن أن يقوم أشخاصٌ بالاعتراض والتهويل عليه بأنّه كلّا، الأمر ليس كذلك أيها السيّد!.. ولكن عندما يشاهد الإنسان حياتهم، يدرك بوضوح أنّ هذه النظرة هي الحاكمة والسائدة.. في المحيط الاجتماعيّ كلّما كان لباس المرأة أقلّ كانت مرغوبة أكثر.. إنّهم لا يتحدّثون هكذا عن الرجل، في الحفلات الرسميّة، ينبغي عندهم أن يحضر الرجل باللّباس الكامل، بربطة عنق وبنطال ولباس رسميّ أحيانًا، ولكنّ النساء عليهنّ أن يظهرن بشكلٍ آخر في هذه اللّقاءات الرسميّة، وهذا الأمر لا يوجد له أيّ فلسفة وحكمة أخرى غير تمتّع العيون المهووسة والخليعة للرجال، الوضع اليوم، هكذا في عالم الغرب، وعمليًّا، فإنّ أكبر ظلم تتعرّض له المرأة اليوم في العالم الغربي هو من هذا القبيل)(2)
__________
(1) المصدر السابق، ص 175.
(2) المصدر السابق، ص 176.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (263)
ثم ذكر نموذجا لهذا، ومن أعلى مستويات القيادة الغربية، فقال: (صدر كتاب للرئيس الأميركي السابق [جيمي كارتر] بعنوان: [طلبٌ بالتحرّك]، تعرّض فيه لموضوع انتهاك حقوق البشر والاعتداءات الوحشيّة ضدّ النساء.. يقول جيمي كارتر في هذا الكتاب: (في كلّ عام، يتمّ شراء مئة ألف فتاة تمامًا كالإماء والرقيق! في أميركا يستطيع صاحب بيتٍ للدعارة أن يشتري فتاة ـ تكون عادة من أميركا اللّاتينيّة وإفريقيا ـ بمبلغ ألف دولار، كذلك يشير الكاتب إلى الاعتداءات الجنسيّة التي تحصل في أجواء الجامعات والكليّات، حيث يتمّ إثبات حالة واحدة فقط من كلّ خمسة وعشرين حالة اعتداء.. كذلك يذكر كارتر بأنّه: في الجيش الأميركي يتمّ محاكمة واحد في المئة فقط من المعتدين جنسيًّا)(1)
وبناء على هذا يذكر الإمام الخامنئي ضرورة تصفية الموقف من المرأة وما يتعلق بها من كل آثار الفكر الغربي الذي أهان المرأة في الوقت الذي يزعم فيه أنه كرمها، يقول: (إذا أردنا أن تكون نظرتنا إلى قضيّة المرأة، نظرة سليمة ومنطقيّة ودقيقة، فإنّ الشرط الأوّل أن نخلّي أذهاننا بالكامل من تلك الأفكار التي يطلقها الغرب حول المرأة)(2)
ثم بين الأخطاء المرتبطة بعدم التفريق بين العدالة والمساواة فيما يتعلق بالمرأة في الفكر الغربي، فقال: (من أكبر أخطاء التفكير الغربيّ في مسألة المرأة هو عنوان [المساواة الجنسيّة] هذا.. العدالة هي الحقّ، المساواة تكون أحيانا حقًّا وأحيانًا باطلًا، لماذا ينبغي أن نسحب الإنسان الذي خُلق وأٌعِدَّ من ناحية طبيعية ـ سواء في البُعد الجسديّ أو العاطفيّ ـ من منطقة خاصّة من حياة البشر ونفصله عنها، ونقوم بجرّه إلى منطقة أخرى خلقها الله تعالى بميّزاتٍ خاصّة وتركيبٍ آخر؟! لماذا؟ أيُّ منطقٍ عقلائيّ في هذا الأمر؟ أيُّ شفقة وتعاطفٍ هذا؟ لماذا
__________
(1) المصدر السابق، ص 176.
(2) المصدر السابق، ص 177.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (264)
ينبغي أن يوكَل عمل الرجل إلى المرأة؟ أيّ افتخارٍ للمرأة أن تقوم بعمل الرجال؟ إنّني آسف، لأنّ السيّدات والنساء أنفسهنّ، يُظهرن أحيانا حساسيّة تجاه هذه المسألة، ويقلن: ما الفرق بيننا وبين الرجال؟)(1)
ثم بين النواحي التي يمكن أن تتساوى فيها المرأة مع الرجل، والنواحي التي تختلف فيها عنه، ويختلف فيها عنها، فقال: (حسنٌ، نعم، في كثيرٍ من المسائل لا يوجد أيّ فرقٍ.. نظرة الإسلام إلى المرأة والرجل هي نظرة إلى الإنسان، في مسألة الإنسانيّة وسير وسلوك المقامات المعنويّة، والإمكانات والاستعدادات الوافرة فكريًّا ومعنويًّا وعلميًّا لا يوجد أيّ فرق، ولكن القوالب جُعلت في قالبَين: قالبٌ لعملٍ خاصّ ونوعٍ من العمل، وقالبٌ آخر لعملٍ آخر مختلف، وبالطبع، فإنّ هناك أعمالًا مشتركة أيضًا.. هل نحن نقدّم خدمة حين نُخرج أحد القالبَين من منطقته الخاصّة، ونأخذه إلى منطقة القالب الآخر؟ هذا هو العمل الذي يقوم به الغربيّون.. إنّ الكثير من المعاهدات الدوليّة والعالميّة تهدف إلى هذه المسائل.. ولقد خرَّبوا الحياة البشريّة بناءً على هذا الفكر الخاطئ، خرَّبوا أنفسهم ومن ثمّ يريدون أن يخرّبوا حياة الآخرين)(2)
وبعد أن أكد على ضرورة التخلي عن كل آثار الفكر الغربي عن المرأة دعا إلى التزام الرؤية الإسلامية الخالصة، المستمدة من المصادر المقدسة، فقال: (اتّخذن من القرآن والسُنّة والحديث والدعاء، والمتون الإسلامية، ومن كلمات أئمة الهدى وسلوكهم، تلك الأصول والأُسس الأصليّة.. إنّه وحي! والوحي من الله، الله هو خالقي وخالقكنّ.. أنا لا أقول: بأن يقبل الإنسان بكلّ ما يجري على الألسنة والأفواه باسم الدين، كلّا، بل ينبغي الاستفادة من الدين الصحيح نفسه المستنبط بالأسلوب الصحيح، ومن قبل أهل هذا العمل واللّائقين لذلك، في الواقع يجب
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2014، ص 177.
(2) المصدر السابق، ص 177.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (265)
الاستفادة من كتاب الله ومن سُنّة الرسول وسيرة الأئمّة وكلماتهم، كي نصل إلى الاستراتيجيّة التي علينا اتّباعها في مجال مسائل النساء، ونحدّد الخطوط العامّة والأساسيّة من تلك المصادر)(1)
ثم نبه إلى بعض المفاهيم الخاطئة عن المرأة والتي تتبنى في الظاهر رؤية دينية، لكنها ليست كذلك، فقال: (إنّ التصوّر بأنّ المرأة في البيت موجود من الدرجة الثانية، وهو مكلَّفٌ بخدمة الآخرين، هو تصوّر رائج بين الكثير منّا ـ البعض يقولونه علنًا، والبعض يستحي ولا يقوله ولكنّه يضمره في قلبه ـ هذا التصوّر هو تمامًا في النقطة المقابلة والمخالفة لما بيّنه الإسلام.. لطالما كرّرت هذا الحديث المعروف بأنّ: (المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة)(2)، القهرمان في التعابير العربيّة الرائجة هو الموظّف العامل، كما يُقال مثلًا: (أَمَرَ قهرمانه بكذا) أي إنّ فلان صاحب ملك وأملاك كثيرة يأمر عامله المكلّف بمتابعة أمور الأملاك بكذا وكذا.. لهذا العامل يُقال (قهرمان)، ويشير الحديث إلى أنّه لا تظنّن أنّ المرأة هي عامل لديك في المنزل عليه القيام بأعمال المنزل، الأمر ليس كذلك.. حسنٌ، انظرن، هذا بحدّ ذاته فصل يفتح من عدّة فصول: مسألة احترام عمل المرأة داخل المنزل وعدم إجبارها عليه، قابليّة شراء هذا العمل أي دفع المال مقابله، هذا هو، وهذه أشياء موجودة في الإسلام وفي الفقه الإسلاميّ، الحقّ أنّ فقهنا فقه راقٍ وممتاز.. هناك أشياء يأخذ البعض بقسمٍ منها، وأشياء يتمّ نسيانها وتناسيها، وأشياء يتمّ قلبها من هذه الجهة إلى تلك، لأجل الانسجام مع الأفكار الغربيّة الفارغة والتهويليّة)(3)
ثم بين الموقف من بعض المسائل المتعلقة بالمرأة وتعلمها وعملها، فقال: (ينبغي إيجاد المسائل الأساسيّة، هي مسألة المنزل والأسرة: أمن المرأة في جو الأسرة، فرصة المرأة لظهور
__________
(1) المصدر السابق، ص 178.
(2) نهج البلاغة، الرسالة 31.
(3) خطابات الإمام الخامنئي 2014، ص 179.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (266)
استعداداتها في محيط الأسرة وتدبير المنزل، فلا يكون هناك ما يمنعها من الدرس والمطالعة والوعي والفهم والكتابة لمن هنّ من أهل هذه الأمور.. يجب توفير الميدان لهذه الأعمال، هذا هو أساس القضيّة.. مسألة عمل النساء ليست من المسائل الأساسيّة، وبالتأكيد نحن لا نخالف عمل المرأة، أنا العبد لله، لا أعارض عمل النساء ولا إدارتهنّ، طالما لم تتعارض وتتنافَ مع تلك المسائل الأصليّة، إذا تعارضت فالمسائل الأساسيّة مقدّمة.. بعض المهن لا تتناسب مع تركيب المرأة، حسن، لا ينبغي للنساء أن يسعين خلفها.. من الأعمال اللّازمة في هذا المجال أن لا يُفرض على المرأة تلك الإختصاصات التي تنتهي عمليًّا بتلك المهن التي لا تتناسب مع المرأة.. بحث الجامعة والاختصاصات وما شابه والتي يثير البعض الضوضاء، ويفتعل الأزمات حولها بأنّ هناك تمييزًا بين الشباب والفتيات.. مثل هذا التمييز ليس سيّئًا دائمًا، فالتمييز عندما يخالف العدالة يكون سيّئًا ومرفوضًا، ولكن افرضوا مثلًا، حين يكون هناك فريق كرة قدم، فيُجعل أحد اللّاعبين مهاجمًا والآخر مدافعًا والثالث حارس مرمى، حسن، إنّ هذا تمييز أيضًا.. ولو وُضع المدافع مكان المهاجم، فإنّ الفريق سيخسر المباراة.. إذا وُضع المهاجم مكان حارس المرمى وهو لا يتقن هذه المهمّة، فالفريق حينها سيخسر.. هذا تمييز، ولكن هذا التمييز هو عين العدالة.. يوضع أحدهم هنا، والآخر هناك وكلٌّ في مكانه.. فلنرَ والحال هذه وبالتوجّه إلى الأهداف العليا، ما هي الدروس والتخصّصات المناسبة للسيّدات، ولنقدّم لهنّ هذه الدروس والتخصّصات، ولا نجبرهنّ هكذا: ولأنّكنّ اشتركتنّ في الامتحانات الرسميّة بهذا الشكل وحصلتنّ على هذه العلامات يجب عليكنّ حتمًا أن تدرسن الاختصاص الفلانيّ، بينما هذا الاختصاص لا يتناسب مع طبيعة المرأة الأنثويّة، وكذلك لا ينسجم مع أهدافها العليا، ولا المهنة التي يفرضها هذا التخصّص تتناسب معها.. برأيي، إنّ هذه الأمور يجب أن تراعى في
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (267)
مجال عمل المرأة)(1)
وختم حديثه بدعوة النساء إلى البحث في كل ما يتعلق بشؤونهن، وعدم ترك ذلك للرجال، لأنهن أدرى بقدراتهن وحاجاتهن، فقال: (أفضل من يستطيع أن يتابع قضايا النساء ويحلّها هن السيّدات أنفسهنّ.. ونحن لا نعاني نقصًا أبدًا في تعداد السيّدات المتعلّمات والمثّقفات وذوات الفكر النيّر والاستعداد، وذوات البيان الحسن والقلم المعبّر والحسّ المبادر، بحمد الله، هنّ اليوم كثيرات جدًّا في بلدنا.. وكما ذكرت لم يكن لدينا أبدًا وفي أي مرحلة من تاريخ بلدنا كلّ هذه النسبة من النساء المتعلّمات والحكيمات، والشخصيّات البارزة، والشاعرات والباحثات والمحقّقات في الفروع المختلفة.. لحسن الحظّ، هنّ كثيرات اليوم ببركة النظام الإسلاميّ، وبركة الإسلام، وبركة الجمهوريّة الإسلامية)(2)
من خلال استقراء ما ورد من خطب وكتب قادة الثورة الإسلامية الإيرانية في الجانب الاجتماعي نجد اهتماما بفئة الشباب، باعتبارهم ركنا مهما من أركان المجتمع، بالإضافة إلى كونهم الممثل الحقيقي والأكبر للمستقبل، ولهذا نجد في خطاباتهم لهذه الفئة خصوصا اهتماما بجانبين:
الأول: تحذيرهم من الانسياق وراء تلك الطروحات التي تجعلهم طعما للمستكبرين.
الثاني: توجيههم إلى المكارم العلمية والعملية، وتشجيعهم على الاهتمام بها، لتحقيق الكمال الإنساني المنشود.
ومن الأمثلة على هذا ما ورد في رسالة للإمام الخميني للشباب، يقول فيها: (أنتم أيها
__________
(1) المصدر السابق، ص 181.
(2) المصدر السابق، ص 182.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (268)
السادة الذين تنعمون الآن بالشباب لن يمر عليكم وقت طويل حتى تشيبوا فلا تفرطوا بمرحلة الشباب واسعوا لخدمة الخالق والخلق ونيل رضا المولى جلت قدرته.. فالتهذيب في مرحلة الشباب سهل للغاية إذا ما قورن بأيام الشيخوخة والهرم، حيث تذهب القوة وتستحكم جذور الأخلاق الفاسدة التي تنبت من حب الدنيا والنفس وتعسر التهذيب للغاية.. جهزوا أنفسكم لتحمل الصعاب والشدائد في سبيل الله تعالى فقد تمر عليكم في المستقبل ـ لاسمح الله ـ أيام ثقال قد يصعب عليكم تحملها إذا لم تكونوا قد أعددتم أنفسكم لها من الآن.. اسعوا للقضاء على حب الدنيا وحب الشهرة والجاه في أنفسكم فإن هذا الخطر هو أكبر المصائب في أيام الهرم)(1)
وقال في لقاء جمعه مع بعض الشباب بعد انتصار الثورة الإسلامية: (إنني عندما أراكم أنتم الشباب بهذه القوة وبهذا الإخلاص والتغير الذي حدث لشعبنا لا سيما شبابنا وجميع فئات الشعب، أشعر بالفخر والأمل.. إن لكم الأجر نفسه الذي كان لشهداء أحد)(2)
وقال في حديث آخر مع اتحاد راكبي الدراجات الهوائية في خراسان: (إن الشعب الذي يقطع أفراده كل هذه المسافة وبهمة عالية ركوباً على الدراجة، فإن ثورته لا يمكن أن تهزم.. إن الحماس والاندفاع الذي يتحلى به شبابنا في مختلف أنحاء البلاد، نتيجته هو هذا الذي قمتم به أنتم أيها الشباب، وهو ما يبعث على الأمل.. وإني آمل أن تحافظوا دائماً أنتم الشباب على حماسكم وعنفوانكم وتلاحمكم ووحدتكم)(3)
وقال في خطاب آخر موجه لبعض الشباب الفدائيين: (لا أدري أأشكر لكم أيها الشباب الذين قطعتم هذا الطريق من مدينة مراغة إلى هنا مشياً على الأقدام، وتحملتم هذه المشاقّ أم
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 2، ص: 96.
(2) المصدر السابق، ج 9، ص: 193.
(3) المصدر السابق، ج 9، ص: 193.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (269)
أعرب عن خجلي.. أنا عندما أشاهد مثل هذا الشعور لدى شباب الوطن وتأهبهم للشهادة، واستعدادهم للدفاع عن الإسلام، أشعر بالاعتزاز، لأننا لدينا مثل هؤلاء الشباب.. أنتم نفس جنود صدر الإسلام.. أولئك الذين واجهوا المشركين، ووقفوا بوجه من كان يريد عدم تحقق الإسلام، ويحيكون الدسائس من أمثال أبي سفيان وأعوان أبي سفيان.. أولئك أيضاً كانوا لا يرغبون في نجاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نشر الإسلام على صعيد الجزيرة العربية.. كان همّهم الوحيد هو عدم تحقق الإسلام، لأنهم كانوا يرون أنّ الإسلام مناقضاً لجميع مصالحهم.. كانوا يرون أنّه في حال انتصار نبي الإسلام لا يستطيعون المضي في ظلمهم، ولا يستطيعون الاستمرار في نهبهم، ولهذا السبب استعدّوا وأعدّوا جميع الشرائح الأخرى لمواجهة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبحمد الله لم يوفّقوا)(1)
ثم قال ناصحا لهم: (أنتم الآن بحمد الله عددكم كثير، النفوس بحمد الله كثيرة.. والحمد لله فإن قوة إيمانكم أيضاً عظيمة، ويجب أن تعملوا لتعزيز هذه القوة الإيمانية كلّ يوم.. وطّنوا أنفسكم على تربيتها بالاتكال على الباري تعالى لكي تصبحوا أناساً متقين، أناساً مجاهدين في سبيل الله تبارك وتعالى.. تقاة.. إن توكلتم على الله تبارك وتعالى وربّيتم أنفسكم، فإنكم منتصرون.. ونحن نأمل أن نتقدّم بالإسلام الذي بين أيدينا حالياً وننشره برغم ما نواجهه من قوى عالمية، كما فعل قبلنا مسلمو صدر الإسلام إذ بذلوا آنذاك مهجهم للدفاع عنه في مقابل كافة الصعاب والابتلاءات.. الحمد لله أن نفوسنا حالياً جيّدة.. لكننا لن نكون شيئاً إزاء القوى العظمى إذا نأينا بأنفسنا عن الإسلام، وكنا بعيدين عن قوته، أما بالإسلام فسنكون كلّ شيء.. بالاتكال على الله سنكون جنود صدر الإسلام الذين هزم ثلاثون منهم ستّين ألف جنديّ.. ستون هزموا ستين ألفاً.. كان أولًا يزمع ثلاثون نفراً فقط الذهاب، لكنّهم أصبحوا
__________
(1) المصدر السابق، ج 11، ص: 289.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (270)
ستين فارساً.. ستّين مجاهداً.. هاجموا في سبيل الله، وتغلّبوا على ستين ألف فارس.. إنّ الإسلام هو الذي كان السبب في غلبتهم.. واليوم فإنّ أوضاع بلادنا وأوضاع الإسلام شبيهة بأوضاع صدر الإسلام.. أي كما أنّ أبا سفيان وأعوان أبي سفيان والمتّحدين معه تضامنوا فيما بينهم ضد الإسلام، وانتفضوا لكي لا يتحقّق الإسلام، فالآن أيضاً القضايا عينها تعيد نفسها، الآن أيضاً أدرك الذين وقفوا يصدّون عن الإسلام والذين تلقّوا ضربة منه يسعون ألّا يتحقّق الإسلام، مثلما يجب أن يتحقق، لأنّه إذا حدث ذلك سيقطع أيدي الأجانب وجميع أذنابهم والذين يدعمون الأجانب من مصادرنا وثرواتنا، ولا يستطيعون الحكم في بلادنا)(1)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يتحدث عن نفس هذه المعاني، ولكن بحسب الظروف الجديدة، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في خطاب للقاء جمعه مع الشباب النخبة في البلاد، وبعد استماعه لطروحاتهم، قال: (أعتقد أننا إذا ركزنا أرصدتنا على قضايا العلم والتقنية وإعداد النخبة نكون قد عملنا بلا شك في إطار إحدى أهم الأولويات.. التقدم العلمي وتبعاً لذلك التقدم التقني يمنح البلاد والشعب إمكانية وفرصة الاقتدار المادي والمعنوي.. كل إنسان بقدر استطاعته وإمكانيته.. والجميع مسؤولون، ابتداء من الطالب الجامعي الذي التحق بالجامعة هذه السنة إلى الطلبة الجامعيين المتفوقين إلى الأساتذة ثم مسؤولي النظام التعليمي والعلمي في البلاد إلى القطاعات المختلفة في سلسلة المراتب الإدارية والعلمية في البلاد.. كلنا يجب أن نبذل مساعينا ونعمل ونركض لنستطيع تعويض هذا التأخر التاريخي المفروض علينا)(2)
وقال في خطاب آخر يشيد بالدور الفدائي للشباب في الدفاع المقدس: (أعزائي، أيها الشباب الحاضرون في هذا الاجتماع وفي هذه الصحراء ويا جميع شباب البلاد، اعلموا أن جيل
__________
(1) المصدر السابق، ج 11، ص: 290.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 361.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (271)
الشباب في فترة الدفاع المقدس استطاع بتضحياته وفطنته وإرادته وعزيمته الراسخة إنقاذ البلاد من أيدي الأعداء.. كان هدف أعداء نظام الجمهورية الإسلامية فصل جزء من الوطن الإسلامي وإذلال الشعب الإيراني بذلك.. أرادوا فرض قهرهم وجبروتهم على شعب إيران.. أرادوا إذلال شعبنا والتسلط على أرواحه وأمواله وأعراضه.. من الذي لم يسمح بذلك؟ الشاب المقاتل الفدائي، وتلك العزيمة الراسخة، وذلك الإيمان القوي هو الذي وقف أمام العدو بعدده وعدته الضخمة.. أمريكا كانت تساعد عدونا، والاتحاد السوفيتي يومذاك كان يساعده، والبلدان الأوروبية التي تتشدق اليوم بحقوق الإنسان كانت تساعد يومها ذلك العدو الخبيث ليقتل ويدمر ويحرق الأرض وأهلها.. وكان يفعل ذلك دون وازع، بَيد أن شبابكم، أي شباب هذا الشعب، لم يسمح بذلك.. في [دشت عباس] هذا، في هذا السهل الواسع وهذه المنطقة الكبيرة، تقدم الشباب بأرواحهم إلى الساحة وانتصروا على الأعداء وهزموهم وأذلوهم بعزيمتهم الراسخة وأحبطوا المؤامرة التي شاركت وأسهمت وتدخلت فيها كل القوى الاستكبارية وسعت إلى تنفيذها)(1)
ثم أشاد بدور الشباب في كل المجالات، فقال: (أريد أن أقول لكم: أيها الشباب الأعزاء، هكذا هو الحال دوماً، عزيمتكم الراسخة ووعيكم وبصيرتكم وصمودكم وحسمكم وشجاعتكم بوسعها دوماً فرض الهزيمة على كل الأعداء مهما كانوا في ظاهرهم كباراً وأقوياء.. وهكذا هو الحال اليوم أيضاً.. وكذلك سيكون يوم غد.. إذا أراد الشعب الإيراني أن يبلغ ذروة السعادة في الدنيا والآخرة ـ وهو يريد ذلك وسوف يبلغه إن شاء الله ـ فالطريق إلى ذلك عبارة عن الشجاعة، والبصيرة، والتدبير، والعزيمة الراسخة، والإرادة القوية عند النساء والرجال، وكل هذا يعتمد على الإيمان الإسلامي.. الشيء الذي يضمن هذه العزيمة والهمّة الراسخة لدى
__________
(1) المصدر السابق، ص 122.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (272)
جنودنا هو إيمانهم القلبي.. كانوا مؤمنين بالدين، والله، والقيامة، والمسؤولية الإنسانية مقابل الله.. إذا توفّر هذا الإيمان في أي شعب وفي أي مجتمع فسيجعله منيعاً قوياً يستطيع المقاومة)(1)
وقال مشيدا بهم، وحاثا على مواصلة جهودهم: (إنني مرتاح جداً لحركة [السائرون إلى النور] التي انطلقت منذ سنوات وهي تنمو وتتصاعد يوماً بعد يوم والحمد لله، وأعتبرها حركة مباركة جداً، وأعتقد أن هذه المرحلة الحساسة تمثل تجربة بالنسبة لنا.. أنتم الشباب اليوم لو كنتم في ذلك اليوم لحضرتم في هذا الميدان بعزيمة راسخة.. لقد أثبتم أيها الشباب بطولتكم حالياً في ميادين العلم والسياسة والجدّ والعمل والتضامن الوطني والبصيرة.. لقد أثبتم صمودكم.. أحيانا تكون الحرب العسكرية أسهل من الحرب الفكرية والحرب على الصعد السياسية.. لقد أثبت الشعب الإيراني أن بصيرته وثباته في الحروب السياسية والأمنية ليس أقل من صموده في الحرب العسكرية.. لذا فإن شبابنا والحمد لله شباب جدير ثابت ناضج وعليهم عدم الاكتفاء بهذا القدر والطموح إلى الهمّة المضاعفة والعمل المضاعف.. اشحذوا هممكم.. على الشعب الإيراني تعويض التخلف الذي عاشه خلال فترات الاستبداد الطويلة والتدخل والنفوذ الأجنبي.. إنني على ثقة راسخة بأن شباب بلدنا العزيز اليوم لا نظير لهم على مستوى العالم أو هم نادرو النظير.. وهذه بشارة لمستقبل البلاد.. سوف ترون أيها الشباب إن شاء الله اليوم الذي تكون فيه بلادكم من الناحية العلمية والتقنية والسياسية والنفوذ الدولي في مستوى جدير بإيران الإسلامية وبشعب إيران الكبير)(2)
وهكذا نجده في كل لقاء يجمعه مع الشباب يتعامل معهم تعامل الأب مع أبنائه بنصيحتهم وتوجيههم وحثهم على التزود من الفضائل، ومن الأمثلة على ذلك قوله في بعض
__________
(1) المصدر السابق، ص 122.
(2) المصدر السابق، ص 122.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (273)
التجمعات التي جمعته بهم: (لقد فرح الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأحد أصحابه الشباب فدعا له قائلاً: (اللّهم أمتعه بشبابه)، أي اللّهم اجعله يستفيد من شبابه ويلتذّ به.. يُفهم من هكذا دعاء للرسول لهذا الشاب أنّه ليس كل شاب يستفيد من شبابه.. ماذا يعني التمتّع والاستفادة من مرحلة الشباب؟ من الخطأ أن نتصوّر أنّ الاستفادة من الشباب تعني الالتذاذ بالشهوات المادية للشباب وتسليات الشباب وصرف الوقت باللهو في هذه المرحلة من العمر، ليس هذا بالاستفادة من الشباب.. قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في كلمة أخرى له: (ما من شاب يدع لذة الدنيا ولهوها وأهرم شبابه في طاعة الله إلا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صدّيقاً)، أي إنّ الشاب الذي يحافظ على طهارته وعفته ويختار عدم الانغماس في الشهوات المادية، له عند الله تعالى أجر اثنين وسبعين صدّيقاً.. الطهارة في الشباب منهج نبوي.. المثال الذي وضعه الله كأسوة للشباب هو النبي يوسف عليه السلام، ليس هذا بالتمتع من الشباب، بل هو عند من (أهرم شبابه في طاعة الله) كما ورد في الحديث يقضي الشباب في طاعة الله.. إطاعة الله ليست فقط في الصلاة، بالطبع إن الصلاة هامة وبنَّاءة وذات فضيلة عالية، ولكن ليس في هذا فقط، توجد في أفق الحياة الواسع مصاديق كثيرة لإطاعة الله، ومن أهمها ترك الذنب، حفظ العفة والطهارة.. الدرس الذي تدرسونه هو أيضاً إطاعة لله، الابتكار الذي تبدعونه هو إطاعة لله.. هذه الأعمال التي ذكرها شبابنا العزيز هنا في مسائل الكيمياء والطاقة والعلوم الإنسانية والطب وغيرها وبذل الجهد في هذا الطريق، كلها إطاعة لله)(1)
ثانيا ـ القيم المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية
ونقصد بها القيم المرتبطة بالعلاقات التي يبني عليها المجتمع، والتي ورد النص عليها في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخوة فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2011، ص 484.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (274)
تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أعداء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 103 ـ 105]
وقد رأينا من خلال استقراء كلمات قادة الثورة الإسلامية الإيرانية الاهتمام بثلاثة أصناف من العلاقات، سنذكرها هنا باختصار.
ونقصد بها كل ما يؤلف بين أفراد المجتمع من المعاملات، سواء تلك التي تتعلق بالأخلاق والسلوك الاجتماعي، أو تلك التي تتعلق بآداب المعاملات المختلفة.
وقد رأينا أن قادة الثورة الإسلامية الإيرانية لم يكتفوا في هذا المجال بالخطب النظرية، وإنما كانوا يمارسونه بسلوكهم عمليا، حيث يبدون أدبا وتواضعا كبيرا أثناء حديثهم لأي جهة يخاطبونها.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في رسالة للإمام الخميني وجهها لبعض لعلماء الآذريين، حيث قال فيها: (حضرات أولي العزة العلماء الأعلام والأفاضل العظام الآذريين.. دامت إفاضاتهم.. أشكر للسادة المحترمين رسالتهم الكريمة التي عبرت عن عواطفهم النبيلة وأحاسيسهم الدينية.. وأرى لزاماً عليّ أن أعرب عن شكري وتقديري للمتاعب والمعاناة الشاقة التي يتحملها الأفاضل في الحوزات العلمية لا سيما في الحوزة العلمية في قم.. فهذه الدنيا ستمر بحلوها ومرها، وسنذهب جميعا إلى دار الجزاء، فيا حبذا لو أمضينا أعمارنا القصيرة في سبيل خدمة الإسلام والمسلمين لنتمكن من الوقوف مرفوعي الرأس في حضرة الحق تبارك وننخرط في صف خدمة دين الله وعباده.. إن مسؤوليتكم أنتم شريحة الشبان الفضلاء جسيمة
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (275)
باعتباركم حماة أحكام الإسلام في المستقبل، فبادروا إلى إعداد أنفسكم لحماية الإسلام والمسلمين وخدمتهم.. أدعو الله تعالى بالعزة للإسلام والمسلمين وعلماء الإسلام، كما أدعو لكم أيها الأفاضل الأجلاء بعزة الدارين.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)(1)
وهكذا نجده يتعامل مع كل الجهات بهذا المستوى من الليونة واللطف والأدب الذي دعا الله إليه من خلال وصفه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم حيث فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في رسائله الخاصة إلى تلاميذه وغيرهم، ومنها رسالة مواساة للشيخ مرتضى مطهري على وفاة والده، يقول فيها: (باسمه تعالى.. حضرة المستطاب عماد الأعلام وحجة الإسلام السيد مطهري دامت إفاضاته.. بلغني من مكة المكرمة بأن المرحوم حجة الإسلام والدكم (رحمه الله) التحق بالرفيق الأعلى.. أسأل الله تعالى له علو الدرجات ولسماحتكم وسائر الأقارب الصبر والثواب.. لقد كانت لي علاقة خاصة به.. إنّا إن شاء الله إليه لاحقون.. أسأل سماحتكم صالح الدعاء.. والسلام عليكم)(2)
وقال في رسالة وجهها لميرزا محمد ثقفي: (أشكر سماحتكم على رسالتكم الكريمة التي وصلتني مع التفسير الشريف للروح الخالدة، وأعرب لكم عن شكري لله على هذه الخدمة القيمة وأسأله تعالى أن يجزل لكم الثواب وأن ينفع به الآخرين وأن يمنَّ عليكم بالشفاء الكامل.. إنا بحمد الله بخير وإن كنت عانيت قبل هذا من آلام في صدري وظهري ولكن ولله الحمد فإنه ليس بالأمر المقلق.. الألم الروحي هو الذي يزيد مع الأيام وسيزيد، ولعل الله يحدث
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 2، ص: 51.
(2) المصدر السابق، ج 2، ص: 391.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (276)
بعد ذلك أمراً وإلى الله المشتكى.. أرجو من سماحتكم صالح الدعاء بحسن العاقبة.. والسلام عليكم ورحمة الله.. وسلامي إلى حضرات حجج الإسلام في حوزة المباحثة دامت بركاتهم وأسألهم الدعاء)(1)
وهكذا نجده في رسائله إلى أهله، ومن الأمثلة على ذلك قوله في رسالة وجهها لابنه أحمد: (باسمه تعالى.. عزيزي أحمد.. أرجو أن تنعم بالسلامة إن شاء الله تعالى.. نحن بخير بحمد الله تعالى.. إنني قلق من ترككم شقيقي وحده.. لاتجعلوه يتألم.. تفرغ للدراسة وتهذيب النفس، ولا تتدخل بأي أمر.. بلغ سلامي لشقيقي المحترم وللفتيات ولمخدرة أهل البيت.. والسلام عليكم.. الوالدة لديها ضيوف لذا لا يسعها الكتابة، وهي بحمد الله تعالى بخير كما هو حال الآخرين.. والدك)(2)
وقال في رسالة وجهها لابنته فريدة مصطفوي: (باسمه تعالى.. ابنتي العزيزة.. إن والدتك لم تترك لي موضوعاً لأتحدث عنه ولا أية مساحة للكتابة.. إن شاء الله يكون العيد مباركاً عليك وعلى الآخرين وتكونوا دوماً سعداء وبسلامة وخير.. نحن بحمد الله تعالى بخير من الناحية الجسمانية والأمل أن لا تطول علينا المتاعب الروحية.. أرجو أن تطلعوني على أوضاعكم أولًا بأول لأننا نقلق بعد أن تعودنا استلام الرسائل منكم.. أبلغي سلامي إلى السيد أعرابي (3) والسيدة فرشتة (4).. وإن شاء الله يكون العيد مباركاً على الجميع.. والسلام.. والدك)(5)
__________
(1) المصدر السابق، ج 2، ص: 391.
(2) المصدر السابق، ج 2، ص: 393.
(3) زوج السيدة فريدة مصطفوي.
(4) ابنة السيدة فريدة مصطفوي.
(5) صحيفة الإمام، ج 2، ص: 394.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (277)
وقال في رسالة وجهها إلى ابنه بمناسبة العيد: (باسمه تعالى.. عزيزي أحمد.. أرجو من الله تعالى أن تكون سعيداً وسالماً.. نحن ولله الحمد سالمون ونأمل أن تؤدي أدعية السادة إلى حل ما نعاني من مشاكل.. لقد أخذت السيدة ـ يقصد زوجته ـ بنظر الاعتبار إعطاء عشرة دنانير لكل فرد من أفراد العائلة كهدية بمناسبة العيد، وهي تطالبني الآن أن أطلب منك إعطاء مائتي تومان لكل واحد بدلا من الدنانير العشرة.. خذ من السيد العم أو من السيد لواساني المبلغ بكفي واعط كل واحدة من البنات المحترمات وزوجتك مائتي تومان.. أدعو الله أن تكونوا جميعا سالمين.. أبلغ سلامي لجناب العم المحترم وأنا قلق من وحدته.. اسأل الله تعالى أن يكون سالماً.. والسلام.. والدك)(1)
وهكذا نجد هذه الرقة واللين في خطاباته للشعب، وللجهات المختلفة منه، ومن الأمثلة على ذلك قوله في خطاب وجهه لجمع من عناصر القوات المسلحة الإيرانية عشية الاستفتاء الشعبي العام: (كم هو أمر يبعث على الفخر أن يكون مثل هؤلاء الشباب الأبطال في خدمة الإسلام في بلدنا.. كم أشعر بالسعادة حينما يجمعني وإياكم مجلس واحد تغمره المودّة!.. بالأمس قلت هذا الأمر لمجموعة من السادة من منتسبي الجيش الذين جاؤوا إلى هنا، وأقوله الآن أيضا.. إن أحد الفروق بين الحكومات غير الإسلامية الحكومات الطاغوتية والحكومة الإسلامية يكمن في هذا الأمر وهو أن الأجواء في ظل الحكومات الإسلامية أجواء مودة وأخوة، فلا الجيش بمعزل عن الناس ولا الناس بعيدين عن الجيش، وليس هناك من أجواء رعب حاكمة.. ينعت الله تبارك وتعالى المؤمنين العاملين في سبيل الإسلام فيقول عز وجل: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]، فالمؤمنون رحماء فيما
__________
(1) المصدر السابق، ج 2، ص: 395.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (278)
بينهم، لكنهم أشداء أقوياء في مقابل الكفار والأجانب)(1)
وقال في خطاب وجهه لعموم الشعب الإيراني يهنئهم فيه على المشاركة الفعالة في الاستفتاء الذي تم بموجبه إعلان الجمهورية الإسلامية الإيرانية: (أبارك بإخلاص للشعب الإيراني العظيم ماحققه، رغم القهر والاستخفاف الذي مارسه النظام الشاهنشاهي بحقه بإيحاء من مستكبريه.. لقد منَّ الله تعالى علينا فحطم نظام الاستكبار بيده المقتدرة التي تمثل قدرة المستضعفين، وجعل من شعبنا إماما ورائدا للشعوب المستضعفة وقيض لكم إرثه الحق بإقامة الجمهورية الإسلامية.. إنني أعلن في هذا اليوم المبارك، يوم إمامة الأمة ويوم الفتح والظفر للشعب، أعلن قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.. إنني أعلن للدنيا بأن لاسابقة لمثل هذا الاستفتاء في تاريخ إيران، بحيث هجم الناس في مختلف أنحاء البلاد على مراكز الاقتراع بشوق ولهفة وعشق للإدلاء بآرائهم المؤيدة ولإلقاء النظام الطاغوتي في مزبلة التاريخ وإلى الأبد.. إنني أعرب عن تقديري البالغ لهذا التلاحم الفريد الذي استجاب فيه الجميع للنداء السماوي ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103] وصوتت الغالبية العظمى من أبناء الشعب، وأثبتت بذلك للشرق والغرب نضوجها السياسي والاجتماعي.. أبارك لكم إقامتكم حكومة العدل الإلهي باقتراعكم لصالح الجمهورية الإسلامية، بعد دحركم للعدو الجبار وفرعون الزمان بفضل شهادة شبابكم الأبطال وما تحمله الآباء والأمهات من مشقات وعذاب لا يطاق.. مبارك لكم الحكومة التي ستنظر سواسية إلى الجميع، مبارك لكم نور العدالة الإلهية الذي سيسطع على الجميع بشكل متجانس، مبارك لكم غيث رحمة القرآن والسنة النبوية الذي سينزل على الجميع دون تفريق)(2)
__________
(1) المصدر السابق، ج 6، ص: 349.
(2) المصدر السابق، ج 6، ص: 359.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (279)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي في كل خطبه ومحاضراته يتعامل بلطف ولين مع كل الجهات التي يخاطبها، ومن الأمثلة على ذلك قوله في خطاب في حشد شعبي من أبناء محافظة خوزستان: (الغاية من الحضور في هذا المكان التاريخي وبين حشدكم أيها الإخوة والأخوات الأعزاء هي بالدرجة الأولى أداء الاحترام لأرواح المقاتلين والشهداء الأبرار الذين شهدت هذه الأرض بطولاتهم وتضحياتهم وحركتهم العظيمة خلال أيام الحرب المفروضة والدفاع المقدس.. وهي في الدرجة الثانية تقديم الشكر والتقدير لأهالي خوزستان الأعزاء، والإخوة والأخوات الذين خرجوا من الامتحان مرفوعي الرأس في هذه المنطقة، وفي أشد الأزمنة حساسية وأصعب الظروف)(1)
وقال في خطاب وجهه لأهالي مدينة شيروان (خراسان الشماليّة): (أشكر الله تعالى على عناية توفيقه لهذا العبد الحقير، أن تمكّن من اللقاء بكم أيها المؤمنون والأعزّاء من أهالي شيروان، أهل اللطف والمحبّة في هذا الجمع الحماسيّ والحميم.. إنّ ذكرياتنا عن مدينتكم وأهاليكم هي ذكريات طيّبة؛ ففي مرحلة الامتحانات الصّعبة والكبيرة كانت مدينة شيروان من المناطق التي نجحت في امتحانها، وثبّتت اسمها الطيّب في ديوان الذكرى؛ فبالإضافة إلى مئات الشّهداء والجرحى المعوّقين في مرحلة الدّفاع المقدّس ـ الذين قدّمهم الأهالي الأعزّاء لشيروان وضواحيها ـ يوجد فيها أسماء لسبعة قادة من بين شهداء هذه الدّيار.. فإعداد القادة وإرسالهم لإدارة الميادين الصّعبة، ومن ثمّ شهادتهم، ليست بالحوادث التي يمكن أن تُنسى على مرّ التّاريخ.. واليوم أيضاً يوجد في هذه المدينة وهذه المحافظة عدّة آلاف من التعبويين، والهيئات الدينيّة الفعّالة، بالإضافة إلى النّخب الثقافيّة والرياضيّة.. كلّ ذلك يشير إلى هويّة كلّ منطقة من مناطق البلاد.. على شبابنا الأعزّاء ـ سواء أكانو في هذا القضاء أم في سائر أقضية هذه
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 121.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (280)
المحافظة ـ أن يفخروا بأنفسهم لهذه النجّاحات، وأن يعدّوها للقيام بالأعمال الكبرى في المستقبل.. إنّ من مآثر هذه المدينة وهذه المحافظة ـ وهو أمرٌ ملموس تماماً في قضاء شيروان هذا ـ هو هذا التعايش الأخويّ والإسلاميّ بين القوميّات المختلفة من الكرد والترك والفرس والتات.. وإن شاء الله يتمكّن شبابكم، من النّساء والرّجال، مستقبلاً، من تقديم المزيد من الوجوه الساطعة، وبأعداد أكبر لهذا المجتمع في بلدهم العزيز ومن أجل رفعة ثورتهم، وهو أملٌ ليس بعيد المنال)(1)
وهكذا في خطاباته مع أصحاب الوظائف المختلفة، ومن الأمثلة على ذلك قوله في خطاب وجهه للممرّضات النموذجيات بمناسبة ولادة السيدة زينب، وهو يوم الممرضة في إيران: (بداية أبارك لكم جميعاً إخواني وأخواتي الأعزاء والممرضات المحترمات يوم الممرضة وأيام ولادة زينب الكبرى، هذه المرأة التي هي أنموذج لتاريخ البشرية.. وكلّنا رجاء من الله أن يثيبكم على هذه الخدمة الكبرى، وهذه المساعي الفائقة الأهمية فيشملكم برحمته وهدايته وفضله أنتم وجميع الممرضين في البلد وقطاع العاملين في ملف الصحة.. إنّ أساس كلامنا ولقائنا اليوم يتوجّه إلى تقديم الشكر على جهود الممرضين.. وإنه لمن المناسب حقاً أن يقدّم الإنسان شكره لكل قطاع التمريض في البلاد، ويقدّر هذا العمل الكبير ذا العناء الكثير والمسؤولية الثقيلة التي تحمّلتموها)(2)
وقال في خطاب وجهه للأساتذة الجامعيين من أبناء التعبئة في ذكرى شهادة الشهيد الدكتور مصطفى شمران: (أنا شاكر جداً وسعيدٌ جداً لأن أصدقاءنا هيّأوا هذا اللقاء الجيّد.. في الواقع هذا الجمع هو مظهر جمعٍ يُظهر توليفة العلم والإيمان، فأساتذة الجامعات بصبغتهم
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2012، ص 509.
(2) خطابات الإمام الخامنئي 2010، ص 145.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (281)
الربانية التعبوية هم مظهر تركيبة العلم والإيمان.. ولقاؤنا هذا هو لقاء حميمٌ وجيّد.. وقد استمعت بدقة إلى كلمات الأصدقاء وهم يمثّلون صلحاءنا، أنتم وهم.. وقد عرض الإخوة الأصدقاء اقتراحات جيدة، وبالطبع فإن بعض هذه الاقتراحات يتعلق بالحكومة ـ الوزراء المحترمون والمسؤولون حاضرون وعلى أجهزة الدولة أن تتابع تلك الاقتراحات ـ وبعض هذه الاقتراحات ليس كذلك، بل هو أشمل وأوسع من حدود الأجهزة التنفيذية، مما ينبغي أن نفكر فيه، وإن شاء الله نستفيد منه ونجريه.. والاقتراح الذي يتعلّق بتسمية يوم شهادة الشهيد شمران باسم يوم [تعبئة الأساتذة]، هو بنظري اقتراح ذو معنى ومغزى؛ فالشهيد المرحوم شمران كان حقاً نموذجاً ومظهراً لذلك الأمر الذي يودّ الإنسان أن تتحرك تربية شبابنا وجامعيينا باتجاهه، فلا بأس بذلك)(1)
وقال في خطاب وجهه لآلاف من الشباب وأعضاء مؤسسة [تعبئة البناء]: (أرحب بكم أيها الشباب الأعزاء، أبنائي الأحباء، الإخوة والأخوات الناشطون الملتزمون الذين أضفيتم الألق والرونق على البلاد والمجتمع وهذا العهد من الزمان بحضوركم وقوتكم وطاقاتكم وشبابكم وحماسكم وأملكم وإيمانكم، وجعلتم التاريخ شامخاً مرفوع الرأس.. نقول بداية بعض الشيء عن رفعة مكانتكم التي تتحلون بها اليوم أيها الشباب الأعزاء، سواء أنتم الحاضرون في هذا المحفل أو عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من الشباب السائرين في هذا الدرب، لكنهم لم يحضروا اليوم هنا.. وما أريد قوله: يا أعزائي، الكل يغبطكم على شبابكم الذي تقضونه في هذه الفترة من الزمن.. هذا الشباب، وأن يعيش الإنسان شبابه هكذا، وينفق فترة شبابه العزيزة الثمينة بهذه الطريقة أمر يبعث على الغبطة.. في أية مشاعر، وأوهام، وأعمال يقضي الشباب في سنكم وفي بلدان مختلفة من العالم حالياً سن شبابهم العزيز القيم؟ في أكثر
__________
(1) المصدر السابق، ص 217.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (282)
البلدان تقدماً تعلو غبرة اليأس والكآبة وعدم تحديد الهدف حياة الشباب الجميلة.. الكثير من الشباب لا هدف لهم سوى تحقيق آمال مادية صغيرة وتافهة خاصة بهم.. لا يذوقون لذة خدمة الآخرين، ولا ينفقون طاقة الشباب العظيمة النادرة في السبيل اللائق بها.. والكثير منهم لا يفتقرون للأهداف السامية وحسب، بل ليس لهم أهدافهم أساساً، ويقضون الحياة يومياً غارقين في الماديات والشهوات العابرة الباعثة على الاكتئاب.. لا يفهمون شيئاً عن تلك الروح المعنوية المتلألئة التي يتحلى بها الشاب المتدين المؤمن العاشق للخدمة والمتوجّه نحو أصل الحبّ والجمال والحقيقة.. شبابكم موضع غبطة مثل هؤلاء الناس لو كانت لهم أعين البصيرة.. اعرفوا قدر هذه الفترة وهذا التوجه وهذه الروح والمعنويات.. اعرفوا قدر نعمة الخدمة والقدرة على الخدمة التي أهداكم الله تعالى إياها.. اشكروا الله واسألوه أن يضاعف لكم هذه الكنوز المعنوية.. واعلموا أن أي مجتمع وأي بلد يتمتع بمثل هذا الرصيد العظيم الثمين سيستطيع بلا أي شك الوصول إلى أعلى قمم العزة والعظمة، وهذا هو المصير المحتم لمجتمعكم وشعبكم والسبب في ذلك والمحرك الذي يدفع هذه المسيرة هو هذه الروح التي تتحلون بها)(1)
وغيرها من الخطب والرسائل الكثيرة التي لا يمكن استيعابها هنا، بالإضافة إلى توجيهاته الكثيرة إلى تحقيق التآلف الاجتماعي، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في خطاب وجهه للشباب يحثهم على رعاية والديهم، ويضرب لهم المثل على ذلك بنفسه.
ومما ورد في ذلك الخطاب قوله: (إن بناء الحياة الإنسانية قائم على أساس مراعاة الناس بعضهم البعض.. فبدون الرعاية والمودة والاهتمام وغيرها من المشاعر الأخرى لا تستقر الحياة البشرية، ولا تقوم لها قائمة.. وهذه المشاعر موجودة عند الإنسان بوعيه والتزامه.. بينما لا توجد بهذه الصورة في الحيوانات، وإنما تكون بصورة غرائزية، وتتفاوت هذه المشاعر عند
__________
(1) المصدر السابق، ص 356.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (283)
الناس من حيث الأهمية والمؤثرية)(1)
ثم حدثهم عن أهمية رعاية الوالدين وضرورتها، فقال: (ينبغي على من أنعم الله عليه، وخاصة الشباب، بنعمة وجود الوالدين أو أحدهما أن يؤدي حق هذه النعمة وشكرها، ولا بأس أن نذكر في هذا الخصوص الرواية المروية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حينما جاءه أحد الأشخاص وسأله: من أبر؟.. فللإنسان كثير من الأقارب والأصدقاء والمعارف الذين تجمعه بهم علاقات مختلفة.. فإلى من يجب أن يتوجه بالإحسان؟.. أجاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أمك.. فسأله الرجل ثانية: ثم من؟.. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أمك.. فسأله الرجل ثالثة: ثم من؟.. أجاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أمك.. وهذا يعني أن المسافة بين حق الأم وباقي الحقوق واسعة جداً.. وعندما سأله الرجل مرة رابعة: يا رسول الله، ثم من؟ قال الرسول: ثم أباك.. وهكذا نفهم أن حق الوالد كبير أيضاً، لكن الأولوية دائماً للأم)(2)
ثم ذكر لهم الآثار العاجلة لبر الوالدين، فقال: (وأنا أقول لكم إن أداء حقوق الوالدين، وإضافة إلى آثاره الإلهية الأخروية، فإنه يورث بعض التوفيقات المادية والمعنوية والتي لا أقلها حصول السعادة والرضا كأثر طبيعي لهذا العمل)(3)
ثم حدثهم عنه وعن آثار بره بوالديه، فقال: (من المفيد أن أنقل لكم بعض التجارب الشخصية التي تعتبر مصداقاً لما نقول.. إنني كلما كنت أوفّق في مجال ما وأعيد حساباتي، أجد أن كل توفيق وبركة حصلت لي تعود إلى عمل خير عملته مع والديّ.. قبل وفاة المرحوم الوالد بحوالي عشرين سنة ـ أي كان له من العمر سبعين سنة ـ ابتلي رحمه الله بمرض في عينيه كاد أن يؤدي إلى فقدانه بصره، وكنت في تلك الفترة أتابع دراستي وسكني في مدينة قم، وبالتدريج
__________
(1) المواعظ الحسنة، الإمام الخامنئي، ص 1/ 7.
(2) المصدر السابق، ص 1/ 7.
(3) المصدر السابق، ص 1/ 7.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (284)
علمت من خلال الرسائل التي كان يبعثها لي الوالد أنه لم يعد يرى جيداً؛ فقصدت مشهد ووجدته بحاجة إلى طبيب، فراجعنا الطبيب عدة مرات ثم عدت إلى قم لضرورات الدراسة، وفي العطلة عدت إلى مشهد واهتممت بعلاج الوالد، ولكن أي تطور في حالة عينيه لم يحصل، فرجعت إلى قم مرة أخرى.. في سنة [1964 م] اضطررت أن آخذه إلى طهران لعدم استفادته من العلاجات في مشهد، ولكننا في طهران أيضاً لم نوفق لعلاج لهما.. بالطبع بعد حوالي ثلاث سنوات عولجت إحدى عينيه وبقي يرى بواسطتها إلى آخر عمره، لكن قبل ذلك لم يكن يرى أبداً حتى أننا كنا نأخذ بيديه لينتقل من مكان إلى آخر.. وقد أحزنني هذا الأمر كثيراً فهو لم يعد قادراً على المطالعة أو معاشرة الآخرين أو أي عمل آخر.. لقد كان ذلك صعباً علي بشكل كبير.. كان الوالد يستأنس بوجودي استئناساً خاصاً بالمقارنة مع إخوتي؛ فهو لم يكن يذهب إلى الطبيب إلاّ معي.. كنت أقرأ له الكتب ونناقش المسائل العلمية، حتى شعرت أنني بتركه سيكون إنساناً بلا عمل، وهذا كان ثقيلاً عليه جداً)(1)
ثم ذكر لهم بعض الاختبارات التي مر بها، والتي ترتبط بهذا الجانب، فقال: (في أحد الأيام كنت منزعجاً جداً تساورني الشكوك والأفكار التي ترجّح أن أرجع أبي إلى مشهد وأعود إلى قم، لكن لصعوبة الأمر عليّ ذهبت إلى أحد الأصدقاء، وكان إنساناً عارفاً، وأخبرته بما يجري معي وبما أشعر به من آلام وضيق صدر؛ فأنا من جهة لا أستطيع أن أترك والدي، ومن جهة أخرى أرى أن مستقبلي ودنياي وآخرتي وصلاحهما في قم فقط.. عندها تأمّل قليلاً، وقال لي: اترك مدينة قم واذهب وابق في مشهد.. افعل ذلك لأجل الله.. فكَرت ووجدت أن كلامه صحيح، فما أحلى أن يتعامل المرء مع ربه.. قررت أن أعود إلى مشهد، فالله تبارك وتعالى إذا أراد يستطيع أن يأتي بدنياي وآخرتي إلى مشهد.. عندما اتخذت ذلك القرار انشرح صدري، وفي
__________
(1) المصدر السابق، ص 1/ 8.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (285)
لحظة انقلبت من حال إلى حال.. عدت إلى البيت براحة وسرور وأخبرت الجميع بقراري.. لقد وهبني الله الكثير من التوفيقات إثر ذلك.. وعلى أي حال فإنني أعتقد أن ما حصلت عليه من توفيقات في الحياة إنما يعود إلى البر الذي خصصت والديّ به.. ذكرت هذه الحادثة لتنتبهوا لأهمية هذه المسائل عند الله تعالى)(1)
ثم حدثهم عن حقوق الوالدين بعد الموت، فقال: (الإحسان إلى الوالدين لا يختص بزمان حياتهما، بل إنه يتعداه إلى ما بعد الممات أيضاً.. كل إنسان يستطيع أن يحسن إلى والديه ويبرهما.. وقد ورد في الروايات أن البعض ممن يكونون بارين بوالديهم في حياتهم يصبحون عاقين لهم بعد مماتهم، والبعض يصبح باراً بوالديه بعد مماتهم، وقد كان عاقاً لهم من قبل.. إن برّ الوالدين بعد مماتهم يكون بالاستغفار والدعاء لهم والتصدق عنهم.. هكذا ترضى أرواح الوالدين ويحصلون على بركات بر الأولاد)(2)
ثم نبههم إلى أن التركيز على بر الوالدين لا يعني التفريط في سائر العلاقات، فقال: (ينبغي أن تنتبهوا أن تركيزنا على بر الوالدين وأداء حقوقهما لا يعني ترك حقوق الآخرين، فللزوجة حقوق، وللأولاد وللإخوة والجيران حقوق أيضاً.. الإنسان العاقل الذكي هو الذي يجمع كل هذه الحقوق ويؤديها للجميع)(3)
وهو ركن أساسي في العلاقات الاجتماعية، ذلك أن الإنسان ليس جسدا فقط يحتاج إلى غذاء قد يكفي أمره التكافل، أو يحتاج إلى حماية قد يكفي أمرها التناصر، ولكنه روح وعقل يحتاج إلى تعليم وتوجيه وتربية ونصح، وكل ذلك يستدعي وجود هذا الركن، وإليه الإشارة
__________
(1) المصدر السابق، ص 1/ 9.
(2) المصدر السابق، ص 1/ 9.
(3) المصدر السابق، ص 1/ 9.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (286)
بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ [البلد: 17]، وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3]، وغيرها من الآيات الكريمة الكثيرة التي تحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد أولى قادة الثورة الإسلامية الإيرانية هذا الركن أهمية قصوى، ذلك أنهم يعتبرون أن كل الحركة التغييرية والتصحيحية التي قاموا بها تنطلق من النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الخميني في بعض خطبه بعد انتصار الثورة الإسلامية بعام واحد: (ما أحوجنا في هذه المرحلة للتكاتف والتلاحم وللعمل بما وصّانا به الله في كتابه العزيز في سورة العصر: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 ـ 3]، ما أحوجنا اليوم لأن نوصي بعضنا بعضاً بالصبر والصمود والثبات.. ما أحوجنا اليوم لأن ندعو إخواننا وأصدقاءنا إلى الحق، إلى الإسلام، إلى الجمهورية الإسلامية، فلو كان الإنسان يريد الحق وإقامة دولة الحق في بلاده وتطبيق الإسلام، فعليه أن يصبر كما صبر الأنبياء والأولياء عليهم السلام، فطريق الحق طريقٌ مليء بالعقبات والصعوبات)(1)
وقال فيه: (البلد الذي يدّعي الإسلام وإقامة جمهورية إسلامية، جميعُ أفراده مسؤولون عن إصلاح الإنحرافات وتقويمها من منطلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإذا ما صدر عن دائرة أو مؤسسة أو لجنة ما عملٌ مخالف للشرع والقانون فعلى أفراد نفس هذه المؤسسة أو الدائرة أن يحولوا دون وقوع ذلك بأن يتواصوا بالحق في المخالفات، وبالصبر في الأزمات والمشكلات ليسدوا بذلك الطريق على أولئك المفسدين الذين يريدون التسلل إلى دوائر الدولة
__________
(1) صحيفة الإمام، ج 13، ص: 367.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (287)
ومؤسساتها بهدف التخريب وتشويه صورتها في أعين الناس، وعلى كل من تسوّل له نفسه ارتكاب أعمال تخالف الشرع والقانون، فاعملوا الصالحات وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، لتكونوا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 ـ 3]، فلا تكونوا من الخاسرين إن شاء الله)(1)
ثم قال: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على جميع المسلمين، وهو اليوم وظيفتنا جميعاً.. الوقوف في وجه المنكرات والنهي عنها واجبٌ على جميع المسلمين، والأمر بالمعروف والتواصي بالحق من واجبات كل مسلم وأنتم ونحن موظفون بالأمر بالمعروف في كل ما يتعلق بالأجهزة التنفيذية للدولة، بحيث يتوجب على كل منا إطلاع الجهات المختصة بكل مخالفة قد تقع هنا أو هناك، لتقوم بدورها بمتابعة المسألة.. كما أنه علينا أن نتحلى بالصبر والثبات أمام ما تواجهه بلادنا من مشاكل في الوقت الراهن، فإن هذه المشاكل لا يمكن التغلب عليها إلا بالصبر، فما دمتم تعتبرون الحكومة والجيش منكم وإليكم وكل ما فيه مصلحة البلاد فيه مصلحتكم، وكل ما فيه إلحاق الضرر بها فيه إلحاق الضرر بكم فأنتم ونحن موظفون بصون الحق في هذه البلاد، والوقوف في وجه كل باطل وعمل هو مخالف للحق، وأن نتواصى بالحق، ونتواصى بالصبر في ظل هكذا ظروف صعبة وتحديات كبيرة تتعرض لها البلاد، فادعو إلى الحق وادعو إلى الصبر لعل الرحمة الإلهية تشلمنا جميعاً بصبركم هذا، ويتحقق بذلك الفرج لأمتنا وشعبنا)(2)
ومن القرارات المهمة التي أصدرها بعد انتصار الثورة الإسلامية بفترة قصيرة قرار
__________
(1) المصدر السابق، ج 13، ص: 369.
(2) المصدر السابق، ج 13، ص: 369.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (288)
بتأسيس (مديرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(1)، ومما جاء فيه مخاطبا مجلس قيادة الثورة الإسلامية: (وفقاً لهذا المرسوم، يتوجب على مجلس قيادة الثورة الإسلامية أن يقوم بتأسيس مديرية باسم مديرية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في العاصمة، وتوسيعها عن طريق تشكيل فروع لها في جميع أنحاء البلاد، ويجب أن تكون مستقلة وتعمل جنباً إلى جنب مع حكومة الثورة الإسلامية، ووظيفتها مراقبة أعمال الحكومة والإدارات الحكومية وجميع فئات الشعب.. ويتوجب على حكومة الثورة الإسلامية أيضا إطاعة جميع الأوامر والتعليمات التي تصدر عن هذه المديرية، وعلى هذه المديرية أن تعمل على منع وقوع المنكرات في جميع أرجاء البلاد بأي شكل من الأشكال.. ويجب أن يكون تنفيذ حدود الشرع تحت مراقبة حاكم الشرع أو من ينوب عنه.. ولا يحق لأي كان سواء من أعضاء الحكومة أو قوى الأمن، أن يتعرض للعاملين في هذه المديرية، ولاأحد مستثنى من إجراء الأحكام الإلهية، وحتى إذا ارتكب مرشد الثورة أو رئيس الجمهورية خطأ لا سمح الله، فيجب أن يحاسب وتطبق الأحكام الشرعية بحقه)(2)
وهكذا نجد أمثال هذه المعاني كثيرا في خطبه وبياناته، ومن أمثلتها قوله في بعض خطبه: (على جميع أبناء الشعب أن يكونوا حراساً (كلكم راع)، فلابد للجميع مراعاة ذلك.. فكلكم
__________
(1) علق السيد أحمد الخميني على هذا القرار بقوله: (صدر هذا الحكم بعد انتصار الثورة بمدة قصيرة، وما أن شاع أمر هذا الحكم، حتى جاء إليه العديد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، والحكومة المؤقتة، وبذلوا المستحيل لإيقاف تطبيق هذا الحكم. ولقد ادعوا أن ردة فعلهم هذه تعود إلى سببين، الأول: عدم وجود الكوادر اللازمة للقيام بهذه المهمة. الثاني: خوفا من الفوضى والشغب، واقتياد أي كان للمحاكمة، وتدخل بعض علماء الدين في هذه الأمور دون أن يكون لديهم خبرة مسبقة. ولقد رفض الإمام في البداية، ولكنه قبل بعد ذلك بسبب تدخل البعض. وقد اتضح فيما بعد، أنه لو تم تطبيق هذا الحكم، لكان بوسع الأجواء الثورية التي كانت موجودة يومئذ، منع وقوع العديد من الأخطاء والمشاكل. أما أنا، فإني أعتقد أن الحكومة المؤقتة عارضت الحكم بسبب خوفها من أن يتم استدعاؤها إلى المحاكم) [صحيفة الإمام، ج 9، ص: 164]
(2) صحيفة الإمام، ج 9، ص: 164.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (289)
رعاة.. فالكل رعية والكل مسؤول، يعني يجب على الجميع أن يكون كراع يقود قطيعاً للرعي ويجب أن يأخذهم إلى أماكن جيدة، فالمسؤول هو أن يأخذ القطيع إلى مراتع جيدة ويسقيهم من مياه نظيفة فهو مسؤول أمام صاحبه إذا لم يأخذه إلى هذه الأماكن.. فكلنا نشعر بهذه الحالة، نحن مسؤولون أمام الله وأمام الضمير.. ويجب علينا جميعا المراعاة، يعني لا أن أراعي نفسي؛ وانما أن أراعيكم أنتم جميعا، وأنتم أيضا كل واحد يراعي الآخر.. وهذا الأمر يقودنا إلى أن نقول (لماذا) للجميع، وفرض على كل واحد منا أن يأمر بالمعروف.. لقد فرض الإسلام على الجميع أن يأمروا بالمعروف.. فلو أن شخصاً عادياً بنظر الناس، شاهد خطأ لدى شخص أعلى منزلة منه بنظر الناس، فلابد من التصدي له ومصارحته بأن عملك خطأ، فلا تفعل)(1)
ثم ضرب لهم مثالا على ذلك بما كان في الصدر الأول من الإسلام، فقال: (يقولون إن عمر بن الخطاب عندما كان خليفة كان يقول إذا ما رأيتموني أعمل باطلًا فقوّموني! فشهر أحد المسلمين سيفه، وقال: لو رأيناك تعمل باطلًا لقوّمناك بسيوفنا)(2)
ثم علق عليه بقوله: (إن التربية الإسلامية هي عدم المبالاة بأحد تجاه تنفيذ أحكام الله وإقامة الثورات الإسلامية! ويجب أن يكون التقييم: هل العمل في سبيل الإسلام أم لا؟ فلابد من تكريم من يعمل في سبيل الإسلام، وإذا ما كان مخالفاً للإسلام، فليكن من هو كائن، سواء أكان عالماً دينياً ذا منزلة، أو إنساناً من المسؤولين، فمن الواجب على كل شخص أن يتصدى له ويحول دون خطئه!)(3)
وقال في خطاب آخر وجهه لجمع من الشباب: (أنتم الشباب الذين ثبتّم ودعوتم إلى جمهورية إسلامية بقبضاتكم القوية، أنتم الذين أردتم أن يكون الإسلام نظام هذه البلاد.. أنتم
__________
(1) المصدر السابق، ج 10، ص: 83.
(2) المصدر السابق، ج 10، ص: 83.
(3) المصدر السابق، ج 10، ص: 83.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (290)
بذلتم الجهود لكي يكون الإسلام، وهم يبذلون جهودهم لكي لا يكون ذلك.. ابذلوا جهودكم للدخول تحت راية الإسلام، بقدر ما تستطيعون أنتم ومن تعرفون من أقاربكم، وادعوا كل من يحاول الابتعاد عن رعاية الإسلام في أي مجلس كان أي إنسان كان للعودة.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور الواجبة على الجميع، وهما ليسا من الأمور التي تجب على واحد ولا تجب على الآخر، جميعنا مكلفون بأدائهما، ومثلما إنّنا مكلفون بالمحافظة على أنفسنا وإخراجها من الظلمات إلى النور، فانّنا مكلفون بدعوة الآخرين كذلك بقدر ما نستطيع.. يجب ألا تقولوا: أنا لست بخطيب، أو لست من أهل المنبر، أنا لست من أهل المحراب.. أنتم أهلٌ لأن تتكلموا مع أسركم مع أبنائكم، ومع بناتكم ومع زوجاتكم، مع أصدقائكم، وأنتم مكلفون بهذا المقدار، فلو رأى الإنسان أحداً يقترب من معصية الله وجب عليه نهيه من ذلك.. يجب ألّا يدعه يقترف ذلك)(1)
وهكذا نجد الإمام الخامنئي يدعو كل جهة يتحدث إليها عن ممارسة دورها في الرقابة والحسبة الاجتماعية على أوسع نطاق، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في خطاب مهم جدا، يبين فيه أبعاد الحضارة الإسلامية، ومن أهم تلك الأبعاد التي ذكرها ما سماه [نمط الحياة]، وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بما أطلقنا عليه [التناصح الاجتماعي]، ذلك أن كل فرد من المجتمع يسعى فيه للتحقق بالنمط الحياتي الإسلامي، وهو لا يتحقق إلا بتوفر التوجيه والنصح والرقابة الاجتماعية.
يقول الإمام الخامنئي مبينا أقسام الحضارة الجديدة التي تهدف الثورة الإسلامية إلى تحقيقها في الواقع: (لهذه الحضارة الجديدة قسمان: القسم الأوّل ما يتعلّق بالأداة، والقسم الآخر ما يرتبط بالمضمون والأساس والأصل.. ويجب تناول كلا القسمين.. فما هو ذاك القسم المتعلّق
__________
(1) المصدر السابق، ج 11، ص: 308.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (291)
بالأداة والوسيلة؟ إنّه عبارة عن تلك القيم التي نطرحها اليوم تحت عنوان تطوّر البلد: العلم، والاختراع، والصّناعة، والسياسة، والاقتصاد، والاقتدار السياسيّ والعسكريّ، والشأنيّة الدولية، والإعلام وأدواته، فكلّ ذلك هو من قسم أداة الحضارة ووسيلتها.. وبالطّبع لقد تطوّرنا جيّداً في هذا القسم على صعيد البلد.. لقد أُنجزت أعمالٌ كثيرة وجيّدة، سواء في المجال السياسيّ أم العلميّ أم القضايا الاجتماعيّة)(1)
ومع أهمية هذا القسم إلا أن الإمام الخامنئي يعتبر القسم الثاني، وهو ما أطلق عليه [نمط الحياة]، هو المعبر الأكمل عن الحضارة الإسلامية الحقيقية، يقول: (أمّا القسم الحقيقيّ فهو تلك الأمور التي تشكّل مضمون حياتنا، وهو نمط الحياة.. فهذا هو القسم الحقيقيّ والأساسيّ للحضارة، كقضيّة الأسرة، ونمط الزواج، ونوع المسكن واللباس ونمط الاستهلاك، ونوعيّة الغذاء والطبخ والترفيه، ومسألة الخطّ، واللغة، وقضيّة التكسّب والعمل، وسلوكنا في محلّ العمل والجامعة وفي المدرسة، وفي النشاط السياسيّ وفي الرياضة، وفي الإعلام الخاضع لإرادتنا، وفي سلوكنا مع الأب والأم، ومع الزوج والأبناء ومع الرئيس والمرؤوس والشرطة والعامل الحكوميّ، وفي أسفارنا ونظافتنا وطهارتنا وسلوكنا مع الصديق والعدوّ والأجنبيّ، فكلّ هذه ترتبط بالقسم الأساسيّ للحضارة التي تمثّل صلب حياة الإنسان)(2)
ثم ذكر التأصيل المرتبط بهذا في التراث الإسلامي، فقال: (إنّ الحضارة الإسلامية الجديدة في قسمها الأساسيّ تتشكّل من هذه الأمور.. فهذه هي المضامين الأساسيّة للحياة، وهذا هو الشيء الذي يُعبّر عنه في المصطلح الإسلاميّ بـ[العقل المُعاش]، فالعقل المُعاش لا ينحصر بتحصيل المال وإنفاقه وكيفيّة تأمينه وصرفه، كلّا، فكلّ هذه السّاحة الواسعة التي
__________
(1) خطابات الإمام الخامنئي 2012، ص 493.
(2) المصدر السابق، ص 494.
قيم الحضارة الإسلامية الجديدة (292)
ذُكرت تُعدّ من العقل المُعاش.. توجد في كتبنا الروائيّة الأصيلة والمهمّة أبوابٌ تحت عنوان [كتاب العِشرة] (1)، فكتاب العشرة يتناول هذه الأمور.. وفي القرآن الكريم نفسه توجد آياتٌ كثيرة ناظرةٌ إلى